بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

العدالة في النظام الاقتصادي في الاسلام

 العدالة في النظام الاقتصادي
في الاسلام
تأليف
الدكتور : محمد عبد الغني

تمهيد:

أولاً: تعريــــــــــــف المِلْكِيَّة لغــــــــــــة وشرعـــــاً.

إنّ الباحث في معاجم اللغة، يجد أن معنى الملك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبداد به والتصرف بانفراد()، وأما في الاصطلاح الشَّرْعي فقد تباينت التعريفات له في ثنايا الكتب الفقهية، والباعـث علـى هذا الاختلاف هو أن الملك قد أشكل ضبطه على كثير من الفقهاء().
فقد عرفه شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة بقوله: « الملك هو القدرة الشَّرْعية على التصرف في الرقبة »().
وعرفه ابن عابدين() بقوله: « الملك ما من شأنه أن يتصرف فيه بوجه الاختصـاص »() وعرفه القرافي() بقوله : « الملك حكم شرعي مقدّر في العين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالمملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك»().
وعرفه السُّبكي() بقوله: « والمختـار في تعريفـه أنـه أمـر معنـوي، وإن شئت قلت: حكم شرعي يقدر في عين أو منفعة يقتضي تمكن من ينسب إليه من انتفاعه والعوض عنه من حيث هو كذلك »().
وعرّفه ابن الدهّان بأنه: « اختصاص شرعي بعين منتفع بها »().
مما سبق ذكره يتبين أن فقهاء الشَّرِيعَة، قد اختلفت أنظارهم في المعنى الاصطلاحي للملك فمنهم من نظر إليه باعتباره حقيقة شرعية أو حكماً أقرّه الشَّارِع ورتب عليه آثاراً ونتائج ملازمة كما هو عند القرافي والسُّبكي. ومنهم من نظر إليه على أساس ذكر موضوعه وثمرته وآثاره كما هو عند ابن تَيْمِيَّة. ومنهم من نظر إليه باعتباره علاقة بين المالك والمملوك كما هو عند ابن الدهّان.
والذي يظهر لي من هذه التعريفات رجحان ما ذهب إليه القرافي الذي تأثر به السُّبْكِيّ لاعتبارات منها:
أن الملك حكم شرعي مقدر، لأنه يتبع الأسباب الشَّرْعية، وكل ما يتبعها فهو حكم شرعي مقدر وذلك لأنه يرجع إلى تعلق إذن الشَّرْع للإنسان بالانتفاع بهما استهلاكاً ومنفعةً ومبادلة: « وهذا الإذن من أكل الرغيف، وسكن الدار كما يتمكن من بيعها. فبالنسبة للرغيف، الحكم الشَّرْعي مقدر بالعين، وهو الإذن باستهلاكها وبالنسبة للدار، الحكم الشَّرْعي مقدر بالمنفعة، وهو الإذن بسكناها »().
إن الملك لا يكون له وجود إلا إذا أقرَّ الشَّارِع وجوده، ولا يترتب عليه من الآثار حينئذ إلا ما رتبه الشَّارِع عليه، وعلى ذلك فإن الملك ليس صفة ناشئة عن طبيعة الأشياء وذواتها ولا عن اصطلاح الناس وعرفهم، ولا تثبت إلا بإثبات الشَّارِع لها، وتقريره لأسبابـهـا. « ولهذا أذن في تملك بعض الأعيان ومنع من تملك بعضها، وأذن في بعض العقود، ومنع بعضها، فمنع تملك الخمر والخنـزير للمسلم كما منع تملك مال الرِّبَا، ومال القمار لأي واحد من رعية الدَّوْلَة الإسْلاميَّة وأذن في البيع فأحلّه ومنع الرِّبَا فحرمه »().
قَالَ السّبكي: فقد أشكلت حقيقة الملك على طوائف من النّظار وزلَّ من قَالَ منهـم: « إنه التصـرف، لأن المحجـور عليـه يملك ولا يتصـرف، كمـا أن الولي يتصرف ولا يملك»().
وعلى ضوء هذا التعريف المختار يمكن أن يُفهم أنّ هناك أسباباً مشروعة للتملك وأحوالاً
معينة للتصرف بهذه المِلْكِيَّة وكيفية معينة للانتفاع بما يملك، وبعبارة أخرى فإنه يدلّ على
المعنى الحقيقي للملكية.

ثانياً : طبيعــــــة المِلْكِيَّة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة .

يقرر الإسلام حق المِلْكِيَّة الفردية للمال تلبية لغريزة التَّمَلُّك المركوزة في فطرة الإنسان، فمن فطرة الإنسان أن يندفع لإشباع حاجاته، ولذلك كان من فطرته أن يحوز المال لإشباع هذه الحاجات، ومن فطرته أن يسعى لهذه الحيازة، لأن إشباع الإنسان لجوعاته أمر حتمي، ومن هنا كانت حيازة الإنسان للثروة فوق كونها أمراً فطرياً هي أمر حتمي لا بدّ منه. إلا أن هذه الحيازة لا يجوز أن تترك للإنسان ينالها ويسعى لها ويتصرف بها كما شاء لأن هذا يؤدي إلى الفوضى من غلوائها ويهدئ من اندفاعها، فمثل هذه الغريزة وأخواتها مندفعة بطبعها، لا تكاد تقف عند حدّ، لذلك كان لا بدّ من أن يكون تمكين النّاس من حيازة الثروة ومن السعي لها سائراً على وجه يضمن إشباع الحاجات الأَسَاسيَّة لجميع الناس على تفاوت قواهم وحاجاتهم.
« وتقرير حق المِلْكِيَّة الفردية يحقق العَدالَة بين الجهد والجزاء، فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع الميول الأصيلة في النفس البشرية، تلك الميول التي يحسب الإسلام حسابها في إقامة نظام المجتمع، وفي الوقت ذاته يتفق مع مصلحة الجماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد في طوقه لتنمية الحياة، فوق ما يحقق من العزة والكرامة والاستقلال ونمو الشخصية للأفراد بحيث يصلحون أن يكونوا أمناء على هذا الدين، يقفون في وجه المنكر، ويحاسبون الحاكم وينصحونه، دون خوف من انقطاع أرزاقهم لو كانت في يديه »().
فالعَدالَة تقتضي تلبية أشواق الفرد وإرضاء ميوله في الحدود المشروعة جزاء ما بذل من طاقته وجهده وعرق جبينه وكدح فكره وكد أعصابه لذلك كانت كل محاولة لمنع الإنسان من إشباع حاجاته مخالفة للفطرة وكانت كل محاولة لمنعه من حيازة الثروة أو لتحديد حيازته بمقدار معيّن أمراً مخالفاً للفطرة »().
و لكن إقرار الإسلام بحق المِلْكِيَّة الفردية لا يعني الحق المطلق() بلا قيود ولا حدود، بل يقره ويشرعه، ويشرع له الحدود والقيود إذ أنَّ النُّصُوص الشَّرْعية قد أظهرت طبيعة متميزة للملكية تظهر من خلال ما يلي:
إنَّ الله هو المالك الحقيقي، فقد قَالَ تعالـى: ]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[().
استخلاف الله للإنسان، فقد قَالَ تعالـى: ]ءَامِنُـــــوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
[() قَالَ القرطبي: « إنها دليل على أنّ أصل الملك لله سبحانه وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يُرضي الله فيثيبه على ذلك بالجنة ممن أنفق منها في حقوق الله وهان عليه الإنفاق منها كما يهون على الرَّجُل النفقة من مال وغيره إذا أذن فيه، فإن له الثواب الجزيل والأجر العظيم، ثمّ قَالَ : « هذا يدل على أنها ليست بأموالهم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنـزلة النّواب والوكلاء فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى بعدكم »().
وقَالَ الزمخشري(): « يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها وإنما نولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي أموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنـزلة الوكلاء والنواب »().
وقَالَ سَيِّد قطب: « ولا يحتاج نصّ الآية إلى تأويل ليؤدي المعنى الذي فهمناه منه وهو أن المال الذي في أيدي البشر هو مال الله، وهم فيه خلفاء لا أُصلاء. وفي آية أخرى في صدى المكاتبين من الأرقاء يقول تعالى: ]
وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ [() فما يعطونهم هذا المال من ملكهم ولكنهم يعطونهم من مال الله وهم فيه وسطاء().
تقييد استخلاف الله للإنسان، فالاستخلاف الإلهي ليس استخلافاً مطلقاً من دون قيد بل بقيود حددّت مدى هذا الاستخلاف ووضّحت طريقة الانتفاع والتمتع بما سخره الله تعالى في هذا الكون « تقدمة لمصالحهم و أهبة لسد مفاقرهم »() ولو أن الله أباح لهم ما في الأرض جميعاً من دون قيد ولا حد ولا نظام لأدى الأمر بالغرائز الجامحة إلى التسلط والقهر والغلبة وإلى الفوضى والمنازعات وأكل القوي الضعيف، لهذا فهم ليسوا أحراراً في التّصرف فيما استخلفوا فيه يفعلون كما يحلو لهم، بل هم مخلوقون لغاية أساسية وهي عبادة الله تعالى، وعبادته تقتضي إتباع أوامره، والابتعاد عن نواهيه، فإن لم يفعلوا ذلك فقد أخلّوا بشرط الاستخلاف لهذه الأرض.
قَالَ سَيِّد قطب: « ليست ملكية أصلية يتصرف فيها على هواه إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط التَّمَلُّك الأصلي وتعليماته، فإذا تصرف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشروط المالك وقع هذا التصرف باطلاً وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك الأصلي وبالقدر الذي يلتزم به الناس بما وضع الله سبحانه وتعالى من القواعد الناظمة للملكية من حيث نشأتها أو حصولها، ومن حيث نقلها إلى يد أخرى يكون حسابهم يوم القيامة سهلاً حيث يسألون في ذلك اليوم عن المال من أين اكتسبوه وفيما أنفقوه»().
وقد بيّن صلى الله عليه وسلّم هذا المعنى في حديثه حيث قَالَ: « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين
اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه»().
وإذا كان ما في الكون مملوك لله تعالى فهو التكييف الشَّرْعي لاختصاص الإنسان بالأشياء من أجل الانتفاع بها؟
يقول الدكتور أحمد شلبي: « المال مال الله وملكيته الخاصة وظيفة اجتماعية: يقر الإسلام حق المِلْكِيَّة الفردية كما سبق القول، ولكن المقصود من هذا التعبير هو ملكية الفرد بالنسبة للأفراد الآخرين أو قل: إنه ملكية الظاهر، أو ملكية الانتفاع، أما المالك الحقيقي لكل شي فهو الله سبحانه تعالى »().
ويقول سَيِّد قطب: « وأول مبدأ يقرره الإسلام بجوار حق المِلْكِيَّة الفردية أن الفرد أشبه بالوكيل في هذا المال عن الجماعة وأن حيازته له إنما هي وظيفة أكثر منها امتلاكاً، وأن المال في عمومه إنما هو، أصلاً، حق للجماعة، والجماعة مستخلفة فيه عن الله الذي لا مالك لشيء سواه والمِلْكِيَّة الفردية تنشأ من بذل الفرد جهداً خاصاً لحيازة شيء معين من هذه المِلْكِيَّة العامة التي استخلف فيها الله جنس الإنسان»().
ويقول رحمه الله: « وهناك ما هو أصرح من هذا في حقيقة ملكية المال الفردية بوصفها ملكية التصرف والانتفاع وهذا هو الواقع، فالمِلْكِيَّة العينية لا قيمة لها من دون حق التصرف والانتفاع، فشرط بقاء هذه الوظيفة هو الصلاحية للتصرف، فإذا سفه التصرف كان للوالي أو للجماعة استرداد حق التصرف ]
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [ فحق التصرف مرهون بالرشد وإحسان القيام بالوظيفة »().
ويقول الشيخ علي الخفيف: « إن المال مال الله والناس جميعاً عباد الله، منحهم هذا المال ليكون لهم جميعاً فهو وإن ربط باسم شخص معين لكن الجميع عباد الله، فاختصاص الإنسان بشيء منه، إنـَّما هو نوع من الخلافة والولاية تلقاها عن المجتمع الذي يعتبر صاحب الولاية الأولى على جميع ما في الأرض... وإذا كانت خلافة كانت وظيفة اجتماعية لها مع ذلك صفة الاختصاص التي أضفت عليها صفة الحق حين تكون خاصة »().
وقَالَ الشيخ تقيّ الدِّين النَّبَهَانِيّ: « ولما كان المال لله، والله قد استخلف العبد فيه بإذن منه، كانت حيازة الفرد للمال أشبه بوظيفة، يقوم بها للانتفاع بالمال وتنميته، منها بالامتلاك. لأن الفرد حين يملك المال أنما يملكه للانتفاع به وهو معتمد به بحدود الشَّرْع وليس مطلق التصرف فيه كما أنه ليس مطلق التصرف في العين نفسه، ولو ملكها ملكية عينية، بدليل أنه تصرف بالانتفاع بهذا المال تصرفاً غير شرعي، بالسفه والتبذير كان على الدَّوْلَة أن تحجر عليه وتمنعه من هذا التصرف، وأن تسلبه هذه الصلاحية التي منحته إياها. وعلى ذلك يكون التصرف بالعين والانتفـاع بـها هـو المعنـى المراد من ملكيتها أو هو أثر هذه المِلْكِيَّة »().
ومن هذا يتبين أن الإسلام ينظر إلى المِلْكِيَّة بنظرتين: باعتبارها حقاً لصاحبها، وباعتبارها وظيفة اجتماعية، المالك فيها عامل وخازن وعليه أن يعمل في هذا المال بما يستطيعه في نطاق إرادته ومواهبه وقوته وله بحكم ذلك ثمره عمله ابتداءً بقدر حاجته وما به طيب عيشه، وأما ما فضل بعد ذلك فهو من حق صاحب المال، ومالكه الحقيقي يجب أن يوجه فيما أرشد إليه مالكه فلا يجوز اختزانه واكتنازه دون استثمار وعمل فيه، كما لا يجوز أن يمنعَ عن ذي الحاجة وعماً تتطلبه مصالح الدَّوْلَة عند ظهور حاجتها إليه. 
تمهيــد:
قبل البدء في شرح تنظيم الإسلام لقضايا التَّمَلُّك الفردي، لا بدّ من الإشارة إلى:
إن نظام الخلق تحكمه سنّة التفاضل لا التساوي، فشعار المساواة بصيغته التعميمية يتنافى مع نظام الخلق وهو مطلب مناقض للعدل إلا في بعض الأحوال، وهي التي يقضي العدل فيها بالتساوي. فالإسلام لا يقر المساواة على اعتبارها مبدأ عاماً وقاعدة مطردة، وإنما يقرها حينما يقتضيها العدل. وعلى جادة المثال « إنّ المذاهب الاشْتِراكِيَّة كلها بما فيها الشيوعية تعمل لتحقيق المساواة الفعلية بين الأفراد، إما المساواة بالمنافع، وإمّا المساواة في وسائل الإنتاج، وإمّا المساواة المطلقة وكل واحد من أنواع هذه المساواة مستحيل الوقوع وهو فرض خيالي. وذلك أن المساواة من حيث هي غير واقعية، فهي غير عملية. أما كونها غير واقعية فإن الناس بطبيعة فطرتهم التي خلقوا عليها متفاوتون في القوى الجسمية والعقلية ومتفاوتون في إشباع الحاجات، وبالتالي فالمساواة بينهم لا يمكن أن تحصل إذ لو ساويت بينهم في حيازة السلع والخدمات جبراً بالقوة تحت سلطة الحديد والنار، فإنه لا يمكن أن يتساووا في استعمال هذا المال في الإنتاج ولا في الانتفاع به ولا يمكن أن تساوي بينهم بمقدار ما يشبع حاجاتهم، فالمساواة بينهم أمر نظري خيالي(). فالمساواة بين الناس مع تفاوتهم في القوى تعتبر بعيدة عن العَدالَة ، وكل محاولة للمساواة في حيازة المنافع وفي وسائل الإنتاج مكتوب لها الإخفاق، لأنها مناقضـة للفطـرة. وقد كان الناس ولا يزالون متفاوتين في إمكاناتهم متباينين في أنشطتهم مختلفين في إبداعاتهم، فإن وزعت ثمرات جهودهم المتفاوتة عليهم جميعاً بالسواء، فذلك هو الظلم ذاته، وإنْ بدا في الظاهر أنها المساواة المطلوبة، فمن هنا كان لا بد في المجال الاقتصادي من تقييد المساواة بميزان العَدالَة حتى لا تنطلق المساواة مدمرة للحوافز.
« ومن نماذج الأحكام الاقتصادية التي روعيت فيها ضرورة ضبط مبدأ المساواة بميزان العَدالَة ، نظام توزيع الميراث، فقد روعي في توزيعه أصل المساواة بين الوارثين ما دامت العَدالَة مساعدة على ذلك، فإذا لوحظ أن هناك حالات تتخلف فيها العَدالَة عن المساواة الحرفية، فالأفضلية عندئذ لما تقتضيه العَدالَة ، ذلك لأن الرصيد النهائي للعدالة هي المساواة دائماً ولكن ليس الرصيد النهائي للمساواة هو العَدالَة بالضرورة»(). وعليـه، فالتفاضل سنة الله في خلقه والدعوة إلى المساواة بين متفاضلين دعوة إلى الأخذ بأمر باطل وإلى إلغاء قانون العدل، قَالَ تعالى: ]
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [() وقَالَ: ]
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[().
فالإسلام يقوم في الحقوق على قاعدة العدل لا على فكرة المساواة، وفي بيان الواقع يقوم على ما هو الحق في واقع الحال لا على التسوية مطلقاً وإن كان الواقع متفاضلاً، فلا يمكن أن يستوي من يبذل جهداً وإمكانيات مالية وجسمية وعقلية ونفسية مع آخرين تضاءلوا في جهدهم وقدراتهم.
ليس من المعقول أن تترك قضايا التَّمَلُّك بلا تنظيم ولا تنسيق ولا ضوابط إذ معنى هذا جعل الأمور تؤدي إلى الفوضى والاضطراب وتسبب الشر والفساد حيث يترك الناس للغرائز الجامحة والتسلط والقهر والغلبة على الآخرين بحيث يأكل القوي الضعيف، ويؤكل المال بالحق والباطل ويقوم ميزان الجور ويلغى ميزان العدل. فلا بدّ من تنظيم عادل كامل مضبوط لقضايا التَّمَلُّك يحقق من ناحية العدل الكامل، ومن ناحية أخرى لا يؤدي إلى أن تصبح الأموال كلها بيد أو بأيدٍ قليلة.
فالنِّظَام الرأسمالي حين قرر حرية التَّمَلُّك والعمل لم يضع الضمانات الحقيقية أو الواقعية لضمان تحقيق هذه الحريات فعلاً بل ترك الأمر لجهود الأفراد الأمر الذي حرم الضعفاء من التَّمَلُّك والعمل وأدى إلى انطلاق الناس بشكل مسعور للحصول على الأرباح وزيادة الثروات بكل السبل مشروعة أو غير مشروعة وكأن المهم هو تحقيق الربح الفـردي دون اكتـراث بالمبـادئ الدينيـة والأفكـار الأخلاقية أو بمصلحة الآخرين أو المجتمع ككل. والنِّظَام الاشتراكي حين ألغى المِلْكِيَّة الفردية تعارض والطبيعة الإنسانية التي فطر عليها الإنسان في ميله إلى تملك ثمرة عمله فأدى إلى قتل الحافز الفردي للعمل، ذلك أن الإنسان لا يبذل كـل عنايتـه واهتمامـه إلا لما يملكه شخصياً وأن عنايته تخف أو تنعدم لما لا يملكه.
إنّ المال هو كل ما يتموله الناس مهما كانت عينه، والمقصود من سبب تملكه هو السبب الذي أنشأ ملكية المال للشخص بعد أن لم يكن مملوكاً له. ولتملّك المال أسباب شرعية حصرها الشَّارِع في أسباب معينة لا يجوز تجاوزها، وفي هذا تحديد للملكية الفردية على الوجه الذي يتفق مع الفطرة وهذا التنظيم يحمي المجتمع من الأخطار المترتبة على إطلاقها، لذلك لا بد من تحديد الكيفية التي يحصل فيها الإنسان على المال().
وفي إطار هذا التحديد تباينت طرق العلماء في تقسيمه على النحو التالي:
أولاً: باعتبار وجود الإدارة وعدمها إلى:
أسباب اختيارية، وهي ما كان الإنسان مختاراً في إيجادها كما الاستيلاء على المباح وسائر العقود.
وأسباب جبرية وهي ما ليس للإنسان فيها اختيار كما في الميراث والمتولد عن المملوك().
ثانياً: باعتبار الصفة الأصلية إلى:
أسباب منشئة كالإحياء والصّيــد.
وأسباب ناقلة كما في العقود والميراث.
ثالثاً: باعتبار الصيغة إلى:
أسباب فعليّة، كالاستيلاء على المباح.
أسباب قوليّة، كما في العقود في أكثر صور انتقَالها.
أسباب اعتبارية، كما في الميراث، فسببه ليس من باب القول ولكنه حالة خاصة() اعتبرها الشَّارِع سبباً لوراثة المال عن طريق الميت.
رابعاً: باعتبار الشخص الذي تؤول إليه المِلْكِيَّة إلى:
ما كان بعمل شرعي، كالتجارة والصناعة والزراعة والصيد.
ما كان بحكم شرعي كالزكاة والإرث.
ما كان بإرادة غيره كالهبة والصدقة والوصية.
وسوف أتناول أسباب التَّمَلُّك المشروع بشيء من التفصيل، وقد قسمتها إلى ثلاثة أقسام من خلالها تتجلى الضوابط الشَّرْعية في دخول المِلْكِيَّة إلى صاحبها:
الأول: الأسباب المترتبة على الجهد الخاص.
الثاني: الأسباب المباحة بالحكم الشَّرْعي().
الثالث: الأسباب المترتبة على إرادة الآخر.

