بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الوجيـز الميسـر في أصـول الفقـه المالكي

تأليــف

محمد عبد الغني الباجقني

الطبعة الأولى 1968 ف

الطبعة الثانية 1983 ف

الطبعة الثالثة 2005 ف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا وعلمنا ما لم نكن نعلم ، وشرع لنا من الدين الحنيف ما به صلاحنا في دنيانا وسعادتنا في أُخرانا ، وأرسل إلينا خاتم رسله بآخر شريعة لخير أمة من خلقه ، وجعل لنا فيه أسوة حسنة وفي هديه سنة متبعة ، وأوجب علينا تصديقه في كل ما أخبرنا به إطاعته في كل ما أمرنا به أو نهانا عنه ، ووفق أصحابه وعلماء أمته لحمل شريعته وتبليغها بصدق وأمانة وورع وصيانة كما قال فيهم e (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) رضي الله عنهم ووفقنا لسلوك نهجهم والسير على سنتهم.

وبعد فإن علم أصول الفقه من أجلّ العلوم وأفضلها لتوقف معرفة أحوال الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام الفقهية من مداركها عليها . وقد علمت أن الطلاب العلوم الشرعية يشرعون في دراسته بكتب موسّعة ذات عبارات مطولة واستطرادات كثيرة ، وأنهم بعد إتمام دراستهم يستصعبون تطبيق القواعـد على المسائل واستخراج الفـروع من الأصـول أو عطفها عليها وإضافتها إلى مناطاتها ، لأنهم شُغلوا بالنظر أكثر من التطبيق وبمناقشة الآراء الأصولية أكثر من مناقشة الآراء الفقهية وتخريجات المجتهدين ، فعزمت مستعيناً بالله على تأليف كتاب صغير الحجم ، سهل الفهم ، قريب المأخذ ، خال من الاستطراد المربك والتطويل الممل ، شواهده وأمثلته من الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء المخرﱠجة على قواعد الشريعة ومداركها الفقهية .

وقد وجدت أقرب الكتب الأصولية القديمة إلى الكتاب الذي عزمت على تأليفه (( مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول )) للعلامة المحقق الشريف التلمساني المالكي المتوفى سنة إحدى وسبعين وسبعمئة للهجرة ، فاعتمدتـه أصلاً لكتابي ، واستعنت في البحوث الأصولية بكتاب (( تنقيح الفصول)) لشهاب الدين القرافي و (( المستصفى)) لأبي حامد الغزالي و (( إرشاد الفحول )) للقاضي محمد بن علي الشوكاني و (( جمع الجوامع )) للسبكي بشرح الجلال المحلـي وحاشية عبد الرحمن البنانـي ، وفي المسائـل الفقهية بكتاب (( بداية المجتهد )) للقاضي أبي الوليد محمد بن رشد الحفيد و(( أقرب المسالك )) لأحمد بن محمد الدردير ، وفي تخريج الأحاديث وفقه السنة بـ (( الموطأ )) وشرحه الكبير للقاضي سليمان بن خلف الباجي و (( منتقى الأخبار )) لمجد الدين بن تيمية وشرحـه المسمـى بـ (( نيـل الأوطار )) للقاضي الشركاني و (( شرح الجامع الصغير )) لعبد الرؤوف المناوي ، وفي تفسير آيات الأحكام بتفسير أبي عبد الله القرطبي و (( أحكام القرآن )) لأبي بكر بن العربي .

فأرجو أن يجد فيه طلاب العلم ما يسهّل عليهم دراسة هذا العلم في كتبه الموسّعة لمن يرغب في ذلك ، والله ولي التوفيق .

المؤلـف

محمد عبد الغني الباجقني

*

توطئــة

أصول الفقه هي القواعد الكلية التي تُعرف بها أحوال الأدلة ووجوه دلالتها على الأحكام الشرعية ، أو هي القوانين المستنبطة من الكتاب والسنة ولغة العرب التي توزن بها الأدلة التفصيلية عند استنباط الأحكام الفرعية من مداركها الشرعية وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والاستصحاب والقياس والمصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وسدّ الذرائع.

والأصولي هو العارف بها وبطرق استنباط المجتهدين الأحكام منها بالاستناد إلى الأدلة التفصيلية.

وأما الفقـه فهوالعلم بالأحكام الشرعية المكتسبُ من أدلتها التفصيلية ، أو هو نفاذ بصيرة الفقيه في تعرﱡف المراد من الألفاظ الدالة على الأحكام الشرعية.

والحكم الشرعي هو مقتضى الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين الخمسة:

الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح .

فالواجـب هو مقتضى الخطاب المتعلـق بفعل المكلف من حيـث أنه مكلف بفعله اقتضاءً جازماً .

والمندوب هو مقتضى الخطاب المتعلـق بفعل المكلف مـن حيث أنه مكلف بفعله اقتضاءً غير جازم ([1]) .

والمحرم هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف بتركه اقتضاءً جازماً .

والمكروه هو مقتضى الخطاب المتعلـق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف بتركه اقتضاء غير جازم .

والمباح هو مقتضى الخطاب المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مخير بين فعله وتركه .

*

الاستدلال عَلى الحكم الشرعي

يُستدل على الحكم الشرعي إما بدليل أو بمتضمن للدليل .

الدليل يكون بالكتاب والسنة والاستصحاب والقياس ، والمتضمن للدليل يكون بالإجماع وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وسدّ الذرائع .

ثم إن الدليل ينقسم إلى أصل وهو الكتاب والسنة والاستصحاب ، وإلى لازم عن أصل أي ناشئ عنه وهو القياس .

والدليل الأصلي إما أن يكون نقلياً وهو الكتاب والسنة ، وإما أن يكون عقليـاً وهـو الاستصحاب .

الدليل الأصلي النقلي

يشترط في الدليل الأصلي النقلي أن يكون صحيح السند إلى الشارعe متضح الدلالة على الحكم المقصود ، مستمر الحكم غير منسوخ ، راجحاً على كل ما يعارضه . فهذه شروط أربعة يجب اجتماعها فيه ليصح الاستدلال به .

سند الدليل الأصلي النقلي

إن الدليل الأصلي النقلي - وهو ما كان من الكتاب أو السنة - إما أن يكون نقله بالتواتر أو بخبر الآحاد .

التواتـر

التواتر هو خبر جماعة عن جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب ، وهو شرط في القرآن وليس شرطاً في السنة ، فإن القرآن لا بد من تواتره فإن لم يكن متواتراً فليس بقرآن. لذلك يعترض المالكية على الشافعية في احتجاجهم على أن خمس رضعات هي التي تحرﱢم وليس أقلﱡ منها بما رواه مالك ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت : (( كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرﱢمن ثم نسخن بخمسٍ معلومات فتوفي رسول الله e وهو مما يقـرأ من القرآن )) . فيقولون لهم إنه احتجاج بما سُمي قرآناً وهو ليس بقرآن لأنه غير متواتر فلا تقوم به حجة ، فيقول الشافعية إن التواتر شرط في التلاوة لا في الحكم وإننا حين احتججنا بقول عائشة لم نقصد أنه قرآن يتلى بل خبر مرفوع يبين الحدﱠ الأدنى من الرضاع المحرﱢم الذي جاء مجملاً في القرآن ([2]) فهو مما نسخت تلاوته وبقي حكمه .

ومنه استدلال الحنفية على أن كفارة اليمين بصيام ثلاثة أيام من شروطها أن تكون متتابعــة فإن فُرﱢقت لم تجزىء لقراءة عبد الله بن مسعود

(( فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) فنقول لهم ليس من شرطها أن تكون متتابعة إذ أن كلمة ((متتابعات)) زائدة ليست من القرآن لأنها غيرمتواترة ، واستدلالهم على أن الفيئة في الإيلاء محلها الأربعة أشهر لا بعدها بقراءة أبيّ بن كعب (( فإن فاؤوا فيهنّ فإن الله غفور رحيم)) فنقول لهم إنما الفيئة بعد تمام الأشهر الأربعة وكلمة ((فيهن)) زائدة ليست من القرآن لأنها لم تتواتر، فيجيبوننا بأن استدلالهم بهاتين الكلمتين الزائدتين لا لأنهما قرآن بل لأنهما من الأخبارالمعتمدة عندهم .

والتواترشرط في السّنة أيضاً إذا كانت رافعة لمقتضى قرآني كاحتجاج

الجمهور في المسح على الخفين بالأخبار الكثيرة الواردة عن الصحابة فقد نُقل المسح قولاً وفعلاً عن نحو سبعين منهم ([3]) ، فيقـول المخالفون ([4]) إنها أخبار آحاد فلا ترفع ما اقتضاه القرآن من وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، فيجيب الجمهور بأن تلك الأخبار وإن لم يتواتر كل واحد منها منفرداً فإن ما تضمنه مجموعها من جواز المسح على الخفين متواتر وهذا وأمثاله هو المسمى بالتواتر المعنوي كجود حاتم الطائي مثلاً فإنه لم ُينقل ، إليناعنه واقعة معينة متواترة اقتضت وصفه بالجود وإنما نقلت إلينا وقائع متعـددة كل واحدة منها بخبر الواحد تضمنت بمجموعها وصفـاً مشتركـا بينها وهو جود حاتم .

خبـر الآحـاد

خبـر الآحاد هـو خبر أفراد لم يبلغوا في العـدد جماعات المتواتر ؛ ويتعلق الاعتراض على سنده من جهتين : جهـة إجمالية ، وجهة تفصيليـة .

الجهة الإجمالية : اختلف الأصوليون في قبول أخبار الآحاد جملة ؛ فإذا استدل المستدل على حكم من الأحكام بخبر الآحاد يعارضه المخالف إما بعدم تسليمه بصحة الخبر ، وإما بـوروده فيما تعم به البلوى وتكثر إليه الحاجة ، وإما بغير ذلك من التعليلات الأصولية التي يقول بها المخالف ... كما إذا احتج فقهاؤنا على اشتراط الولي في النكاح بقوله e (( لا نكاحَ إلا بولي )) ([5]) وعلى انتقاض الوضوء بمس الذكر بقوله e (( إذا مسﱠ أحدكم ذكره فليتوضأ )) ([6]) وعلى تحريم الأنبذة المسكرة بقوله e (( كلﱡ مُسكر حرام )) ([7]) ، فيقول المخالفون في هذه المسائل الثلاث : لا نسلم بصحة هذه الأحاديث فقد قال ابن معين : ثلاثـة لا يصح فيها عن النبي e شيء ([8]) : (( لا نكاحَ إلا بولي وإذا مسﱠ أحدُكم ذكره فليتوضأ وكل مسكر حرام )) فنيجيبهـم بـأن هذا القول على فرض صحة نسبتـه إلى ابن معين لا يُردّ به الحديث إذا جاء على شروطه لأن سبب الرد لم يبينه ابن معين ولعل له فيه مذهباً خاصاً لا يوافقه عليه غيره من أئمة الحديث والفقه ، وقد رووا هذه الأحاديث الثلاثة بأسانيد صحيحة لا تترك مجالاً للتردد في التسليم بصحتها وقوة الاستدلال بها .

وكما إذا احتج الشافعية على أن المتبايعين لهما الخيار في إمضاء البيع وفسخه ما داما في المجلس بقولـه e (( البيّعان بالخيار ما لم يفترقا )) ([9]) ،

فيقول لهم الحنفية هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وتكثر إليه الحاجة فينبغي أن يكثر ناقلوه ويتواتر وما لم يتواتر فهو غير مقبول ، فيقول لهم الشافعيـة والمالكية أيضاً إن خبر الواحد مقبول عندنا مطلقاً إذا جاء على شروطه وإنما لم نقل نحن المالكية بخيار المجلس لأن الافتراق عندنا يتحقق بالقول أي بالإيجاب والقبول أو بالفعل الدال عليهما كما جرى عليه العمل في المدينة والعمل عندنا مرجح على الخبر .

الجهة التفصيلية : يشترط لصحة السند أن يكون مقبول الرواة ، ومتصلاً مرفوعاً إلى النبي e ([10]) .

ويشترط لقبول الراوي أن يكون عدلاً وضابطاً .

فالعـدل هو المسلم البالغ العاقل السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة ، وتثبت عدالته باشتهاره بحسن الحال وبالثناء الجميل عليه أو بتعديل الأئمة له ولو بروايتهم عنه .

وتقدح في عدالة الراوي أمور بعضها يتعلق به وبعضها يتعلق بالحديث نفسـه .

فمما يتعلق بالراوي الاعتراض على عدالته بأنه متروك الحديث أو وضّاع أو مطعون في دينه أو مجهول العدالة أو بغير ذلك من القوادح ...

مثال الأول اعتراض الشافعية على استدلالنا برواية خالد بن الياس بإسناده عن أبي هريرة : (( أن رسول الله e كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه )) فقلنـا بعدم مشروعية جلسة الاستراحة عند النهوض إلى الركعة الثانية والرابعة وخالـد متـروك الحديث ؛ فنجيبهم بـأن الحديث الذي استدللنـا به على عدم مشروعية هذه الهيئة لم نروه من طريق خالد بإسناده عن أبي هريرة بـل رويناه بأسانيـد أخرى عن ابن مسعـود وابن عمر وابن عباس وغيرهم كما استدللنـا أيضاً على عدم مشروعيتها بما رواه ابن المنـذر عن النعمان بن عياش قال : (( أدركت غير واحد من أصحاب النبي e فكان إذا رفع رأسه من السجـدة في أول ركعة وفي الثالثـة قـام كما هو ولم يجلس )) .

ومثال الثاني اعتراضنا على استـدلال الحنفية الذين يعـدّون داخل الفم والأنف من ظاهر البدن المفروض غسله على وجوب المضمضة والاستنشـاق في الغُسل من الجنابـة بما روي عن رسول الله e أنـه قال : (( المضمضة والاستنشاق فريضتان في الغسل من الجنابة )) لأن هذا الحديث لـم يُروَ إلا من طريق بركة بن محمـد وهـو وضّاع كما قال الدارقطني ، فيجيبوننـا بأنهم لم يستدلوا بهذا الخبر بل بما رواه الشيخان وأصحـاب السنن

عن ميمونـة ([11]) في وصف غسله e وفيه المضمضة والاستنشـاق واعتبروه مبيناً لمجمل قولـه تعالى : (( وإن كنتـم جنيـاً فاطّهروا )) فنقول لهم حينئذ أن ذكر المضمضة والاستنشاق في هذا الحديث لا يـدل على وجوبهما بل على ندبهما ( سنيتهما ) كما هما في الوضوء المنفرد عن الغسل .

ومثال الثالث اعتراض الشافعية على استدلالنا بقوله e (( من كان له إمام فقـراءة الإمام له قـراءة )) فقلنـا بسقـوط القـراءة عن المأمـوم ([12]) بأن هذا الحديث لم يروه مرفوعاً إلا جابر الجعفي وهو يقـول بالرﱠجعة ([13]) فلا يُحتج بما ينفـرد بروايته ، فنجيبهم بأننا نـروي هذا الحديث من غير طريق جابر الجعفي ، نرويه عن سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة وشَريـك وغيرهم من الثقـات عن موسى بن أبي عائشـة عن عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي e ، ونحن نأخذ بالحديـث المرسـل إذا كـان مرسلـه ثقة وليس في سنـده علة تضعفـه . ونـروي أيضاً عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئـل هل يقـرأ أحد خلـف الإمام قـال : إذا صلى أحدكـم خلـف الإمام فحسبه قـراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ .

ومثال الرابع احتجاج فقهائنا على جواز استقبال القبلة أثناء قضاء الحاجة عند وجود ساتر بينه وبينها بما روى خالد بن أبي الصلت بإسناده عن عائشة قالت : (( ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أوقد فعلوها حولـوا مقعدتي قِبلَ القبلة )) ([14]) ، فيقول الحنفية : خالد بن أبي الصلت مجهول لا يعرف من هو والمجهول لا يحتج بروايته وتبقى حجتنا قائمة على تحريم استقبالها مطلقاً بما جاء في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي e قال :(( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرﱢقوا أو غرّبوا )) ، فنقول لهم إن الحديث الذي رواه خالد بن أبي الصلت بإسناده عن عائشة رواه عنه خالد الحذاء وهو ثقة والثقة لا يروي إلا عن عدل معروف عنده على الأقل ([15]) وقد روى عن خالد بن أبي الصلت مبارك بن فضالة وواصل مولى أبي عيينة وغيرهما .وأما النهي عن استقبالها واستدبارها الوارد في حديث أبي أيوب فإنه محمول عليهما في الفضاء بلا ساتر ويدل عليه ما رواه أبوداود والحاكم عن مروان الأصفرقال (( رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت : أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن ذلك ؟ فقال : بلى إنما نُهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس )) .

ومما يتعلق بالحديث نفسه إنكار الأصل وهو المروي عنه روايةَ الفرع أي رواية الراوي كما إذا احتج فقهاؤنا على افتقار النكاح إلى وليّ بقوله e

(( أيما امـرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحهـا باطل فنكاحها باطل )) ([16]) ، فيقول الحنفية هذا الحديث يرويه ابن جُريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة ، وقد قال ابن جريج سألت عنه ابن شهاب حين لقيته فقال لا أعرفه والراوي إذا أنكر ما روي عنه لم يُحتج به كالشهادة ([17]) ، فنجيبهم بأن الأصل لم يصرح بتكذيب الفرع فإذا روى عنه العدل وجب قبول ما روى ولا يضر نسيان المروي عنه وإلا لزم تكذيب العدل وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى .

ومنه انفراد العدل بزيادة في الحديث لم ترد في روايات الآخرين كما إذا احتج فقهاؤنا على أن زكاة الحرث يعتبر فيها النصاب بخمسة أوسُق . بما صح عن رسول الله e أنه قال : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر وفيما سُقي بالنضج نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسُق )) ([18]) فيقول الحنفية إن جملة (( إذا بلغ خمسة أوسُق )) زيادة في هذا الحديث لأن الجماعة الذين رووه لم يذكروها فأوجب ذلك شكاً في صحتها ويبقى الحديث علىعمومه فتجب الزكاة في الكثيروالقليل من الحرث دون اعتبارلنصاب ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن روايات الجماعة لا تتعارض مع هذه الزيادة حكماً لوجودها في حديث صحيح آخر يخصص عموم حديث الجماعة فقد قال عليـه الصـلاة والسلام :

(( ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسُق صدقة )) ([19]) وبذلك ينتفي كل شك في صحتها وفي وجوب الأخذ بها .

الضابط : هو المتقن للرواية وذلك بأن يثبت في نفسه ما يرويه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء أو يثبته في صحف يصونها ليؤديه منها. ويعرف ضبطه بمقابلة حديثه بحديث الثقات المتقنين .

والاعتراض يرد عليه من وجهين :

الوجه الأول أن يكون الراوي كثير السهو والغفلة كما إذا احتج فقهاؤنا المغاربة لما رواه ابن القاسم عن الإمام من أن رفع اليدين في الصلاة ليس معروفاً إلا عند افتتاحها ([20]) بما روي عن علي بن أبي طالب (( أنه كان يرفع إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود )) ، فيقول فقهاؤنا المشارقة الذين أخذوا برواية ابن وهب وأشهب عن الإمام أنهما يرفعان أيضاً عند الركوع وعند الرفع منه : هذا الحديث يرويه يزيد بن أبي زياد الذي قال فيه رجال الحديث لقد ساء حفظه واختلط ذهنه في آخر عمره ، والحديث مع ذلك موقوف غير مرفوع . وقد روى أحمد وأصحاب السنن عن علي (( أن رسول الله e كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حَذْو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع )) . وروى أحمد والشيخان عن عبد الله بن عمر قال : (( كان النبي e إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذْو منكبيه ثم يكبر فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد )) فيجيبهم فقهاؤنا المغاربة بأنهم لم يرووا حديث علي عن يزيد بن أبي زياد بل عن وكيع عن أبي بكر بن عبد الله المنهشلي عن عاصم بن كليب عن أبيه (( أن علياً كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود )) ([21]) . ويروون أيضاً عن وكيع عن محمد بن أبي ليلى عن عيسى أخيه والحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب (( أن رسول الله e كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثـم لا يرفعهما حتى ينصرف )) ([22]) . ويروون كذلك عن وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم عن عبد الرحمن بن الاسود عن الاسود وعلقمة قالا قال عبد الله بن مسعود : (( ألا أصلي بكم صلاة رسول الله e قال فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة )) ([23]) .

الوجه الثاني أن يكـون الراوي ممن يزيد برأيه في الحديث فلا يُعلم ما فيه من كلام رسول الله e وما فيه من زيادته إلا إذا رُوي الحديث من طريق آخر ، ومثاله احتجاج الحنفية على أن راتبة الظهر القبلية أربع ركعات لا يُفصل بينها بسلام بما رُوي أن رسول الله e قال : (( أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء )) ([24]) ، فيقول فقهاؤنا هذا الحديث يرويه عُبيدة بن معتّب الضبّي وقد ضعفه أئمة الحديث حتى لقد قال له يوسف بن خالـد السّمتي : هذا الذي ترويه أكله سمعته أم بعضه ؟ فقال بعضه سمعته وبعضه أقيس عليه ! فقال له يوسف : اروِ لنا ما سمعت ودع ما قست فإننا أعلم بالقياس منك . ومن كان هذا شأنه فلا يستدل بروايته لاحتمال أن يكون فيما يرويه شيء من رأيه .

شروط اتصال السند: ويشترط في اتصال السند بالنبي e أن لا يكون فيه انقطاع أي بأن لايكون بين الرواة راوٍ محذوف ، وأن لا يكون موقوفاً على الصحابي ، وأن لا يكون مرسلاً بسقوط اسم الصحابي منه إلا أن هذا الشرط الأخير ليس متفقاً عليه فإن مالكاً وأبا حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وجمهور فقهاء مذاهبهم يأخذون بالحديث المرسل إذا كان مرسله من ثقات التابعين .

إذاً فالقوادح في اتصال السنـد بالنبي e إما الانقطاع وإما الوقف وإما الإرسال عند البعض .

مثال الانقطاع احتجاج فقهائنا على أن الخائف من تلف أو حدوث مرض له أن يتيمم بحديث عمرو بن العاص قال : (( احتملت في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمنا على رسول الله e ذكروا ذلك له فقال:(( ياعمرو صليت بأصحابك وأنت جنب )) فقلت : (( ذكرت قول الله عليه تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً . فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله e ولم يقل شيئاً ([25]) )) . فيقول الشافعية هذا الحديث منقطع فإن رواية عبد الرحمن بـن جُبير وهو لم يسمع من عمرو بن العاص فلا يحتج بحديثه ، فنقول لهم إنه متصل بواسطة أبي قيس مولى عمرو عن عمرو .

ومثال الوقف احتجاج فقهائنـا على أن الاعتكاف لا يصـح دون صوم ([26]) بما روي عن عائشة قالت : (( السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهدَ جنازة ولا يَمسﱠ امـرأة ولا يباشرَهـا ولا يخـرجَ لحاجة إلا لما لا بدﱠ منـه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع )) . فيقول الشافعية هذا الحديث أخرجه أبو داود وقال فيه : غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقـول فيه قالت (( السّنة ... )) وأخرجـه أيضاً النسائي غير مستهل بكلمة (( السنة )) فهو إذاً موقوف على عائشة ، فتجيبهم بأن الحديث وإن روي من بعض طرقه موقوفـاً فقد رواه الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعاً وإذا ثبت رفعه من طريق فلا يضر وقفه من طريق آخر .

ومثال الإرسال احتجاج فقهائنـا على افتقار النكاح إلى الولي بقولـه e (( لا نكاح إلا بولي )) ، فيقول الحنفيـة هذا الحديث رواه شعبة والثـوري عن أبي إسحاق عن أبي بـردة عن النبي e وأبو بـردة لـم يسمع منه ، فنجيبهم بأن المراسيل مقبولـة عندنا كما قدمنا بـل وعندكـم أيضاً ومع ذلـك فقـد رواه إسرائيـل عـن أبي إسحاق عن أبي بـردة عـن أبيـه عن النبي e ([27]) وقـد كانوا يحدثون بالحديث فيرسلونـه فإذا قيـل لهـم عمن رويتموه أسنـدوه .

هـذا وقد علمتَ من قول عائشـة (( السنة على المعتكف ... )) أن قول الصحابي : السّنـة كـذا أو من السنة كـذا أو مضت السنـة بكـذا يدخله في الحديث المرفوع كقوله : قضى النبي e بكـذا أو أمر بكـذا أو نهى عن كـذا .

*

اتضَاح دَلالـة الدّليـل الأصلي النّقـلي

يشترط في الدليل الأصلي النقـلي بعد ثبوت صحته اتضاحُ دلالته على الحكم المستدل به عليه . واتضاح الدلالة يختلف باختلاف المتن من حيث أنه قول أو فعل أو تقرير .

القسم الأول من أقسام المتن وهو القول

القول يدل على الحكم إما بمنطوقه أي بالمعنى الذي يدل عليه اللفـظ فـي محل النطق وهـو المعنى الـذي استعمل اللفـظ فيه حقيقة أو مجازاً ، وإما بمفهومه أي بما يفهم منه فـي غير محل النطق بـل فيما وراءه مـن فحوى القول ولحنه والمقصود منه .

دلالـة القول بمنطوقه على الحكم

القول الدال بمنطوقـه على الحكم قـد يكون أمراً وقد يكون نهياً وقد يكون تخييراً .

فالأمـر هو القول الدال على طلب الفعـل ، وصيغته ( افعلْ ) ([28]) ،

وهي تـرد لمعانٍ كثيرة منها :

الأمر المطلق كقوله تعالى : (( أقيموا الصلوة وآتوا الزكوة )) .

والإذن كما في قولـه تعالى : (( فإذا قُضيت الصلوة فانتشروا فـي الأرض وابتغوا من فضل الله )) .

والإشهاد كقولـه تعالى : (( وأشهدوا إذا تبايعتم )) .

والتأديب كقولـه e لعمر بن أبي سلمة : (( كلْ ممـا يليـك )) ([29]) .

والاعتبار كقوله تعالى : (( انظروا إلى ثمره إذا أثمر ويَنْـعِه )) .

والوعيد كقوله تعالى : (( فأذنـوا بحـرب من الله ورسوله )) .

والإهانة كقوله تعالى : (( ذُقْ إنـك أنـت العزيـز الكريم )) .

والتكذيب كقوله تعالى : (( فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين )) .

والتسوية كقوله تعالى : (( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم )) .

وعدم الاكتراث كقول السحرة لفـرعون : (( فاقضِ ما أنت قاض )) .

والإكرام كقوله تعالى : (( ادخلوا الجنةَ أنتم وأزواجُكم تُحْبَرون )) .

والتكوين كقوله تعالى : (( كونوا قردةً خاسئين )) .

وكمال القدرة كقوله تعالى : (( كـنْ فيكــون )) .

والمشورة كقول ملكة سبأ للملأ من قومها : (( يأيها الملؤُ أَفتوني في أمري )) .

والدعاء كقولنا : اللهم اغفر لنا وارحمنا .

وهـو أي القول الدال على طلب الفعل حقيقـةٌ في الأمـر المطلق ومجاز في المعاني الأخرى

واختلف الأصوليون في الأمـر المطلق هـل يقتضي الوجوب ابتداء أو يقتضي الندب أو هو متردد بينهما ولا يحمل على أحدهما إلا بقرينـة تصْرفه إليه ؟ فذهـب كثير منهم ([30]) إلى ما ذهب إليـه مالك وأصحابـه من أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب ابتـداء ولا يحمل على غيـره إلا بقرينة صارفة لأن الشارع حين أمـر المكلف أراد منه الإطاعة وإطاعة الشارع واجبة ، وذهب غيرهـم إلى أنه يقتضي الندب في الأصل ([31]) ولا يحمل على غيره إلا بقرينة لأن الشارع لا يأمر إلا بخيـر والخير مندوب إليـه على وجه العموم ، فإذا جاءت قرينة تحمله على الوجـوب كان مقتضياً لـه بها وإلا بقي على أصلـه ، وذهب آخرون ([32]) إلى أنـه لا يقتضي ابتداء وجوباً ولا ندباً لتردده بين الوجود والندب والإباحـة وإنما بعـرف اقتضاؤه بما يلابسه مـن القرائن والاعتبارات المرجحة للمقتضى الـذي أراده الشارع مـن واجب أو مندوب أو مباح .

وقـد ترتب على اختلاف الأصوليين فـي هـذه المسألة الأصولية اختلاف الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية كاختلافهم في الإشهاد على المراجعة هل هو واجب أو منـدوب ؟ فقال الشافعية بوجوبـه محتجين بقوله تعالى : (( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعـروف وأشهدوا ذوي عدل منكم )) أي على الإمساك وهـو المراجعة ، وقال المالكية والحنفيـة : لما كانـت المراجعـة لا تتوقف على القبـول فـلا تتوقف على الإشهاد والأمر بالإشهاد هنا محمول على الندب للتوثق كما في سائـر الحقوق المقبوضـة .

وكاختلافهم في غسـل الإنـاء من شرب الكلب هل هو واجب أو مندوب لقوله e (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسلْه سبع مرات )) ([33]) فذهب الشافعية والحنفية والحنابلة إلى الوجوب لأنهم رأوا الأمـر يقتضيه لنجاسة سؤر الكلب عندهـم تبعاً النجاسـة لعابـه ، وذهب المالكية إلى النـدب وإلى أنه تعبدي غير معلل لأن سؤره طاهر عندهم تبعاً لطهارة لعابـه وطهارة عينه أيضاً ويستدلون على طهـارة لعابه بقوله تعالى : (( فكلـوا مما أمسكْنَ عليكم )) ويقولون لو كان لعابه نجساً لتنجس الصيد بمماسته ، وعـددُ مرات غسل الإناء يؤيد ما ذهبوا إليه مـن عدم نجاسة سؤره لأن النجاسات لا يشترط في غسلها العدد .

هذا ويتعلق بالأمر تسع مسائل رئيسية ينبني عليها كثير من الأحكـام الفقهيــة :

المسألـة الأولى : هـل الأمر بالشـيء يقتضي المبـادرة إليـه أم لا يقتضيها ؟

اختلف في ذلك الأصوليون واختلف أيضاً الفقهــاء في بعض فروع الفقه المبينة على هـذا الأصل كاختلاف الإمامين أبي حنيفة والشافعي في فريضة الحج هل هي على الفـور فمن أخرها وهو متمكن مـن أدائها كان عاصيـاً وهو مذهب أبي حنيفة ، أو هي على التراخي فمن أخرها وهو متمكن من أدائها لا يكون عاصيـاً بالتأخير ([34]) وهو مذهب الشافعي ، وأما عندنـا ففيها قولان : قول بأنها على الفـور وهو لإمامنـا ([35]) وفقهائنا العراقيين ، وقول بأنها على التراخي وهو لفقهائنا المغاربة ولكن إلى ظن الفوات أو بلوغ الستين من العمر ([36]) .

والمحققـون من الأصوليين يـرون أن الأمر المطلق لا يقتضي فوراً ولا تراخياً إلا بقيد ، لأنه تارة يتقيد بالفوريـة كما إذا قال السيد لخادمه : سافر الآن فإنه يقتضي الفور ، وتـارة يتقيـد بالتراخي كما لـو قال لـه : سافر بعد شهر فإنـه يقتضي التراخي ، فإذا أمره بأمر مطلق من غير تقييد بفـور ولا بتراخ فإنه يكون محتملاً لهما وما كان محتملاً لشيئين فلا يكون مقتضياً لواحد منهما بعينه .

المسألـة الثانية : هل الأمر بالشيء يقتضي تكراره أم لا يقتضيه ؟

ذهب مالك إلى أن الأمر يقتضي التكرار كما فهـم من استقراء كلامه

لأنه لو لـم يكن للتكرار لا متنع ورود النسخ عليه بعد فعله ولأنه ضـد النهي وهو للتكرار فوجب أن يكون مثله للتكرار ، وخالفه جمهور فقهاء المذهب فقالوا إنـه للمرة الواحدة إلا إذا عُـلق على شرط أو وصف فيكون حينئذ للتكرار لأن الشرط سبب والحكم يتكرر بتكرر سببـه ولأن الوصف علـة أو

كالعلـة والحكم يتكرر بتكرار علته . ورأى المحققـون من الأصولييـن أنـه لا يقتضي التكـرار ولا المرة بل هـو صالح لكل منهما ولا يتعين لأحدهمـا إلا بمعيّن يصرفه إليه : فقد أمرنـا الشارع بصوم رمضان من كل سنة وأمرنا بالحج مرة في العمر ولصـلاح الأمر المطلق لكل واحد من القيدين حسن من السامع الاستفهام لما فيه من الإبهام فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال : (( خطبنا رسول الله e فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحجﱠ فحجوا . فقال رجل : أكلﱠ عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال النبي e : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذروني ما تركتكم )) ([37]) ولولا أن الأمر المطلق يحتمل التكرار والمرة الواحـدة لما سأل الرجل هذا السؤال .

المسألة الثالثة : هل الأمر المؤقت بوقت موسّـع يتعلق بأول الوقت خاصة أو بآخره خاصة أو لا يختص تعلقه بجزء معين منه ؟

اختلف في ذلك الأصوليون واختلف معهم الفقهاء : فبعض الشافعية يرون الأمر المؤقت بوقت موسع متعلقاً بأوله فإن تأخر الفعل عن أول الوقت ووقع في آخره فهو قضاء سدﱠ مسـدﱠ الفرض ، والمحققون من الأصوليين يرونه غير متعلق بجزء معين منه لأنه لو تعلق بأولـه لكان المؤخر عاصياً بالتأخير ولكان قاضياً لا مؤدياً وحينئذ يجب عليه أن ينوي القضاء وهـو خلاف الإجماع ، ولو تعلق بآخره لكان المقدم متطوعـاً لا ممتثلاً ولوجب عليه أن ينوي التطوع ولما أجزأه فعله عن الواجب كما لو فعل قبل الوقت ، وهذا أيضاً خلاف الإجماع ، فثبت أن الأمر المؤقت بوقت موسّع لا يختص تعلقه بجزء معين منه بل يتعلق بمجموع أجزاء الزمن الكائنـة بيـن الحدّين وعليه مذهبنا.

