بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الإستدلال بمقاصد الشريعة في النوازل المستجدة

 الإستدلال بمقاصد الشريعة في النوازل المستجدة

إعداد

مسفر بن علي القحطاني

استاذ اصول الفقه المشارك بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن

التمهيد : 

مقاصد الشريعة هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها وهي الغاية التي من أجلها وضعت أحكام الشرع . 

وقد ثبت بما لا يجد مجالاً للشك (( أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً ))( ). 

إما بجلب النفع لهم أو لدفع الضرر والفساد عنهم ، كما دل عليه استقراء الشريعة في جميع تصرفاتها بما يثبت أنها وضعت لمصالح العباد ، كقوله تعالى : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( ) وكقوله تعالى:  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  ( ) .

ومن استقراء علل الأحكام  المعروفة أو أدلة الأحكام المشتركة في العلّة تبين له كذلك أن العلّة تلك بمعناها العام هي مقصد الشارع ومدار أحكامه . كما في قوله تعالى بعد آية الوضوء :  مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ  ( ) ، وقوله تعالى في آية الصيام :  كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ) وقوله تعالى في الصلاة:  إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ  ( ) . 

إلى غيرها من الحكم والغايات المناطة بالأحكام ، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : ((وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ))( ). 

وهكذا يوجد في كل حكم أمور ثلاثة :- 

1ـ  الوصف الظاهر المنضبط وهو العلّة .

2ـ  وما في الفعل من نفع وضرر ويعبر عنه بالمصالح والمفاسد أو حكمة التشريع . 

3ـ  وما يترتب على التشريع من جلب منفعة أو دفع مضرة ويسمى مقصد التشريع ( ) .

وهذه سمة ملازمة لكل أحكام الشرع ، فما من حكم إلا وقد قُرِّر لرعاية مصلحة أو درء مفسدة ، وإخلاء العالم من الشرور والآثام ، مما يدل على أن الشريعة تستهدف تحقيق مقصد عام ، ألا وهو إسعاد الفرد والجماعة ، وحفظ النظام وتعمير الدنيا بكل ما يوصل البشرية إلى أوجّ مدارج الكمال والخير والمدنية ، فالتشريع كله جلب مصالح ، فما طلبه الشرع محقق للمصلحة إما عاجلاً أو آجلاً ، والمنهيات كلها مشتملة على المفاسد والمضار . 

فإذا كانت مقاصد الشريعة بهذا الشمول والعموم من الهيمنة على أحكام الشريعة وارتباط التشريع بها في كل جزيئاته . كانت معرفتها بالتالي أمراً ضرورياً على الدوام ولكل الناس . 

فالعامي يلحظ بها حكمة التشريع وأسرار الأمر والنهي مما يزيده يقيناً وإيماناً وعلماً وعملاً . والفقيه يراعي مقاصد الشرع عند الاستنباط وفهم النصوص والنظر في أحكام الشرع ،؛ فإذا أراد معرفة حكم واقعة من الوقائع احتاج إلى فهم النصوص لتطبيقها على الوقائع وإذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة استعان بمقصد التشريع . وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في نازلة مستجدة عن طريق القياس أو الاستحسان وغيرها تحرى بكل دقة أهداف الشريعة ومقاصدها . 

وهكذا لا تنقضي الفوائد والأسرار التي يجنيها الفقيه والمجتهد من مراعاته لمقاصد الشريعة عند بحثه ونظره في الأحكام ( ) . 

وهذا ما دعا الشيخ عاشور رحمه الله إلى تأليف كتابه القيم ( مقاصد الشريعة الإسلامية ) حيث قال في مقدمته : (( هذا كتاب قصدت منه إلى إملاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية والتمثيل والاحتجاج لإثباتها لتكون نبراساً للمتفقهين في الدين ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار ، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار ، ودربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف حتى يستتب بذلك ما أردناه غير مرة من نبذ التعصب والفيئة إلى الحق إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببُلالة ( )تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت النوازل ، وبفصلٍ من القول إذا شجرت حجج المذاهب وتبادت في مناظرتها تلكم المقانب( ) )) ( ) .

وهذا المسوّغ لابن عاشور رحمه الله في التأليف في هذا الفن قد سوّغ لأئمة أعلام قبله الإشارة لأهمية هذا الفن والتنبيه على حاجة الفقيه له ، أشهرهم : الإمام الجويني ( ) رحمه الله ، والغزالي رحمه الله ( ) ، والعز بن عبد السلام ( ) وتلميذه الإمام القرافي ( )رحمهما الله ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ( ) وتلميذه ابن القيم ( ) رحمهما الله . 

ولكن لما جاء الإمام الشاطبي رحمه الله أظهر هذا العلم وأبرز قواعده وأسهم في تأصيله وبيان أحكامه حتى أصبح كتابة ( الموافقات ) مرجع هذا العلم ومقصد العلماء فيه بالإضافة إلى تخصيصه للمقاصد جزء من كتابة الموافقات لم يسبق إليه أحد ، فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عن المسلمين كل خير( ) . 

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في وجوب موافقة قصد المكلف من عمله قصد الشارع سواءً كان متعلماً أو مجتهداً : (( قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع والدليل على ذلك ظاهر من وضع الشريعة.. والمطلوب من المكلف أن يجري على ذلك في أفعاله ولا يخالف ما قصد الشارع))( ) 

يقول الشيخ عبد الله دراز  رحمه الله في بيان موافقة المجتهد في عمله لمقصد الشارع :(( أما بالنسبة للمجتهد بوجه خاص ؛ فإن عليه أن يحدد المقصد الشرعي في حكم كل مسألة على حده ليتمكن من تبُّين صحة أو دقة اندراجها في المقاصد العامة للتشريع التي اتجهت جملة التكاليف إلى تحقيقها اعتباراً للجزئي بالكلي، وهذا لون من الجهد العقلي الاجتهادي ))( ). 

فهذا النظر المقاصدي من المجتهد يعتبر ضابطاً لكل أنواع الاجتهادات التي تستنبط بها الأحكام ولعلنا من خلال المطالب القادمة أن نسلّط بعض الضوء على دور المقاصد الشرعية في تعريف المجتهد بأحكام النوازل المعاصرة . 

المطلب الأول   :    تعريف مقاصد الشريعة . 

مقاصد الشارع ومقاصد الشريعة والمقاصد الشرعية كلها مصطلحات تستعمل بمعنى واحد وهو المعنى الذي نريد تعريفه وبيان المقصود منه في هذا المطلب . 

أولاً  :   التعريف اللغوي لمقاصد الشريعة : 

المقاصد جمع مقصد ويأتي لعدة معانٍ منها  : 

ـ الاعتماد والأمُّ وإتيان الشيء،نقول:قصده وقصدله وقصد إليه إذا أمَّه وتوجه إليه.

ـ استقامة الطريق ومنه قوله تعالى : وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ( ). ويقال طريق مقاصد : أي سهل مستقيم .

- العدل والتوسط وعدم الإفراط ومنه قوله تعالى : وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ( )وقوله صلى الله عليه وسلم : (( القصد القصد تبلغوا ))( )، بمعنى التوسط والاعتدال( ) .

ولعل المعنى الأول أقرب للمراد وبقية المعاني اللغوية منطوية ضمنه فتكون المقاصد هي القضايا التي اعتمدت عليها الشريعة وأمَّتها في أحكامها وسارت على سبيلها المستقيم دون تعدٍ أو تفريط . 

أما الشريعة أو الشرع في اللغة  :  فهي عبارة عن البيان والإظهار ، فيقال : شرع الله كذا أي جعله طريقاً ومذهباً ومنه المشرعة : وهي المواضع التي ينحدر منها الماء، 

فالشريعة هي الائتمار بالتزام العبودية ، وقيل الشريعة هي الطريق في الدين( ). 

ثانياً  : التعريف الاصطلاحي لمقاصد الشريعة :- 

إن مصطلح مقاصد الشريعة مصطلح مستعمل ورائج عند العلماء قديماً وحديثاً ولكني لم أجد كما لم يجد غيري من الباحثين تعريفاً دقيقاً لمصطلح المقاصد عند الأصوليين أو غيرهم من العلماء الأوائل . 

حتى إن إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله الذي ألَّف في المقاصد تأليفاً لم يسبق إليه أحد ؛ لم يعرِّف المقاصد ولم يحرص على توضيح معناها . ولعل ما زهده في تعريف المقاصد كونه ألّف الموافقات لفئة خاصة من الناس وهم العلماء وليس كل العلماء بل الراسخين في علوم الشريعة وقد نبه على ذلك بصراحة بقوله : ((ولا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها وفروعها ومنقولها ومعقولها غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب ))( ) .

