بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

نظام التأديب بين العقاب الجنائي والمسئولية المدنية

 


إعداد: المستشار / طارق البشري         

  الجهة: النائب الأول لرئيس مجلس الدولة ورئيس الجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع ( الأسبق )   


تبقي عندي فقرة واحدة في هذا الموضوع ، وهي فقرة تعيدني من جديد إلى مجال التردد وعدم الحسم. وهي تتعلق بإجراءات التأديب تحقيقا ودعوي ، بالنسبة للموظفين العموميين. وإذا كانت الفقرات السابقة قد أفضت إلى ترجيح وضع النظام التأديبي برمته في النطاق الإداري المدني ، بعيدا عن المجال الجنائي ، فان التعرض لما يتبع وما هو مرسوم من إجراءات للتحقيق والدعوى تعيدنا ثانية علي الحفاف من القانون الجنائي. 


ومن المعروف أن قانون الإجراءات الجنائية يفترض وجود قانون العقوبات ، فالجريمة والعقوبة المحددتان في قانون العقوبات هما ما يتعلق بهما نشاط السلطات العامة الذي ينظمه قانون الإجراءات الجنائية ، فقانون الإجراءات هو وسيلة تحريك قانون العقوبات. 


وإذا كان الجريمة تمثل عدوانا علي المجتمع وعلي أمنه وسلامته واستقراره ، فان نوع العقاب المحدد لمواجهة الجرائم ، يبلغ من الشدة ما يبرره الحفاظ علي أمن الجماعة وسلامته. وهي شدة تصل كما سبقت الإشارة إلى حد إهدار حياة المجرم أو حريته أو ماله. فالجريمة التي يقررها قانون العقوبات فادحة الأثر علي المجتمع والعقاب الذي يواجهها به القانون عينه فادح الأثر علي مرتكب الجريمة. 


وعلي هذا المستوي الخطير من الخلل وردعه ، ترك أحكام قانون الإجراءات الجنائية ، لذلك فهي تفوق أنواعا من التدابير من جنس المخاطر والمعالجات التي يتضمنها القانون العقابي ، أي تعرف الحبس الاحتياطي ، والتفتيش وغير ذلك مما يمس مبادئ حقوق الإنسان والمواطن. 


وعلي قدر هذه الخطورة ترد الضمانات التي يوردها قانون الإجراءات الجنائية ، كفالة لحصر استخدام السلطات العامة نشاطها في مواجهة الجريمة ، حصره في أضيق نطاق يمكن من تعقب الجريمة ومرتكبيها ومحاكمتهم والحكم عليهم . لذلك يتضمن هذا القانون تقسيما للسلطات العامة التي تتولى معالجة الجرائم ، بين هيئات عديدة ، لكل منها من الضمانات ما يكفل أعمالها للسلطة في احسن حال يرتجي . وهذه الهيئات في النظام المصري هي: الضبطية القضائية ، والنيابة العامة ، وقاضي التحقيق ، والمحاكم ، وسلطات تنفيذ العقاب. 


ومن أهم الضمانات أيضاً الكافلة لحسن أعمال السلطة في هذا الشأن . أن تكون الهيئات المنوطة بها هذه السلطة ذات وضع احتكاري لما نيط بها من نوع نشاط ، ليكون لها من الاستقلال ومن السطوة ما تستطيع به إنفاذ مهامها في إطار التوازن الدقيق بين ملاحقة الجريمة وفرض نظام المجتمع وبين مراعاة حقوق الإفراد وضماناتهم كبشر ومواطنين ، وكفالة حرياتهم وكراماتهم. 


إن ذكر كل ما سبق يكشف عن فروق عميقة واسعة بين النظام الجنائي والنظام التأديبي للموظفين والعاملين بعامة . فالقانون الجنائي – عقوبة وإجراءات – يهدف إلى حماية المجتمع ، والنظام التأديبي يهدف إلى حماية مؤسسة العمل ، هيئة كانت أو مرفقاً عاماً ، أو منشاة خاصة . والجريرة هنا تتعلق بأوضاع العمل في المرفق ، وعقوبتها هي من جنسها خطراً ، فهي تنحصر في الحقوق العقدية أو الوظيفية التي ترتبت علي عمل العامل في هذا المرفق. ولذلك فان المجال التأديبي جرائر وجزاءات لا يحمل ثقل الأدوات التي أعدها نظام الإجراءات الجنائية للمجال الجنائي. 