ومما ينبني على هـذا الأصل اختلافهم في الصبي إن صلى في أول الوقت ثم بلغ قبل انقضائه فإن القائلين بأن الأمر المؤقت بوقت موسّع يتعلق بأوله يرون صلاته تجزئه ولا إعادة عليه لأنه بلغ بعـد انقضاء زمن الوجوب وقد صلاها فيه ، والقائلين بأنه يتعلق بآخره يـرون صلاته لا تجزئه لأنه صلاها قبل زمن الوجوب ولما أدركـه زمن الوجوب وهو بالغ وجب عليه أن يعيدها فيه ، وأما فقهاؤنا فلبناء تخريجاتهم على أن الأمـر المؤقت بوقت موسع لا يختص تعلقه بجزء معين منه يوجبون عليه إعادة صلاته لا لأن وجوبها يتعلق بآخر الوقت بل لأن صلاته تلك كانت منه نافلة غير مفروضة عليه والنافلة لا تسدﱡ مسدﱠ الفريضة .

ومثله اختلافهم في الوقت الأفضل لأداء صلاة الصبح هـل التغليس أم الإسفار ؟ فالشافعية يـرون التغليس أفضل لأنه وقت الوجوب ، والحنفية يرون الإسفار أفضل لأنه هو وقت الوجوب عندهم ، والمالكية كالشافعية يرون التغليس أفضل ولكن لا لأنه وقت الوجوب بل لأن رسول الله e بعد أن صلى الصبح مـرة فأسفر بها لازم التغليس إلى أن توفـي ([38]) .

المسألة الرابعة : هل الأمر الذي يسقط بفعل بعض المكلفين عن البعض الآخر يتعلق ابتداء بالجميع ثم يسقط بفعل من فعله عمن لم يفعله أو إنما يتعلق ابتداء ببعض المكلفين ؟

جمهور العلماء يرون أنه يتعلق ابتداء بالجميع لأن العقاب يعم الجميع إذا تركوه ولا يعم العقاب إلا لعموم الواجب .

ومما ينبني على هذه المسألة أن الحاضر الصحيح إذا عدم الماء فإنه يتيمم للفرائض المتعينة عليه كالصلوات الخمس ولا يتيمم للنوافـل استقلالاً وفي تيممه لصلاة الجنازة خلاف بناء على هذا الأصل : فمن يرى صحة التيمم لها يـرى وجوبها يتعلق ابتداء بجميع المكلفين وهـذا الرأي عندنـا قوي مدركـاً وإن لم يشتهر مذهباً ، ومن يرى عدم صحة التيمم لهـا يرى وجوبهـا غير متعلق ابتداء بجميع المكلفين فكانت فـي حقه كالنافلـة ما دامت غير متعينة عليه وهـذا الرأي عندنا هو المشهور في المذهب وإن كان ضعيفاً في المدرك .

المسألة الخامسة : هـل الأمر بواحد من أشياء يقتضي واحـداً منها لا بعينه أو يقتضيها جميعها وإن كان فعـل أحدها مجزِئاً ؟ كالأمـر في كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، وكالأمر في كفارة صيام بعتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً .

فذهب الجمهور إلى الأول وهو اقتضاء واحد لا بعينه لأن من ترك الجميع إنمـا يعاقب عقوبة من تـرك واجباً واحداً لا عقوبة من ترك واجبات كثيرة ([39]) .

ويظهر أثر الخلاف في العبد والمسافر إذا كانا إمامين في صلاة الجمعة هل تصح صلاة المؤتمين بهما أو لا تصح ؟ فابن القاسم لا يراها تصح بناء على أن الواجب في حق العبد والمسافر غير معيـن لأنهما مخيـران بين الجمعة والظهر فالواجب عليهما إحداهما لا بعينهـا وهما مفترضان في مطلق الصلاة التي هي إحداهما ومتنفلان في خصوص الجمعة ، فإذا اقتدى بهما الحـرﱡ الحاضر في الجمعة المعينة عليه كان اقتداؤه كاقتداء مفترض بمتنفل وهو لا يصح ([40]) ، وأشهب يراها تصح بحجة أن الجمعة كالظهر واجبة على العبد وعلى المسافر بناء على أن الأمر بواحد من مأمورات يقتضي عنده وجوب الجميع وإن أجزأ واحد منها .

المسألة السادسة : الأمر بالشيء هل يقتضي فعله الإجزاء أم لا ؟ أي أن المكلف إذا فعـل ما أُمر به هل يلزم منه انقطاع التكليف عنه فيما فعله أو لا يلزم بل يجوز بقاؤه فيه ؟

للأصوليين في هذه المسألة قولان أرجحهما الأول وهو اقتضاء الفعل الإجزاءَ وانقطاعَ التكليف فيه ، وقـد بنى الفقهاء عليهما فروعـاً كثيرة منها :

من لم يجد مـاء ولا صعيداً ودخـل عليه وقت الصلاة فإننا نأمـره بالصلاة قبل خروج وقتها على قول ابـن القاسم وأشهب ([41]) ، ثـم إذا صلى هل يقضي تلـك الصلاة عند وجـود الماء أو الصعيـد أو لا يقضيها ؟ أما ابن القاسم فيأمـره بقضائها لأنه لا يـرى انقطاع التكليف عنه في صلاة أداها بغير طهارة وإن أُمر بها على تلك الحالـة حرمة لوقتها ، وأمـا أشهب فلا يأمره بقضائها لأنه يرى انقطاع التكليف عنه بأدائها كما أُمـر والأمر يقتضي الإجزاء ويلزم من الإجزاء سقوط القضاء .

كذلك من لـم يجد ثوباً يستر بـه عورته فصلى عارياً ثم وجد ثوباً بعـد خروج الوقـت هل يعيـد صلاته أو لا يعيدها بناء على هذا الأصل ؟ الراجح عندنا في المذهب عدم الإعادة .

ومثلـه من التبست عليه القبلة في موضع لم يجـد فيه عدلاً عارفـاً ولا محراباً قائماً فصلى إلى جهة ظن أنها القبلة ثم تبين له بعد خروج الوقت أنها ليست القبلة ففي وجوب الإعادة عليه قولان أرجحهما عدم الوجوب .

المسألة السابعة : هل يقتضي الأمر الموقوت بوقت قضاء المأمور به بعد فـوات وقته أو لا يقتضيـه ؟ أي أن العبـادة المحـدد وقتها إذا لـم يفعلها المكلـف حتى خرج وقتهـا هل يجب عليه قضاؤهـا بالأمـر الأول أو لا يجب عليه قضاؤها إلا بأمر جديد كالأمر بوجوب قضـاء صلاة خرج وقتها على نائم أو غافل وقضاء صوم رمضان على مريض أو مسافر لم يصمـه ؟

في هـذه المسألة قولان للأصوليين : فإن بعضهم يرون أن القضاء واجب بالأمر الأول لأن تـرك المأمور به يجعله دينـاً عالقـاً بالذمة يجب أداؤه ، وبعضهم يـرون أن القضاء غير واجب بالأمر الأول وإنما يجـب الوقت المحدد لـه ، ألا ترى أن السيد إذا قـال لعبده إفعل كـذا يوم الخميس مثلاً فإن أمره هذا لا يتناول الأيام التي بعده .

وبناء على هذيـن القولين اختلف الفقهاء في تارك الصلاة متعمداً هـل يجب عليه قضاؤها كما وجب على النائم والغافل ؟

جمهور الفقهاء يوجبون عليه قضاءها بالأمـر الأول لأنه بتعمد تركها بقيت دينـاً عليه والدين لا يسقط عن المدين إلا بأدائه وديـن الله أحق أن يقضى ، وابن حبيب من فقهائنـا وداود وابن حزم الظاهريـان لا يوجبون عليه قضاءها بعد خروج وقتها لأنه لم يرد أمر بذلك إلا في حق النائـم والغافل وهو قوله e (( إذا رقـد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلّـها إذا ذكرها فإن الله عز وجـل يقول أقم الصلاة لذِكْري )) ([42]) ولم يرد مثله في المتعمد .

المسألة الثامنة : هـل الأمر بالشـيء يقتضي وسيلة المأمور به أو لا يقتضيها ؟ أي ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب أيضاً أم لا ؟ ([43])

جمهور الأصوليين يرون أن الأمر يقتضي جميـع ما يتوقف عليه فعل المأمور به لأن الوسيلة لو لم تكن مأموراً بها أيضاً لجاز للمكلف تركها ولو جاز له تركها لجاز ترك الواجب الأصلي لتوقفه عليها .

وعلى هذا الأصل أوجب الفقهـاء طلب الماء للطهارة وقالوا لما كانت الطهارة واجبة ولا يتوصل إليهـا إلا بطلب الماء فطلـب الماء واجـب لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولذلك اتفقوا على أن من وجبت عليه كفـارة بالعتـق ولم تكن عنـده رقبـة وعنده ثمنها وجب عليه اشتراؤها لأنه لا يتوصل إلى العتـق الواجب عليه إلا باشترائها فاشتراؤها إذاً واجب عليه ، ولذلك أوجبنـا اشتراء الماء للوضوء في السفر إذا لـم يكن ثمنه مجحفاً .

المسألة التاسعة : هل الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده ؟

جمهور الأصوليين والفقهـاء يرون أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده وحجتهم أن الضد إما أن يكون مأموراً به أو مباحـاً أو منهياً عنه ، ولا يصح أن يكون مأموراً به لأنه لا يعقل أن يؤمر بفعل الشيء وضده معاً ،

ولا يصح أن يكون مباحاً لأنه لو كـان مباحاً لجاز ترك المأمور به ، وترك المأمور به لا يجوز فلم يبق إلا أن يكون ضدﱡ المأمور به منهياً عنه .

وبعض الأصوليين والفقهـاء لا يقولون بأن الأمر بالشيء نهـي عن ضده لأنهم يرون أن قصد الشارع من الأمر إنما هو فعل المأمور به فإذا فعله المأمور حصل ما قصد إليه الشارع .

ويظهر أثـر الخلاف في عبادةٍ جمع فيها المكلف بين المأمور به وضده كأن جلس عمـداً في صلاة مفروضة ثم تلافى القيام المأمور به ، فالذين يرون أن الأمر بالشيء نهي عن ضده - وهم الأكثرون - يحكمون على صلاته بالبطلان لتعمده جلوساً فيها منهياً عنه ، والذين لا يـرون الأمر بالشيء نهيـاً عن ضده يعدونها صحيحة لأنه فعل فيها ما أُمر به .

ومثله لـو سجد على مكان نجس وأعـاد السجود على مكان طاهر فإن صلاته تعد باطلة عند الجمهور وصحيحة عند الآخرين .

هـذا وكل من يقول بمفهوم المخالفة كإمامنا وأكثـر علماء مذهبه والإمام الشافعي وأكثـر علماء مذهبه يقولـون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وأكثر علماء الحنفية لا يقولون به .

والنهي هـو القـول الـدال على طلب الامتناع عن الفعل ، وصيغته ( لا تفعل ) وترد لمعان عدة منها :

النهي المطلق كقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلﱠ الله لكم )) .

والإرشـاد كقوله تعالى : (( لا تسألـوا عـن أشياء إن تُبْـدَ لكم تسؤكــم )) .

والأياس كقوله تعالى : (( لا تعتذروا اليوم )) .

وبيان الحقارة كقوله تعالى : (( ولا تمدنﱠ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرةَ الحياة الدنيا لنفتنَـهُم فيه )) .

وبيان العاقبة كقوله تعالى : (( ولا تحسبـنﱠ الله غافلاً عما يعملُ الظالمــون )) .

والدعـاء كقولنا : اللهم لا تَكِلْنـا إلى أنفسنا طرفةَ عين .

وهـو أي القول الدال على طلب الامتناع عن الفعل حقيقةٌ في النهي المطلق ومجاز في المعاني الأخرى ، وأهم ما يتعلق به مسألتان :

المسألة الأولى : هـل النهي يقتضي التحريم أم الكراهة ؟

الجمهور يرونـه مقتضياً للتحريم ([44]) لأن الصحابة والتابعيـن كانوا يحتجون بـه على التحريم ولأن فاعل ما نُهي عنه عاص والعاصي يستحق العقاب وكل فعل يستحق صاحبه العقاب فهو حرام . وينبني على هـذا الأصل فروع كثيرة :

منها الصلاة في المواطن السبعة التي ورد النهي عن الصلاة فيها ([45]) وهي المزبلة والمجزرة والمقبـرة وقارعـة الطريق والحمام وأعطان الإبل وفوق ظهـر الكعبة : فإن الفقهـاء اختلفوا في حكم الصلاة فيها بيـن التحريم والكراهة ، وأكثر المحققيـن من علمائنا يـرون أن النهي يـدل ابتـداء على التحريـم ومع ذلك يعـدون الصلاة في المواطن المذكورة غيـر محرمة بل ولا مكروهة إذا أُمنت النجاسة ([46]) لأنهم يـرون حديث النهي عن الصلاة فيها على فرض صحته منسوخـاً بقوله e (( جُعلت لي الأرض مسجداً وَطهوراً فأيّمـا رجـل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ )) ([47]) لأنـه من فضائله التي خصّـه الله بها وهي لا تنسخ قطعاً .

ومنها اختلافهم فـي استقبال القبلة واستدبارها عنـد قضاء الحاجة هل هـو حرام أو مكروه ؟ بناء على ما رواه أبو أيوب الانصاري من قولـه e (( إذا أتيتـم الغائـط فلا تستقبلـوا القبلة ولا تستدبرونهـا ولكـن شرّقـوا أو غرّبـوا )) ([48]) .

أما عند فقهائنـا فمحمول على التحريم في الفضاء بلا ساتر كحائط أو صخرة أو شجرة جمعاً بين الحديثين : حديث أبي أيـوب هـذا وحديث ابن عمر الذي قـال فيـه : (( رقيت يومـاً على بيت حفصة فرأيت النبي e على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة )) ([49]) فحمل فقهاؤنـا حديث أبي أيوب على الفضاء حيث لا ُستـرة وحملـوا حديث ابن عمر على الستـرة ،

وأما عنـد الحنفيـة فمحمول على التحريم مطلقاً سـواء في الفضاء أو في البيوت لعموم النهي في حديث أبي أيوب بعـد أن رجحوه على حديث ابن عمر لأنهم رأوا في حديث أبي أيوب نهيـاً صريحـاً وفي حديث ابن عمر موافقة للبراءة الأصلية وهي عــدم الحكم مع احتمال تقدمـه على حديث النهي .

المسألة الثانية : هـل النهي يدل على فساد المنهي عنه أم لا ؟

أكثر الأصوليين والفقهـاء يرون أن النهي يـدل على فساد المنهـي عنه إلا ما خرج بدليل منفصل . وحجتهم أن الصحابة والتابعين كانـوا يقولون بفساد أنكحـة وبيوع لورود النهي عنهـا ولم ينكر بعضهم على بعـض الاستدلال بذلك بل ربمـا عارض بعضهم بعضـاً بأدلة أخرى ، وأن النهي ليس إلا لـدرء مفسـدة في المنهي عنه سواء كان في العبــادات أو في المعاملات والمتضمّن للمفسدة فاسد .

وعلى هذا الأصل اختلف الفقهـاء في نكاح الشِغار هـل يفسخ أم لا ؟

مع اتفاقهم على نهـي النبي e عنه ([50]) . فمن رأى النهي يدل على فساد المنهي عنه حكم بفسخه ([51]) ، ومـن رآه لا يـدل على فساده لم يحكم بفسخه.

واختلفوا في بيع وشرط وفي بيـع وسلف بعـد ورود النهي عنهمـا.

والمعوﱠل عليه في مذهبنـا أن النهي عن الشيء إن كان لحق الله عز وجـل فإنه يفسـد المنهي عنه وإن كان لحـق العبـد فلا يفسده . ألا ترى أن النبي e نهى عن التصرية فقال : (( لاُتصَرﱡوا الإبـل والغنم فمـن ابتاعها بعد ذلك فهو بخيـر النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيهـا أمسكها وإن سخطها ردها وصاعـاً من تَمْـر )) ([52]) فلـم يحكم e بفسخ البيـع لأنه ليس بفاسد ولو كان فاسداً لحكم بفسخه ولمـا جعل للمشتري خيـاراً في الإمساك لأن الحق فيه للعبد لا لله عز وجل ، ولما نهـى الله تعالى عـن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة فقال : (( يا أيها الذين آمنوا إذا نـودي للصلاةِ من يـوم الجمعة فاسعوْا إلى ذكر الله وذروا البيع )) كـان نهيـه عنه لحقه في وجوب سعي عباده المؤمنين لها فقلنا بفساد البيـع وقتئذ بالإضافة إلى حرمتـه وبوجوب فسخه إن تم إذ لا اختيـار للعباد في حقوق الله .

وهـذا هو وجه تفرقـة فقهائنا بين ما يفسخ من النكاح المنهي عنـه بطلاق وبين ما يفسـخ بغير طلاق ، فإنهم قالوا كـل نكاح كان للـزوج أو للزوجة أو للولي إمضاؤه وفسخه فإنه يفسخ بطـلاق لأن النهي فيه لحـق من له الخيار والنكـاح في نفسه منعقـد غير فاسد ، وكل نكـاح لا خيار فيه لأحد الثلاثة فإنـه يفسخ بغير طلاق لأن الفسخ فيه ليس لحـق أحد منهم ولـو كان لحق أحد منهم لسقط الفسخ بإسقاطـه حقه ولما لم يسقط الفسخ بإسقـاط أحدهم علمنا أن الحق فيه لله عز وجل فكان فاسداً غير منعقد من أساسه فلا يحتاج فسخه إلى طلاق لأن الطلاق إنما هو حـل عقد قائم فحيث لا عقد فلا حَـل ، هذه قاعدة مذهبنـا وما خرج عنها فإنما هو لدليل منفصل .

ثم إن النهي المطلق يقتضي الفـور والاستمرار فيجـب فيه الانتهـاء حالاً ويجب استمرار الانتهاء .

والتخييـر هـو القول الدال على التخيير بين الفعـل والترك ، وهـو لا يدل دائماً على استواء الطرفين ، فإن المسافـر مثلاً مخير بين الصوم والفطر ، والصوم عندنـا أفضل إذا لم يشـق عليــه والفطر أفضل إذا شـق الصوم عليه ، ومخير بين إتمــام الصلاة وقصرها والقصر أفضل ، وهـو والعبد مخيران بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر وصلاة الجمعة أفضل .

هـذا والذين يـرون المندوب مأموراً بـه والمكروه منهيـاً عنه وهم الجمهور يجعلون التخيير مختصاً بالإباحـة ، والإباحـة حكم شرعي لأنه عُرف من جهة الشرع وعند المعتزلـة حكم عقلي ثابت بالبراءة الأصلية فيما لم يرد عن الشارع تخيير فيه .

القول من حيث دلالته على المعنى

اعلـم أن القول إما أن يـدل بالوضع على معنى واحد لا يحتمل غيره وإما أن يحتمل معنيين .

فإن دل بالوضـع على معنى واحـد فقط فهو النص ، وإن احتمل معنيين ولم يكن راجحاً في أحدهمـا فهو المجمل ، وإن كان راجحاً في أحدهما من جهـة لفظه وضعاً فهو الظاهر ، وإن كان راجحـاً في أحدهما بدليل منفصل فهو المؤوّل .

النــص

النص هـو اللفظ الذي يدل بالوضـع على معنى واحد لا يحتمل غيره كدلالة لفظ ( السبعة ) مثلاً على العدد المعلوم ، وهو لا يقبل الاعتراض من جهة دلالته على ما هو نص فيه بل من جهات أخرى .

مثالـه احتجـاج فقهائنـا على أن غسل الإنـاء من شرب الكلب سبع

لا ثلاث بقولـه e : (( إذا شرب الكلب في إنـاء أحدكم فلْيغسلْـه سبع مرات )) ([53]) والحنفية يوجبون غسله ثلاث مرات فقط لكنهم لا ينازعوننـا في دلالة لفظ السبـع على العـدد المعلوم بل يقولون كان أبو هريرة يفتي بغسل الإنـاء ثلاثاً وهو راوي حديث غسله سبعـاً فعلمنـا بذلك نسخـه ، فنقول لهم قد أفتى أيضـاً بغسله سبعـاً ورواية فتواه الموافقة لحديثه المرفوع المتفق على صحته أرجح سنداً ونظراً من رواية فتواه المخالفة .

واحتجاج فقهائنــا أيضاً على أن الإمام مخيـر في الأسرى بين المن والفداء بقوله تعالى : (( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاقَ فإمّـا منّـا بعد وإما فداءً حتى تضعَ الحربُ أوزارَهـا )) وهذا نص في التخيير ، فيقول فقهاء الحنفيـة هـذا وإن كان نصـاً في التخيير إلا أنه مغيّـى بغاية مجهولة في قوله : (( حتى تضعَ الحربُ أوزارَها )) فوضْـعُ الحرب أوزارها مجهول لأنه يحتمل أن يكون المراد منه حتى يقف القتـال وتنتهـي الحرب ويحتمل أن يكون المراد حتى لا يبقـى كفــار فيقف الجهاد ويحتمل غيـر ذلك وبالاختصار يحتمل أن الغاية قد وجدت فيرتفـع التخيير ويحتمل أنها لا تزال فيبقى التخيير مستمـراً وإذا كان كذلك فالآيـة ليست نصـاً في مدلولهـا بل مجملـة ، فيجيبهم فقهاؤنــا بأن مجاهداً وغيره من أثمـة التفسير رووا عن ابن عبــاس تفسيرها بحتى ينـزل عيسى عليه السلام وحتى لا يبقى على الأرض مشرك ([54]) .

هـذا وقد يتعين المعنى ويكـون اللفظ نصـاً فيه لا من جهة الوضع بل من القرينة والمناسبة الملابسة لـه ، ومثاله ما احتج به فقهاؤنـا على عدم جواز اشتراء التمـر بالرطب بقوله e حيـن سئـل عن ذلك : (( أينقص الرطب إذا يـبس فقالـوا نعـم فقال فـلا إذاً )) ، فيقول المعارضـون قوله (( فلا إذاً )) لا يتم إلا بتقديـر محذوف قـد يكون (( فلا يجوز إذاً )) وقد يكون (( فلا بأس إذاً )) وبهذا الاحتمـال يضعف الاستدلال ، فنقـول لهم إن جوابه e إنما يطابق سؤال السائـل ويكون التقديـر حينئــذ (( فلا يجوز إذاً )) لأنـه سأل عن الجواز ولأن قرينــة التعليل بالنقص تدل على عدم جواز اشتراء التمـر بالرطب ، ويؤيـد ما قطعنــا به التصريح بالنهي في رواية مالك وأحمد وأصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص قال : (( سمعت رسول الله e يُسـأل عن اشتراء التمر بالرطب فقــال رسول الله e : أينقص الرطب إذا يبس فقالـوا نعم فنهى عن ذلك )) .

المجمــل

المجمل هـو اللفظ الذي يحتمل معنيين غير راجح في أحدهما ، وهو غير متضح الدلالة إذ لـو كان متضح الدلالة لما كان مجملاً يفتقر إلى بيـان يرجحه في أحد المعنيين ، وينحصر الكلام عنه في موضوعين :

أ- الموضوع الأول في أنواعه وهي خمسة :

النوع الأول احتمال اللفظ المفرد نفسه لمعنيين بسبب اشتراكه بينهما ، ومثالـه استدلال فقهائنـا على أن الاعتداد بالأطهار لا باِلحيَض بقوله تعالى : (( والمطلقـاتُ يتربصْنَ بأنفسهن ثلاثةَ قروء )) والقرء في اللغـة الطهر كما

جاء في قول الأعشى :

وفي كل عـام أنت جاشمُ غزوة تشدﱡ لأقصاها عزيمَ عزائكا ([55])

مورﱢثةٍ عزاً وفي الحيّ رفعـةً لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أي من أطهارهن بسبب تغيبك في الغزو ، فيقـول فقهاء الحنفية لفظ القرء يحتمل الحيض بدليل قول النبي e في المستحاضة : (( تـدعُ الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة )) ([56]) . والمراد بهـا هنا أيام الحيض قطعـاً والدليل على ثبوت الاشتراك بين المعنيين لغــة اختلاف الصحابة في ذلك وهم أهـل اللغة وأعرف بها ممن جاء بعدهم والمستدلـون بالآيـة على الاعتداد بالأطهار مطالـَبون بإثبــات أن لفظ القرء أرجح في الطهر ، فنقـول لهم إن القرء وهو مفرد يحتمل الطهر والحيض فإن جمع على أقـراء فالمراد به الحيض كما جاء في حديث المستحاضة : (( تـدع الصلاة أيام أقرائهــا )) وإن جمع على قروء فالمراد به الطهر كما جاء في قول الشاعر : (( لما ضاع فيه قروء نسائكـا )) ولما جمع في الآية على قـروء علمنا أن المراد به الطهر لا الحيض ، ولكنهم يقدحون في قولنا هـذا فيقولون لو كان ادعاؤكم صحيحـاً لما اختلف الصحابة فيه وهم أهل اللغـة كما ذكرنا واختلافهم يدل على بقــاء الاحتمال في حالـة الجمـع كما كان فـي حالـة

الإفراد وقد قال الشاعر :

يا رُبﱠ ذي ِضغن عليﱠ فارض له قروء كقروء الحائض ([57])

النوع الثاني احتمال اللفظ المفرد لمعنيين تبعـاً لصيغته ، ومثاله احتجاج جمهـور فقهائنـا على أن رضاع الولد حق له لا لوالدتـه بقوله تعالى : (( لا تُضـارّ والدة بولدها )) فنهى الوالدة عن الإضرار بولدها بالامتناع عن إرضاعه ، فيقول المخالفون يحتمل أن يكون أصل (( تُضار )) تُضارِر بكسر الراء فيصح الاستدلال ويحتمل أن يكون أصله تُضارَر بفتحها فلا يصح الاستدلال إذ يكون المعنى حينئـذ لا تمنع الوالدة من حقهـا في إرضاع ولدها ، فيجيبهم الجمهور بأن الاحتمال الأول أقوى وأحكـم لأن الخطاب فيه يتعلق بمعيّن وفي الاحتمال الثاني يتعلـق بمبهم والمتوجـه عليه الأمر والنهي من شرطه أن يكون معيّنـاً لا مبهمـاً .

النوع الثالث احتمـال اللفظ المفرد لمعنيين تبعاً لصورته ، ومثــاله احتجاج فقهائنـا على منع بيع ذهب وعَرَض بذهب بحديـث فَضالـة بن عُبيد قال : (( اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً فيهـا ذهب وخرز ففصّلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً فذكرت ذلك للنبي e فقال : (( لا تباع حتى تُفصـّل )) ([58]) ، فنهى عن البيع مجمـلاً وأمر بالتفصيل بين الذهب والخرز فدل ذلك على عـدم جواز بيع ذهب وعَرض بذهب ، فيقول فقهـاء الحنفية قد ورد هـذا الحديث في رواية أخرى حتى تفضُل بالضاد المعجمة المخففة أي حتى يكون في الذهـب الذي اشتريت به فضل على مقدار الذهب المضاف إلى الخـرز ولما كانت المسألة واحدة علمنا أن اللفظيـن معاً

لم يتلفـظ بهما النبي e لاختلاف حروفهمـا وتنافي معنييهما وأن اللفـظ الذي نطق به e متردد بينهما فلا يصح الاحتجاج به ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن رواية الصاد المهملة أصح عند المحدثين ويعضدها ما رواه أبو داود من طريق آخر أنه قال : (( لا حـتى تميز بينهما )) فيجب أن تكون إحدى الروايتين مفسرة للأخرى وبذلك يزول الاحتمال .

النوع الرابع احتمال اللفظ المركب لمعنيين لاشتراكه بينهما ، ومثـاله احتجاج فقهائنـا على أن لأب الزوجة أن يسقط نصـف الصداق المفـروض على الزوج إذا طلقها قبل المسيس بقوله تعالى : (( أو يعفـوَ الذي بيـده عقدة النكـاح )) لأنـه هو الذي بيده عقدة النكاح في ابنته ، فيقـول الحنفية والشافعية هذا اللفظ مشترك بين الـزوج وولـيّ الزوجـة لأن الزوج أيضاً يصدق عليه كون عقـدة النكاح بيده ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن الـزوج بعد أن طلق لم تبق بيده عقدة النكاح وبـأن العفو إسقـاط حتى ولا يتصور إسقاطـه إلا من صاحبه الذي يملكه وهو المطلقـة إن كانت تملك أمر نفسها أو من وليها إن كانت في حجره ولأن الله تعالى وهو يخاطـب الأزواج لو عناهم لقال (( أو تعفون )) فلما عـدل عن خطابهم إلى خطاب الغائب علمنـا أنه عنى الولـيّ لا الزوج ([59]) .

النوع الخامس احتمـال اللفظ المركب لمعنيين يصح أحدهما باعتبار ويصح الآخـر باعتبـار آخر ، ومثالـه احتجاج الإمام أبي حنيفـة وبعـض أصحابه على جواز الوضوء في السفر بنبيـذ التمر بقوله e عنه : (( تَمْرة طيبة وماء طَهور )) كما جاء في حديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله ابن مسعود ، فيقـول فقهاؤنا إن المعنى المقصود من هذا اللفظ أنه مجموع من تمـرة طيبة ومن ماء طهور لا أنه بعد الجمـع والنقـع يصدق عليه أنه تمرة طيبة وماء َطهور ، فيجيبونهم بأن فعله e يؤيـد احتجاجهم فقد روى ابن عباس عن ابن مسعود (( أن رسول الله e توضأ ليلة الجن بالنبيذ )) . فيقول لهم فقهاؤنـا هــذا الحديث غير مقبول من أساسه لضعفه ، ولثبوت عدم وجود ابن مسعود ليلة الجن مع الرسول e (1) ولقوله تعالى : (( فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً )) فلم يجعل بين الماء والصعيد وسطاً طهوراً لا نبيذاً ولا غيره .

واحتجاج فقهائنـا على أن الاقتصار في الوضوء على مسح الناصيـة لا يجزئ وأن المسح على العمامة وحدها لا يجزئ بمـا صح أن النبي e مسح بناصيته وعلى العمامة معـاً ولو كان المسح على الناصية وحدها كافيـاً لا قتصر عليه ولو كان المسح على العمامة وحدها كافيـاً لا قتصر عليه ، فيقول الحنابلة يحتمل أن يكون هـذا في وضوء واحد ويحتمل أن يكـون في وضوءين مسح بناصيته في وضوء ومسح على عمــامته في وضوء آخر ، فيجيبهـم فقهاؤنـا بأن راوي الحديـث وهـو المغيـرة بـن شعبـة قـال :

ــــــــــــــ

1- روى الدارقطني عن أبي محمد بن صاعد عن أبي الأشعث عن بشر بن المفضل عن داود ابن أبي هند عن عامر الشعبي عن علقمة بن قيس قال : (( قلت لعبد الله بن مسعود أشهد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ؟ فقال لا )) ثم قال الدارقطني : هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته . وقال البيهقي : الأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وإنما سار معه حين انطلق به يريه آثار الجن وآثار نيرانهم .

(( توضأ رسول الله e فمسح بناصيته وعلى العمامـة وعلى الخفين )) (1) وهذا يفيد أنه في وضوء واحد .

ب- الموضوع الثاني في القرائن المرجحة وهي إما لفظية وإما سياقية وإما خارجية .

فالقرينة اللفظية مثالها ما قدمناه في قوله تعالى : (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثةَ قروء )) وهو أن القرء إذا جمع عـلى قروء كما جاء في الآية كان المراد بـه الطهر لا الحيض إذ لو كان المراد به الحيض لجمع على أقراء كما جاء في قوله e (( تدَعُ الصلاة أيام أقرائها )) فإن الجمـع قـد يختلف باختلاف معنى المفرد وإن كان لفظه مشتركـاً كلفظ ( الأمر ) المشترك بين الطلب وجمعُه حينئــذ أوامر وبين الفعل والشأن والشيء وجمعُه إذ ذاك أمور ، ثم إن اقتران عدد القروء في الآيـة بالتاء قرينة لفظية أخرى ترجح معنى الأطهار على معنى الِحيَض لأن الأطهـار مذكـرة فيقترن عددها بالتــاء فيقال ثلاث حِيَض ولما جـاء عدد القروء مقترناً بالتاء علمنا أن المراد بها الأطهار وإن كان الحنفية يجيبون عن هــذا التعليل بأن اقتران عدد القروء بالتاء ملاحظ فيه لفظ القرء لا معنـاه ولفظه مذكر .

والقرينة السياقية مثالها احتجاج الحنفية على جواز انعقاد النكاح بلفظ الهبة بقوله تعالى : (( وامرأةّ إن وهبـت نفسهـا للنبي )) وإذا جـاز انعقـاد النكاح للنبي e بلفظ الهبـة جاز انعقاده بـه لأمته قياساً عليه ، فيقول الشافعية لما قال الله تعالى : (( خالصةً لك من دون المؤمنين )) دل هـذا على اختصاصـه e بشيء دون المؤمنيـن وذلك الشيء يحتمـل أن يكون جواز

ــــــــــــــ

1- حديث المغيرة أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه .

النكاح بمجرد الهبة من غير صداق ويحتمل أن يكون جوازه بلفظ الهبة مع الصَداق وإذا كان اللفظ محتملاً للمعنيين فلا يصح القياس عليه حتى يترجح أن المراد بالاختصاص جواز النكـاح له من غير َصداق لا جوازه بلفظ الهبـة ، فيجيبهم الحنفية بأن سياق الآية يرجح أن المراد جوازه له من غير صداق وذلك لأن الآيـة سيقت لبيان شرفـه e على أمته ونفي الحرج عنه فقال تعالى : (( قد علمنا ما فرضنا عليهـم في أزواجهم وما ملكت أيمــانُهم لكيلا يكونَ عليك حـرج )) والشرف لا يحصل بإباحة لفظ مجرد له وحجره على غيره من أمته بل يحصل بإسقاط الصداق عنه حتى يكون ربه الحفيّ به قـد ذكـر له ثلاثة أنواع من الإحلالات : إحلالاً بصَداق وهو قوله تعالى : (( إنـا أحللنا لك أزواجَـك اللائي آتيت أجورهن )) ، وإحلالاً بملك يمين وهـو قولـه تعالى : (( وما ملكت يمينـك مما أفـاء الله عليك )) ، وإحلالاً بلا َصداق بــل بمطلق الوهـب وهو قوله تعالى : (( وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين )) والخلوص الذي ُمنحه وحده e هو نكاحها إن أراده من غير صَداق (1) .