1. الأجرة على العمل المشروع

العمل له مكان رئيسي في أسباب التَّمَلُّك في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، لذلك نجد الشَّرِيعَة في كثير من المواضع تحث على الكسب والعمل وتنهى عن الخمول والكسل، يقول الله تعالى: ]
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [
().
فالقرآن الكريم أورد العمل بتصريفاته المختلفة وأبعاده الجزئية والشاملة، المادية والأخلاقية، الدنيوية والأخروية بما يقدر بثلاثمائة وثمانية وعشرين موضعاً() وفي السنّة الشريفة تتوارد الأحاديث تترى عن مكانة العمل فيسعى e إلى أن يدرأ بحض أتباعه على العمل، ظواهر التبطل والكسل والتواكل والاستجداء التي تتناقض أساساً مع متطلبات العدل وصورة المجتمع الذي يسوده التوازن الفعّال، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله e أنه قَالَ: « ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمة إلا كان له به صدقة »() فكل قادر على العمل مطالب في شريعة الإسلام أن يسعى سعيه غير مستنكف عن الصغير من الأعمال أو مُحقر له فذلك العمل على صغر شأنه خير من الفراغ والبطالة إنه عمل يشغل الجوارح ويحفظ ماء الوجه من السؤال. فعن أبي هريرة أن رسول الله e قَالَ: « والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب على
ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه »() وقَالَ e : « على كل مسلم
صدقة » قَالوا : يا نبي الله فمن لم يجد؟ قَالَ: « يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق» قَالوا: فإن لم يجد؟ قَال: « يعين ذا الحاجة الملهوف » قَالوا: فإن لم يجد؟ قَالَ: « فليعمل
بالمعروف
وليمسك عن الشّر فإنها له صدقة »().فالمهم هو أن يعمل المسلم وأن يكون إيجابياً، فإذا عجز عن تفجير طاقاته في بعض مساحات النشاط البشري فإن هناك مساحات أخرى غيرها.
فالعمل في الحياة الإسْلاميَّة أمر ملزم ومفضل على سكون العبادة، قَالَ e: « لئن
يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين»() ويبلغ من تقييمه للعمل وتقديره للعطاء وإدراكه العميق للدور الذي يلعبه على المستوى العام أن قَالَ : « إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها،
فله بذلك أجر»().
وإذا كانت النظم الاقتصادية الوضعية كلها، تجرد العمل والإنتاج عن كل دافع نفسي وروحي وتجعله مجرد سلوك لتحصيل لقمة العيش وتكثير المال، فإن القيمة الحقيقية للعمل والإنتاج تبرز على وجه كما لها في الإسلام حيث يعتبر العمل والإنتاج لمصلحة الفرد والجماعة نوعاً من أنواع الطاعة والعبادة في الإسلام، له مكانه وحسابه في ميزان السلوك والجزاء في الدنيا وفي الآخرة يوم الحساب، فقد روى الطَّبراني() عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قَالَ : « مرّ على النَّبِيّ e رجل فرأى أصحاب رسول الله e من جلده ونشاطه، فقَالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقَالَ رسول الله e: « وإن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان يسعى على نفسه يُعِفها فهو في سبيل الله،
وإن كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان »().
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله e: « خير الكسب كسب يد
العامل إذا نصح »() وعن عائشة رضي الله عنها قَالَت: قَالَ رسول الله e: « من أمسى
كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له »().
فهذه نصوص نبوية، تربط كلها بين الحرفة والعمل بنصح وجهد وإخلاص، وبين الله ومغفرته ورضوانه، وهكذا حين يرتبط مفهوم العمل والإنتاج في الإسلام بهذه المعاني السامية، فإن شأن العمل والإنتاج لا يقتصر حينئذ في مفهوم الناس على مجرد القيام بعمل مادي للحصول على أجر معين، بل يصبح العمل والإنتاج حينئذ قياماً بالواجب لمصلحة الفرد والجماعة كما يصبح حافز العمل والإنتاج في نفس الفرد طاقةً لا حدود لها يبدو أثرها في إقبال الفرد على عمله برغبة واندفاع وتجويد عمله وإنتاجه بنصح وإخلاص وهذه وحدها أمنية كبرى لنجاح كل اقتصاد.
وعلى أساس هذه النظرة للعمل يحترم الإسلام حق العامل في الأجر، هذا الحق الصارم الذي يجب أن يعطاه لحظة توقفه عن العمل جزاءً وفاقاً على ما قدمت يداه فهو يدعو أولاً إلى الوفاء به وينذر مَنْ يجور عليه ويصب غضبه الشديد ويعرب عن خصومته القاطعة لكل من يستأجر أجيراً فيأكل حقه، قَالَ رسول الله e: « قَالَ الله عزّ وجلّ: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم عذر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر
أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره»().
« والجمع بين هذه المعاصي الثلاثة، وتوحيد الجزاء عليها ذو دلالة خاصة، فالمعصية الأولى هي: خيانة وغدر لذمة الله، والثانية: هي جريمة إهدار لإنسانية حر وأكل ثمنه، والثالثة: هي أكل عرق الأجير وهي كأكل ثمن الحر غدر بالإنسانية، وكخيانة العهد بعد الحلف بالله غدر بذمة الخالـق وكل منهـا يستحـق الحـرب من الله والخصومة لشناعتها ووضوح معنى الغدر فيها»().
وهو يدعو ثانياً إلى التعجيل بأداء هذا الأمر فلا يكفي أداؤه كاملاً بل لا بدّ من أدائه عاجلاً، قَالَ رسول الله e: « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه »()، لحاجة نفسية تتمثل في إشعاره بأن جهده مقدر ولحاجة واقعية تتمثل في توقه لسد حاجاته الأَسَاسيَّة، فيكون التواني في أداء الأجر مقللاً لنشاطه ومحدّاً من رغبته في العمل.
وفي مقابل هذه العناية القائمة على الرضى النفسي والاكتفاء الذاتي على العامل أن يقوم بتجويد العمل وإتقانه « فلكل حق مقابل من الواجب في الإسلام، وذلك طبيعي من ناحية التعادل بين الجهد والجزاء، وطبيعي كذلك من الناحية الخلقية التي يحرص الإسلام على أن تكون أساساً للحياة »(). لهذا ركّز الإسلام مجموعة من المفاهيم في أذهان المسلمين تدفعهم إلى الإخلاص وعدم الغش والخيانة، وجعل الرقيب عليهم خوفهم من الله، وفي هذا زوال للغش وذهاب للخيانة وإكثار للإنتاج وبباعث من إيمان المسلم بالله ومن مواقع خوفه من الله يعمل ويعطي بقدر جهده ويفي بالتزامه وأنى له ذلك وهو يعلم أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، لذلك فإن فساد الذمّة من شأنه أن يورث خراباً فضلاً عما يصيب مصالح الجماعة من فساد واضطراب.
وأما تقدير الأجرة فلا تكون إلا على منفعة الجهد المبذول من الأجير ولا يكون على الجهد نفسه وإن كان يلاحظ الجهد، وإلا لكان أجر الحداد أكثر من أجر المهندس، لأن جهده أكثر مع أن العكس هو الواقع. عليه « فإن الأجر هو بدل المنفعة وليس بدل الجهد... وإذا استأجر رجلاً للبناء فلا بد من تقدير الاستئجار بالزمن أو العمل، فإن قدره بالعمل فظاهر فيه المنفعة في بيان موضعه وطوله وعرضه وسمكه ومادة البناء، وإن قدره بالزمن فالمنفعة فيه تزيد بكثرة المدة وتنقص بقلتها عادة، فكان وصف العمل وذكر الزمن مقياساًَ للمنفعة، وإذا قدر الزمن فلا يعمل أكثر من طاقته العادية، ولا يُلزم بالمشقة غير العادية »().
كما أن الإسلام لم يترك مسألة العلاقات الإنسانية التي يجب أن تسود بين الطرفين العامل وصاحب العمل في أي جهد فيضعهما في مرحلة الأخوة الكاملة حيث يأمر الطرفين عمالاً وأصحاب عمل بقوله e: « إخوانكم خولكم() جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان يتحقق تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم
فأعينوهم»().
« وليس ثـمة نظام تعرض فيه مسألة العمل وفق هذا المثلث الصارم: منح حق العامل كاملاً في وقته المناسب، وزيادة هذا الحق بما يتناسب واتساع الجهد الذي يبذله العامل ورفع العلاقة بين العامل وصاحب العمـل إلى مستـوى الأخـوة والتعامـل المشتـرك في الطعام واللبـاس»().

2. إحيــاء الأراضــي المــوات

الموات هو الأرض الخراب الدارسة وتُسمى ميتة ومواتاً()، فكل أرض لا يملكها أحد من الآدميين ولا ينتفع بها أحد فهي أرض موات، وقد عبّر القرآن عن الأرض التي لم تستغل بأنها ميتـة، فقَالَ تعالـى: ]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا[().
وعرّف الحَنَفِيَّة الأرض الموات بقولهم : « ما ليس يملك لأحد ولا هي من مرافق البلد وكانت خارجة عن البلد سواء قربت عنه أو بعدت» وهذا قول محمد بن الحسن الشيبانيّ()، وبه الفتوى، وأما أبو يوسف()، فالأرض الموات عنده هي ما لا ينتفع به من الأرض لانقطاع الماء عنه أو غلبته عليه أو كونه منقطعاً عن العمران وما أشبه ذلك(). وعرّف المالكية الموات بقولهم: هو الأرض التي لا مالك لها ولا ينتفع بها() . وعرّفه الشَّافِعِية بقولهم: هو ما لم يكن عامراً ولا حريماً لعامر قرب من العامر أو بعد().
وإحياء الأرض الموات هو زراعتها أو تشجيرها أو البناء عليها أو استعمال أي نوع من أنواع الاستعمال الذي يفيد الإحياء فهو عملية مرحلية يراد بها بعث النشاط والحياة في الأراضي المجدية الموات وإعدادها للقيام بمهمتها الأصلية وهي الإنتاج الزراعي أو المرابحة عن طريق البيع والاستثمار والبناء.
وذهب جماهير العلماء إلى أن الأرض الموات أرض مباحة، يجوز الاستيلاء عليها وتملكها بالإحياء على خلاف بينهم في شروط الإحياء.
وذهبت الإمامية إلى « أن موات الأرض ملك للإمام لا يملكه أحد، وإن أحياه ما لم يأذن له الإمام، بل فقد رجح محمد باقر الصدر بأن الإحياء بإذن الإمام لا يجيز التمليك إنما يكون للمحيي حق فيها وتظل ملكاً للإمام »().
وذهب أبو حنيفة: إلى اشتراط إذن الإمام دفعاً لما يتوقع من الخصومة بين المحيين، وقطعاً للنـزاع وتحقيقاً للمصالح ودفعاً للمفاسد، والراجح ما ذهب إليه الجمهور لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله e قَالَ: « مـن عمَّر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بـهـا »() ، وقَالَ e : « من أحيا أرضاً ميتة فهي له »() وقَالَ e : « من أحاط حائطاً على أرض فهي له »().
فهذه الأحاديث تدل بصريح نصِّها على أن من وجد أرضاً مواتاً ليست بملك لأحد ولم يتعلق بها شيء من مصالح المسلمين العامة فإنّ إحياءها مباح وتصبح بعد تمامه ملكاً للمحيي.
« ولا فرق في ذلك بين المسلم والذِّمي لإطلاق الأحاديث، ولأن ما يأخذه الذِّمي من بطون الأودية والآجام ورؤوس الجبال ملكه ولا يجوز انتزاعه منه فالأرض الموات أولى أن تكون ملكه »().
إلا أنه يشترط في التَّمَلُّك « أن يستثمر المحي الأرض خلال مدّة ثلاث سنين من وضع يده عليها وأن يستثمر هذا الإحياء باستغلال » فإن قام بإحيائها أصبحت له وملكاً بهذا السبب، وإلا فإن عليه أن يتركها لغيره من المسلمين ليستفيدوا.
وجاء في الخراج لأبي يوسف عن عمـر بن الخطَّاب رضي الله عنه، قَـالَ رسول الله e: « من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجرٍ حق بعد ثلاث سنين »()، وعقّب أبو يوسف على حديث عمر بأنه يؤخذ منه أن من يحتجز حقاً بعـد ثلاث سنين ولم يعمل به فلا حق له... وترك بعض الفقهاء هذه المدة لرأي الإمام. وفي ذلك يقول ابن قُدامة في المُغْني: « وإن سأل الإمهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك »(). وجاء في حاشية الباجوري ما يفيد معنى الكلام الآنف الذكر().
« والقانون الإسلامي هنا أحكم من القانون الوضعي المستمد من القانون الفرنسي. ففي هذا القانون يكفي وضْع اليد مدّة خمس عشرة سنة، لتصبح الأرض ملكاً لواضع اليد، سواء أحياها أم تركها مواتاً في هذه المدة وفيما بعدها كذلك، فالحكمة هنا منتفية في تقرير حق الملكية، ونظرية « الأمر الواقع » هي وحدها التي تتحكم، وفرق بين النظرة الإسْلاميَّة ونظرة القانون الوضعي كبير»().
ولا يخفى من حكمة الشَّرْع بترغيبه في الإحياء هو « حاجة الناس إلى موارد الزراعة وتعمير الكون مما يحقق لهم رفاهاً اقتصادياً ويوفر ثروة عامة كبرى »().

3. استخـراج مـا فـي باطـن الأرض

ومـن أنـواع العمـل استخراج ما في باطن الأرض مما ليس حقاً لعامة المسلمين وهو الرّكاز.
وضابطه: ما دفن في باطن الأرض من أموال بفعل الإنسان، وهو إما إسلامي وإمّا جاهلي. فالإسلامي ما وجد عليه علامة أو كتابة تدل على دفن بعد ظهور الإسلام، وأهل العلم يقرون بالنسبة لهذه الحالة أنها تملك والموجود من مال المسلم داخل الأرض كالموجود خارجها ويأخذ حكم اللقطة ولها تفاصيلها المدونة في كتب الفقه.
أما الكنـز الجاهلي: فهو ما قام الدليل على أنه دفن قبل الإسلام. فإذا وجده إنسان فلا يخلو من أربع حالات:
أن يجده في موات أو في أرض لا يعلم لها مالك أو في طريق غير مسلوك فهو لواجده وفيه الخمس بلا خلاف والأربعة أخماس له. 
أن يجده في ملك آدمي معصوم، ففيه روايتان عند الإمام أحمد:
يملكه واجده لأن الكنـز ليس من أجزاء الأرض، بل هو جزء منفصل عنها.
ب- يكون لصاحب الأرض عند الإمام أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني ورواية عند الإمام أحمد.
أن يجده في أرض الحرب ويعثر عليه بنفسه، فهو له لأن مالك الأرض لا حرمة له فأشبه الموادة، فإن لم يقدر عليه إلا بحماية المسلمين فهو غنيمة.
أن يجده في ملك انتقل إليه فهو له إن ظهر عليه، وهذه الحالة تجري فيها الروايتان السابقتان في الحالة الثانية().
وملكية الرّكاز ثابتة بالسنّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبِيّ e قَالَ: « وفي الركاز
الخُمس »() وعن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ: سئل رسول الله e عن اللُّقطة فقَالَ: « ما كان في طريق مأتيّ، أو في قرية عامرة فعرّفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا ملك وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الرّكاز
الخُمس»().
وهنا لا بد من كلمة تقَال: « فقد كان يستخرج من الرّكاز إلى الوقت الذي شرع فيه هذا الحكم هو من المعادن القليلة الاستعمال، كالذهب والفضة، وهذه ليست من ضروريات الجماعة كلها كالبترول والفحم والحديد، فهل يلحق البترول والفحم والحديد وما حكمها بالضروريات المشاعة كالماء والكلأ والنار، أم بالرّكاز الذي كان معروفاً في أوائل عهد الإسلام؟
إنَّ الفقهاء قد اختلفوا في حكم الجواهر المستقرة في الأرض بخلق الله كالذهب والفضة والنحاس والحديد كما اختلفوا في مدلولها، وهل تدخل تحت حكم الركاز من حيث وجوب إخراج الخمس فيه أم أن لها حكماً آخر.
ويترتب على هذا الخلاف إلحاق المعدن بالركاز وعندئذ يجب فيه الخمس أو التفريق بينهما في الحكم وعندئذ يسري عليه حكم جديد.
يقول تقيّ الدِّين النَّبَهَانِيّ: « إن ماكان مركوزاً في الأرض بفعل إنسان أو كان محدود المقدار لا يبلغ أن يكون للجماعة فيه حاجة فهو ركاز وما كان أصلياً وللجماعة فيه حاجة لم يكن ركازاً وكان ملكاً عاماً وأما ما كان أصلياً ولم يكن للجماعة فيه حاجة، كالمحاجر التي تستخرج منها حجارة البناء وغيره، فلا يكون ركازاً ولا ملكاً عاماً بل هو داخل في المِلْكِيَّة الفردية»().
ويقول الدكتور وهبي الزحيلي: « ويهمنا رأي المالكية الذي يفرق بين الكنـز والمعدن فالرّكاز هو الكنـز وأما المعدن فهو ما يخرج من الأرض من ذهب وفضة بعمل وتصفية وهذا الرَأْي يتفق مع النظرة الحديثة للدول في ملكية المعادن»().
ويقول الإمام أبو زهرة: « وهذا يجعل هذه المعادن ملكاً للدولة وبالتالي ملكاً للجماعة تعود فائدتها إلى جميع الأفراد دون أن يكون ذلك مقتصراً على فئة دون فئة »().
ويقول سَيِّد قطب: « ونحن نميل إلى رأي المالكية في اعتبار هذه الأنواع ملكاً عاماً، لا تنتقل ملكيته إلى مالك الأرض التي وجد فيها، لأن تملكه للأرض لا يعني تملك ما فيها، إذ ليس لمثلها تملك الأرض وتطلب في العادة »().
وعليه، « فلا يجوز للأفراد أن يمتلكوها نظراً لأهميتها وعدم التوافق بين الجهد المبذول فيها والناتج الذي يحصل منها الذي يوجب أن تكون ملكيتها للدولة ويحق للدولة أن تقطع هذه المعادن لمن تجد فيه القدرة على استثمارها على أن يكون للمقطع له حق الاستغلال() وتبقى ملكية الرقبة للدولة، ويحق لها أن تسترد ذلك الحق متى انتهت فترة الإقطاع»() .
أورد ابن عقيل في حكمة ملكية الثروات المملوكة ملكية عامة، فقَالَ: « هذا من مراد الله الكريم وفيض جوده الذي لا غناء عنه، فلو ملكه لأحد بالاحتجار ملك منفعة، فضاق على الناس فإن أخذ العوض أغلاه، فتخرج به عن الموضع الذي وضعه الله، من تعميم ذوي الحوائج من غير كلفة().
وقَالَ الكاساني(): « وأرض الملح والقار والنفط ونحوها مما لا يستغني عنه المسلمون لا يجوز للإمـام أن يقطعهـا لأحـد لأنهـا حـق لعامة المسلمين وفي إقطاعها إبطال لحقهم وهذا لا يجوز »().

4. الصّيـــد

ومن أنواع العمل الصّيد، وهو: « اقتناص الحيوان الحلال المتوحش بالطبع الذي يقدر عليه»(). والصيد من الوسائل البدائية الأولى في حياة البشرية ولا يزال مورداً اقتصادياً مهماً كصيد السمك واللآلئ والمرجـان والإسفنـج وما إليهـا من صيـد البحر والبر، فإنها ملك لمن يصيدها.
قَالَ تعالى:]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا[()
وقَالَ تعالى: ]
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا[() فالصيـد منشيء للملكية عند اكتمال الشروط وانتفاء الموانع.
ويتم إما بالاستيلاء الفعلي أو الحقيقي، وإما بالاستيلاء الحكمي.
فالحقيقي: هو إمساك الصائد باليد باقتراب الصائد منه، وهو في مصيدته بحيث يمكنه القبض عليه وهذا النوع لا يحتاج تملكه إلى نيّة وقصد الصيد وحكمه: أنه يثبت به الملك مستقراً ولا يخرج عن ملك صاحبه حتى ولو استطاع الفرار عند غير مالك لأنه باستيلاء الصائد عليه خرج عن إباحته الأصلية، أما المالكية فيرون وجوب استئناس الصيد عن صائده الأول، أما إذا فرَّ قبيل استئناسه فإنه يزول ملكه عنه، فإذا صاده غير ملكه.
والحكمي: هو ما يكون بوساطة الآلة وحدها ويخرج الصيد بها عن مناعته وحالته الطبيعية وذلك كمن يضع الشبكة فيتعلق بها صيد ونحو ذلك.
وحكمه: أن الملك يثبت به شرطين:
الأول: أن يكون قصد الصائد بعمله الصيد، فإن لم يقصد الصيد كمن ينشر شبكته لأجل تجفيفها فيقع بها صيد فإنه لا يملكها.
الثاني: أن يكون العمل معجزاً للصيد عن الفرار والعودة إلى حالته الطبيعية، فإذا توافر الشرطان أصبح الصيد من حق الصائد.
فالفرق بين الاستيلاء الحقيقي والحكمي: أن الحقيقي لا يحتاج إلى نيّة مطلقاً ويثبت به الملك ويستقر ولا يخرج عن ملك صاحبه حتى ولو استطاع الفرار على الخلاف المذكور آنفاً، وأن الحكمي يشترط منه نيّة الصيد وتثبت المِلْكِيَّة فيه إذا لم يتمكن من الفرار وكان قد خرج عن طبيعته، فإذا توافر ذلك واستقر أصبح ملكه حقيقاً()

5. السّمسـرة والدلالــة

السّمسار اسم يعمل للغير بالأجر بيعاً وشراءً وهو يصدق أيضاً على الدلال، فإنه يعمل للغير بالأجر بيعاً وشراءً.
والسمسرة نوع من أنواع الأعمال التي يملك بها المال شرعاً.
فقد روى أبو داود عن قيس بن أبي غرزة الكناني قَالَ: « كنَّا في عهد رسول الله e نسمي السماسرة، فمرّ بنا رسول الله e فسمانا باسم هو أحسن منه، فقَالَ: « يا معشر التجّار إن
البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة »().
ومعناه: أنه يبالغ في وصف سلعته حتى يتحدث بما هو لغو، وقد يجازف في الحلف لترويح سلعته فيندب إلى الصدقة ليمحو أثر ذلك ولا بد من أن يكون العمل الذي استؤجر عليه للبيع والشراء معلوماً إما بالسلعة، وإما بالمدة، فإذا استأجره ليبيع له، أو ليشتري له الدار الفلانية أو المتاع الفلاني صحّ وكذلك إذا استأجره ليبيع له أو ليشتري له يوماً إلى الليل صحّ، وأما إذا استأجره لعمل مجهول فهو فاسد.
وليس من السمسرة ما يفعله بعض الأُجراء وهو أنْ يرسلَ التاجرُ رسولاً عنه ليشتري له بضاعة من آخر فيعطيه مالاً مقابل شرائه من عنده فلا يحسبها من الثمن، بل يأخذها له باعتباره سمسرة من التاجر، وهو ما يُسمى ( القومسيون ) فهذا لا يعتبر سمسرة لأن الشخص وكيل عن التاجر الذي يشتري له، فما ينقص من الثمن هو للمشتري وليس للرسول، ولذلك يحرم عليه أخذه بل هو للمرسل الذي أرسله إلا أن يسامح به المرسِل فيجوز، وكذلك لو أرسل خادمة، أو صديقه ليشتري له شيئاً، وأعطاه البائع مالاً أي: (قومسيوناً) مقابل شرائه من عنده، فإنه لا يجوز أخذه لأنه ليس سمسرة وإنما هو سرقه من مال الشخص المرسل، إذ هو للمرسِل وليس للرسول المشتري عن المرسِل.