ومن كان هذا شأنه فليس بحاجة إلى إعطائه تعريفاً لمعنى مقاصد الشريعة خاصة أن المصطلح مستعمل ورائج قبل الإمام الشاطبي رحمه الله بقرون . 

وهناك سبب آخر وراء عدم ذكره تعريفاً للمقاصد وهو أن الشاطبي رحمه الله كان يتبنى منهجاً خاصاً في الحدود ولا يرى الإغراق في تفاصيل الحدود بل يرى أن التعريف يحصل بالتقريب للمخاطب ( ) . 

فإذ لم يكن لعلمائنا الأوائل تعريفاً للمقاصد فقد جرت محاولات لتعريفه لبعض العلماء والفقهاء والمعاصرين . أذكر منها :-

1 ـ   تعريف العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله حيث قال : (( مقاصد التشريع العامة هي : المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة ))( ) .

وهذا التعريف خاص بالمقاصد العامة للشريعة بينما هناك مقاصد خاصة في كل حكمة روعيت في تشريع إحكام الخلق في الدارين لم يشملها هذا التعريف .  

2ـ   تعريف الأستاذ علال الفاسي رحمه الله بقوله : (( المراد بمقاصد الشريعة : الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها ))( ) . 

وهذا التعريف قد جمع مقاصد الشرع العامة والخاصة وهو مقبول من حيث العموم .

3ـ   تعريف الدكتور أحمد الريسوني حيث قال : (( الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد ))( ) .

وهو في الحقيقة يرجع إلى تعريف الأستاذ علاّل الفاسي رحمه الله إلا أنه حذف منه الشطر الأخير الدال على المقاصد الخاصة ، وكأنه اكتفى بالعموم المفهوم من تحقيق المصالح للعباد عن التصريح بتحقيق المصالح الخاصة المتعلقة بالأدلة أو الأحكام الخاصة . 

4 ـ   تعريف الدكتور يوسف حامد العالم رحمه الله حيث قال : (( مقاصد الشارع من التشريع نعني بها : الغاية التي يرمي إليها التشريع والأسرار التي وضعها الشارع الحكيم عند كل حكم من الأحكام ))( ) .

وهذا التعريف شامل لنوعي المقاصد ؛ إلا أنه قد يُلحظ تكراره للمعاني التي حواها التعريف من غير حاجة لذلك .

5 –   تعريف الدكتور وهبة الزحيلي حيث قال : (( هي المعاني والأهداف الملحوظة في جميع أحكامه أو معظمها أو هي الغاية من الشريعة والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها ))( ).

وفي تعريفه تكرار لا فائدة منه حيث ركبه من تعريف الطاهر بن عاشور والأستاذ علال الفارسي رحمهما الله .

وهناك بعض التعريفات الأخرى لبعض المعاصرين لا تخرج في مجملها عما سبق ذكره من التعريفات .( )

ومن خلال التعريفات السابقة يمكن أن نستخلص تعريفاً مناسباً للمقاصد الشرعية . فنقول : 

مقاصد الشريعة هي : (( المعاني والحِكم التي راعاها الشارع عموماً وخصوصاً من أجل تحقيق مصالح العباد في الدارين )) .

ـ  شرح التعريف : 

(( المعاني )) : هي العلل وهو معروف عند كثير من العلماء لا سيما السلف منهم، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله : (( كل حكم لله أو لرسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله حُكِم به لمعنى من المعاني فنزلت نازلة ليس فيها نص حكم : حكم فيها حكم النازلة المحكوم فيها ، إذا كانت في معناها ))( ).

وقد ذكر ذلك عبد العزيز البخاري رحمه الله في شرحه لأصول البزدوي في قوله (معرفة النصوص بمعانيها) قال :(( والمراد بالمعاني ؛ المعاني اللغوية والمعاني الشرعية التي تسمى عللاً ، وكان السلف لا يستعملون لفظ العلّة . وإنما يستعملون لفظ المعنى ))( ).

(( والحِكَم ))  :  جمع حكمة وهي في اصطلاح الأصوليين كما قال القرافي رحمه الله :(( التي لأجلها صار الوصف علةً ))( ) ، فمقاصد الشرع تظهر في علل الأحكام وفي حكمة التشريع سواء كانت جزئيات الشرع أو كلياته .

(( التي راعاها الشارع )) أي في تشريع الأحكام ، ويفهم من هذا أن الأصل في أحكام الله أنها معللة بعلل ينتج عنها مصالح هي مقصود الشارع .( ) 

(( عموماً وخصوصاً )) : وهذا يشمل المقاصد الظاهرة من كليات الشريعة وعمومها ، ويشمل المقاصد التي يحويها كل حكم فرعي من أحكام الشريعة .

(( من أجل تحقيق مصالح العباد )) : وهذا يبّين حقيقة الهدف العام من التشريع أنه يحقق الخير والمصلحة لكل العباد .

(( في الدارين ))  :  وهذا القيد يشمل أن المقاصد الشرعية تحقق المصلحة للعباد في الدنيا والآخرة ، والحقيقة أن كثيراً ممن تعرّض لبحث المقاصد لا يوضح المقاصد الأخروية التي يجنيها العبد من أحكام الشريعة . 

وقد بين ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله :(( أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً ))( ).

المطلب الثاني    :   أدلة اعتبار المقاصد .

إن إثبات مقاصد الشريعة من الأمور الواضحة البينة ، وسنزيد الأمر إيضاحاً بذكر الأدلة النقلية والعقلية على إثبات المقاصد واعتبارها .

أولاً  :  الأدلة النقلية :- 

إن مقاصد الشريعة لم تثبت بدليل معين يقرر مدى اعتبارها بل ثبتت بنصوص الشريعة كلها فليس هناك نص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو راجع إلى كليات الشريعة ومقاصدها العامة بالإثبات والاعتبار .

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :(( فلم يعتمد الناس في إثبات مقصد الشارع في هذه القواعد ( ) على دليل مخصوص ولا على وجه مخصوص ، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات ، والمطلقات والمقيدات ، والجزئيات الخاصة ، في أعيان مختلفة، ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه ، وكل نوع من أنواعه ، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على حفظ تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة ))( ).

والإمام الشاطبي رحمه الله لما أراد إثبات الدليل الذي تقوم عليه حجية المقاصد وخاصةً أنه قد طرد وجود المصالح واعتبر قيام الشريعة في جميع كلياتها وجزئياتها على تلك المقاصد . وذكر أن ذلك يحتاج إلى دليل وبرهان تستند عليه تلك الدعوى صحة وفساداً .( )

وقد تأمل في أنواع الأدلة المثبتة للمقاصد ثم قال :(( وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة ، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعاً أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع ، وأن اعتبارها مقصود للشارع . ودليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية ، وما انطوت عليه هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص ، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض ، مختلفة الأغراض ، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة ))( ) .

فالاستقراء التام والتتبع الكلي لنصوص الشرع وعلل الأحكام يثمر لنا العلم والقطع بأن الشريعة جاءت بالإثبات والاعتبار لتلك المقاصد المشتملة على مصالح العباد في الدارين .والإمام ابن القيم رحمه الله من أكثر المعتنين بإثبات المقاصد الشرعية فقد قال رحمه الله :((القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام بالحِكم والمصالح وتعليل الخلق بهما ، والتنبيه على وجه الحِكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان ، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناهما ، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة ..))( ) .

فمن الصعوبة بمكان أن نذكر أدلة اعتبار المقاصد بسرد تلك النصوص العديدة ، ولكن من الممكن إثباتها من خلال الطرق والأساليب المتنوعة التي انساقت النصوص من خلالها في إثبات المقاصد ، فمن هذه الطرق :-

أولاً  :  إخبار الله سبحانه في كتابه في أكثر من موضع أنه حكيم ( ) ، وذلك يقتضي أن تكون أحكامه سبحانه مشروعة لمقاصد ، ولا تكون عبثاً ، إذ الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه اللائق به ، وأحكام الله كذلك وجدناها محقِّقة لصالح الناس في الدنيا والآخرة .