والقرينة الخارجية هي موافقة أحد المعنيين لدليل منفصل من نص أو قياس أو عمل .

مثال الأول موافقة ما ذهب إليه فقهاؤنا من أن المراد بالقروء الأطهار لقوله تعالى : (( يا أيها النبيﱡ إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن )) فإنـه أمر في هذه الآيـة عند إرادة الطلاق أن يطلـّقن طلاقـاً تعقبه عدتهن فلا تتراخى

ــــــــــــــ

1- المالكية يتفقون مع الحنفية في أن سياق الآيـة يرجح تخصصه صلى الله عليه وسلم بجواز النكاح له بالهبة من غير صداق ولكن لا يتفقون معهـم في جوازه لأمته إلا مع ذكر الصداق تحديداً أو تفويضاً .

عنه ولا يكون ذلك إلا في الطهر لأن الطلاق في الحيض حرام ، والذين ذهبوا إلى أن المراد بالقـروء الِحيَض وهم الحنفيـة يرجحون أيضـاً ما ذهبوا إليه لموافقته قوله تعالى : (( واللائي لم يحضْنَ )) فجعل الأشهر بدلاً من الِحيَض لا من الأطهار ودل على أن الحيض هو الأصل في العدة .

ومثال الثاني وهـو موافقة القياس قول الحنفية المقصود من العـدة استبـراء الرحم والعلامة الدالـة على براءتـه في العـادة إنمـا هي الحيض لا الطهر فإن الطهر تشترك فيه الحامل والحائل والحيض مختص غالبـاً بالحائل ولذلك كان الاستبراء بالحيض لا بالطهر وإذا كان كذلك تعيـن حمل القروء على الِحيَض لا على الأطهار .

ومثال الثالث وهو موافقة العمل أي عمل الصحابة اتفــاق جمهور الفقهاء على وجوب غسل الرجلين في الوضوء بقوله تعالى : (( وأرجلَكـم )) بالنصب عطفـاً على (( وجوهَــكم وأيديَـكم )) لفظـاً ومعنى وبالجرﱢ أيضاً عطفـاً على اللفظ دون المعنى للمجاورة (1) إذ لم ُينقل عن جمهور الصحابة إلا الغسل ولم يصح عن النبي e أنه مسح رجليه إلا على الخفين وإنمـا كان يغسلهما ويتوعـد من يمسـح رجليه ولا يستوعبهما بالغسل في أحاديث صحاح كثيـرة (2) . فكـان ذلـك دليـلاً على أن المـراد بقولـه تعالـى

ــــــــــــــ

1- جاء هذا النوع من العطف اللفظي في القرآن وفي كلام العرب قال الله تعالى : (( ُيرَسل عليكما َشواظ من نار ونحاس )) بالجرّ في قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وقال زهير :

لعب الزمان بها وغيّرها بعدي سوافي المُور والقطرِ

2- منها حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه قال : (( تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركَنـا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثاً )) .

(( وأرجلكم )) غسلها لا مسحها سواء بقراءة النصب أو بقراءة الجر (1) .

الظاهـر

الظاهر هو اللفظ الذي يحتمل معنيين راجحاً في أحدهما من جهـة لفظه وضعاً فكان أظهر فيه ولذلك كان متضح الدلالة . ولا تّضاح الدلالة من جهة الوضع ثمانية أسباب :

السبب الأول : الحقيقة ويقابلها المجاز .

فالحقيقـة هي اللفظ المستعمل فيما وضع لـه كاستعمال لفظ الأسـد في الحيوان المفترس المعلوم ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينه وبين ما وضع له كإطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع .

فإذا كان اللفـظ يحتمل حقيقته ومجازه فإنه َيعدﱡ راجحاً في حقيقته لأنها هي الأصل في الوضع .

والحقيقة تنقسم إلى ثلاثة أقسام : حقيقـة لغوية ويقابلها مجاز لغوي ، وحقيقة شرعية ويقابلها مجـاز شرعي ، وحقيقة عرفية ويقابلها مجاز عرفي .

أما الحقيقة اللغويـة فمثالها احتجاج الشافعية وابن حبيب من فقهائنـا على مشروعيـة خيـار المجلس بقولـه e (( المتبايعـان كل واحـد منهما

ــــــــــــــ

1- قراءتها بالنصب لنافع وابن عامر والكسائي وحفص وبالجر للآخرين ، وأصح ما قيل في توجيه قراءة الجهر أنها لعطف الأرجل على الرؤوس لفظاً للجوار لا حكماً ، وخالف محمد بن جرير الطبري الجمهور فاعتبرها لعطف الأرجل على الرؤوس لفظاً وحكماً وقال بالتخيير بين غسلها ومسحها جاعلاً القراءتين كالروايتين في الحديث يعمل بهما إذا لم يتناقضا ، وقال أبو زيد الأنصاري وغيره من أئمة اللغة المسح في كلام العرب يطلق على الغسل الخفيف وعلى المسح أي أنه لفظ مشترك بينهما ، ولما كانت السنة الصحيحة قد بينت بالعمل وبالقول أيضاً المرادَ منهما وهو الغسل فقد زال الإشكال .

بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقـا )) (1) ، فيقول فقهاؤنـا المراد بالمتبايعين المتساومان وتفرقهما إنما هو بالقول أي أنهما في حال تساومهما بالخيـار ما لم

يبرما العقد ويمضياه فإذا أمضياه فقد تفرقـا ولزمهما العقد وإن لم يفارقـا المجلس إذ قـد يطلق اسم الشيء على ما يقاربـه كقوله e (( لا يبع الرجل على بيع أخيـه )) (2) وإنما المراد بالبيـع هنا السـوم لأنه وسيلة للبيع ، فيجيب الشافعية بأن إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز (3) وإطلاق التفرق على إبرام العقـد وإمضائه مجـاز أيضـاً والحقيقة مرجحة على المجـاز .

وأما الحقيقة الشرعية فقد أثبت جمهور الأصوليين وجودها محتجيـن عليه بالاستقراء ، فإنه لما استقرئت ألفاظ الصلاة والزكـاة والصيـام والحـج وجدت مستعملة في لسان الشرع للعبــادات الشرعية المسماة بها ، وبالاستناد إليها احتج فقهاؤنا على أن المحْرم لا يتـزوج في حـال إحرامـه بقولـه e

ــــــــــــــ

1- هــذه رواية ابن عمر كما جاءت في الموطأ ، ورواية حكيم بن حزام كما جاءت في الصحيحين (( البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو حتى يفترقا )) والتفرق والافتراق معناهما واحد على الصحيح .

2- حديث (( لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته إلا أن يأذن له )) رواه أحمد ومسلم عن ابن عمر .

3- لكن فقهاءنا لا يسلمون بأن إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز بل يقولون بما ذهب إليه الإمام من أن وصف المتساومين بالمتبايعين حقيقة حين مباشرة البيع ومحاولته ، ويقولون أن ترجيحنا معنى التفرق بالأقوال على معناه بالأبدان يستند إلى دليلين : الأول أن البيع عقـد معاوضة لم يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح ، والثاني عمل أهل المدينة المعارض لخيار المجلس وإن احتمله الحديث .

(( لا ينكِح المحْـرِم ولا يُنكَح ولا يخطُب )) (1) ، فيقول الحنفية يحتمل أنه أراد بالنكاح هنـا الوطء وبهذا الاحتمـال يكون الحديث دليلاً على حرمة الوطء على المحرم لا على حرمـة العقـد ويرجحه قول ابن عباس : (( تزوج النبي e ميمونة وهـو ُمحْرم )) (2) ، فيجيبهم فقهاؤنـا بأن إطلاق لفظ النكاح على الوطء مجاز شرعي وعلى العقـد حقيقة شرعية وحمل اللفظ الشرعي على حقيقتـه الشرعية أولى من حمله على مجازه الشرعي ، ويؤيد ما ذهبنا إليه قول ميمونة نفسها وهي صاحبة الواقعة : (( تزوجني رسول الله e ونحن حلالان بسَرِف )) (3) .

وأما الحقيقة العرفية فمثالها ما ذا قـال الزوج لزوجته ( أنت طالق ) وقال إنما أردت طلاقها من وثاق والطلاق بهذا المعنى حقيقـة لغوية (4) ، فيقال له هذا اللفظ صـار حقيقة عرفية في حل عصمة النكاح على حقيقته اللغوية العامة (5) .

ومثالها من كلام الشارع ما احتج به فقهـاؤنا على أن البكر يجبرها أبوها على النكاح من قوله e (( تُستأمر اليتيمة في نفسها (6) واليتيمة هي التي لا أب لها فمفهومه أن غيراليتيمة وهي ذات الأب تزوج من غير استئمار،

ــــــــــــــ

1- حديث (( لاينكِح المحرم ولا ُينكح ولا يخطب )) رواه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عثمان بن عفان .

2- حديث ابن عباس أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن .

3- حديث ميمونة أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم .

4- يقال طلَقت الناقة تطلُق طلوقاً إذا انحل وثاقها فهي طالق .

5- العرف عندنا يخصص العام ويقيد المطلق ويفسر الألفاظ في العقود وكنايات الطلاق وسائر الألفاظ المصطلح على مفاهيمها .

6- رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها )) .

فيقول المخالفون اليتم في أصل اللغـة هو الانفراد مطلقـاً ولذلك يقال للفرد من كل شيء حتى البيت المنفرد من الشعر يقـال له يتيم والدرة التي لا نظيـر لها يقـال لها يتيمة وعلى هـذا قـد يكون المراد باليتيمة التي لا زوج لها كما جاء في قول القائل :

إن القبـور تنكِحُ الأيامى النسوةَ الأرامـلَ اليتامى

فيقـول فقهاؤنا إن اليتيمة حقيقة عرفية في التي لا أب لها ، قال الله تعالى : (( وابتلوا اليتـامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم )) وإطلاقها على غيرها مجاز عرفي وإذا كان كذلك كان حمل اللفظ على حقيقته العرفية أولى من حمله على مجازه العرفي (1) .

السبب الثاني : الانفراد في الوضع بمعنى واحد ويقابلـه الاشتراك .

انفراد اللفظ بمعني واحد هو الأصل واشتراكه بين معنيين فأكثـر خلاف الأصل ، ومثاله احتجاج جمهور العلماء على أن أمـر النبي e محمول على الوجوب بقوله تعالى : (( فلْيحذر الذين يخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) ، فيقـول المخالفـون يحتمل أن يراد بأمره في الآية القول الطلبي ويحتمل أن يراد به الحال والشأن كما في قوله تعالى : (( وما أمر فرعون برشيد )) وإذا صح إطلاق الأمر على غير القـول الطلبي لـزم اشتراكه بين المعنيين ومع الاشتراك يضعف الاستدلال ، فيقول

ــــــــــــــ

1- فيحتج المخـالفون حينئذ بما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عبـاس (( أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم )) . ويقولون أن مفهون قوله صلى الله عليه وسلم (( تستأمر اليتيمة في نفسها )) لا ينتهض للاحتجاج به تلقاء المنطوق – انظر باب موجبات صحة النكاح في (( بداية المجتهد )) تجد فيه دراسة نفسية لهذه المسألة ونظراً فقهياً دقيقاً لابن رشد .

الجمهور : الأصل في الألفاظ الانفراد بالمعاني وذلك يقتضي انفراد لفظ الأمر بأحد المعنيين في الوضع وأن تكون دلالته على المعنى الآخر بالمجاز وقد أجمعنا على أنه حقيقة في القول الطلبي فتعين كونه مجازاً في غيره واللفظ يجب حمله على حقيقته قبل حمله على مجازه .

السبب الثالث : التباين ويقابله الترادف .

الأصل في الألفاظ أن تكون متباينة في مدلولاتها لا مترادفة ، ومثاله ما احتج به فقهاؤنا على أن التيمم يصح بكل ما صعد من الأرض على وجهها لأن الصعيد مشتق من الصعود فيعم كل ما صعد على وجه الأرض منها ، فيقول الشافعية إن الصعيد مرادف للتراب كما نص عليه أهل اللغة وأكده الإمام الشافعي نفسه إذ قال الصعيد لا يقع إلا على التراب ، فيجيب فقهاؤنـا بأن الصعيد إذا سمي به التراب فإما أن تكون التسمية اشتقاقية من الصعود فيعم كل ما صعد من الأرض على وجهها وإما أن تكون ارتجالية فيلزم الترادف وهو خلاف الأصل ، لذلك رجحنا مباينة لفظ الصعيد للفظ التراب واشتقاقَـه من الصعود فعم كل ما صعد من الأرض سواء كان ترابـاً أو حجراً أو غيرهما .

السبب الرابع : الاكتفاء ويقابله التقدير .

الأصل في اللفـظ أن يكون مكتفياً بذاته فلا يتوقف معناه عــلى تقدير ، ومثاله ما احتج به بعض فقهــائنا (1) على تحريم أكل السباع وهـو

ــــــــــــــ

1- هم المدنيون من أصحاب الإمام وقد رووا عنه القول بتحريم لحوم السباع العادية كالأسد والنمر والفهد والدب والكلب إذ قال في الموطأ بعد أن ذكر هذا الحديث بروايته عن أبي ثعلبة الخُشَني وعن أبي هريرة : وهو الأمر عندنا .

قوله e (( أكل ذي ناب من السباع حرام )) ، فيقول الآخرون من فقهائنا (1) إنما أراد e ما أكلته السباع حرام أكله لا أن السباع نفسها لا تؤكل ويكون الحديث مطابقاً لقوله تعالى : (( وما أكـل السبع إلا ما ذكيتم )) ، فيجيبهم الأولون بأن حمل الكلام على ما يوافق الآيـة يلزم عنه التقدير ويكون كأنه قال مأكول كل ذي ناب من السباع حرام وبهذا التأويل لا يكون الكلام في الحديث مكتفيـاً بذاته والأصل في الكلام الاكتفاء .

السبب الخامس : التأسيس وهو إفادة اللفظ معنى لم يكن حاصلاً من قبل ويقابله التأكيد وهو تقرير معنى حاصل وتقويته .

مثاله استدلال فقهائنا على أن التمتيع غير واجب على من طلق امرأته قبل المسيس ولم يكن قد فرض لها صداقاً مسمّى بقوله تعالى :(( ومتعوهن على الموسِع قدْرُه وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين )) وقوله تعالى : ((وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين )) لأن الواجب لا يختص بالمحسنين ولا بالمتقين بل يعم المحسن وغير المحسن والمتقي وغير المتقي ، فيقول المخالفون وهم الحنفية إنما قال تعالى (( حقاً )) تأكيداً للوجوب أي يحق ذلك عليهم حقاً وأما قوله ((على المحسنين)) و ((على المتقين)) فمعناه على المؤمنين لأن الناس جميعهم مأمورون بأن يكونوا محسنين ومتقين فيحسنون بأداء ما فرض الله عليهم ويتقون باجتناب ما نهاهم عنه وذكـّر الله المطلقين بهاتين الصفتين الحميدتين ليعملوا بما أمرهم من التمتيع رجـاء أن يتصفـوا

ــــــــــــــ

1- هم العراقيون من المالكيين وابن القاسم فقد رووا عن الإمام القول بكراهتها لا بتحريمها وهو المعول عليه المشهور في المذهب . انظر شرح الباجي للحديث في الموطأ وتفسيـر القرطبي لقوله تعالى : (( قل لا أجد في ما أوحي محرماً على طاعم يطعمه )) وباب الأطعمة في (( بداية المجتهد )) .

بهما ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن الأصل في الكلام التأسيس والتأكيد خلاف الأصل .

السبب السادس : الترتيب ويقابله التقديم والتأخير .

مثاله ما احتج به الجمهور على أن العود في الظهار شرط في وجوب الكفارة (1) بقوله تعالى : (( والذين يُظاهرون من نسائهـم ثم يعودون لما قالوا فتحريـرُ رقبة من قبل أن يتماسّا )) ، فيقـول المخالفون الذين يرون رأي مجاهد وطاوس إن في الآيـة تقديماً وتأخيراً وتقديرهـا (( والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ثم يعـودون لما قالوا )) أي من حـرم زوجته بالظهار فعليـه الكفارة أولاً ثم يعود إلى وطئها سالمـاً من الإثم وذلك أن الظهار في ذاته منكـر من القول وزور فكـان مجرد التلفظ به موجباً للكفارة ، فيجيب الجمهور بأن الأصل في الكلام بقاؤه على ترتيبه الذي جاء عليه والتقديـم والتأخيـر خلاف الأصل .

السبب السابع : الإطلاق ويقابله التقييد .

فاللفـظ إذا كان شائعـاً في جنسه يقال له مُطْلَق (2) والأصل فيه بقاؤه على إطلاقه ، ومثاله احتجاج الحنفية على إجزاء الرقبة الكافرة في كفارة

ــــــــــــــ

1- العود عند مالك كما قال في الموطأ أن ُيجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها أي أن يعزم على إمساكها ووطئها معاً على ما فهمه ابن رشد من قوله أو على أحدهما على ما فهمه الباجي ، وعند أبي حنيفة وأحمد وأصحاب مالك بروايتهم عنه أن يعزم على وطئها وهي المرجحة في المذهب ، وعند الشافعي أن يمسكها بعد الظهار وهو قادر على طلاقها ، وتأول الجميع معنى اللام في الآية بمعنى (في) ، وتمسك أبو داود وأصحابه وابن حزم بظاهر اللفظ فقالوا لا يكون العود إلا بتكرار لفظ الظهار فإن لم يكرر فلا عود ولا كفارة .

2- سيأتي بيان تقييد المطلق عند الكلام على المؤول .

اليميـن بقولـه تعالى : (( فكفارتـه إطعام عشـرة مساكيـن مـن أوسـط ما تُطعمون أهليكم أو كسوُتهم أو تحريـرُ رقبة )) وفي كفـارة الظهـار بقولـه تعالى : (( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة )) ، فيقـول فقهاؤنا المراد بالرقبة في الآيتين الرقبة المؤمنة كما ُصرح بها في كفارة قتل الخطأ (1) ، فيجيب الحنفية بأن هذا تقييد للفظ المطلق والأصل بقاؤه على إطلاقه ، فنقول لهم إننا نسلم بأن بقاء اللفظ المطلق على إطلاقه هو الأصل ولكن لما كانت الكفارة في الآيتين قربة واجبة لم نر الكافر محلاً لها كالزكاة (2) .

السبب الثامن : العموم وهو شمول اللفظ كلﱠ ما يصلح له ويقابله الخصوص وهو اقتصار اللفظ على بعض ما يصلح له (3) .

والعموم في اللفظ إمـا أن يكون من جهـة اللغـة ، وإما أن يكون من جهة العرف ، وإما أن يكون من جهة العقل .

فالعموم اللغـوي هو العموم الذي دل عليه اللفظ من الجهة اللغوية ، واللفظ الدال على العموم من هذه الجهة إما أن يكون عمومه من نفسه وإما أن يكون من لفظ آخر يدل على العموم فيه .

ــــــــــــــ

1- إذ قال تعالى : (( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة )) .

2- يقوي ما ذهبنا إليه أن الأحاديث المرغّبة في العتق مصرح في أكثرها بالرقبة المسلمة منها قوله صلى الله عليه وسلم : (( من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار )) متفق عليه ، وقوله : (( أيما امرىء مسلم أعتق امرأ مسلماً كان َفكاكه من النار ُيجزى كلّ عضو منه عضواً منه )) أخرجه الترمذي وصححه ، وقوله : أيما رجل مسلم أعتق رجلاً مسلماً فإن الله تعالى (( جاعل وقاء كل عظم من عظامه عظماً من عظام محرره من النار ... )) أخرجه أبو داود وابن حبان . وهذا العتق المرغب فيه قربة غير واجبة فبالأولى إذا كان قربة واجبة . قال مالك في الموطأ : أما الرقاب الواجبة التي ذكرها الله في الكتاب فإنه لا يعتق فيها إلا رقبة مؤمنة .

3- سيأتي بحث التخصيص عنه الكلام على المؤول .

فأما اللفظ العام بنفسه فهو ثلاثة أنواع : أسماء الشرط وأسمـاء الاستفهام والأسماء الموصولة .

النوع الأول أسماء الشرط وهي تفيد العموم في كل ما تصلح لـه ، ومن أمثلتها احتجاج الجمهور على أن كل ما فضل من ذوي السهام فهو للعَصَبة بقوله e (( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْ لى رجــل ذكر (1) )) أي لأقرب رجل من العَصَبـة ، واحتجاجهم على قتل كل مرتد رجلاً كان أو امرأة بقوله e (( من بدّل دينه فاقتلوه )) (2) ، واحتجاج بعض فقهائنا تبعـاً لابن القاسم على أن الذمي أيضـاً يملك الأرض إذا أحياها بقولـه e (( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )) (3) لأن الذمي مندرج تحت هـذا العموم .

النوع الثاني أسماء الاستفهام وهي أيضـاً تفيد العموم في كل ما تصلح له ، ومن أمثلتها احتجاج فقهائنـا على حل كل استمتاع بما فوق الإزار من بـدن الحائض وحرمـة الاستمتاع بما تحتـه بما رواه مالك عن زيد بن أسلم (( أن رجلاً سأل رسول الله e فقال ما يحـل لي من امرأتي وهي حائض فقـال رسول الله e تشـدﱡ عليها إزارهـا ثم شأنك بأعلاها )) .

النـوع الثالث الأسماء الموصولـة وهي كذلك تفيـد العموم في كل ما تصلح له ، ومن أمثلتها احتجاج بعض فقهائنـا على حكايـة جميع ألفـاظ

ــــــــــــــ

1- حديث (( الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْ لى رجل ذكر )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن ابن عباس .

2- حديث (( من بدل دينه فاقتلوه )) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عباس ورواه مالك عن زيد بن أسلم بلفظ (( من غير دينه فاضربوا عنقه )) .

3- حديث (( من أحيا أرضاً ميتة فهي به )) رواه أحمد والترمذي وصححه عن جابر ورواه أيضاً أحمد والترمذي وأبو داود عن سعيد بن زيد ورواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه .

الأذان بقولـه e : (( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلَ ما يقـول المؤذن )) (1) .

وأما اللفظ العام بلفظ آخر فإمـا أن يكون ذلك اللفظ الآخر قبل اللفظ العام أو بعده .

وأما اللفظ الذي يكون قبله ويفيده العموم فـ( أي ) الشرطية و ( أي ) الاستفهامية و ( لا ) النافية للنكرات و ( كل ) و ( الـ ) الداخلة على غير معهود سواء كان مفرداً أو جمعاً فإنها تفيد العموم فيما تدخل عليه .

مثال ( أي ) الشرطية احتجاج فقهائنـا على أن كل امرأة ولو كانت عاقلة بالغـة إذا تزوجت بغير إذن وليها فإن زواجها باطل بقوله e : (( أيما امرأة نكحـت بغيـر إذن وليها فنكاحُهـا باطل فنكاحهـا باطل فنكاحهـا باطل )) (2) ، واحتجاج بعض فقهائنــا على أن جلد الميتة يطهره الدباغ بحديث ابن عباس قال : (( سمعت رسول الله e يقول أيمـا إهاب دُبـغ فقد طهر )) (3) .

ــــــــــــــ

1- حديث (( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري ، وأخـذ ابن حبيب وغيره من فقهائنــا بالجمع بين حديث أبي سعيد هذا وبين حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم وأبو داود وأخرج البخاري نحوه عن معاوية وفيه أن السامع يقول عند ( حيّ على الصلاة ) وعند ( حيّ على الفلاح ) لا حول ولا قوة إلا بالله .

2- حديث (( أيمـا امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه عن عائشة .

3- حديث (( أيمـا إهاب دبغ فقد طهر )) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه ورواه مالك أيضاً بلفظ (( إذا دبغ الإهاب فقد طهـر )) . ولكن أكثر فقهائنا يقولون بعدم طهارته وإن دبغ عملاً بما رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن ُعكيم قال : (( كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) ويعدون حديث ابن عباس منسوخاً أو محمولاً على الطهارة اللغوية ، والقائلون بطهارته الشرعية بالدباغ يقولون إن حديث ابن ُعكيم منقطع ومضطرب ، وحمل ألفاظ الشارع على الحقائق الشرعية أولى من حملها على الحقائق اللغوية – انظر (( نيل الأوطار )) للشوكاني و (( شرح الموطأ )) للباجي .

ومثال ( أي ) الاستفهاميـة احتجاج ابن القاسـم على أن عتـق الكافـر إذا كان أكثر ثمناً أفضلُ من عتق المسلم إذا كان أقـل منه في الثمـن بمــا رواه الشيخان عن أبي ذر قال : (( قلت يا رسول الله أيﱡ الأعمــال أفضل قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله قلت : أي الرقاب أفضل قال : أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً )) (1) .

ومثال ( لا ) النافية للنكرات احتجاج فقهائنـا على أن المستفـاد من غير ربح المال الأصلي لا يُضـم إليه ولا تجب فيه الزكاة حتى يحـول عليه الحول بقوله e : (( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )) (2) ، وكاحتجاجهم على وجوب تبييت الصيام في صـوم التطوع أيضاً بقوله e : (( من لم ُيجمع الصيام قبل الفجـر فلا صيــام له )) (3) لأن النكرة المنفية تعــم .

ومثال لفظ ( كل ) احتجـاج فقهائنـا على تحريـم كل الأنبذة المسكرة

ــــــــــــــ

1- قال أصبغ وأكثر أصحاب الإمام المراد بقوله صلى الله عليه وسلم (( أكثرها ثمنـاً )) أي من بين الرقاب المسلمة . ويؤيد هذا المراد ترغيبه في إعتاق الرقبة المسلمة وعدم مصلحة المسلمين في تفضيل تحرير رقاب كافرة على تحرير رقاب مسلمة .

2- حديث (( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )) رواه أبو داود عن علي بسند جيد ورواه ابن ماجه عن عائشة والدارقطني عن أنس .

3- حديث (( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام لـه )) رواه أحمد وأصحاب السنن عن ابن عمر عن أخته حفصة .

بقولـه e : (( كل مسكـر حـرام )) (1) و (( كل شراب أسكر فهـو حرام )) (2) .

ومثال ( الـ ) الداخلة على غير معهود احتجاج الشافعية وأكثر فقهائنـا على تحريم بيع كلب الصيد لأن النبي e حرم ثمن الكلب (3) ولفـظ الكلب عام لأنه معرف بـ ( الـ ) التي ليست للعهد فيعم كل أنواعه .

وأمـا اللفظ الذي يكون بعد اللفظ العام ويفيده العموم فهو المضاف إليه المعرفة فإنه يفيد العموم في المضاف سواء كان المضاف مفرداً أو جمعاً .

ومثاله في المضاف المفرد احتجاج فقهائنـا على أن صلاة الجماعـة لا تتفاضل بكثرة عدد المصلين لقوله بقولـه e : (( صلاةُ الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة )) (4) فإن لفظ الجماعــة يعم كل جماعة مهما كان عدد أفرادها لذلك فإن صلاة كل جماعة تفضل صلاة كل فـذ بهذا العدد ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الجماعات كلها في درجة واحدة من الفضل ،

ــــــــــــــ

1- حديث (( كل مسكر حرام )) رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي موسى الأشعـري ورُوي أيضـاً عن غيره من الصحابـة كأبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله .

2- حديث (( كل شراب أسكر فهـو حـرام )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن عائشة .

3- قال أبو ُجحيفة : (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم ثمـن الـدم وثمن الكلب وكسب البغي )) رواه أحمد والشيخان ، وروى مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي مسعود الأنصاري : (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن )) . ولكن الحنفية وبعض فقهائنا كسحنون أجازوا بيع كلب الصيد والماشية والزرع لما رواه مسلم وغيره من أئمة الحديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من اقتنى كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط )) فأباح بقوله هــذا اتخاذ ما استثناه منها وما أبيح اتخاذه جاز بيعه كسائر الحيوان المأذون في اتخاذه للانتفاع به .

4- حديث (( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفـذ بسبع وعشرين درجة )) رواه أحمد ومالك والشيخان عن عبد الله بن عمر .

فيحتـج مخالفـونا بقولـه e : (( صـلاة الرجـل مع الرجـل أزكـى من صلاتـه وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجـل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى )) (1) ، فنجيبهم بأن فضل الأكثـر عدداً المنوه به في هذا الحديث محمول على غير جماعات المساجـد وقوله e صلاة الرجل مع الرجل وصلاته مع الرجلين يشعر بذلك .

ومثاله في المضاف الجمـع احتجاج فقهائنـا على أن من دخل في نافلة يرتبط أولها بآخرها كالصلاة والصيام والحـج والطواف لا يجوز له قطعها بقوله تعالى : (( ولا تُبطلوا أعمالـَكم )) والنافلة عمل فاندرجـت تحت هذا العموم ، واحتجاج الإمام الشافعي على وجوب الكفارة في اليمين الغموس بقوله تعالى : (( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم )) واليمين الغموس مندرجة في عموم الأيمـان .

والعموم العرفـي هو عموم اللفظ المحـذوف الذي عينه العرف ، ومثالـه قولـه تعالى : (( ُحرمت عليكم أمهاتكـم )) فإنه لما عيـن العـرف ( الاستمتاع ) للمحذوف لـزم تعليق التحريم بجميع أنواع الاستمتاع ، ولكن إذا لم يكن عرف في محذوف معيّن فإن من العلماء من يرى العموم في جميع المقدرات ، ومنهم من يرى وجوب قصره على واحد منها يعيـّن الحكمَ الأشبه بمراد الشارع أو الأكثرَ انطباقاً على القياس .

مثال الأول ما احتج به فقهاؤنـا على تحريم الانتفـاع بشيء من الميتة مطلقـاً بقوله تعالى : (( حُرﱢمت عليكم الميْتة )) فإنه لمـا تعـذر تعليق التحريم بالميتـة نفسها وجب التقديـر ولما لم يتعين شيء بعينـه وجب تقدير

ــــــــــــــ

1- حديث (( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ... )) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبيّ بن كعب .

كل ما يصح تقديره ووجب تعليق التحريم به كله .

ومثال الثاني ما احتج به الشافعيـة والحنفيـة على سقوط القضاء عمن أفطر ناسياً في رمضان بقوله e : (( رُفـع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه )) (1) فإن كلاً منها لما لم يرتفع بنفسه ُعلم أن في الكـلام حذفـاً يجب تقديره لتعيين الحكم والقضاءُ مما يصح تقديره وهـو الأشبه بمراد الشارع فكـان مرفوعـاً عمن أفطر ناسياً ، فيقـول المالكية والإثم مما يصح تقديره بل هو الأجدر بالتقدير لأنه هو المجمع على ارتفاعه عن المخطئ والناسي وهو الأقيس لشَبَـه ناسي الصوم بناسي الصلاة وبذلك يبقى القضاء واجباً وجوب قضاء الصلاة المنسية على أن تقدير القضاء مع التسليم بارتفاع الإثم يلزم منه التعميم في غير محل الضرورة .

والعموم العقلي منه عمـوم الحكم لعموم علته كما في القيـاس ، ومنه عموم المفعولات التي يقتضيها الفعل المنفي كما إذا قلت ( والله لا آكل ) فإنك تحنث بكل مأكـول لأنك لم تصرح بالمفعول فكان عمومـاً عقليـاً إذ الأكل يستدعي بالضرورة مأكولاً مهما كان نوعه ، ولكنك لو صرحت بالمفعول فقل مثلاً ( والله لا آكل لحماً ) ونويت لحم الغنم دون غيره من اللحـوم الأخـرى

ــــــــــــــ

1- حديث (( رفع عن أمتي الخطـأ والنسيان وما استكرهـوا عليه )) أخرجـه الطبرانـي فـي (( الكبير )) عن ثوبان وهو حديث ضعيف فلا تقوم به حجة على سقوط القضاء عمن أفطر ناسياً وإنما تقوم الحجـة بما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي وهو صائـم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنمـا الله أطعمه وسقاه )) ولكن المالكية يحملونه على صوم التطوع لعدم ذكر رمضان فيه ويرد عليهم مخــالفوهم بأن ( من ) الشرطية تفيد العموم – فتأمل .

نفعتـك نيتك عندنـا (1) فلا تحنث بأكـل غير ما نويت لأن العمـوم فيه لغوي لا عقلـي .

هذا واعلـم أن دلالة العام على أقل الجمع قطعية وعلى كل فرد بخصوصه ظنية لاحتمالـه الخصوص وإن لم يظهر مخصص . وأقل الجمع مختلف فيه فقيل ثلاثة وقيل اثنان ، وعليه اختلف علمـاء الصحابة في أقـل مدلول لكلمة ( إخوة ) من قوله تعالى : (( فإن كان له إخوة فلأمـه السدس )) فقـال زيد وعلي وعثمان وابن مسعود : ُتحجب الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين فأكثـر ، وقال ابن عباس : بل بالثلاثة فأكثر .

واختلف فقهاؤنـا في المقرّ لغيره بدراهم ، فقال الإمام وجمهور أصحابه يلزمه ثلاثة دراهم ، وقال ابن الماجشون يلزمه درهمان فقط بناء على اختلافهم في أقل الجمع .

المـؤوّل

المؤول هو اللفظ الذي يحتمل معنيين راجحـاً في أحدهما بدليـل منفصل ، وهـو متضح الدلالـة في المعنى الذي تؤول فيه لرجحانـه فيه ، إلا أن رجحانه لما كان بدليل منفصل لم يكن في اتضاح دلالته كالظاهر الراجح في أحد معنييه من جهة لفظه وضعاً ، ويدخل في هـذا البحث سبعة تأويلات :

التأويل الأول : المجاز – وهـو حمل اللفظ على مجازه لا على حقيقته، وقد قدمنا أن الحقيقة لغوية وشرعية وعرفية ويقابل كل حقيقة مجازها.