1- الزكـاة

الزكاة في اللغة: النماء، وتأتي بمعنى التطهير، وكلا المعنيين مقصودان في تشريع الزكاة، فهي طهرة للأموال ونماء لها على معنى الأصل، أما كونها طهرة للأموال، فلأن الأموال التي بين أيدي الناس تشتمل على حقوق الفقراء، وفي إخراج هذه الحقوق منها بزكاتها طهارة لها، وأما كونها سبباً لنمائها، فذلك لأن اكتناز الأموال مع الإنفاق منها يؤدي إلى نقصانها ونضوبها، ثم تزيد الزكاة في سرعة نضوبها لانتقاصها منها كل عام وذلك إن لم يحركها صاحبها في عملية التنمية والتجارة وبذلك تحث الزكاة صاحب المال على دفع أمواله في عملية التنمية خشية نضوبها، وبذلك تكون الأموال سبباً لنمائها وذلك كمـا قَالَ e: « اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة »() ، وقَالَ e: « ألاَ من وليَّ مالَ يتيمٍ، فليتجر له فيه، ولا يتركه، فتأكله الزكاة »() فإخراجها سبب لنماء المال وزيادته كما قَالَ تعالى: ]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [
() وقَالَ e : «ما نقصت صدقة من مال»(). وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام() في كتابه الأموال أن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وليّ مال اليتيم فقَالَ: « إن تركنا هذا (المال) أتت عليه الزكاة » قَالَ أبو عبيد: يعني إن لم يعطه في التجـارة().
وعلى هذا فنظام الزكاة يجعل رأس المال في حالة حركة دائمة، وممّا يُلفت النظر إليه، أننا وجدنا من علماء الاقتصاد في أوروبا من يفكر في طريقة عملية لتحريك النقود المجمدة في صناديق الذين يكتنـزونها ولا ينفقونها، وعلى سبيل المثال وجدنا جفري مارك في كتابه: الوثنية الجديدة، يقترح أن تفرض الدَّوْلَة ضريبة خاصة على كل أرصدة الودائع من النقد في المصارف(). ووجدنا لورد كينـز يقترح تحميل النقد تكاليف حيازته في نسبة مئوية تفرض على أصوله لتحفزه دائماً إلى ميدانه الحيوي في الإنتاج والتبادل()، ونحن نرى أن ما انتهى إليه هذان المفكران ليس جديداً علينا ففي فرض الزكاة على النقود وتوظيفها في توفير صنوف الرعاية الاجْتِمَاعِيَّة لمن هم في حاجة إليها في المجتمع تنشيط لعجلة الاقتصاد وحث للأصول النقدية إلى مجالها الحيوي في ميادين الاستثمار وحركة الإنتاج والتبادل في الأسواق وبهذا حال الإسلام بتشريعاته المالية من دون كنـز النقود وتعطيلها عن دورة الإنتاج والتبادل، لأن النقود في حقيقتها لا تعدو أن تكون ممثلة لسائر الطيبات من سلع وخدمات، وهي كما يقول الزمخشري: « قانون التموّل وأثمان الأشياء »() وما يزال الاقتصاديون لا يؤمنون بأن المال في ذاته هو الثروة أو أنه نافع إلا إذا كان خادماً مرغوباً منه للإنتاج والتبادل، فإذا تكدس فقد انقلب مخدوماً ولم يعد خادمـاً().
ومن هنا نفهم معنى قول الله تعالى: ]وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ()وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[() فلا كنـز ما دام الإنفاق في سبيل الله موجوداً وأقلّه الزكاة، وفي الأثر «ما أديت زكاته
فليس بكنـز »() إذ لا تجتمع الكنـزية والزكاة كما أن رأس المال ليس من حقه الربح لأنه رأسمال مجرد، بل للآخرين فيه حق لمجرد أنه رأسمال، ولا يستحق رأس المال الربح بعد هذا إلا في مقابل استعداده لتحمل الخسارة كما في شركة المضاربة، إنما يستحق صاحب رأس المال الربح في مقابل تحمله الخسارة كلها في حالة الخسران، أما رأس المال المجرد فإنه يستحق النقصان بالزكاة ولا يستحق الربح بدون مقابل.
وهذا فارق دقيق كبير بين النظرة الرَّأْسُماليَّة والشيوعية من جهة، وبين النظرة الإسْلاميَّة إلى قضية رأس المال.
فالنظرية الرَّأْسُماليَّة ترى أن رأس المال يستحق الربح دائماً وبلا مقابل، ومن هنا أجازوا الرِّبَا وأمثاله مما يكون فيه رأس المال رابحاً في كل حالة، ولم يفرضوا على رأس المال أي ضريبة وإنما تكون الضرائب على أرباح رأس المال.
والنظرية الشيوعية التي تعتبر رأس المال مستغلاً وأنه يمتص أرباح العمال.
« فالإسلام بواسطة أنظمته كلها وبواسطة الزكاة قد جعل المسألة في وضع لا يمكن أن يكون هناك أعدل منه: المال يربح في مقابل تحمله الخسارة. وصاحب رأس المال يربح في مقابل إدارته وتحمله الخسارة »() .
وعلى صاحب رأس المال أن يدفع سنوياً، لا من الأرباح وحدها، بل من الأرباح ورأس المال نسبة مئوية ثابتة، لأصناف من البشر. 
فزكاة الثروة النقدية تكون بنسبة 2,5 % اثنين ونصف في المائة من الثروة النقدية التي يحول الحول على حيازتها، وزكاة العروض التجارية بأنواعها من شتى السلع والبضائع تكون بنسبة 2,5 % اثنين ونصف في المائة، من مجموع قيمتها النقدية وزكاة الثروة الزراعية تكون بنسبة 10% أي عشر المحاصيل الزراعية وثمارها إذا سقيت بماء المطر دون آلة، وبنسبة 5 % أي نصف عشر المحاصيل التي تسقى بالآلة وتستلزم تكاليف السقي وجر المياه إليها وزكاة الثروة الحيوانية من الإبل والبقر والغنم والماعز، بنسب تتفاوت تبعاً لأعدادها كما هو مبين في مواضعه من كتب الفقه الإسلامي وزكاة الثروة المعدنية من ركاز في باطن الأرض ومعادن تستخرج عن طريق المناجم بنسبة الخُمس مما يخرج من الأرض من كنوز ومعادن، وزكاة الثروة البحرية بنسبة الخُمس مما يخرج من البحر، وقد روى القاضي أبو يوسف في ذلك أن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قَالَ: « فيما أخرج الله جلّ ثناؤه من البحر الخُمس» قَالَ ابن عَبَّاس « وذلك رأيي »().
ومن التطبيقات المهمة في ذلك ما رواه لنا أبو عبيد القاسم بن سلام قَالَ: « كتب عمر بن عبد العزيز إلى عاملة على عمان أن لا يأخذ من السمك شيئاً حتى يبلغ مائتي درهم، فإذا بلغ مائتي درهم فخذ منه الزكاة().
وتحصيل زكاة الثروة وجبايتها وظيفة من الوظائف الأَسَاسيَّة للدولة في الإسلام حيث تقوم الأجهزة الإدارية المختصة بذلك بالإشراف على ميزانية هذه الفريضة المالية، وتدقيق حساباتها وضبط شؤونـها وتنظيم جبايتها وتوجيهها إلى مصارفها وأهدافها لتوفير صنوف الرعاية الاجْتِمَاعِيَّة لمن هم بحاجة إليها، ولذلك فقد خصص القرآن سهماً خاصاً من ميزانية الزكاة لـ « العاملين عليها » وهم الموظفون القائمون بتنظيم شؤونها وضبط أمورها مما يؤكد أن تحصيل هذه الفريضة المالية هو وظيفة من وظائف الإدارات الرسمية في الدَّوْلَة وذلك كما قَالَ الله تعالى: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[() فقولــه تعالـى: ]خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
[ خطاب للنبي e ولكل ولي يحكم الدَّوْلَة من أمته ليقوم بتحصيل هذه الفريضة المالية والإلزام بها، وعدم التفريط فيها. والحكمة في توجيه الخطاب هنا للنبي e أنه الداعي إلى الله والمبين عنه ما أراده، ... وليكون سلوك الأمة في تشريعها الحقوقي على حسب ما ينهجه ويبينه لهم().
وقد نصّت السنّة النبوية على وظيفة الدَّوْلَة في تحصيل هذه الفريضة المالية وتوجيهها في مصارفها وذلك في قوله e لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم() وقد قَالَ ابن حَجَرٍ في شرحه لهذا الحديث استدل بقوله: «تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» على أن الإمام-وهو الحاكم- هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفهـا، إما بنفسـه وإما بنائبـه، فمن امتنع منها أخذت منه قهراً »() .
ولذلك أعلن أبو بكر الصديق رضي الله عنه حرباً على الذين تمردوا وامتنعوا عن أداء الزكاة للدولة، حتى حملهم على أدائها.
ومن التطبيقات العملية في ما رواه لنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن نافع رضي الله عنه: أن الأنصار سألوا ابن عمر عن الصدقة (أي الزكاة ) فقَالَ: « ادفعوها إلى العمال»()، كما روى أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي يُونُس مولى أبي هريرة أنه سمع أبا هريرة وأبا أسَيِّد ( عبيد الله بن ثابت الأنصاري) صاحبي رسول الله e يقولان: « إن حقاً على الناس إذا قدم المصدق أن يرحبوا به ويخبروه بأموالهم ولا يخفوا عنه شيئاً »().
وهذا كلّه قرآن وسنّة وتطبيق عملي، يدل على أن تحصيل زكاة الثروة وظيفة من الوظائف الأَسَاسيَّة للدولة في الإسلام وهذه الدَّوْلَة هي المسؤولة عن وصول هذه الحقوق المالية إلى الجهات المستفيدة من حصيلة زكاة الثروة في المجتمع، ولكل من هذه الجهات أو المصارف دائرة تتسع أو تضيق بمقدار ما يندرج فيها من حالات ويجمع بينها تشابه وشمول.
وهذه الجهات هي المذكورة في قوله تعالى: ]
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
[().
وهذه الآية تدل على حصر مصارف الزكاة في هذه الأصناف لاقتضاء الحصر الوارد في قوله تعالى: ]
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [() ولما ثبت عن زياد بن الحارث قَالَ: أتيت رسول الله e فبايعته فذكر حديثاً طويلاً قَالَ: فأتاه رجل فقَالَ أعطني من الصدقة، فقَالَ رسـول الله e : « إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك » ().
فمدار الاستحقاق هو الحاجة-حاجة الفرد إلى كفاية نفسه ومن يعوله- ذلك أن العيش حق لكل إنسان، فيجب أن ينال هذا العيش حقاً لا منحة ولا عطفاً، والسبب الذي يضمن للفرد من رعاية الدَّوْلَة الإسْلاميَّة الحصول على قوته هو العمل، فإذا تعذر عليه العمل كان على الدَّوْلَة أن تُهيِّئه له فإذا تعذر إيجاد عمل له أو عجز عن القيام به ولم يوجد من تجب عليه نفقته كانت نفقته على بيت المال وهو الحق المعلوم ولهذا كلّه كان من أسباب التَّمَلُّك الحاجة للمال لأجل الحياة.

2- نظــام النفقـــات

والزكاة ليست وحدها حق المال، وإنما هي الحد الأدنى المفروض في الأموال. ونظام النفقات في التشريع الإسلامي من أكبر عوامل التكافل العائلي، وهو نظام فريد يؤدي إلى تحقيق الوظيفة العائلية للملكية في دائرة الأسرة والأقرباء.
والفقهاء متفقون على وجوب نفقة المعسر الموسر، وإن كانوا مختلفين في الدرجات التي يشملها هذا الوجوب:
فهم متفقون على وجوب نفقة الزوجة على زوجها ولو كان معسراً، أما إذا كانت هي موسرة وهو معسر فابن حَزْم يرى وجوب نفقته عليها والجمهور على خلافه.
وهم متفقون كذلك على وجوب نفقة أولاد الصلب على أبيهم والوالدين على أبنهما.
واختلفوا فيما عدا ذلك، وسأعرض قواعدهم في وجوب الإنفاق:
1. المالكية: لا تجب إلا للوالدين والأولاد فقط.
2. الشَّافِعِية: تجب للأصول والفروع.
3. الحَنَفِيَّة : تجب لكل ذي رحم محرم.
4. الحنابلة: تجب بين شخصين جرى بينهما الميراث بفرض أو تعصيب من
الطرفين.
5. واختار الإمام ابن تَيْمِيَّة رحمه الله أن النفقة تجب لكل قريب من غير الأصول
والفروع إذا كان وارثاً().
ونفقة القريب المعسر على قريبه الموسر ليست من باب البر والإحسان والتفضيل الاختياري بل هي حق واجب وفريضة إلزامية فلو تأخر عن القيام بها فإن لولي الأمر حبسه على ذلك حتى يقوم بدفعها.
« ولو طبق-هذا النظام- في مجتمعنا تطبيقاً دقيقاً مع مراعاة تطور الحياة الاجْتِمَاعِيَّة بالنسبة للعصور الماضية لكان ذا أثر كبير في محو كثير من مظاهر البؤس والتفكك في مجتمعنا... وتحقيق التكافل الاجتماعي»().

3- الميـــراث

اقتضت حكمة الله أنّ ]
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [() وأن هذه الدنيا دار ممر لا مقر وأن مال الإنسان ينتقل بموته إلى غيره، لكن إلى من ينتقل؟
هنا يختلف نظام الجَاهِليَّة الجائر عن تشريع الإسلام العادل، ففي نظام الجَاهِليَّة كان ينتقل مال الميت إلى الكبير من أبنائه، فإن لم يكن فإلى أخيه أو عمه فلا يورثون الصغار ولا الإناث بحجة أن هؤلاء لا يحمون الذمار ولا يقاتلون ولا يحوزون المغانم، يوضح ذلك ما روى ابن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: « لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم قَالوا: تعطى المرأة الربع والثمن وتعطى الابنة النّصف ويُعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله e ينساه أو نقول له فيغيره، فقَالَ بعضهم: يا رسول الله أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيئاً وكانوا يفعلون ذلك في الجَاهِليَّة، لا يعطون الميراث إلا من قاتل يعطونه الأكبر فالأكبر»().
« فهذا كان منطق الجَاهِليَّة العربية الذي كان يحيك في بعض الصدور وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكمية ومنطق الجَاهِليَّة الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم وهي تواجه فريضة الله وقسمتـه لعلـه يختلـف قليـلاً أو كثيـراً عـن منطق الجَاهِليَّة العربية »().
ثم يجيء تشريع الإسلام الحكيم معلناً بطلان نظام الجَاهِليَّة في التوريث إجمالاً بقوله تعالى: ]
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ
كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [() وتفصيلاً بقوله: ]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً
فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [() وبقوله تعالـى في حـق الزوجـات: ]وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ[() وبقولـه سبحانـه: ]إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ
[().
فإذا جمعت إلى هذه الآيات قوله e : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى
رجل ذكر »() وجدتها قد استوعبت أكثر أحكام المواريث ومهماتها() حيث يؤخذ منه بيان مصرف ما تبقى بعد الفروض من التركة وأنه لأقرب العصبة بالنسب. ويأتي بعدهم العصبة بالولاء الذين ورد ذكرهم في قوله e : « إنما الولاء لمن اعتق »(). فهذه الأدلة بيّنت الإرث بنوعيه فرضاً وتعصيباً وفي قوله تعالى: ]
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
[() وقوله e: « الخال وارث من لا وارث له »() « بيان لمصرف التركة إذا لم يوجد أحد من ذوي الفروض من الأقارب ولا من العصبة وأن مصرفها حينئذ يكون لبقية الأقارب ممن ليس بذي فرض ولا عصبة- على خلاف في ذلك بين العلماء »().
هذا هو نظام الميراث في الإسلام الذي يتميز عن كلّ الأنظمة والقوانين المعروفة على وجه الأرض، ويقف بينها كالطود الأشم بعدله ورحمته وتوازنه، ,إذا كانت الشيوعية تلغي نظام الميراث ولا تجيزه فإنّ هذا إهمال لأسرة المالك وحرمان لها من جهد مورثها كما أنه قتل لروح العمل والجد والمثابرة عند الملاك.
وليست الرَّأْسُماليَّة بأقل سوءاً من الشيوعية، فقد أعطت المالك الحق في أن يجعل ماله من بعده للكلاب والقطط والعاهرات ويحرم منه أبناءه وأقرباءه.
وميّزة الإسلام في هذا النِّظَام ظاهرة للأبصار ظهور الشمس في رابعة النهار، فهو الذي أوصل الحقوق إلى مستحقيها كما قَالَ e:«إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا
وصية لوارث»() وإذا كانت الجَاهِليَّة راعت الأقوياء وحرمت الضعفاء من الميراث فإن الإسلام راعى هؤلاء الضعفاء كما قَالَ e: « إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»().
فهو سبب من أسباب التَّمَلُّك للمال الإرث، بتنظيم من الشَّارِع لا بإرادة المالك إلا فيما جعل له من الوصية في حدود ثلث ما يملك.
وهو نظام يراعي في التوزيع درجة القرابة، فكلما كانت القرابة أكثر التصاقاً بالميت كان نصيبها أكثر، كما يلاحظ في التوزيع مقدار الحاجة، فنصيب الفروع أكبر من نصيب الأصول لأنهم أكثر احتياجاً، إذ هم مقبلون على الحياة بينما الآباء والأمهات مدبرون عنها، كما أنه في توزيعه للتركة يتجه إلى التفتيت دون التجميع ويندر في مسائل الميراث أن ينفرد بالتركة واحد، فالمِلْكِيَّة في الإسلام تتوزع جيلاً بعد جيل بالتوريث، « فهو وسيلة من وسائل تفتيت الثروة وليس تفتيت الثروة علّة له، بل هي بيان لواقعه وذلك أن الثروة وقد أبيحت ملكيتها قد تتجمع في يد أفراد حال حياتهم ولكي لا يستمر هذا التجمع بعد مماتهم، كان لا بدّ من وسيلة لتفتيتها بين الناس »().
وهذا يعطينا دلالة واضحة على احترام الإسلام للملكية الفردية إذ أنه يسلم الثروة التي يخلفها الميت إلى يد وارثة موفورة محترمة كما قَالَ e : « ومن ترك مالاً فلورثته »().
« وإنك لو تأملت حكمة الإسلام في احترام المِلْكِيَّة الفردية ووضع القواعد للمواريث لعرفت أن هذا من أكبر الدوافع التي تحفز الممولين إلى قوة الاستثمار والنشاط في الإنتاج ويدعو إلى السهر على المصالح وبذل الجهود القوية في تكثير الأموال وهو في الوقت نفسه يحمي هذه الأموال من أن تعيث بها يد السرف والتبذير، فالرَّجُل الذي يعرف أن الأموال التي بذل في جمعها صحته وعقله ستصير بعد ذلك إلى الدَّوْلَة لا ينتفع بها بنوه بطريق مباشر ليس هناك ما يحفزه إلى ادخارها ويدفعه إلى المحافظة عليها »().
والإسلام بهذا يقوي أواصر القرابة بين الوارث والموروث ويحكم الصلة بينهما بوشيحة الرحم كما قَالَ : ]
وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [().
وهذا النِّظَام لم يحرم المرأة من حق الملك بسبب الميراث فلها نصف نصيب الرَّجُل حيث تقع عليه التكاليف والإعالة المالية وأعباء المعيشة، فالعطاء على قدر الحاجة هو العدل والمساواة مع تفاوت الحاجة ظلم.
وهذا ما لم يستوعبه بعض المتحاملين على الإسلام والمتعصبين عليه من علماء الغَرْب ومفكريه الذين يدّعون أن نظام الميراث الإسلامي نظام قبلي لا يصح إلا لحياة القبلية في البادية لأنه لم يسو بين الرَّجُل والمرأة في الميراث وقد فُصّلت هذه المسألة في موضوع الرَّجُل والمرأة أمام التكاليف الشَّرْعية من بحثنا.

4- نظـام الكفـارات

من مقاصد الإسلام في تربية أبنائه أن يدفعهم إلى فعل الخير، وينأى بهم عن الشر إلا أنّ بعض أبنائه قد يرتكب شيئاً من المخالفات الشَّرْعية، لذا أوجب الإسلام عند ارتكابها عقوبات للتكفير عنها زجراً للمرتكب عن العودة إليها وجبراً لذنبه الذي وقع عليه.
وتشتمل هذه الكفارات فيما تشتمل دفع صدقات مالية للفقراء، والذي يهمنا هنا هو تقرير أن هذا النوع من الكسب جاء عن طريق حكم شرعي، وأنه حق وجب على الإنسان بسبب ارتكابه لما نهى عنه الشَّرْع.
وهذه الكفارات ستة أنواع وهي على سبيل الإجمال:
كفارة الإفطار في رمضان، فقد روى البُخَارِيّ وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : بينما نحن جلوس عند النَّبِيّ e إذ جاء رجل() فقَالَ: يا رسول الله هلكت، قَالَ: مالك، قَالَ: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقَالَ رسول الله e: « هل تجد رقبة تعتقها » قَالَ: لا. قَالَ: « فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين » قَالَ: لا، قَالَ: « فهل تجد إطعام ستين
مسكيناً »، قَالَ: لا. قَالَ فمكث النَّبِيّ e فبينما نحن على ذلك أتى النَّبِيّ e بعرق فيها تمر قَالَ: « أين السائل»، فقَالَ: أنا، قَالَ: « خذ هذا فتصدق به » فقَالَ الرَّجُل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ والله ما بين لابتيها-يريد الحَرّينْ- أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتي، فضحك النَّبِيّ e حتى بدت أنيابهُ ثم قَالَ: « أطعمه أهلك »().
كفارة الظهار: فعن خولة بنت مالك بن ثعلبة قَالَت: ظاهر مني زوجي أوسُ بن الصامت فجئت رسول الله e أشكو إليه ورسولُ الله يجادلني فيه ويقول: اتَقِيّالله فإنه ابن عمّك فما خرجت حتى أنزل الله: ]
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ[() فقَالَ عليه السلام: « يعتق رقبة » قَالَت: لا يجد قَالَ: « يصوم
شهرين متتابعين » قَالَ : يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام، قَالَ: « فليطعم ستين مسكيناً » قَالَت : ما عنده من شيء يتصدق به قَالَ: فأتى ساعتئذ بعرقٍ من تمر قَالَت : يا رسول الله فإني سأعينه بعرقٍ آخر قَالَ: « أحسنتِ اذهبي
فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابنِ عمك »().
كفارة الحنث في اليمين: قَالَ تعالى: ]لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ[(). فالواجـب علـى من حنـث في يمين منعقدة أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم أو يعتق رقبة على سبيل الخيار، فإن لم يستطع أن يفعل واحدة منها انتقل إلى ما بعدها انتقَال المضطر فيصوم ثلاثة أيام.
كفارة الجماع في الحيض: إذا باشر الرَّجُل زوجته في الفرج أيام الحيض أثم واستغفر الله تعالى وفي وجوب الكفارة في مذهب الإمام أحمد روايتان أحدهما تجب ومقدارها دينار أو نصفه، والرواية الثانية لا كفارة عليه وهو مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة، وعلى القول بوجوبها فمقدارها دينار أو نصفه على التخيير().
كفارة القتل: فقد قَالَ تعالى في كفارة الخطأ: ]
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [() وروي البُخَارِيّ في كفارة شبه العمد عن أبي هريرة قَالَ: « اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت أحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النَّبِيّ e فقضى أن ديّة جنينها غُرَّةٌ عبدٌ أو وليدة وقضى أن ديّة المرأة على عاقلتها() ، والعاقلة من يحمل العقل والعقل هنا هو الديّة، وإذا لم يكن للديّة عاقلة أخذت الديّة من بيت المال لأن النَّبِيّ e ودى الأنصاري الذي قُتل بخيبر من بيت المال. وروي أن رجلاً قُتل في زحام في زمان عمر فلم يعرف قاتله فقَالَ علي لعمر:«يا أمير المؤمنين لا يُطَلُّ دم امرئ مسلم فأدِّ ديته من بيت المال»().
إفساد الإحرام: فقد قَالَ تعالى: ]
وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [
().
نريد بما يترتب على إرادة الآخر أن الملك ينتقل بإدارة طرف واحد هو الموجب من غير توقف على قبول الطرف الآخر.

1- الوصيّـة:

الوصية بالمال هي التبرع به بعد الموت، قَالَ تعالى: ]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
[() وقَالَ تعالى: ]
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
[
() وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: « إنّ الله تبارك وتعالى تصدق عليكم بثلثِ أموالكم في آخر أعماركم زيادةً على أعمالكم فضعوه حيث شئتم»() وعن سعد بن أبي وقّاص() رضي الله تعالى عنه قَالَ: « كان رسول الله e يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنه فأتصدق بثلثي مالي قَالَ: لا، فقلت: بالشطر، قَالَ: لا ثم قَالَ: الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكففون الناس، إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في امرأتك »() . وعليه فمن أسباب التَّمَلُّك أخذ الأفراد بعضهم من بعض مالاً دون مقابل أو جهد مما يترتب على إرادة الآخرين والوصية تصرف من هذه التصرفات التي تبيح للمسلم أن يتصرف في ماله بعد موته بالثلث فما دونه لأن الأصل في الملك انتقَاله من صاحبه إلى الورثة بعد الموت فلا يجوز له فيه أي تصرف إلا ما أعطاه الشَّرْع من الثلث ليتدارك ما عسى أن يكون قد فاته أو قصّر به من أعمال الخير خاصة وأنه هو الذي بذل جهده في سبيل جمع هذا المال وحفظه بشكل يضمن للورثة حقهم في الميراث وللمورث الأجر والمثوبة وبذلك يعلم أن الوصية لغير الوارث بالثلث فما دونه طريق مشروع من طرق الكسب الحلال().

2- الهبــة

الهبة تمليك في الحياة بلا عوض، فإذا شرط العوض كانت بيعاً، وإذا لم يكن التمليك في الحياة بل كان مضافاً إلى ما بعد الوفاة كان وصية وإذا أباح ماله لغيره لينتفع به ولم يملكه إياه كان إعارة.
والهبة تشمل بالمعنى الأعم: الصدقة والهدية والنحلة وهـي العطيـة. قَالَ الحنابلـــة: « وكلها تمليك في الحياة بلا عوض، فإن قصد بإعطائه ثواب الآخرة فقط فصدقة وإن قصد بإعطائه إكراماً أو تودداً أو مكافأة فهدية وإن لم يقصد شيئاً مما ذكر فهبة وعطية ونحلة»() وقَالَ ابن قُدامة:« الصدقة والهدية متغايران فإن النَّبِيّ e كـان يأكل الهديـة ولا يأكـل الصدقة »().
وقَالَ المالكية: « إن قصد وجه المعطى-بالفتح- فقط كان هبة وإن قصد ثواب الآخرة فقط فصدقة اتفاقاً، وإن قصد ثواب الآخرة مع وجه المعطى فصدقة عند الأكثر، وهبة عند الأقل»().
وقَالَ الشَّافِعِية: « إن ملك شيئاً بلا عوض محتاجاً ولو لم يقصد ثواب الآخرة أو غنياً لثواب الآخرة فصدقة، وإن نقل الملك بلا عوض إلى مكان الموهوب له إكراماً فهدية فلا دخل لها فيما لا ينقل »().
وقَالَ الحَنَفِيَّة : « الصدقة للفقير والهبة للغنى، ولكنهم قَالوا أنّ الصدقة كالهبة لا رجوع فيها ولو على غنى لأن المقصود فيها الثواب »().
وعن عَمْرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن وفد هوازن لما جاؤوا يطلبون من رسول الله e أن يرد عليهم ما غنمه منهم قَالَ رسول الله e: «ما كـان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم » أي فهو هبة مني إليكم().
ولا تنعقد الهبة بدون الإيجاب لأن الأصل في ملك الإنسان ألا ينتقل إلى الغير بدون تمليكه، أما القبول والقبض فقد اختلف العلماء فيهما وخلاصة أقوالهم().
إن بعض الفقهاء يرون أن الملك في الهبة ينتقل بالإيجاب وحده، ومن هؤلاء بعض الحَنَفِيَّة والظاهرية لقوله تعالى: ]
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [() وقوله ]
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ
[().
وأن بعضهم يرون أنه ينتقل بالإيجاب والقبول ومن هؤلاء ... أكثر المالكية.
ويرى آخرون أن الهبة لا تملك إلا بالقبض.

