محل عبء الإثبات

 المبحث الثالث: محل عبء الإثبات

لقد سبق و أن انتهينا إلى أن إقامة الدليل أمام القضاء يكون على حق أو واقعة معينة و يعني هذا أن محل الإثبات هو الحق أو الواقعة التي يرتب عليها المشرع آثار معينة و المدعي مطالب بإقامة الحجة على هذه الواقعة أو ذلك الحق.

المطلب الأول: تحديد محل عبء الإثبات.

تتكون كل خصومة قضائية من عنصرين، عنصر الواقع و عنصر القانون، فالعنصر الأول هو الذي يكلف الخصوم بإثباته و أما الحكم الذي يصدره القاضي فهو تطبيق القانون على الواقع بناء على ما ثبت له من أدلة على هذا الواقع و منه فإن محل الإثبات الذي يتحمل المدعي عن القيام به إنما هو الواقع، أما القاضي فإن مهمته تنحصر في تطبيق القانون على الواقع[1].

أولا : إثبات الواقعة القانونية

الحق الذي يدعيه المدعي لا يصدق عليه هذا الوصف إلا لأنه يستند إلى قاعدة في القانون تقرر وجوده هذه القاعدة هي التي تجعل كسب الحق نتيجة لواقعة قانونية أي لوضع معين يوجد في الشخص صاحب الحق فإذا توافر هذا الوضع للمدعي صح له أن يطالب بهذا الحق و عندئذ يقع عليه عبء إثباته.

و الواقعة القانونية هي أمر يحدث فيترتب عليه كسب حق أو نقله أو تعديله أو انقضائه و هي بمعناها الواسع تشمل التصرف القانوني كالعقود و الوصايا و العمل المادي الذي يرتب عليه القانون أثرا كوضع اليد أو الفعل الضار فإذا ادعى شخص أنه تملك أرضا بعقد من العقود الناقلة للملكية وجب عليه إثبات وجود هذا العقد أو أدعى ملكيتها بطريق التقادم فهو ملزم بإثبات وضع يده عليها المدة التي يتطلبها القانون لكسب الملكية أو من يدعي دينا على آخر يجب عليه أن يثبت مصدر هذا الدين أهو عقد أم إرادة منفردة أم فعل ضار غير مشروع أم إثراء بلا سبب، و الشيء المدعى لا يقتصر على أن يكون قيام حق و إنما يمكن أن ينصرف الإدعاء إلى انقضاء هذا الحق و ذلك كما لو ادعى شخص على أخر دين و قام بإثبات مصدره فدفع المدعى عليه بالوفاء فهنا ينقلب المدعى عليه مدعيا.

و قد لا يكون المدعى به وجود حق أو زواله و إنما يكون وصفا قانونيا يلحق التصرف القانوني أو العمل المادي و ذلك كما لو كان التصرف القانوني عقدا و قام المدعي بإثباته فدفع المدعى عليه ببطلان العقد أو قابليته للإبطال أو بفسخه، أما ما يلحق العمل المادي فكما لو دفع المدعى عليه في الفعل غير المشروع بأنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس فهذا الوصف يعد واقعة قانونية يجب إثباته على النحو الذي تثبت به الواقعة الأصلية[2] و من ثم فإن حمل الإثبات بهذا المعنى هو السبب المنشئ للأثر القانوني المدعى به سواء كان هذا الأثر هو وجود الحق أو زواله.

و نظرا لنقل محل الإثبات من الحق إلى مصدره فإن الإثبات لا يمكن أن يؤدي إلى يقين كامل وإنما يؤدي فقط إلى درجة معينة من الاحتمال و من ثم فإنما يقوم به المدعي من إثبات يقف عند الظن القوي بصحة ما قام به دون الجزم بيقين ما وقع إثباته فإن معظم الحقائق الواقعية ليست حقائق خالدة لا تتغير.