ــــــــــــــ

1- نية الحالف عندنـا تختص العام وتقيد المطلق وتبين المجمل إذا لم يتعلـق الِحلف بحق الغير فإن تعلق بحق الغير اعتبرت نية صاحب الحق .

أما المجار اللغوي فمثاله احتجاج فقهائنـا على أن من وجد متاعه عند مشتريـه المفلس ولم يقبض من ثمنه شيئـاً فهو أولى به من سائر الغرماء بقولـه e : (( من أدرك مالـه بعينـه عند رجل أفلس فهو أحق به من غيره )) (1) ، فيقـول الحنفية صاحب المتاع حقيقة في مشتريه الحائز عليه وهو المفلس ومجاز في الذي كان بيده والحقيقة أرجح من المجاز ، فيقـول لهم فقهــاؤنا لقد دل الدليل هنا على ترجيح المجاز ألا ترون أن جملة ( فهو أحق به من غيره ) هي خبر ( من ) الشرطية الدالة على صاحب المتاع قطعـاً ثم الأحاديث الأخرى الواردة في هذه القضية فإنها تدل بصراحة على أن الأحق بالمتاع صاحبه الأول الذي باعه (2) .

وأما المجـاز الشرعي فمثــاله احتجاج الحنفية على أن الزنا يوجب حرمـة المصاهرة بقوله تعالى : (( ولا تَنكحـوا ما نكح آباؤكـم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً )) فإن المراد بالنكاح الوطء أي لا تطؤوا من وطِئهن آباؤكم ومن زنـا بها الأب فقد وطئهــا فحرم على ابنه وطؤها ، فيقـول فقهاء الشافعية وجمهور فقهائنا إنما المراد بالنكـاح العقد لأنه حقيقة شرعية فيه وأمــا في الوطء فمجاز شرعي والحقيقة الشرعية أرجح من المجاز الشرعي وعليه فالزنـا لا يوجب حرمة المصاهرة ، فيقول الحنفية بل المراد بالنكاح في الآيـة الوطء لقوله تعالى : (( إلا ما قد سلف )) فـإن عرب الجاهلية الذين كانوا يخلفون آباءهم في نسائهم إنما كانوا يخلفونهم

ــــــــــــــ

1- حديث (( من أدرك ماله بعينه عند رجل قـد أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به مـن غيره )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة .

2- منها ما رواه مالك في الموطـأ : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه منه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء )) .

في الوطء لا في العقد لأنهم لم يكونـوا يجددون عليهن عقـداً بل كانوا يأخذونهن بالإرث ولقوله تعالى : (( إنه كان فاحشة ومقتاً )) والفاحشة هي الفعل المتناهي في القبح وتطلق على الوطء المحرم لا على العقد الباطل غير المقرون بالوطء ، والمقت أشدﱡ البغض وإذا كان الزنـا في ذاته فاحشة كما جـاء في قوله تعـالى : (( ولا تقربوا الزنـا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً )) فـإن وطء موطـوءة الأب فاحشة ومقت أيضاً لإغراقه في القبح المبغوض أشـد البغض .

وأما المجاز العرفي فمثاله احتجاج فقهائنا على أن الظهـار يلزم السيد في أَمَتـه التي يحل لـه وطؤها بقوله تعالى : (( والذين يظاهـرون من نسائهم )) لأن الأمَـة من نسائنا ، فيقول مخالونا من فقهــاء المذاهب الثلاثة هذا اللفظ خاص في العرف الشرعي بالزوجـات فقد قال تعالى : (( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر )) وقال : (( يا أيها الني قل لأزواجك وبناتــك ونساء المؤمنين ُيدْنيـن عليهن من جلابيبهـن )) والمراد بالنساء في هاتين الآيتين الزوجات بالاتفاق ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن التعبير في الآية الظهار بلفظ النساء جارٍ مجرى الغالب ولما كـان الظهار في الجاهلية طلاقاً كان خاصاًً بالزوجات ، ثم لما نسخ رجع إلى تحريم الاستمتاع ولما كان الاستمتاع عاماً في الزوجات والإماء شمل حكم الظهار الأمَـة فحرم الاستمتاع بها كما حرم بالزوجة قبل التكفير .

التأويل الثاني : التقدير – ومثاله احتجاج الشافعية على جواز مرور الجنب في المسجد للعبور بقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم ُسكارى حتى تعلمـوا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل )) إذ المراد لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا عابري أي مجتازين غير لابثيـن ولا مترددين ، فيقول لهم المالكية إن هذا فيه تقدير والأصل عدمه وقوله تعالى : (( حتى تعلموا ما تقولون )) يدل على أن المراد لا تفعلوا الصلاة أي لا تصلوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تصلـّوا في المسجد أو في غير المسجد ، وإن كنتم لا تزالون بالتيمم جنباً لأن التيمم لا يرفع الجنابة بل يبيح الصلاة ما دام العذر الموجب له قائماً .

التأويل الثالث : الترادف - ومثاله احتجاج جمهور فقهائنا على تحريم الانتفاع بجلد الميتة وإن دبـغ بقوله e : (( لا تنتفعـوا من الميتة بإهـاب ولا عَصَب )) (1) ، فيقول المخالفون من فقهائنا : الإهاب اسم خاص بالجلد غير المدبوغ كما قال أهل اللغــة ولم يوضع للجلد غير المدبوغ اسم يخصه غير الإهاب فإن جعلناه مرادفاً للجلد مطلقاً لـزم منه مخالفة أصل الوضع ، فيجيبهم الجمهور بأن الخليل بن أحمد قال : الإهاب الجلد ، ولم يقيده بأنه غير مدبوغ وهو أعرف باللغـة وأقرب إلى أهلها الأوَل .

التأويل الرابع : التأكيد - ومثاله احتجاج فقهائنا على وجوب مسح كل الرأس في الوضوء بقوله تعالى : (( وامسحوا برؤوسكم )) أي امسحوا رؤوسكم والباء زائدة لتأكيـد المسح كتأكيدها لمسح الوجه في التيمم ، فيقول الشافعية الباء هنا للتبعيض لا للتأكيد لأن التأكيد خلاف الأصل لعدم توقف المعنى عليه وأما التبعيض فلا يفهـم إلا بما يدل عليه كالباء في (( وامسحوا برؤوسكم )) ويؤيـده مسح النبي e بناصيته دون سائر شعر رأسه كما جاء في حديث المغيرة ، فيقول لهم فقهاؤنـا إن زيـادة الباء للتأكيد كثيرة الـورود

ــــــــــــــ

1- رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن ُعكيم قال : (( كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) إلا أن فيه انقطاعاً واضطراباً وحديث ابن عباس الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وقال فيه : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقـول أيمـا إهـاب دبغ فقد طهر )) أصح منه – انظر (( نيـل الأوطار )) للشوكاني و (( شرح الموطـأ )) للباجي تجد فيهما التفصيل والتحقيق .

والاستعمـال ، قال الله تعــالى : (( وهُـزي إليك بجِـذع النخلة )) أي جذعَ النخلة وقال : (( ومَن يردْ فيه بإلحاد بظلم )) أي إلحاداً وقال في الآية التيمم : (( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم )) أي وجوهَـكم وأيدَيكم ، وإنكم تتفقون معنا على وجوب مسح الوجه كله في التيمم ولا توافقوننا على وجوب مسح الرأس كله في الوضوء ! ويؤيد ما ذهبنا إليه أن كل الذين وصفوا وضوءه e قالوا إنه مسح الرأس كلـه وأما مسحُـه بناصيته الذي جاء في حديث المغيرة فإنه حجة لنا لا لكم إذ قـال المغيرة : (( توضأ رسول الله e فمسح بناصيته وعــلى العمامة )) (1) فكان مسحه على العمامة بعد مسح ما أدرك من رأسه إكمالاً لمسح الرأس كله ولو كان مسح ما أدرك من رأسه مجزئـاً لما أكمله بالمسح على العمامة (2) التي كانت حائــلاً بينه وبين باقي الرأس فأجراها مجرى العصابة بنقل فرض المسح إليها (3) .

التأويل الخامس : التقديم والتأخير - ومثاله تأويل الحنفية قوله e لعبد الرحمن بن سَمُـرة : (( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفـر عن يمينك وائت الذي هـو خير )) (4) بأن فيه تقديمـاً وتأخيـراً أن

ــــــــــــــ

1- حديث المغيرة أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه .

2- قال ابن القيم : لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتـة ولكن كان إذا مسح بناصيته أكمل على العمامة .

3- يغلب على الظن أن مسحه صلى الله عليه وسلم على عمامته كان لعـذر اضطره إلى عدم نزعها ويقوي هذا الظن ما رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان قال : (( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين )) أي على العمائم والخفاف حتى لا يؤذيهم البرد .

4- حديث (( إذا حلفت على يمين فرأيت غيرهـا خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير )) رواه أحمد والشيخان ورووه أيضاً بلفظ : (( إذا حلفت على يمين فرأيـت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك )) .

التكفير رافـع للحنث فلا يجزئ إلا بعـد وقوعـه ، فيقول فقهاؤنـا وغيرهم ممن احتجوا بهذا الحديث على جواز التكفير قبـل الحنث إن الأصل عدم التقديـم والتأخير وبقاء الترتيب على حالـه وإذا كان التكفيـر بعد الحنث رافعـاً له فإنه قبل الحنث مانع له ويحصل به مقصود الشارع ، فيجيب الحنفية بأن إبقــاء الحديث على ترتيبه يلزم عنه وجوب تقديم الكفارة على الحنث بدلالة ( ثم ) التي وردت في روايتي النسائي وأبي داود هكـذا : (( إذا حلفت على يميـن فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير )) ولا قائل بوجوب تقديمها ، فيقول لهم فقهاؤنـا لم ترد ( ثم ) إلا في بعض الروايات ووردت الواو في أكثرها وهي لا تفيـد ترتيبـاً ولا تعقيبـاً وفي بعض روايات الواو جاء الأمر بالتكفير قبل الأمر بإتيـان الذي هو خير وفي بعضها بالعكس ولذلك رأينا التكفير جائزاً قبـل الحنث وبعده وإن كان بعده أولى ليقع الحق بعد موجبه .

التأويل السادس : تقييـد المطلق - اعلم أن صورة التقييـد إما أن تتحد مع صورة الإطلاق في السبب والحكم معاً ، وإمـا أن تتحد معهـا في الحكم وتختلف عنها في السبب ، وإمـا أن تتحد معهـا في السبب وتختلف عنها في الحكم ، وإمــا أن تختلف الصورتان في السبب وفي الحكم كليهما .

فإن اتحدت صورة التقييـد مع صورة الإطلاق في السبب وفي الحكم حمل المطلق على المقيـد بلا خلاف كما في قوله e : (( لا نكـاح إلا بولي وشاهدين )) (1) وقوله : (( لا نكاح إلا بولـي وشاهدي عدل )) (2) فوجب

ــــــــــــــ

1- حديث (( لا نكاح إلا بولي وشاهدين )) أخرجه الطبراني عن أبي موسى الأشعري ورمز السيوطي في جامعه الصغير لحسنه .

2- حديث (( لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل )) أخرجه البيهقي عن عمران بن حصين وعن عائشة وقال الذهبي في (( المهذب )) : إسناده صحيح ، وأخرجه الدارقطني عن ابن عباس وقال : رجاله ثقات .

تقييد الشهود هنـا بالعدالة لأن السبب وهو ثبوت النكـاح واحد في الصورتين

ولأن الحكم وهـو وجوب الإشهاد فيه واحد أيضـاً في الصورتيـن ، وإنما لم يشترط الإمام أبو حنيفة عدالة الشاهدين في عقد النكاح لأن الحديث الثاني الذي يقيد الشاهدين بالعدالة لم يثبت عنده لذلك بقي على رأيـه في أن المقصود بالإشهاد في العقد إعلانـه وهو لا يتوقف على عدالة شهوده .

وإذا كان اللفظ المطلق من القرآن واللفـظ المقيّـد من أخبار الآحاد فإنه يتقيـد به عندنا ولا يتقيد به عند أبي حنيفة لأنه يرى اللفـظ الثابت بخبر الآحاد زيادة على اللفــظ القرآني الثابت بالتواتـر ويرى الزيادة عليه نسخاً له ونسخ القرآن لا يجوز بخبر الآحـاد ، ونحن لا نرى أخبــار الآحاد زيادة على الألفاظ القرآنية بل بياناً لها ومثالـه تقييد قوله e : (( ... وتحريمها التكبير ... )) (1) لقوله تعــالى : (( وذكرَ اسمَ ربه فصلـى )) فإن اللفظ القرآني يقتضي بإطلاقه صحة الدخول في الصلاة بأي ذِكْـر لله وقـد أخذ به الإمام أبو حنيفة ، والخبر يقيد مطلق الذِكْـر بالتكبير وبه أخذ الأئمة الثلاثة .

وإن اتحدت صورة التقييد مع صورة الإطلاق في الحكم واختلفت عنها في السبب حمل المطْـلق على المقيد عندنا ومثالـه احتجاجنا بقوله تعالى في كفارة القتل الخطأ : (( ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة )) على اعتبار الإيمان في كفارتي الظهار واليمين فإن الكفارة في آية القتل مقيدة فحملنا عليها كفارتي الظهار واليمين المطْـلقتين ، فيقـول مخالفونا وهم الحنفية لا يجب أن ــــــــــــــ

1- قال صلى الله عليه وسلم : (( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن علي ، وقال الترمذي : هو أصح شيء في هـذا الباب وأحسنه ، وقال الشركاني في (( نيل الأوطار )) بعد أن ذكر طرقه الكثيـرة وما قيل فيها : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً فيصلح الحديث للاحتجاج به .

تحمل كفارتا الظهار واليمين على كفارة القتل لاختلاف السبب وإن اتحـد الحكم ، فنقول لهم إن الجميع كفارة وتحرير رقبة العبد صدقة عليه ومن شرط القابض للصدقات الواجبـة الإيمان كالزكاة فإنه لا تجزئ إلا بدفعها لمؤمن وهذه هي علة اعتبار الإيمان في كفارة القتل وهي بعينها موجودة في كفارتي الظهار واليمين فوجب اعتبار الإيمان فيهما .

وإن أتحدث صورة التقييد مع صورة الإطلاق في السبب واختلفت عنها في الحكم لا يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور ، ومثاله قوله تعالى في كفارة اليمين : (( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة )) فقيّد الإطعام بالأوسط وأطلق الكسوة فلم يقيدها ، ولما كان حكم الكسوة المطـْلقة غير حكم الإطعام المقيد أبقاها الجمهور على إطلاقها فلم يقولوا بوجوبها من أوسط كسوة الأهل (1) .

وإن اختلفت صورة التقييد وصورة الإطلاق معاً فلا يحمل المطلق على القيد اتفاقـاً ، ومثاله قوله تعالى : (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما )) وقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق )) فإن الأيدي في الآية الأولى مطـْلقة وفي الآية الثانية مقيدة ولما كان سبب ذكر الأيدي المطلقة مختلفاً عن سبب ذكر الأيدي المقيدة وكان الحكم المحكوم به على الأولى مختلفاً عن الحكم المحكوم به على الثانية امتنع حمل المطلقة على المقيدة ووجب إبقاء الأولى على إطلاقها والثانية على تقييدها بلا خلاف .

ــــــــــــــ

1- ذهب الإمامان مالك وأحمد إلى أن الواجب المجزئ من الكسوة للرجل ثوب يستر بدنه وللمرأة درع سابغ وخمار . وذهب الإمامان أبو حنيفة والشافعي إلى أن الواجب المجزئ منها أقل ما ينطلق عليه اسم الكسوة كقميص أو رداء ساترين مع إضافة خمار للمرأة .

التأويل السابع : التخصيص – أي قصر اللفـظ على بعض ما يصلح له ، وهو إما أن يكون مخصص متصل أو بمخصص منفصل .

وأما التخصيص بالمتصل فيكون بالاستثناء ويكون بغيره كالشرط والغاية والصفة مما يذكر في مفهوم المخالفة .

والتخصيص بالاستثناء تتعلق به مسألتان رئيستان :

المسألة الأولى : اختلافهم في مقتضى الاستثناء ، فقال الإمام الشافعي وأكثر فقهائنـا إنـه يقتضي نقيض حكم صدر الجملة في المستثنى أي نفي حكم الصدر المستثنى منه عن المستثنى فـإذا قال قائـل مثلاً ( عندي عشرة إلا ثلاثة ) فـإن العشرة مقصودة كلها ابتـداء ثم أُخرج منها المستثنى بمعارضة الاستثناء الذي اقتضى نفي حكم الصدر عن المستثنى ، وقـال الحنفية وبعض فقهائنا إن الاستثناء كتـكلم بالباقي من المستثنى منه وسكوت عن حكم المستثنى فإذا قـال القائل ( عندي عشرة إلا ثلاثة ) فكأنه قـال عندي سبعة وسكت عن الثلاثة ، وعلى ذلك اختلف فقهاؤنا فيمن قال لزوجتـه ( أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدة ) فعلى الأول وهو مشهور المذهب تقع عليه طلقتـان لأنه لما قال إلا ثلاثاً صار ذلك كالمعارض للصـدر المستثنى منه ولمـا استغرقـه بطل لبطــلان الاستثناء المستغرِق فوجب أن ُيلغى ويـردّ الاستثناء الآخـر إلى الصدر الأول فكأنـه قـال أنت طالـق ثلاثـاً إلا واحدة فوقعت عليه طلقتان ، وعلى الثاني تقع عليه طلقة واحدة فقـط لأنه لما قال في المستثنى ثلاثاً إلا واحدة فكأنه تكلم باثنتيـن فقال أنت طالـق ثلاثـاً إلا اثنتين فوقعت عليه واحدة وممن قالوا بهذا ابن الحاجب وابن عرفة .

المسألـة الثانية : إذا جاء الاستثناء بعد جمـل معطوفة بالواو فإنـه

يقتصر على الجملة الأخيرة اتفاقاً وفي شمولـه ما قبلهـا خلاف (1) ، وعلى ذلك اختلفوا في قبول شهادة المحدود في القذف بعـد التوبة : فالجمهور يقبلونها والحنفيـة لا يقبلونهـا . وسبب الخلاف توجيه الاستثناء في قوله تعالى : (( ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقـون إلا الذين تابوا )) فالجمهور يوجهونه على الجملتين والحنفية يقصرونه على الأخيرة منهما ويبقى قوله تعالى : (( ولا تقبلوا لهم شهــادة أبداً )) على عمومه . والأشبه بالحق في هذه الآيـة توجيهه على الجملتين كلتيهما لأن ردﱠ الشهادة من علة الفسق فإذا زال الفسق بالتوبة زال ردﱡ الشهادة (2) .

وأما التخصيص بالمنفصل فأهم أنواعـه تخصيص عموم الكتاب بالكتاب كتخصيص قوله تعالى : (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ))

قوله تعالى : (( والذيـن ُيتوفّـوْن منكم ويـذرون أزواجـاً يتربصْـنَ بأنفسهن أربعـةَ أشهر وعشْـراً )) الشامليـن لأولات الأحمال بقولـه تعالى : (( وأولاتُ الأحمـال أجلهـن أن يضعْنَ حملـَهن )) ، وتخصيص عموم السنـة بالسنـة كتخصيص قوله e : (( فيما سقـت السماء والعيـون أو كـان عَثَرياً العشـر (3) بقولـه e : (( ليـس فيما دون خمسـة أوسُـق

ــــــــــــــ

1- بعد أن ذكر الغزالي قول القائلين بالشمول والقائلين بالاقتصار وحججهم رجّح الاحتمال والتوقف إلى أن يقوم دليل وقال : والذي يـدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الأقسام كلها من الشمول والاقتصار على الأخير والرجوع إلى بعض الجمل السابقة – انظر فصل تعقب الجمل بالاستثناء في (( المستصفى )) .

2- اطّلـعْ على أقوال العلماء في تأويل هذه الآيـة في (( تفسير القرطبي )) و (( أحكام القرآن )) لابن العربي .

3- حديث (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر )) رواه أحمد والبخــاري وأصحاب السنن عن عبد الله بن عمر جاء في بعض رواياته ( بعلاً ) بدل ( عثرياً ) والعثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي .

صدقـة )) (1) ، وتخصيص عموم السنـة بالكتاب كتخصيص قولـه e : (( ما ُقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة )) (2) قوله تعالى : (( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعـاً إلى حين )) ، وتخصيص عموم الكتاب بالسنة وإن لم تكن متواترة عند الجمهور خلافاً للذين يشترطون في تخصيصه بغير المتواترة أن يكون مخصصاً بشيء آخر حتى تضعف دلالته على العموم فيجوز حينئذ تخصيصه بخبر الواحد ومثاله احتجاج فقهائنـا على حـلﱢ ميتة البحر بقوله e : (( هو الطـّهور مـاؤه الحِـلﱡ مَيْتته )) (3) ، فيقول الحنفية هذا معارَض بقوله تعالى : (( ُحرمت عليكم الميتة )) ولما لم يخصّص بشيء آخر لم يجز تخصيصه بهذا الخبر ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن خبر الواحد يخصص عموم القرآن لأن عمومه ظاهر في أفراده وليس بنص فيها فتخصيصه به جمع بين الدليلين .

هذا ويجوز تخصيص العموم بالمفهوم عند القائلين به ، ومثاله احتجاج فقهائنا على أن الحـُرّ القادر على التزوج بحرة مؤمنة لا يحل له أن يتزوج أمَة بقوله تعالى : (( ومن لم يستطع منكم َطوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )) فإن مفهومه يقتضي تحريم نكاح الإماء على واجدي الطـّوْل أي القدرة على نكاح الحرائر ، فيقول مخالفوهم ــــــــــــــ

1- حديث (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري .

2- حديث (( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة )) رواه أحمد وأبو داود ولترمذي عن أبي واقد الليثي وابن ماجه والطبراني عن ابن عمر والحاكم عن أبي سعيد الخدري .

3- روى مالك وأحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال : (( جاء رجل إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنـا القليل من المـاء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ من ماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته )) .

هـذا معارَض بقولـه تعالى : (( فانكحـوا ما طاب لكم من النساء )) ، فيجيبهم فقهاؤنـا بأننا نقول بتخصيص العمــوم بالمفهوم لما فيه من الجمع بين الدليلين وبـأن معنى قولـه تعالى : (( فانكحوا ما طاب لكم من النساء )) تزوجوا ما حـلﱠ لكم منهن ولا نـرى كلمة النساء هنـا تشمل الأمَـة لواجد الطول لأن الأمَـة خرجت منهن بمفهوم الآية الأولى .

ثم إن العـام إذا ورد على سبب خاص فإنه لا ُيقصَر عليــه بل ُيعطي للسبب ما يخصه ويبقى العموم على عمومه فيما عـداه ، ومثــاله احتجاج الشافعيـة على وجوب الترتيب بين الأعضاء الأربعة في الوضوء بقوله صلى الله عليه وسلم : (( نبدأ بما بدأ الله به )) (1) و ( ما ) من ألفاظ العموم لأنها من الأسماء الموصولـة فاندرج الوضوء فيها لذلك وجب الابتداء بغسل الوجه فاليدين إلى آخر الأعضاء الأربعة على الترتيب الذي جاء في قوله تعالى : (( يا أَيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين )) فيقول الحنفية أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( نبدأ بما بدأ الله به )) وبدأ بالصفا والعامﱡ إذا ورد على سبب خاص لا ُيقتصَرُ على سببه بل ُيحمل على عمومه لأن المقتضي للعموم قائـم والسبب لا يجـب أن يكون مانعاً له فيعطي للسبب ما يخصه ويبقى حكم

ــــــــــــــ

1- حديث (( نبدأ بما بدأ الله به )) رواه مالك وأحمـد وأصحاب السنـن هكـذا بنــون المضارعة ، ورواه مسلم (( أبـدأُ )) بهمزة المضارعة ، ورواه النسائي أيضاً (( فابـدؤوا )) بصيغة الأمر وكلهم عن جابر بن عبد الله .

العموم جاريـاً على سائـر أفراد العام (1) .

دلالة القول بمفهومه على الحكم

اعلم أن المراد بالمفهوم هنا ما فهم من القـول في غير محل النطق بل فيما وراء ذلك من فحواه ولحنه والمقصود منه . والقول الدال بمفهومـه على الحكم إما أن تكون دلالتـه عليه بمفهوم الموافقة وإما أن تكـون بمفهوم المخالفــة .

فمفهوم الموافقة هو ما يفهم منه أن المسكـوت عنه أولى بالحكم من المنطـوق بـه ويسمى ( فحـوى الخطاب ) أو أنــه مسـاوٍ لـه ويسمـى ( لحن الخطاب ) .

مثال الأول قولـه تعالى في وجوب إحسان معاملة الوالدين : (( فلا تقل لهما أُفّ ٍ ولا تنهرهما )) فإنه لما حرّم التأفف منهما ونهرهمـا كان تحريم ضربهما أولى ، وقوله تعالى : (( فمن يعملْ مثقـال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره )) فإنه يفهم منه أن من يعمل أكثر من مثقال ذرة يراه بالأولى ، وقولـه تعالى : (( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطـار يؤدﱢه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليــه قائماً )) فإنه يفهم منه أن من لا يؤدي الدينار إذا اؤتمن عليه لا يؤدي الأكثر منه بالأولى .

ــــــــــــــ

1- الاصوليـون من المالكية أيضاً يقولون بهذا إلا أن المعـول عليه عند جمهور فقهاء المذهب أن الترتيب في غسل أعضاء الوضوء الأربعة ليس بواجب بل هو سنة ويرون أن واو العطف كما يعطف بها الأشياء المرتب بعضها على بعض يعطف بها أيضـاً الأشياء غير المرتبـة وأن الأعضاء الأربعة في الوضوء كأعضاء الجسد كله في الغسل من الجنابة أمر الله تعالى بغسلها وسنّ رسوله صلى الله عليه وسلم بفعله الترتيب بينها .

ومثال الثاني قولـه تعالى في تحريم أكـل أموال اليتامى ظلماً : (( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نـاراً وسيصلون سعيراً )) فإنـه يفهم منه أيضاً تحريم إتلافها وهو مسـاوٍ لتحريم أكلهـا ظلمـاً لمساواة إتلافها لأكلها في إضاعتها على أصحابها .

ثم اعلم أن مفهوم الموافقة ، منه الجلي كما مثلنا لـه ، ومنه الخفي الذي للنظر والاحتمال فيه مجال فتعرضت مسائله للخلاف ، ومن أمثلته قول الجمهـور بوجوب قضاء الصلاة المكتوبة على من تركها متعمداً بقوله e : (( إذا رقـد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله عز وجل يقول أقم الصلوات لذِكـْري )) (1) ولما وجب قضاؤهـا علـى الراقد والغافـل وهما غير مخاطبين بهــا وقتئذ كان وجوب قضائها على متعمد تفويتها بالأولى ، فيقول المخالفون وهم ابن حبيب من فقهائنا وأبو داود وابن حزم الظاهريان لا يلزم من وجوب قضائها على الراقـد والغافـل وجوبه على المتعمد لأن القضاء جبر وفوائت المتعمد أعظم من أن تجبر (2) .

ومنها إيجـاب الشافعية الكفارة في اليمين الغموس (3) بقوله تعالى :

ــــــــــــــ

1- حديث (( إذا رقـد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها ... )) رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك ، ورواه عنه أيضاً بلفظ (( من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرهـا )) .

2- ولأنهم يرونها كسائر العبادات الموقوفـة لا يجب قضاؤها بعد فوات وقتها إلا بأمر جديد – راجع المسألة السابعة من مسائل الأمر .

3- قيد الشافعية وجوب الكفارة في اليمين الغموس بالتي لم يقتطع بها حـق الغير وأما التي يقتطع بها حق الغير فلا كفارة لها لقوله عيه الصلاة والسلام (( من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان )) وقوله (( من اقتطـع حق امرئ مسلم بيمينه فقـد أوجب الله له النار )) ولأنها جمعت الحنث والظلم فلا ترفعهما الكفارة معاً ولا ترفع الحنث دون الظلم لأن رفع الحنث بالكفارة إنما هـو من باب التوبة والتــوبة لا تتبعض في الذنب الواحد .

(( لايؤاخِذُكم الله باللغـو في أيمانـكم ولكن يؤاخذكم بما عقـّدتم الأيمان فكفّارتُـه إطعام عشرة مساكين )) فقالوا أن اليمين الغموس من الأيمان المعقودة وإذا كانت الكفـارة واجبة على الحانث غير الآثـم فوجوبها على الحانث الآثم أولى وآكـد ، ولكن فقهـاء المذاهب الثلاثـة الأخرى لا يـرون في اليمين الغمـوس كفارة لورود أحاديث التكفير في الأيمــان المعقودة على المستقبل لا على الماضي ويرونها أي الأحاديث مبينة للمراد من الآية .

ومفهوم المخالفة هو ما يفهم منه أن حكم المسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق به ويُسمّـى أيضاً ( دليـل الخطاب ) وقـد اختلفـت فيه آراء العلماء : فقال به الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأكثر علماء مذاهبهـم ولم يقل به الإمـام أبو حنيفة وأكثر علماء مذهبه ، ومثاله قولـه e (( مَطْل الغني ظلم )) (1) فـإن مفهومه مطل غيـر الغني ليس ظلمـاً والله تعالى يقـول : (( وإن كـان ذو عسـرة فنظرة إلى ميسـرة )) . ومن شروطــه عند القائلين بـه :

أن لا يكون المنطوق به مذكـوراً على وفـق الغالب كقولـه تعالى : (( وربائبـُكم اللائي في حجوركم )) فإن مفهومه أن الربيبة التي ليست في حجر زوج أمها بأن كانت في بلد آخر مثلاً وفارق الزوج أمها بعد الدخول فله أن يتزوج بها على ما ذهب إليه الظاهرية ، فنقول لهم إنما ذكر هذا القيد وفاقاً لغالب ما يكنﱠ عليه لا شرطـاً في تحريمهن وبهذا سقط المفهوم وبقي التحريم على إطلاقه في المدخول بأمهاتهن سواء كنّ في الحجور أم لم يكنﱠ فيها ، وكقوله تعالى : (( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً )) فإن مفهومه إباحة إكراههن عليـه إن لم يردن تحصناً ولكن لما جاء هذا القيد وفاقاً

ــــــــــــــ

1- حديث (( مطل الغني ظلم )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريـرة .

للغالب سقط المفهوم لأن من لم ترد التحصن من الفتيات أي الإماء فمن شأنها أن لا تحتاج إلى إكراه إذ لا يتصور فيها الإكراه على الزنا وهي تريده .

وأن لا يأتي جواباً عن سؤال معين كقوله e : (( صلاة الليل مثنى مثنى )) فإن هذا الحديث كان جواباً عن سؤال السائل عن صلاة الليل فقد جاء عن ابن عمر : (( أن رجلاً سأل رسول الله e عن صلاة الليل فقال رسول الله e صلاة الليل مثنى مثنى فإن خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قـد صلى )) (1) ولما كان الحديث خاصاً بصلاة الليل المعينة في السؤال لم يكن له مفهوم في صلاة النهار .

وأن لا يكون قصد الشارع تعظيم شأن الحكم والتنويه بحميد فعله كما في قوله تعالى : (( ومتعوهنﱠ على الموسِع قدْرُه وعلى المقتر قدْرُه متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين )) وقوله تعالى : (( وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين )) فإن ُمتعة المطلقات وإن كانت حقاً على المتصفين بالإحسان والتقوى فلا يفهم منه أنها ليست حقاً على غيرهم إذ حكمها يعم جميع المؤمنين وما قصد الشارع من تسميتها حقاً على المحسنين وعلى المتقين إلا تعظيم شأنها والتنويه بحميد فعلها لا سقوطها عن غيرهم .

وأن لا يكون الشارع بذكره عدداً محدوداً أراد القياس عليه لا المخالفة بينه وبين غيره كأمره e (( بقتل خمس فواسق في الحل والحرم : الغـُراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العقور )) (2) فإن مفهوم هذا العدد أن لا يقل ما سواهـن ولكن الشـارع إنما ذكرهن لننظر إلى إيذائهن فنلحق بهن ما في

ــــــــــــــ

1- حديث ابن عمر هذا رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن .

2- حديث أمره صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرام رواه أحمـد والشيخان

عن عائشة .

معناهن كالحية والرتيلاء والسباع العادية والحشرات المؤذية ، ومثله قوله e: (( اجتنبوا السبع الموبقات : الشرك بالله والسحـر وقتل النفـس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )) (1) فإنه لم يقصد حصر الكبائر فيهن وإنما ذكرهن لنلحق بهن ما في معناهن من المعاصي المهلكات .

هذا وأهم مفاهيم المخالفة مفهوم الصفة ومفهوم الشرط ومفهوم الغاية ومفهوم العدد .

مثال مفهوم الصفة احتجاج فقهائنا على أن ثمر النخل التي لم ُتؤبّر للمبتاع أي للمشتري بقوله e : (( من باع نخلاً قد أُبّرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )) (2) فإن مفهوم هذه الصفة أن النخل المبيعة إن لم تكن قد أُبـّرت فثمرتها للمشتري ، واحتجاجهم أيضاً على أن البكر تجبر على النكاح بعد البلوغ قوله e : (( الثيب أحق بنفسها من وليـّها )) (3) فإن مفهومه أن غيـر الثيب ليست أحـق بنفسها فيكون وليّها أحق منها بها وإذا كان كذلك فلـه إجبارهــا .

ــــــــــــــ

1- حديث (( اجتنبوا السبع الموبقــات )) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة .

2- حديث (( من باع نخـلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع )) رواه مالك في موطئه عن ابن عمر . يطلق العامة على تأبير النخل ( تدكيره ) .

3- رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن ابن عباس قـال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها )) ، فيقول المخالفـون وهم الحنفية أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه (( والبكر تستأذن في نفسها )) يوجب بعمومه استئذان كل بكر والعموم أقوى من المفهوم وإن ما جـاء في رواية لمسلم وأبي داود والنسائي (( والبكر يستأمرها أبوها )) وما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس (( أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهـة فخيرها النبي صلى الله عليه =

ومثال مفهوم الشرط ما تقدم من احتجاج فقهائنا على أن الحر القادر على التزوج بحرة مؤمنة لا يحل له أن يتزوج أَمَة بقوله تعالى : (( ومن لم يستطع منكم َطوْلاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات )) فإن مفهوم هذا الشرط يقتضي تحريم نكاح الإماء على واجدي الطـّوْل أي القدرة على نكاح الحرائر .

ومثال مفهوم الغاية احتجاج فقهائنا على أن الغسل يجزئ عن الوضوء بقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا )) فإن مفهومه إن اغتسلتم فلكم أن تقربوا الصلاة .

ومثال مفهـوم العدد احتجاج الشافعيـة على أن النجاسة إذا أصابت ما دون القلتين من الماء نجّسته قوله e : (( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )) (1) فإن مفهومه ما دون القلتين يحمل الخبث .

ــــــــــــــ

= وسلم )) نص في وجوب استئمار الأب ابنته البكر عند تزويجها وفي منعه من إكراهها ، فيجيب فقهاؤنا بأن العمل في المدينة كان يجري على حق الآباء في إجباربناتهم الأبكار فقد قال مالك في الموطأ : (( بلغني أن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار كانوا يقولون في البكر يزوجها أبوها بغير إذنها إن ذلك لازم لها وأن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله كانا ُينكحان بناتهما الأبكار ولا يستأمرانهن وذلك الأمر عندنا في نكاح الأبكار )) وعليه ُيحمل استئذان الأب ابنته أو استئمارها على الاستحباب ويحمل تخيير البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة على ضرر أصابها من ذلك الزواج اقتضى تخييرها .

1- حديث (( إذا كان الماء ُقلتين لم يحمل الخبث )) أخرجه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن عمر ولكن ابن عبد البر قال في الاستذكار : حديث معلول رده اسماعيل القاضي وتكلم فيه وقال في التمهيد : ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم ولأن القلتين لم يوقف على مبلغهما في أثر ثابت ، وقال الطحاوي : إنا لم نقل به لأن مقدار القلتين لم يثبت – انظر شرح هذا الحديث في (( نيل الأوطار )) .

القسم الثاني من أقسام المتن وهو الفعل

بعد أن فرغنا من الكلام على القسم الأول من أقسام المتن وهو القول ننتقل إلى الكلام على القسم الثانـي وهـو الفعل ونعني بـه فعل رسول الله e وهو إما واجب أو مندوب أو مباح .

فإن كان بياناً لما ثبتت مشروعيته فإن حكمه يتبع ما هو بيان له وجوباً أو ندباً كفعله في الصلاة والحج إذ أمرنا أن نصلي كما رأيناه يصلي فقد قال e : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) (1) ، وأمرنا أن نأخذ مناسك الحج من أدائه لها فقال : (( خذوا عني مناسككم )) (2) ، وأفعال الصلاة والحج منها الواجب ومنها المندوب .

وإن كان بقصد القربة إلى الله عز وجـل فهو مندوب كاعتكافه العشر الأواخر من رمضان (3) لأن ظهور قصد القربة فيه مع عدم وجود دليل على الوجوب يرجح الفعل على الترك وهذا هو معنى الندب .

وإن لم يكن بقصد القربة بأن كان جبلّياً من الطبيعة البشرية وصفاتها الاختيارية كحبه لبعض الأطعمة وكرهه لبعضها وهيئة مشيه وجلوسه واتكائه

ــــــــــــــ

1- حديث (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) رواه أحمد والبخاري عن مالك بن الحويرث .

2- حديث (( خـذوا عني مناسككم )) رواه أحمـد ومسلم وأبـو داود والنسائي عن جابر قال : ­­ (( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلتـه يوم النحر ويقول : لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه )) . قال النووي : لام لتأخذوا هي لام الأمر ومعناه خذوا ، وقال القرطبي : روايتنا لهذا الحديث بلام الجرّ المفتوحة والنون التي هي مع الألف ضمير أي (( ويقول لنا خذوا عني مناسككم ... )) .

3- حديث اعتكافه صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان رواه أحمد والشيخان عن عائشة وعن ابن عمر .

فهو محمول على الإباحة لأن صدوره منه دليل على الإذن فيه مع عدم وجود دليل على قصد القربة وهذا هو معنى الإباحة .

وهناك أفعال خاصة به e لها حكمها الخاص به دون أن يشمل أُمته كقيام الليل فإنه كان واجباً عليه ولم يجب على أُمته ، وكالوصال في الصوم فإنه كان مندوبـاً له ولم يندب لأمته ، وكالزيادة على أربع زوجات فإنها أبيحت له دون أمته .

هـذا ويُلحق بالفعل في الدلالة التركُ فإنه كما يستدل بفعله على عدم التحريم يستدل بتركـه على عدم الوجوب ، ومثـاله احتجاج الجمهور على عدم وجوب الوضوء مما مسّت النار بما ثبت (( أن رسول الله e أكـل من كتف شاة ثم قام فصلى ولم يتوضأ )) (1) .

القسم الثالث من أقسام المتن وهو التقرير

لا يقرﱡ النبي e أحداً على معصية لأن التقرير على فعل المعصية معصية والعاصم له من فعل المعصية عاصم له من التقرير عليها . ويشترط في التقريـر الذي هـو حجة أن يعلم e بالفعل ، وأن يكون قادراً على إنكاره ، وأن لا يكون قد بيّن حكمه من قبل بيانـاً ُيسقط عنه وجوب إنكاره . والفعل إما أن يكون قد وقع في حضرته ، وإما أن يكون قد وقع في زمانه وإن لم يكن في حضرته .

مثـال الفعل الذي وقع في حضرته ما احتج به الشافعية على قضاء فوائت النوافـل في الأوقـات المنهي عن التنفـل فيها بما روى (( أن رسول

ــــــــــــــ

1- رواه الشيخــان عن ميمونة وابن عباس وعمرو بن أمية الضمري ، وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان عن جابر قال : (( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار )) .

الله e رأى رجـلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال : صلاة الصبح ركعتان ، فقال الرجل : إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن فسكت )) (1) .

ومثال الفعل الذي وقع في زمانه مـا احتج به الشافعية على جواز إقتداء المفترَض بالمتنفـل بما رواه أحمد والشيخان عن جابـر (( أن معاذاً كان يصلي مع النبي e عشاء الآخرة ثم رجع إلى قومــه فيصلي بهم تلك الصلاة )) ورواه الشافعي والدارقطني والبيهقـي بزيادة (( هي له تطوع ولهم مكتوبة العشاء )) .

*

ــــــــــــــ

1- رواه أبو داود وابن خزيمـة وابن حبـان والبيهقي عـن يحيي بن سعيد عن أبيه عن جده قيس . وذهب المالكية إلى أن النوافـل من حيث هي لا تقضى بعد فوات وقتها إلا ركعتي الفجر وأن قضاءها في الأوقات المنهي عن أدائها فيها أشد كراهة من أدائها فيها . وأما ركعتا الفجر فقد ورد الأمر بقضائهما بعد طلـوع الشمس أي عند حل النافلة قال صلى الله عليه وسلم : (( من لـم يصلﱢ ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس )) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة ، وأما ما ثبت في الصحيح من صلاته صلى الله عليه وسلم في بيته ركعتين بعد العصر قضاء أو أداء فإنه محمول على أنه من خصائصه كمواصلة الصوم والدليل عليه ما رواه أبو داود عن عائشة (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال )) .

اسْتمـرار حكم الدّليــل الأصلـي النقلــي

يشترط في الدليــل الأصلي النقلي بعد ثبوت صحته واتضاح دلالته استمرار حكمه دون أن يعتريه نسـخ . والنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه (1) ، ويُعلم بوجوه منها :

صراحة النبي e به كقــوله : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فـزوروها ونهيتكم عن لحـوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيـذ إلا في سقــاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً )) (2) .

وصراحة الراوي به أو بما في معناه كقول سلمة بن الأكوع : (( لما نزلت هذه الآية - وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين - كان من أراد أن

يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها )) (1) يعني قولـه تعالى :

(( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) ، وكقول أُبيّ بن كعب : (( إنما كان الماءُ

ــــــــــــــ

1- يتعين التأخر بمعرفة وقت نـزول الآية أو ورود الحديث بالاستناد إلى السّنة أو الهجرة أو الغزوة أو الفتح أو غير ذلك من الأحداث التاريخية .

2- حديث (( كنت نهيتكم عن زيارة القبـور فـزوروها .. )) رواه مسلم والترمـذي وأبو داود عن بريدة .

من الماء رخصةً في أول الإسلام ثم ُنهي عنها )) (2) ، وكقول جابر بن عبد الله : (( كان آخرالأمرين من رسول الله e ترك الوضوء مما مست النار)) (3).

وتأخر إسلام راوي الخبر المعارض لخبر روي قبل إسلامه كحديث أبي هريرة عن النبي e قال : (( من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه سِتر فقد وجب عليه الوضوء)) (4) المعارض لحديث طَلـْق بن علي عنه e : (( وهل هو إلا بَضعة منك )) (5) فإن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر في السنة السابعة من الهجرة وإسلام طَلـْق كان عند بناء مسجد المدينة في السنة الأولى منها ، وكخبر أبي محذورة في تثنية تكبير الأذان وتربيع شهادتيه (6) المعارض لخبر عبد الله بن زيد في تربيع التكبير وتثنية الشهادتين (7) فإن أبـا محذورة ممن

ــــــــــــــ

1- حديث سلمة بن الأكوع رواه الشيخان وأصحاب السنن .

2- حديث أُبي بن كعب رواه بهذا اللفظ الترمذي وصححه ورواه أيضاً أحمد وأبو داود بلفظ (( إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعدها )) .

3- حديث جابر رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان .

4- حديث أبي هريـرة رواه أحمد في مسنـده وابن حبان فـي صحيحه وقال : حديث صحيح سنده عدول نقلته ، وروى مالك والشافعي وأحمد أيضاً وأصحاب السنن عن بسرة بنت صفوان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مسﱠ أحدكم ذكره فليتوضأ )) وقال البخاري : هو أصح شيء في هذا الباب .

5- حديث طَلـْق رواه أصحاب السنـن وأحمد والدارقطني قال : (( قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل كأنه بدوي فقـال : يا رسول الله ما ترى في مسّ الرجل ذكره بعد أن يتوضأ فقال : وهل هو إلا بضعة منك )) أو (( إنما هو بَضعة منك )) كما جاء في بعض الروايات .

6- خبر أبي محذورة من رواية مسلم في صحيحه وسحنون في مدونته .

7- خبر عبد الله بن زيد من رواية أحمد وأبي داود والحاكم .

أسلموا بعـد الفتح في السنة الثامنة وعبد الله كان مسلماً من قبل تشريع الأذان.

وانعقاد الإجماع على خلاف حكم سابق يتضمن النسخ وإن لم يعرف الناسخ ، ومثاله الإجمــاع على جلد شارب الخمر دون قتله مهما تكرر شربه لها مع أن النبي e كان قـد أمـر بعـد أن يجلد أولاً وثانيـاً وثالثـاً بقتله إذا شرب الرابعة (1) .

وعمل أهل المدينة ونعني بهم فقهاءهـا الذين تلقوا فقههم العلمي والعملي من علماء الصحابة الذين كانوا مع النبي e في آخر حياته يسمعون آخر أقواله ويشاهدون آخر أفعاله فإن اتفاقهم على قول أو عمــل عارضه حديث صحيح يتضمن عندنا نسخ حكم ذلك الحديث لأنهم أبصر وأعلم بما استقر الأمر عليه وانتهى إليه .

هذا والزيادة على النص المطلق إذا لم ترفـع حكماً تقدم فيها ليست بنسخ إلا عند الحنفية .

فقراءة الفاتحة فرض في الصلاة عندنا وعند الشافعية والحنابلة لقوله e : (( لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب )) (2) وقوله : (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بـأم القرآن فهي خِداج )) (3) ، والطمأنينة أيضاً فرض عندنـا في

ــــــــــــــ

1- جـاء في مسند أحمد وسنـن أبي داود والترمـذي وابن ماجه عن معاوية (( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم )) وقال الترمذي : إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد .

2- حديث (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت .

3- حديث (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بـأم القرآن فهي خداج )) رواه مالك وأحمـد ومسلم والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة . خِداج هنا معناها ناقصة ، وخَدَج وخَديجة هي المولود أو المولودة قبل إتمام تسعة أشهر في رحم الوالدة .

جميع أركانهـا على ما صححه ابن الحاجب (1) وعند الشافعية والحنابلـة كذلك لقوله e للأعرابي الذي لم يحسِن الصلاة : (( إذا قمت للصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتـى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في الصلاة كلها )) (2) . والطهــارتان شرط في صحة الطواف عندنا وعند الشافعية والحنابلة لقوله e : (( الطواف صلاة فأقلـّوا فيه الكلام )) (3) ولأنه طاف بعد أن توضأ (4) ، وتغريب الزاني بعد جلـده واجب عندنـا وعند الشافعية والحنابلة لقوله e : (( جلد مئة وتغريب عـام )) (5) .

وعند الحنفية ما تيسر من القـرآن هو المفروض قراءته في الصلاة لقوله تعالى : (( فاقرءوا ما تيسّر منه )) وأما قراءة الفاتحة فزيـادة ، والركوع المطلق والسجود المطلق هو المفروض من قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجـدوا )) والطمأنينة فيهما زيـادة ، والطواف المطلق هـو المفروض من قولـه تعالى : (( ولـْيطوﱠفوا بالبيت العتيق )) والطهارة

ــــــــــــــ

1- ولكن المشهور في المذهب أنها سنة ولذلك قالوا من تركها أعاد الصلاة إذا لم يخرج وقتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بإعادة صلواته السابقة .

2- حديث الأعرابي الذي لم يحسِن الصلاة رواه أحمد والشيخان عن أبي هريرة .

3- حديث (( الطواف صلاة فأقلوا فيــه الكلام )) رواه الطبراني عن ابن عباس وجزم الحافظ ابن حجر بصحته ورواه الشافعي أيضـاً بلفظ (( أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في صلاة )) .

4- جاء في المسند والصحيحين عن عائشة : (( أن أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت )) وفعله في الحج بيان لقوله (( خذوا عني مناسككم )) .

5- قوله صلى الله عليه وسلم : (( جلد مئة وتغريب عام )) جاء في حديث طويل رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي هريرة وزيد بن خالد فارجع إليه وإلى شرحه للباجي في (( الموطأ )) وللشوكاني في (( نيل الأوطار )) .

فيه زيادة ، وجلد الزاني هـو المأمور به في قوله تعـالى : (( الزانيــة والزاني فاجلدوا كل واحـد منهما مِئة جلدة )) والتغريب زيادة ، ويقولـون لو فرضت هذه الزيـادات لكانت نسخاً لأحكام قطعيــة ثبتت بنصوص قرآنية مطلقة ، والأخبار المستدل بها على فرضيتها أخبار آحـاد وأخبار الآحاد ظنية فلا تنسخ الأحكام القطعية .

فيقول الجمهور لا نـرى في هــذه الزيادات وأمثالهـا نسخاً لأحكام النصوص القرآنية حتى نضطر إلى ردها أو تضعيفها لكونها ظنية وردت على قطعية بل نراها قيوداً مزيـدة على نصوص مطلقة ، وإذا وجب القيد كان وجوبه مضافاً إلى وجوب الأصل لا رافعـاً له كعبادة زيدت على عبادة فلا تكون الثانية ناسخة للأولى .

هذا وقـد ثبت نسخ بعض القرآن تـلاوة وحكماً ، روى مالك ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت : كان فيما أنـزل من القرآن (( عشر رضعات معلومات يحرّمن ثم نسخن بخمس معلومات )) (1) . وتلاوة لا حكماً فقد جاء عن زيد بن ثابت قال : كنا نقـرأ (( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة )) (2) ، وحكماً لا تلاوة كنسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها حولاً الذي جاء في قوله تعــالى : (( والذين ُيتوفـّون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج )) بقوله تعالى : (( يتربصن بأنفسهن أربعـة أشهر وعَشْراً )) وكنسخ وجوب صدقة النجوى الـذي جاء في

ــــــــــــــ

1- ثم نسخت الخمس أيضاً تلاوة وحكماً عند مالك وتلاوة لا حكماً عند الشافعي .

2- رواه النسائي والحافظ أبو يعلى الموصلي ، وأخرج أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة ابن سهل عن خالته العجماء (( أن فيما أنزل الله من القرآن : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة )) ، وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أُبيّ بن كعب أن آيـة الرجم كانت في سورة الأحزاب .

قولـه تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتـم الرسول فقـدموا بين يدي نجواكم صدقة )) بقوله تعـالى : (( فإذ لـم تفعلوا وتاب الله عليكـم فأقيمــوا الصلاة وآتـوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله )) .

ثم إن نسخ بعض أحكام القرآن متفـق على جوازه ووقوعـه (1) ومنه ما ذكرناه من نسخ اعتداد المتوفـّى عنها زوجها حولاً (2) ونسخ وجوب صدقـة النجوى ، ومنه أيضاً ما كان من التخيير بين صوم رمضان وإخراج فديـة الذي جاء في قولـه تعالـى : (( وعلى الذين يطيقونه فديـة طعـام مسكين )) (3) ، ومن مصابرة الواحد منــا للعشرة من الكفار والمائة منا للألف منهم الذي جاء في قوله تعـالى : (( إن يكن منكم عشـرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائـة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا )) (4) .

وبالخبر المتواتر عند مالك وأكثر العلماء لمساواته القرآن في الطريق العلمي أي من حيث إن كلاً منهما قطعي الثبوت وإنه من عند الله عـز وجل وإن جاء الخبـر على لسان رسوله e فإنه لا ينسخ حكماً لربه من تلقاء نفسه

ــــــــــــــ

1- خالف أبو مسلم الأصفهاني من المعتـزلة فنفى النسخ في القـرآن ورده إلى التخصيص وتكلّـف لـه التأويل .

2- قال ابن عبد البر : لم يختلف العلماء في أن العدة بالحـول نسخت إلى أربعة أشهر وعشر ، وقال ابن العربي : كانت عدة الوفاة في صدر الإسلام حولاً كما كانت في الجاهلية ثم نسخ الله تعالى ذلك بأربعة أشهر وعشر .

3- نسخ بقوله تعالى : (( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) .

4- نسخ بقوله تعالى : (( الآن خفف الله عنكـم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبـوا مائتين وإن يكـن منكم ألف يغلبـوا ألفين بإذن الله والله مع الصابريـن )) وهو من نسخ الأثقل بالأخف .

بـل بوحي منه إلا أنه بغيـر نظم القرآن وذلك كنسخ حكـم الإمساك في البيوت الذي جـاء في قولـه تعالـى : (( واللاتي يأتيـن الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فـإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهنّ الموت أو يجعلَ الله لهن سبيلاً )) بالرجم الثابت بالسنة المتواترة (1) .

وأما أخبـار الآحـاد فينفي الجمهور نسخ الأحكام القرآنية بهـا لعدم مساواتها القرآن في الطريق العلمي لأن القرآن قطعي فلا ينسخ شيء منه بأخبار ظنية (2) .

*

ــــــــــــــ

1- هذا إذا كان المراد من النساء في الآية الأزواج كما ذهب إليه الكثيرون وأمـا إذا كان المراد الجنس كما ذهب إليه غيرهم من المحققين فإن حكم الرجم الذي ثبت بالسنة المتواترة يتوجه على الثيبات منهن كما بينته السنة نفسها إذ الناسخ لإمساك الأبكار آية الجلد بمصاحبة السنة .

2- لمزيـد مـن التفاصيل حـول هـذا الموضـوع - راجع كتاب (( مناهل العرفان )) لمحمد عبد العظيم الزرقاني .

رجحـان الدّليــل الأصلـي النقلــي

اعلم أن الرجحان في الدليل الأصلي النقلي إما أن يأتي من جهة السند وإما أن يأتي من جهة المتن .

مرجحات السنـد

يرجّح الدليل الأصلي النقلي على ما يعارضه بمرجحات من جهة سنده أهمها عشرة .

المرجح الأول كبر الراوي فإن الكبير أثبت وأضبط لما يرويه من الصغير ، مثاله احتجاج فقهائنـا على أن الإفراد بالحج أفضل بحديث ابن

وحجاً )) (1) ، فيجيبهم فقهــاؤنا بأن أنساً كان في حجة الوداع صغيراً

ــــــــــــــ

1- حديث ابن عمر رواه مسلم في صحيحه . ورواه عنه أيضاً بلفظ (( أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً )) .

وكان ابـن عمر كبيراً فكـان أثبت وأضبط لذلك رجحنا روايتـه علـى رواية أنس (2) .

المرجح الثاني أن يكون الراوي لأحد الحديثين أفقـه وأعلم من راوي الحديث الآخر ، ومثــاله احتجاج فقهائنا على أن الإفراد بالحج أفضـل بحديث عائشة التي قالت فيه : (( خرجنا مع رسول الله e عام حجة الوداع عمر الذي قـال فيه : (( إن رسول الله e أهلﱠ بالحج مفردِاً )) (1) ، فيقـول الحنفية حديث ابن عمر هـذا يعارضه حديث أنـس الذي قـال فيه : (( سمعت رسول الله e يلبي بالحج والعمرة جميعــاً يقـول لبيـك عمرة

فمنا مَـن أهلﱠ بعمرة ومنا من أهل بحجة وعمرة ومنا من أهل بالحج وحده ، وأهل رسول الله e بالحـج )) (3) فإذا عورض بحديث أنس المذكـور قلنـا في الجواب أن عائشة أفقـه وأعلم منه لهذا فحديثها مرجح على حديثه.

المرجح الثالث أن يكون أحــد الراويين أكثر صحبة من الآخر فيكون أعلم منه بما دام من الأحكام والسنن وبما لم يـدم ، ومثالـه ترجيح فقهائنـا حديث عائشة وأم سلمـة (( أن رسول الله e كان يصبـح جنبـاً من جماع غيـر احتلام في رمضان ثم يصوم )) (4) على حديثي أبي هريرة عن النبي e قال : (( إذا نـودي للصلاة صـلاة الصبح وأحدكـم جنـب فلا يصمْ حينئـذ )) وأنـه e (( كان يأمرنـا بالفطـر إذا أصبح الرجــل

ــــــــــــــ

1- حديث أنس رواه أحمد في مسنده والشيخان في صحيحيهما .

2- يمكن الجمع بين الحديثين بأنـه صلى الله عليه وسلم أهـلﱠ بالحج مفرداً ثم أردف عليه العمرة إلا أن مالكاً لا يرى لمن أهـــل بحج مفرد أن يردف عليه عمرة ويقول في (( الموطأ )) : وذلك الذي أدركت عليه أهل العلم عندنا .

3- حديث عائشة عن إهلالـه صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً رواه مالك وأحمد والشيخان .

4- حديث عائشة وأم سلمة رواه أيضاً مالك وأحمد والشيخان .

جنبـاً )) (1) لأن زوجتيه بكثرة صحبتهما له وعيشهما معه إلى آخر حياته كانتا أعلم من أبي هريرة بآخر أفعاله وبما دام من سننه .

المرجح الرابع أن يكون أحدهما أقرب إلى النبي e من الآخر كترجيح فقهائنـا حديث ابن عمر في إفـراده الحـج على حديث أنس ، فإن ابن عمر حين قيـل له إن أنساً يقـول : (( سمعتـه يلبّي بالحج والعمرة جميعاً )) قال : (( إن أنساً كان صغيراً يوكل على النساء وهـن منكشفات الرؤوس وكنت تحت ناقـة رسول الله e يمسّني لعابها أسمعه يلبّـي )) .

المرجح الخامس أن يكون أحد الراويين مباشراً للواقعــة بنفسه فتكون روايته عنها أرجح من رواية غيره لأن المباشر للواقعـة ألصق بها وأعرف وأثبت ، ومثاله ترجيح فقهائنـا روايـة أبي رافع على رواية ابن عباس عن زواج ميمونة أم المؤمنين فقـد قـال أبو رافع : (( تـزوج رسول الله e ميمونة حلالاً وبنى بها حلالاً وكنت الرسول بينهما )) (2) وقـال ابن عباس : (( تزوج النبي e ميمونة وهـو ُمحْـرم )) (3) ولما كان أبو رافع مباشراً للواقعة كان أعرف وأثبت فتكون روايته أرجح .

المرجح السادس أن يكون أحد الراويين صاحب الواقعـة فيكون أعرف بها وروايته أقـوى وأرجح ، ومثاله ترجيح فقهائنـا حديث ميمونـة

ــــــــــــــ

1- حديث أبي هريرة الأول من رواية أحمد وابن حبان والثاني من رواية النسائي والطبراني في مسند الشاميين وقـد ثبت أن أبـا هريرة حين بلغه حديث عائشة وأم سلمة سلـّم به وقال : هما أعلم ، ورد ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس – انظر (( فتح الباري )) .

2- حديث أبي رافع رواه أحمد والترمذي وحسنه .

3- حديث ابن عبــاس رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ، وروى أبو داود أن سعيد بن المسيب قال وَهِمَ ابن عباس في قوله تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو ُمحـْرم .

إذ قالت : (( تزوجني رسول e ونحن حلالان بسَرِف )) (1) عــلى رواية ابن عباس المذكورة آنفـاً .

المرجح السابع سماع الحديث مواجهة من غير حجاب فإنه أقوى وأرجح من معارضـه الذي ُسمع من وراء حجاب ، ومثاله حديث القاسم وعروة عن عائشة (( أن بَريرة أُعتقت وكان زوجهـا عبداً )) (2) فإنـه مرجح على رواية الأسود عن عائشة (( أن زوج بريـرة كـان حراً )) (3) .

المرجح الثامن أن يكون أحــد الراويين متأخراً في إسلامه عن الآخر فإن حديثـه حينئـذ يكون أقل احتمالاً للنسخ فيرجح على ما هـو أكثـر احتمالاً له ، ومثـاله ترجيح فقهائنا حديث أبي هريرة وحديث بُسـرة بنت صفوان في إيجاب الوضـوء من مسّ الذكـر على حديث طَلـْق بـن علي لتــأخر إسلام أبي هريرة وبُسرة عـن إسلام طلق ، وترجيحهـم حديث أبي محـذورة في تثنيـة تكبير الأذان وتربيع شهادتيـه على حديث عبد الله بـن زيد في تربيـع التكبيـر وتثنية الشهــادتين لتأخـر إســلام

ــــــــــــــ

1- حديث ميمونة رواه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود واللفظ له .

2- حديث القاسم رواه أحمد والدارقطني عن عمته عائشة قالت : (( إن بريرة كانت تحت عبد فلما أعتقتها قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختاري فإن شئت أن تمكثي تحـت هــذا العبد وإن شئت أن تفارقيه )) ، وجاء عنه في صحيح مسلم وسنن أبي داود عن عائشة (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرها وكان زوجها عبداً )) ، وحديث عروة رواه عنه أحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن خالته عائشة (( أن بريرة أُعتقت وكان زوجها عبداً فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها ولو كان حراً لم يخيرها )) .

3- حديث الأسود رواه أحمد وأصحاب السنن عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : (( كان زوج بريرة حراً فلما أعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها )) .

أبي محذورة عن إسلام عبد الله بن زيـد ، وقـد مرﱠ ذكـر هذه الأحاديث في بيان وجـوه معرفة النسخ لأن تأخـر إسلام راوي الحديث والمعــارض لحديث سابق مرويٍ قبــل إسلامه فكما يعدّ وجهــاً من الوجوه التي يعرف بها النسخ يعدﱡ سببـاً من أسباب الترجيح في حـال عـدم الاتفــاق على النســخ .

المرجح التاسع اتفـاق الرواية عن أحد الراوييـن واختلافهـا عن الآخر ، ومثالـه ترجيح رواية أنس أن أبـا بكر كتب لهم : (( ... فإذا زادت - أي الإبل – على عشريـن ومئة ففي كل أربعين بنـت لبـون وفي كل خمسين حِقــة )) (1) على رواية عمرو بن حزم : (( ... فإذا زادت على عشرين ومئة استؤنفت الفريضة )) فإنـه قد روي عنـه أيضاً مثل روايـة أنس )) (2) .

المرجح العاشر كثرة رواة أحد الحديثين ، ومثـاله ترجيح فقهائنـا حديث إيجاب الوضوء من مسّ الذكـر على حديث َطلـْق بن علي فـإن حديث إيجــاب الوضوء منه رواه كثير من الصحابـة منهم أبو هريـرة وبسرة بنت صفوان وأروى بنت أُنيس وأم حبيبـة وأم سلمـة وعائشـة وسعد بن أبي وقـاص وجابـر بن عبد الله وزيـد بن خالد وعبد الله بـن عباس وعبد الله بن ُعمر وعبد الله بن َعمرو وغيرهم ، وما كان أكثر رواة كان أثبت وأرجح .

ــــــــــــــ

1- حديث أنس هو بعض حديث طويـل في فرائض الصدقة رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي والحاكم والدارقطني وقال : إسناده صحيح ورواتـه كلهم ثقات ، وقال أبو محمد بن حزم : هذا كتاب في نهاية الصحة عمل به الصديق بحضرة العلماء ولم يخالفه أحد .

2- روايـة عمرو بن حزم المتفقة مع رواية أنس أخرجها النسائي وأبو داود وابن حبان والدارقطني .

مرجحـات المتـن

يرجح الدليـل الأصلي النقلي على ما يعارضه بمرجحات من جهـة متنه أهمها سبعة .

المرجح الأول أن يكون أحــد المتنين قولاً والآخر فعلاً فيرجح القول على الفعل لأنه أقـوى على الأصح ، ومثالـه ترجيح فقهائنـا حديث عثمان بن عفـان (( أن رسـول الله e قـال : لا ينكِح المُحْـرم ولا يُنكَـح ولا يخطُب )) (1) على حديث ابن عباس : (( أن النبي e تـزوج ميمونة وهـو ُمحْرم )) (2) وذلك أن فعله يحتمل الخصـوص به ولا يـدل على استمرار الحكم وأما قولـه فينفي هـذا الاحتمال ويـدل على استمرار الحكم إذا لم يـأت بعده قول آخر يرفع حكم الأول .

المرجح الثاني أن يكون أحد المتنين دالاً على الحكم بمنطوقه والآخر دالاً عليه بمفهومه فإن الدال بمنطوقه أرجح من الدال بمفهومه ، ومثاله ترجيح الحنفية قولـه e (( الجارأحق بشفعة جاره)) (3) على مفهوم (( قضائه بالشفعة في كل ما لم ُيقسم )) (4) فقالوا بحق الجار في الشفعة وإن لم يكن شريكاً ، ولكن إذا كان مـع المفهـوم منطوق انعكس الأمر حينئذ فصار هـو الأرجح

ــــــــــــــ

1- حديث عثمان رواه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن .

2- حديث ابن عباس رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن .

3- حديث (( الجار أحق بشفعة جاره )) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن جابر وقد تكلم فيه كثير من أهل الحديث وضعّفوه ولكن الترمذي حسّنه .

4- حديث قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لـم ُيقسم رواه أحمد والبخاري عن جابر قال : (( قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كـل ما لـم ُيقسم فإذا وقعـت الحــدود وصرفت الطرق فلا شفعة )) .

لحصول الدلالة فيه بوجهتين كترجيح فقهائنا (( قضاءه e بالشفعة فيما لم ُيقسم بين الشركاء فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة فيه )) (1) فهذا يدل بمنطوقه وبمفهومه على أن لا شفعة للجار بل للشريك قبل القسمة وتعيين الحدود .

المرجح الثالث أن يكون أحــد المتنين وارداً في حـكم والآخر ليس وارداً فيه . فإن ما ورد في حكم أرجح فـي الحكم مما لـم يـرد فيه كترجيح فقهائنا حديث جبريل الذي جـاء فيه (( أن النبي e صلى العصـر حين صار ظل كل شيء مثله )) (2) على الحديث الذي تمسك بـه الإمام أبو حنيفة من أن أول وقت العصر أن يصير ظل كل شيء مثليه وهـو أن النبي e قـال يوماً لأصحابه : (( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أُوتي أهل التوراة التـوراة فعملـوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أُوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين فقـال أهـل الكتابيـن أي ربنا أعطيت هـؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنـا قيراطاً قيراطـاً ونحن كنا أكثر عملاً قال الله هـل ظلمتكم مـن أجركم من شيء قالوا لا قال فهـو فضلي أوتيه من أشاء )) (3) فذهب أو حنيفة إلى مفهـوم ظاهر هـذا الحديث

ــــــــــــــ

1- حديث (( قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء )) رواه مالك عن بن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وقال : وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا .

2- حديث جبريـل رواه بطوله أحمد والنسائي والترمذي بنحوه عن جابر بن عبد الله وقال البخاري : هو أصح شيء في المواقيت .

3- حديث (( إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم )) رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر .

وهـو أن ما بين العصر والمغـرب أقل ممـا بين انتصـاف النهار والعصر ولا يصح ذلك إلا إذا كان أول وقت العصر أن يصير ظل كل شيء مثليه ، ورأى فقهاؤنـا أن هذا الحديث إنما ورد للتنويه بفضل الله تبارك وتعالى على أمتنا ولم يـرد في تشريع حكم يستـدل به عليه ، وأما حديث جبريـل فإنه ورد في حكم أراد الشارع بيانه بـه وهو تحديد أوقات الصلوات الخمس فاقتضى أخذه منه لا من مفهوم حديث لم يرد فيه .