قال ابن القيم رحمه الله :(( لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلاً إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة ، فيكون مرشداً إلى العالم النافع والعمل الصالح فتحصل الغاية المطلوبة ، فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ، ولا إيصالهم إلى سعادتهم ، ودلالتهم على أسبابها وموانعها ، ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة ، ولا تكلم لأجلها ، ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها . ولا نصب الثواب والعقاب لأجلها ؛ لم يكن حكيماً ولا كلامه حكمة ..))( ) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

ثانياً   :   إخبار الله عن نفسه بأنه أرحم الراحمين في أكثر من موضع ( ) ، كما في قوله تعالى : رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ  ( ) وقوله تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ  ( )  . وذلك لا يتحقق إلا بأن يقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم ، وبما أمرهم به وشرعه لهم ، فلو لم تكن أوامره لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إلى عباده لما كانت رحمة , ولو حصلت بها الرحمة اتفاقاً . قال ابن القيم : ((فتعطيل حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها يفعل ؛ إنكار لرحمته في الحقيقة ))( ) . 

ثالثاً  :   إخباره سبحانه وتعالى أنه فعل كذا وكذا ، أو من أجل كذا ، أو بأي مسلك من مسالك العلّة المعروفة وذلك في آيات كثيرة ، وهي غالبة في هذا الباب وعمدة كثير من مقاصد الشريعة العامة والخاصة . 

ومن ذلك قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ  ( ) .

وكذلك قوله تعالى : وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ  ( ) .

ومن ذلك قوله تعالى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ( ) .

وقوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر )) ( ) ، وقوله تعالى : كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ  ( ) وذلك في بيان المقصود من قسمة الفيء ، إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة من القرآن والسنة التي يتضح من خلال عللها المستنبطة أو الصريحة إثبات تلك المقاصد الشرعية .( ) 

رابعاً  :  أنه جاء ضمن النصوص الشرعية بيان لبعض المقاصد العامة للشريعة وبيان لبعض المقاصد الخاصة أيضاً ،فمن تلك المقاصد العامة ـ على سبيل المثال ـ : مقصد رفع الحرج في الشريعة كما في قوله تعالى : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  ( ) وقوله تعالى : يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ( ) ومثلها قوله تعالى : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ( ) إلى غيرها من الآيات الدالة على إرادة الله عز وجل التيسير ورفع الحرج عن الخلق ( ) . 

ومن المقاصد الخاصة ما يتعلق بالنفع والصلاح في كثير من الأحكام كالجهاد والزكاة والصيام ( ) . 

خامساً  :   أنه جاءت نصوص عامة تشمل تحقيق جميع المصالح ،من ذلك :

- قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  ( ) . 

قال العز بن عبد السلام رحمه الله : (( أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ... ( ) 

ـ قوله تعالى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ  ( )، وقد أبان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله عند هذه الآية بعض المصالح العظيمة والحكم الباهرة التي اشتملت عليها هذه الشريعة وذكر أن ذلك من هداية القرآن للتي هي أقوم وجعل هذه الآية محوراً للرد على الطاعنين في أحكام الشريعة بعدم تحقق المصالح منها وذكر من خلالها محاسن الدين وحكمه ( ) . 

ـ قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا ضرر ولا ضرار )) ( ) حيث نفى الضرر بالشريعة والإضرار بالغير مطلقاً .( ) 

هذه بعض الأدلة النقلية الدالة على أن الشريعة جاءت لمقاصد عظيمة فيها صلاح الخلق جميعاً ، اقتصرنا على القليل منها لمجرد التوضيح والبيان ( ) . 

ثانياً  :   الأدلة العقلية  : 

رغم ما في الأدلة النقلية من كفاية وهداية إلا أنني أحببت ذكر بعض الأدلة العقلية تيمماً لبحث المسألة وتنبيهاً على موافقة العقل للنقل ودحضاً لشبه العقلانيين وتأسياً بمن ذكرها من العلماء والباحثين فهذه بعض الأدلة العقلية على إثبات أن للشارع مقاصد وأن أحكامه مشتملة على جلب المصالح ودرء المفاسد .

فمن هذه الأدلة :-

أولاً  :   إن تعطيل الحكمة والغاية المطلوبة من الأحكام ؛ إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها وهذا محال في حق من هو بكل شيء عليم وإما لعجزه عن تحصيلها وهذا ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير ، وإما لعد إرادته ومشيئته الإحسان إلى غيره وإيصال النفع إليه وهذا مستحيل في حق أرحم الراحمين ، ومَنْ إحسانه من لوازم ذاته فلا يكون إلا محسناً منعماً منّاناً ؛ وإما لمانع يمنع من إرادتها وقصدها وهذا مستحيل في حق من لا يمنعه مانع عن فعل ما يريد بل هو فعَال لما يريد ؛ وإما لاستلزامها نقصاً ومنافاتها كمالاً وهذا باطل بل هو قلب للحقائق وعكس للفطر ، ومناقضة لقضايا العقول فإن من يفعل لحكمة وغاية مطلوبة يحمد عليها أكمل ممن يفعل لا لشيء البتة ، كما أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق ، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ، ومن يقدر ويريد أكمل ممن لا يتصف بذلك ، وهذا مركوز في الفطر مستقر في العقول . 

فنفي حكمته وأن يكون له مقصد في الأحكام ، بمنزلة نفي هذه الأوصاف عنه ، وذلك يستلزم وصفه بأضدادها وهي أنقص النقائص ( ) . 

ثانياً   :   من المعلوم لدى كل عاقل أن الله راعى مصالح عباده في مبدئهم ، ومعاشهم حيث أوجدهم من العدم ، وسخر لهم النعم وامتن عليهم بذلك كما في قوله تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ  ( ) ، فإذا عرف ذلك ، فمن المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم ، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية ، إذ هي أعم فكانت بالمراعاة أولى ولأنها أيضاً مصلحة معاشهم إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم ولا معاش بدونها ، فوجب القول بأنه راعاها لهم ( ) . 

ثالثاً   :   إن الله تعالى خلق الإنسان مكرماً مشرفاً لقوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ  ( ) ومن لوازم التكريم أن يتحقق للإنسان مصالحه على أحسن الوجوه وإلا لم يكن مكرماً ( ) . 

رابعاً  :   إن مما هو معلوم ببداهة العقول ومجاري العادات أن أي نظام لا يقصد به تحقيق نفع أو دفع ضرّ فإنه نظام فاشل لا يستحق التطبيق ولا الامتثال ، ولذلك لا يرضى أحد من العقلاء أن يوصف نظامه الذي وضعه بأنه ناقص لا مصلحة فيه ، فإذا كان هذا مما يأنف له العقلاء مع غفلتهم وجهلهم وحصول النقص منهم، فتنزيه شريعة أحكم الحاكمين عن ذلك أولى وأحرى ( ) . 

المطلب الثالث :التعرف على حكم النازلة بطريق الرد إلى المقاصد الشرعية .

المقاصد الشرعية التي يعتد بها في عملية الاجتهاد ، حجة شرعية يقينية ، وحق ضروري مقطوع به ، وقد ثبت ذلك بالنص والإجماع ، والدليل العام والخاص ، والوحي المتلو والمروي ، وباستقراء سائر التصرفات والقرائن الشرعية ، ومقررات القواعد والأصول الفقهية .

وقد دل كل ذلك على أن الشريعة الإسلامية قد جاءت لتصلح أحوال الناس ، وتخرجهم من دائرة الهوى والعبث والفساد إلى طريق الله المستقيم ومنهاجه القويم الذي يحقق لهم مصالحهم في الدنيا والآخرة ويحفظ لهم دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم كما أكد ذلك أرباب المقاصد قديماً وحديثاً .

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله :(( من مارس الشريعة وفهم مقاصد الكتاب والسنة ؛ علم أن جميع ما أمر به ؛ لجلب مصلحة أو مصالح ، أو لدرء مفسدة أو مفاسد ، أو للأمرين ، وأن جميع ما نهى عنه ، إنما نهى عنه لدفع مفسدة أو مفاسد أو جلب مصلحة أو مصالح ، أو للأمرين والشريعة طافحة بذلك ))( ).

ومن أجل ذلك تأكد في حق الناظر المجتهد في أحكام الشريعة أهمية استحضار تلك المقاصد وتذكر عللها ومناطاتها وحِكمها ؛ حتى يتم النظر على أحسن وجه وصورة ،وحتى تفهم الأحكام وتستنبط على وفق ما ارتبطت به من علل وأسرار وأغراض ومشروعية .

ولا شك أن في ذلك إحياء للفقه وتجديد لفاعليته في استيعاب كل متطلبات الحياة المتغيرة ونوازلها المستجدة .

