بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الشمولية الاسلامية بين ثوابت العقيدة ومرونة التشريع

محمد عياش الكبيسي *
الملخص
جاء الاسلام – وهو الرسالة الخاتمة – ليحقق النعمة التامة والرحمة الشاملة لكل العالمين " وما ارسلناك الا رحمة للعالمين "([1])، وقد ظل الاسلام المصدر الوحيد لهذه الامة في عقيدتها وشريعتها ومنهاج حياتها، ولم يشعر المسلمون بحاجتهم الى مصدر اخر على مر العصور واختلاف الاحوال، وظلت الاجيال المؤمنة تنهل من نبع الاسلام الصافي وتستند اليه في كل تصوراتها وتشريعاتها، حتى سقوط الخلافة الاسلامية المريع وما تبعه من انقطاع حضاري انسى الامة كثيرا من تاريخها المجيد، مما فتح المجال للغزو الثقافي الخارجي الذي عدد في الامة دوائر الولاء بعد ان افقدها وحدة المصدر الذي تلقي عليه، فراح بعض المتأثرين بهذا الغزو يشككون في مصدرية الاسلام نفسه وقدرته على استيعاب الحياة المعاصرة بكل تعقيداتها وتفريعاتها .
وهذا البحث يهدف اولا الى تأصيل الشمولية الاسلامية تأصيلا عقديا من خلال ربط معنى الشمولية بأصول الايمان كالتوحيد، وختم الرسالة، وعقيدة الحساب والجزاء، ثم الاستدلال عليها بالادلة الثابتة المتفق عليها عند المسلمين :
القرآن الكريم والسنة الصحيحة .
ثم يتناول البحث امكانية تحقق الشمولية على ارض الواقع، من خلال سعة المصادر التشريعية في الاسلام ومرونتها وقابليتها لاستيعاب المستجدات والمتغيرات، وبذلك نصل الى الموازنة المطلوبة بين الثوابت العقدية التي تمثل هوية الامة وتميزها وبين مرونة الشريعة التي تلبي حاجة الامة وتحقق مصالح الانسان على هذه الارض وسعادته الابدية .
المقدمة
يواجه الاسلام اليوم جملة من التحديات الفكرية الخطيرة، كان من ابرزها واكثرها خطورة التشكيك بصلاحية الشريعة الاسلامية للتطبيق في هذا العصر، وقدرتها على استيعاب المستجدات والحاجات التشريعية اللامتناهية، واخذت الدعوة الى حصر الاسلام في قضايا الغيب (العقيدة) ومسائل العبادة (الشعائر) وبعض احكام الاسرة (الاحوال الشخصية) تلقى رواجا لا سيما في صفوف المتأثرين بالفكر الغربي ممن لم تكن لهم الدراسة المتخصصة في العلوم الاسلامية .
وربما ساهم في رواج هذه الشبهة ان هؤلاء لم يعيشوا الحياة الاسلامية بمعناها الشامل على ارض الواقع، فمنذ سقوط الخلافة وتفكك الامة لم تعد الشريعة مهيمنة كما كانت في القرون الماضية على كل مجريات الحياة، فلم يروا من الاسلام الا هذه الصورة الجزئية التي بقيت في مرحلة تخلف الامة وتفككها .
يضاف الى ذلك ان مفكري الاسلام ودعاته الذين ينادون بالشمولية الاسلامية وينددون بفصل الاسلام عن الحياة لم يقدموا المنهج التفصيلي المقنع، وقد يكون هذا لاسباب اكبر من طاقة هؤلاء المفكرين والدعاة انفسهم .
اما بعد ظهور المد الاسلامي او ( الصحوة الاسلامية ) فقد تعاظم الحماس لارجاع الاسلام الى الساحة أو لعودة الامة الى الاسلام الشامل، لكن الذي وجدته ايضا عند هؤلاء الشباب ان شمولية الاسلام التي يجاهدون في سبيلها لا تعدوا عندهم الا تصورات نظرية تقوم على اسس عقدية راسخة، اما في مجال التطبيق وكيفية استيعاب الاسلام لكل هذه المستجدات على ارض الواقع ( تخطيطا وتنفيذا ) فلا زال التصور ضعيفا وقد يكون مضطربا مما اعطى مبررا لتمسك الطرف الثاني بفكرته الناقصة عن الاسلام .
وفي هذا البحث احاول ان اضع لبنة او خطوة ارجو ان تكون في الطريق الصحيح، وبدأت بتلمس الخيط الذي يربط بين معنى الشمولية في الجانب العقدي وبين الشمولية في جانبها العملي، وقد تناول البحث بعد هذه المقدمة المباحث الاتية :
- المبحث الاول : في معنى الشمولية لغة واصطلاحا، وبروز هذا المصطلح كنقطة ساخنة في ساحة الصراع الفكري المعاصر .
- المبحث الثاني : وتناول صلة الشمولية وجذورها في العقيدة الاسلامية من حيث صلتها بعقيدة التوحيد واسماء الله الحسنى اولا ثم من حيث صلتها بالايمان بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، واخيرا من حيث صلتها بعقيدة اليوم الاخر، يوم الحساب والجزاء .
- المبحث الثالث : وافردته لدراسة النصوص الدالة على الشمولية من الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة .
- المبحث الرابع : وتناول صلة الشمولية بالمصادر الشرعية، وامكانية استيعاب هذه المصادر لمستجدات الحياة مع الاحتفاظ بوحدة المصدر لكل هذه التشريعات وقد ركزت في البحث على المصادر التبعية ( الاجماع والقياس والمصالح المرسلة والعرف )
- الخاتمة : وتضمنت خلاصة النتائج التي توصل اليها الباحث.
والله اسأل ان اكون قد وفقت فيما هدفت اليه وان اخطأت فالكمال لله وحده – وحسبي ان اضع جهدي في خدمة هذه القضية المحورية .
اللهم اني اسألك الاخلاص في النية والسداد في القول والعمل .
المبحث الاول

 في معنى الشمولية

الشمولية من الشمول وهو بمعنى العموم، جاء في لسان العرب : " شملهم الامر يشملهم شملا وشمولا ... عمهم "([2])
وفي الاصطلاح قد تطلق بمعنى العالمية فالاسلام رسالة الله الى العالمين كافة " وما ارسلناك الا رحمة للعالمين ([3]).
الا ان الشائع – لا سيما عند المفكرين الاسلاميين – استخدام هذا المصطلح بمعنى الاحاطة، اي : احاطة الاسلام بكل ما يحتاجه الانسان من عقائد واحكام وتشريعات في كل مجالات حياته ومراحلها وفي مختلف انشطته المادية والروحية والفردية والجماعية ([4]) والحق ان هذا المعنى ما كان محل خلاف بين المسلمين في يوم من الايام حتى سقوط الخلافة الاسلامية وما تبعها من خضوع الامة لسلطان المستعمر الغالب، فلم يرد في الماضي ان واحدا من علماء المسلمين جوز الاحتكام لغير الله في اي شأن من الشؤون، ولم يرد التشكيك في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان عن واحد منهم، وسيأتينا – إن شاء الله – بعض اقوالهم الصريحة في اثبات شمولية الاسلام، وحسبي هنا ان اشير الى ان شيخ الاسلام ابن تيمية – رحمة الله – قد الف رسالة خاصة في هذا اسماها " شمول النصوص لاحكام افعال العباد" جاء في مقدمتها :
" فإنما انكر ذلك من انكره لانه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي اقوال الله ورسوله وشمولها لاحكام افعال العباد، وذلك ان الله – تعال – بعث محمد صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول انواعا كثيرة، وتلك الانواع تتناول احيانا لا تحصى فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العبادة ([5])
وابن تيمية هنا لا يناقش قوما انكروا شمولية الاسلام فليس في زمانه من ينكر هذا ولكنه يناقش القائلين ببعض المصادر التابعة للنصوص والمنبثقة منها ذاهبا الى ان النصوص وحدها تكفي بالمعنى الذي فصله انفا .