المرجح الرابع أن يكون أحـد المتنين وارداً على سبب والآخر وارداً على غيـر سبب فإن الوارد على سبب أرجح في سببه والوارد على غير سبب أرجح في غير السبب ، ومثـاله ترجيح قوله e حين مر بشاة ميتة كان أعطاها مـولاة لزوجـه ميمونـة (( أفلا انتفعتم بجلدهـا )) (1) على قوله : (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) (2) فإن الحديث الأول أرجح في جلد ما يؤكـل لحمه لأنه كالنص فيه إذ هو السبب ، والحديث الثاني أرجح في جلد ما لا يؤكل لحمه فلا ينتفـع بـه وإن دبـغ لأنه عام ورد على غير سبب.

المرجح الخامس أن يكون أحـد المتنين ظاهراً والآخر مؤولاً فيرجح الظاهر لاتضاح دلالته من جهة لفظه على المؤول لاتضاح دلالته بدليـل منفصل لأن الدليل من جهـة اللفظ ذاتي فكان أقـوى من الدليـل المنفصل ولأن الظاهر هـو الأصل وأمثلته هـي التي سبق التمثيل بهـا لأسباب ظهوره ، ولكن قـد يرجح المؤول لاعتبار قـوي اقتضى ترجيح دليله على

ــــــــــــــ

1- رواه مالك وأحمد والشيخان وغيرهـم من أئمـة الحديث عن ابن عباس قـال : (( مرﱠ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتـة كان أعطاها مولاة لميمونـة فقال : أفلا انتفعتم بجلدهـا فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة فقال صلى الله عليه وسلم : إنما حرم أكلها )) .

2- حديث (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) رواه أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن عكيم وفيه انقطاع واضطراب فارجع إليه في (( نيل الأوطار )) إن شئت .

دليــل الظاهر كما رأيت في الأمثلـة التي سبق التمثيــل بها لأسباب التأويـل .

المرجح السادس أن يكون أحـد المتنيـن واضح الدلالة والآخر مجملاً فيُرجح الأول لاتضاح دلالته ويعدﱡ مفسـراً للمجمل ، ومثاله ترجيح فقهائنـا قوله e (( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن ُغمّ عليكم فأكملوا العدد ثلاثين )) (1) على رواية من روى : (( الشهر تسعة وعشرون يوماً فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن ُغمّ عليكم فأقدروا له )) (2) فإن الحديث الأول نص في عدد الأيام التي يجب إكمالها إذا غم الهلال وبذلك يرجح على الحديث الثاني ويكون مفسراً لما فيه من التقديـر المطلوب هكذا : فإن غـم عليكم فقدّروا أول الشهر وأكملوا الثلاثين يوماً .

المرجح السابع أن يكون أحـد المتنين مثبتـاً والآخر نافياً فإن المثبت يرجح على النافي ، ومثاله ترجيح فقهائنا قول بلال (3) : (( إن رسول الله e

ــــــــــــــ

1- قولـه صلى الله عليه وسلم : (( لا تصومـوا حتى تـروا الهلال ... )) رواه مالـك عـن ابن عباس .

2- قوله صلى الله عليه وسلم : (( الشهر تسعة وعشرون يوماً ... )) رواه مالك وأحمد ومسلم عن عبد الله بن عمر وهو تنبيه لنـا على احتمال ترائي الهلال لتسع وعشرين من شعبان وتسع وعشرين من رمضان ومع ذلك فلا نصوم لتسع وعشرين حتى نراه ولا نفطر لتسع وعشرين حتى نراه فإن غم علينا فنقدر له ونكمل الثلاثين يوماً كما جاء التصريح به في حديث ابن عباس وأكثر أحاديث هذا الباب .

3- قول بلال هذا جاء في حديث لابن عمر قال : (( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب فلما فتحوه كنت أول من ولج فلقيت بلالاً فسألته : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم بين العمودين اليمانيين )) رواه أحمد والشيخان .

صلى في البيت بين العمودين اليمانيين )) على قول أسامة (1) : (( إنه دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه )) ، فقـول بلال لا يحتمـل الشك في حصول الصلاة فعلاً لأنه رآه يصلي وعيّن المكان الذي صلى فيـه فقال بين العمودين اليمانيين ، وأما قول أسامة فيحتمل الشك لأنه قد لا يكون رآه أثناء الصلاة لسبب ما فقال دعا ولم يصل (2) .

*

ــــــــــــــ

1- قول أسامة هذا جـاء في حديث لابن عباس قال : (( أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج ركع في قِبل البيت ركعتين وقال هذه القبلة )) رواه مسلم في صحيحه .

2- قال النووي وغيره : يمكن الجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل بالدعاء في ناحية والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية ولما صلى رآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لاشتغاله بالدعاء في ناحية والضوء ضعيف لأن البيت كان مغلقاً .

الاسْـتِصحَــاب

بعد أن فرغنا من الكلام على الدليل الأصلي النقلي الذي هو الكتاب والسنة ننتقل إلى الكلام على الدليل الأصلي العقلي وهو الاستصحاب ويـراد به استمرار الأمر على ما هو عليه إلى أن يقوم الدليل على تغيره عما كان عليه كطهارة المـاء فإنها تستمر مصاحبة لـه إلى أن يثبت تغيره بنجس ينقله عما كان عليه من الطهارة ، وكشغل ذمة المدين بالدين فإنه يستمر إلى أن يثبت أداؤه للدين أو إبراؤه منه . وهو وإن عـدّ دليلاً عقلياً فإن الأخذ به شرعي إذ قد ثبت بالاستقراء للأحكام الشرعية أنها تبقى على ما قـام الدليل عليه إلى أن يقوم دليل آخر على التغير فيتغير الحكم بحسبه .

والاستصحاب بالإجمال نوعان : استصحاب أمر عقلي ، واستصحاب حكم شرعي .

أما الأول فهـو ما قضت غلبة الظن باستمراره على ما هو عليه إلى أن يثبت تغيره كحياة من علمت حياته في زمن معين فإنـه يغلب على الظن استمرارها إلى أن تثبت وفاته . وهذا النوع كثيراً ما يعارَض باستصحاب آخر أو بوجود ناقـل له عن الحالة الأولى .

مثال ما يعارَض باستصحاب آخر استدلال بعض فقهائنا على أن السلعة الغائبة إذا بيعت على العلـم بها أو على وصفها وهلكت قبــل أن يستلمهـا المشتري ثم حدث النـزاع بين المتبايعين هل كان هلاكها قبل عقد البيـع أو بعده ؟ فإن ضمانها أي غرمها على المشتري إذ يقول البائع لقد كانت السلعة موجودة سالمة قبل العقـد فلزم أن تستمر سلامتها إلى زمن طـروء هلاكها وقد طرأ بعد العقد إن لم يقم دليل على طروئه قبله فتعين هلاكها على ضمان المشتري ، فيعارضهم الأكثرون من فقهائنـا بأن ذمة المشتري كانت بريئة من الضمان فلـزم استمرار تلك البراءة ما دامت السلعة غائبة وعليه فلا ضمان على المشتري .

ومثال ما يعارض بادعاء وجود ناقل عن الحالة الأولى احتجاج فقهائنا على أن سؤر الكلب طاهر بسلامته من المخالطة للنجاسة قبل الولوغ فلزم استمرار طهارته إلى أن تتحقق مخالطتـه للنجــاسة ، فيقـول المخالفـون أن هـذا الاستصحاب يتم لـو لـم يوجد ناقل لتلك السلامة وهـو الولوغ فإنه مظنة المخالطـة للنجاسة لأنها غالب أحوال الكلاب ، فيجيبهم فقهاؤنـا بأن احتمال المخالطة للنجاسة ظني فلا يلـزم منه الانتقال عن الحالـة الأصلية وهي الطهارة ولما كان ظنياً قلنا بكراهة استعمال سؤر الكلب وإن كان طاهراً مراعاة لهذا الظن .

وأما الثاني وهو استصحاب حكم شرعي فإننا نجده في كل ما أباحـه الشارع أو حرمه : فإباحة كل مباح تستمر إلى أن يقوم الدليل علـى تحريمه كإباحـة عصير العنب فإنها تستمر إلى أن تتغير أوصافـه وتعرض له صفة الإسكار فيحرم حينئذ ، وكتحريم النبيذ المسكر فإنه يستمر إلى أن تتغير أوصافه وتـزول عنه صفة الإسكار فيحل حينئذ .

وهذا النوع من الاستصحاب كثيراً ما يختلف الفقهاء في انطباقـه على

المسائل الجزئية التي تندرج تحته كاحتجاج فقهائنا على أن الرعاف لا ينقض الوضوء بقولهم إننا مجمعون على أن المتوضئ متطهر قبــل الرعاف فلزم استصحاب وضوئه بعده إلى أن يـدل دليل على انتقاضه ، فيقول الحنفية إننا نرد صحة الاستصحاب في هذه المسألة لأن دليل الحكم فيــه هو الإجماع والإجماع بعد الرعاف ليس كما كان قبله فكيف يستمر حكم بعد فقدان دليله لاسيما وقـد قـام الدليل على انتقاض الوضوء بالرعاف وهو قول رسول الله e (( من أصابه قيء أو رُعاف أو قَـلْس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم )) (1) .

*

ــــــــــــــ

1- رواه ابن ماجـه والدارقطني عن عائشة وضعّفـه ابن معين وغيـره من رجال الحديـث ، وقد ذهب ابن عباس وابن أبي أوفـى وأبو هريـرة وجابر بن زيد وسعيـد بن المسيب ومكحول وربيعة إلى عدم انتقاض الوضـوء من الـدم ، وذهب أبو حنيفـة وأصحابـه وأحمد إلى انتقاضه بالدم السائل . القلس : هو ما يخرج من الحلق ولو لم يتبعه قيء .

القيــَـاس

القياس هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر آخر منصوص على حكمه لاشتراك بينهما في علة الحكم طرداً أو عكساً . وهو دليل شرعي ُتـرد به الأحكام إلى الأصل الذي هو الكتاب والسنة ولذلك يعد لازماً عن أصل ، أي ناشئاً عنه وملحقاً به وراجعاً إليه . والحكم الذي يدل عليه القياس إما أن يكون مماثلاً لحكم الأصل أو مناقضاً له : فإن كان مماثلاً لحكم الأصل عرف قياسـه بقياس الطـرد ، وإن كان مناقضاً لحكــم الأصل عرف بقياس العكس .

قياس الطـرد

قياس الطرد هو حمل فرع مجهول الحكم على أصل معلوم الحكم لمساواته له في العلة بغية إثبات حكم للفرع مماثل لحكم الأصل كقياسنا النبيذ المجهول الحكم على الخمر (1) المعلوم الحكم . فالخمر هو الأصل المقيس عليه ، والنبيذ هو الفرع المقيس ، والعلة التي تساويـا فيها هي الإسكـار ، ــــــــــــــ

1- الخمر عند الجمهور كل شراب مسكر سواء صنع من العنب أو غيره ، والنبيذ كل شراب اتخذ من عصارة قابلة للتخمر فإذا تخمرت وأسكرت صارت خمراً – أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر خمر وكل مسكر حرام )) ، وعند أبي حنيفة والثوري وبعض فقهاء الكوفة : الخمر ما أسكر من عصير العنب خاصة والنبيذ ما اعتصر من غيره .

والحكم المطلوب إثباتـه في الفـرع هـو التحريم الثابت مثله في الأصل .

فقيـاس الطرد إذاً هـو إثبات حكم للفرع كحكم الأصل لمساواته له في العلة ويقوم على أربعة أركان : الأصل والعلة والفرع والحكم .

الركن الأول : يشترط فيه ثلاثة شروط أساسية :

الشرط الأول أن يكون الحكم ثابتاً فيه فإنه إن لم يكن ثابتاً فيه فلا يتوجه عليه القياس لأن المقصود إثبات مثله في الفرع ، وإثبـات مثلـه في الفرع متوقف على ثبوتـه في الأصل ولو كان ثبوته في الأصل بالقياس عند أكثر فقهائنا على ما فهموه من مسائـل الإمام وأصحابه ، وذلـك بأن كان فرعـاً قيس على أصل من الكتاب أو السنـة فأعطي حكمه وبثبـوت الحكم له يصير أصلاً فيجوز القياس عليه عند تعذر قياس الفرع الثاني على الأصل من الكتاب والسنة (1) .

الشرط الثاني أن يكون حكمه مستمراً غير منسوخ لأنه إذا نسخ حكم الأصل وبقيت علته لـم يبق لها اعتبار لإثمار حكم مماثل في فرع لأصل منسوخ الحكم ، ولكن قـد ينسخ حكم من أحكام الأصل فيتوهـم سريـان النسخ إلى الحكم الذي يطلب مثلـه في الفرع ، ومثالـه قول الحنفية بأن تبييت الصوم غيـر واجب في صوم رمضان قياساً على صوم عاشوراء فإنه لا يجب فيه التبييت لحديث سلمة بن الأكـوع قال : (( أمر النبي e رجلاً من أسلم أن أذﱢنْ في الناس أن من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء )) (2) ، فيقول فقهاؤنا لقد نسخ حكم الأصل وهو وجوب

ــــــــــــــ

1- راجع في هذا الموضوع (( المقدمات الممهدات )) لابن رشد الكبير .

2- حديث سلمة بن الأكوع رواه أحمد والشيخان .

صـوم عاشوراء بوجـوب صوم رمضان ومن شـروط الأصل المقيس عليه أن لا يكون منسوخـاً ، فيجيب الحنفية بأننا لم نقـس الفرع علــى الأصل في الحكم المنسوخ بـل في حكم آخر وهـو عدم وجوب تبييت الصوم لأنه لا يلـزم من نسخ حكم وجـوب الصـوم نسخ عـدم وجوب تبييته المقيس عليه .

الشرط الثالث أن لا يكون الأصل مخصوصاً بالحكم فإنـه إذا كـان مخصوصاً بالحكم امتنع حمل غيره عليه وإلا بطـل الخصوص ، وهذا الشرط يتفرع إلى نوعين : نوع نص الشارع على الخصوص فيه أو انعقد الإجماع عليه ، ونوع لـم ينص الشارع على الخصوص فيه إلا أنه لم يعقل معنـاه فتعذر حمل غيره عليه للجهل بالمعنى الذي لأجلــه شرع الحكم في الأصل .

أما النوع الأول وهـو الذي نص الشارع على الخصوص فيه أو انعقد الإجماع عليه فمثاله قولـه e لأبي بـردة في التضحية بجدَعة مـن المعز : (( إذبحها ولا تصلح لغيرك )) (1) وقبولُـه لشهادة خزيمة وحده (2) فقد خصه e بذلك دون سائر الصحابة ولو حمل عليه غيره لجرى القياس عليـه في كل شاهـد واحـد ولبطل اعتبار تعـدد الشهـود . ومن هـذا النوع جميع ما اختص بـه e من الأحكام فلا يقـاس عليها وإن كان هنـاك اختـلاف في جملة من الفروع هل هي ممـا اختص بـه أم لا ؟ كاختلافهم في صحـة

عقد النكاح بلفظ الهبـة فإن الشافعية لا يجيزونه لأنهم يرونـه مختصاً ــــــــــــــ

1- روى أحمد والشيخان عن البراء بن عازب قال : (( ضحّى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : شاتك شاة لحم فقال : يا رسول الله إن عندي جذَعة من المعز قال : اذبحها ولا تصلح لغيرك )) . والجذعة من الشياه من بلغت ثمانية أشهر أو تسعة .

2- قبوله صلى الله عليه وسلم لشهادة خزيمة وحده جاء في حديث أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وفيه : (( فجعل شهادة خزيمة شهادة رجلين )) وفي رواية قال : (( من شهد له خزيمة فحسبه )) .

بالنبي e بدليـل قولـه تعالى : (( وامـرأةً مؤمنـةً إن وهبـت نفسهـا للنبـي إن أراد النبي أن يستنكحهــا خالصةً لك من دون المؤمنين )) ، والحنفية يجيزونه لأنهم يردون الاختصاص إلى سقوط الصداق الذي بــه يظهر الشرف ورفع الحرج لا باللفظ المجرد الذي يوجــد ما يقـوم مقامه من الألفاظ ، والشافعية يرون اختصاصه باللفـظ تابعاً لاختصاصه بمعنـاه ، وأما نحن المالكية فنتفق مع الحنفيـة في اختصاصه بجواز النكـاح له بالهبة من غير صداق لأن الآية سيقـت لبيان شرفه على أُمتـه ونفي الحرج عنـه في ذلـك كما قدمنـا في الكلام على الترجيـح بالقرينـة السياقيـة ، ولكننا لا نتفق معهم في قياس أُمتـه عليه لمانع الاختصاص وإنما نجيز النكاح بلفظ الهبة إذا كان مصحوبـاً بذكر الصداق لا بالقياس بـل لأن لفظ الهبة من الألفـاظ التي تقتضي البقـاء مدى الحياة كالإعطاء والمنح والتمليك فينعقـد بها النكاح إذا ذكـر معها الصـداق تحديـداً أو تفويضاً لتتـم بذكره دلالتها على النكاح دون غيره . أما إذا حصل الخلاف في كون الأصـل مخصوصاً أو غير مخصوص ثابتاً بنص أو إجماع كاختلافهم في الشهيد هــل يغسل ويصلى عليـه أم لا ؟ وقـد ورد في شهـداء أُحـد (( أن رسول الله e أمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلﱠ عليهم )) (1) فذهب المالكية والشافعية إلى أنه عـام يشمل كل شهيـد من شهداء أي معترك بين المسلمين وأعدائهم ، وذهب الحنفية إلى أنه مخصوص بشهداء أُحـد فلا يشمل غيرهم .

وأما النوع الثاني وهو الذي لم ينص الشارع على الخصوص فيه ولكن

ــــــــــــــ

1- (( أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن قتلى أُحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلﱠ عليهم )) رواه البخـاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر . وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس (( أن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصلﱠ عليهم )) .

لم يعقل معناه فمثاله معظم التقديرات فإنها غير معقولة المعنى كسائر الأعمال التعبدية التي لم نعقل معناها فلا يقاس عليها لجهلنا بالمعنى الذي لأجله شرع الحكم فيها . فإن قيل لنا لقد قستم تقدير أقل الصداق على تقدير أقل نصاب السرقة وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم ، وقستم تحديد اليد بالكوع في التيمم على تحديدها في القطع بالسرقة ! قلنا ليس ذلك قياساً وإنما هو استشهاد على الأقل ما هو معتبر ، وذلك أن الشارع أوجب المال في النكاح فقال : (( أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين )) إظهاراً لشرف النكاح وقدره والشرف لا يحصل بأقل ما يسمى مالاً فإن الدرهم الواحد مثلاً يسمى مالاً ولكن ضآلة قيمته لا ترفعه إلى مستوى شرف النكاح وقدْره فوجب تعيين أقل مقدار من المال يكون له بال ولما كان ذلك مختلفاً شرعاً وعرفاً وجب الرجوع فيه إلى الشرع لأنه هو الموجب لأصل المال في النكاح تشريعاً له فوجب اعتبار أقل الأموال التي جعل الشرع لها بالاً ولم نجد أقل من نصاب السرقة فإن اليد ذات قدْر ولما قطعت في ربع دينار دل ذلك على أن ربع الدينار له بال فاعتبرناه الحد الأدنى للصداق ، وأما تحديد اليد بالكوع في التيمم فإننا لم نقسه على تحديدها في القطع بالسرقة بل لأن اليد إذا أُطلقت فإنها أظهر استعمالاً في الكف إذ هي حقيقة في الكف ومجاز في ما وراءها من الساعد والعضد واللفظ إذا احتمل الحقيقة والمجاز عُـدﱠ راجحاً في حقيقته لأنها هي الأصل ولأن الشارع أمرنا في الوضوء بغسل الأيدي إلى المرافق ولم يأمرنا في التيمم بمسحها إلى المرافـق ولأن النبي e حيـن علّم عماراً التيمم قال له : (( إنما يكفيك هكذا ،

ــــــــــــــ

1- حديث عمار بن ياسر وحديث أبي الجهيم الآتي هما أصح الأحاديث الواردة في صفة التيمم وكان عمار يفتي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على مسح الوجه والكفين وهو من علماء الصحابة وأعرف بالمراد مما رواه .

وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه )) رواه أحمد والشيخان .

الركن الثاني – العلة : وهي مَناط الحكم الذي أضاف الشارع الحكم إليه وناطه به والوصف الجامع بين الأصل والفرع كالإسكار الجامع بين الخمر الذي هو الأصل وبين النبيذ الذي هو الفرع ، ولها شروط تتوقف حقيقتها على وجودها ، ولها مسالك وهي الأدلة التي تدل على أن الوصف علة في الحكم .

أما شروطها فنوجزها في ثلاث مسائل رئيسية :

المسألة الأولى : يجوز بالاتفاق تعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي والحكم العدمي بالوصف العدمي وذلك كتعليل وجوب الزكاة بملك النصاب وتعليل عدم صحة التصرف بعدم العقل ، وأما تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي ففيه خلاف بين الأصوليين ومثاله قياس الجمهور الحاضر الصحيح في وجوب التيمم عليه عند فقده الماء على المسافر فاقد الماء ، فيقول المخالفون فقدان الماء ليس علة في وجوب التيمم لأنه وصف عدمي والوصف العدمي لا يكون علة في الحكم الوجودي فإن العلة لابد أن تشتمل في نفسها على حكمة أي على جلب مصلحة أو على درء مفسدة والعدم في نفسه لا يشتمل على حكمه (1) .

ــــــــــــــ

1- لم يستند الجمهور إلى القياس وحده في وجوب التيمم على الحاضر الصحيح عند فقـده الماء بل استدلوا قبل ذلك بالكتاب والسنة : استدلوا بقوله تعالى : (( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستـم النساء فلم تجـدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً )) مرجحين عودة ضمير (( فلم تجدوا ماء )) على أصناف المحدِثين المسافرين والحاضرين لا على المسافرين وحدهم ، واستدلوا بما رواه أحمد والشيخان عن أبي جهيم الأنصاري قال : (( أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام )) .

المسألة الثانية : يجب أن يكون الوصف المعلّلُ الحكم به ظاهراً غير خفي لأنه إذا كان خفياً كان أشبه بالمغيب فلا يصح التعليل به وبناء القياس عليه ، ومثاله تعليل القصاص بالقتل العمد فيقول المعترض العمد قصد نفسي وهو خفي فلا يصح التعليل به ولكن يصح بدلاً منه ما يظن وجوده عنده وإن كان بطبعه خفياً ويُسمّى (( مِظنة )) كتعليلنا نقل الملك في العِوَضين بالتراضي بين المتبايعين وقد قال تعالى : (( إلا أن يكون تجارةً عن تـراض منكم )) فإن الرضا وصف خفي لأنه من أحوال النفوس فلا يصح اعتباره علة بالاستقلال ولكن يعتبر بأمور ظاهرة تدل عليه كالإيجاب والقبول فإن قول البائع بعتُ دليل على رضاه بخروج المبيع من ملكه لقاء دخول الثمن في ماله وقول المشتري قبلتُ دليل على رضاه بخروج الثمن من ماله لقاء دخول المشترَى في ملكه ، ولما كان المعتبر عندنا وجود ما يدل على الرضا الذي هو المقصود في الأصل وكان الفعل أيضاً يدل على الرضا مثل دلالة القول عليه كالمعاطاة التي تحصل بين المتبايعين ذهب فقهاؤنا إلى أن البيع ليس من شروطه الصيغة اللفظية خلافاً للشافعية الذين لا يحكمون بانعقاد البيع إلا بالصيغة اللفظية الدالة على الإيجاب والقبول وأما الحنفية فيفرقون بين الأشياء المبيعة فيشترطون في النفيسة الصيغة اللفظية ويكتفون في الحقيرة بالمعاطاة وهذا عندهم من الاستحسان ، ووجهه أن الصيغة أدل على الرضا من المعاطـاة فيحسن أن يعتبـر في الأشياء النفيسة ما هو أدل عليه صوناً للبيع من التعرض لإنكار حصول الرضا فيه .

المسألة الثالثة : يجب أن يكون الوصـف منضبطاً غير مضطرب أي أن الأشياء التي تتفاوت في نفسها كالمشقـة تضعف وتقوى لذلك وجب ضبطها ليتأتى بنـاء الحكم عليها كالسفـر مثلاً فـإن الشارع رخـص للمسافر في قصر الصلاة لمشقة السفر ، ولكن المشقة المعتبرة في السفـر غيـر منضبطة لأنهـا تتفـاوت بطول السفـر وقصره وكثـرة الجهد وقلته

فلا يتأتى بناء الحكم عليها إلا إذا ُضبطت ، فعيّن الشـرع ما يضبطها وهو السفر مسافة يوم وليلة بسير الإبل المحملة وحـددت هذه المسافة بثمانية وأربعين ميلاً (2) ولذلك لم يحمل على السفر غيره من الأعمال المتعبة .

وأما مسالك العلة وهي الأدلة التي تدل علـى أن الوصف علـة في الحكم فإنها ستـة مسالك : الصراحة والإيمان والإجماع والمناسبة والدوران والشّبـَه .

المسلك الأول : الصراحة – وهي أن يرد في الوصف لفظ التعليل صريحاً كما في قوله تعالى : (( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولـذي القربى واليتامى والمساكيـن وابن السبيل كي لا يكـون دُولـةً بين الأغنياء منكم )) وفي قوله e (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضﱡ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )) (2) .

المسلك الثاني : الإيماء – وهـو أن يذكـر مع الحكم ما يبعد أن يكون لغيـر التعليل كقولـه e في الهـرة : (( إنها ليست بنجـس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافـات )) (3) فلو لم يكن التطواف علة لنفي النجاسـة لـم يكن لذكـره مع هذا الحكم فائـدة لأنـه معلوم أنها من الطوافات فكان في ذكره إيماء بأنه علة الحكم .

ــــــــــــــ

1- تقدر هذه الأميال بثمانين كيلو متراً .

2- حديث (( يا معشـر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتـزوج )) رواه أحمد والشيخـان وأصحاب السنن عن ابن مسعود .

3- قوله صلى الله عليـه وسلم في الهـرة : (( إنها ليست بنجس إنمـا هي من الطوافين عليكم أو الطوافــات )) رواه مالك وأحمـد وأصحاب السنن عـن كبشة بنت كعب بن مالك عـن حميهـا أبي قتادة .

ومنه قوله تعالى في بيان تعليل تحريـم الخمر والميسر : (( إنمـا يريـد الشيطان أن يوقع بينكم العـداوة والبغضاء في الخمـر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة )) وهـو إيماء إلى تعليل يطّـرد في كل مسكر وفي كل نوع من أنواع الميسر .

ومنه سؤاله e عن وصف يعلمـه ليبني عليه جواب ما سئل عنه ولو لم يكن الوصف للتعليل لكـان سؤاله عنه وهـو يعلمه خالياً من الفائدة كقوله حين سئل عن اشتراء التمر بالرطب : (( أَينقص الرطـب إذا يبـس فقالوا : نعم ، فنهى عن ذلك )) (1) .

ومنـه أن يذكر e حكماً عقب علمه بواقعة حديث فنعلم أن تلك الواقعة تتضمـن على ذلك الحكم كما ثبت (( أن رجـلاً أفطر في رمضان فأمـره رسول الله e أن يكفّر بعتـق رقبـة أو صيـام شهريـن متتابعين أو إطعام ستيـن مسكين )) (2) فكأنـه قـال من أفطر في رمضان عامداً فليـكفّر بعتـق رقبة أو بصيام شهريـن متتابعيـن أو بإطعام ستين مسكيناً . وعلمنا أن العلـة في وجوب إحدى هـذه الكفارات الثلاث هـي انتهــاك حرمة صوم رمضان بالإفطار فيه عمداً ، وقـد خصه الشافعيـة بالوقـاع الذي جاء صريحـاً في الروايـات الأخرى وقالوا إنه وحده العلة في وجوب الكفارة فلـم يوجبوها بالأكـل أو الشرب المتعمّد ، وأما الحنفية فنــاطوا وجوب الكفارة بمعنـى يتضمنه الوقاع وهـو اقتضاء شهـوة يجب الإمسـاك

ــــــــــــــ

1- حديث عـدم جواز اشتراء التمر بالرطب رواه مالك وأحمـد وأصحاب السنن عن سعد بن أبي وقاص قال : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقـال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أينقص الرطب إذا يبس فقالوا : نعم ، فنهى عن ذلك )) .

2- حديث الرجل الذي أفطر في رمضان رواه مالك عن أبي هريرة ورواه عنه أيضاً أحمد والشيخان وأصحاب السنن وفيه أن الرجل أفطر بمواقعة امرأته .

عنهـا فـإن الصيام هـو الإمساك عن اقتضاء شهوة البطن والفرج لذلك أوجبـوا الكفارة على من أكل أو شرب عامداً في رمضان لمـا فيه من اقتضاء الشهوة المنافي للصيام ولـم يوجبوها فيما لا تقتضيه الشهوة كابتلاع حصاة أو نواة ، وأما المالكية فلـم يعتبروا الشهوة مَناطاً للحكم لذلك لـم يوجبوا الكفارة على مقتضى الشهوة بـل على انتهــاك حرمة الصوم بتعمد إفساده بأي مفسد له ولـو مما لا يشتهى كابتلاع نـواة أو حصاة وهذا مما يسمّى عنـد الأصوليين بتنقيـح المناط وهـو أن يحـذف من محل الحكم ما لا مدخل له فيه ويبقى ما له فيه مدخل واعتبار .

المسلك الثالث : الإجماع – وهو أن يثبت كون الوصف علـة فـي حكم الأصل بالإجماع كالقرابة في استحقاق الإرث ، ومثاله إذا كان للمرأة أخوان أحدهما شقيـق فإنـه أولى بعقد نكاحهـا من الأخ لأب لأن زيادة القرابة من جهة الأم سبب تقديم الأخ الشقيق في الميراث بالإجماع فوجب تقديمه في ولاية النكاح بالقياس عليه .

المسلك الرابع : المناسبة – وهي أن يكون فـي المحكوم عليه وصف يناسب الحكم كالخمر مثلاً فإن فيها وصفاً يناسب أن تحرم لأجله وهو الإسكار المذهـب للعقـل الذي هـو منـاط التكليف وسبب الحصول عــلى السعادتين المعاشية والمعادية ، والمناسب هو مــا جاء على مقتضى المصالح بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم كإضافــة تحريم الخمر إلى إسكارها المذهب للعقل وهو إما أن يكون قد نص الشرع على اعتباره أو لا .

أما الذي نص الشرع على اعتباره فينقسم إلى مؤثر وملائم .

فالمنـاسب المؤثر هـو الذي يكون عينه معتبراً في عين الحكم كما في قوله تعالى : (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيدَيهما )) فإن عين السرقة معتبر في عين القطع وهو كثير ...

والمناسب الملائم هو الذي يكون عينه معتبـراً في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم .

فمثال الأول القول بإجبار الثيب الصغيرة على النكاح لأن الصغر علة في إقامة الولاية عليها في المال فيكون علـة في إقامة الولايـة عليهــا في النكاح أيضاً لأن عين الصغر معتبر في جنس الولاية .

ومثال الثاني تعليل فقهائنا الجمع بين الصلاتين في الحضر بالمطر للحرج الذي هو علة في الجمع بينهما في السفر فإن جنس الحرج معتبر في عين الجمع .

ومثال الثالث تعليل القصاص في الأطراف بالجناية التي هي معتبرة في القصاص في النفس فإن جنس الجناية معتبر في جنس القصاص .

وأما المناسب الذي لم ينص الشارع على اعتباره فيقاس به إذا ثبت الحكم على وفقه في صورة من الصور وهو المسمّى بالغريب كقياس فقهائنا المطلقة ثلاثاً في مرض الموت في استحقاقها الميراث على القاتل في حرمانه الميراث بجامع التوصل إلى الغرض الفاسد بينهما فيناسب أن يعامل بنقيض قصده فإن التوصل إلى الغرض الفاسد لم ينص الشارع على اعتباره أصلاً ولكنه رتب الحكم على وفقـه في صورة القاتل ، أما إذا لم يثبت الحكم على وفقـه في صورة من الصور فلا يقاس به (1) ويسمّى مرسلاً .

المسلك الخامس : الدوران – وهـو أن يوجــد الحكم عنـد وجود

ــــــــــــــ

1- شذ اللخمي من فقهائنا فقاس به وقال يجوز الاقتراع على إلقاء بعض أهل السفينة المشرفة على الغرق للتخفيف من ثقلهم عليها فقد رآه مناسباً لأن فيه نجاة بقيتهم ولكن الجمهور لا يقولون بجوازه لأن الأرواح أكرم من أن يقترع عليها وما جرى ليونس عليه السلام فإنه كان خاصاً بـه ليريه ربه عـز وجل من قدرته وحكمته ما يزيده علماً وإنابة وتسليماً .

الوصف ويعدم عند عدمه فيعلـم أن ذلك الوصف علة ذلك الحكم ، ومثالـه أن عصير العنب قبل أن يطرأ عليه الإسكار لم يكن محرﱠماً فلمـا حـدث فيه الإسكار صار محرماً فإذا ذهب عنه الإسكار ذهب عنه التحريم ولما دار التحريم مع الإسكار وجوداً وعدماً علمنا أن الإسكار علة التحريم .

ومنه احتجاج فقهائنـا على طهارة عين الكلب والخنزير قياساً علـى الشاة بجامع الحياة بين الثلاثة ، ودليلنا على أن الحياة على الطهارة هو أن الشـاة إذا ماتت وفي بطنها جنيـن حيّ صارت نجسة وبقي جنينها الحي طاهراً . ولما دارت الطهـارة مع الحيـاة وجـوداً وعدمـاً علمنا أن الحياة علة الطهارة .

المسلك السادس : الشّبَـه - وهو أن يتردد المسلك بين أصلين مختلفين في الحكم فيغلّب شبهه بأحدهمــا على شبهه بالآخر كالوضوء مثلاً فإنه متردد بين التيمم وبين إزالة النجاسة فيشبه التيمم من حيث أن المزال بهما وهو الحدث حكمي ويشبه إزالة النجاسة في أن المزال بهما حسي ، فالمالكية والشافعية يوجبون النيــة في الوضوء تغليبـاً لشبهـه بالتيمم ، والحنفيـة لا يوجبون النيـة فيه تغليباً لشبهه بإزالة النجاسة .