لذلك لم يكن التنظيم الإداري بحاجة إلى توزيع السلطات العامة التي تتداول تحريك نظام العقاب التأديبي بمثل ما صنع قانون الإجراءات الجنائية. ولا كان التنظيم الإداري بحاجة ماسة إلى أن يقيم هيئات ذات وضع احتكاري بالنسبة لأي من مستويات تتبع الجريرة الإدارية وتوقيع الجزاء عليها ، وان كان ثمة حرص علي التأكيد علي كفالة نوع الضمانات التي تحمي العامل والموظف مما عسي أن تعتسفه السلطات الرئاسية من حقوق في العمل فاشترطت القوانين وجوب التحقيق لإثبات واقعة المخالفة ومواجهة العامل بما نسب إليه وسماع أقواله بشأنه ، وذلك قبل توقيع الجزاء عليه. واشترطت بعض الإجراءات بالنسبة لأوضاع توقيع الجزاءات الشديدة كالفصل مثلاً. وكان توقيع الجزاءات أمراً يسند إلى الجهات الرئاسية في كل مجال عمل أو إلى لجان أو مجالس يتوافر في تشكيلها بعض الحيدة ومراعاة النصفة. 


ولكن حدث أن بدا النظام التأديبي يقتبس من النظام الجنائي من حيث الإجراءات والضمانات والهيئات المنوط بها التحقيق وتقرير الجزاء. ومن هنا في ظني يعود اقترابه من النظام الجنائي ، من الناحية الإجرائية. 


هناك ملاحظات أوردها سريعة ، وهي اقرب إلى مباحث علم اجتماع القانون منها إلى النظر القانوني الفقهي ، (الملاحظة الأولى): وهي أن الوظيفة العامة في بلادنا تشغل وضعا اجتماعيا لا يبلغه عمل أخر إلا في القليل النادر ، وهي سمة من سمات غالب المجتمعات الشرقية وخاصة المجتمعات التي تعتمد علي الزراعة النهرية ، حيث كان للدولة المركزية من قديم الزمان وظيفة اجتماعية تتعلق بضبط موارد المياه والإشراف علي توزيعها وعلي شبكات الري ، وهي وظيفة تتصل بأصل انتظام الجماعة ومعاشها في هذه الأقطار. وهذا أمر تشهد به أوضاع الجغرافيا السياسية . فللدولة سيطرة وللعمل فيها كرامة ، هذه واحدة. 


(والملاحظة الثانية) وهي مستدعاة من التاريخ المصري ، وهي أن ذوي الفكر السياسي ودعاة الإصلاح الاجتماعي منذ الثلاثينيات من هذا القرن ، كانوا يعتبرون اصلاح أداة الحكم وإصلاح أوضاع الإدارة العامة في مقدمة عواصل النهضة بالمجتمع كله ، وقد نظروا إلى تداول الأحزاب والقوي السياسية للحكم بوصفه عامل اضطراب وعدم استقرار لجهاز الإدارة العامة ، لاختلاف السياسات وتعارضها ، ولان كل حزب يصل إلى الحكم يميل إلى إفادة أنصاره في الوظائف العامة ، مما أشاع ما عرف باسم "المحسوبية" و "الأستثناءات" في توليه الوظائف والترقي فيها. وكاد أن يستقر عن مطالب الإصلاح في الفكر الاجتماعي السائد منذ ذلك الوقت ، موضوع إقرار ضمانات للموظفين يؤمن استقرار هذا الجهاز ، وانصرافه عن الاضطرابات والصراعات الحزبية ، إلى وضع السياسات الاجتماعية اللازمة للنهوض وتنفيذها علي المدى الطويل. ومن هنا عاد التفكير في إنشاء " مجلس الدولة " ليكون من وظائفه إلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة ومنها ما يتعلق بدعاوى الموظفين ، ومن هنا أيضا جد التفكير في إنشاء " ديوان الموظفين " ليكون جهة مركزية تضع السياسات العامة للتوظف وتشرف عليها في أجهزة الإدارة كلها. وقد تم الإصلاح الأول في 1946 والثاني في 1950م. وصار تأمين الأوضاع الوظيفية من شروط النهضة الوطنية ومن عوامل الاستقرار الاجتماعي. 