اما بعد سقوط الخلافة وتعرض الامة للغزو الثقافي الذي لا يقل خطورة عن الغزو العسكري فقد ظهرت بعض الشبهات حول صلاحية الشريعة للتطبيق لا سيما بمعناها الشمولي ([6]).
وكان من الطبيعي ان ينبري علماء الامة لرد هذه الشبهات مما ينتج عنه تبين اكثر وتفصيل ادق لمعنى المشولية، يقول الاستاذ حسن البنا :
" لم يحاولوا ان يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الاسلام ولا مظاهره وشكلياته، لكنهم حاولوا ان يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواح قوية علمية، فأمهموا المسلمين ان الاسلام شيء والاجتماع شيء اخر، وان الاسلام شيء والقانون شيء غيره، ومسائل الاقتصاد لا تتصل به ... وان الاسلام شيء يجب ان يكون بعيدا عن السياسية ... هذا المعنى المتضائل لفكرة الاسلام وهذه الحدود الضيقة التي حدد بها معنى الاسلام هي التي حاول خصوم الاسلام ان يحصروا فيها المسلمين ... ان الاسلام شيء غير هذا المعنى الذي ارار خصومه ... ان يحصروه فيه ويقيدوه به، وان الاسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوة، وخلق، ومادة وثقافة وقانون ([7]).
ان هذا تلخيص جيد لحقيقة المشكلة القائمة، وتبيين لمعنى الشمولية الذي استقر في كتابات المفكرين الاسلاميين ولا بأس ان اضع بين يدي القارئ الكريم نماذج من هذه الكتابات :
يقول الاستاذ محمد قطب :
" يشمل هذا المنهج الرباني كل حياة الانسان ... لا يأخذ عقله دون روحه ... لا يأخذ دنياه ويترك اخرته ولا يأخذ اقتصادياته او اجتماعياته او سياساته ويهمل اخلاقياته، كلا انه شامل لكل كيان الانسان ([8])
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي :
" فمما لا شك فيه ان هذه الشريعة من عند الله – عز وجل – فكما لها مستمد من كمال من انزلها ... ومنزل هذه الشريعة هو خالق هذا الانسان فهو يعلم ما يحتاج اليه الانسان في حياته المادية والمعنوية، الفردية والجماعية الدنيوية والاخروية " ([9])
ويقول المستشار علي جريشة :
" والشرعية الربانية تظل بمثلها ومبادئها واصولها الفرد والاسرة والامة والدولة ... والشمول يمتد من مجال العقيدة الى مجال الاخلاق والعبادات ثم المعاملات بكل صنوفها " ([10])
ثم جاء الشيخ سعيد حوى ليرسم لوحة لمعنى الشمولية ونقتبسها منه كما رسمها هو :
الاسلام
مؤيدات : الجهاد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حكم وعقوبات .
بناء " مناهج حياة " : منهاج سياسي، منهاج اقتصادي، منهاج عسكري، منهاج تعليمي، منهاج اخلاقي، منهاج اجتماعي .
اركان – عبادات : صلاة، زكاة، صوم، حج
عقيدة : الشهادتان، الايمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الاخر ([11])
هذه النماذج بينت بوضوح معنى الشمولية الاسلامية عند المفكرين الاسلاميين وهي محل النزاع الكبير ومورد التساؤلات الكثيرة، فهل الاسلام فيه فعلا كل هذه الانظمة بهياكلها وعقدها وتفاصيلها ؟ وهل هذه كلها بنصوص الوحي المعصوم الوحي المعصوم او هي من نتائج اجتهادات الفقهاء المعرضة للنقص والخطأ والخلاف ؟
لن نستعجل الجواب عن هذه الاسئلة ونحوها وسنطلع اولا على جذور هذه القضية في مصادر الاسلام الحقيقية وعسانا بعدها نحسن الجواب ببصيرة وهدى بعد توفيق الله الكريم ومدده.
المبحث الثاني :

 الشمولية والعقيدة الاسلامية :

المبدأ الاساس الذي تقوم عليه الشمولية في الاسلام هو مبدأ عقدي وان كانت من حيث التطبيق على صلة وثيقة بأحكام الفقه التفصيلية، وسنتناول الصلة بين مفهوم الشمولية واصول العقيدة من خلال المحاور الاتية :
· المحور الاول : الشمولية من مقتضيات التوحيد
التوحيد هو اساس الدين وركنه الركين لا ينازع في هذا احد، لكن ما معنى التوحيد ؟ ان للعلماء تعريفات وتقسيمات كثيرة، ولكي لا يثقل البحث بمناقشة هذه الاجتهادات المتقاربة او المتباينة، رايت ان استقى معاني التوحيد كما هي في مصدر الاسلام الاول " القران الكريم " لاان القران الذي عد التوحيد قضيته الاولى في صراعه مع الشرك او الجاهلية، لا بد انه قد جاء بأكمل بيان وادق تفصيل، وفيما يأتي خلاصة لمعاني التوحيد كما وجدتها في القران الكريم .
· المعنى الاول : توحيد الله في الخلق :
ان اول معنى يطرحه القران من معاني التوحيد هو اثبات وحدانيته – تعالى – في الخلق، فلا خالق الا الله، يقول القرآن : " الله خالق كل شيء"([12]).
ويقول : " قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق ثم يعيده، قل الله يبدؤ الخلق ثم يعيده فأنّى تؤفكون " ([13])
وكثيرا ما يؤكد القرآن هذه الحقيقة في تفاصيل الخلق فيقول : " والذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون " ([14])
ويقول " أنا صببنا الماء صبا، ثم شققنا الارض شقا، فأنبتنا فيها حباً وعنبا وقضبا، وزيتونا ونخلاً. وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا، متاعا لكم ولا نعامكم " ([15])
ولكن هل كان المشركون ينازعون في هذه القضية ؟ القرآن يقول عن المشركين : " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله" ([16]).
ويقول : " ولئن سألتهم من خلق السموات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنّى يؤفكون " ([17]).
ويؤكد هذا بقوله : " ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله "([18]).
إن القرآن لم يرد ان يقنع المشركين بهذا المعنى من التوحيد فهو ليس محل نزاع، وانما اراد ان يصل من هذا المعنى المتفق عليه الى معان اخرى ثار حولها النزاع .
· المعنى الثاني : توحيد الله في الملك :
يقول القرآن الكريم مفرداً الله في حقه في ان يملك جميع مخلوقاته : " لله ملك السموات والارض وما فيهن وهو على كل شيء قدير " ([19]) ويقول : " الذي له ملك السموات والارض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره الله تقديراً" ([20])
ويقول : " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " ([21])
ان هذه الايات جاءت بوضوح لتربط بين هذا المعنى والذي قبله، وهذه علاقة منطقية فالذي يخلق كل شيء هو الذي يملك كل شيء والذي لايخلق شيئا لا يملك شيئا .
واما ما يملكه الانسان من متاع الدنيا فهو لا يخرج عن ملك الله، اذا المالك و المملوك مخلوقان لله مملوكان له من كل وجه، ثم هو في الحقيقه تسخير وتخويل وليس ملكا حقيقيا، ولهذا يقول القرآن : "وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه"([22]). ويقول " " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم اول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " ([23])
والانسان عليه ان يتصرف في هذه الدنيا بما يمليه عليه خالقها ومالكها الحق :
" وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " ([24])
المعنى الثالث : توحيد الله في الحكم والتشريع .
وهذا نتيجة طبيعية للمعنيين الاوليين، فإذا كانت الاشياء كلها مخلوفة لله ومملوكه له فلله اذا الحق وحده في حكمها والتصرف فيها بما يشاء، وحجر المالك عن التصرف في ملكه بلا مسّوغ ظلم. فكيف بمن ينسب هذا الحق لغيره اصلا ؟ يقول القران وهو يناقش المشركين في هذه القضية الخطيرة : " ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه احد " ([25])
ويقول ايضا : " ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " ([26])، ويقول على لسان سيدنا يوسف – عليه السلام :- " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله امر الا تعبدوا إلا اياه ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون ([27]).