3- الإقطـــاع

في البداية لا بدّ من التنبيه إلى الفرق بين مفهوم الإقطاع في التشريع الإسلامي ومفهوم الإقطاع في النظم الوضعية المتأخرة.
فالإقطاع في المفهوم الإسلامي هو جعل ولي الأمر رقبة الأرض لشخص من الأشخاص فيصبح مالكها ومستغلها، فقد ورد أن النَّبِيّ e عندما وصل المدينة، قام بإقطاع بعض الصحابة أماكن لبناء دور لسكناهم() وأنه e خطّ لعَمْرو بن حريث داراً بالمدينة بقوسٍ وقَالَ له : « أزيدك أزيدك »().
أما الإقطاع بمفهومه الأوروبي فهو كما قَالَ ول ديورانت: « هو عبارة عن خضوع الرَّجُل من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية إلى رجل أسمى منه منزلة مقابل تنظيم اقتصادي وحماية عسكرية»().
فإقطاع الأرض بهذا المعنى حيث الانحراف في الغرض والاسترقاق للبشر لا علاقة له بإقطاع الأرض والمعدن بالمعنى الإسلامي فلا مجال للمشابهة أو المقارنة بينهما().
وقد بيّن العلماء رحمهم الله أنّ أنواع الإقطاع ثلاثة():
الأول: إقطاع التمليك وينقسم إلى أربعة أضرب:
إقطاع الموات التي لم يدخلها إعمار ولم يملكها أحد ولم تتعلق مصلحة الجماعة بها، فللإمام أن يقطع من هذا الموات لمن يحييه، فإذا أحياه الإحياء الشَّرْعي صار ملكاً له. والدليل على ذلك إقطاع النَّبِيّ e للزبير بن العوّام ركض فرسه من موات النقع فأعطاه ثم رمى الزُّبَيْر بسوطه رغبة منه في الزيادة، فقَالَ النَّبِيّ e: « أعطوه منتهى سوطه »().
ما كان عليه آثاره عمارة جاهلية وصار بطول خرابه وبُعد زمانه عاطلاً مواتاً فحكمه حكم الموات يجوز للإمام إقطاع تمليك، قَالَ عليه السلام: « عَادِي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني »() وذكر عاد للتمثيل والمراد كل أرض جاهلية تقادم ملكها.
ما كان أصله من أملاك المسلمين ثم حزب حتى صار مواتاً فإن علم مالكه فهو له ولورثته من بعده، أما إن تعذر ذلك فهو من أموال بيت مال المسلمين وللإمام أن يقطعه على الصَحِيْح من أقوال أهل العلم إن لم يعرف مالكه.
الأرض العامرة والواقعة في بلاد الحرب ولكن يتوقع منها من يمتلكها عن فتحها فقد روى أن النَّبِيّ e: « أقطَـعَ تَميمــاً الدَّارِيَّ()
حَيْـرُونَ، وأقْطَـعَ ثعلبةَ الخُشَبي أرضاً من الروم»().
الثاني: إقطاع استغلال وهو على ضربين:
الأول: أن يقطع الإمام جزءاً من الأرض التي يحوز إقطاعها لرجل يستغلها من غير
تأبيد ولا تمليك.
الثاني: وهو ما يتعلق بما يخرج من الأرض وذلك ما يقطعه الإمام من الخراج ويدفعه
للأجناد بقدر كفايتهم وحاجتهم وذلك لأن لهم أرزاقاً محـددة ومقـدرة
لحبسهم أنفسهم للجهاد في سبيل الله.
الثالث: إقطاع الإرفاق وهو على ضربين:
الأول: إقطاع المعادن الباطنة وهي التي لا يتوصل إليها إلا بالعمل، وأما المعــادن
الظاهرة، فلا يجوز للإمام إقطاعها بل هي مشتركة بيـن عامـة المسلميـن
كالأنهار الجارية.
الثاني: ويتعلق بالشوارع والأسواق التي ليست ملكاً لأحد فيجوز للإمام أن يقطـع
منها مكاناً يكون صاحبه أحق به من غيره ولا يجوز له تملكه، بـل يكـون
بالجلوس فيه أحق لبيعه وشرائه.
ويشمل على أربعة مطالب :
1- المطلب الأول : العقود المنهي عنها.
2- المطلب الثاني : التسعيــــــــــــــــــــــــــــــــر.
3- المطلب الثالث : الرَّشْــــــــــــــــــــــــــــــــــوَة .
4- المطلب الرابع : الرِّبَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا.
إن الطرق المحرمة لكسب المِلْكِيَّة متنوعة وكثيرة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، تناثرت أصولها الفرعية في كتب الفقه، إلا أنه عند استقصاء هذه الطرق يمكن أن تصنف إلى أصول عامة، منها:
أن يكون التحريم راجعاً إلى معنى أو وصف في العين يقتضي حظر تداولها ومنع التعامل فيها درءاً للمفاسد وجلباً للمصالح.
أن يكون التحريم راجعاً إلى استيلاء غير مشروع على الشيء.
أن يكون التحريم راجعاً إلى تصرف محظور شرعاً وإن أخذ صورة العقد.
وبناء على هذه الأصول تتفرع صور كثيرة وأمثلة متعددة، يطول شرحها وسنحاول في بحثنا أن نذكر أبرز الوسائل للكسب المحرم من خلال بعض العقود المنهي عنها، والاحتكار-التسعير-الرَّشْوَة -الرِّبَا.

1- عقود منهي عنها لذاتها:

 وهي عقود وقع النهي عنها إما بالنّص على اسم الشيء، وإمّا بتعيين وصف من أوصافه لعلة في ذات العقد لا تتصل بالثمن ولا بالمتعاقدين ومن أمثلتها:
أ- الأصناف المحرمة في قوله تعالى: ]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [().
وعن جابر قَالَ رسول الله e إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت: شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها الناس فقَالَ، لا هو حرام، ثم قَالَ e:« قاتل الله اليهود إنّ الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»() فهذا النهي الشديد الوارد على تحريم هذه البيوع يدل على تحريم كل مورد منها مهما كان قليلاً، ولا تصح الحيلة والوسيلة إلى أخذ المال.
ومنها كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور: كالأسد والنمر والفهد والذئب والدب والقرد والنسر والصقر ونحوها، على خلاف بين الفقهاء في بعض الفروع() ومما يدل على تحريمها ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من أن ثعلبة الخشنى قَالَ: « نَهى رسول الله e عن كل ذي نابٍ من السباع وكل ذي مخلب من الطيور »().
ومنها كل ما فقد شرطاً من الشروط التي يعتبرها الشَّارِع لحل الذبح كأن يكون الذابح وثنياً أو شيوعياً أو تكون آلة الذبح سناً أو ظفراً ونحوها مما لا يجوز الذبح به.
فكل هذه الأعيان السابقة وغيرها مما ورد الشَّرْع بتحريمه ليست مالاً ولا تقابل بالمال شرعاً، فلا تكون محلاً للملك ولا يجوز تملكها.
قَالَ رسول الله e : « إنّ الله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام »().
ب- مهر البغي: وهو ما يعطى للزانية من أجل التمتع بها وهو حرام من أي طرف، فهو حرام من المعطي وحرام من الآخذ وذلك لما فيه من مضرّة المجتمع إذ فيه فشو الزنى وانحطاط المجتمعات وانتشار الفوضى واختلاط الأنساب، فهو يفسد عليهم حفظ العرض، وحفظه مقصد من مقاصد الشَّرِيعَة ثم في ذلك تقليل الرغبة في الزواج الشَّرْعي وما جعل الله جلّ شأنه بيوت البغايا مورداً للكسب، فهو خبيث حرام، وقد جاء النهي بذلك، فعن عون بن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه اشترى حجاماً فأمر فكسرت محاجمه وقَالَ: « إنّ رسول الله e حرّم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الرِّبَا وموكله ولعن المصورين»().
ج- حلوان الكاهن: وهو الذي يدعي معرفة الغيب وما لا يطلع عليه ويموه على الناس أمورهم وحلوانه ما يدفع له أجره على ما قدمه من خدمه لمن جاء له إما لمعالجة أو نحوها لقول الرسول e: « من آتى كاهناً أو عرّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد
e » ().

2- عقد منهي عنه لاشتمال العقد على الغرر والجهالة:

وهذا النوع من العقود نهى عنه الشَّارِع لما فيه من الغرر والجهالة المؤديين إلى الشقاق والنـزاع بين المتعاقدين ومن أمثلته:
أ- بيع حبل الحبلة، فقد جاء في صَحِيْح مسلم من حديث ابن عَمْرو أن رسـول الله e « نَهى عن بيع حبل الحبلة » ().وقد جاء هذا البيع موضحاً صفته في الصَحِيْحين: كان أهل الجَاهِليَّة يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم عن ذلك.
ب- بيع المضامين والملاقيح: روى مالك عن سعيد بن المُسَيِّب () أنه قَالَ: لا ربا في الحيوان وإنما نهى من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين والملاقيح، وحبل الحبلة، والمضامين بيع ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح بيع ما في ظهور الفحول().
ج- بيع المنابذة والملامسة والحصاة: فعن أبي هريرة: « أن رسول الله نهى عن بيع الملامسة()
والمنابذة »()() و قَالَ الإمام مالك بعد روايته لهذا الحديث والملامسة أن يلمس الرَّجُل الثوب ولا ينشره ولا يتبين ما فيه أو يبتاعه ليلاً ولا يعلم ما فيه ، والمنابذة أن ينبذ الرَّجُل إلى الرَّجُل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منها ويقول كل منهما: هذا بهذا، فهذا الذي نهى عنه الملامسة والمنابذة ، واما بيع الحصاة فهو أن تكون ثياب مبسوطة فيقول المبتاع للبائع أي ثوب من هذه وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو بكذا، فيقول البائع: نعم، فهذا وأمثاله غرر وقمار وجهالة وأكل للمال بالباطل().
ولهذا النوع من العقود تطبيقات كثيرة في الفقه والقانون كالتأمين واليانصيب والمسابقة وله انتشار كبير في عالمنا المعاصر ويقترب في مفهومه من القمار.

3- عقد منهي عنه لاقترانه بوصف يضر بأحد المتعاقدين:

كبيع التدليس والغبن والنجش، فهذه البيـوع لها ضـرر إمـا بالثمـن كالنجش أو بالعاقد كالغبن.

أ- بيع النجش:

 والنجش في اللغة أصله الاستتار، لأن الناجش يستر قصده فيزيد في سلعة أكثر من ثمنها وليس قصده أن يشتريها بل ليغر غيره فيوقعه(). والنجش في الاصطلاح أن يزيد الرَّجُل في ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها ليقتدي به غيره فيظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إلا وهي تساويه فيغتر بذلك ويقدم على الشراء() وقد اتفق الفقهاء على أن الناجش عاص بفعله لما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: « نَهى رسول الله e عن
النجش»() : « والنهي يقتضي التحريم ولما فيه من الخيانة والخداع »().

ب- بيع الغبن(): 

والغبن في اللغة الخداع، يقَال غبنه غبناً في البيع والشراء خدعه وغلبه، والغبن هو بيع الشيء بأكثر مما يساوي أو بأقل مما يساوي ، والغبن الفاحش حرام شرعاً لأنه ثبت في الحديث الصَحِيْح طلب ترك الغبن طلباً جازماً، فقد روى البُخَارِيّ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً ذكر للنبي e أنه يخدع في البيوع، فقَال: « إذا بايعت فقل
لا خلابة »() وروى أحمد عن أنس « أن رجلاً على عهد رسول الله e كان يبتاع وكان في عقدته يعني عقله ضعف فأتى أهله النَّبِيّ e فقَالوا: يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فدعاه نبي الله e فنهاه عن البيع، فقَالَ يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع فقَالَ e : « إن كنت غير تارك للبيع فقل ها وها ولا خلابة »() .
والخلابة-بكسر الخاء- الخديعة، وروى ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود أنه قَالَ: أشهد على الصادق المصدوق أنه حدثنا قَالَ: « بيع المحفّلات خلابة ولا تحل الخِلابة لمسلم »().
فهذه الأحاديث قد طلب فيها ترك الخلابة أي الخديعة، والخديعة حرام ومن هنا كان الغبن جرماً، إلا أنّ الغبن الحرام هو الغبن الفاحش، لأن علّة تحريم الغبن هو كونه خديعة في الثمن، ولا يسمى خديعة إذا كان يسيراً لأنه يكون مهارة في المساومة، وإنما يكون الغبن خديعة إذا كان فاحشاً فإذا ثبت الغبن فإنّ للمغبون الخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه. روى الدراقطني عن محمد بن يحيى بن حبّان قَالَ: قَالَ عليه الصلاة والسلام : « إذا بعت فقل لا خِلابة، ثم أنت في كل سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها »().

ج- بيع التدليس:

 الأصل في عقد البيع اللزوم، فمتى تم العقد بالإيجاب والقبول بين البائع والمشتري وانتهى مجلس البيع فقد لزم عقد البيع ووجب نفاذه على المتبايعين إلا أنه لما كان عقد المعاملة يجب أن يتم على وجه يرفع المنازعات بين الناس(). فقد حرّم الشَّرْع على الناس التدليس في البيع وجعله إثماً سواء حصل التدليس من البائع أو المشتري في السلعة أو العملة، فكله حرام، لأن التدليس قد يحصل من البائع وقد يحصل من المشتري.
ومعنى تدليس البائع السلعة هو أن يكتم العيب عن المشتري مع علمه به أو يغطي العيب عنه بما يوهم المشتري عدمه، أو يغطي السلعة بما يظهرها كلة حسنة، ومعنى تدليس المشتري الثمن هو أن يزيف العملة أو يكتم ما فيها من زيف مع علمه به، وقد يختلف الثمن باختلاف المبيع لأجل التدليس، وقد يرغب المشتري بالسلعة بسبب التدليس، فهذا التدليس بجميع أنواعه حرام.
لما روى البُخَارِيّ عن أبي هريرة عن النَّبِيّ e أنه قَالَ: « لا تُصَرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها
بعدُ فإنه بخيـر النظريـن بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردّها وصاع تـمر»() و لما روى ابن ماجة عن أبي هريرة عن النَّبِيّ e أنه قَالَ: « من ابتاع مصرّاه فهو بالخيار
ثلاثة أيام، فإن ردّها ردّ معها صاعاً من تمر، لا سمراء »() والمراد رد ثمن لبنها الذي حلبه. فهذا صريح في النهي عن تصرية الإبل والغنم، ومثل ذلك كل عمل يغطي العيب أو يكتم العيب، فإن ذلك كلّه تدليس يحرم فعله سواء أكان ذلك في السلعة أو العملة لأنه غبن.

4- عقد منهي عنه لوصف خارج عن العقد والمتعاقدين:

ومن أمثلة ذلك:
أ- البيع بعد نداء الجمعة، لعلة الإلهاء عن ذكر الله لقوله تعالى: ]
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
[().
ب- بيع السلاح للحربي، فالبيع في الأصل حلال إلا أنه لما بيعه للحربي سيكسبه قوة ومنعة ضد الإسلام منع من بيعه لهذا الوصف. 
ج- بيع العصير لمن يتخذه خمراً، فمعلوم أن بيع العنب جائز لكن لـمَّا جاوره بيع آخر وهو التحول إلى خمر، ففي بيعه للعنب أو عصيره مساعدة على الإثم.
وبعد، فإنّ في تشريع المعاملات الماليّة بأنواعها وأصنافها، وما بنيت عليه تلك المعاملات والعقود من أُسس وضوابط لخير دليل على فضل الله تعالى على عباده في تشريعه الحكيم.
ولا يخفى ما في هذا التشريع من قطع للمنازعات والمخاصمات، وذلك بمراعاة العدل والإنصاف في تشريع العقود والمعاملات، حيث يظهر في كلّ مسألة من مسائل المعاملات ، وأيّ نوع من أنواع العقود كما أشرنا على جادة الإجمال .
« فما من معاملةٍ ماليّة أحلّها الله تعالى إلاّ وفيها مصلحة خالصة أو راجحة وما حرّم الله تعالى من معاملة ماليةٍ إلاّ وفيها مفسدة خالصة، أو راجحة »().
فإذا ظهر لنا ذلك فما علينا إلاّ أن ننشد المطالبة بالاحتكام إلى الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة في معاملاتنا المالية حيث لا غشّ، ولا غرر، ولا تدليس، ولا نجش، ولا غُبن، ولا منابذة، ولا ملامسة.
فهل بعد هذا العدل والإنصاف من عدلٍ وإنصاف؟ وهل بعد هذا التشريع الذي روعيّ فيه حال البائع والمشتري من تشريعٍ يُراعي حال البائع والمشتري؟
لا ريبّ أن التشريعات المالية في غير الإسلام لا تقوم على العدل والإنصاف وأيّ عدلٍ و إنصاف في تأسيس العقود على الغرر والغبن كعقود التأمين القائمة على المنافع المجهولة، ويكفي للإسلام فخراً أنّه أسس عقوده على الصدق والبيان مع تحريم الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بغير حق.
جاء في المصباح المنير سعرت الشيء تسعيراً جعلت له سعراً معلوماً ينتهي إليه، والتسعير هو تقدير السعر().
وعرّف الفقهاء التسعير بتعريفات كثيرة:
- عرّفه الجويني إمام الحرمين() بقوله: « التسعير ... إثبات أقدار أبدال الأشياء »().
- وعرّفه القاضي البيضاوي() بأنه: «القيمــة التي يشيـــع البيع عليهـا فـي الأســواق، والتسعيـر تقديـرها »().
- وعرّفه الأحمد فكري بأنه: « تقدير ما يباع به الشيء طعاماً أو غيره ويكون غلاء ورخصاً»().
- وعرّفه الشَّوْكَاني() فقَالَ: « هو أن يأمر السلطان نوابه أو كل من وليّ من أمور المسلمين أمراً أهل السوق ألا يبيعوا إلا بسعر كذا، فيمنعون من الزيادة عليه أو النقصان لمصلحة»().
- وعرّفه ابن عرفه() في حدوده بأنه: تجديـد حاكم السوق لبائع المأكولات فيه قدراً للمبيع بدرهم معلوم().
- وعرفه الدريني() بأنه: « إجبار أرباب السلع أو المنافع الفائضة عن حاجتهم على بيعها بثمن أو أجر معين بموجب أمر يصدره موظف عام مختص بالوجه الشَّرْعي، عند شدّة حاجة النّاس أو البلاد إليها »().
وخلاصة ما ورد في هذه التعريفات:
إنّ التسعير في جملته إجراء مؤقت من قبل الحاكم لعلاج المشكلات الاجْتِمَاعِيَّة والاقتصادية لبعض السلع أو المنافع التي يكون الناس في حاجة إليها، دفعاً لضرر الاستغلال ولتنظيم التعامل وذلك بأن تتدخل الدَّوْلَة في الأسعار وتضع للسلع أو لبعضها أسعاراً معينة وتمنع كل واحد من أن يبيع بأكثر من السعر الذي عينته أو بأقل منه لما ترى في ذلك من مصلحة المجموع.
وقد اختلف الفقهاء في حكم التسعير وشروطه وما يجوز فيه وما لا يجوز... ويمكن حصر هذا الخلاف في ثلاثة آراء:

أولاً: مذهب الجمهور مِنَ الفقهاء، وهم يرون عدم جواز التسعير مطلقاً، لأن صحة البيع تتوقف على وجود التراضي، وهو مفقود مع التسعير، فيكون البيع باطلاً لعدم التراضي().

عن أنس بن مالك قَالَ: قَالَ الناس: يا رسول الله غلا الناس فسعّر لنا؟ فقَالَ e:
« إنَّ الله هو المُسعّر القابض الباسط الرازق، وإنّي لأرجو أن ألقى الله وليس أحدٌ منكم يطالبني بمظلمة في دمٍ ولا مال »().
قَالَ الشَّوْكَاني: ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بمال يرضى به()مناف لقولـه تعالــى: ]
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ[().
وعن أبي هريرة قَالَ : جاء رجل فقَالَ يا رسول الله سعر... فقَالَ :« بل الله يخفض ويرفع »().
وعن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، أنه مرّ بحاطب بن أبي بلتعة() بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما؟ فقَالَ له: مدين لكل درهم- فقَالَ له عمر: « قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتدون بسعرك فإما أن ترفع في السعر، وإمّا أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت» ، فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطباً في داره فقَالَ: « إن الذي قلت لك ليس غرمة مني، ولا قضاء وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع »().

ثانياً: جواز التسعير والوجوب عند الضرورة():

وأصحاب هذا الرَأْي قد استندوا على مراعاة المصلحة العامة، ودفع الظلم عن الناس مع مراعاة المصلحة الخاصة وأساس هذا ومبناه التوفيق بين المصالح الخاصة والعامة، ومراعاة لمبدأ التوازن بين حرية الملاك في التصرف في أموالهم مع منع الأضرار بالآخرين، فيرى شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة وابن قَيِّم الجَوْزِيَّة رحمهما الله أن التسعير يجوز عند الحاجة، فإذا اقتضت الضرورة ذلك كان التسعير جائزاً بل واجباً، أما إذا كانت الحياة تسير سيرها الطبيعي، فيكون من الظلم البيّن اللجوء إلى التسعير لأن التسعير إكراه للناس على البيع بثمن لا يرضونه.
وقد بيّن ذلك ابن القيم بقوله: « التسعير قسمان: ظلم محرم و عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة، بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب.
وضرب ابن القيّم لكل منهما مثالاً فمثل للنوع الأول بما روى عن أنس من الحديث السابق، وإنما كان هذا النوع من التسعير الظالم لأن الناس كانوا في زمنه e يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وارتفاع السعر، إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق، وهذا أمر الله في الخلق، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها: إكراه بغير حق ».
ومثّلَ للنوع الثاني: « بأن يمتنع أرباب السلع بيعها، مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى للتسعير إلا بقيمة المثل، والتسعير في تلك الحالة إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به »().