يقول الأستاذ علاّل الفاسي رحمه الله :(( إن في قلة الفقهاء المجددين على قلتهم ضماناً للسير بالفقه الإسلامي إلى شاطئ النجاة حتى يصبح مرتبطاً بمقاصد الشريعة وأدلتها ومتمتعاً بالتطبيق في محاكم المسلمين وبلدانهم وليس ذلك على الله بعزيز ولا كذلك على همّة المجتهدين من العلماء ))( ) .

ولعلنا في هذا المطلب أن نبين الدور الذي يجب أن يقوم به المجتهد الناظر للتعرف على أحكام النوازل المعاصرة وفق مقاصد الشريعة وذلك من خلال المسائل التالية:-

المسألة الأولى   :   يحتاج الناظر في النوازل المعاصرة إلى معرفة مقاصد الشريعة على وجه الكمال ، وذلك (( أن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء ـ كما قال ابن عاشور رحمه الله ـ :

النحو الأول  :  فهم أقوالها واستفادة مدلولات تلك الأقوال بحسب الاستعمال اللغوي وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي وقد تكفل بمعظمه علم أصول الفقه .

النحو الثاني   :  البحث عما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد والتي استكمل إعمال نظره في استفادة مدلولاتها ليستيقن أن تلك الأدلة سالمة مما يبطل دلالتها ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح ( ) ، فإذا استيقن أن الدليل سالم عن المعارض أعمله وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً أو رجحان أحدهما على الآخر .

النحو الثالث  :   قياس ما لم يرد حكمه من أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة البينة في أصول الفقه .

النحو الرابع   :   إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة ولا له نظير يقاس عليه .

النحو الخامس  :  تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا حكمة الشريعة في تشريعها ، فهو يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة فيسمي هذا النوع بالتعبدي .

فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها . أما النحو الرابع فاحتياجه فيه ظاهر وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا ))( ).

فمعرفة الناظر في النوازل لمقاصد الشريعة يعينه على معرفة أحكام النوازل ويسهل عليه إيجاد حكمها وذلك لإدراكه مقاصد التشريع من خلال علل الأحكام وحِكم أنواع التصرفات الشرعية وتتبع دلائل النصوص الوافية بحاجات الناس والقاضية على إشكالاتهم الواقعة أو المتوقعة .

ولذلك اشترط الإمام الشاطبي رحمه الله لمن يبلغ درجة الاجتهاد شرطين لا تخرج عن حقيقة فهم مقاصد الشريعة ومعرفتها المعرفة الكاملة التي تؤهله للنظر والاستنباط ، فيقول : (( إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين : 

أحدهما  :   فهم مقاصد الشريعة على كمالها .

والثاني   :   التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها )) ( ) .

ثم يقول رحمه الله : (( فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كل باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزيله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله ))( ) 

وأحسب أن الإمام الشاطبي رحمه الله ليس الوحيد الذي اشترط في المجتهد بلوغهُ الفهم الكامل لمقاصد الشريعة ، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء المعاصرين ( ) ، بل قد جاء ما يؤكد أهمية معرفة مقاصد الشريعة أكثر من إمام من أئمة الأصول . 

فهذا علي بن عبد الكافي السبكي رحمه الله قال في معرض بيانه لشروط المجتهد : ((أن يكون له الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك ))( ) وجاء عن أنبه تاج الدين أن العالم إذا تحققت له رتبة الاجتهاد جاز تقليده ، وذكر من شروط ذلك (( الاطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها ))( ) 

وللموفق ابن قدامة رحمه الله نظير ذلك الشرط حينما ذكر القدر اللغوي الذي يتعلق بفهم الكتاب والسنة بقوله (( ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك دقائق المقاصد فيه ))( ) 

يضاف إلى هذا أن الإمام السيوطي رحمه الله قد نقل عن الإمام الغزالي رحمه الله قوله : (( مقاصد الشرع قبلة المجتهدين من توجه جهة منها أصاب الحق ))( )

ولا شك أن من بلغ درجة النظر وتتبع مقاصد التشريع وعرف غاياته وأهدافه وتمكن من درك علل الأحكام كان حرياً بالوصول أحكام الشرع في كل ما ينزل ويجّد من واقعات تحدث للناس والمجتمع . 

وهذا المجتهد الناظر الذي تمكن من درك مقاصد الشريعة تتحصل له أوصاف يجني بها ثماراً كثيرة فيعرف بها الأحكام ويفهم مراد الله عز وجل من تشريعه لها ، وهناك أوصاف أخرى ذكرها الإمام الشاطبي بقوله : 

(( ومن خاصيته أمران :- 

أحدهما  :   أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص.

والثاني  :   أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات ))( ) 

ومن الخصائص المناسب إدراجها ضمن أوصاف المجتهد العارف بمقاصد الشريعة :

-  أنه يراعي ترتيب الأولى من الأدلة والأقوى من القواعد الأصولية عند التعارض في الاجتهاد وقد ذهب الإمام الجويني رحمه الله إلى أن المصالح الضرورية إذا جاء القياس بخلافها ، ترك وقدمت عليه القواعد العامة التي تقتضي حفظ الضروريات قال : (( ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جلياً ، إذا صادم القاعدة الكلية ، ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية .. ))( ).

وقد مثل هذا بقتل الجماعة بالواحد، فإنه خلاف القياس الذي يقتضي المماثلة (النفس بالنفس) ولكن حفظ الأنفس الذي هو من أبرز مقاصد الشارع ، اقتضى قتل الجماعة إذا اشتركوا في قتل واحد ، لأنه لو لم يقتلوا ، لكان ذلك مغرياً باللجوء إلى القتل المشترك تهرباً من القصاص . وهذا اعتماد واضح على المقاصد الضرورية وتقديمها على القياس الجزئي ولو كان جلياً ( ) .

ويبين الإمام الشاطبي رحمه الله الضرر المترتب على جهل المجتهد برتب المقاصد وأحوالها فيقول : (( آخذاً ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهرله ببادئ رأيه ، من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها ... ، ويعين على هذا : الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ مرتبة الاجتهاد ... ))( ) .

ـ    إن ترجيح الفقيه أو الناظر لأقوال العلماء عند الاختلاف أو التعارض بناءً على النظر إلى مقاصد الشرع أقرب إلى الصواب وأدعى إلى صحة اندراج هذا الحكم ضمن كلياته المعتبرة في الشرع .

ولهذا كانت ترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ على سبيل المثال ـ واختياراته الفقهية محل قبول بين الفقهاء وأهل العلم ؛ وذلك لانشداده الدائم نحو مقاصد التشريع وقواعده الكلية ، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في فتاواه واختياراته الفقهية أسوق بعضاً منها لتوضيح المعنى المراد : 

قوله رحمه الله : (( والشارع دائماً يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما ، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما وهذا كمن معه ماء في السفر هو محتاج إليه لطهارته ، يؤمر بأن يتطهربه فإن أراقه عصى وأمر بالتيمم وكان صلاته بالتيمم خير من تفويت الصلاة ))( ). 

ويقول أيضا ، (( فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال ، كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص والجزية والصلح مع أهل الحرب ؛ ليس بواجب أن يُعلم كما يعلم الثمن والأجرة ، ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر ، لأن الأموال إما أنها لا تجب في هذه العقود وإما أنها ليست هي المقصود الأعظم منها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفضِ إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعاً ما يزيد على ضرر ترك تحديده ))( )

ـ  ومن ذلك تجويزه إخراج القيمة في زكاة الفطر إذا كانت النقود أنفع للفقراء وسداً لحاجاتهم من الأقوات الأخرى ( ) .

ـ  إلى غير ذلك من ترجيحاته واختياراته المشهور كما في مسائل الحيض والنفاس والطهارات ( ) ، أو في مسائل عدم وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد( ) وعدم لزوم الطلاق إذا صدر من الإنسان على وجه الحلف وقصد به الحث والمنع دون إيقاع الطلاق ( ).

إلى غيرها من الترجيحات الكثيرة لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أو غيره من العلماء العارفين الذي جمعوا من الفروع والأصول وسبكوها ضمن إطار مقاصد الشريعة الغرّاء ، يقول ابن عاشور رحمه الله في ذلك : (( وحق العالم فهم المقاصد ، والعلماء كما قلنا متفاوتون على قدر القرائح والفهوم ))( ) .