يقول ابن كثير في تفسيره للآية الاولى : " اي انه – تعالى – هو الذي له الخلق والامر الذي لا معقب لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس " ([28]).
وفي تفسيره للاية الاخيرة يقول سيد قطب :
" وهنا يضرب يوسف – عليه السلام – ضربته الاخيرة الحاسمة، فيبيّن لمن ينبغي ان يكون السلطان، لمن ينبغي ان يكون الحكم، لمن ينبغي ان تكون الطاعة ... إن الحكم لا يكون إلا لله فهو مقصور عليه – سبحانه – بحكم الوهيته، اذ الحاكمية من خصائص الالوهية، فمن ادعى الحق فيها فقد نازع الله – سبحانه – اولى خصائص الوهتيه " ([29])
وقد ظن بعض الناس ان صاحب الظلال هو اول من نادى بهذا المعنى من معاني التوحيد، حتى سمعت من يصمه بالبدعة، وهذا وهم، اذ الايات صريحة في هذا، واقوال اهل العلم في هذا اكثر من ان تحصى، وخدمة للقارئ الكريم ولخطورة الموضوع أقدم هذه النماذج من اقوال العلماء :
يقول حجة الاسلام الغزالي : " وفي البحث عن الحاكم يتبين ان لا حكم إلا لله وأنه لا حكم للرسول ولا للسيد على العبد ولا لمخلوق على مخلوق " ([30])
ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية : " والمؤمنون قالوا : لله الخلق والامر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره " ([31])
ويقول الاسنوي في معرض مناقشته للتحسين العقلي عند المعتزلة : " فتتلخص ان الحاكم حقيقة هو الشرع إجماعاً و إنما الخلاف في ان العقل هو كاف في معرفته ام لا ([32])، اي في معرفة مراد الشرع كما هو مبين .
ويقول الشوكاني : " أعلم انه لا خلاف في أن الحاكم الشرع " ([33])
وإذا كان الله هو الحاكم وحده، فبدهي ان تكون الطاعة والعبادة له وحده، وهذا هو المعنى الرابع .
· المعنى الرابع : توحيد الله في الطاعة والعبادة .
يقول القران الكريم : " وما امروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً " ([34]) ويقول : " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " ([35]) ويقول : " وإن تطلع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" ([36]).
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله : "إن عليك إلا البلاغ " ([37]). وطاعته حقيقة طاعة لله : " من يطع الرسول فقد أطاع الله " ([38]). وما طاعة اولى الامر او الوالدين ونحوهم فهي محصورة في حدود طاعة الله تعالى، يقول الرسوم صلى الله عليه وسلم " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما احب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا امر بمعصية فلا سمع ولا طاعه " ([39])
فإن تنازعنا في شيء فالحكم للشرع وحده : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر " ([40])
· صلة هذه المعاني بالشمولية :
إن معاني التوحيد هذه، التي قررها وأكدها القرآن الكريم، تقودنا بالضرورة الى حقيقة كبيرة، وهي ان الله وحده هو الذي له الحق المطلق في إصدار الاحكام وتشريع الحلال والحرام فهو – سبحانه – الامر الناهي، وعلى العباد السمع والطاعة، وهذا الحق ثابت لله بحكم انه المنفرد بالخلق والمتفرد بالملك، ولهذا فالحكم بغير ما انزل الله كفر: " ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون " ([41])، والاحتكام لغير الله شرك : " ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " ([42])
يقول الامام ابو بكر السمر قندي رابطا بين هذه المعاني :
" الامر الذي يجب طاعته في الحقيقة هو الله – تعالى - ... وهذا لان الله – تعالى هو المالك للعباد ملك تخليق " فله ولاية الايجاب والندب والمنع والاطلاق، وليس للعبد ولاية ذلك على عبد مثله لانه مملوك مثله([43])
واذا كان الامر كذلك فلا بد ان يكون الاسلام كاملا شاملا فلا تحتاج الى مشرع ثان او ثالث والا وقع الخلف وانتقضت هذه العقيدة التي تمثل القضية الاولى في صراع الاسلام مع الشرك .
المحور الثاني : الشمولية من مقتضيات اسماء الله الحسنى :
ان نظرة واحدة في القران الكريم تبين مدى اهتمام القران بتفصيل اسماء الله الحسنى وتكرارها وتأكيدها بمختلف العبارات وتنوع الاساليب، والذي يهمنا هنا دلالة هذه الاسماء وصلتها بموضوع البحث، ولنتدبر هذه النماذج : تكرر اسم الرب في القران الكريم نحو (983) مرة بصيغ كثيرة منها : " رب السموات والارض " و "رب العالمين " و ربكم " ومعنى الرب : " المعبود والسيد المالك والقائم بالامور المصلح لما يفسد منها والملك " ([44]). وبمعان قريبة من هذا تكررت اسماء اخرى لله – تعالى – مثل المالك " والملك " و " القيوم ".
وهذه الاسماء لا تخفى صلتها بمعاني التوحيد التي مرت، وتأكيدها في القران هو تأكيد – دون شك – لتلك المعاني .
واما اسماؤه – تعالى الدالة على علمه الشامل بخلقه فأكثر من ان تحصى، فهو : العليم الخبير السميع البصير، ولنتدبر هذه الاية : " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قران ولا تعملون من عمل الا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا اكبر في كتاب مبين " ([45])
ويؤكد هذا بقوله تعالى : "يعلم ما تكسب كل نفس " ([46])
إن هذا الاحصاء الشامل الدقيق لاعمال الناس واحوالهم انما جاء ليشعر المكلفون برقابة الله لهم في كل شأن من شؤونهم، وهذه الرقابة والعلم الشامل والتسجيل الدقيق، حاشا ان يكون عبثا بل هي تستدعي الخضوع الكامل لله – تعالى – في كل شؤوننا واحوالنا، يقول ابن كثير:
" واذا كان هذا علمه بحركات هذه الاشياء، فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة " ([47]) ويلزم من هذا حقه تعالى في التشريع لانه الاعلم بهم وبما يصلح لهم .
ومن اسمائه – تعالى- المتكررة في القرآن اسماؤه الدالة على سعة رحمته مثل : " الرحمن " و " الرحيم " و " الودود" و " الكريم "، وهذه المعاني جاءت بصيغة الشمول من مثل قوله " ورحمتي وسعت كل شيئ " ([48]). وقولة ايضا : " ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً " ([49]). ولا ريب ان بيان سبيل النجاة للناس وما فيه مصلحتهم في الدنيا والاخرة داخل في هذه الرحمة الشاملة .
ولا يفوتني ان اذكر ان اسم الله الحق قد ورد في القران بما يقرب من معاني التوحيد التي مرت ولنتدبر هاتين الايتين: "قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل افلا تتقون، فذلك الله ربكم الحق فماذا بعد الحق الا الضلال فأنّى تصرفون " ([50])
· المحور الثالث : الشمولية من مقتضيات الايمان بالرسول صلى الله عليه وسلم .
ان الايمان بالرسل اجمعين – عليهم الصلاة والسلام – هو ركن من اركان الايمان، قال الرسول صلى الله عليه وسلم معرفا الايمان : " ان تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث " ([51])
والايمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وان كان داخلا في الايمان بجملة الرسل – عليهم الصلاة والسلام – الا ان الرسوم محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت له بالادلة الصحيحة خصائص لها علاقة وثيقة بموضوع البحث من اهمها :
كونه – عليه الصلاة والسلام – خاتم النبيين :
يقول الله – تعالى : " ما كان محمد أبا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً" ([52]) ويقول – عليه الصلاة والسلام : "فضلت على الانبياء بست : أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، واحلت لي الغنائم، وجعلت لي الارض طهورا ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبييّون". ([53])
وقد اخذ الله ميثاق النبيين بمناصرته واتباعه فقال تعالى " وإذ اخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وانا معكم من الشاهدين، فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون، افغير دين الله يبغون وله اسلم من في السموات والارض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون " ([54])
والربط بين خصائص الرسول هذه وبين الالتزام الكامل بالاسلام واضح من سياق الايات، فلا يجوز لنبي مهما كان الا ان يؤمن بهذا النبي الخاتم – عليه الصلاة والسلام – فكيف في حق غيرهم ؟
و ختم النبوة وإن لم يكن صريحا في شمولية الاسلام الا ان من علم معاني التوحيد الحق وعلم ان وحي الله لا يكو إلا للأنبياء أدرك صلة ختم النبوة بموضوع البحث .