ثالثاً: جواز التسعير زمن الأضرار

وإذا كان الأصل عند الحَنَفِيَّة عدم جواز التسعير فإن المتأخرين منهم يرون جواز التسعير إذا تحكم أرباب الأموال زمن القحط وأمسكوا عن بيعها إلاّ بزيادة فاحشة وهي أن يبلغوا بها ضعف قيمتها، واضطر الناس لما في أيديهم فحينئذ لا بأس بأن يسعر ولي الأمر بمشورة أهل الرَأْي رفعاً للضرر عن العامة().
وبعد أن عرضنا آراء الفقهاء وأدلتهم يتبين لنا رجحان مذهب الجمهور من الفقهاء القائلين بحرمة التسعير وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: إن النُّصُوص الشَّرْعية الصَحِيْحة « تدل على تحريم التسعير وأنه مظلمة من المظالم التي ترفع الشكوى على الحاكم لإزالتها وإذا فعلها الحاكم أثم عند الله لأنه فعل حراماً، وكان لكل شخص من رعيته أن يرفع الشكوى إلى محكمة المظالم على هذا الحاكم الذي سعر ســواء أكـان واليـاً أم خليفــة، يشكو لهـا هـذه المظلمة لتحكم عليه وتقوم بإزالة هذه المظلمة»().
ثانياً: إن التسعير لا يتفق مع قواعد الشَّرِيعَة وأصولها لأن فيه حجراً على الناس في تصرفاتهم وهو خلاف ما وردت به النصوص، فإن الشَّرِيعَة منحت كل مكلف إباحة التصرف في ماله لا فرق بين بائع ومشترٍ، وإذا كانت مصلحة البائع في زيادة الثمن ومصلحة المشتري في خفضه، فيكون التسعير بخفض الثمن ترجيحاً لمصلحة المشتري على مصلحة البائع بلا مرجح»().
ثالثاً: إن التسعير يؤدي إلى اختفاء البضائع من السوق الظاهرة إلى السوق الخفية، وعندئذ يكون التغالي في الأسعار فيستطيعها الغني ولا يستطيعها الفقير، ويؤدي بنا الأمر إلى أن من يستحق المعاونة يحرم، ومن هو قوي في ذاته يجد »().
قَالَ ابن قُدامة: « التسعير سبب الغلاء، لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً يُكرهون على بيعها فيه ما يريدون ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلاً، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين، جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حراماً »().
وهذا الذي ذكره ابن قُدامة مشاهد في واقعنا اليوم في بعض البلدان التي تسعر، فالسلع مخبوءة (أسواق سوداء) وطوابير الانتظار طويلة ومخالفة التسعيرة هي الغالبة، والمخالفات بين الباعة والدَّوْلَة كثيرة والرَّشْوَة للمراقبين والمفتشين منتشرة.
رابعاً: إن واقع التسعير أنه ضرر من أشد الأضرار على الأمّة قي جميع الظروف سواء أكان ذلك في حالة الحرب أم في حالة السلم... لأن تحديد الثمن يؤثر في الاستهلاك فيؤثر في الإنتاج وربما سبّب أزمة اقتصادية... وأما ما يحصل من غلاء الأسعار في أيام الحروب، أو الأزمات السِّيَاسِيَّة فإنه ناتج إما عن عدم توفرها في السوق بسبب احتكارها، أو بسبب ندرتها فإن كان عدم وجودها ناتجاً عن الاحتكار فقد حرمه الله وإن كان ناتجاً عن ندرتها، فإن الخليفة مأمور برعاية مصالح النّاس، فعليه أن يسعى لتوفيرها في السوق في جلبها من أمكنتها وبهذا يكون قد منع الغلاء(). وعمر بن الخطَّاب في عام المجاعة الذي سمي عام الرمادة لما حصلت المجاعة في الحجاز فقط لندرة الطعام في تلك السنة، وقد غلا من جراء ندرته فلم يضع أسعاراً معينة للطعام، بل أرسل وجلب الطعام من مصر وبلاد الشام إلى الحجاز فرخص دون حاجة إلى التسعير().
قَالَ ابن الأثير():« الرَّشْوَة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء ».() وقَالَ ابن منظور:«الرَّشْوَة لغة مأخوذة من رشا الفرخ إذا مدّ رأسه إلى أمه لتزقه »().
واصطلاحاً اختلف الفقهاء فيها فقَالَ ابن العربي(): « الرَّشْوَة كل مال يدفع ليبتاع به من ذي جاه عوناً على ما يحلُّ() وأحسن ما عُرِّفَ به قول الجرجاني: ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل، وهذا التعريف أقرب ما يكون لمدلول القرآن له فإن صحة المعنى هو ما يمكن أخذه من عرض القرآن »().
والصلة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي صلة قوية، فقد جاء في التعريف اللغوي أن الرَّشْوَة مأخوذة من رشا الفرخ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه وهذه صورة صارخة لعمل المرتشي وبيان حقيقته وصفه في منتهى الضعف النفسي كالفرخ لم ينبت له ريش العاجز عن كسب قوته بنفسه يرى أمه يفغر لها فاهه لتخرج مما في حوصلتها وتفرغه في فمه يرد جوعته. ولو علمنا أن ما تلقاه بفيه إنما هو بمثابة القيء تستخرجه أمه من حوصلتها لكان كافياً من التقزز من أكل الرَّشْوَة ، فهـو بهـذا يجمـع بين ضعـف الشخصيـة وذلّة النفس وحقارة الطبع.
وإذا جئنا إلى الأصل الثاني وهو الرشاء الذي هو حبل الدلو ليستخرج به الماء من البئر العميق، فإننا نجد أيضاً صورة التدلي من علياء العزة والكرامة إلى سحيق الذلّة والمهانة وينحدر من منعه الصدق إلى هاوية الكذب ومن عفّة الأمانة إلى دنس الخيانة وينزلق عن جادة الحق إلى مزالق الباطل وكأن الحاجة المقصودة عند المرتشي مغيبة بعيداً عن الراشي بعد الماء في عقر البئر لا وصول إليها إلا التدلي بالرَّشْوَة كتدلي الدلو برشاة.
وهذا وقد تأخذ الرَّشْوَة عند الناس أسماء أخرى كما هو شأن المحرمات دائماً كالبرطيل وأصله الحجر المستطيل يُلقمه الراشي للمرتشي كي يُخرسه عن الحق وكالهدية والإكرامية والأتعاب والعمولة والأجرة والجعالة والضيافة وغيرها.
« وأما الرَّشْوَة والسحت فيجتمعان ويفترقان، يجتمعان حينما يكون العمل محرماً من الجانبين الراشي والمرتشي، وهو سحت في المرتشي يأكله سحتاً وينفرد السحت حينما يكون العمل محرماً من جانب واحد وهو جانب الأخذ فقط فيأكله، فيأكل ما أخذه سحتاً»() .
ويشهد لهذا ما رواه البَيْهَقِيّ() عن مسروق، قَالَ: سألت ابن مسعود عن السحتِ أهو رشوة في الحكم قَالَ : لا، ]
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [() والظالمون والفاسقون ، ولكن السحت أن يستعينك رجل على مظلمة فيهدى لك فتقبله فذلك السحت »().
ومأخذ النُّصُوص على الرَّشْوَة في الأدلة النقلية عند العلماء في مواضع منها:
قَالَ تعالى: ]
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[().
فالنص هنا على وضوحه عام في النهي عن أكل الأموال بالباطل بأي صفة وهذا النص أقرب موضوعية إلى الرَّشْوَة لارتباط الرَّشْوَة بالرشاء في معنى الإدلاء والإدلاء إرسال الدلو إلى ماء البئر ولا يكون إلا بالحبل وحبل الدلو يُسمى رشاء ، فالرشاء والرَّشْوَة من مـادة واحـدة والمدلـي هو الراشـي والمدلى إليه هو المرتشي وما في الدلو هو الرَّشْوَة.
وقد خصص هذا النّص الرَّشْوَة في الحكام مع أنها ليست قاصرة عليهم ولكنها منهم أعظم وأخطر وأشد فتكاً لأنهم ميزان العَدالَة ، فإذا فسد الميزان اختل الاتزان، وإذا خان الوازن ضاع التوازن ، ومن ثمّ ينتشر الفساد. قَالَ القرطبي في الآية: « قيل : المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم، ليقضوا لكم على أكثر منها، وقَالَ ابن عطية، وهذا القول يترجح، لأن الحكام فطنة الرشاء غلا من عصم، وأيضاً فإن اللفظين متناسبان: تدلوا: من إرسال الدّلو، والرَّشْوَة من الرشاء، كأنه يـمُد بها ليقضي الحاجة.
قَالَ تعالى في ذمّ اليهود : ]سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ[(). والسحت: هو الرَّشْوَة أو كل كسبٍ لا يحل() وعن ابن مسعود أنه قَالَ: السحت أن يقضي الرَّجُل لأخيه حاجة، فيهدي إليه هدية فيقبلها . وقَالَ ابن خُوَيْز مَنْذاذ(): « من السحتِ أن يأكل الرَّجُل بجاهه وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجـة، فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها »() . وقد ذكر ابن خلدون أن الجاه مفيد للمال().
قَالَ تعالى: [يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى]
() قَالَ البغوي في شرح السنة أي: « يرتشون في الأحكام »() وقَالَ ابن الجَّوْزِيّ في زاد المسير : « وفي وصفه بالأدنى قولان أحدهما أنه من الدنو، والثاني أنه من الدناءة » () .
وقَالَ الرَّازي (): في تفسيره: « وفي قوله « الأدنى» تخسيس وتحقير، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلام، ثم حكى تعالى عنهم أنهم يستحقرون ذلك الذنب ويقولون: سيغفر لنا »().
استعمل النَّبِيّ e رجلاً من الأزد يقَال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قَالَ: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فقام رسول الله e فحمد الله وأثنى عليه ثم قَالَ:« أما بعد، فإني أستعمل الرَّجُل منكم على العمل مما ولاّني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، حتى تأتيه هديته، إن كان صادقاً؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفنَّ أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغاء، أو بقرة لها خُوار أو شاة تَيعَر ثم رفع يديه حتى رُئي بياض إبطيـه يقول: « اللّهم هل بلغت ؟»().
وهذا الحديث من أبلغ الضوابط التي يحفظها المسلمون في التعبير عن حقيقة الرَّشْوَة .
قَالَ رسول الله e : « من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً
يأتي به يوم القيامة »() أي يفتضح يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وهـو معنـى قولـه تعالـى: [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ]
() . والغلول أصله الخيانة في الغنيمة، ثم أطلق على كل خيانة. وقَالَ e: « من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول»(). وعن معاذ بن جبل: قَالَ: بعثني رسول الله e إلى اليمـن، فقَالَ: « لا تصيبنَّ شيئاً بغير إذني، فإنه غلول»()، وقَالَ رسول الله e: « فإن الغلول يكون على أهله عاراً وشناراً يوم القيامة »().
وعن عبد الله بن عمر قَالَ e: «لعنة الله علي الراشي والمرتشي»() وقَالَ e: « لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما»() وقَالَ :« لعن الله
الراشي والمرتشي في الحكم »().
وروي عن عمر بن عبد العزيز() أنه اشتهى يوماً التفاح فلم يجد ما يشتري به ماله وبينما هو سائر مع بعض أصحابه أهديت إليه أطباق من التفاح فتناول واحدة فشمها ثم رده إلى مهديه فقيل له في ذلك، فقَالَ: « لا حاجة لي فيه فقيل له أن رسول الله e كان يقبل الهدية وأبو بكر وعمر : فقَالَ إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة().
روى مالك أن رسول الله كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص بينه وبين يهود خيبر فجمعوا له حلياً من حلى نسائهم فقَالوا له خذ هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم ، فقَالَ عبد الله بن رواحة: « يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم فأما ما عرضتم من الرَّشْوَة فإنها سحت وإنّا لا نأكلها فقَالوا بهذا قامت السموات والأرض »().
وقد منع العلماء قبول الوالي ومن في معناه هدية ممن لم يكن له عهد بالإهداء إليه ولو لم تكن له حاجة بالفعل عنده خشية أن تأتي له حاجة فيما بعد فيدلي إليه بما كان من هديته الأولى، وقد وقع مثله لعمر رضي الله عنه كان رَجُلٌ يهدي إليه رِجْل جزور كل عام فخاصمهم إليه يوماً فقَالَ: يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلاً أي كما تفصل الرِّجْل من سائر الجزور فقضى عمر وكتب إلى عماله:«ألا إن الهدايا الرشا فلا تقبلن من أحد هدية»().
فالمال أو الشيء المدفوع يكون تارة هدية مقبولة وتارة رشوة ممقوته، مثلهما كمثل السجدة إذا وقعت لله فهي عبادة وفريضة، وإذا وقعت لغير الله فهي شرك وممنوعة.
فالهدية تؤلف القلوب وتورث المحبة والرَّشْوَة تورث القطيعة وتوقع العداوة، والهدية تدفع بطيب نفس تقديراً للمهدي إليه أو تطيباً لخاطره أو تأليفاً له وكلها مقاصد حسنة والرَّشْوَة يدفعها الراشي مكرهاً ويأخذها المرتشي متستراً وقد جاء الحديث: « لا يحل مال
امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه »()، وهو موافق للهدية معاكس للرشوة ومن ثم فإن الأمور بالمقاصد بناء على حديث « إنما الأعمال بالنّيات»()، وحديث « البرّ ما اطمأنت
إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر»(). وإن بقي شيء من الإبهام والغموض في نفس امرئ فالجواب الكافي في حديث « إنّ
الحلال بيّن و إنّ الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه
وعرضه »().
وبهذا يُعلم أن الرَّشْوَة وسيلة من أسباب التَّمَلُّك المحرم، دلّ على تحريمها الدليل النقلي وأخبار الصحابة والتابعين ويؤكدها العقل لما فيها من الضرر على الفرد والمجتمع.
ومن المعلوم عقلاً، والمشاهد حسّاً وتجربة أن للرشوة آثاراً نفسية واجتماعية وخلقية واقتصادية وسياسية وخيمة لا بدّ وأن تجعل العقلاء والمصلحين حرباً عليها، مثلما نزلت الشرائع السماوية بتحريمها، ولعن آكليها وطردهم من رحمة الله وأنزل العقوبات بهم.
فإذا كان الراشي يدفع الرَّشْوَة وهو كاره، للحصول على حقه في استجلاب منفعة، أو استدفاع مضرة، فإنه بلا شك يتأذى بدفعها، فهي دنس للقلب وذلّة للنفس وصغار للمرتشي وشعور بالذل والإهانة، مما يولد في نفس الراشي الحقد والضغينة على المرتشي الدنيء النفس الساقط الهمّة المريد الثروة من أقرب طريق وأخسه، وعلى المجتمع الذي يسمح بوجود مثل هذه الطغمة الفاسدة.
وإذا كان يدفع الرَّشْوَة بالتراضي مع المرتشي، لظلم الناس أو أكل حقوقهم وإلحاق الأذى بهم، فإن هؤلاء الناس لا بدّ أنهم سيتأثرون، وربما أدى ذلك، والقضاء فاسد ، إلى أن يأخذ كل منهم حقه بنفسه، ولو أدي إلى القتل والإيذاء انتقاماً.
وهذا يؤدي إلى انعدام المودة والألفة والتعاون، والإخلال بتماسك الجماعة وتدهور الأخلاق في المجتمع وانغماس الجميع في الجري وراء الدنيا ومتاعها الفاني، وعدم الاكتفاء بالحلال والدخول المشروعة، والاستزادة من المكاسب، ولو عن طريق الجرائم وانتهاك النِّظَام العام والآداب الاجْتِمَاعِيَّة، وهذا ما يفضي بدوره إلى اضطراب الأمن في المجتمع، وفقدان الاستقرار والثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، فلا يعول أحد على منهج القضاء والتحاكم لأخذ الحق، فلا يكون أمام المظلوم إلا أن ينتقم لنفسه وفي هذا فساد وفوضى ووقوع في الفرقة والشحناء والتقاطع في المجتمع، وفي الوقت ذاته يترتب على هذه الآفة في المجتمع تعطيل الأعمال من العمال بغية بذل الرَّشْوَة وتكديس الأعمال وعدم إنجازها وكساد العمل وقلّة الإنتاج، وانتفاء التعاون على البرّ والتقوى، وتؤدي إلى تفاحش التفاوت بين الدخول والثروات في المجتمع.
فالرَّشْوَة بما لها من تأثيرات اقتصادية، إذا دفعها التجار أضافوها إلى الأسعار، وبما أنها دفع مال يقصد منه أحياناً التخلص من أعباء التكاليف المالية كلياً أو جزئياً، فإنها تقلل حصيلة الموارد المالية للدولة، وبما أن الرَّشْوَة دفع مال لا في مقابلة إنتاج فإنها تؤدي بلا شكّ إلى إضعاف الحوافز وإحداث التضخم أو الإسهام في زيادة حدَّته، هذا في الوقت الذي ترفع فيه مجتمعاتنا شعار ربط الأجر بالإنتاج، وإنّ من صور الرَّشْوَة من الحياة المعاصرة:
ما يدفعه المتخاصم إلى القضاة أو الحكام، ليكون الحكم له وهو على باطل وما يدفعه أحدهم إلى المحامي من أتعاب وأجور، لكي يكون وكيلاً له في قضية يعلم أنّه مبطل فيها، فعليه أن لا يتعلق بفتاوى المفتين وقضاء القضاة إذا علم أنه مُبطل فقد روى عن مجاهد وعكرمة وقَتَادة أنهم قَالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، فالحرام لا يصير حلالاً بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر. 
وما يدفعه التاجر إلى لجان المناقصات وغيرها ليفوز بالمناقصة، برغم أن سلعته فاسدة أو أقل جوده.
وما يدفعه التاجر إلى أحد الموظفين في مصرف للحصول على تسهيلات أو قروض ليست من حقه، أو للحصول على ما يزيد على حقه.
وما يُدفع إلى موظفي الجمارك، للإعفاء من الرسوم أو لتخفيفها.
وما يدفعه مخالفو أنظمة السير إلى شرطة المرور، لتفادي مبلغ المخالفة أو تخفيفها، وما يدفعه طالب رخصة السير للحصول على شهادة في السير وهو لا يستحقها. وإلى موظفي المالية، للإعفاء من الزكاة أو التكاليف أو لتخفيفها. وقد تقع الرَّشْوَة على مستوى دولي فتعقد صفقات للاستيراد أو التصدير على عقود توريد المعامل والآلات والطائرات والسيارات والأسلحة.
وقد تبذل لشراء أصوات الناخبين، فيفوز مرشح لا أهلية له من دين أو علم أو خبرة.
وما يدفعه الباعة والتجار إلى أعضاء لجان المبايعات، لإغرائهم بشراء سلعة رديئة أو غالية نسبياً.
وما يدفعه أحد الأشخاص للحصول على عمل داخل بلده أو خارجه، أو للحصول على تأشيرة دخول أو خروج، خارج نطاق الرسوم المقررة.
وما يبذله أحد الموظفين لرئيسه أو مديره، تقرباً إليه، بغرض الحصول على إمتيازات لا ينالها زملاؤه أو على ترقيات معنوية أو مادية أو إجازات أو للتغاضي عنه عند التقصير أو التعدي أو الهرب من العمل أثناء الدوام الرسمي، للقيام بأعمال أخرى لزيادة دخله وما شابه ذلك. وما يقبضه أعوان الحكام والمتنفذين من ضباط وأفراد حاشيتهم من أموال أو ما يعود عليهم من خدمات أو هدايا أو منافع بدعوى إيصال مظالمهم وتبليغ شكاياتهم والقيام بدور الشفاعة لمن يغلب عليهم من الكذب واستغلال مراكزهم تحت سمع وبصر أوليائهم وربما كان هؤلاء المتنفذون وأعوانهم شركاء لكبار التجار في البلد في تجارات مربحة محظورة كالتهريب والبغاء والقمار وحصتهم في الشركة لا مال ولا عمل، بل مجرد استغلال النفوذ لتسهيل معاملات شركائهم وتأمين التراخيص اللازمة لهم، ومما ساعد على انتشار الرَّشْوَة في هذا المجال هو شدة احتجاب أولى الأمر عن أهل الحاجات واتخاذهم الحُجَّابَ الفسّاق والخونة حتى صارت أبوابهم لا يفتحها بقدمه إلا من هم أعلى منهم أما من هم أدنى فلا يرونها ولا يُرَدُّ عليهم في شكوى أو هاتف.
إن مادة كلمة الرِّبَا الواردة في القرآن الكريم هي « ر ب و » تدل على معنى الزيادة والنمو والارتفاع والعلو ومنه قوله تعالى: ]
فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
[() ومن هذه الكلمة نفسها كلمة الرِّبَا المراد بها زيادة المال ونموه عن رأس المال الذي أشارت إليه الآية صراحة في قوله تعالى : ]
وَمَا ءَاتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ
[() .
وبهذا أصبح الرِّبَا بهذا الاسم الاصطلاحي يطلق على نوع خاص من الزيادة التي كان العرب يتعاملون بها قبل الإسلام في إطار صور متعددة أساسها زيادة يأخذها المقرض من المستقرض مقابل الأجل().
قَالَ ابن جرير الطَّبَري « إن الرَّجُل في الجَاهِليَّة يكون له على الرَّجُل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول: الذي عليه الدين أخِّر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الرِّبَا أضعافاً مضاعفة فنهاهم الله عزّ وجلّ في إسلامهم عنه(). 
وهذا الرِّبَا هو المستعمل الآن في البنوك والمصارف المالية حيث يأخذون نسبة معينة في المائة كخمسة أو عشرة في المائة ويدفعون الأموال إلى الشركات والأفراد.
وهذا النوع من الرِّبَا يصطلح عليه شرعاً بربا النسيئة، أي الزيادة بسبب النسيئة وهي التأجيل كما ورد عن أسامة بن زيد()
رضي الله عنه أن النَّبِيّ e قَالَ: «إنما الرِّبَا في النسيئة»() وفي رواية : « لا ربا إلا في النسيئة »() ، ولكنه e لما رأى الحاجة تقتضى فيما بعد أحاط حمى الله هذا بسياج من القيود حتى لا يقربه الناس فيتردوا فيه فقَالَ عليه الصلاة والسلام: « لا تبيعوا
الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرما والرما هو الرِّبَا
»()، فحرم الزيادة التي ينالها الرَّجُل من صاحبه عند تبادل شيء مماثل يداً بيد بمعنى أن يبيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر نحو أن يبيع كيلاً من القمح بكيلين من قمح آخر وهكذا في جميع المكيلات والموزونات.
وهذا النوع من الرِّبَا يصطلح عليه شرعاًَ بربا الفضل، والقاعدة الفقهية في هذا التعامل هي أنه إذا اتحد الجنسان حـرم الزيـادة والنّسـاء وإذا اختلف الجنسان حلّ التفاضل دون النساء().
وتوضيحاً لهذه القاعدة الفقهية نقول: إذا أردنا مبادلة عين بعين كزيت بزيت أو قمح بقمح أو تمر بتمر ، حرمت الزيادة مطلقاً ولا تعتبر الجودة والرداءة هنا، وإذا اختلفت الأجناس كقمح وزيت جازت الزيادة فيه بشرط القبض لما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رسول الله e: « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء » () وفي حديث عبادة بن الصامت : « فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم يداً بيد »() أي مقبوضاً حالاً.
وبهذا أصبح الرِّبَا وسيلة من وسائل الكسب غير المشروع في نظر الإسلام ولما كان الحديث عن الرِّبَا باباً واسعاً ولا يتسع المقام له هنا إلا بمقدار، فسوف نقتصر بحثنا هنا على أثر الرِّبَا في كسب الملك وما ورد من شبهات حول ذلك.
لقد حرّم الإسلام الرِّبَا تحريماً قاطعاً وحاسماً وبغاية التشديد لدرجة أن المسألة هي في موقع الحسم شرعاً حتى لا تقبل الأخذ والرّد أو أن تطرح على بساط نظر استحلالاً لها ومساساً بحرمتها ولقد كانت كذلك طيلة العهود الإسْلاميَّة الغابرة حتى تفكك الخلافة الإسْلاميَّة العثمانية وإزالتها وهيمنة الاستعمار على بلاد المسلمين، فنشأ جدل فرضه انتقَالَ النِّظَام الرأسمالي الغَرْبيّ إلى مجتمعنا حيث حاكى المتعاملون به ما هو معمول به في الغَرْب، الجدل هذا دار حول الفوائد الربوية المصرفية.
وبلغ الأمر بأدعياء علم تحكم فيهم مركب النقص وعامتهم أثرياء ولهم أرصدة في المصارف على الاجترار على نفي الوصف عن الفوائد المصرفية أن ينطبق عليها حكم الرِّبَا، وآخرين من دونهم أحلوا الرِّبَا بدورهــم ولكـن للفقـراء، مخالفيـن قولـه تعالـى: ]
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ %
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ
[
().
وما ورد في سنّة رسول الله من لعنه e في الرِّبَا آكلها ومؤكليها وكتابها وشهودها. فعن جابر رضي الله عنه قَالَ: « لعن رسول الله e آكل الرِّبَا ومؤكله وكاتبه وشاهديه » وقَـالَ : « هم سواء »().
فالرِّبَا الذي برع التجار على تسميتها الفائدة بدلاً من لفظ الرِّبَا طمعاً في تزييف الحرام على الناس وإظهاره بمظهر الحلال المباح وطمعاً في أكل أموال الناس بالباطل.
والحق أن الرِّبَا والفائدة اسمان لمسمى واحد وصنوان لا يفترقان ولا وجه هنا أبداً بين قليل الرِّبَا واعتباره فائدة مباحة وبين كثير الرِّبَا واعتباره ربا حراماً، فالفائدة هي الرِّبَا والرِّبَا هي الفائدة.
وقد حاول بعض رجال القانون والاقتصاد في عصرنا هذا وقبله أن يخرجوا الفائدة من دائرة الرِّبَا بالتلاعب في الألفاظ، فاعتبروا الفائدة مقابلاً لاستعمال مدخرات الفرد، المجموعة من حصيلة سنوات من الادخار وإنكار الذات، ولكن هذا التميز بين الفائدة والرِّبَا واعتبار الفائدة مقابلاً لاستعمال مدخرات الفرد هو مجرد وهم وتلاعب في عالم الاقتصاد لأن النقود لا تؤجر ولأن الرِّبَا المحرم هو الزيادة على قيمة القرض في مقابل الأجل، وسواء بعد ذلك أكان استيفاء هذه الزيادة الفائدة لتغطية المخاطر التي يتضمنها الإقراض أو لتعويض الشخـص عـن انصرافـه عـن استعمال مالـه في فترة ما، أو مقابلاً لاستعمال مدخرات الفرد سواء كانت هذه الفائدة قليلة أو كثيرة، فهـي فائـدة ربوية محظـورة علـى كـل حال، ولا تخرجهـا التسميـة بالفائدة عن معنى الرِّبَا، وبالتالي فإن هذه الزيادة لا تفيد نقل الملك.
هذا ويظن كثير من الناس ممّن عاشوا تجربة النِّظَام الربوي، وألغوا أشكاله وألوانه، أن القضاء على الفائدة وإلغاءها يعني القضاء على البنوك والمصارف وهي أداة مهمة تسير حركة التجارة والصناعة ولكن هذا الظّن هو ظن من يتعجل الحكم على الشيء قبل تصوره، بل هو ظن من هو جاهل بالدور الأفضل الذي يمكن أن تقوم به المصارف في خدمة التجارة بالصناعة حين تلغي الرِّبَا والفائدة من معاملاتها.
وذلك أن المصارف حين تلغي الرِّبَا والفائدة من معاملاتها، وتقوم على قواعد الشَّرِيعَة في معاملاتها وتخرج عن سلطان أخطبوط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فإنها تستطيع أن تقوم بكافة الخدمات المصرفية المشروعة التي لا غبار عليها مما لا دخل للربا والفائدة فيه، كما أنها تستطيع حين تلغي الرِّبَا والفائدة من معاملاتها أن تحقق أرباحاً مشروعة لنفسها ولكل أصحاب الأموال لديها وذلك حين تدفع هذه الأموال بإذن أصحابها مشاركة ومضاربة في تمويل الصناعة والتجارة، ثم تقوم بتوزيع صافي الأرباح الحقيقة على أصحاب الأموال المشاركة والمضاربة وفقاً لقواعد الشَّرِيعَة.
وهذا الاتجاه الجديد الذي يقدمه لنا الإسلام في عالم الاقتصاد والمال وفقاً لقواعد الشَّرِيعَة سوف يحرر النِّظَام المصرفي من كل العوائق الربوية في تقديم القروض، كما يشجع أصحاب الكفايات والقدرات والطاقات الصناعية والإنتاجية على التقدم بطلبات التمويل للقيام بمشروعات متكاملة دون خوف من خطر الرِّبَا والفائدة.
وهذا الذي ذكرناه في تحريم الرِّبَا والفائدة هو الحق، وقد جاءت النظريات الاقتصادية الحديثة تؤيده وتصدقه وعلى سبيل المثال:
فهذا « اللورد كينـز» وهو أحد علماء الاقتصاد البارزين في أوروبا يدعو إلى إتباع سياسية دائمة تستهدف خفض أسعار الفائدة إلى درجة الصفر، أي إلغاء الفائدة إلغاءً كاملاً، وفي هذا المجال نجده يقول بكل صراحة ووضوح:
« إن مجتمعاً حسن الإدارة مزوّداً بالموارد الحديثة لا يتزايد فيه السكان بسرعة، ينبغي أن يكون قادراً على خفض الكفاءة الهامشية لرأس المال ( أي الفائدة ) في توازن مستمر إلى مستوى الصفر خلال جيل واحد، حتى يمكننا الوصول إلى مجتمع شبه مستقر لأن قليلاً من التفكير سوف يبين لنا أية تغييرات اجتماعية ضخمة يمكن أن تنتج عن الاختفاء التدريجي لمعدل الفائدة على الثروة المكدسة »().
ثمّ يقول «كينـز»:
« إنّ المعدل المالي للفائدة يمنع نمو رأس المال الحقيقي، فلو أزيلت هذه الكابحة (الفرملة ) أي فائدة فسوف يصح رأس المال الحقيقي في العالم الحديث من السرعة، بحيث يصبح احتمال هبوط المعدل المالي للفائدة إلى الصفر محققاً »().
فالرِّبَا كما يرى علماء الاقتصاد عقبة كؤود على طريق تنمية أفضل للاقتصاد في عالمنا المعاصر، وذلك أن إلغاء الرِّبَا والفائدة على القروض يشجع المشروعات الإنتاجية على السير في طريقها دون خوف أو خطر من ربا أو فائدة.
وعليه، فإن «بروفسور كاسل » و « اللورد كينـز » يريان أن قائمة طلبات الاستثمار والتمويل تنكمش مع ارتفاع سعر الفائدة، وبالعكس من ذلك فكلما هبط سعر الفائدة وتيسر المال لطالبه، كلما زادت فرص الاستثمار والتمويل بمعدل سريع وأنعشت الاقتصاد، فإذا اختفت الفائدة كانت الفرصة أوفر().
وبهذا المنطق الاقتصادي الحديث الذي يقدمه لنا الإسلام، ندرك القيمة الحقيقية لقاعدة تحريم الرِّبَا والفائدة في الإسلام.
ويشتمل على أربعة مطالب :
1- المطلب الأول : عدالـــــــــــــــــــة توزيـــــــــــــــــع الثـــــــــــــروة في المجتمع.
2- المطلب الثاني : التأمينات الاجْتِمَاعِيَّة في الرَّأْسُماليَّـــــــــــــــــــــــــة.
3- المطلب الثالث : ضمانة الإسلام للحاجات الأَسَاسيَّة بالتشريع.
4- المطلب الرابع : تحقيق قاعدة الرفاه في المجتمع الإسلامـــــــــــي.
ويشتمل المطلب الرابع على المسائل التالية:
تعزيـــــــــــــــز الأمـوال في كل ولايـــــــــة.
تعزيـــــــــــــــز المرافــــــــق العامــــــــــــــــــــــــة.
توفيـــــــــــر فرص العمل لكل مواطن.
ضمـــــــــــــــــــان للعاطلين عن العمــــل.
ضمــــــــــــــان للمواليد الجـــــــــــــــــــــــدد.
ضمــــــــــــــان للأرامل والعجــــــــــــــــــــزة.
ضمان رواتب الجند وكفالة أسرهم.
ضمــــــــــــــــــــان لأهل الذمّــــــــــــــــــــــــــــــــة.
إن الثـروة الاقتصاديـة في مجتمع مـا ، هي نتيجـة طبيعية لتفاعل عمل الأفراد مع موارد الطبيعة في ذلك المجتمع، وهذه الثروة لا بدّ أن تعود بالنتيجة إلى أفراد هذا المجتمع في صور متنوعة وأشكال مختلفة، فهي تعود عليهم تارة في صـورة أجـور على العمل، كما تعود عليهم تارة أخرى في صورة خدمات وضمانات علمية أو صحيّـة أو غير ذلك من الحاجات الأخرى.
ومن خلال النظر في الفِكْر الاقتصادي نرى أمر توزيع الثروة مسألة تتنازع فيها نظريتان متقابلتان:
الأولى تقوم على تقويم حاجة الفرد وكفايته من دون تقويم لجهده وعمله، وذلك عملاً بالقاعدة التي تقول: « من كل بحسب جهده ولكل بحسب حاجته » حيث يراعى في توزيع الأعمال كل فرد، ويراعى في توزيع الناتج حسب حاجات كل فرد فما على الفرد إلا أن يبذل غاية جهده في عمله ليكافأ بحسب حاجته وكفايته من دون تقويم لجهده وعمله.
والثانية تقوم على تقويم جهد الفرد وعمله دون تقييم لحاجته وكفايته، وذلك عملاً بالقاعدة التي تقول: « كل بحسب جهده ولكل بحسب عمله » حيث إنّ الأشياء لا تكفي في الواقع لسد حاجات كل الأفراد فتكون هذه القاعدة محققة للمساواة إذا تهيأ لكل فرد من وسائل الإنتاج مثل ما للآخر، فما على الفرد إلاّ أن يبذل غاية جهده في عمله ليكافأ بحسب عمله وإتقانه وذلك دون تقويم لحاجته وكفايته.
ولكل نظريةٍ من هاتين النظريتين أنصارها الذين يؤيدونها وخصومها الذين ينتقدونها.
ولكننا عند التحقيق العلمي، نجد أنّ كلاً من النظريتين قد اجتزأت جانباً من العدل دون أن تحققه كاملاً فشاعت في كل منهما مظالم:
فالنظرية الأولى نظرت إلى حاجة الفرد وكفايته وأهملت تقويمها لجهده وعمله.
والنظرية الثانية نظرت إلى تقويم جهد الفرد وعمله وأهملت كل تقويم لحاجته وكفايته.
ولذلك لم تقو هاتان النظريتان في مسألة توزيع الثروة على الصمود مواجهة قواعد العدل الإسلامي، فضلاً عن أنّ النظرية الأولى قد حققّت لنفسها فشلاً في التطبيق حين أضعفت حافز الفرد لزيادة إنتاجه وتحسينه نتيجة لعدم تقديرها لجهده وعمله، ولذا لجأ أنصارها إلى تعديلهـا فـي التطبيـق، لتقتـرب قليـلاً من معيـار النظريـة الثانية في تقويم جهد الفرد وعمله.
كما أنّ النظرية الثانية قد حققّت لنفسها فشلاً في توفير حاجة الفرد وكفايته، خصوصاً وأن التأرجح في التطبيق قد أربك كلتا النظريتين فاختل بها ميزان العدل بين الناس، وعمّت المظالم، حتى بات القصور واضحاً في كليهما وهو قصور لازم لكل قانون وضعي حين ينفرد بالتشريع لنفسه بعيداً عن هوى الله وشرعه. هذا هو التقويم في الاقتصاد الوضعي ونظرياته، فإذا جئنا إلى قواعد الاقتصاد الإسلامي التي تقوم على قواعد الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة وأصولها وجدنا أنَّ القواعد العامة هنا، تصون حقوق الفرد في تقويم عمله وحاجته معاً، فلا هي تقوّم حاجة الفرد وتهمل عمله ولا تقوّم عمل الفرد وتهمل حاجته، بل هي تقوّم عمل الفرد وحاجته معاً في آن واحد، لتحقق العدل كاملاً في جميع أطرافه.