المسألة الثانية  :  إذا عرفنا أهمية معرفة المجتهد أو الناظر لمقاصد الشريعة ، فما هي الطرق التي يتوصل إليها لمعرفة هذه المقاصد ؟ 

هناك طرق تعرّف المجتهد بمقاصد التشريع ، نذكر فيها ما يلي :( ) 

1 -  الاستقراء : ويحصل ذلك بتتبع نصوص الشريعة ، وأحكامها ، ومعرفة عللها ، فباستقراء علل النصوص الشرعية يحصل لنا العلم بمقاصد الشريعة بسهولة لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطاً لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة نجزم بأنها مقصد الشارع .( ) 

2 - معرفة علل الأمر والنهي  : وهذا الطريق وإن كان له علاقة بالذي قبلة ، غير أنه يعني بجانب كيفية التعرف على علل الأمر والنهي أو الطرق التي تعرف بها العلّة ، وهي المعروفة عند الأصوليين بمسالك العلّة ( ). 

3 - مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي : ويقصد بالابتدائي ما أمر به أو نُهي عنه ابتداءً لا لكونه وسيلة إلى غيره أو جيء به تبعاً تأكيداً للأمر الأول ، ولم يقصد بالمقصد الأول .ويقصد بالتصريحي ما دل على الأمر والنهي بصيغة من صيغ الأمر أو النهي الصريحة لا الضمنية ( ).

4 -التعبير عن المصالح والمفاسد بلفظ الخير والشر،والنفع والضر،وما شابهها . يقول العز بن عبد السلام : (( ويعبر عن المصالح والمفاسد بالخير والشر والنفع والضر ، والحسنات والسيئات لأن المصالح كلها خيور حسنات ،والمفاسد بأسرها شرور مضرات سيئات . وقد غلب في القرآن استعمال الحسنات في المصالح والسيئات في المفاسد ))( ).

إلى غيرها من الطرق الموصلة لأنواع المقاصد الشرعية .

وقد يحصل للمجتهد وغيره أن تخفى عليه المقاصد أو تختلط عليه ببعض القواعد الجزئية أو يدخل عليه الهوى أثناء تقديرها وتحصيلها .

ولهذا جعل بعض العلماء للمقاصد المعتبرة التي قررها الشارع صفات ثابتة وشروط محددة ترجع إلى أربعة أمور إجمالاً وهي كالتالي :- 

أ ـ  أن يكون المقصد وصفاً ثابتاً أو قاطعاً ، لأنه تقعيد تبنى عليه الفروع والأحكام ، شأن التقعيد أن يكون قطعياً بمعنى أن تكون تلك المعاني مجزوماً بتحققهاً أو مظنوناً بها ظناً قريباً من الجزم ، فالأوهام والتخيلات لا تصح أن تكون مقاصد شرعية ولذلك أبطل الإسلام أحكام التبني التي كانت في الجاهلية وفي صدر الإسلام لأنه أمر وهمي . 

ب ـ  أن يكون المقصد الشرعي ظاهراً ، بحيث لا يختلف الفقهاء في تشخيص معناه ولا يلتبس عليهم إدراكه ، فالمقصد من مشروعية النكاح حفظ النسب وهذا المعنى واضح وجلي نتيجة توافر مجموعة من الأدلة أثبتت هذا الوصف أو هذا المعنى .

ج ـ   أن يكون المقصد الشرعي مطرداً ،ويدخل في هذا الشرط ثلاثة قيود هي :- 

أن يكون كلياً ، وعاماً ، وأبدياً ، من حيث الأشخاص والأزمنة والأمكنة ( ).

وبهذه الشروط والضوابط تتضح المقاصد في ذهن الناظر والمجتهد وتتجلى له عند بحثه وتتبعه لعلل الأحكام وحكم التشريع من أجل التعرف على ما لم ينص عليه من أحكام النوازل والواقعات المختلفة ، ويبقى التنبيه على أن الخطأ والخلط في تعيين مقصد التشريع تنجم عنه أخطار عظيمة وآثار سيئة ولهذا قال ابن عاشور رحمه الله : (( على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي ، وإياه والتساهل والتسرع في ذلك ، لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي أو تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة الاستنباط ففي الخطأ فيه خطر عظيم ، فعليه أن لا يعين مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه ، وبعد اقتضاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع ، فإن هو فعل ذلك اكتسب قوة استنباط يفهم بها مقصود الشارع ))( ). 

المسألة الثالثة  :  دور المقاصد الشرعية في استنباط أحكام النوازل المعاصرة .

لا تخلو الوقائع الحادثة للناس أن تكون واضحة الدليل منصوصة الحكم فتلحق بالحكم المنصوص ، أو تكون مندرجة ضمن قاعدة فقهية أو أصولية فتأخذ حكم جزئياتها لما بينهما من الشبه وذلك بتحقيق المناط وإدراج الفرع ضمن قاعدته .

أما إذا خلت النازلة من حكم منصوص أو في معناه ولا يُعرف لها قاعدة تضمها أو تشهد لها بحسب جنسها القريب ، فإن للعلماء طرق في استنباط حكمها قد تعرضنا لبعضها في مبحث القياس أو التخريج على أقوال أئمة المذاهب .

وهنا سنبحث في دور المقاصد الشرعية في استنباط أحكام تلك النوازل التي لم يسبق فيها نص أو اجتهاد ، إذ لا يصح أن يكون هناك حكم يخلو عن مراد الشارع له بالصحة أو البطلان .

فمن المقرر بالاستقراء(( أن الله سبحانه قد شرع أحكامه لمصالح العباد))( )فإن هذه المصالح لا تخلو من ثلاثة أقسام :-

1 -  المصالح المعتبرة   :  وهي المصالح التي شهد الشرع باعتبارها وقام الدليل منه على رعايتها فهذه المصالح حجة ويرجع حاصلها إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع .

2 -  المصالح الملغاة   :  وهي المصالح التي ليس لها شاهد اعتبار من الشرع بل شهد الشرع بردها وإلغائها ، وهذا النوع من المصالح مردود لا سبيل إلى قبوله ولا خلاف في إهماله بين المسلمين .

3 - المصالح المرسلة  :  وهي المصالح التي لم يقم دليل خاص من الشارع على اعتبارها ولا على إلغائها ، ولكن دلت الأدلة العامة على اعتبارها .( )

فهذه المصالح خلت من الشواهد الخاصة ، فإذا كانت النازلة لم يشرع الشارع لها حكماً ، ولم تتحقق فيها علة اعتبرها الشارع لحكم من أحكامه ، ووجد فيها أمراً مناسباً لتشريع الحكم ، أي أن تشريع الحكم فيها من شأنه أن يدفع ضرراً أو يحقق نفعاً فهذا الأمر المناسب في هذه الواقعة يسمى المصلحة المرسلة .

وقد عرّفها الإمام الغزالي رحمه الله بأنها :(( جلب منفعة ودفع مضرة ))( ) ثم قال :((ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق ؛ وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنا نعني بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشارع ، ومقصود الشرع من الخلق خمسة ... ))( ) .

قال الزركشي رحمه الله :(( والمراد بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشرع ، بدفع المفاسد عن الخلق ))( ) .

فيتبين لنا أن المصلحة المرسلة وإن خلت من الأدلة الخاصة على اعتبارها فإنها قائمة على حفظ مقاصد الشرع العامة بناءً على أدلة الشريعة الكلية والجزئية الآمرة بحفظ مقصود الشرع وذلك بجلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد .

والعلماء يعدون المصلحة المرسلة من الأدلة المختلف فيها بين أئمة المذاهب ، ولكن عند التحقيق نجد فقهاء المذاهب يكاد يتفقون على اعتبارها والعمل بها في الاستنباط والاحتجاج .

فهذا الإمام القرافي رحمه الله يقول :(( وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا وإذا تفقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا بل يكتفون بمطلق المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة فهي حينئذٍ في جميع المذاهب ))( ) .

وقال الإمام الطوفي رحمه الله :(( وأما الإجماع فقد أجمع العلماء إلا من لا يعتد به من جامدي الظاهرية على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد ، وأشدهم في ذلك مالك حيث قال بالمصلحة المرسلة وفي الحقيقة لم يختص بها ، بل الجميع قائلون بها غير أنه قال بها أكثر منهم ))( ) . ونقل الزركشي عن ابن دقيق العيد رحمهما الله قوله :(( الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع ويليه أحمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال على غيرهما ))( ) .