إن من لا يقرّ بشمولية الاسلام واقع لا محالة في احتمالات ثلاثة: أن يعطي غير الله الحق في التشريع، وهذا مناقض لعقيدة التوحيد التي مرت، او يقول بوجود انبياء لله مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وبعده، وهذا يتناقض مع ختم النبوة، او يقول بإهمال الله لخلقه، وتركه لما فيه مصلحتهم في الدنيا والاخرة، وهذا يتناقض مع اسماء الله الحسنى – كما مر-
كونه – عليه الصلاة والسلام – رحمة للعالمين :
يقول الله تعالى : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " ([55]) والرحمة هنا كما انها عامة لكل العالمين، فهي مطلقة غير مقيدة بمعنى من معاني الرحمة، فهي رحمة عامة شاملة لسعادة الدنيا والاخرة ([56])
وهذه الرحمة لا تتحقق بجسده - عليه الصلاة والسلام – او نسبه، وإنما هي بالرسالة التي جاء بها " وما أرسلناك" ولم يقل " وما خلقناك إلا رحمة " فإذاً الرسالة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي تحقق الرحمة المطلقة العامة، ولهذا ربط الله بين معاني التوحيد وعموم بعثته لجميع الناس فقال تعالى : " قل اروني الذين الحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم، وما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا" ([57]).
وكم هو جميل ان يربط الامام الغزالي بين رحمة المصطفى – عليه الصلاة والسلام – هذه، الشريعة التي جاء بها، وكأنهما معنى واحد فيقول : " ومن نظر في اقوال رسول الله – عليه الصلاة والسلام – وما ورد من الاخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق وتلطفه في جر الناس بأنواع الرفق و اللطف الى تحسين الاخلاق واصلاح ذات البين، وبالجملة الى ما لا يصلح الا به دينهم ودنياهم، حصل له علم ضروري بأن شفقته على امته اعظم من شفقة الوالد على ولده " ([58])
المحور الرابع : الشمولية من مقتضيات الايمان باليوم الآخر :
اليوم الآخر : هو يوم الحساب والجزاء، والناس هناك إما الى جنة وسعادة وإما الى نار وشقاء، وذلك بحسب ما قدموه من عمل في هذه الدار دار الاختبار .
والعاقل يفكر قبل الرحيل في الاعمال التي سيحاسب عليها هناك وقطعا ليس الانسان هو الذي يقرر نوع هذه الاعمال مادية او روحية فردية او جماعية، وانما الله الحكم العدل يقرر هذا فلنصغ من الان الى القول الفصل .
يقول الله تعالى : " يؤمئذ يصدر الناس اشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " ([59]). فالانسان إذا عمل في الدنيا عملا ايا كان هذا العمل فإنه سيجد نتيجته في الاخرة، ان خيراً فخير، وان شرا فشر، وينسحب هذا على القول الذي قد لا يلقي الانسان له بالا، يقول الله تعالى : " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " ([60]) .
وفي الحديث القدسي بقول الله تعالى : " يا عبادي إنما هي أعمالكم ن احصيها لكم، ثم اوفيكم اياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ الا نفسه" ([61]).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من اين اكتسبه وفيم انفقه، وعن جسمه فيم ابلاه ". ([62])
هذه نصوص صريحة في ان الحساب هناك سيتناول كل شيء ن فهل يصح ان يحاسب الانسان على كل شيء دون ان يعرف من الله حكمه في كل شيء ؟ ومن هنا فشمولية الحساب تعني شمولية الشريعة بالضرورة، والا وقع ما ينافي الحكمة والعدل – حاشالله تعالى : " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " ([63])
المبحث الثالث :

ادلة الشمولية من الكتاب والسنة

اولا : القرآن الكريم
1. يقول الله تعالى : " ونزلنا عليك الكتاب تبياناُ لكل شيء" ([64]) .
2. يقول الله تعالى : " ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء" ([65]).
3. يقول الله تعالى : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً. ([66])
4. يقول الله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما "([67]).
هذه الايات واضحة الدلالة وهي مترابطة يفسر بعضها بعضا ويؤكده، وكلها تصب في موضوع البحث، فالاولى وصفت الكتاب العزيز بأنه تبيان لكل شيء وهذا بيان ما فوقه بيان يقول ابن كثير في هذه الاية : قال ابن مسعود قد بين لنا في هذا القران كل علم وكل شيء، وقال مجاهد : كل حلال وكل حرام، وقول ابن مسعود اعم واشمل، فإن القران اشتمل على كل علم نافع، وما الناس اليه محتاجون في امر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم” ([68]) وهذا تقرير للشمولية بأجلى معانيها كما ترى .
ولا يبعد تفسير ابن كثير للاية الثانية عما ذكره في تفسيره للاية الاولى ([69])
واما الاية الثالثة فيقول فيها ابن كثير :
" هذه اكبر نعم الله – تعالى – على هذه الامة حيث اكمل لهم دينهم فلا يحتاجون الى دين غيره، ولا الى نبي غير نبيهم ولهذا جعله الله – تعالى – خاتم الانبياء وبعثه الى الانس والجن، فلا حلال الا ما احله، ولا حرام الا ما حرمه، ولا دين الا ما شرعه " ([70])
وقد يعترض معترض فيقول : إن اكمال الدين شيء وانظمة الحياة شيء اخر، فالدين حتى لو كان كاملا فليس معناه ان يكون شاملا لكل جوانب الحياة، والحق ان هذا وهم نتج عن وهم سابق في فهم مصطلح الدين، ويكفي ان اذكر بأن القرآن قد استعمل مصطلح " الدين " في غير ما يفهمه هؤلاء عن " الدين " في غير ما يفهمه هؤلاء عن "الدين " ان القران يقول مثلا : "ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك " ([71]) ان هذا النص يحدد مدلول كلمة الدين في هذا الموضع تحديدا دقيقا، انه يعني نظام الملك وشرعه، هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين ...
انهم يقصرون الدين على الاعتقاد والشعائر "([72])، فالدين في هذه الاية لم يستعمل في صلاة او صوم وانما في العقوبة المقدرة عند الملك لمن يسرق .
واما الاية الرابعة فهي صريحة في وجوب الاحتكام الى الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يكون بين الناس من خصومات ومنازعات، وهذه لكي تقطع الطريق امام من يريد حصر الدين في العقائد والشعائر، وجميل قول ابن كثير في هذا : " يقسم – تعالى – بنفسه الكريمة المقدسة انه لا يؤمن احد حتى يحكم رسول الله صلى الله في جميع الامور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهرا وباطنا ". ([73])
ثانيا : السنة النبوية المطهرة :
من المعلوم ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جسد معنى الشمولية في الواقع الذي انشأه – عليه الصلاة والسلام – لا سيما بعد الهجرة المباركة، وقيام دولة الاسلام في المدينة، وحتى خضوع الجزيرة كلها لسلطات الاسلام فلم يكن للمسلمين مصدر في عقيدتهم وشريعتهم واخلاقهم الا الوحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يؤمهم في الصلاة، ويقودهم في الحرب، ويقضي بينهم في الخصومات، ويعلمهم الاخلاق والحلال والحرام في العبادات والمعاملات ... الخ .
هذا كله لا يحتاج إلى دليل، وكتب السنة والسيرة والتاريخ شاهدة على هذا، وهذا يكفي في تصور معنى الشمولية الذي يريده الاسلام، الا اني احببت ان اقدم بعض الاحاديث التي تدلل على موضوع البحث بالدلالة المباشرة :
1. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه ان يدل امته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعمله لهم" ([74])
2. يقول عليه الصلاة والسلام : " من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد" ([75]).