ثانيا: إثبات القاعدة القانونية            

إذا كان المدعي هو المنوط به إقامة الدليل على الواقعة القانونية التي نشأ عنها الحق الذي يطالب به، أما تطبيق النص القانوني فلا شأن للخصوم به و هذا هو دور القاضي.

و القاضي ملزم بمعرفته للقانون إذ أن هذا هو صميم مهامه و واجبه المفروض عليه باعتباره أحد أفراد السلطة القضائية التي من بين أهم المهام الملقاة عليها تطبيق القانون، و هناك عبارة لاتينية تتمثل في : " أعطيني الواقع أعطيك القانون " و أيضا شاعت العبارة التي كان يستخدمها القضاة الفرنسيون لتنبيه المحامين إلى ضرورة اقتصارهم على الوقائع "...انتقل يا سيدي إلى الوقائع فالمحكمة تعرف القانون ".

و منه فإن القاضي هو المكلف بالبحث من تلقاء نفسه عن القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على ما ثبت لديه من وقائع و هو يخضع في تطبيقها لرقابة المحكمة العليا. و منه كل خلاف حول تفسير قاعدة من القواعد القانونية فإن عبء التفسير يقع على القاضي و هذا هو الأصل و المبدأ لكن هذا الأصل استثناء يقول به جانب من الفقهاء بحيث تنقلب القاعدة القانونية إلى مسألة موضوعية و يطالب الخصوم بإثباتها و ذلك في حالة ما إذا كانت القاعدة المراد تطبيقها قانون أجنبي بحيث أنه إذا كان الأصل أن إثبات القاعدة و تطبيقها يعد من عمل القاضي و لا مجال للخصوم في هذا الشأن، إلا أن القاضي قد يجد نفسه أمام بعض النزاعات التي يكون أطرافها أجانب و يخضعون لأحكام قانون بلدانهم، و عملا بمبدأ شخصية القوانين فالقاضي ملزم بتطبيق قانون البلد الذي ينتمي إليه الشخص الأجنبي عملا بقواعد الإسناد، و تتعقد الأمور إذا كان الأطراف من عدة بلدان و من جنسيات مختلفة، هنا و حسب الرأي الراجع في الفقه و القضاء المقارن أن القانون الأجنبي لا يعدوا إلا أن يكون مسألة من مسائل الواقع يجب على الخصوم إثباتها لأنه من غير الممكن أن يلم القاضي بكافة قوانين العالم و القول به مبالغ فيه إلى حد الجهل و مهما وجد من أجهزة اتصال و تكنولوجية متطورة فإن اختلاف اللغات كاف بيان وجه الصعوبة.

المطلب الثاني:شروط محل عبء الإثبات          

يضع الفقهاء عدة شروط في محل عبء الإثبات و لا يمكن أن يتم الإثبات بدون تحققها و ذلك من أجل تحقيق الهدف المنشود منه و هو الوصول إلى مطابقة الواقع للحقيقة قدر الإمكان ورد الحقوق إلى أصحابها و إلا كان الإثبات عبثا لا فائدة من إجرائه.

أولا: أن تكون الواقعة محددة و ممكنة :

يقصد به أن تكون الواقعة محل عبء الإثبات واضحة المعالم و ممكنة التحقق بأن تكون معينة تعينا كافيا نافيا للجهالة و الغرر لأجل تقدير قبول الأدلة بشأنها و التحقق من أن الدليل الذي سيقدم يتعلق بها لا بغيرها حتى يسير الإثبات في حدود مرسومة سلفا بحيث يفوت على الخصم ما يكون لديه من قصد إطالة النزاع دون داع، فإن كان محل عبء الإثبات مثلا عقد فإنه يجب بيان نوعه و تعيين محله، مثلا بيع سيارة من نوع ما بأوصاف ما كما يجب تعيين الوقائع محل عبء الإثبات بشكل واضح حتى لا يكون هناك مجال للشك في ماهيتها و مداها و تعتبر مسألة تقدير الواقعة ما إذا كانت معينة تعيين كافيا و كانت ممكنة، و يسمح بإثباتها مسألة لا يخضع القاضي فيها إلى رقابة المحكمة العليا، و مسألة تحديد الواقعة لا يقتصر على كون الواقعة إجابية كوجود الشيء أو إمكانية القيام به، بل يصح أن يرد الإثبات على الوقائع السلبية متى كانت محددة تحديدا كافيا، و الواقعة السلبية هي التي تتضمن في الغالب نفيا لأمر وجودي كنفي التقصير في الالتزام بعمل معين و إثباتها يكون بطريق إثبات أمر وجودي منافي لها.