وقد توصل بعض الباحثين المعاصرين الذين كتبوا في المصلحة إلى تحقيق الاتفاق في العمل بالمصلحة المرسلة ( ) ، فالذي قوّى العمل بها وجعلها دليلاً للاستنباط هو قياسها بحفظ مقاصد الشريعة التي بها تأيدت وقويت للاحتجاج وذلك أن رجوعها إلى حفظ مقاصد الشرع رجوع إلى نصوص ومعاني الكتاب والسنة .

وللإمام الغزالي رحمه الله كلام متين في هذا المعنى أنقله بنصه :(( فإن قيل : قد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة فليلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلاً خامساً بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، قلنا :  هذا من الأصول الموهومة إذ مَن ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ .

لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصودٍ فُهِم من الكتاب والسنة والإجماع ، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطروحة ، ومن صار إليها فقد شرَّع ، كما أن من استحسن فقد شرّع ، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصودٍ شرعي عُلم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجاً من هذه الأصول لكنه لا يسمى قياساً بل مصلحة مرسلة ، إذ القياس أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد ، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وتفاريق الأمارات تسمى بذلك مصلحة مرسلة ، وإذا فسّرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشارع فلا وجه للخلاف في اتباعها ))( ) .

وعلى ذلك أصبحت المفاسد الشرعية حجة ودليلاً لاستنباط الأحكام الشرعية من خلال طريق المصلحة المرسلة المؤدية إليها استلزاماً .

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :(( الاستدلال بالمرسل ، الذي اعتبره الإمامان : مالك والشافعي رضي الله عنهما فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين ، فقد شهد له أصل كلي ، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين ))( ) .

فالحكم في هذه النوازل الحادثة يكون بالرد إلى المصلحة المرسلة التي لا تخرج عن إطار مقاصد الشريعة وكلياتها الخمس المعروفة ، والأدلة في إثبات هذا الأمر كثيرة اذكر منها ما قاله الإمام الرازي رحمه الله في المحصول :(( كل حكم يُفرض ، فإما أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة ، أو مفسدة خالية عن المصلحة ، أو يكون خالياً عن المصلحة والمفسدة بالكلية ، أو يكون مشتملاً عليهما معاً ، وهذا على ثلاثة أقسام : لأنهما إما أن يكونا متعادلين ، وإما أن تكون المصلحة راجحة ، وإما أن تكون المفسدة راجحة ، فهذه أقسام ستة :-

أحدها  :  أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة ، وهذا لابد وأن يكون مشروعاً ، لأن المقصود من الشرائع رعاية المصلحة .

ثانيها  : أن يستلزم مصلحة راجحة وهذا أيضاً لا بد وأن يكون مشروعاً ، لأن ترك الخير الكثير لأهل الشر القليل شر كثير .

ثالثها   :  أن يستوي الأمران ، فهذا يكون عبثاً فوجب أن لا يشرع .

ورابعها :  أن يخلو عن الأمرين ، وهذا أيضاً يكون عبثاً : فوجب أن لا يكون مشروعاً .

خامسها :  أن يكون مفسدة خالصة ، ولا شك أنها لا تكون مشروعة .

سادسها :  أن يكون ما فيه المفسدة راجحاً على ما فيه من المصلحة وهو أيضاً غير مشروع : لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة .

وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة : كالمعلوم بالضرورة أنها دين الأنبياء، وهي المقصود من وضع الشرائع ، والكتاب والسنة دالاّن على أن الأمر كذلك ، تارة بحسب التصريح ، وأخرى بحسب الأحكام المشروعة على وفق هذا الذي ذكرناه .

وغاية ما في الباب : أنا نجد واقعة داخلة تحت قسم من هذه الأقسام ، ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب ، لكن لا بد وأن يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة ، أو المفسدة ، أو غالب المصلحة أو المفسدة ؛ فظهر أنه لا توجد مناسبة ، إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار، إما بحسب جنسه القريب أو بحسب جنسه البعيد . إذا ثبت هذا وجب القطع بكونه حجة ، للمعقول والمنقول ... ))( ) .

ويمكن للناظر في النوازل عند الاستدلال بالمصلحة أن يعرض النازلة على تلك الأقسام الستة ـ الضرورية عقلاً ـ فإذا جاءت النازلة ضمن ما شهد له العقل بأن فيها مصلحة خالصة أو غالبة التمس فيها علة الحكم بالنظر في كونها وصف ظاهر منضبط يؤدي إلى نفعٍ هو مقصود الشرع ، كما هو معلوم مقرر في مباحث العلّة في مسلك المناسبة فتكون النازلة قد تمّ إدراجها من خلال عللها ومقاصدها القريبة من خلال المناسب المؤثر والملائم أو من خلال مقاصدها العالية والحمل على كليات الشريعة واعتبار الضروريات الخمس من خلال المناسب المرسل أو المصلحة المرسلة .

وقد أشار إلى ذلك ابن عاشور رحمه الله بقوله :((  أحكام الشريعة قابلة للقياس عليها باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية ))( ) .

وهذا وقد اكتنف الاستدلال بالمصلحة المرسلة مأخذ كبير عند العلماء فلربما يتخذ العمل بالمصلحة المرسلة مدخلاً إلى الدين يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها ، أو أن يكون تقديرها خاضع لأهواء البشر وشهواتهم فينفتح على الناس باب من الشر والفساد ( ) ، ولهذا السبب منع من اعتبارها بعض العلماء خشية على الدين من الأهواء والأدعياء ( ) .

ولهذا احتاط العلماء عند العمل بالمصلحة واعتبارها دليلاً يبنى عليه الأحكام وشرطوا في صحة العمل شروطاً لا بد منها ، وقد نص الإمام الغزلي رحمه الله على هذه الشروط التي ينبغي توافرها في المصلحة المرسلة وتابعه كثير من أهل العلم على تلك الشروط( )وهي :-

الأول  :  أن تكون المصلحة ضرورية  : أي ليست حاجية ولا تحسينية بمعنى أنها تحفظ ضرورة من الضروريات الخمس ، أما المصلحة الحاجية و التحسينية   فلا يجوز الحكم بمجردها ما لم تقصد بشهادة الأصول ، لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي وذلك لا يجوز ، وإذا أُيدت بأصل فهي قياس ( ) .

الثاني  :  أن تكون المصلحة كلية لا جزئية بمعنى أنها عامة توجب نفعاً للمسلمين وليست خاصة بالبعض ، وذلك بأن يرجع النفع أو دفع الضرر المترتب على تشريع الحكم لجميع الأمة أو لأكثر أفرادها ، فإذا ظهر في تشريع الحكم مصلحة لفردٍ أو لبعض الأفراد فلا يجوز بناء الحكم عليها ، لأنها مصلحة خاصة وليست عامة .

الثالث : أن تكون المصلحة قطعية لا ظنية ، بأن تثبت بطريق قطعي لا شبة فيه( ).

وتتحصل تلك الشروط الثلاثة للمصلحة في مثال ضربه الكثير من علماء الأصول ذكره الإمام الغزالي رحمه الله وذلك :(( فيما إذا تترس الكفار حال التحام الحرب بأسارى المسلمين بأن يجعلوا أسرى المسلمين أمامهم كالترس يتلقى عنهم الضرب والطعن فيكون مانعاً للمسلمين من توجيه الضرب والرمي إليهم ، وبذلك يتمكن الكفار من مهاجمة الحصون ، فلو امتنعنا عن القتل لصدمونا واستولوا على ديارنا وقتلوا كافة المسلمين ثم يقتلون الأسرى أيضاً ، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يقدم ذنباً يستحق عليه الموت ، فيجوز والحال هذه رمي الترس لأن هذا الأسير مقتول بكل حال ، لأنا لو كففنا عن قتله لتسلط الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضاً ، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع ، لأنه مقصوده تقليل القتل وحسم سبيله عند الإمكان ، فإن لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل فهذه مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود للشرع ، وثبتت لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة عن الحصر ، ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب ؛ لم يشهد

له أصل معين فالمصلحة هنا غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين ، وإنما كان اعتبارها مقيداً بأوصاف ثلاثة كونها ضرورية كلية قطعية ( ) .

هذه الشروط فيما يتعلق بوصف المصلحة المرسلة التي ينبغي الاحتجاج بها واعتبارها دليلاً في الاستنباط وقد ذكر بعض أهل العلم شروطاً أخرى يمكن أن يكون بعضها ضوابط ينبغي للمجتهد المتأهل مراعاتها عند الاستدلال بالمصلحة وليست متعلقة بذات المصلحة .فمن هذه الضوابط ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله :- 

أحدها  :  أن تكون معقولة بحيث تجري على الأوصاف والمناسبة المعقولة التي إذا عرضت على أهل العقول السليمة تلقتها بالقبول .