3. يقول – عليه الصلاة والسلام – مجيبا حذيفة – رضي الله عنه – وقد سأله عن الفتن : " قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي " ([76])
4. جاء في بنود الوثيقة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لدولته الجديدة : " وانكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده الى الله – عز وجل – والى محمد صلى الله عليه وسلم ([77])
5. في الحديث الذي حدد المسؤوليات وبينها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : الا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالامير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على اهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، الا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته " ([78]).
إن احاديث المصطفى – عليه الصلاة والسلام – هذه مترابطة يكمل بعضها بعضا ويؤكده ويبينه ففي الحديث الاول بيان لوظيفة الرسول الحقيقية، وهي دلالة الامة على كل خير يعلمه وتحذيرهم من كل شر يعلمه، ثم في الحديث الثاني تحذير من الاقدام على اي عمل ليس من امر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعضد معنى الشمولية في الحديث الاول، وفي الحديث الثالث نبوءة صادقة عن قوم يأتون في ايام الفتن يستنون بغير سنته – عليه الصلاة والسلام – ويهدون بغير هدية، وما نراه اليوم ونسمعه من آثار للمناهج الغربية في بلاد المسلمين، ودعوة جريئة للاهتداء بهدي الغرب حتى في قضايا الاسرة والاحوال الشخصية، داخل لا محالة في هذه النبوءة .
واما الحديث الرابع فهو اعلان لشمولية الاسلام ووحدة المرجع والمصدر لدولة الاسلام الجديدة منذ ايامها الاولى . والحديث الخامس تفصيل لمعاني شمولية الاسلام في الاسرة والدولة وفي المال والسياسة والتربية .
المبحث الرابع :

 الشمولية ومصادر التشريع في الاسلام :

كثيرا ما نسمع، مع بعض الذين لم يتخصصوا في الدراسات الاسلامية، استغرابا او استبعادا لفكرة الشمولية، وكأنهم يقولون : كيف يمكن ان يحيط الاسلام بحاجات الناس وهي حاجات متجددة متغيرة لا متناهية ؟
انهم يتصورون الاسلام في المدلولات الحرفية لنصوص الكتاب والسنة فقط، والناظر في هذه النصوص لا يجد فيها تفصيل انظمة الحياة المعاصرة كالادارة والاقتصاد والاعلام ... الخ .
ونحن نمنحهم بعض العذر، إلا ان نظرة واحدة في كتب اصول الفقة تبدد كثيرا من الضباب وتفتح امام العيون المجال الارحب لتصور معالم الحقيقة في هذه القضية .
ان الناظر في كتب الاصوليين بجد عددا من المصادر التشريعية بالاضافة الى الكتاب والسنة التي توسع امام المجتهد دائرة المورد الاسلامي لاستنباط الاحكام الصالحة لكل زمان ومكان .
وهذه المصادر مهما تعددت لا ينبغي النظر اليها على انها مصادر مستقلة عن الكتاب والسنة، لان هذا يتنافى مع معاني التوحيد الحق لله – تعالى- كما مر هذا في المبحث الثاني .
إن هذه المصادر ما هي الا نصوص عامة او قواعد كلية مأخوذة من مجموعة من النصوص، واستنباط هذه القواعد العامة له شواهده من النصوص نفسها ولنأخذ مثلا هذا الحديث الشريف : " عن ابي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخيل لثلاثة : لرجل اجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر ... وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : ما انزل علي فيها الا هذه الاية الجامعة الفاذة " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" ([79])
ومعنى الحديث ان الخيل نزل فيها وحي بخصوصها، واما الحمر فلم ينزل فيها وحي، لكنها تندرج تحت هذه الاية الجامعة، فإذا استعملها الانسان في الخير كانت خيرا، وان استعملها في الشر كانت شرا، والان لنتصور ان سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال او الابل فهل سيختلف الجواب ؟ وكذلك لما يسأل الناس اليوم عن السيارات او الطائرات ... الخ .
إن هذا الحديث اعطانا منهجية مرنة في التعامل مع النصوص : وهذه المنهجية هي التي جعلت علماء الاسلام يستنبطون القواعد الكلية او " المصادر التبعية " التي سنتناول بعضها امثلة وشواهد، اما الكتاب والسنة وهما المصدران الرئيسان فلا حاجة لدراستهما هنا لن حجيتهما محل اتفاق المسلمين، فلنأخذ الان اهم المصادر التبعية :
اولا : الاجماع :
يعرف الاجماع بأنه : اتفاق مجتهدي امة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته في عصر من العصور على امر من الامور "([80])
ان التعريف هذا يعطينا تصورا اوليا لوظيفة هذا المصدر، فهو لا بد ان يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ الوحي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيل بحسم الامر، لكن هناك مئات القضايا المستجدة التي تظهر بعد انقطاع الوحي على مر العصور فما موقفنا منها ؟
ان دراسة هذه القضايا من قبل علماء المسلمين واتفاقهم عليها يعد حجة شرعية لا يجوز العدول عنها، لكن الا سائل يسأل ما الذي جمع هؤلاء المجتهدين على راي واحد ؟ ان المجتهدين لا بد انه قد لاح لهم من نصوص الكتاب والسنة ومن مقاصد التشريع العامة ما مكنهم من الاتفاق، ولهذا ينص الاصوليون على ضرورة وجود المستند الشرعي للاجماع لكي يكون مصدرا شرعيا " لان اهل الاجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الاحكام فوجب ان يكون عن مستند ... لآن القول في دين الله لا يجوز بغير دليل " ([81])
فالاجماع هنا كاشف لحكم الله من نص قد يكون عاما وقد يكون مجملا، او من مقصد شرعي تقره نصوص متظافرة يقول امام الحرمين الجويني :
" فإن ذا التحصيل لا يطمع في كون اجماع الناس حجة لعينه وانما المطلوب المكتفي به استناده الى حجة والدليل عليه ان قول الله – تعالى – حق وصدق وهو المطلوب المقصود وليس وراء الله للمرء مذهب. ([82])
وهذا كله لتأكيد ان مصدر الاحكام في الاسلام واحد، وهو – الله تبارك وتعالى – وان تعددت الوسائل الكاشفة لحكم الله , وعلى هذا يكون الاجماع مصدرا رافدا لحل المشاكل المستجدة، وسد الحاجة الطارئة، دون ان نخرج بشرع مستقل عن شرع الله .
ثانيا : القياس :
ويعرف القياس بأنه " استخراج مثل حكم المذكور لما لم يذكر بجامع بينهما "([83]) ومعنى هذا التعريف " الحاق امر غير منصوص على حكمه الشرعي بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما في علة الحكم " ([84]) وقد اثار القياس مشكلة في مناهج الاصوليين، اذ اعترض بعضهم على فكرة وجود مسألة لم يرد بها حكم لالحاقها بمسألة ورد فيها حكم. إذ هذا عندهم يصادم معنى الشمولية، ويصادم معنى توحيد الله في الحكم والتشريع، ولهذا يقول ابن حزم، أليس من اقر بما ذكرنا ثم اوجب ما لا نص بايجابه او حرم ما لا نص بالنهي عنه قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى "([85])
الا ان الناظر في تعريف القياس بدقة، مع الامثلة التي يسوقها القائلون بالقياس، يكاد يصل الى نتيجة ان الخلاف لفظي، فالعلة وهي الامر الجامع بين ما فيه نص و ما ليس فيه نص، هي حقيقة المقصود من النص، فمثلا حينما نقرأ قوله تعالى : " فلا تقل لهما أف "([86]). فهل يعقل ان النص هذا جاء من اجل تحريم كلمة " اف " وحدها دون بقية الكلمات الدالة على معاني التضجر والعقوق ؟ وما ميزة هذه الكلمات بالذات عن بقية الكلمات المتشابهة ؟
إننا حين نقول : إن علة النهي هي " الاذى " وكل كلمة تحقق هذا الاذى فهي محرمة ايضا وان لم يرد بها النص، إننا هنا اعملنا النص في دائرته الحقيقية الواسعة التي من اجلها جاء النص .