ثانيا: أن تكون الواقعة محل نزاع و متعلقة بالدعوى                                                                              

وهذا الشرط يعد من الشروط البديهية التي تقتضيها طبيعة الأشياء، ذلك لأنه يتطلب حتى يكون الخصم منكرا لما ادعاه المدعي، فيكون محل عبء الإثبات موضوع نزاع بين الخصمين، أما إذا كان الخصم مقر بما ادعاه المدعي و معترفا به فلا حاجة لإضاعة وقت القضاء في شيء معترف به لأن ذلك يعفي المدعي من عبء الإثبات و يجعل الواقعة ثابتة في حق المقر بها، و كونها ثابتة لا يعني أنها غير قابلة للإثبات لأنها تصح أن تكون محل عبء إثبات من الغير إذا قام بشأنها نزاع أخر[3]، إذ أن المستقر عليه فقها و قانونا أن الإقرار قاصر ولا يتعد صاحبه و هذا هو ما يميز الواقعة بكونها ثابتة أو أنها غير قابلة للإثبات، فإذا سلم الخصم بجزء من طلبات المدعي، فإن ما سلم به يستبعد من مجال الإثبات و تنحصر في ذلك الخصومة في الجزء المتنازع عليه، و مثالها ادعاء شخص معين أنه أصيب في الحادث ويطالب بالتعويض فدفع المدعى عليه بأن طلبه مبالغ فيه دون أن يدلي بشيء عن الحادث فإن هذا يعد إقرار منه بصحة وقوع الحادث كما أنه لا يكفي أن تكون الواقعة هي محل نزاع بل يجب أن تكون متعلقة بالدعوى، و مقتضى هذا الشرط أن تكون الواقعة المراد إثباتها وثيقة الاتصال بالحق المدعى به  و لا تكون الواقعة متعلقة بالحق المدعى به إلا إذا كانت هي مصدر هذا الحق، و هذا في الاثبات  المباشر كتمسك البائع بعقد البيع للمطالبة بثمن المبيع أو أن يدعي شخص على آخر دين و يقدم سند الدين، إلا أن الإثبات لا يقع دائما بطريقة مباشرة فقد يتعرض الكثير من الأحوال إثبات واقعة مباشرة فليجأ المكلف بعبء الإثبات إلى إقامة الدليل على واقعة أخرى بديلة ليست هي مصدر الحق المدعي به و لكنها وثيقة الإتصال بالواقعة الأصلية مما يترتب عليه أن تكون الواقعة الأصلية ثابتة أو قريبة الإحتمال، و هذا ما يطلق عليه بالاثبات غير المباشر، و مثالها أن يطلب المؤجر من المستأجر سداد الأجرة لشهر معين فيقدم المستأجر مخالصات شهور تلت الشهر المطالب بسداده، فإن هذه المخالصات تعتمد على الوفاء إلى أن يثبت المؤجر عكسها، و لكن يشرط في الواقعة البديلة أن يكون هناك تلازم لأن الإثبات يصبح عندها مجرد عبث إذا لم يوجد هذا التلازم.[4]

ثالثا: أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى.

و يشترط فضلا عما سبق بيانه أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى بأن تكون من شأنها أن تسهم في تكوين عقيدة القاضي في الاقتناع بحقيقة النزاع المعروض.