وكالعبد فإنه متردد بين الحر والدابة فيشبه الحـر لأنه مثله في الآدمية وفي أصل التكليف ويشبه الدابة لأنه مثلها يباع ويشترى وتتفــاوت قيمته بتفاوت أوصافه كسائر الأموال ، فالذين غلّبوا شبهه بالحـر أعطوه حق التملك والذين غلّبـوا شبهه بالدابـة لم يعطوه هذا الحق ، وقـد رأى الأولون شبهه بالحر أقوى من شبهه بالمــال لأن الشبه في الآدمية أصلي والشبه بالمال عرضي والأصلي أقوى من العرضي ، ورأى الآخرون شبهه بالمال أقوى لإيجاب القيمة بقتلـه بالغة ما بلغت على قاتلـه الحر وقالوا لو كان شبهه بالحـر أقوى لوجب على قاتلـه القصاص لا القيمة .

الركن الثالث : الفرع - ويشترط أن لا يكون فيه نص يثبت حكمه لأن القياس إنما يصار إليه عند خلوّ الفرع من الحكم الثابت له بالتنصيص وأما الاستـدلال بالقيـاس في مسألة ثبت حكمها بالنص فإنما هو لإقنـاع المخالف بصحة الحكم عند طعنه في النـص بما يـراه مضعفاً للاستدلال بـه لا لأن القياس هو الدليـل فيها ، وأن تكون العلـة موجـودة فيه لأنها هـي الوصف الجامع بينه وبين الأصل فإذا لـم تكن موجودة فـي الفرع امتنع كونـه فرعاً لـه ولأن المقصود وهو ثبوت مثـل حكم الأصل متوقف على ثبوت علته فيه كما في قيـاس فقهائنا عظام الميتة على لحمها في النجاسة لأن الحياة تحلها بدليل قولـه تعـالى : (( قال من يُحيي العظـامَ وهي رميم قـل يُحييهــا الذي أنشأهـا أولَ مـرة )) وما تحلـه الحيــاة يحله المـوت .

الركن الرابع : الحكم - ويشترط فيه أن يكون شرعياً لأن القياس دليل شرعي فلا يستدل بـه إلا على حكم شرعي وعلى هــذا فلا يجوز القياس في إثبات الأحكام العقلية ولا في إثبات الأسماء اللغوية على الأصح ، وأن يكـون معللاً لأنه إذا لم يكن معللاً فلا يكـون اشتراك بيـن الفـرع والأصل لفقدان الوصف الذي يجمع بينهما لذلك امتنع القيـاس على ما لم يعقـل معناه كمعظم التقديـرات والأعمال التعبديـة لخفـاء المعنى الـذي لأجله شرع الحكم فيها (1) .

هذا وقـد يُعترض على القياس بنفـي الحكم في الأصل ، أو بنفي وجود الوصف فيه ، أو بنفي كون الوصف علة ، أو بمعارضته بوصف آخر في الفرع يقتضي نقيض حكم الأصل إلى غير ذلك من الاعتراضـات التي يمكن رد القياس بها ...

ــــــــــــــ

1- راجع الشرط الثالث من شروط الأصل .

مثال الاعتراض بنفي الحكم في الأصل احتجاج الشافعية على غسل الإناء سبع مرات من شرب الخنزير بالقياس على شرب الكلب ، فينفي الحنفية الحكم في الأصل بتحديد مرات الغسل بالسبع محتجين بإفتاء أبي هريرة بغسل الإناء من شرب الكلب ثلاث مرات (1) وهو الراوي لحديث غسله سبع مرات لأنهم يرجحون العمل بتأويل الراوي ، ولكن الشافعية يرون الحكم بغسله سبع مرات ثابتاً في الأصل بالنص وهو قوله e (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) (2) ، وأما نحن المالكية فإننا نوافق الشافعية على ثبوت الحكم في الأصل بالنص إلا أننا لا نوافقهم على القياس عليه لاعتبار آخر وهو أننا نرى الأمر بغسل الإناء سبع مرات من شرب الكلب تعبديـاً فهو من باب الأصل المخصوص بالحكم وإن لم ينص الشارع على الخصوص فيه ولكن لم يعقل معناه فتعذر حمل غيره عليه .

ومثال الاعتراض بنفي وجود الوصف في الأصل احتجاج الشافعية على وجوب الترتيب في الوضوء بقولهم هو عبادة يبطلها الحدث كما يبطل الصلاة لذلك فإن الترتيب فيه واجب بالقياس على وجوبه في الصلاة ، فيقول الجمهور من فقهائنا لا نسلم بوجود الوصف الـذي هو إبطال الحدث في الأصل الذي هوالصلاة لأن الحدث عندنا لا يبطل الصلاة وإنما يبطـل الوضوء ، وببطلان الوضوء تبطل الصلاة لأنـه من شـروط صحتها فيثبت الشافعيـة إبطال الحدث للصلاة بقولهم من لم يجـد مـاء ولا ترابـاً إذا صلى ــــــــــــــ

1- إفتاء أبي هريرة بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات رواه الطحاوي والدارقطني ، ولكن ثبت أيضاً أنه أفتى بغسلـه سبعاً كما جاء في الحديث المرفوع وقد رجحت الرواية الموافقة للحديث على الرواية المخالفـة لـه إسناداً ونظراً - انظر (( فتح الباري )) و (( نيل الأوطار )) .

2- حديث (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة .

وأحدث في صلاته بطلت صلاته مع أنه ليس بمتوضئ .

ومثال الاعتراض بنفـي كون الوصف علة احتجاج الحنفية على أن المعتقـة تحت حـرّ لها الخيار بين البقاء في عصمته وبين مفارقته كالمعتقة تحت عبد لأنها ملكت نفسها بالعتق ، فينفي الجمهور كون ملكهـا نفسهـا بالعتق هو العلة ويقولون إنها لا تملك حق الخيار إلا إذا أُعتقت وهي تحت عبد وتكون العلة حينئذ عدم الكفاءة لأنها لما صارت حرة وزوجها عبد لـم يبق كفؤاً لها فملكت عندئذ حق الخيار ، فيقول الحنفية لقد روينـا عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة (( أن زوج بريرة كان حراً فلما أعتقت خيرها رسول الله e فاختارت نفسها )) (1) ، فيجيبهم الجمهور بأن روايتي القاسم وعـروة عنها (( أن زوجها كان عبداً (2) أرجح من رواية الأسود لأنهما اثنان وسمعا منهـا مواجهة دون حجاب مقابل واحد سمع من وراء حجاب وروايته معلولة بالانقطاع كما قال البخاري ، يضاف إليهما قول ابن عباس : (( كان زوج بريرة عبداً أسود يقال له مغيث )) كما جاء في صحيح البخاري .

ومثــال المعارضة بوصف آخر في الفرع يقتضي نقيض حكم الأصل احتجاج الشافعية على أن المديان تجب عليه الزكاة قياساً على غير المديان بجامع ملك النصاب ، فيقول فقهاؤنـا وفقهاء الحنفية لقد عارضَنا في الفرع معارض وهـو الدﱠينْ المستهلك للنصاب فاقتضى نقيض حكم الأصل الذي هو وجوب الزكاة بسبب تعلق حقـوق الغرمـاء بالمــال ، فيجيب الشافعية بأن الدﱠينْ لا يصلح للمعارضة لأنه متعلق بذمـة المديـان لا بعيـن ــــــــــــــ

1- حديث الأسود عن عائشة رواه أحمد وأصحاب السنن .

2- رواية القاسم عن عائشة لأحمـد ومسلم وأبي داود والدارقطني ، ورواية عروة لأحمد ومسلم وأبي داود والترمذي .

المال إذ لـو هلك بسببـه أو بغير سببه لـم يسقـط الدين عنه ، وأما الزكاة فهي متعلقة بعين المــال لا بالذمة إذ لـو هلك المال بغير سببه لسقطت الزكاة عنه .

قيـاس العكس

قياس العكس هـو إثبات عكس حكم الأصل في الفرع لتعاكسهما في العلة ، ومثاله قوله e حين قيل لـه : أيأتي أحدنـا شهوته ويكون لـه فيها أجـر ؟ (( أرأيتم لـو وضعهــا في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلـك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )) (1) .

فحكم الأصل هنـا ثبوت الوزر بوضع الشهوة في الحرام وحكم الفرع ثبوت الأجر بوضعهـا في الحلال وهمـا متعاكسان ، وعلة ثبوت الوزر وضعها في الحرام وعلة ثبوت الأجر وضعها في الحلال وهمـا متعاكستان وتعاكسهما هـو الذي اقتضى تعـاكس الحكمين لأن كلاً مـن الحكمين مترتب على علتـه فلما عاكست علـة الفرع الأصل ثبت للفرع عكس حكم الأصـل .

الاستـدلال

اعلم أن الاستدلال قياس منطقي يستنـد إلى تلازم بين الحكمين أو إلى

ــــــــــــــ

1- روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر (( أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال : أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ، إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقـة وكل تحميدة صدقـة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقـة وفي بضع أحدكم صدقة قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر )) .

إلى تنافٍ بينهما .

والأول ثلاثة أنواع : استدلال بالعلة على المعلول ، واستدلال بالمعلول على العلة ، واستدلال بأحد المعلولين على الآخر .

والثاني أيضاً ثلاثة أنواع : استدلال بالتنــافي بين الحكمين وجوداً وعدماً ، واستدلال بالتنـافي بينهما وجوداً فقط ، واستدلال بالتنــافي بينهما عدمـاً فقـط .

مثال الاستدلال بالعلة على المعلول احتجاج فقهـائنا على أن بيع الغائب صحيح بأنه حلال لدخولـه في مدلول قوله تعالى : (( وأحـل الله البيع وحرم الربـا )) ولمـا كان حلالاً كـان صحيحاً لأن الحل على الصحة .

ومثال الاستدلال بالمعلول على العلـة استدلال فقهـائنا علـى أن صلاة الوتر نافلـة بأنه يجوز للمسافر أن يؤديها على الراحلة (1) وما يجوز أن يؤدى على الراحلة فهو نافلـة فصلاة الوتـر إذاً نافلـة وذلك أن جواز أداء الصلاة على الراحلة معلول من معلولات النوافل التي يترخص فيهـا بما لا يترخص في الفرائض ولذلك لا يصح أداء الفرائض على الراحلة .

ومثال الاستـدلال بأحد المعلولين على الآخر احتجــاج الشافعية على وجوب الزكاة على المديان في النقديـن بوجوبها عليه في الحرث والماشية إذ هما معلولان لعلـة واحدة وهي ملك النصاب ، واحتجاج فقهائنا على أن المكره على القتل يقتل بأن المكره على القتل يحرم عليـه القتل ويعدﱡ عاصياً بـه إجماعاً وأن العصيان بالقتـل ووجوب القصاص به معلولان لعلة

ــــــــــــــ

1- جاء في صحيح مسلم عن ابن عمر قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلـم يسبح على الراحلة قِبَل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة )) .

واحـدة وهي أهلية القاتل للخطاب .

ومثــال الاستدلال بالتنافي بين الحكمين وجوداً وعدماً احتجاج فقهائنا على أن المديان لا تجب عليه الزكاة بـأن أخـذ الزكاة وإعطــاءها متنافيان وجـوداً وعدمـاً ، لأنه إما أن يعتبـر غنياً وإما أن يعتبر فقيـراً وعلى كلا الاعتبــارين يتعين أحـد الحكمين ويمتنع الآخر ، فإن اعتبـر غنياً وجب عليه إعطاء الزكاة وحـرم عليه أخذهـا ، وإن اعتبـر فقيـراً جـاز له أخذها وسقط عنه إعطاؤها ، وإذا ثبت التنـافي بيـن الحكمين وجوداً وعدمـاً وجب بوجود أحدهمــا عـدم الآخر ، ولمــا ثبت هنا أحدهما وهـو جـواز أخـذه للزكاة إجماعاً وجب عـدم الآخـر وهـو وجوبها عليه .

ومثــال الاستدلال بالتنافي بين الحكمين وجوداً فقط احتجاج الشافعية والحنابلة على عدم نجاسة المني بأن نجاسته وجواز الصلاة بـه متنافيـان ولما كانت الصلاة به جائزة فهـو ليس بنجس ، ومستندهم في جواز الصلاة به حديث عائشـة قالت : (( كـان رسول الله e يسلت المني من ثوبه بعرق الإذْخِر ثم يصلي فيه ويحته من ثوبـه يابساً ثم يصلي فيه )) (1) .

ــــــــــــــ

1- حديث عائشة هـذا رواه أحمد في مسنده وجـاء في روايات أخرى لمسلم وأصحاب السنن أنها كانت تفركه من ثوبـه ويصلي فيه ، ولكن المالكية رجحوا رواية الشيخين التي فيهـا أنهـا كانت تغسله فقد جـاء في صحيح البخاري أنها قالت : (( ... كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء )) وجاء في صحيح مسلم عنهـا (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلـى أثر الغسل فيه )) فذهبوا إلى أنه نجس وأنه بالأحداث الخارجة من البدن أشبه منـه بالفضــلات الطاهرة لخروجه من مخرج البول . وأما الحنفية فإنهم اتفقوا مع المالكية على نجاسته إلا أنهم قالوا تزول بالفرك إذا كان يابساً جمعاً بين رواية الغسل ورواية الفرك .

ومثال الاستدلال بالتنـافي بين الحكمين عدماً فقط احتجاج فقهائنا على طهارة مَيْتـة البحر بعدم تحريم أكلها فإن الطهارة وحرمـة الأكل لا يتفقان لأن كل ما ليس بطاهر فهو محرﱠم الأكل وكل ما ليس بمحرم الآكل فهـو طاهـر ولما كانت ميتـة البحر ليست بمحرمـة الأكل (1) وجب أن تكون ميتة طاهرة .

*

ــــــــــــــ

1- لقولـه صلى الله عليه وسلم حين سئـل عن التوضؤ من مـاء البحر : (( هـو الطهور ماؤه الحل ميتتـه )) رواه مالك وأحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة .

المتضمـن للدليــل

علمنا أن الاستدلال على الحكم الشرعي إما أن يكـون بدليل أصلي من الكتاب أو السنـة أو الاستصحاب أو القياس وقـد تقـدم الكلام عليه والتمثيل لكل نوع منه ، وإمــا أن يكون بمتضمن للدليـل من إجمـاع أو قـول صحابي أو مصلحة مرسلـة أو استحسان أو عرف أو سدّ للذرائع .

وإنما كان الإجماع متضمناً للدليل المعتبـر شرعاً لامتناع إجماع مجتهدي الأمة على حكم من غير استناد فيه إلى دليل شرعي وإن خفي علينا في بعض ما انعقد إجماعهم عليه .

كذلك قـول الصحابي فإنه أيضاً متضمن للدليـل لأن الصحابة كلهم عدول لثناء الله ورسولـه عليهم فلا يُظن بأي منهم الإقدام على قـول في الدين دون استناد إلى دليل شرعي .

ثم المصلحة المرسلة والاستحسان والعرف وسـدّ الذرائع فإنها أيضاً من المدارك الشرعية والأصـول الفقهية التي تبنى عليها الأحكام في المسائل المتصلة بها .

الإجمـاع

الإجماع هو اتفـاق مجتهدي الأمة بعد وفاة رسول الله e في عصر ( طال أو قصر ) على حكم شرعي .

وهو حجة قطعية وتحرم مخالفته لقوله تعالى : (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين لـه الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نولـه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً )) فمن اتبع غير سبيل المؤمنين انـدرج في هــذا الوعيد الشديد لأن مــا أجمعوا عليه من قول أو فعـل لا شك في أنـه سبيلهم ولا شك في أنه سبيل هـدى لأنهم لا يجتمعون على ضلالة وكـل سبيل غيـره سبيل ضلال لا يتبعه إلا ضال منشق عـن جماعة المؤمنين ، ولقولـه e (( إن أمتي لا تجتمع على ضلالـة )) (1) وقولـه : (( يـد الله مع الجماعة ومن شـذﱠ شـذﱠ إلى النار )) (2) وقوله : (( إن الله أجاركم من ثلاث خِلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعـاً وأن لا يظهر أهـل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة )) (3) ولأحاديث أخرى متواترة المعنى تتضمن عصمة الأمــة المحمدية من الضلال ومن الخطأ فيما تجتمع عليه رواها كبــار الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمـر وعبد الله بن مسعود وأبي هريـرة وأبي سعيـد الخدري وحذيفـة بن اليمان.

ــــــــــــــ

1- حديث (( إن أمتي لا تجتمع على ضلالة )) رواه ابن ماجه عن أنس بن مالك ورواه عنـه الدارقطني في (( الافراد )) وقال السخاوي في (( المقاصـد الحسنة )) بعد كلام طويـل : وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة .

2- حديث (( لا تجتمع أمتي على ضلالـة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار )) رواه الترمذي عن ابن عباس .

3- حديث (( إن الله أجاركم من ثلاث خــلال ... )) رواه أبو داود والطبراني عن أبي مالك الأشعــري .

هذا ويتعلق بالإجماع عشر مسائل رئيسية نوجزها فيما يلي :

المسألة الأولى : كل إجماع لا بـد أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي من الكتاب أو السنة أو القياس كالإجمــاع على تحريم الميتة والـدم ولحم الخنزير لقوله تعالى : (( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)) والإجماع على وجوب قضاء الصلاة على النائم والغافـل لقوله e (( إذا رقــد أحدكم عن الصلاة أو غفـل عنها فليصلها إذا ذكرها )) (1) ، والإجمـاع على تحريم شحم الخنزير بالقياس على لحمه ، والإجمـاع على تنجس الزيت إذا ماتت فيه فأرة بالقياس على السمن المائع .

المسألـة الثانية : الإجماع لا يختص بالصحابة خلافاً للظاهرية (2) وإجماعهم يشمل المجتهدين من التابعين الذين كانوا معهم وقت إجماعهم لأنهم يعتبرون من عصرهم .

المسألـة الثالثة : إذا أجمع التابعون على أحـد قولين للصحابة اعتبر إجماعاً لهم كإجماعهم على تحريم بيع أم الولد : فإن بعض الصحابة ومنهم عمر وعثمان حرموا بيعها ، وبعضهـم كأبي بكر وعلي وجابر وأبي سعيد وابن عباس أجازوه وبه أخذ الظاهرية (3) .

ــــــــــــــ

1- حديث (( إذا رقـد أحدكم عن الصلاة أو غفـل عنها فليصلهـا إذا ذكرها )) رواه مسلـم عـن أنس بن مالك ورواه عنه أيضاً بلفـظ (( من نسي صلاة أو نـام عنها فكفارتهـا أن يصليهـا إذا ذكرهـا )) .

2- وللمشهور عن الإمام أحمد الذي يرى تعـذر ضبط اتفاق مـن بعدهم لكثرتهم وتباعـد مواطنهم .

3- يقول الظاهرية لما انعقـد الإجماع على أنها مملوكة قبل الولادة وجب أن تبقى على ذلك بعدها إلى أن يدل الدليل على غيره ، فيردّ عليهم الجمهور بدعوى مماثلة إذ يقولون لما انعقد الإجماع على تحريم بيعها وهي حامل وجب استمرار مقتضى هذا الإجماع بعد وضعها حملها .

المسألـة الرابعة : لابد في الإجماع من اتفاق كل مجتهدي العصر فلا ينعقـد إذا خالـف بعضهـم ولو كان واحـداً إذا ما خالف فيه ممـا يسوغ فيه الاجتهاد لعدم ورود نص فيـه (1) ولكن يبقـى حجة لرجحانـه على ما ذهب إليه المخالف كاحتجاج الجمهور على العول في الفرائـض باتفاق الصحابة مع مخالفة ابن عباس ، واحتجاجهم على انتقاض الوضوء بالنـوم المستغرق باتفاق الصحابة أيضاً مع مخالفة أبي موسى .

المسألـة الخامسة : لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة وسائر الفرق المنشقة عن أهل السنة ولا يعتدّ بخلاف من أنكر القياس وتمسك بالظاهر وحده (2) .

المسألـة السادسة : لا إجماع يناقض إجماعـاً سابقاً لأن ذلك يستلزم تعارض دليلين قطعيين بناء على أن الإجماع دليل قطعي وتعارض دليلين قطعيين محال .

المسألـة السابعة : يثبت الإجماع عندنا برواية الآحاد له ، ولا يثبت بها عنـد الأكثرين باعتباره قطعياً ورواية الآحاد ظنيـة ولا يصح عندهم ثبوت القطعي بالظني ثم لا يعدونه في هـذه الحالـة حجة لعدم تسليمهـم بثبوته (3) وإن كانوا لا يقطعون ببطلان مذهب المتمسكين به في العمل خاصة.

ــــــــــــــ

1- وأما ما ورد فيه نـص كربا الفضل فلا يسوغ فيه الاجتهاد ولذلك لـم يعتبر القول المنسوب إلى ابن عباس بجواز ربـا الفضل مؤثّـراً في إجماع الصحابة للأحاديث الصحيحة التي نصـت على تحريمـه .

2- قال النووي في شرح مسلم : مخالفة داود الظاهري لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون .

3- وقد عـدﱠه البعض حجة لثبوته بالظن الكافي في العمل ومنهم إمـام الحرمين والآمدي والماوردي .

المسألـة الثامنة : الإجماع السكوتي حجة على الصحيح وإن اختلف في تسميته إجماعاً دون تقييده بالسكوتي ، وهو أن ينطق بعض المجتهدين بحكم ويسكت الباقون عنه بعد علمهم به لأن سكوتهم المجرد عن أمارة الاستنكار موافقة وإن لم ينطقوا بها (1) .

المسألـة التاسعة : إجماع أهل المدينة حجة عندنا في كل ما اجتمع عليه علماؤها : الفقهاء السبعة (2) وأمثالهم كنافع مولى ابن عمر ومحمد بن شهـاب الزهري وربيعـة بن عبد الرحمن التيمي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبـان بن عثمان بن عفان . ويرى مالك وقد تفقـه بفقههـم وجمعه وجوبَ أتباعهم فيما اجتمعوا عليه ويرجحه على الحديث إذا عملوا بخلافه لأنه كان يرى عملهم من عمل الرسول e أخذوه عن آبائهم وغير آبائهم من أصحابه الذين لازموه إلى أن توفي بينهم فكانوا أبصر وأعلم بما كان عليه آخر أمره فعملوا به وأخذه عنهم أبناؤهم وأحفادهم الفقهاء السبعة وغيرهم من كبار علماء المدينة وأماثل أهلها فقهاً وورعاً وحرصاً على السنة وتوثقـاً في الفتيا .

هذا وإجماع أهـل المدينة نوعان : نوع طريقــة النقل المتواتر سواء كان المنقول قولاً كالأذان والإقامة أو فعلاً كصفـة صلاته وحجة e أو ــــــــــــــ

1- ُنسب إلى الإمام الشافعي عدم اعتبار الإجماع السكوتي حجة لعدم اعتباره إيـاه إجماعاً وقيل هو معني قولـه : ( لا ينسب إلى ساكت قول ) وإذا لم يكن إجماعاً فلا يكون حجة لأن قول بعض مجتهدي الأمة ليس بحجة ، ولكن النووي قال في شرح الوسيط : الصحيح من مذهب الشافعي أنه حجة وإجماع ولا ينافيه قوله لا ينسب إلى ساكت قول لأنه محمـول عنــد المحققين على نفي الإجماع القطعي فلا ينافي كونه إجماعاً ظنياً ويكون مراده بقوله لا ينسب إلى ساكت قول نفي نسبة القول صريحاً لا نفي الموافقة كما يسمى سكوت البكر عند استئذانها إذناً ولا يسمى قولاً .

2- هم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسالم بن عبد الله بن عمر وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري وسليمان بن يسار الهلالي وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف .

إقراراً لما شاهده من أصحابه أو تركاً لأمور ظاهرة لم يدخلها في حكـم أشبهها كتركـه أخذ الزكاة عن البقول مع كثرتها في بساتين المدينة ، ونوع طريقة الاجتهاد سواء كان فتاوى أم أقضية .

أما النوع الذي طريقه النقل المتواتر فهو عندنـا حجة موجبـة للعلم القطعي وملزمة للأخذ بـه ولترك ما خالفه من خبر أو قياس لا يحصل بهما سوى الظن .

وأما النوع الثاني الذي طريقه الاجتهاد فإن بعض فقهائنا ومنهم أكثر علماء المغرب يعتبرونه حجة ويعزونه إلى الإمام لتمسكه به وتصريحه في رسالته إلى الليث بن سعد بوجوب اتباع أهل المدينة والتحذير من مخالفتهم ولكنهم لا يرفعون حجيته إلى مستوى حجية النوع الأول الموجبة للعلم القطعي والتي تُضعّف بها الأخبار المعارضة ويردﱡ العمل بها مع ثبوت صحتها ، وبعضهم لا يعتبرونه حجة ولكن يرجحونه على اجتهاد فقهاء الامصارالأخرى.

المسألة العاشرة : جاحد المجمع عليــه المعلوم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والصيام وحرمة الزنـا ولحم الخنزير كافر قطعاً لأن جحده يستلزم تكذيب رسول الله e وكذا جاحد المشهور المنصوص عليــه كحل البيع وحرمة الربا على الأصح .

قول الصحابي

كان الإمام مالك يأخذ بفتاوى الصحابة ويرى الأخذ بها واجبـاً ويعتبرها شعبة من شعب السّنـة (1) ومصدراً من مصادر الفقه ، لذلك دوﱠن

ــــــــــــــ

1- قال ابن القيم في أعلام الموقعين : فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه :

الأول : أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم .

الثاني : أن يكون سمعها ممن سمعها منه صلى الله عليه وسلم . =

في (( موطئه )) كثيراً منها إلى جانب الأحاديث النبوية وتلقاهـا أصحابه بالقبـول واحتجـوا بها كاحتجاجهم على وجوب كفارة واحدة على مـن كان له عـدة زوجات فظاهـر منهن معـاً بظهار واحد بقـول عمر بن الخطـاب (( إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهـر منهن تجزيه كفارة واحدة )) (1) ، وذهب أبو حنيفـة إلى أن قـول الصحابي إذا خالـف القيـاس كان حجة لأنه لا مدخل للرأي فيه فلا يكون إلا بتوقيف وإذا وافـق القياس لم يكن حجة لاحتمال الرأي فيه .

فمثال ما خالـف القياس قول عائشة (( أكثر ما يبقى الولـد في بطن أمه سنتان )) فإن هذا التحديد لا يُهدى إليـه بقياس ، ومثــال ما وافق القياس قول ابن عباس (( الأخوان ليس إخوة )) فإن هـذا يؤخـذ من القياس .

المصلحة المرسلة

لما كان المراد من الشريعة صلاح العباد وقيام مصالحهم الدينية ــــــــــــــ

= الثالث : أن يكون فهمها من آيـة من كتاب الله فهماً خفي علينا .

الرابع : أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده .

الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب أو لمجموع أمور فهمها على طول الزمان من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وسيرته وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود نزول الوحي ومشاهدة تأويله بالفعل يكون له من الفهم ما لا نفهمه نحن وعلى هذه التقارير الخمسة تكون فتواه حجة علينا .

السادس : أن يكون فهـم ما لم يرده النبي صلى الله عليه وسلم وأخطأ في فهمه وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة ، ومعلوم قطعاً أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين ولذلك يفيد ظناً غالباً قوياً وليس المطلوب إلا الظن الغالب والعمل به متعين .

1- رواه الدارقطني وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في رجل تظاهر من أربع نسوة له بكلمـة واحدة ( ليس عليه إلا كفارة واحدة ) وروى مثله عن ربيعة بن عبد الرحمن وقال : وعلى ذلك الأمر عندنا .

والدنيوية على الوجه الذي شرعه الله لهم من الواجب فيما لم يرد فيه نص أو أصل يقاس عليه ملاحظـة مقاصد الشريعــة ومراعاة مصالح الأفراد والجماعات بالمحافظة على حقوقهم ودفع الضرر عنهم .

وقد بُدئ بالمصلحة منـذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم أحدثوا أموراً لم يتقدم لها شاهد بالاعتبار ولا بعدمه ، منها تدويـن عمر الدّواوين وسك النقود واتخـاذ السجون ، وكتابـة عثمان المصاحف وهدمه الأوقاف التي كانت بإزاء المسجد وتوسعته بها وزيادته الأذان الأول على الزوراء يوم الجمعة حين كثر الناس واتسعت المدينة .

ولمـا كانت المصالح الواجب مراعاتها في استنباط الأحكام لا تعرف إلا بتعريف الشـرع لها ولا تقدر إلا بميزانـه قسمت من هذه الوجهة إلى ثلاثة أقسام : مصالح معتبرة من الشارع قد عُرف اعتباره لها بالقيـاس المعتبر شرعـاً ، ومصالح غير معتبرة من الشارع قد عُرف عـدم اعتباره لها كالمنع من غرس شجر العنب لئلا يعصر خمراً ، ومصالح لم يرد لهـا في الشرع اعتبار ولا عدمـه بل تركت مرسلة أي مطلقة دون شهادة لها بشيء وهذه هـي التي سُميت بالمصالح المرسلة وتكثـر في المعاملات وسياسة الرعية وتُعـدﱡ عندنا من مدارك الشريعة وأصولها التي تبنى عليها الأحكام كما تبنى على القياس ولكن بشروط ثلاثة :

الأول : أن تكون ملائمة لمقاصـد الشرع الضرورية لقيـام مصالح العباد ، تلك المقاصد التي إذا أُهملت لم تسِر حياتهم في دنياهم على استقامـة ونظام وإنصاف بل على عوج واضطراب وعدوان وهـي ( حفظ الديـن والنفس والعقـل والنسل والمال ) وذلك بأن لا تنافي أصلاً من أصول الشريعة ولا دليلاً من أدلتها القطعية .

الثاني : أن تكون معقولة في ذاتها أي جارية على الأوصاف المناسبة

المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول .

الثالث : أن يكون في الأخـذ بها حفظ أمر ضروري أو دفع ضرر بيّن أو رفع حرج شاق .

وذلك كجواز بيعة المفضول مع وجود الفاضل الأولى بالخلافة درءاً للفتنة والفساد واضطراب الأحوال ، وتوظيف الإمام على الأغنيــاء ما يكفي لحاجة الجند وسـدّ الثغور وإقامة السبل والمرافق العــامة إذا لـم يكن في بيت المـال ما يكفـي لذلك ، وجواز قتل الجماعـة بالواحد إذا اشتركوا في قتله ولم يتبيـن من حصل الموت من فعلـه لأن القتيل معصوم الـدم وإهدار دمـه يحمل على خرم أصل القصاص وعلى اتخاذ الاستعانــة ذريعة للقتل إذا عُلم عـدم القصاص فيه ، وجواز بتـر عضو من مريض يتوقف على بتره شفـاؤه وحفظ حياته لأن من مصلحته تحمل ألـم بتـره وضرر فقدانه في سبيل شفائه وحفظ حياتـه ، وهكذا سائـر الجراحات التي يتوقف عليها شفاء المرضى ، ومثلها كل حالـة تنحصر بين ضرريـن متفاوتين فإن من المصلحة إتيان الأخف منهما درءاً للأشد .

الاستحسـان

الاستحسان مدرك من مدارك الشريعة في مذهبنا قـال به إمامنا (1) في عدة مسائل خرﱠج عليها فقهاؤنـا كثيراً من النظائر والأشيــاء ، وهو الترخص في مخالفة مقتضى الدليل لمعارضة دليل آخر له في بعض مقتضياته من مراعاة لمقتضى الضرورة وجلب التيسيـر ورفع الحرج ودفع الضرر إلى غيـر ذلك من الأسبـاب المعتبرة شرعـاً كالترخيص لقاضي بلـدة ليس فيها ــــــــــــــ

1- وقال به أيضاً الإمام أبو حنيفة .

من تنطبق عليه شروط العـدالة في قبول شهادة أقربهم إلى الخير والصدق حتى لا تتعطل مصالحهم ، والترخيص في الاطلاع على العـورات عنـد الضرورة للمداواة والتمريض ، وتضمين أصحاب الطواحين وحاملي الأطعمة ما يهلك عندهم إذا لم يقيموا البينة على هلاكـه من غير سبـب منهم ، وتضمين الصناع المنتصبين للنـاس (1) ما يدﱠعون هلاكـه وذلك منعـاً للتهاون في حفظ أمـوال الناس مع أن الأصل عدم التضمين في غير التعمد ، وعدم إلزام الزوجة الشريفة بالإرضاع إذا كان يلحقهــا به تعييـر أو انتقاص استثناءً من قوله تعــالى : (( والوالدات يرضعن أولادهن )) ، والمطلقة يرتفع حيضها بلا سبب يكفيهـا انتظار تسعة أشهـر ( مدة الحمل غالباً ) وثلاثة أشهر ( عِدﱠة ) ثم تتـزوج مع أنها ليست من ذوات الأشهر لأنها لو بقيت دون زواج منتظرة معــاودة الحيض أو بلـوغ سن اليأس لتضررت وتعرضت للزلل ولأن المقصود من العدة وهو تحقيق البراءة من الحمل يتحقق بانقضاء المدة الغالبة له فتتحول إلى الاعتداد بالأشهر .

هذا ولم يقل بعض علمائنا بالاستحسان وردوا هـذه المسائل وأشباهها إلى القياس أو المصلحة أو العرف .

العــرف

العرف هو ما اعتاده فريق من الناس في أقوالهم وأفعالهم ومجاري حياتهم . ونحن نأخذ به (2) إذا لم يخالف نصاً قطعياً ونعتبره أصلاً من الأصول الفقهيـة المعينة على تعيين الأحكام الشرعية المطلوبـة للوقائـع التي

ــــــــــــــ

1- الصناع من هؤلاء يعرف بالمشترك . والذي لا ينتصب للناس يعرف بالخاص وهو غير ضامن وعند غيرنا الصانع الخاص هو الذي يعمل في منزل المستأجر له .

2- والحنفية أيضاً يأخذون بـه .