الثاني  :  أن يكون الأخذ بها راجعاً إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين بحيث لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج شديد( ) .

الثالث : الملاءمة بين المصلحة التي تعتبر أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشرع، فلا تنافي أصلاً من أصوله ولا تعارض دليلاً من أدلته القطعية ، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها بان تكون من جنسها ليست غريبة عنها ( ).

كذلك لا يكون باعتبار المصلحة تفويتاً لمصلحة أهم وأعظم ، وميزان تفاوت المصالح في الأهمية له عدّة تقديرات ؛ من حيث ذاتها وقيمتها أو من حيث التأكد من نتائجها أو عدمه أو من حيث مقدار شمولها إلى غيرها من الاعتبارات الأخرى التي تؤثر في أي المصالح يقدم وأيها يؤخر عند التعارض ( ).

المسالة الرابعة : 

هناك بعض القواعد المقاصدية المبثوثة في كتب القواعد والأصول والتي يحتاج إليها الناظر في النوازل عند رد حكمها إلى مقاصد التشريع ،وسأعرض بعض هذه القواعد مكتفياً بما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات ، من غير شرح لها أو تفصيل ولكن للإشارة إلى أهميتها في الاجتهاد المقاصدي ( ) .

1- (( القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جئ بها لمصالح العباد فالأمر والنهي والتخيير بينها راجعة إلى حفظ المكلف ومصالحة ))( ) .

2- (( أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق ، وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات ، إذ مجاري العادات كذلك جرت الأحكام فيها ، ولولا أن الجزئيات أضعف شأناً في الاعتبار لما صح ذلك بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد ... إن الكلي والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والمكلفين ))( ) .

3- (( تنزيل حفظ الضروريات والحاجيات في كل محل على وجه واحد لا يمكن بل لابد اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية ))( ) .

4- (( القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ ، وإنما وقع النسخ في أمور جزئية ))( ) .

5- (( قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقاً لقصده في التشريع ))( ) .

6- (( المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبده اضطراراً ))( )

7- (( مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة ، لا تختص بباب دون باب ، ولا بمحل دون محل ولا عجل وفاق دون محل خلاف))( )

8- (( إنما يصح في مسالك الإفهام والفهم ما يكون عاماً لجميع العرب ، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني ))( ).

9- (( إن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق الإعنات فيه ... إن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ؛ ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة ، كما لا تسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع ))( ).

10- (( الشريعة جارية في التكليف مقتضاها على الطريق الوسط الأعدل ، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه ، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال ))

11- (( العوائد الجارية ضرورية الاعتبار شرعاً ))( ) .

12- (( الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني وأصل العادات الالتفات إلى المعاني ))( ) 

13- كل دلي شرعي ثبت في الكتاب مطلقاً غير مقيد ، ولم يجعل له قانون ولا ضابط مخصوص ، فهو راجع إلى معنى معقول وُكِل إلى نظر المكلف ))( ) .

14- (( إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة ، فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ، ولا حكايات الأحوال ))( ) .

15- (( الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص ، فلا بد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص ، فلا يلزم من ذلك العلم بالعربية ، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً ))( ) .

16- (( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ))( ) .

17- (( حصول الفتوى بالقول وهو معروف وبالفعل وبالإقرار ))( ) .

18- (( المعنى البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل بهم إلى طرق الإغلال ))( ) .

19- (( أدلة الشريعة لا تتعارض في ذاتها بل في نظر المجتهد ولا يوجد إجماع على تعارض دليلين ))( ) .

20- (( تخيير المستفتي مضاد لقصد الشريعة ، لأنه يفتح له باب اتباع الهوى ومقصد الشارع إخراجه عن هواه ))( )

المطلب الرابع :بعض الضوابط المرعية عند الاستدلال بالمقاصد.

فهذه الأسرار والغايات التي وضعت الشريعة لأجلها من حفظ الضروريات وإصلاح لأحوال العباد في الدارين ؛ معرفتها ضرورية على الدوام ولكل الناس، فالمجتهد يحتاج إليها عند استنباط الأحكام وفهم النصوص وغير المجتهد للتعرف على أسرار التشريع .

ولذلك كان الناظر في النوازل في أمس الحاجة إلى مراعاتها عند فهم النصوص لتطبيقها على الوقائع وإلحاق حكمها بالنوازل والمستجدات ، وكذلك إذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة فإنه لابد وأن يستعين بمقصد الشرع ، وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في مسألة مستجدة عن طريق القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو العرف المعتبر تحرى بكل دقة أهداف الشريعة ومقاصدها .( )  

فإذا ثبت بما لا يدع مجالاً للشك : (( أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً )) ( ) ؛ كان لزاماً على المجتهد والمفتي في الوقائع الحادثة اعتبار ما فيه مصلحة للعباد ودرء ما فيه مفسدة عليهم .  

فيستحيل أن تأمر الشريعة بما فيه مفسدة أو تنهى عما فيه مصلحة بدليل استقراء آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الإمام البيضاوي ـ رحمه الله ـ:((إن الاستقراء دل على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد ))( ).

ويؤكد على ذلك الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ وهو من المعتنـين بذلك بقولــه : (( القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام والمصالح وتعليل الخلق بها ، والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شرع الأحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناهما ، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة )) ( ) .

فينبغي عندئذٍ أن يراعي الناظر في النوازل تحقيق المصالح في حكمه وفتواه حتى لا يخرج  عن كليات الشريعة ومقاصدها العليا ، وسيأتي المزيد من التفصيل في مبحث مستقل بإذن الله ( ).

ولعلنا أن نذكر في هذا المقام بعض الجوانب المهمة التي ينبغي أن يدركها الناظر في النوازل من خلال مراعاته لمقاصد التشريع ، وهي كالتالي : -

أ – تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر :

إن اعتبار تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر هو من مقصود الشرع الذي حافظ على ما يجلب فيه النفع ويدفع فيه الضرر ، وكثيراً ما يكون اجتهاد الناظر في النوازل بناءً على اعتبار حجِية المصلحة المرسلة التي لم يرد في الشرع نصٌ على اعتبارها بعينها أو بنوعها ولا على استبعادها ولكنها داخلة ضمن مقاصد الشرع الحنيف وجمهور العلماء على اعتبار حجيتها .( ) 

ولذلك قال الإمام الآمدي ـ رحمه الله ـ : (( فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضاً إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها ))( ) .

وواقعنا المعاصر يشهد على اعتبار المصلحة المرسلة في كثير من المسائل المستجدة في الأنظمة المدنية والدولية وصورٍ من التوثيقات اللازمة لبعض العقود المالية والزوجية وغيرها . 

وإذا لم يكن للفقيه فهم وإدراك لمقاصد الشرع وحفظ ضرورياته ؛ و إلا أغلق الباب بالمنع على كثير من المباحات أو فتحه على مصراعيه بتجويز كثير من المحظورات . 

ولهذا ذكر الأصوليون عدَة ضوابط من أجل تحقق المصلحة المعتبرة والعمل بها عند النظر والاجتهاد ، وهي بإيجاز : - 

1- اندراج المصلحة ضمن مقاصد الشريعة . 

2- أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة . 

3- أن تكون المصلحة قطعية أو يغلب على الظن وجودها . 

4- أن تكون المصلحة كلية . 

5- ألا يفوت اعتبار المصلحة مصلحة أهم منها أو مساوية لها . ( ) 

ومما ينبغي للناظر في النوازل في هذا المقام ؛ أنه إذا أفتى في واقعة بفتوى مراعياً فيها مصلحة شرعية ما ، فإن عليه أن يعود في فتواه ويغير حكمه فيها في حالة تغيّر المصلحة التي روعيت في الفتوى الأولى ،ولا يخفى أن تغير الفتوى هنا إنما هوتغيرٌّ في حيثيات الحكم لا تغيرٌّ في الشرع ، والحكم يتغير بحسب حيثياته ومناطه المتعلق به ، وهذا أمر ظاهر . 