وهذا التقويم الذي نشير إليه، ليس وليد استنباط وابتكار، بل هو صريح في قول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، حين كان يقدر أعطيات الناس والجند من بيت المال، وفقاً لجهدهم وبلائهم، ووفقاً لحاجاتهم معاً، فقد كان رضي الله عنه يقول: « الرَّجُل وبلاؤه في الإسلام والرَّجُل وحاجته في الإسلام » ومعنى قوله: الرَّجُل وبلاؤه في الإسلام، يعني الرَّجُل وعمله في الإسلام، فقد ورد في حديث سعد يوم بدر : « عسى أن يعطي هذا من لا يُبلى بلائي » أي لا يعمل مثل عملي في الحرب، كأنه يريد أفعل فعلاً أختبر فيه ويظهر به خيري من شري() والابتلاء في الأصل هو الاختبار والامتحان() وسياق قول عمر رضي الله عنه يوضح لنا كثيراً من جوانب هذا التقويم، العادل، فقد قَالَ رضي الله عنه:
« والله الذي لا إله هو، ما أحد إلا وله حق في المال، أعطيه أو أمنعه، وما أحد أحق به من أحد، إلا عبد مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدكم، وكلنا على منازلنا من كتاب الله عزّ وجلّ وقسمنا من رسول الله e، فالرَّجُل وبلاؤه في الإسلام، والرَّجُل وغناؤه في الإسلام، والرَّجُل وحاجته في الإسلام، والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه، قبل أن يحمر وجهه ( يعني في طلبه ) ().
ولا يُقَال هنا بخصوصية القاعدة في تقدير جهد الفرد وحاجته معاً في هذا العطاء، وعدم شمول عدالتها، لأن مفاهيم العدل لا تتجزأ، وليس في هذا التقويم المبني على « تقدير العمل والحاجة » انتقاص من حق أحد، بل فيه توفيق لحق كل أحد، بحسب جهده، وإبلائه في عمله، وإخلاصه فيه، وإتقانه له، وفيه أيضاً توفية لحقه في حاجته وعليه فيكون التقويم في هذا الشأن « من كل بحسب جهده، ولكل بحسب عمله وحاجته معاً » ولذا، فإن تقويم عمل الفرد، وتقويم حاجته، ليس بالأمر الذي نمر به سريعاً في هذا المجال، فلكل تقويم منهما في هذا المجال بحث وتفصيل. فأما تقويم جهد الفرد بحسب عمله: فهو كما ذكرنا- صريح قول الخليفة الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: « الرَّجُل وبلاؤه في الإسلام » وهذا يقتضي أنه كلما أبلى الفرد بلاء حسناً في عمله، كلما وجد تقويماً أكثر لجهده، وذلك أيضاً معنى قول الخليفة الراشد على بن أبي طالب رضي الله عنه في خطبة له: « واعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون، وقيمة كل امرئ ما يحسن »() .
يُضاف إلى ذلك أن « قاعدة الجزاء بحسب العمل» هو ما تشهد له نصوص الشَّرِيعَة فقد قَالَ الله تعالى ]وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[() ، فهذه قاعدة عامة في القرآن، تجعل منـزلة الفرد بحسب عمله ودرجته كما تجعل أقدار العاملين أيضاً مما عملوا، أي من جنس ما عملوا، وهذا التقدير العادل في مقاييس الإسلام، له ما بعده من جزاء وافٍ على عمل كل عامل كما هو واضح في قوله تعالى: ]
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ [ فيكون تقدير الدرجات بجنس العمل هنا هو لتوفيه العاملين أجر أعمالهم، وهو تقدير ليس فيه مكان لحيف أو جور لأنه تقدير مصون بأمر الله عز وجل، وقد زاد عزّ وجلّ هذا العدل تقديراً بقوله تعالى: ]
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [ وهو تقدير بعيد المدى، لنفي كل ظلم وتأكد كل عدل.
وبذلك ندرك أن تقرير هذا المبدأ العام، الذي يربط درجة التقدير بحسب العمل، إنما هو تقرير قرآني، لا شيء فيه من اختراع القول، ولا تحكم الفهم، فهو بذلك أصل جليل ومعيار دقيق، لكل تقويم.
وأما التقويم أيضاً بحسب حاجته: فهو صريح قول عمر رضي الله عنه في الشطر الثاني من كلامه « والرَّجُل وحاجته في الإسلام » وحاجات الفرد هنا كثيرة، وقد يفي بها عائد عمله، وقد يقتصر عنها عائد علمه وهي بطبيعتها حاجات متنوعة، فحاجاته الأَسَاسيَّة أربع، حيث لا بدّ له من:
طعام يصونه من الجوع، وشراب يصونه من الظمأ، وكساء يصونه من العري، ومسكن يصونه من ضحى الشمس وبرد الجو.
وقد كانت هذه الحاجات مكفولة لآدم في حياته الأولى في الجنة ولكنه أنذر بأنه إذا رضخ لإبليس في إيحاءاته وإغراءاته وعصى ربه، فسوف يخرج من الجنة، وعليه حينئذ أن يشقى بالعمل في تحصيل حاجاته كلها، وذلك كما قَالَ الله تعالى: ]
فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى()%إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى%وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى()[().
وهكذا حددّ القرآن الحاجات الأَسَاسيَّة للإنسان، تحديداً منطقياً بأربع حاجات وقد وعد الله آدم بأنه ما بقي في الجنّة فمضمونه له هذه الحاجات: له ألا يجوع فيها، ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى، ثمّ أنذره بأنه إذا أخرج من الجنة فسوف يفقد هذه الضمانات الأربع ويتعرض لأذى الجوع والعري والظمأ والضَّحى ( وهو التعرض للشمس وحرّها) وعليه حينئذ أن يشقى بالعمل، ليحصل تلك الضمانات بنفسه، وبتلك المسؤولية قرر القرآن أن العمل والسعي له هو السبيل الطبيعي لكسب المعاش أو ما يُعف بالدخل لإشباع الحاجات الأَسَاسيَّة للإنسان من مأكل يصونه من الجوع، وملبس يصونه من العري، ومشرب يصونه من الظمأ ومسكن يصونه من الحرّ والبرد وهذه الحاجات الأَسَاسيَّة كما حددها القرآن، هي دوافع السلوك الاقتصادي للإنسان، ثم ربط هذه الحاجات-في الآية الكريمة- بالشقاء في العمل لتحصيلها يؤدي بنا إلى قاعدة أساسية تتلخص في « اعتبار العمل، السبيل الطبيعي للحصول على مورد يحفظ على الفرد حياته، ويهيئ له ضمانات في حاجاته »().
وأيّاً كان التاريخ الذي عاش فيه آدم عليه السلام، فإن هذه الحاجات لفت إليها آدم عليه السلام، هي بعينها ما يدفع الفرد منّا « اليوم وغداً وفي كل غد » إلى ترك الفراش على كره منه، والانطلاق إلى الأسواق لعرض السلعة أو الخدمة وللحصول على النقود أو إبدال النقود، لإشباع تلك الحاجات أو التزيد منها والرغد فيها.
ثمّ أنه لمن الميسور لكل إنسان أن ينظر إلى حياته، وإلى حياة أسرته، ليرى ما إذا كانت الحاجات الأَسَاسيَّة التي تشغله وترهقه هي بعينها تلك الحاجات الدوافع التي نصّ عليها القرآن وحده، أم أن حاجات أخرى ترقى إلى هذا المستوى الأساسي من حيث درجة الإلحاح على النفس البشرية؟ ذلك ما عدا تلك الحاجات مهما بلغت هي توابع لهذه الدوافع الأَسَاسيَّة للفرد.
وقد تفرّد القرآن العظيم بتفصيل هذه الحاجات والدوافع، على نحو نعتقد أنه لقي دراسة تحليلية كافية حتى الآن، لما انطوت عليه الآيات في هذا المجال من الإحاطة والشمول، وما من موازنة يجريها الباحث المنصف، بين النُّصُوص القرآنية وبين اجتهاد علماء الاقتصاد في هذا المجال، إلا وكشفت عن ضآلة الجهد البشري في هذا المجال الهام والأساسي في حياة الإنسان وهذا كلّه هو بالنسبة للحاجات الأَسَاسيَّة للإنسان، التي هي في الوقت نفسه دوافع السعي والعمل والكسب.
أما بالنسبة للعمل والإنتاج، فالأرض كلها وعلى اتساع أطرافها ميدان رحب غني بوسائل الكسب وكل ما فيها مسخّر للإنسان ومطوع ومذلل له وأما الثروات والموارد الطبيعية فإن كل إنتاج من طيباتها لا يقوم ولا يستمر إلا على تزواج بين العمل وبين هذه الثروات والموارد، فعلى تلك الموارد يقوم كل عمل ومن كنوزها يتم كل إنتاج وما على الإنسان والحالة هذه إلا أن يحَزْم أمره فارض الله واسعة وخيراتها كثيرة وثرواتها وفية ومواردها غنيّة فما عليه إلا يعمل عقله وفكره وقلبه ومداركه ويحسن جهده وتدبيره لاستخراج ثرواتها وإنتاج طيباتها والإفادة منها.
وعليه فالمشكلة الاقتصادية ليست في قلّة الموارد الطبيعية وثرواتها، وإنما المشكلة كما يقرر القرآن ، هي مشكلة الإنسان ذاته في عمله وإنتاجه، قَالَ الله تعالى: ]
وَءَاتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
[
() ، فظلم الإنسان للإنسان في الحياة العمليّة، وكفره بنعمة الله بإهمالها وعدم تقدير أهميتها وشكر المنعم عليها، هما السببان الرئيسان للمشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان، ويتجسد ظلم الإنسان لنفسه وغيره على الصعيد الاقتصادي في اقتناص المغانم، وفي سوء توزيع الثروة في المجتمع وفي الحرمان المنتشر فيه، وفي فقدان الخلق الكريم الذي يعتبر سر النجاح في كل تعامل كما يتجسد كفرانه للنعمة في إهماله خيرات الأرض واستثماره لكنوزها وثرواتها وموقفه السلبي منها »().
وعليه، فإن توزيع الثروة في المجتمع كما أجملنا في هذا المبحث وفصلنا في ثنايا البحث على ضوء قواعد الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة-بحسب عمل الفرد وبحسب حاجته يضمن توزيعاً عادلاً، ويحقق رفاهاً يغني الفرد عن كل ضرورة وحاجة ويغدو الفرد حينئذ أكثر إخلاصا لعمله، ووفاء لمجتمعه.
ويكفي في هذا المجال أن نذكر بالنقد الذي وجهه اللورد « مارينارد كينـز » إلى نظم الاقتصاد المعاصرة، لندرك مدى الخلل الكبير في ميزان توزيع الثروة في عالمنا المعاصر، ولندرك بالتالي قيمة القواعد الإسْلاميَّة في حل المشكلات الاقتصادية في توزيع الثروة وغيرها. فقد قرر اللورد «ماينارد كينـز» عام 1938م في كتابه المشهور « النظرية العامة » ما يلي:
« إن أهم الأخطاء البارزة في اقتصادنا المعاصر اثنان وهما :
أولاً: الفشل في تحقيق العمالة الكاملة ( أي ضمان العمل لكل قادر ).
ثانياً: التوزيع التحكمي لكل من الثروة والدخل على نحو لا يحقق العَدالَة»().
و إذا نظرنا في ما تقدم عن سلف الأمة لوجدنا أن تحقيق العمالة الكاملة ( أي توفير العمل لكل قادر) هو مسؤولية الدَّوْلَة وهو ما يفيده قول عمر بن الخطَّاب عن مسؤولية الحاكم فـي هـذا المجال: « إن الله استخلفنا على الناس ، لنسد جوعتهم، ولنوفر لهم حرفتهم »() كما أن توزيع الثروة في المجتمع توزيعاً عادلاً، وهو في تطبيق المعيار الدقيق « من كل بحسب جهده ولكل بحسب عمله وحاجته معاً » وفقاً لقول عمر بن الخطَّاب: « الرَّجُل ولاؤه في الإسلام والرَّجُل وحاجته في الإسلام »().
وبذلك يتجنب الاقتصاد المعاصر تلك الأخطاء التي أحدثت خللاً في عالمنا المعاصر وشردت بالإنسان بعيداً عن هدي الله وشرعه.
إن فكرة زيادة الدخل الأهلي هي أساس النِّظَام الاقتصادي في المبدأ الرأسمالي باعتبار أن الاقتصاد عندهم يبحث في حاجات الإنسان ووسائل إشباعها ولا يبحث إلا في الناحية المادية من حياة الإنسان. فهو يقول إن الندرة النسبية للسلع والخدمات بالنسبة للحاجات هي المشكلة الأَسَاسيَّة ، أي عدم كفاية السلع والخدمات للحاجات المتجددة والمتعددة عند الإنسان هي المشكلة الاقتصادية للمجتمع. وذلك أن للإنسان حاجات تتطلب الإشباع، فلا بدّ من وسائل لإشباعها، ووسائل الإشباع هذه هي السلع والخدمات، فالسلع وسائل الإشباع لما يسمى عندهم بالحاجات المادية وهي الحاجات المحسوسة الملموسة ، مثل أكل الرغيف لبس الثوب وسكنى الدار، والخدمات وسائل الإشباع لما يسمى عندهم بالحاجات المعنوية وهي الحاجات المحسوسة غير الملموسة مثل خدمة الطبيب والمعلم والمهندس. لذلك كانت مهمة الاقتصادي هي توفير السلع والخدمات.
ولما كانت السلع والخدمات محدودة، فإنها لا تكفي لحاجات الإنسان، لأن هذه الحاجات غير محدودة. وهذا لا يتأتى مهما كثرت السلع والخدمات لذلك نشأ أساس المشكلة الاقتصادية وهو كثرة الحاجات وقلّة إشباعها، وبهذا تظل بعض الحاجات إما إشباعاً جزئياً فقط أو غير مشبعة إطلاقاً، فالمشكلة عندهم هي الحاجات وليس الإنسان أي هي توفير الموارد لإشباع الحاجات وليس إشباع حاجات كل فرد من الأفراد.
ولما كان الأمر كذلك كان لا بدّ من أن تكون القواعد التي تضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج حتى يتأتى توفير الموارد، ومن هنا كانت مشكلة توزيع السلع والخدمات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمشكلة إنتاجها، وكان الهدف الأسمى للدراسات الاقتصادية هو العمل على زيادة ما يستهلكه مجموع الناس من السلع والخدمات ، لهذا كان زيادة الإنتاج الأهلي عندهم أهم الأبحاث لمعالجة المشكلة الاقتصادية إذ يعتقدون أنه لا يمكن معالجة الفقر والحرمان في بلد ما إلا عن طريق زيادة الإنتاج. ومن هنا يفهم سر انصباب الجهود على زيادة الإنتاج والتنمية الاقتصادية ووضع التخطيط الاقتصادي لزيادة الإنتاج.
وعلى هذا « فإن النِّظَام الاقتصادي الرأسمالي يهدف إلى غاية واحدة هي زيادة ثروة البلاد جملة، ويعمل للوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج، ويجعل تحقيق أقصى ما يمكن من الرفاهية لأفراد المجتمع نتيجة لزيادة الدخل الأهلي ورفع مستوى الإنتاج في البلاد وذلك بتمكينهم من أخذ الثروة حين يترك لهم الحرِّيَّة في العمل لإنتاجها ولحيازتها... وهذا خطأ وظلم لأن الحاجات التي تتطلب الإشباع هي حاجات فردية، فهي حاجات لمحمد وصالح وحسن وليست حاجات لمجموعة الإنسان أو لمجموعة أمة أو لمجموعة شعب »().
وعلى هذا يكون الرأسماليون قد تصوروا المشكلة الاقتصادية تصوراً مقلوباً فجعلوا إنتاج الثروة وتركوا أمر توزيعها ، في حين أن المشكلة هي توزيع الثروة، وترتب على ذلك أن جعلوا الثمن هو المنظم للتوزيع ، فمن ملك الثمن أخذ الثروة ، ومن لا يمك شيئاً لا يأخذ شيئاً، فالقوي بماله وسلطانه يستحق الحياة والضعيف لا يستحق الحياة، وهذا هو واقع البلاد الغَرْبيّة كلها.
وأيضاً، فقد هذا كله إلى تملك المال بأي سبيل سواء بالرِّبَا أو الغش أو الاحتكار وسواء أكانت السلع خمراً أو أفيوناً وبذلك حصر الثروة بأيدي الأقوياء وحرم منها الضعفاء ولذلك سيطرت الاحتكارات الرَّأْسُماليَّة واستبد المنتجون بالمستهلكين وتحكم أرباب المال على جمهرة المستهلكين مما أدى إلى ظهور ما يُسمى بالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة لترقيع النِّظَام الرأسمالي لتخفيف ما أنزله بالناس من ظلم وإرهاق.
« فالضمانة فيه ليست أساساً في النِّظَام ولا أمراً جوهرياً فيه، بل هي أحكام طارئة أدخلت لترقيعه »().
فالرَّأْسُماليَّة حاولت إيجاد ما يُسمى بالضمان الاجتماعي والعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة وأوجدت التأمينات الاجْتِمَاعِيَّة وهذه التأمينات هي أن تهتم الدَّوْلَة بصنفين من الناس من الرعية التي تحكمها وهما:
أولاً: العامل عند غيره بأجر، ويشمل هذا مستخدمي الحكومة، والمؤسسات العامة والعمال الدائمين في المصانع والمعامل والمزارع، إلا أن التفاوت في استخدام نوعية العمال من سمات هذا النظام، فبعضهم يدخل عمال المزارع دون عمال المقاولات والشحن والتفريغ والعمال المؤقتين، وبعضهم لا يدخل عمال المزارع إلا الذين يشتغلون بالآلات الزراعية ومن يدخل في هذه التأمينات الاجْتِمَاعِيَّة من هؤلاء عموماً هو الذي يشتغل عند غيره بأجر.
فالعَدالَة الاجْتِمَاعِيَّة تقتضي أن يُعطى العامل تعويضاً ومعاش شيخوخة. فأما التعويض، فإذا لحق ضرر بالعامل أثناء عمله منعه من العمل منعاً كلياً أو جزئياً فإنّه يحظى بالرعاية الصحية والتعويض عن الضرر. فإن منعه الضرر من العمل منعاً كلياً تعطى له معونة لا تصل إلى حد أجره اليومي إذ تتراوح ما بين 60% إلى 80% من أجره()، إلى أن يبلغ سن التقاعد وهو سن الستين أو الخامسة والخمسين أو الخامسة والستين حسب القانون الذي يسن ذلك. هذا عند وقوع الضرر بإصابة في أثناء العمل، أما إنْ أصيب بمرض طارئ في حياته فإنه يحظى بالأمرين الرعاية الصحية والأجر التام أثناء مرضه دون انقطاع شيء من راتبه. ولكل فرد الحق في الراحة في أوقات الفراغ، ولا سيما تحديد وقت معقول لساعات العمل، وفي عطلات دورية وبأجر وذلك بأن يعطى العامل يوم راحة في الأسبوع وأيام راحة في السنة وأيام الأعياد ويأخذ أجرة هذه الأيام . وإذا وافته المنية أثناء العمل يُعطى تعويضاً معيناً يسلم لأهله يكون بنسبة السنوات التي خدمها في المصلحة أو المؤسسة أو المصنع.
أما معاش الشيخوخة، فيستحقه من بلغ سن التقاعد وهو يعمل، فيعطى إكرامية مالية بنسبة سني خدمته أو معاشاً شهرياً بنسبة سني خدمته لا يصل إلى راتبه الذي تقاضاه أثناء عمله.
هذا مجمل التأمينات الاجْتِمَاعِيَّة للموظفين والعمال، ولكن من هو المسؤول عن تقديم هذه التأمينات ، هل هو الدَّوْلَة أو المؤسسة؟
إن اهتمام الدَّوْلَة يتمثل في سَنِّ القوانين التي تضمن هذه التأمينات، وهذه التأمينات متعينة على المستخدم سواء أكانت الدَّوْلَة أو المؤسسة، فالدَّوْلَة لا تعطي هذه التأمينات إلا لموظفيها وعمالها الذين تستخدمهم هي وأما من أين يؤخذ هذا المال، فإنه ينال على الإجمال من حقوق العمال « فإنه بالنسبة للدولة تخصم على العامل بنسبة معينة 5% أو 10% من أجره وتدفع منها ما يقابله وتستثمر هذا المبلغ بالرِّبَا وتدفع منه تعويضات العمال ومعونتهم ومعاشاتهم. أما الموظفون فتدفع من خزينتها تقاعدهم. وأما بالنسبة لباقي المؤسسات فإنها تخصم من أجرة العامل نسبة معينة 3 % أو 10% أو حول هذا المقدار وتدفع منها ما يقابله وتستثمر هذا المال بالرِّبَا وتجمع إعانات وتبرعات للعمال وقد تساهم الدَّوْلَة في ذلك مساهمة ومن هذا المال المتجمع تدفع تلك التأمينات الاجْتِمَاعِيَّة»().
« فمصادر التمويل للتأمينات الاجْتِمَاعِيَّة هي مساهمة العمال بجزء من أجورهم ومساهمة رب العمل بمقدار يساوي ذلك واستثمار هذه الأموال ومساهمة الأهالي بشيء من التبرعات، وقد تساهم الدَّوْلَة في ذلك بجزء ضئيل من المال »() .
ثانياً: الفقراء والمحرومون: إن الاهتمام بأصحاب الفاقة والبطالة في النِّظَام الرأسمالي لا يكون بتقديم المال ولا بتوفير الغداء والملبس والمسكن وإنما هو تأمين العناية الطبية والخدمات الاجْتِمَاعِيَّة اللازمة، فيؤمن له التعليم وتفتح له المشافي للعلاج المجاني ويعتنى بالأطفال الفقراء والأمهات العجزة والفقراء، وهذه العناية التي تشمل حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته الحق في الرعاية الخاصة والحماية الاجْتِمَاعِيَّة من تعليم مجاني وطبابة مجانية وتوفير لشيء من الغذاء والكسـاء مـن قبيـل الصدقات بمـا لا يصل إلى سد الحاجة، وإنما وجبات طعام ولباس في أيام الشتاء.
هذه هي خلاصة ضمان الحاجات الأَسَاسيَّة في النِّظَام الرأسمالي ومثله نظام اشتراكية الدولة، لأنها نظام رأسمالي قد جرت تغطيته بلفظ الاشْتِراكِيَّة إلا أنها تزيد على تأمينات الرَّأْسُماليَّة بمنح العمال نصيباً في رأس المال وتضع حداً أدنى لأجور العمال وحداً أقصى للفائدة والإجارة، وتقيد المِلْكِيَّة في كثير من المواطن وتؤمم بعض المصالح العامة، فطريقتها في ضمان الحاجات الأَسَاسيَّة هي طريقة رأسمالية مع تغطيتها بزيادة بعض الأحكام.
وأما الاشْتِراكِيَّة الحقيقية، فإنها لا تعنى بضمانة الحاجات الأَسَاسيَّة عناية خاصة بها وإنما تعنى بالمساواة في المِلْكِيَّة بمنع ملكية كل ما ينتج وحصر المِلْكِيَّة بما يستهلك فحسب وتوجيه عنايتها للعمال بشكل خاص، فأدى هذا إلى انخفاض مستوى المعيشة في البلدان الاشْتِراكِيَّة حتى لوحظ في أوج تطبيقها بحث أفرادها عن الطعام والحاجات لهف القط الذي حبسه صاحبه ولم يطعمه إلا مساء ولم يجعله يرى النور في الآفاق.
لقد رأينا أن الإسلام أباح التَّمَلُّك المشروع بهدف إشباع الحاجات عند الإنسان، ولكن هذه الإباحة للملكية وللعمل في مصادر الاقتصاد نجدها تحقق تمكين كل فرد من إشباع حاجاته الأَسَاسيَّة والكمالية إلا أنها لا تحقق ضمان كل فرد فهي تقوم بتوزيع الثروة على الناس إلا أن هذا التوزيع لا يضمن إشباع جميع الحاجات الأَسَاسيَّة لكل فرد من أفراد الرعية إشباعاً كلياً ولا يضمن تمكين كل فرد من إشباع حاجاته الكمالية على أكبر قدر مستطاع لأن إباحة المِلْكِيَّة وإباحة العمل في مصادر الاقتصاد لا تكفي وحدها لتحقيق السِّيَاسِيَّة الاقتصادية القائمة على أساس ضمان الحاجات لكل فرد في المجتمع، لأن هذه الإباحة تمكن الأقوياء من المِلْكِيَّة والعمل، أما الضعفاء أو الذين لم يتمكنوا من إيجاد العمل فإنهم لا يتمكنون بالإباحة وحدها من نوال حاجاتهم الأَسَاسيَّة.
ومن أجل ذلك شرع الإسلام أحكاماً شرعية علاوة على أحكام إباحة المِلْكِيَّة وإباحة العمل وتضمن الإشباع لكل فرد ، وبذلك ضمن التوزيع والتمكين لأفراد الرعية.
إلا أنّ هذه الأحكام الشَّرْعية ليست ترقيعاً للنظام ولا معالجة للثغرات ولا هي مختصة بالعمال والموظفين أو الفقراء المحرومين كما فعلت الرَّأْسُماليَّة واشتراكية الدَّوْلَة، وإنما هي أحكام ثابتة من أحكام النِّظَام تسير مع إباحة المِلْكِيَّة والعمل دون انفصال وهي تعالج كل حالة لا ثغرات معينة ولجميع الرعية وليست لفئة خاصة كأحكام النفقة.
أما ما هي الحاجات الأَسَاسيَّة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة؟ فإن الشَّرْع قد جعلها قسمين:
الأول: الحاجات الأَسَاسيَّة لكل فرد من أفراد الرعية بذاته، فهي المأكل والمشرب والملبس والمسكن وقد فصلنا في بيانها سابقاً.
الثاني: الحاجات الأَسَاسيَّة للرعية كلها فهي الأمن والتعليم والتطبيب.
وجدير بالذكر أن هناك تعليمات وتنظيمات وحقوق جاءت بها الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، تضمن ضماناً قطعياً الحاجات الأَسَاسيَّة لكل فرد تتمثل في الآتي:
الأصل أن الإنسان يكفي نفسه بنفسه بأن يعمل ويكد ويكسب ولا يسأل الناس حاجة، لأن اليد العليا خير من اليد السفلى والعطاء خير من الأخذ ولا عطاء إلا بغنى ، ولا غنى إلا بالعمل والكسب، كما دلّ عليه حديث الاحتطاب. فسؤال الناس أو من يمثلهم كالدَّوْلَة أمر غير مرغوب فيه ما دام الإنسان قادراً على العمل والاكتساب المباح.
وإذا كان العمل مندوباً والسؤال محظوراً، فإن على الدَّوْلَة الإسْلاميَّة أن تقوم بتسهيل سبل العمـل والكسـب لأفـراد الرعيـة، بأن توجـد العمل للعاطلين والمشاريع الاقتصادية لتشغيل الأفراد.
فإذا لم يوجد عمل للفرد، أو وجد وكان الفرد عاجزاً عن أدائه بسبب طارئ وجبت له النفقة، أما من يقوم بالإنفاق الذي يقوم بإشباع هذه الحاجات الأَسَاسيَّة فقد عينه الشَّرْع تعييناً واضحاً، ذكرنا تفصيلها في نظام النفقة من هذا الفصل، وبضمان النفقة للزوجة على الزوج وللأولاد على أبيهم والقريب على قريبه ذي الرحم المحرم، والآباء والأبناء قد ضمن إشباع الحاجات لجميع الأفراد.
وإذا لم يستطيع الفرد الاكتساب، أو لم يجد ما يكتسب به منه، ولا يوجد من ينفق عليه مـن أقاربـه، فإنه في هـذه الحالـة يجب سدّ حاجته من أموال الزكاة التي هي حق لكل فرد فقير.
هذا من حيث ضمان الحاجات الأَسَاسيَّة لكل فرد بذاته، أما من حيث ضمان الحاجات الأَسَاسيَّة للرعية كلها، فإن الشَّرْع جعل على الدَّوْلَة مباشرة ضمان توفير هذه الحاجات الأَسَاسيَّة لأنها من الحقوق الطبيعية والخدمات العامة والمصالح المهمة للإنسان في الحياة، فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسـول الله e قَالَ : « ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو
مسؤول عن رعيته... »() ، وفي رواية :«فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته»() وجعل من المسئولية توفير الحاجات الأَسَاسيَّة المتمثلة في: الأمن والتطبيب والتعليم، لا فرق بين مسلم و غير مسلم، ولا بين غني وفقير، فأما الأمن فقد قَالَ e :« من أصبـح آمنـاً في سربـه، معافى في بدنه، عنده قـوت يومـه فكأنماحيزت له الدنيا »() فقد جعل الأمن والصحة حاجة أساسية كالقوت، فيكونان من الحاجات الأَسَاسيَّة، وقد تمثل هذا الأمن بنوعيه في حياة الرسول e والصحابة من بعده من خلال تسيير الغزوات ورفع راية الجهاد وهو ما يطلق عليه بالأمن الخارجي الذي ضمنته الدَّوْلَة ووفرته لأفراد الرعية، ومن الأمن الداخلي من خلال تطبيق أحكام العقوبات على المتعدين المجاوزين للحدود.
وأما التعليم فقد أخرج البُخَارِيّ عن أبي موسى عن النَّبِيّ e قَالَ : « مثل ما بعثني الله به من الهدى و العمل كمثل الغيث أصاب أرضاًَ فكان منها نقبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فلذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » () . وقَالَ e : « من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل »(). فالغيث من الحاجات الأَسَاسيَّة وكذلك الهدى والعلم إضافة إلى اعتبار العلم ضرورة لما أشار من علامة انتهاء عمارة هذه الدنيا بفقده.
وعلى ذلك، « فينبغي على دولة الإسلام أن تهيئ سبل التعليم والثَّقافَة للأفراد لأن الإلزام القانوني في شريعة الإسلام لا يتحقق بمعناه الصَحِيْح إلا بعد توفير التوجيه الفِكْري والنفسي عن طريق التربية والتعليم والثَّقافَة »().
وقد اضطلعت دولة الإسلام والقائمون عليها منذ وجدت تبيين الهدى للمسلمين وللناس أجمعين ، ولقد كان e يرسل إلى شتى الجهات في شبه الجزيرة العربية من يعلم الناس وما أن بدأت طلائع الإسلام في يثرب حتى أرسل إليها عليه صلوات الله مصعب بن عمير() وعبد الله بن أم مكتوم() بعد بيعة العقبة الثانية، وفي خبر بئر معونه أن الرسول e أرسل سبعين شاباً يسمون القراء إجابة لدعوة عامر بن مالك، وقد تكلف رسل الهداية هؤلاء حياتهم في الطريق نتيجة عدوان وقع عليهم(). وفي غزوة بدر لم يتوفر لأناس من الأسرى فداء ، « فجعل الرسول e فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة »() ، وروي عن عامر الشَّعْبِي (): كان فداء الأسرى من أخل بدر أربعين أوقية، فمن لم يمن عنده علّم عشرة من المسلمين فكان زيد بن حارثة() ممّ عُلّم »(). ومن المعلوم أن بدل الغداء هو ملك لبيت المال كالمال الذي أخذه من الأسرى الآخرين في المعركة نفسها وضمه إلى بيت المال، فيكون سَيِّدنا محمد e جعل التعليم مقابل الغداء ومعناه حقيقة أنه عليه الصلاة والسلام دفع للمعلمين أجرة من بيت المال. وهذا مما يدل على أن التعليم مما يجب على الدولة، وقد حدّث الدمشقي عن ابن عطاء قَالَ : كان في المدينة ثلاثة معلمين يعلمون الصبيان وكان عمر بن الخطَّاب يرزق كل واحد منهم خمسة عشر في كل شهر().
هذا فيما يلزم المسلم في شؤون حياته الخاصة أما غيره من المعلومات، فهي فرض كفاية على المسلمين لا يسقط عنهم الإثم إلا إذا قام به البعض الذي تحصل به الكفاية وذلك مثل الطب والهندسة والصناعات والكهرباء وغيره سيما وأنها من المعارف التي تنفع عامة المسلمين ومما يحتاجون إليها في حياتهم.
وأما التطبيب ، فإن رسول الله e أمر بالوقاية بكل سبيل ، فقَالَ : « فرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد »() ، وعن سعد بن أبي وقّاص() عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ماذا سمعت من رسول الله؟ e في الطاعون؟ فقَالَ أسامة: قَالَ رسول الله: « الطاعون رجسٌ أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه »() . كذلك أمر e بالتداوي عند المرض. فعن أنس رضي الله عنه قَالَ : « قدم أناس من عكل() أو عرينة() فاجتووا المدينة فأمرهم النَّبِيّ e بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا ، فلما صحوا قتلوا راعي النَّبِيّ e ... »().
وقد فعل سَيِّدنا عمر بن الخطَّاب حينما مرَّ بطريقه إلى الشام على قوم مجذومين أن فرض لهم شيئاً من المال، وقد سار على هذا الخلفاء والولاة فخصص الوليد بن عبد الملك() أعطيات للمجذومين وبنى ابن طولان في موضع بمسجده في مصر ميضأة وخزانة شراب بها الأدوية والأشربة كما عين طبيباً يعالج المرضى().
« فالتطبيب واجب على الدَّوْلَة من ناحية كونه شأناً من الشؤون الواجب رعايتها ومن ناحية إنّ عدم توفير الطبيب ضرر على الناس، فكان من هاتين الناحيتين فرضاً على الدَّوْلَة»().
وفوق هذا فإن الرسول e أهدي إليه طبيباً فجعله للمسلمين، فكون الرسول جاءت الهدية له ولم يتصرف بها ولم يأخذها، بل جعلها للمسلمين دليل على أن هذه الهدية مما هو لعامة المسلمين وليست له.
فهذه الأمور الثلاث: الأمن والتعليم والتطبيب من الأمور الأَسَاسيَّة لجميع الناس الواجب على الدَّوْلَة توفيها لهم، وهي واجب للفقير والغني سواء لأنها حاجة أساسية عامة للناس لما دلّ عليه من تعليم أولاد المسلمين في بدر وأنه كان عام يشمل الفقير والغني.
غير أنه وإن كان يجب على الدَّوْلَة توفيرها للناس، فلا يمنع أحد أن يوفرها لنفسه كأن يقيم حارساً له ولبيته أو يعلم أولاده عند معلم أو يتداوى عند طبيب بأجرة لما روى عن النَّبِيّ e أن الأجرة على التعليم من قولـــه: « إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله »() ومن قوله في التطبيب عن أنس بن مالك قَالَ : « دعا النَّبِيّ e غلاماً فحجمه فأمر له بصاع أو صاعين»() وكانت الحجامـة في ذلـك الوقـت من الأدوية التي يتطبب بها مما يدل على جواز أن يوفر لنفسه التطبيب.
هذا هو الضمان لإشباع جميع الحاجات الأَسَاسيَّة ، وبهذا تكون السِّيَاسِيَّة الاقتصادية في الإسلام قد تحققت بهذه الأحكام تحققاً كليّاً، « فإن إيجاد أعمال للقادرين، وضمان نفقة الفقراء العاجزين حقيقة والعاجزين حكماً، يتحقق بها ضمان إشباع جميع الحاجات الأَسَاسيَّة لكل فرد من أفراد الرعية إشباعاً كليّاً، وبه يتم تحقق السِّيَاسِيَّة الاقتصادية المثلى في الإسلام().
إنّ الإسلام بعقيدته وأفكاره وأنظمته ومفاهيمه لا بدّ وأن يتمثل في سلوك أفراده ، فهو ليس مجموعة إرشادات ومواعظ ولا مثلاً وأخيلة وإنما عقيدة ونظام لا بد أن يتمثل في الشخصيات والوقائع، وهذا ما جعل نماذج إنسانية تعيش ووقائع عملية تتحقق وسلوك وتصرفات تشهد بالعين، وتسمع بالأذن وتترك آثارها في واقع الحياة، وفي أطوار التاريخ وكأنما كان روحاً يتلبس بهذه الشخوص فيحولها، ويصوغها صياغة جديدة وينشئها نشأة أخرى. إنه الإسلام الذي شهد العهود السالفة في أروع التطبيقات العملية في شتى ميادين العدل الاقتصادي بين الناس وفي سبيل توفير وتحقيق وضمان مستوى العيش ووصولاً إلى تحقيق الرفاة لكل الناس.
وتلك شهادة من بطون أولياء الأمور يقدمونها إلى العالم ليدلل على العَدالَة الاقتصادية المثلى آليت أن أقدمها في مطلبٍ خاص دون وصلها في منابتها عبر المباحث خشية أن تضيع بين السطور ، فلا تشكل تياراً حيّاً قوياً جياشاً.