ومنه فإنه لا يكفي أن تكون الواقعة متعلقة بموضوع الدعوى بل يجب أن يكون إثباتها متعلقا بموضوعها، و يجب أيضا أن تكون منتجة في الدعوى بمعنى أن يكون لها أثر في تغيير و التأثير على الفصل فيها بأن تكون حاسمة في إسناد الحق إلى المدعي أو عدم إسناده له. أما إذا كان يستوي في نظر القانون ثبوتها أو عدم ثبوتها فهي لا تكون منتجة في الإثبات حتى ولو كانت متصلة بالدعوى وذلك كمن يدعي ملكية عقار استنادا إلى وضع يده عليه مدة ثلاثة عشر سنة فهذه واقعة متصلة بالدعوى ولكنها غير منتجة في الإثبات، نظرا لأن القانون يشترط مرور خمسة عشر سنة لاعتباره سببا من أسباب كسب الملكية. 

أو كمن يطالب آخر بسداد دين حل موعده فيدفع الخصم المدين بعدم التزامه بالسداد أخذا بالمقاصة على اعتبار أنه له في ذمة الدائن سابقا مبلغ من المال ولكن الأجل لم يحل بعد بهدم واقعة متصلة بالدعوى و لكنها غير منتجة فيها لأنه يشترط فيها أن يكون الدينين حاليين الأداء ومن ثم فإنه يستوي في نظر القانون إثبات مثل هذه الوقائع أو عدم إثباتها لأن هذا الإثبات لا يؤثر في وجه الحكم في الدعوى.

ومنه يتضح مدى التلازم والترابط بين شرطي التعلق والإنتاج ذلك أن كل واقعة متعلقة بالدعوى لابد أن تكون متصلة بها و العكس غير صحيح بمعنى أن كل واقعة متعلقة بالدعوى لا يعني أنها منتجة فيها.

رابعا: أن تكون الواقعة جائزة الإثبات

يقصد بهذا الشرط أنه لا يوجد في القانون ما يمنع من إثبات الواقعة فالأصل في الواقعة القانونية جواز الإثبات، ما دام قد توافر لها الشروط السابقة، إلا أن المشرع قد يخرج عن هذا الأصل لاعتبارات معينة فيمنع الخصم من إثبات هذه الوقائع و هذا المنع قد يكون لاعتبارات تتعلق بالنظام العام، والآداب العامة أو لأن الإثبات يتعارض مع سبب من الأسباب التي تقتضيها الصياغة الفنية للإثبات.

و من الأمثلة: عدم السماح للدائن أن يثبت أن المدين اقترض منه مبلغا معينا بفائدة، لكن هذا غير مسموح به قانونا لأن هذا يخالف النظام العام أوعند عدم السماح لمن يطالب بفوائد ناجمة عن قمار، و كذلك لا يجوز إثبات عكس القرائن القانونية القاطعة مثل: الخطأ المفترض في جانب حارس الشيء أو الحيوان، فلا يقبل من الحارس إقامة الدليل على عدم ارتكابه خطأ و ذلك لأن القانون يقيم مسؤوليته على خطأ مفترض فرضا لا يقبل إثبات العكس[5]. والتحقق من كون الواقعة جائزة الإثبات أم لا يعد من مسائل القانون التي يخضع القاضي فيها لرقابة المحكمة العليا، لأن القانون هو الذي يحدد الوقائع التي لا يجوز إثباتها، ودور القاضي في ذلك محدود و هذا بخلاف سائر الشروط السابقة.       

 

 

 

 

 

 

 



[1]   رمضان أبو السعود – المرجع السابق – ص 368.

[2]   عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص 48.

[3]    عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص 59-60

[4]    محاضرات في الاثبات ألقاها الأستاذ ملزي عبد الرحمن على الطلبة القضاة دفعة 13- الموسم الدراسي 2003-2004

[5]    عبد الرزاق أحمد السنهوري –المرجع السابق –ص64

 

ابحث عن موضوع