(والملاحظة الثالثة) أن المرحلة التاريخية التي مرت بها مصر في الخمسينيات والستينيات ، قد قرنت أهداف النهوض الاجتماعي والاقتصادي بسيطرة الدولة علي المقدرات الاقتصادية ، وعرفت حركة التاميمات وظهور القطاع العام في كل مجالات الإنتاج والخدمات ، وادي ذلك إلى أن صارت الهيئات المشرفة عليها الدولة سواء أجهزة الإدارة العامة أو هيئات الخدمات أو الإنتاج ، صارت هذه كلها هي مجال العمل الأساسي بالنسبة لكافة فئات العمالة وأنواعها ، وخاصة بالنسبة لخريجي الجامعات والمعاهد العليا. تكشف لي الملاحظات السابقة عن ثلاثة عوامل اخذ بعضها بسناد بعض ، لتقضي مجتمعة إلى شعور عام اجتماعي بان الوظيفة العامة تكاد أن تصل إلى أن تكون من حقوق المواطنة ، وان الضمانات التي تكفل للموظف استقراره إنما تكفل للمواطن أمنه الاجتماعي في الحصول علي العمل والبقاء فيه والحصول علي دخله ، وفي الترقي وكسب القيمة الاجتماعية . لا أقول أن قائلا افصح عن ذلك ، ولا أقول أن مذهبا سياسيا أو اجتماعيا دعا إلى ذلك ، ولا أقول أن مبدأ قانونياً جرت به أحكام المحاكم أو آراء الفقهاء ، قعد قاعدة بهذا المدلول . ولكن أقول أن شعوراً جمعياً وتوافقاً اجتماعياً عاماً ، كان يهدي السالكين في مجال الإفتاء والقضاء إلى ما به يتحقق هذا المفاد ، وكان ذلك ينعكس في الحلول التشريعية التنظيمية والإجرائية. 


ولقد ظهر في مصر تنظيم "النيابة الإدارية" كهيئة تتولى التحقيق في المخالفات الإدارية للموظفين واقامة الدعوى التأديبية عليهم. ظهر هذا التنظيم في 1954 م بالقانون رقم 480 ، ثم أعيد تشكليها بالقانون رقم 117 في سنة 1958. وقد تكونت علي صورة قريبة من صورة النيابة العامة التي تتولى شان الدعوى الجنائية ، ولكن جاء تكويناً – بطبيعة الحال – ايسر كثيراً مما يلائم يسر الدعوى التأديبية مقارنة بالدعوى الجنائية. ولم يجز للنيابة الإدارية حبس المتهم احتياطياً وان أجاز لها القانون الأذن بتفتيش الأشخاص والمنازل (م9) ، ولم اعلم أن هذه السلطة مورست ، إلا أن يكون ذلك في النذر النادر من الحالات ، وبعد ذلك نشأت المحاكم التأديبية بمجلس الدولة تقام أمامها الدعاوى من النيابة الإدارية. ثم ما لبث دستور 1971 أن خص مجلس الدولة بنظر المنازعات الإدارية والدعاوى التأديبية ، بوصف ذلك من جوهر أعمال حكم المؤسسات ومراعاة ضمانات الإفراد. 


كل ذلك أحاط النظام التأديبي بعبق جنائي ، ولم يكن أساس ذلك طبيعة المخالفة ولا نوع العقاب ، ولكن كان أساسه ومحركه ومثيره هو التشابه في التكوين التنظيمي والإجرائي بين النيابة الإدارية والنيابة العامة وبين مرحلتي التحقيق والدعوى في كل منهما. وتردد استخدام المصطلح الجنائي في هذا الشأن بما يلائم النظام التأديبي. 


وإذا كانت المحكمة الإدارية العليا قد ذهبت في عامي 1961 ، 1962 م إلى تطبيق الإجراءات الخاصة بقانون المرافعات المدنية والتجارية في شان الدعاوى التأديبية ، بحسبان أن هذا القانون هو ما أحالت إليه أحكام قانون مجلس الدولة فيما لا يرد بشأنه حكم في قانون المجلس ، فان المحكمة عدلت من بعد عن ذلك المذهب ، وصارت في شئون الدعاوى التأديبية تستعين وتستهدي بقانون الإجراءات الجنائية فيما لا نص فيه في قانون مجلس الدولة وأيدها في ذلك غالب فقه القانون الإداري . وهذا ما عليه العمل إلى ألان.


0 تعليق:

إرسال تعليق