1- تعزيز الأموال في كل ولاية:

في سبيل جعل حكام الولايات أكثر قدرة على الحركة والعطاء أقر عمر بن عبد العزيز نظاماً لا مركزياً في بيت المال سواء في جباية الأموال أو في صرفها فطبق بذلك نوعاً من الاكتفاء الذاتي في كل ولاية، في جباية الأموال وصرفها على احتياجاتها المحلية. 
وكي يعزز عمر بن عبد العزيز هذا الإجراء جعل تبادل المعونات المالية بين الولاية والمركز الأساسي في العاصمة أمراً مفتوحاً، وذلك لسد العجز المالي في أي من الولايات في حال حدوثه وفي الحوار التالي بين عمر وعامله على إحدى الولايات الإسْلاميَّة «أبو مجلز » صورة واضحة لهذه السِّيَاسِيَّة المالية المرنة.
فقد نقل الطَّبَري في تاريخه: قَالَ أبو مجلز لعمر بن عبد العزيز: « إنك وضعتنا بمنقطع من التراب()، فاحمل إلينا الأموال، فقَالَ عمر: « يا أبا مجلز قبلت الأمر» ، قَالَ أبو مجلـز: « أهو لنا أم لك؟ » فقَالَ عمر : « هو لكم إذا أقصر خراجكم عن أعطياتكم». قَالَ أبو مجلز: « فلا أنت تحمله إلينا، ولا نحن نحمله إليك، وقد وضعت بعضه على بعض » فقَالَ عمـر: «أحمله إليكم إن شاء الله»().
وفي رسالة أخرى بعث بها إلى عقبة بن زرعة الطائي() عامله على ولاية خراسان كتب له فيها يقول: إن كان الخراج-عندكم- كفافاً لأعطياتكم فذاك، وإلا فاكتب إلي، حتى أحمل إليك الأموال، فتوفِّر لهم أعطياتهم، فقام عقبة بإحصاء الخراج، فوجده يفضل على أعطياتهم، فكتب إلى عمر بذلك، فأجابه عمر : « أن أقسم الفضل في أهل الحاجة »().
من خلال هذه التطبيقات العملية ندرك أن الإسلام قد نظّم وحدة الاقتصاد في الدَّوْلَة فجعل بيوت الأموال كلها بيتاً واحداً متضامناً، فلو استغنت ولاية وعجزت ولاية أخرى، سدت الولاية الغنية عجز الأخرى، وقد طبق عمر بن عبد العزيز هذه القاعدة، فأمر أن تُسدَّ ولاية الشام حاجة ولاية العراق في رد المظالم، حين لم يكف مال العراق في ردّها، وهكـذا صـارت الولايـات الإسْلاميَّة وحـدة اقتصادية متكاملة ومتساندة، يسد بعضها حاجات بعض().