وعلى هذا فالقياس اعمال للنص في دائرته الحقيقية وليس خروجا عن النص، ولذلك يقول امام الحرمين : " إن الحاق المسكوت عنه بالمنطوق به لكونه في معناه " ([87])
وبهذا يكون القياس الرافد الذي يحقق معنى الشمولية، يقول امام الحرمين :
" الرأي المثبوت به عندنا انه لا تخلو واقعة عن حكم الله – تعالى – متلقى من قاعدة الشرع، والاصل الذي يسترسل على جميع الوقائع هو القياس ... فهو اذا احق الاصول باعتناء الطالب " ([88])
ثالثا : المصالح المرسلة :
والمصالح المرسلة تعرف بأنها الوصف الذي يلائم تصرفات الشرع ومقاصده ولكن لم يشهد له دليل معين من الشرع بالاعتبار او الالغاء ([89])
هذا التعريف بهذه الالفاظ يبعد عن هذا المصدر شبهة عدم استناده الى دليل من الشرع، اذ هي داخله في مقاصد الشرع العامة الثابتة بالادلة، وان لم يرد في كل جزئية منها دليل تفصيلي، ولهذا اشترط القائلون بها ان تكون تلك المصالح مشبهة بالمصالح المعتبرة ([90]) وهذا الشبه جاء من ناحية تحقيق مقاصد الشرع والاندراج في النصوص العامة، يقول الارموي : " فثبت ان كل مناسبة يشهد الشرع باعتبارها بحسب جنسها البعيد، فليكن حجته المنقول والمعقول " ([91]) وربما يتضح المقصود أكثر بالامثلة الاتية :
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا الى الجنة "([92]). فالعلم هنا مصلحة معتبرة وليست مرسلة، ولكن بناء الجامعات مرسل من وجه، لان الحديث لم ينص عليها، ومعتبر من وجه المصلحة البعيدة، اذ مصلحة بناء الجامعات داخلة في المصلحة الكبيرة " الجنس البعيد " الذي هو " العلم "، ومن هنا تكون الجامعات مصلحة معتبرة او مشبهة للمعتبرة، وهذا دليل نقلي اما ثبوتها بالدليل العقلي فلان الجامعات لم تندرج في مصلحة العلم الا بطريقة العقل والنظر، وليس للنص دخل في ذلك .
والدعوة الى الاسلام مصلحة معتبرة، وانشاء محطات البث المرئية ( الفضائيات) والمسموعة ( الراديو ) ونحوها تحقق هذه المصلحة في العصر الحاضر و ان لم يرد نص بها .
ونستطيع ان نضع نظام المرور مثلا تحت قوله تعالى : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " ([93]). فحفظ النفس مصلحة معتبرة، ونظام المرور يحقق هذه المصلحة وان لم يرد فيه نص بعينه، وهكذا في الطب والهندسة ووسائل القوة، بل ونظم الادارة والمصارف الاقتصادية ... الخ .
ولا يفوتني ان اذكر ان الامام الغزالي مال الى تقسيم المصلحة المرسلة بحسب تحقيقها لمقاصد الشرع " الضرورات والحاجيات والتحسينات " ([94]). ليضع بذلك ضوابط واضحة تجعل المجتهد لا يخرج عن اطار الشرع بحال، فقال :
" اما الواقع في رتبة الضروريات فلا بعد في ان يؤدي اليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له اصل معين، ومثاله ان الكفار اذا تترسوا بجماعة من اسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الاسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا ... فيجوز ان يقول قائل : هذا الاسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين اقرب الى مقصود الشرع، لأنا نعلم قطعا ان مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الامكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل " ([95]).
ثم بدأ بالحديث عن المصالح التي هي من المرتبة الثانية والثالثة " الحاجات والتحسينات " فقال " فنقول الواقع في الرتبتين الاخريتين لا يجوز الحكم بمجرده ان لم يعتضد بشهادة اصل ([96]) وكأنه اراد بذلك ان يحسم سبيل الهوى وتمييع حدود الشرع إذ المصالح قد تختلط فعلا بالهوى والرغبات الشخصية فكان لا بد من وضع ضوابط واضحة، ويبقى راي الغزالي هذا اجتهادا قابلا للتصويب والاضافة والنقص .
ولا شك ان الناظر في هذا المصدر يستطيع ان يدرك الان كيف يستطيع الاسلام ان يحقق مصالح العباد على اختلاف الازمنة والامكنة .
رابعا : العرف
العرف هو بمعنى العادة إلا ان العرف الذي يذكر كمصدر للتشريع " هو عبارة عن عما يستقر في النفوس من الامور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة " ([97]).
وكون العرف بهذا التعريف مصدرا للتشريع يحتاج الى بيان اذ كيف يكون ما الفه الناس واعتادوه مصدرا شرعيا ؟
الحقيقة ان العرف ليس مصدرا مستقلا بتشريع الاحكام، وانما هو يعين المجتهد للوصول الى مراد الله في قضية لها صلة بعادات الناس، فمثلا : اذا تعاقد طرفان على بيع او اجارة، وذكرا في العقد ثمنا معينا " الف دينار مثلا " فبعملة اي بلد يفسر هذا المبلغ على التحديد ؟ حينئذ يلجأ الى العرف زمانا ومكانا في الوصول الى فهم قصود المتعاقدين، يقول القرافي : " اذا وقع العقد في البيع فإن الثمن يحمل على العادة الحاضرة في النقد " ([98]) اذن نقد البلد هو المعتمد في هذا العقد، ولو دققنا النظر لوجدنا ان العرف لم يشرع حكما جديدا وانما استخدمه القاضي كقرينة مرجحة في فهم القصد الحقيقي لطرفي العقد .
وقد يذهب المجتهد ابعد من هذا، فيستخدم العرف وسيلة لتفسير النص نفسه، إذا كان العرف موجودا وقت التشريع، لان التشريع نزل بلغة القوم انذاك، ولذلك يقول القرافي : " وعندنا العوائد مخصصة للعموم " ([99]) وينقل امام الحرمين عن بعض اهل العلم انهم جعلوا العرف مرجحا في حال تعارض الظواهر ([100])، والعرف في كل هذا لا يعدو كونه وسيلة من وسائل البيان كالمباحث اللغوية .
ولا يفوتني ان اذكر ان العرف قد يراعى لما فيه من تحقيق مصالح العباد، يقول ابن عابدين: " وانما جازت بالتعارف العام لما فيها من احتياج عامة الناس اليها " ([101]) وهذا ما يؤكد ارتباط العرف ببقية المصادر وليس هو مستقلا عنها، فهو يرتبط بالنصوص للوصول الى معناها يرتبط بالنصوص للوصول الى معناها الراجح ويرتبط بالمصلحة المرسلة لتقديرها وبناء الحكم المناسب لها، وهكذا .
هذه المصادر هي اهم مصادر الاحكام في الشريعة الاسلامية بعد الكتاب والسنة، وقد اعطتنا تصورا واضحا لمعنى الشمولية لا سيما في مجالها التطبيقي العملي .
واذا كانت النصوص القاطعة تمثل الثوابت التي تحفظ هوية هذا الدين وميزته فان هذه المصادر تمثل الجانب المرن الذي يتسع للمستجدات على اختلافها وتغيرها باجتهاد قابل للتعددية، وقد قدم الاسلام الحصانة للمجتهد في هذا الجانب حتى لو اخطأ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم اصاب فله اجران واذا حكم فاجتهد ثم اخطأ فله اجر " ([102])
وبهدا يكون الاسلام قد تجاوز سلبيات الشمولية التي تمارسها بعض الانظمة الفردية، والتي يتدخل الحاكم فيها بكل صغيرة وكبيرة دون اعطاء اي قدر من المرونة وحرية الاجتهاد والتعبير، مما جعل بعض المفكرين اليوم يقرن الشمولية بالجمود والاستبداد .