ولعل من الأمثلة على ذلك : السفر إلى بلاد الكفار فإن كانت فيه مصلحة مرجوة تعود على صاحبها بالنفع الديني أو العلمي أو المادي كان السفر جائزاً ، وإذا زالت المصلحة أو قلت فلا يجوز حينئذٍ السفر للمضار المترتبة على ذلك.( )

ب ـ اعتبار قاعدة رفع الحرج : 

يقصد بالحرج : (( كل ما يؤدي إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالاً أو مآلاً )) ( ) ، فيكون المراد برفع الحرج : ((التيسير على المكلفين بإبعاد المشقة عنهم في مخاطبتهم بتكاليف الشريعة الإسلامية )) ( )   .

وقد دلت الأدلة على رفع الحرج من الكتاب والسنة حتى صار أصلاً مقطوعاً به في الشريعة . 

كما في قوله تعالى :  مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ  ( ) ،

وقوله تعالى : وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ  ( ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن هذا الدين يسر ))( ) ، إلى غيرها من الأدلة المتواترة في حجية هذا الأصل . 

فإذا تبين لنا قطعية هذا الأصل وجب على المجتهد  أن يراعي هذه القاعدة فيما ينظر فيه من وقائع ومستجدات ، بحيث لا يفتي أو يحكم بما لا يطاق شرعاً من المشاق ، كما يجب عليه أن يراعي الترخيص في الفعل أو الترك على المكلفين الذين تتحقق فيهم الأعذار والمسوغات الشرعية المبيحة لذلك ، كما في الترخيص في الضروريات أو التخفيف لأصحاب الأعذار ورفع المؤاخذة عنهم( ). 

وهناك شروط لابد للناظر من تحقيقها عند اعتباره لقاعدة رفع الحرج فيما يعرض له من نوازل وواقعات ، وهي : 

1 ـ  أن يكون الحرج حقيقياً ، وهو ما له سبب معين واقع ؛ كالمرض والسفر ، أو ما تحقق بوجوده مشقة خارجة عن المعتاد ، ومن ثمَّ فلا اعتبار بالحرج التوهمي وهو الذي لم يوجد السبب المرخص لأجله ؛ إذ لا يصح أن يبني حكماً على سبب لم يوجد بعد كما أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات . 

2-  أن لا يعارض نصاً ، فالمشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه ، وأما في حال مخالفته النص فلا يعتد بهما  . ( ) 

3ـ  أن يكون الحرج عاماً ، قال ابن العربي ـ رحمه الله ـ : (( إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط وإذا كان خاصاً لم يعتبر عندنا ، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره وذلك يعرض في مسائل الخلاف )) ( ) .

ج ـ  النظر إلى المآلات : 

ومعنا أن ينظر المجتهد في تطبيق النص ؛ هل سيؤدي إلى تحقيق مقصده أم لا ؟ فلا ينبغي للناظر في النوازل والواقعات التسرع بالحكم والفتيا إلا بعد أن ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل .

وقاعدة اعتبار المآل أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام ( ) .

كما في قوله تعالى : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ ( ).  

وقوله تعالى : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ( ) .

وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أشير إليه بقتل من ظهر نفاقه قوله : (( أخاف أن يتحدث  الناس أن محمد يقتل أصحابه )) ( ) ، وقوله : (( لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم )) ( ) .

إلى غيرها من النصوص المتواترة في اعتبار هذا الأصل . ( ) 

يقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في أهمية اعتباره عند النظر والاجتهاد : (( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفه ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، فقد يكون ؛ مشروعاً لمصلحة  قد تستجلب أو لمفسدة قد تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع ، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحه تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية ، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعاً من انطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد ، إلا أنه عذب المذاق ، محمود الغب ، جارٍ على مقاصد الشريعة ))( ) .

وكم من أبواب الشر انفتحت بسبب فتاوى لم يُعتبر فيها ما تؤول إليه بعض الوقائع والمستجدات من مفاسد وأضرار ، كما يحصل في بعض البلدان الإسلامية من تجويز عمل المرأة في جميع التخصصات ومشاركتها الرجل في جميع المجالات دون تقدير المفاسد المترتبة على هذا النوع من الاجتهاد . وقد يحصل في اعتبار قاعدة النظر إلى المآل خير ونفعٌ عظيم ؛ تشهد له بعض الفتاوى مثل التي ظهرت في جريمة الاتجار في المخدرات والمسكرات واستحقاق من يفعل ذلك القتل تعزيراً ، فكان فيها إغلاق لباب الشر وحفظ للعباد من أهل الفساد .     

د. فقه الواقع وحسن التنزيل للمقاصد : 

ويقصد بهذا الضابط أن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده تغيّر الواقع المحيط بالنازلة سواءً كان تغيراً زمانياً أو مكانياً أو تغيراً في الأحوال والظروف وعلى الناظر تبعاً لذلك مراعاة هذا التغير في فتواه وحكمه . 

وذلك أن كثيراً من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية ؛ فالأحكام تنظيمٌ أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد ، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة ، فكم من حكم كان تدبيراً أو علاجاً ناجحاً لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه ، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق .  

ومن أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون ، وصرّح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق في المجتمعات ، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وُجِدَ الأئمة الأولون في عصر المتأخرين وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس لعدلوا إلى ما قال المتأخرون .( ) 

وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة : (( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )) ( ) .ومن أمثلة هذه القاعدة : 

-   أن الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ يرى عدم لزوم تزكية الشهود ما لم يطعن فيهم الخصم ، اكتفاء بظاهر العدالة ، وأما عند صاحبيه أبي يوسف ومحمد ـ رحمهما الله ـ فيجب على القاضي تزكية الشهود بناء على تغير أحوال الناس . ( ) 

- كذلك أفتى المتأخرون بتضمين الساعي بالفساد لتبدل أحوال الناس مع أن القاعدة : (( أن الضمان على المباشر دون المتسبب )) وهذا لزجر المفسدين .( ) 

-   ومـن الفـتاوى ما ذهـب إليـه شـيخ الإستلام ابن تيـمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ في تقييد مطلق كلام العلماء وقالوا بإباحة طواف الإفاضة للحائض التي يتعذر عليها المقام حتى تطهر ( ) ، وقد عمل بها بعض العلماء المعاصرين مراعاة لتغير أحوال الناس .

-  كذلك جواز إغلاق أبواب المساجد في غير أوقات الصلاة في زماننا مع أنه مكان للعبادة ينبغي أن لا يغلق وإنما جُوِّزَ الإغلاق صيانة للمسجد من السرقة والعبث . ( ) 

إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة التي غيَّر فيها الأئمة المتأخرون كثيراً من الفتاوى بسبب تغير الأزمنة واختلاف أحوال الناس .( )

يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل :( تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ) : (( هذا فصل عظيم النفع جداً وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ، ومن الرحمة إلى ضدها ، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل ))( ) .

ولعل هذا النص النفيس للإمام الجليل ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن يكون مناراً لأهل النظر والاجتهاد يهتدون به في بحثهم واجتهادهم من أجل أن يراعي المجتهد أو المفتي في أثناء اجتهاده ونظره الظروف العامة للعصر والبيئة والواقع المحيط بالناس ، فرب فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر ، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى ، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره ، وقد تصلح لشخص في حال ، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى . 

ولأهمية هذا المقام يمكن أن نذكر بعض الضوابط المهمة التي ينبغي أن يراعيها الناظر عند تغيّر الأزمنة أو الأمكنة أو الظروف لتحقق تغير الفتوى عندها ، ويمكن أن نوجزها فيما يلي : 

1- أن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير بمرور الزمان ولا بتغير الأحوال وكون الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى واقعة بسبب تغير الزمان أو المكان أو الحال ليس معناه أن الأحكام مضطربة ومتباينة بل لأن الحكم الشرعي لازم لعلته وسببه وجارٍ معه ، فعند اختلاف أحوال الزمان والناس تختلف علة الحكم وسببه فيتغير الحكم بناءً عليه . ( )

2- أن الفتوى لا تتغير بحسب الهوى والتشهي واستحسان العباد واستقباحهم بل لوجود سبب يدعو المجتهد بإعادة النظر في مدارك الأحكام ، ومن ثمَّ تتغير الفتوى تبعاً لتغير مدركها نتيجةً لمصالح معتبرة وأصول مرعية ترجح على ما سبق الحكم به .

3- أن تغير الفتوى يجب أن يكون مقصوراً على أهل الاجتهاد والفتوى وليس لأحدٍ قليل بضاعته في العلم أن يتولى هذه المهمة الصعبة ، وكلما كان النظر جماعياً من قِبل أهل الاجتهاد كان أوفق للحق والصواب .( )

0 تعليق:

إرسال تعليق