2- تعزيز المرافق العامة:

من الوظائف الأَسَاسيَّة للدولة في الإسلام أن تَهتم بالمرافق العامة، وأن تعمل على تعزيزها وتطويرها، وإثرائها وكل مرفق عام يشترك فيه العموم، ويتحقق به النفع العام من غير اختصـاص بأحـد، يعتبـر الاهتمـام بـه وظيفـة من الوظائف الأَسَاسيَّة للدول، تقوم به وتشرف عليه.
ومن التطبيقات العملية ما نقل عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في التوسعة على العامة واهتمامه بطرق المواصلات البريّة والبحريّة والنهريّة، تيسيراً للسبل على الناس، وتنشيطاً للتجارة ، وتوفيراً للطرق المتنوعة لها.
فقد كتب عمر بن الخطَّاب إلى عَمْرو بن العاص() عامله على ولاية مصر، أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر ليطلعهم على رأيه في حفر خليج يصل النيل بالبحر فتقصر بذلك المسافات بين الولايات، فقدموا عليه، فقَالَ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : « يا عَمْرو، إن الله فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام وأُلقي في روعي لما أحببتُ من الرفق بأهل الحرمين والتوسيع عليهم حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوة لهم ولجميع المسلمين: أن أحفر خليجاً من نيلها حتى يسيل في البحر، فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر ( أي على ظهر الإبل برّاً ) يبعد، ولا نبلغ منه ما نريد، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا على ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم ».
فانطلق عَمْرو بن العاص، فأخبر بذلك من كان معه من أهل مصر، فثقل ذلك عليهم وقَالوا: نتخوف أن يدخل في هذا ضرر على أهل مصر، فنرى أن تُعظّم ذلك على أمير المؤمنين ونقول له: « إن هذا الأمر لا يعتدل ولا يكون، ولا نجد إليه سبيلا، فرجع عَمْرو إلى عمر بن الخطَّاب فضحك عمر حين رآه وقَالَ : « والذي نفسي بيده لكأني أنظر إليك يا عَمْرو وإلى أصحابك حين أخبرتهم بما أمرتكم به من حفر الخليج، فثقل ذلك عليهم وقَالوا: يدخل في ذلك ضرر على أهل مصر، فعجب عَمْرو بن العاص من قول عمر وقَالَ : صدقت والله يا أمير المؤمنين لقد كان الأمر على ما ذكرت، فقَالَ عمر: انطلق يا عَمْرو بعزيمة مني حتى تجدَّ في ذلك ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه إن شاء الله » وانصرف عَمْرو بن العاص، وجمع لذلك من العمال ما بلغ منه ما أراد، وحفر الخليج الذي في جانب الفسطاط الذي يقَال له خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى البحر الأحمر، فما يأت الحول حتى جرت فيه السفن، فحمل فيه ونفع الله بذلك أهل الحرمين، وسميّ « خليج أمير المؤمنين » ثم لم يزل يُحمل فيه الطعام، حتى حمل فيه أيضاً بعد ذلك عمر بن العزيز ثم ضيعه الولاة بعد ذلك فترك وغلب عليه الرملُ فانقطع »().
ومن التطبيقات العملية ما ورد من اهتمام بالغ في تحسين وسائل الري وحفر الآبار وشق الأنهار لتحسين الزراعة، فقد كتب القاضي أبو يوسف في « كتاب الخراج » الذي رفعه إلى هارون الرشيد يقول له فيه: « ورأيت أن تأمر عمال الخراج إذا أتاهم قوم من أهل خراجهم، فذكروا لهم أن في بلادهم أنهاراً عادية قديمة، وأرضين كثيرة غامرة، وإنهم إن استخدموا لهم تلك الأنهار واحتفروها، وأُجْريَ الماء فيها، عَمُرَتْ هذه الأرضُون الغامرة وزاد ذلك في خراجهم، أن يكتبوا بذلك إليك، فتأمر رجلاً من أهل الخبرة والصلاح ويوثق بدينه وأمانته، فتوجهه في ذلك حتى ينظر فيه ويسأل عنه أهل الخبرة به والبصيرة، ومن يوثق بدينه وأمانته من أهل البلد... فإذا اجتمعوا على أن في ذلك صلاحاً وزيادة في الخراج، أمرت بحفر تلك الأنهار وجعلت النفقة من بيت المال ولا تحمل نفقة ذلك على أهل البلد، فإنهم أن يَعْمرُوا خيرٌ من أن يَخْرَبوا، وأن يَفروا ( أي الوفرة والغنى) خيرٌ من أن يذهب ما لهم ويعجزوا وكلُّ ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أراضيهم وأنهارهم وطلبوا إصلاح ذلك لهم أجيبوا إليه إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم »().

3- توفير فرص العمل لكل مواطن:

لما كان العمل يهيئ للفرد ضماناته في حاجاته كان لا بدّ من أجر على هذا العمل وكان لا بدّ أيضاً في مستوى هذا الأجر أن لا يقل عن حدِّ بدوره إلى تقرير قاعدة أساسية تتلخص في عدم جواز هبوط مستوى الأجور عن الحدّ الذي يكفل إشباع الحاجات الأَسَاسيَّة للفرد من مأكل وملبس ومشرب ومسكن، كحد أدنى في ذلك »().
ولذلك كان من وظيفة الدَّوْلَةفي الإسلام كما ورد عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه توفير الحرفة لكل الناس، وسد حاجاتهم، فقد وقف أمير المؤمنين عمر يوماً ليودع أحد ولاته قبل سفره إلى الولاية التي سيحكمها وألقى عليه السؤال التالي:
« ما ذا تفعل إذا جاءك سارق؟ » فأجابه: أقطع يده، فقَالَ عمر: « وإذن فإن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف يقطع عمر يدك، إنّ الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ونستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها، يا هذا إن الله خلق الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية().

4- ضمان للعاطلين عن العمل:

وفي كتاب الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى واليه على مصر خير دليل على تقويم حاجة الفرد وتوفيرها له فهو يقول له: « ثم الله الله في الطبقة السفلى الذين لا حيلة لهم: من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت المال وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى مثل الذي للأدنى. وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لانشغالك بالكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممّن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال ففرغ لأولئك وقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل معلق بك فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليهم، وتعهد أهل اليُتم وذوي الرّقة في السن فمن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه ».
إن من الوظائف الأَسَاسيَّة للدولة في نظام الإسلام توفير فرص العمل لكل مواطن ولكن الناس في مجال العمل أصناف أربعة:
واجدون للعمل وكفايتهم منه وهؤلاء لا حاجة لتوفير كفايتهم.
واجدون للعمل دون تحقيق كفايتهم منه.
غير واجدين للعمل أصلاً مع قدرتهم عليه.
عاجزون عن العمل.
والأصناف الثلاثة الأخيرة تلتزم الدَّوْلَة رعايتهـم على نحـو يوفـر لهم حاجتهم وكفايتهم حتى ينتظم شأنهم.
فالواجدون للعمل دون كفايتهم أو الفاقدون للعمل مع قدرتهم عليه، فهؤلاء قد ذكر الإمام النووي() وسيلة رعايتهم فقَالَ : « ويُعطى منها-أي الزكاة- الفقير والمسكين ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهـو ما تحصـل به الكفايـة علـى الدوام وهذا هو نص الشَّافِعِي رحمه الله.
فإن كانت عادته الاحتراف: أعطي ما يشتري به حرفته أو آلات حرفته، قلّ‍َت قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته عاماً تقريباً، ويختلف ذلك باختلاف الحرف، والبلاد، والأزمان، والأشخاص، وتقريب ذلك:
- إنّ من كانت حرفته بيع الجوهر، يعطى عشرة آلاف درهم مثلاً،إذا لم تتأتَ له الكفاية بأقل منها.
- من كان تاجراً، أو خبّازاً أو عطّاراً، أو صرّافاً، أعطي بنسبة ذلك.
- ومن كان خيّاطاً أو نجّاراً أو قصّاباً أو غيرهم من أهل الصنائع، أعطي ما يشتري به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفي علتها على الدوام.
فإن لم يكن محترفاً، ولا يحسن صنعة أصلاً، ولا تجارة، ولا شيئاً من أنواع المكاسب: أعطي كفايته العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر ذلك بكفاية سنة().
فذكر البغوي() والغَزَالي وغيرهما من الخراسانيين: أنه يعطى كفاية سنة ولا يزداد، لأن الزكاة تتكرر كل سنة، فيحصل كفايته منها سنة فسنة، والصَحِيْح الأول وهو كفاية العمر() وهو المذهب الصَحِيْح الذي قطع به العراقيون، وكثير من الخراسانيين، ونص عليه الشَّافِعِي رحمه الله().

5- ضمان للمواليد الجدد:

يظن كثير من الناس أن فرض راتب شهري لكل مولود جديد هو من نتائج الحَضَارَة المعاصرة والتنظيمات المدينة الحديثة، بينما كان هذا الإجراء نظاماً مقرراً ومعمولاً به في الدَّوْلَة الإسْلاميَّة منذ بزوغها في القرن السابع للميلاد كجزء من أنظمة الدَّوْلَةالأَسَاسيَّة، ولكن مع فارق جوهري واحد، وهو أن الدَّوْلَة الإسْلاميَّة لا تقتصر في فرض هذا الراتب لأولاد موظفي الدَّوْلَة فقط كما هو بشأن الأنظمة الحديثة، بل هي تفرض هذا الراتب الشهري لكل مولود جديد موظفاً كان والده أو غير موظف بحيث يشمل هذا الضمان أولاد المواطنين جميعاً.
وقد كان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في أول الأمر لا يفرض راتباً إلا للمولود الذي تمّ فطامه فأصبح يتعجلون فطام أولادهم حتى يصرف لهم عطاؤهم ولما علم عمر بذلك أمر مناديه أن ينادي في الناس: « أن لا تعجلوا أولادكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، قَالَ : وكتب بذلك عمر في الآفاق بالفرض لكل مولود في الإسلام »(). والأصل في ذلك، ما رواه لنا عبد الرحمن بن عوف() قَالَ: « قدمت رفقة من التجار إلى المدينة، فنزلوا المصلى، فقَالَ لي عمر: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم، ويصليان ما كتب الله لهما.
فسمع عمر بكاء صبي، فتوجه نحوه وقَالَ لأمه: «اتَقِيّ الله وأحسني إلى صبيك» ، ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه فقَالَ لها: « اتَقِيّ الله وأحسني إلى صبيك» ثم عاد إلى مكانه ، فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه وقَالَ لها: « ويحك إني لأراك أم سوء، مالي أرى ابنك لا يقر ( أي لا يسكت ) منذ الليلة؟ » قَالَت : يا عبد الله قد أبرمتني (أضجرتني) منذ الليلة، إني أريده عن الفطام فيأبى. قَالَ: ولم؟ قَالَت : لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم. قَالَ : وكم له (أي من العمر)؟ قَالَت : كذا وكذا شهراً. قَالَ ويحك لا تعجيله. فصلى عمر صلاة الفجر، وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلّم من صلاته قَالَ: يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين؟ ثم أمر مناديه فنادى: أن لا تعجلوا أولادكم عن الفطام، فإنـا نفـرض لكـل مولود في الإسلام، وكتب بذلك عمر إلى الآفاق ( أي إلى سائر البلاد) ().
ولقد وصف خالد بن عرفطة عطاءات الدلو للأطفال زمن عمر بن الخطَّاب رضي الله عمه، فقَالَ: « وما من مولود يولد إلا أُلحق في مائة وجربين كل شهر، ذكر كان أم أنثى، وما يبلغ لنا ذكر إلا ألحق على خمسمائة أو ستمائة().
ومما يدعو للتأمل، أن هذا النِّظَام لم يتوقف بوفاة عمر رضي الله عنه، لأنه سلوك فرد في أمّة وإنما هو تعبير عن جوهر الإسلام في حرصه على توفير الحاجات الأَسَاسيَّة لكل مواطن. ومن ذلك في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ما رواه لنا أبو عبيد القاسم بن سلام (عن) محمد بن هلال المديني قَالَ: حدثني أبي عن جدتي: « أنها كانت تدخل على عثمان بن عفان ففقدها يوماً فقَالَ لأهله: مالي لا أرى فلانة؟ فقَالَت امرأته: يا أمير المؤمنين ولدت الليلة غلاماً، قَالَت (أي جدته) : فأرسل بخمسين درهماً وشقيقة سنبلانية، (أي من قماش وافر الطول) ثم قَالَ هذا عطاء ابنـك وهـذه كسوتـه، فـإذا مـرّت به سنة رفعناه إلى مائة»().
ومن ذلك أيضاً في عهد علي رضي الله عنه، ما رواه لنا أبو عبيد القاسم بن سلام (عن) أبي الجعاف (عن) رجل من خثعم قَالَ: « وُلـد لـي ولـد فأتيت علياً رضي الله عنه فأثبته في مائة »().
ومن ذلك أيضاً في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ما رواه لنا أبو عبيد القاسم بن سلام عن مروان بن شجاع الجزري، قَالَ: « أثبتني عمر بن عبد العزيز وأنا فطيم في عشرة دنانير»().
وقد نظّم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه رواتب المواليد الجدد، وجعل ذلك نظاماً عاماً في الدولة، فكتب إلى عامله في الولايات الإسْلاميَّة: « ارفعـوا إلينـا كـل منفوس نفرض له»().
وأما الأطفال الذين فقدوا آباءهم، فالشَّرِيعَة الإسْلاميَّة تفرض لهم عطاءات إضافية تعولهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله e: « مـن
ترك مالاً فلورثته ومن ترك كَلاًّ فإلينا »() قَالَ أبو عبيد بن سلام: « الكَلُّ هو كل عيِّل والذرية منهم، فجعل النَّبِيّ e للذريّة في المال حقاً ضمنه لهم »().
وفي الحديث النبوي أيضاً أن النَّبِيّ e قَالَ: « أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلورثته ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ و عليّ »() والضياع هم الأولاد الضعاف الذين لا يقدرون على الكسب وليس لهم ما يقوم بمعيشتهم ، فمن ترك ضياعاً فهذا ضمان لهم جاءت به الشَّرِيعَة، وبيـان النَّبِيّ e كـان يعـول النـاس من بيـت المـال، وكلامـه e دستور وتشريع »().
وهذا الضمان الرائع الذي جاءت به الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة، هو وظيفة من الوظائف الأَسَاسيَّة للدولة، لأن عليها واجب الرعاية لمواطنيها، ولذا كان من حق كل وليد في الأمة أن يجد من الكفاية الغذائية، والرعاية التربوية ما يجده كل وليد آخر، فإذا كان دخل أبويه، أو ظروفها المعيشية لا تمكنها من توفير الفرصة المناسبة له، فإنّ على الدَّوْلَة أن توفرها له ولغيره من المواليد الجدد، حتى لا يصبح تكافؤ الفرص خرافة بالنسبة لهذا الطفل، إذا نشأ ناقص التغذية أو مهملاً في البيئة بينما هناك أطفال محظوظون تتاح لهم هذه الفرصة من دونه في الحياة ومن حق كل طفل بعد أن يجد العلم والرعاية الصحية، وأن يجد فرصة العمل في شبابه بحسب طاقاته ومواهبه، وفي هذه المرحلة التالية فقط يصبح للتفاوت الطبيعي حقه، لأنه حينئذ يكون تفاوتاً ناشئاً عن التفاوت في القدرات والمواهب().
وبعد، فإن الشَّرِيعَة تنطوي على حلول اجتماعية واسعة في هذا المجال، لا يجوز أن يتخلف عنها مجتمع في عالمنا المعاصر.
فمن واجب الدَّوْلَةرعاية شؤون الطفل « والعناية بأيتامهم من رعايتهم وتعليمهم وإبعادهم عن التشرد والضيـاع بكــل وسيلة مشروعة كإنشـاء دور للأيتـام والمدارس والملاجئ وغيرها »() وينطبق هذا الحكم على اللقطاء الذين لا يعرف لهم أب ولا أم فرعايتهم واجبة على الدَّوْلَةوقد « قرر فقهاء الإسلام وجوب التقاط الطفل لمن وجده لئلا يموت وأوجبوا له من الحقوق ما لغيره إذ لا جريرة له ولا ذنب به هو لبنة صالحة لا بد من رعايتها والعناية بها حتى تسد ثغرة في المجتمع الإسلامي »().
يقول الأستاذ عبد الله علوان: « وقد راعى الإسلام نفسية اللقيط فأعطاه الحقوق الممنوحة للولد الشَّرْعي دون أن يكون بينهما تمييز أو تفريق فيجب تربية اللقيط وتعليمه القراءة والكتابة والحرفة وتسند إليه الوظائف وتقبل شهادته ويعتبر مسؤولاً عن جميع تصرفاته وأعماله حتى لا يشعر بنفسه أنه همل من سقط المتاع وحتى لا تتولد في تصوراته مركبات النقص والعقد النفسية وبهذه المعاملة الحسنة نكون قد أعددنا مواطناً صالحاً ينهض بواجباته ويضطلع بمسؤولياته فلا يشعر بنقص ولا يسبح في متاهات الهواجس والأفكار().

6- ضمان للأرامل والعجزة والشيوخ:

لقد تحدث فقهاء الإسلام عن مسؤولية الدَّوْلَة تجاه مواطنيها، وبينوا أن جزءاً من مصارف بيت المال يصرف إلى دواء الفقراء والمرضى وعلاجهم وإلى أكفاف الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته() كما نجد الخلفاء أيضاً قد اهتموا بتلك الرعاية أشد الاهتمام، وفصلوا القول فيها، ومن ذلك كتاب الإمام علي رضي الله عنه إلى واليه على مصر، وفيه يذكره بالمساكين والمحتاجين وأهل البؤس، والمرضى واليتامى، وذوي الرقة في السن، وذوي الحاجة، ممّن لا ينصبون للمسألة أنفسهم فنجده يقول له في كتاب له:
« ثم الله الله، في الطبقة السفلى، من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس، والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً واحفظ ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت المال، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى مثل الذي للأدنى. وكل قد استرعيت حقه، فلا يشغلك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لانشغالك بالكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم. وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممّن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال ففرغ لأولئك وقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل معلق بك فاعذر إلى الله في تأدية حقه إليهم، وتعهد أهل اليُتم وذوي الرّقة في السن فمن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه »().
وكان الخليفة « المنصور » العَبَّاسي يأمر بإجراء الأرزاق على القواعد من النساء اللاتي لا أزواج لهنّ، وعلى الأيتام، والعميان.
وكان الخليفة «المهدي» بعده أيضاً‌ يأمر بإجراء أرزاق مستديمة للمجذومين، وكان طاهر بن الحسن يدعو ولده حين استعمله المأمون على ولاية «الرقة» إلى تعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة فيتحمل مؤونتهم، ويصلح حالتهم ويقول لولده:
« تعاهد ذوي البأساء وأيتامهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال إقتداء بأمير المؤمنين «المأمون» في العطـف عليهـم، والصلة لهم، ليصلـح الله بذلك عيشهم ويرزقك بركة وزيادة»().
روى أبو عبيد أن الخيار بن أوفى النهدي مرَّ على عثمان رضي الله عنه فقَالَ: « كم معك من عيالك يا شيخ؟ فقَالَ إن معي كذا وكذا. فقَالَ : قد فرضنا لك كـذا وكــذا ولعيالك مائة مائة» ().
وجاء في كتاب خالد بن الوليد إلى أهل الحيرة « وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو إصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما قام بدار الهجرة ودار الإسلام »() .
فهذه النُّصُوص وغيرها من التطبيقات العملية كلها صريحة في مسؤولية الدَّوْلَة عن ضمان هؤلاء كلهم، وتوفير الكفاية ، فمن كان قادراً على العمل كان على الدَّوْلَة أن تهيئ له فرصة مناسبة للعمل من ولم تتح له فرصة العمل أو كان عاجزاً عنه، فعلى الدَّوْلَة أن تضمن له حقه في الاستقامة والهون بتوفير الكفاية له في مستوى العيش الكريم().

7- ضمان رواتب الجند وكفالة أسرهم:

الجيش هو السياج الحقيقي للدولة، وهو الذي يقوم على حماية البلاد والدفاع عنها، يرد الطامعين، ويقاتل في سبيل الله والمستضعفين، ويحرر الناس ليخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وفقاً لمبادئ الإسلام، ولذا ينبغي أن تتوجه كل الجهود لضمان هؤلاء الجنود المجاهدين فتفرض لهم الدَّوْلَة الرواتب العالية وتكفل لهم أسرهم أثناء غيبتهم في الثغور وساحات الجهاد.
وعلى سبيل المثال، يروي لنا الطَّبَري وابن الأثير أن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان قد فرض لأهل القادسية وأهل الشام من الجند ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء البارع منهم ألفين وخمسمائة ثم فرض للروادف بعدهم ثلاثمائة ثلاثمائة وسوى كل طبقة في العطاء، قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض لمن بعدهم من الروادف على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين »().
وقد وصف خالد بن عرفطة الرواتب العالية للجند وأوضاعهم المالية الجيدة في زمن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، فقَالَ : « ما وطئ أحد القادسيـة إلا وعطاؤه ألفان أو خمس عشرة مائة»().
وكان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يعمل على زيادة عطاءاتهم، ولا يغيبهم في الثغور على الحدود وجبهات القتال مدداً طويلة، وكان أبا عيالهم في غيبتهم حتى يرجعوا، فمن خطبة له رضي الله عنه حين تولى الخلافة قوله:
« ولكن عليّ أيها الناس أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى ولكن عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمركم() في ثغوركم وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا »()
وكتب الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى زيد بن عبد الرحمن بن الخطَّاب وكان حاكماً على الكوفة، يأمر أن يرد فضل بيت المال على الجند فيقضي ديونهم في غير فساد، ويزيد نفقة من تزوج منهم فلم يقدر على نقد ويقول له: « كتبت إليّ تذكر أنه قد اجتمعت عندك أموال بعد أعطية الجند فأعط منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوج ولم يقدر على نقد، والسلام »().
وذلك يدل على سبيل المثال، كم ينبغي أن تتحمل الدَّوْلَةمسؤوليتها المتشعبة تجاه هؤلاء المجاهدين الذين يجودون بأرواحهم ودمائهم في سبيل الله عزّ وجلّ.

8- ضمان لأهل الذّمة:

لقد بلغ الإسلام في رعايته لمواطنيه أن يوفر لأهل العهد والذّمة كل الحقوق المشروعة ومن ذلك الرفق بهم وتوفير رواتب العجز والشيخوخة لمن ضعف منهم وإجراء النفقة على عيالهم وعلى سبيل المثال فقد جاء في عهد خالد بن الوليد إلى نصارى أهل الحيرة: 
« بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل الحيرة.. وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا على غير دار الهجـرة ودار الإسـلام فليـس علـى المسلميـن النفقة على عيالهم
().
وكذلك كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عاملة على ولاية البصرة يقول له: « أن أنضرا في أهل الذمة فأرفق بهم وإذا كبر الرَّجُل منهم وليس له مال ، فأنفق عليه»().
ومن التطبيقات العملية لذلك العناية بتسليف المزارعين منهم وإعانتهم بما يمكنهم من تنشيط أعمالهم الزراعية، فقد كتب زيد بن عبد الرحمن بن الخطَّاب إلى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يقول:
« أنه قد بقي عندنا شيء في بيت المال »، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز يقول له: « أن قوِّ أهل الذّمة، فإنا لا نريدهم لسنة ولا لسنتين »().


الفصل الثالث : العدالة في النظام الاقتصادي في الإسلام

242

- تمهيد

243

- تعريف الملكية لغة وشرعاً

243

- طبيعة الملكية في الشريعة الإسلامية

245

المبحث الأول : العدالة في حق التملك الفردي

252

المطلب الأول :

الأسباب المترتبة على الجهد الخاص

254

1- الأجرة على العمل المشروع

254

2- إحياء الأراضي الموات

259

3- استخراج ما في باطن الأرض

261

4- الصيد

264

5- السّمسرة والدلالة

266

المطلب الثاني:

الطرق المباحة بالأسباب الشّرعيّة

267

1- الزكاة

267

2- الميراث

272

3- نظام الكفارات

277

المطلب الثالث:

الأمور المترتبة على إرادة الآخر

280

1- الوصية

280

2- الهبة

281

3- الإقطاع

282

المبحث الثاني : العدالة في منع التملك من الأعمال المحظورة

285

المطلب الأول :

العقود المنهي عنها

287

المطلب الثاني:

التسعير

294

المطلب الثالث:

الرّشوة

299

المطلب الرابع:

الرّبـــــــــا

208

المبحث الثالث : ضمانة الحاجات وتحقيق الرفاه في العيش

313

المطلب الأول :

عدالة توزيع الثروة

314

المطلب الثاني:

التأمينات الاجتماعية في الرأسماليّة

321

المطلب الثالث:

ضمانة الإسلام للحاجات الأساسية بالتشريع

324

المطلب الرابع:

تحقيق قاعدة الرفاه في المجتمع الإسلامي

330

1- تعزيز الأموال في كلّ ولاية

330

2- تعزيز المرافق العامة

331

3- توفير فرص العمل لكل مواطن

333

4- ضمان للعاطلين عن العمل

334

5- ضمان للمواليد الجدد

335

6- ضمان للأرامل والعجزة

338

7- ضمان رواتب الجند وكفالة أسرهم

340

8- ضمان لأهل الذمّة

341

ويشمل على تمهيد و ثلاثة مباحث :

- تمهيد:

تعريـــــــــــف المِلْكِيَّـــــــة لغــــــة وشرعــــــــــــاً.

طبيعة المِلْكِيَّة في الشَّرِيعَة الإسْلاميَّة .

1- المبحث الأول : العَدالَة في حق التَّمَلُّك الفردي.

ويشتمل على ثلاثة مطالب:

1- المطلب الأول: الأسباب المترتبة على الجهد الخاص:

1- الأجرة على العمل المشروع.

2- إحياء الأراضي الموات.

3- استخراج ما في باطن الأرض.

4- الصيد.

5- السمسرة والدلالة.

2- المطلب الثاني: الطرق المباحة بالأسباب الشَّرْعية:

1- الزكاة.

2- الميراث.

3- نظام الكفارات.

3- المطلب الثالث: الأمور المترتبة على إرادة الآخر:

1- الوصية.

2- الهبة.

3- الإقطاع.

0 تعليق:

إرسال تعليق