فالشمولية الاسلامية فتحت المجال من خلال قواعدها العامة ومصادرها التبعية، امام المجتهدين لوضع الانظمة الحديثة واستخلاص الاحكام التفصيلية، التي تتناسب مع كل ظرف ومع كل عصر مع المحافظة على هوية الامة بالالتزام بثوابتها وقطياتها، سواء اكانت هذه الثوابت قواعد عامة كتحقيق معاني العدل والشورى ووحدة الامة ام كانت مسائل تفصيلية كأحكام الاحوال الشخصية .
الخاتمة
وفي ختام هذا الجهد اود ان اقدم خلاصة بأهم الاستنتاجات المستفادة من البحث وسأجملها في النقاط الاتية :
1. يقصد بالشمولية الاسلامية إحاطة الاسلام بكل ما يحتاجه الناس من احكام وتشريعات في المجالات المختلفة الفردية والجماعية، المادية والروحية .
2. وإن الشمولية هذه تستند الى عقيدة واضحة تبدأ بتقرير أن الله وحده هو الخالق لهذا الكون، وبناء عليه فالله وحده المالك لهذا الكون، ولانه هو المالك فله وحده حق التصرف فيه بما يشاء من شريعة ونظام، مما فيه مصلحة الانسان في الدنيا والاخرة، بحكم علم الله المطلق ورحمته الشاملة، وإنكار الشمولية الاسلامية يؤدي الى فتح المجال لغير الله ليشرع لخلق الله ما لم يشرعه الله وهو ما يتنافى مع عقيدة التوحيد .
3. وقد تظافرت الادلة من نصوص الكتاب والسنة لاثبات مبدأ إكمال الدين وشموليته، وإلزام العباد بالاحتكام الى الله ورسوله عند التنازع في أي شأن من الشؤون .
4. وإذا كانت عقيدة التوحيد مع تلك النصوص المتظافرة قد اثبتت نظريا مبدأ الشمولية في الإسلام، فإن مباحث الاصوليين في مصادر الشريعة المتعددة، كالإجماع والقياس والمصالح المرسلة والعرف، المستمدة حقيقة من الكتاب والسنة والمبينة لهما، والساعية لتحقيق مقاصدهما، قد اوضحت الكيفية التي يستطيع الاسلام بها ان يحقق معنى الشمولية على أرض الواقع .
5. ولأن هذه المصادر الشرعية لم تأت بقوالب محدودة ولا تنطبق في الغالب على جزئياتها بشكل قطعي، فإن مساحة الاجتهاد بضوابطه الشرعية ستكون هي الاوسع، وهذا يعطي الشمولية قدرا كبيرا من المرونة لمواكبة المستجدات مع الاحتفاظ بالهوية الاسلامية من خلال المحافظة على الثوابت القطعية .
6. وهذا ما يجعل الشمولية الاسلامية وسطا بين المناهج المتميعة، التي قد تلغى ثوابت الامة وتمسخ هويتها وبين الشمولية المنغلقة التي اصبحت قرينة الاستبداد والجمود .
المراجع
1. ابن تيمية، شمول النصوص لاحكام افعال العباد، تحقيق صالح المهندي، وزارة الاوقاف، قطر، الطبعة الاولى 1418هـ.
2. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، حمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، (بلا.ت).
3. ابن حزم الاندلسي، الإحكام في أصول الاحكام، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413هـ - 1992.
4. ابن عابدين، نشر العرف في بناء بعض الاحكام على العرف، المطبوع ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين (بلا.ت)، ( موجود في مكتبة جامعة قطر).
5. ابن عطية، ابو محمد عبد الحق بن عطية الاندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق السيد عبد العال، رئاسة المحاكم الشرعية، قطر الطبعة الاولى، 1412 هـ.
6. ابن كثير، ابو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الاولى 1408هـ.
7. ابن منظور جمال الدين محمد بن مكرم الانصاري، لسان العرب، الدار المصرية، ( بلا.ت)
8. ابن هشام، السيرة النبوية، دار الجيل، بيروت ( بلا. ت)
9. الاسنوي، الامام جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن ( ت 772)، نهاية السول في شرح منهاج الاصول عالم الكتب، 1343هـ.
10. الارموي، سراج الدين محمود بن أبي بكر، التحصيل من المحصول، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الاولى، 1804هـ .
11. الانصاري، عبد العلي محمد بن نظام الدين، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، الطبعة الاميرية ببولاق، مصر، 1322هـ
12. البخاري، صحيح البخاري، دار احياء التراث العربي، بيروت ( بلا.ت).
13. البنا، حسن، مجموعة رسائل، دار التوزيع والنشر الاسلامية ،مصر، 1412هـ.
14. البوطي، محمد سعيد رمضان، ضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الثانية 1397 هـ - 1977 م.
15. الترمذي، الجامع الصحيح، مطابع الفجر الحديثة، حمص، الطبعة الاولى، ( بلا.ت)
16. إمام الحرمين، البرهان في اصول الفقه، تحقيق الدكتور عبد العظيم الديب، دار الانصار، القاهرة، الطبعة الثانية 1400هـ .
17. الخادمي، نور الدين بن مختار، الاجتهاد المقاصدي، حجيته، ضوابطه، مجالاته، نشر كتاب الامة، قطر، العدد 65، 1419هـ.
18. الزحيلي، وهبة، أصول الفقه، كلية الدعوة الاسلامية، طرابلس، الطبعة الاولى، 1990 م.
19. السمرقندي، علاء الدين أبو بكر محمد بن أحمد، ميزان الاصول ( ت 539) تحقيق محمد زكي عبد البر، وزارة الاوقاف، قطر، الطبعة الثانية 1400هـ .
20. الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول الى تحقيق الحق من علم الاصول، مصطفى البابي، مصر، الطبعة الاولى، 1356 هـ - 1937م.
21. الغزالي، المستصفى من علم الاصول، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، 1322 هـ.
22. الغزالي، المنقذ من الضلال، المطبوع ضمن المجموعة الكاملة للدكتور عبد الحليم محمود، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثانية 1985.
23. القرافي، شهاب الدين ابو العباس أحمد بن إدريس، شرح تنقيح الفصول، المكتبة الازهرية، مصر الطبعة الثانية، 1414 هـ .
24. القرضاوي، يوسف، الخصائص العامة للاسلام، مكتبة وهبة، مصر الطبعة الاولى، 1397 هـ.
25. القرضاوي، يوسف، المرجعية العليا في الاسلام للكتاب والسنة، مكتبة وهبة مصر ( بلا.ت) .
26. الكبيسي، محمد عياش، العقيدة الاسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين، الطبعة الاولى، مطبعة الحسام، بغداد ،1995.
27. جريشة، علي، المشروعية الإسلامية العليا، دار الوفاء، الطبعة الاولى 1406 هـ.
28. حوّى، سعيد، الإسلام، دار الكتب، بيروت، الطبعة الاولى، 1389 هـ - 1969 م .
29. عبد الظاهر، حسن عيسى وآخرون، بحوث في الثقافة الاسلامية، دار الحكمة، قطر، الطبعة الاولى، 1414 هـ .
30. قطب، سيد، في ظلال القران، دار الشروق، القاهرة – بيروت، الطبعة الخامسة والعشرون، 1417 هـ - 1996م.
31. قطب، محمد، الإسلام كبديل عن الافكار والعقائد المستوردة، مكتبة السنة، القاهرة الطبعة الاولى، 1413 هـ- 1993 م .
32. مسلم، صحيح مسلم، المطبوع مع السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح صديق حسن خان، تحقيق عبد التواب هيكل، وزارة الاوقاف، قطر، 1995.
33. هنادي، محمد عبد القادر، قلاع المسلمين مهددة من داخلها وخارجها، الطبعة الاولى مكتبة الطالب، مكة المكرمة، 1408هـ.
Embody of Islam
Between the Faith’s Constants and Legislation’s Flexibility
Mohammad Al- Kubaisi
Abstract
Islam – being the concluding message – has come to achieve the complete welfare and comprehensive mercy to the whole universe
(وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) .