تتصل بها أو تجرى بحسبه . وهو عندنا يخصص العام ويقيــد المطلق ويفسر الألفاظ في العقود والأيمــان وكنايات الطلاق وسائر الألفــاظ المتعارف على مفاهيمهــا ، وهـو تابع للتبـدل وبحسب تبدله يكـون الإفتاء والقضاء (1) .

سـدّ الذرائـع

الذرائع هي الوسائل المؤديـة إلى مصالح أو مفاسد ، وحكمها كحكم ما تؤدي إليه من حلال أو حرام أو غيرهما ، والأصل في اعتبارها هـو النظر في نتائج الأفعـال وما تؤدي إليه لا في نية فاعلها وإن كان للنية اعتبارها عند الله الذي له وحده حق محاسبته عليها .

والمراد بسـدّ الذرائع منع الوسائل المؤدية إلى مفاسد وتنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية :

الأول : ما يكون أداؤه إلى المفسدة يقينياً كحفر بئر غيـر مسوﱠرة في مكان يمر منه الناس ليلاً ، وكالخلوة بشابة أجنبية ، ومصاحبة أهـل الدعارة والفجور ، وهذا حرام يجب منعه لأدائه القطعي إلى المفسدة .

الثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة راجحاً كحفر بئـر غير مسوﱠرة في مكان لا يمر منه الناس ليلاً وكبيع العنب لخمار وكشف الشابة الجميلة وجهها للأجانب ، وهـذا شبيـه بالحرام يجـب منعه لرجحان أدائه إلى المفسـدة .

الثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر بئر في مكـان غيـر مطـروق وكبيع مبيـد للحشـرات قاتـل للإنسان وكشـف المرأة المسنة أو

ــــــــــــــ

1- انظر (( الفروق )) للقرافي .

الدميمة وجهها للأجانب ، وهذا مباح لندرة أدائه إلى الضـرر مع قيام المصلحة وأصل الإذن .

وأما الذرائـع المؤدية إلى مصالح فلا يجوز سدﱡها ولا سيما إذا كانت المصالح متوقفة عليها وتكون حينئذ واجبة أو مندوبة أو مباحة بحسب حكم المصلحة نفسها كالسعي لصلاة الجمعـة والسفر للاستزادة من العلم والتنقل بين البلدان للتعرف عليها .

هذا والذرائع أصل من الأصول الفقهية عندنا والأخـذ بها ثابت في المذاهب الأربعة وإن لم يصرح بـه في بعضها ، وقـد اعتمد عليه مالك وأحمد أكثر من الشافعي وأبي حنيفـة اللذين لم يعتبـراه أصلاً قائمـاً بذاتـه بل مندرجاً في الأصول الأخرى المقررة عندهما .

*

الاجتهـَـــاد

الاجتهـــاد هو بذل الفقيه ما في وسعه من جهد لاستنباط الأحكام الشرعية من مداركها الفقهية . وهو مقصور على استنبـاط الأحكام ذات الأدلـة الظنيـة لأن الأحكام الثابتـة بأدلـة قطعية لا تدخل في دائرتـه إلا ما كان من متعلقهـا وهو المحكوم عليه أي المكلف والمحكوم فيه أي الفعل وما له من صفات وشروط وقيود وغيرها ...

ولا يعدﱡ الفقيه مجتهداً إلا إذا كان جامعاً لشروط الاجتهـاد من معرفة باللغة العربية وبلاغتها وبأصول الفقـه ومدارك الأحكام ومتعلقها من كتاب وسنة وإجماع وأسباب نـزول وورود وناسخ ومنسوخ ونص ومجمـل وظاهر ومؤول وعام وخاص وسائر أوجـه الـدلالات حتى اكتسـب بذلك قـدرة على فهم النصوص الشرعية ومراميها كمالك والشافعي وأبي حنيفـة وأحمد والليث بن سعد وسفيان الثوري وعبد الرحمن الاوزاعي ومحمد بن جريـر الطبري ... فكل من هؤلاء الفقهـاء الأئمة مجتهد مطلق لـه أصوله وقواعده ونهجه في الاستدلال واستنباط الأحكام .

ويأتي بعد المجتهد المطلق مجتهد المذهب وهـو الفقيه المتضلع القادر على الاستدلال واستنباط الأحكام من مداركها على نهج إمامه وأصوله وأقواله في المسائل دون أن يلتزم موافقته في كل اجتهاداته ، فقـد يخالفه في بعضها لظهـور ما يوجب عليه ذلك من دليل وجده أصح أو فهمه لـه رآه أصوب كعبد الرحمن بن القـاسم وعبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيـز في مذهب مالك ، والربيع بن سليمان المرادي وإسمـاعيل بن يحيي المزنـي ويوسف بن يحيي البويطي في مذهـب الشافعي ، وأبي يوسف بن إبراهيم الأنصاري ومحمد بن الحسن الشيباني وزفـر بن الهذيل الكوفي في مذهـب أبي حنيفة ، وأبي بكر الأثرم وإسحاق بن راهويه المروزي وأحمـد بن محمد ابن الحجاج المروزي في مذهب أحمد .

ويأتي بعد مجتهد المذهب مجتهد الترجيح وهوالفقيه المتبحر في مذهب إمامه أصولاً وفروعــاً ، المتمكن من ترجيح قول على آخر وتمييز أصح الأقوال من غيرها بالاستنـاد إلى الأدلة ومرجحاتها وأصول الإمام ومسائله وما روي عنه وعن أصحابـه وما دُوﱢن من فتـاويهم ولآرائهـم الفقهيـة . وهـذا النوع من الاجتهاد قـد يتجزأ فيُعنى بعض الفقهـاء بالتخصص في بعض أبواب الفقه كالعبــادات أو المواريث والوصايا أو النكاح والطلاق والتزاماتهما ، أو البيوع والعقود في الرجوع إلى مداركهـا واستقراء مسائلها وأدلتها وعلل أحكامها إلى أن يبلغوا فيها مرتبة الترجيح .

ويلي هذه الطبقة فقهـاء مقلدون اقتصروا على دراسة ما تيسر لهم من مؤلفـات مَن قبلهـم فحفظـوه كما هـو وعلّموه لغيرهـم كما تعلموه دون أن يكون لهم أثـر فيه غير التلخيص والشرح والتعليق والإشارة إلى مـا اختُـلف فيـه من الفـروع وما استقـر المذهـب عليه ، وهؤلاء فريقـان :

فريق أخذوا مع الأقـوال مستنداتها ووجوهها ومع الأحكام أدلتها وعللها ولكن دون أن تكون لهـم آراء ذاتيـة في تلك الأقـوال أو موازنـة بين الأدلة ترفعهم إلى مرتبة المرجحين فبقوا مقلدين ولكن عـلى بصيرة لاطلاعهم على أصـول إمامهم ومـدارك فقهه والأدلـة التي استنـد إليهـا في استنباطاتـه والمسائل التي رويت عنه وعن أصحابه وما خرﱠجه كبار الفقهاء عليهــا من الفروع في كل باب من أبواب الفقـه وفصوله وتحقيق المرجحين فيما اختلفوا فيه منها ، وهؤلاء أحرياء لأن يعتبروا فقهــاء متبعين لا علماء مقلدين .

وفريق أخذوا الأقـوال مجردة عن مستنداتهــا والأحكام عارية عن أدلتها واكتفوا بمعرفة الفروع الفقهية المبوبـة والفتـاوي المدونـة دون الرجوع إلى أصولهـا وشواهدهـا ، وهؤلاء أكثـر عدداً ولكنهم أدنى مرتبة من الفريق الأول وأشدﱡ منهم تقيـداً بالتقليد وتعصباً لـه لقصْـر علمهم عليه ، وحصر أنفسهم في فلكه ، لا يستشفون مـا وراءه من أضواء شموس الأدلة التي تكشف عن مدارك الأحكام ومناطاتها وتنير سبيــل الوصول إلى الفقه الأمثل بالعلم الأكمل .

والأئمـة المجتهدون كلهم على هدى من ربهم لأنهم بذلوا في اجتهادهم أقصى ما في وسعهم من جهد على ما عُـرف عنهم ودلت عليه آثارهـم ، وكانوا حائزين على شروط الاجتهاد مطلعيـن على مدارك الشريعة وأدلتها ومقاصدها ، مع ما أوتوا من بصيرة نافــذة ورأي فقهي مسدﱠد في استنباط الأحكام وتعليلهــا وحرص شديد على ارتيــاد الحق وتحري الصواب .

هـذا وقـد اجتهـد رسول الله e فيما لم يوحَ إليه وأذن به العلماء مـن أصحابه كمعـاذ بن جبل حين أرسلـه إلى اليمن وقـال لـه : (( كيـف

تقضي إذا عـرض لك قضاء ؟ قـال : أقضي بما فـي كتاب الله . قال : فإن لـم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنـة رسول الله e قـال : فـإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو . فضرب e بيده في صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضـاه رسولُ الله )) . وإقراره اجتهاد عمرو بن العاص في الصلاة بأصحابـه بالتيمم وهـو جنب إشفاقاً على نفسه من الهلاك بالبـرد إن اغتسل (1) ، وإقراره اجتهــاد أصحابه الذين صلوا العصر قبل وصولهم إلى بني قريظـة تخوفاً من فوات وقتها ، واجتهاد الذين لم يصلّوهـا إلا عنـد وصولهم كما أمرهم فلم يلُم هؤلاء ولا هؤلاء .

واجتهـد عمر بن الخطـاب وأمر شُريحاً بالاجتهاد حين ولاﱠه قضاء الكوفة فكتب إليه : إذا أتـاك أمـر فاقـضِ بما فيه في كتاب الله فإن أتـاك ما ليس في كتاب الله فاقضِ بما سنﱠ فيــه رسول الله فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنّ رسول الله فاقضِ بما أجمع عليه الناس فـإن أتـاك ما ليس في كتاب الله ولم يسّن فيه رسول الله e ولـم يتكلم فيـه أحد فأيﱠ الأمرين شئت فخـذ بـه . وكتب إلى أبي موسى الأشعري يقـول لـه : إن القضاء فريضة مُحْكمة وسُنّة متبعة ... الفهم الفهـم فيما تلجلج في صـدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسولـه e ثم اعرف الأشبـاه والأمثال وقـس الأمور عند ذلك بنظائرها واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق ...

ــــــــــــــ

1- روى أحمد وأبو داود وابن حبان والدارقطني والبخاري تعليقاً عـن عمرو بن العاص قـال : (( احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلمـا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب فقلت ذكرت قول الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ، فتيممت ثم صليت ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً )) .

واجتهد غير عمر ومعاذ وأبي موسى كثير من علماء الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعـود وابن عباس وزيـد بن ثابـت إلا أن عمر كان أرسخهم فيه قدماً لما أوتي من عمـق في النظر وسـداد في الرأي وجرأة في قول الحق لـم يُعرف مثلها لغيره من الأصحاب حتى لقد كانت بعض آرائه في عهد الرسول e ينـزل القرآن بها ، ولم يكن يقتصر في اجتهاده عـلى ظواهر النصوص بل كان ينظر أيضاً إلى روحها ومعانيها الخفية وإلى مقاصد الشريعة في حفظها لمصالح الأمة وتنظيم شؤونها : فقد أفتى بأن المطلقة إذا كانت من ذات الاقراء وارتفع حيضها لغير سبب من حمل أو رضاع أو مرض تنتظـر تسعة أشهر ( مدة الحمل غالباً ) وثلاثة أشهر ( عدة ) ثم لها أن تتزوج مع أنها ليست من ذوات الأشهر ناظراً إلى المقصود من العدة وهو تحقيق البراءة من الحمل ، وإلى مصلحة المطلقـة بإبعادها عن الضرر وخطـر الزلل إذا بقيت دون زواج منتظرة معاودة الحيض أو بلوغ سنّ اليأس (1) ، وأشرك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم إذا لم يبق للأشقاء شيء بعد أخذ ذوي الفروض فروضهم لأنه رأى الجميع يدلـون إلى مورثهم بأمهم ولأن في حرمان الأقوى إدلاء إليه باستئثار الأضعف إدلاء بما فرض له ضرراً على الأقوى (2) ، ووقف أراضي العراق والشام ومصر التي فتحت عنوة على جميع المسلمين ليصرف خراجها في مصالحهم في توفير الأسلحة والأرزاق للمجاهدين وبناء الجسور والمساجد وغيرها من المرافق العامة ، وذلك حين رأى الدولة الإسلاميـة ومدنها وتخومها قــد اتسعت بالفتـوح وعظمت نفقاتها ووافقـه

ــــــــــــــ

1- وروي أيضاً عن ابن عباس وأخذ به مالك .

2- ووافقـه على اجتهـاده في هـذه المسألة من الأصحاب زيد وعثمان وأخذ به من الأئمة مالك

والشافعي .

شيـوخ المهــاجرين والأنصار على اجتهاده هــذا بعد أن أقنعهـم بصوابه (1) .

هذا وأن اختلاف المجتهدين رحمة من الله بعبادة إذ أراد بهـم اليسر ولم يرد بهم العسر ولم يجعل عليهم في الدين من حرج وإن كان المصيـب فيما اختلفوا فيه واحداً منهم والآخرون مخطئون غيـر آثمين بل مأجـورون لأنهم بذلـوا ما في وسعهم من جهــد لتحصيل الحكم الأشبـه بالحق فـي كل مسألـة ليس فيهـا نص قطعـي يعيّن حكمها بدليل قطعي . هــذا مذهب الجمهور ومنهم إسماعيل بن إسحاق والقرافي وابن الحاجـب وابن فورك وسيف الدين الآمدي وفخـر الدين الـرازي وإسحـاق بن راهويـه وأبو إسحاق الاسفرارييني ونقـل عن مالك والليث وأبي حنيفة والشافعـي . قال أشهب : سمعت مالكاً يقـول ما الحق إلا واحد قـولان مختلفان لا يكونان صواباً معاً . وقـال القرافي في (( تنقيح الفصول )) : إن الله شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة ودرء المفاسد الخالصة أو الراجحة ويستحيل وجودها في النقيضين فيتحد الحكم .

وقــد اختلف أصحاب رسول الله e في بعـض المسائل وخطّـأ بعضهم أقـوال بعض ، وقـال e (( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فلـه أجران وإذا حكم فاجتهــد ثم أخطـأ فله أجـر )) (2) أي إذا أراد الحاكم الحكم فاجتهـد فحكـم ... الخ ، فبيّن أن الاجتهــاد فيـه الخطأ كما فيه الصـواب .

ــــــــــــــ

1- وأخذ به مالك والمراد من وقفها هنا تركها غير مقسومة لا الوقف المصطلح عليه .

2- حديـث (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فلـه أجران ... )) رواه أحمد والشيخان وأصحاب

السنن عن عمرو بن العاص وعن أبي هريرة .

وذهب بعض الفقهاء إلى أن كل مجتهد مصيب وقالوا ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين بل الحكم فيها يتبع الاجتهــاد وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما أدﱠى إليه اجتهاده (1) .

*

ــــــــــــــ

1- لمزيد من الاطـلاع على حجج كـل من فريقي التصويب والتخطئـة ومناقشتها يراجع كتاب (( المستصفى )) للغوالـي الذي يقــول بالتصويب وينتصر لـه ، وفي (( تنقيح الفصول )) للقرافي و (( إرشاد الفحول )) للشوكاني اللذين يقولان بالتخطئة وينتصران لها .

التقـْـليدُ والاتبـَـاع

قال السبكي في (( جمع الجوامع )) : التقليد هو أخــذ القول من غير معرفة دليله ويلزم غير المجتهد .

وقال الغزالي في (( المستصفى)) : التقليد هو قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقاً إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع .

وقال إمام الحرمين في (( الورقات )) : التقليد هو قبول قول القائل بلا حجة يذكرها وليس للعالمِ أن يقلد غيره لتمكنه بالقوة من الاجتهاد .

وقـال ابن عبد البر في (( جامع بيان العلم وفضله )) : الاتباع هو أن تتبع القائـل على ما بان لك من فضل قولـه وصحة مذهبـه ، والتقليد أن تقـول بقوله وأنت لا تعرفه ولا تعرف وجـه القـول ولا معناه وتأبى من سواه أو أن يتبيـن لك خطأه فتتبعه مهابة خلافـه وهـذا محرم في دين الله عز وجل . وقـال أيضاً : القـول لا يصح لفضل قائله وإنما يصـح بدلالة الدليل عليه ، وقـال نقلاً عن ابن خُويز مِنَـداد : كل من اتبعت قولـه من غير أن يجب عليـك لدليل يوجبـه عليـك فأنـت مقلـده وكل من أوجب عليك الدليـل اتبـاع قولـه فأنت متبعـه والاتباع في الديـن مسوﱠغ وأمــا

التقليد فممنوع ... ثم قال : لم يختلف العلماء في وجوب تقليـد العـامة علماءَها وأنهم هم المرادون بقـول الله عـز وجل : (( فاسألوا أهـل الذكر إن كنتم لا تعلمون )) .

وقال القرافي في (( تنقيح الفصول )) نقلاً عن ابن القصار قال مالك : يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلـة . وقـال مالـك أيضاً : ليس كلما قـال رجل قـولاً وإن كان لـه فضل يُتبع عليه فإن الله تعالى يقـول : (( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهـم الله وأولئك هـم أولو الألباب )) وقـال أيضاً : إن هـذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينـكم لقـد أدركت سبعين رجلاً ممن يقول قال رسول الله e عنـد هـذه الأساطين - وأشار إلى المسجد - فما أخـذت عنهم وإن أحدهـم لو اؤتمن على بيت مال لكان أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن ( يعني الحديث والفتيا ) . وقال أيضاً أدركت بهذا البلد أقواماً لو استُقي بهم المطر لسُقوا قـد سمعوا العلم والحديث كثيراً ، ما حدثت عن أحد منهم شيئاً لأنهم كانوا ألزموا أنفسهم خوف الله وهذا الشأن يحتاج إلى رجل معه تقى وورع وصيانة وإتقان وعلم وفهم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه .

هذه جملة من أقوالهم في التقليد والاتباع بسطتها لك لتتدبرها وأنت تدرس أصول الفقه وفروعه فتعمل على تحرير نفسك من دائرة التقليد المغلقة إلى ساحـة الاتباع المستنيـرة بأنوار الأدلة فإنها أجدر بطلب العلم وأوجب إذ لا ينبغي لمن يعلم أن يبقى في مستوى من لا يعلم ولا يجوز له أن يلتزم التقليد المحض وهو قادر على الاتباع بعطف الفروع على الأصول وقرنها بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وسائر المدارك الفقهية وما ذلك بعسير على من يجدﱡ في الطلب ويثابر عليه . ولا ترجئ الدخول في ساحة الاتباع المشرقة إلى أن تحيط علماً بالفروع والأصول بل اعمل له وأنت تدرس واجعله بغيتك التي تطلبهـا وهدفك الذي ترمي إليه ، فيقوّي هذا الطموحُ جدك في الطلب وحرصك على ربط الفروع بأصولها والمسائل بأدلتها ، إلى أن تفرغ بهـذه الطريقة من دراسة جميع أبواب الفقه وما يعرض لك فيها من المسائل فتجد في نفسك حينئـذ الميل إلى التوسع والاستقصاء في الأمهات من كتب الفقه والفتيا والأصول وفي آيات الأحكام وأحاديتها من كتب التفسير والسنة ، وإلى الاطلاع على فهم الأئمة لها وطرق استنباطهم الأحكام منها وما اتفقوا عليه واختلفوا فيه ، وإلى تحري أسباب الخلاف وعوامل الترجيح والموازنة بين الأدلة والمرجحات بالاستناد إلى ما كسبته من ملكة فقهية نيرة ، وإلى التمحيص العلمي العميق والله المستعان وهو ولي التوفيق .

- انتهـى والحمد لله -

المحـْــتَوى

الموضوع الصفحة

المقدمة ........................................................ 5

توطئة ......................................................... 7

الاستدلال على الحكم الشرعي.................................. 9

التواتـر....................................................... 10

خبر الآحاد..................................................... 11

اتضاح دلالة الدليل الأصلي النقلي ............................. 23

القسم الأول من أقسام المتن وهو القول ......................... 23

دلالة القول بمنطوقه – الأمر والنهي والتخيير................... 23

القول من حيث دلالته على المعنى.............................. 39

النـص ....................................................... 40

المجمل وأنواعه والقرائن المرجحة لأحد الاحتمالين ............ 42

الظاهر وأسباب اتضاح دلالته ................................. 49

المؤول وأدلة رجحانه في المعاني التي تؤول فيها .............. 63

دلالة القول بمفهومه ........................................... 75

القسم الثاني من أقسام المتن وهو الفعل ........................ 81

القسم الثالث من أقسام المتن وهو التقرير....................... 82

استمرار حكم الدليل الأصلي النقلي – النسخ ................... 85

رجحان الدليل الأصلي النقلي .................................. 93

مرجحات السند ............................................... 93

مرجحات المتن ............................................... 98

الاستصحاب .................................................. 103

القيــاس .................................................... 107

قياس الطرد وأركانه الأربعة .................................. 107

الأصـل ...................................................... 108

العلــة ...................................................... 112

الفـرع ....................................................... 119

الحكـم ....................................................... 120

قياس العكس .................................................. 122

الاستدلال المنطقي ............................................ 122

المتضمن للدليل ............................................... 127

الإجمـــاع ................................................ 128

إجماع أهل المدينة ............................................ 130

قول الصحابي ................................................ 132

المصلحة المرسلة ............................................ 133

الاستحسان ................................................... 135

العـرف ..................................................... 136

سد الذرائع ................................................... 137

الاجتهاد وشروطه ............................................ 139

التقليد والاتباع ................................................ 147

· * *

الوجيـز الميسـر

في أصـول الفقـه المالكي

تأليــف

محمد عبد الغني الباجقني

الطبعة الأولى 1968 ف

الطبعة الثانية 1983 ف

الطبعة الثالثة 2005 ف

([1]) وهو ينقسم عند فقهاء المالكية إلى سنة ورغيبة وفضيلة .

([2]) أي في قوله تعالى : (( وأمها تُكم اللاّتي أرضْعنكم وأخواتكمُ من الرضاعة )) والمالكية يعتبرون الإرضاع المحرّم الذي جاء فيه مطلقاً لا مجملاً والأصل في المطلق بقاؤه على إطلاقه فيتحقق ولو بوصول قطرة واحدة إلى الجوف أثناء الحولين وبه قال علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة والزهري ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وعليه عمل أهل المدينة .

([3]) أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قال : (( حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين)) ، وقال الحافظ بن حجر في الفتح : ((صرّح جمع مـن الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين منهم العشرة)) ، وقال النووي في شرح مسلم : (( روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة )) .

([4]) هم الشيعة الإمامية والخوارج .

([5]) حديث (( لا نكاح إلا بولي )) رواه أحمد وأصحاب السنن عن أبي موسى الأشعري وأخرجه الحاكم وصححه وقال قد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش ثم سرد تمام ثلاثين صحابياً – انظر شرح هذا الحديث في نيل الاوطار للشوكاني .

([6]) حديث (( إذا مسّ أحدكم ذكره فليتوضأ )) رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابـن خزيمة وابن حبان والحاكم عن بُسْرة بنت صفوان ، ورواه ابن ماجه أيضاً عن أم حبيبة ، ورواه كذلك أحمد وابن حبان والبيهقي والطبراني عن أبي هريرة .

([7]) حديث (( كل مسكر حرام )) أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي موسى ورواه مالك والشيخان أيضاً عن عائشة بلفظ (( كل شراب أسكر فهو حرام )) .

([8]) هذا القول المنسوب إلى ابن معين لم يثبت عنه فقد قال الحافظ ابن حجر: (( لا يعرف هذا عن ابن معين )) . وقال ابن الجوزي : (( إن هذا لا يثبت عن ابن معين وقد كان مذهبه انتقاض الوضوء من مس الذكر )) .

([9]) حديث (( البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو حتى يفترقا )) رواه أحمد والشيخان عن حكيم ابن حزام ، ورواه مالك عن ابن عمر بلفظ (( المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار )) .

([10]) الموقوف على الصحابي أيضاً حجة عندنا سواء كان قولاً أو فعلاً ، وكان إمامنا يأخذ بفتاوى الصحابة وأقضيتهم وقد أثبت كثيراً منها في موطّئه مع الأحاديث المرفوعة لأنه يرى أنهم إما أن يكونوا قد سمعوها أو شاهدوها من النبي صلى الله عليه وسلم أو فهموها من كتاب الله عز وجل .

([11]) قالت ميمونة : (( وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثاً ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يـده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثاً ثم أفرغ على جسده ثـم تنحى من مقامه فغسـل قدميـه قالت فأتيته بخرقة فلم يُرِدْها وجعل ينفض الماء بيده )) .

([12]) لا يجوز عندنا أن يقرأ المأموم فيما يجهـر فيه الإمام لثبوت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمره بالانصات أثناء قراءته ولعموم قوله تعالى : (( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا )) ويندب له أن يقرأ فيما يسرّ فيه الإمام لما رواه مالك في الموطأ أن عروة بن الزبير والقاسم بن محمد ونافع بن جبير بن مطعم كانوا يقرؤون خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة وقال الأمر عندنا أن يقرأ الرجل وراء الإمام فيما لا يجهر فيه الإمام بالقراءة .

([13]) أي بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت .

([14]) رواه أحمد وابن ماجه وقال النووي في شرح مسلم إسناده حسن ورجاله ثقات معروفون ولكن الذهبي قال حديث منكر– انظر ترجمة خالد بن أبي الصلت في (( ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب )) .

([15]) قال الدارقطني : تثبت عدالة المجهول برواية ثقتين عنه ، ولكن الأصح عدم ثبوت العدالة له بذلك وإن قبلت روايته .

([16]) حديث (( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وصححه ابن ماجه والحاكم وابن حبان .

([17]) قال المناوي في (( فيض القدير )) أبطل الحاكم هذا الإنكار بأن أبا عاصم وعبد الرزاق ويحيى ابن أيوب وحجاج بن محمد صرحوا بسماعه عن الزهري .

([18]) حديث (( فيما سقت السماء والعيون .. )) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عمر دون جملة (( إذا بلغ خمسة أوسق )) وجاء في بعض رواياته ( بعلاً ) بدل (عثرياً) والعثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي ( أي بعلي كما يقول العامة ) .

([19]) حديث (( ليس فيما دون خمس ذود صدقة . . . )) رواه مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن أبي سعيد الخدري )) .

([20]) جاء في المدونة عن ابن القاسم قال وقال مالك : لا أعرف رفع اليدين في شيء من تكبير الصلاة لا في خفض ولا في رفع إلا في افتتاح الصلاة يرفع يديه شيئاً خفيفاً .

([21]) هذه الأحاديث الثلاثة من رواية سحنون في المدونة ، وحديث ابن مسعود رواه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي ورواه كذلك ابن عدي والدارقطني والبيهقي بلفظ (( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند الاستفتاح )) وقد حسنه الترمذي وصححه ابن حزم وضعفه آخرون – انظر (( نيل الأوطار )) .

([22]) راجع الهامش السابق

([23]) راجع الهامش السابق

([24]) حديث (( أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء )) أخرجه أبو داود في السنن والترمذي في الشمائل وابن خزيمة في الصلاة عن أبي أيوب الأنصاري وقد رمز السيوطي في جامعه الصغير لصحته ولكن يحيى القطان ضعفه – انظر (( فيض القدير )) للمناوي .

([25]) حديث عمرو بن العاص هذا رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وابن حبان وأخرجه البخاري تعليقاً وقال الحافظ ابن حجر : إسناده قوي .

([26]) من السلف القائلين بعدم صحة الاعتكاف دون صوم ابن عباس وابن عمر ومولاه نافع والقاسم بن محمد ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي .

([27]) رواه أيضاً مرفوعاً أحمد وأصحاب السنن عن أبي موسى الأشعري – انظر شرح الحديث في نيل الأوطار .

([28]) المراد بها كل ما يدل على الأمر من سائر صيغه وإنما اختير التعبير بأفعلْ لخفته وكثرة دورانه في الكلام .

([29]) روى أحمد والشيخان عن عمر بن أبي سلمة قال : (( كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة فقال لي : يا غلام سمّ ِ الله وكل بيمينك وكل مما يليك )) .

([30]) كالإمام فخر الدين الرازي والقاضي أبي الطيب وأبي حامد الأسفراييني وأبي إسحاق الشيرازي وأبي المظفر السمعاني .

([31]) مذهب ضعيف ذهب إليه أبو هاشم الجبائي وبعض أصحابه من المعتزلة .

([32]) كأبي حامد الغزالي وسيف الدين الآمدي والقاضي أبي بكر الباقلاني وصرح الإمام الشافعي في كتاب (( أحكام القرآن )) بتردده بين الوجوب والندب .

([33]) حديث (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة وجاء في بعض رواياته ولغ بدل شرب ومعنى الولوغ الشرب بطرف اللسان شأن الكلاب عادة .

([34]) ولكن بشرطين : الأول أن لا يخاف فواتها ، والثاني أن يعزم على أدائها فيما بعد وإلا كان آثماً بالتأخير الذي قد يفضي إلى الفوات .

([35]) قال القرافي في التنقيح : الأمر عند مالك للفور أُخذ ذلك من أمره بتعجيل الحج ومنعه تفرقة الوضوء ومن عدة مسائل في مذهبه .

([36]) لأن سنّ الستين تنذر بقرب الأجل أو بالعجز غالباً ولأن الله أعذر إلى عبده عند بلوغها فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة )) .

([37]) حديث أبي هريرة هذا رواه أحمد ومسلم والنسائي والرجل هو الأقرع بن حابس كما جاء عن ابن عباس في روايته لهذا الحديث .

([38]) أخرج أبو داود عن أبي مسعود الأنصاري : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح مرة بغلس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يُسْفر )) وأصله في الصحيحين والنسائي وابن ماجه ، وروى مالك وأحمد والشيخان وأصحاب السنن عن عائشة قالت : (( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن مايُعرَفن من الغلس )) .

([39]) هذا في الواجبات المخيرة وأما في الواجبات المرتبة كما في كفارة الظهار فإنه لا يجوز فيها العدول عن الأول إلا عند تعذره .

([40]) رأي ابن القاسم في عدم صحة إمامة العبد والمسافر في صلاة الجمعة منقول مثله عن الإمام في المدونة وعليه المذهب .

([41]) فاقد الطهورين لا تجب عليه الصلاة ولا تصح منه في مشهور المذهب أخذاً بقول الإمام ولا يقضيها بعد ذلك كالمجنون والمغمى عليه والحائض والنفساء لفقدان شرط من شروط الوجوب وهو التمكن من طهارة الحدث وشرط من شروط الصحة وهو الطهارة من الحدث .

([42]) حديث (( إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها )) رواه مسلم في صحيحه عن أنـس بـن مالك ، ورواه عنه أيضاً بلفـظ (( من نسي صـلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها )) .

([43]) قال القرافي في التنقيح : ما لا يتم الواجب المطلق إلا به - وهو مقدور للمكلف - فهو واجب لتوقف الواجب عليه ، ثم شرحه شرحاً شيقاً فاطّلعْ عليه .

([44]) والبعض ومنهم الغزالي يرونه متردداً بين التحريم والكراهة .

([45]) أخرج الترمذي عن ابن عمر : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ُيصلى في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله )) وقال : إسناده ليس بالقوي لأن فيه زيد بن جبيرة وهو ضعيف ، وقـال النسائي : ليس بثقة ، وقال ابن معين والبخاري : متروك .

([46]) باستثناء أعطان الإبل فإن الصـلاة فيها مكروهة عندنا كراهة تعبدية لقوله صلى الله عليه وسلم : (( صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل )) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن أبي هريرة .

([47]) أخرجه الشيخان عن جابر بن عبد الله قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اُعطيت خمساً لم ُيعطَهن أحد من الانبياء قبلي ُنصرت بالرعب مسيرة شهر وُجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيتُ الشفاعة وكان النبي ُيبعث إلى قومه خاصة وُبعثت إلى الناس عامة )) قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أمام ملأ كبير من أصحابه .

([48]) حديث أبي أيوب هذا أخرجه الشيخان وأحمد وغيرهم .

([49]) حديث ابن عمر هذا رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن .

([50]) ثبـت النهي عن نكاح الشغـار في عدة أحاديث صحيحة أخرجهــا أحمد والشيخان وأصحاب السنن . ونكاح الشِغار هو البُضع بالبضع من دون صداق ، كأن يقول رجل لآخر أزوجك أختي مقابل تزويجي أختك من دون مهر .

([51]) عند المالكية يفسخ نكاح الشغار قبل الدخول مطلقاً أي ولـو سمي فيه صـداق وبعد الدخول وإن طال إن لم يسمﱠ فيه صداق فـإن سمي النكاح كـأن يقول : زوجتـك ابنتي بكـذا على أن تزوجني ابنتك بكذا .

([52]) حديث النهي عن التصرية رواه الشيخان عن أبي هريرة ، والتصرية ربط الضروع .

([53]) حديث (( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )) رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة .

([54]) انظر ما نقله القرطبي وابن كثير عن أئمة التفسير حول هذه الآية وما استنبطه منها أبو بكر ابن العربي في كتابه (( أحكام القرآن )) .

([55]) الجاشم : المتكلف . عزيم عزائك : تصميم صبرك .

([56]) حديث المستحاضة أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده وهو حديث ضعيف لأن الذي رواه عن عدي بن ثابت أبو اليقظان عثمان بن عمير وهو متروك الحديث ومنكره وقال ابن حبان : اختلط حتى لا يدري ما يقول .

([57]) الضغن كالضغينة : الحقد . الفرض : الضخم .

([58]) حديث فَضالة بن عبيد أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .

([59]) هذه المسألة من المسائل المعضلة التي اختلف فيها العلماء وتعدد فيها التأويل والاستدلال فارجع فيها إن شئت إلى (( تفسير القرطبي )) و (( أحكام القرآن )) لأبي بكر بن العربي .

0 تعليق:

إرسال تعليق