It has continued to be the sole source of this nation with regard to its belief, creed , legislation , jurisprudence and life style , Muslims have never felt the need for another source through all times and under different circumstances.
The genrations of believers have been drinking from this pure and fresh stream. They have relied on it in all its conceptions and jurisprudence until the collapse of the Islamic State (Khilafa) and what followed afterwards, of cultural and civil break up that made the nation forget lot of its glorified history paving the way for foreign cultural invasion and attacks.
This invastion has resulted in the multiplication of loyalty circles in the nation after causing the loss of references that the nation can come together upon and achieve some sort of consensus. Those influencd by this invasion have started doubting the authority of Islam itself as well as its ability to comprehend the current modern life in its complicated and subdivided forms.
This research aims in the first place at, ideologically establishing the origin of the Islamic comprehensiveness by relating the meaning of comprehenseviness to the origins of belief: like monotheism, the last message, the doctrine of accountability and punishment and proofing it by the established evidences agreed upon by Muslims in the Holy Quran and established Sunna.
Then the reseach shall probe the possibility of achieving the comprehensiveness in reality throug the wider scope and flexibility of legislative and jurisprudence sources in Islam and its ability to coprehend the new and variable events. Thus, reaching at the required balance between the ideological constants that form the nation’s identity and its peculiarity and the flexibility of ( Sharia) Jurisprudence that addresses the nation’s need and achieves the welfare and goodness of mankind and their eternal happiness on this earth.
* استاذ مساعد كلية الشريعة، جامعة قطر - قطر
([1] ) الانبياء : 107
([2] ) ابن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 391
([3] ) الانبياء : 107
([4] ) عبد الظاهر، حسن عيسى واخرون، بحوث في الثقافة الاسلامية، ص 413 - 428
([5] ) ابن تيمية، شمول النصوص لااحكام افعال العباد، ص 1-2
([6] ) هنادي، محمد عبد القادر، قلاع المسلمين مهددة من داخلها وخارجها، ص 35
([7] ) البنا : حسن / مجموعة الرسائل، ص 158 – 159.
([8] ) قطب، محمد، الاسلام كبديل، ص 40
([9] ) القرضاوي، يوسف، المرجعية العليا في الاسلام، ص 183، القرضاوي، يوسف، الخصائص العامة للاسلام، ص 99-106.
([10] ) جريشة، علي، المشروعية الاسلامية، ص 166.
([11] ) حوى، سعيد الاسلام، ج 1، ص 13
([12] ) الزمر . 62.
([13] ) يونس : 34
([14] ) الزخرف : 12
([15] ) عبس : 25-32
([16] ) الزمر : 38
([17] ) العنكبوت : 61
([18] ) العنكبوت : 63
([19] ) المائدة : 120
([20] ) الفرقان : 2
([21] ) فاطر : 13
([22] ) الجاثية : 13
([23] ) الانعام : 94
([24] ) الحديد : 7
([25] ) الكهف : 26
([26] ) الشورى : 21
([27] ) يوسف : 39 - 40
([28] ) ابن كثير التفسير، ج 3، ص 78.
([29] ) قطب، سيد، في ظلال القران، ج 4 / ص 1990
([30] ) الغزالي، المستصفى، ج 1 ص 8
([31] ) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، - ج 3 – ص 371
([32] ) الاسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الاصول، ج 1 ص 260
([33] ) الشوكاني، ارشاد الفحول، ص 7
([34] ) التوبة : 31
([35] ) الانبياء : 25
([36] ) الانعام : 116 - 117
([37] ) الشورى : 48
([38] ) النساء : 80
([39] ) البخاري : صحيح البخاري ج4، ص 329، رقم الحديث 7144.
([40] ) النساء : 59، وقد بحثنا هذه المعاني بالتفصيل في كتابنا العقيدة الاسلامية في القران الكريم ومناهج المتكلمين ص 93 - 100
([41] ) المائدة : 44
([42] ) الشورى : 21
([43] ) السمر قندي، محمد بن احمد، ميزان الاصول ص 162
([44] ) ابن عطية التفسير، ج1، ص 101
([45] ) يونس : 61
([46] ) الرعد : 42
([47] ) ابن كثير، التفسير، ج2، ص 404
([48] ) الاعراف : 156
([49] ) غافر : 7
([50] ) يونس : 31-32.
([51] ) البخاري، صحيح البخاري، ج1، ص 33، رقم 50 ومسلم السراج الوهاج ج 1، ص 54، بلفظ مقارب .
([52] ) الاحزاب : 40
([53] ) مسلم، السراج الوهاج، ج2، ص 266 . والاسنوي، نهاية السول في خصائص الرسول، ص 212
([54] ) آل عمران : 81 - 82
([55] ) الانبياء : 107
([56] ) ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج 3، ص 196
([57] ) سبأ : 27 - 28
([58] ) الغزالي : المنقذ من الضلال، ص 145
([59] ) الزلزلة : 6 - 8
([60] ) ق : 18
([61] ) مسلم السراج الوهاج، ج 10، ص 209
([62] ) الترمذي سنن الترمذي، ج 7، ص 136، رقم الحديث 2419
([63] ) الاسراء : 15
([64] ) النحل : 89
([65] ) يوسف : 111
([66] ) المائدة : 3
([67] ) النساء : 65
([68] ) ابن كثير، التفسير، ج 2، ص 563، وابن عطية، تفسير ابن عطية، ج 8 ص 493.
([69] ) ابن كثير، التفسير، ج 2، ص 479
([70] ) المرجع السابق، ص 13، وابن حزم، الاحكام في اصول الاحكام، ج 2 ص 488
([71] ) يوسف : 76
([72] ) قطب، سيد، في ظلال القران، ج 4، ص 2020
([73] ) ابن كثير، التفسير، ج 1، ص 493
([74] ) مسلم، السراج الوهاج، ج 7، ص 262
([75] ) المرجع السابق، ص 358
([76] ) المرجع السابق، ص 342
([77] ) ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 107
([78] ) مسلم، السراج الوهاج، ج 7، ص 267
([79] ) البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص 331، رقم الحديث 2860
([80] ) الشوكاني، إرشاد الفحول، ص 71
([81] ) المرجع السابق، ص 79
([82] ) الجويني، امام الحرمين، البرهان في اصول الفقه، ج 1، ص 683
([83] ) الشوكاني، ارشاد الفحول، ص 198
([84] ) الزحيلي، وهبة، اصول الفقه، ص 53
([85] ) ابن حزم الاندلسي، الاحكام في اصول الاحكام ج 2، ص 487
([86] ) الاسراء : 23
([87] ) الجويني، امام الحرمين، البرهان في اصول الفقه ج2، ص 783
([88] ) المرجع السابق، ص 743
([89] ) الزحيلي، وهبة، اصول الفقه، ص 87، البوطي، ضوابط المصلحة، ص 378
([90] ) الاسنوي، نهاية السول، ج 4، ص 387
([91] ) الارموي، التحصيل من المحصول، ج 2، ص 333
([92] ) مسلم، السراج الوهاج، ج 10، ص 555
([93] ) الانعام : 151
([94] ) الخادمي، الاجتهاد المقاصدي، العدد 66
([95] ) الغزالي، المستصفى، ج 1، ص 294
([96] ) المرجع السابق، ص 293
([97] ) ابن عابدين، نشر العرف في بناء بعض الاحكام على العرف، ص 114
([98] ) القرافي، شرح تنقيح الفصول، ص 211
([99] ) القرافي، شرح تنقيح الفصول، ص 211، والانصاري، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، ج 1، ص 325 .
([100] ) الجويني، البرهان، ج 2، ص 1201، والشوكاني، ارشاد الفحول، ص 279.
([101] ) ابن عابدين، نشر العرف في بناء بعض الاحكام على العرف ص 117
([102] ) البخاري، صحيح البخاري، ج 4، ص 268 طبعة دار الفكر، بيروت 1986

0 تعليق:

إرسال تعليق