المبحث الأول: طبيعة دور القاضي في توزيع عبء الإثبات
من المسلم به بداهة أن القاضي لا يجوز له التحيز لطرف ما و هذا مفروض عليه بداهة بحكم وظيفته. بحيث أن يكون لا يحتاج في ذلك إلى نص, لأن الفضيلة الأولى للقاضي هي أن يكون حكمه دون تحييز, وأن يتقبل الحجج التي يقدمها أطراف المنازعة طبقا لقواعد الإثبات التي حددها القانون.
ويقتصر دور القاضي على تلقي الأدلة كما يقدمها الخصوم, ثم يتولى تقديرها مراعيا في ذلك ما قد يحدده المشرع من القيم, ويصدر حكمه بناءا على ذلك, على أساس أن الإثبات حق للخصوم و واجبهم في حدود القانون.
ولهذا نجد أن القاضي في ظل القانون الجزائري يقتصر دوره على تلقي الطلبات و الدفوع التي يقدمها الخصوم في الإثبات, ثم يقوم بتقديرها وفقا للقيمة التي حددها له القانون, فلا يستطيع أن يجمع أو يساهم في جمع الأدلة بنفسه, كما لا يستطيع أن يستند إلى أدلة استنبطها بنفسه خارج الجلسة, و لا يجوز له أيضا أن يأخذ بأدلة قامت في قضية أخرى.
فليس للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي, وهذا هو الموقف السلبي في تسييره للدعوى كما أنه لا يقف مكتوف الأيدي و يدع الخصومة يحركها الأطراف كما يشاءون, وإنما له شيء من الحرية في تحريك الدعوى و توجيه الخصوم, حتى لا يترك كشف الحقيقة رهينا بمبارزة الخصوم وحدهم. وهذا هو الموقف الإيجابي للقاضي في تسيير الدعوى. ولهذا فإننا سنتناول هذا الأساس في مطلبين. [1]
المطلب الأول: الدور السلبي للقاضي:
إن الدعوى المدنية كقاعدة عامة هي ملك لأطرافها لهم الحق في تسييرها وتوجيهها ولا يزال أمر إثباتها من حق الخصوم وواجبهم في حدود القانون, فهم الذين يقومون بالطلبات والدفوع وهم الذين يقدمون وسائل الإثبات التي يحددها القانون, وعلى القاضي أن يلتزم بطلبات الخصوم, وعليه فإن القاضي لا يمكنه أن يستخدم معلوماته الشخصية عن موضوع النزاع سواء تكون له هذا العلم في الجلسة التي ينظر فيها هذا النزاع أو خارجها, وليس له كذلك أن يستحدث دليلا غير صادر من الخصوم في الدعوى.
أولا: عدم إمكانية القاضي تغيير موضوع الطلب:
من المبادئ الأساسية أن القاضي لا يباشر وظيفته إلا بناء على طلب, فلو علم القاضي بوجود نزاع بين شخصين, فإنه لا يستطيع أن ينظر هذا النزاع دون طلب من أحدهما فالقاضي لا يعمل من تلقاء نفسه, إذ لو بدأ القاضي الخصومة دون طلب لأصبح مدعيا وحاكما في نفس الوقت وبالتالي يعتبر منحازا ضد المدعى عليه, وخروج القاضي المدني عن حياده يجعل حكمه قابلا للنقض.
ويسري مبدأ الطلب ليس فقط لبدأ الخصومة أو مرحلة منها كمرحلة الطعن, بل أيضا لاستمرارها, ولهذا فإنه إذا تنازل المدعي عن طلبه, امتنع على القاضي نظر القضية, هذا ليس للقاضي أن يتجاوز حكمه حدود الطلب أو أن يحكم بغير ما طلبه الخصوم.
ويعرف موضوع الطلب بأنه النتيجة الاجتماعية أو الاقتصادية التي يهدف إليها الطالب في دعواه. كالمبلغ المطالب في دعاوى المسؤولية المدنية فالطالب غير ملزم بإعطاء موضوع طلبه الوصف القانوني الصحيح لأن القاضي هو صاحب الهيمنة على التكييف الصحيح لموضوع الطلب, وذلك لأن التكييف مسألة قانون مما يدخل في صميم مهمة القاضي.
وعلى هذا فإن القاضي في حدود ما يستخلصه من الوقائع الصحيحة التي يدلي بها الخصوم عن موضوع طلباتهم وسببها يعالج الدعوى على أساس سببها القانوني الذي ترشح له هذه الوقائع و لا جناح عليه إن خالف تكييف الخصوم الخاطئ له. فإن مثل هذا التكييف لا يقيد القاضي الذي يلتزم بحكم وظيفته بإعطائها الوصف والتكييف السليم. وعلى هذا الأساس يصل لمعرفة السبب القانوني الصحيح فإنه يحكم في موضوع طلبات الخصوم على أساس هذا السبب ولو كان هذ السبب مخالفا للسبب الذي ساقوه خطأ لإسناد دعواهم.
وبذلك يتضح لنا أن قاعدة منع القاضي من تغيير موضوع الطلب لا تشكل قيدا على سلطته في تطبيق القانون, فالمحظور على القاضي هو تغيير مجموع الوقائع التي تمسك بها الطالب و المكونة لموضوع طلبه لا التكييف القانوني لهذه الوقائع.
ولكن ما هو موقف القاضي إذا لم يحدد الخصوم في لوائحهم موضوع طلباتهم تحديدا دقيقا؟
لا شك أن من واجب القضاة في هذه الحالة أن يقوموا بهذه التحديد أعمالا لسلطتهم في تفسير مستندات الدعوى.
ونجد القضاء الفرنسي استخدم فكرة الطلب الافتراضي أو الضمني للوصول إلى هذه النتيجة فالطلب الافتراضي هو الطلب الذي لم يطلبه الخصوم صراحة ولكن يفهم ضمنا من مجموع الوقائع التي أوردوها في مذكراتهم. وقد اتجهت محكمة النقض الفرنسية في أحكامها الحديثة إلى تعليق حق القاضي في الأخذ بفكرة الطلب الافتراضي أو الضمني على شرط أن يكون الخصوم قد سبق لهم أن ناقشوا هذا الطلب أمام المحكمة. [2]
ثانيا: الاستعانة في إثبات الواقعة بشهرتها العامة دون العلم الشخصي:
الإثبات يجب أن ينصب على الواقعة القانونية التي يراد تطبيق القانون عليها ويجب أن يتم ذلك بالاستناد إلى أدلة الإثبات التي حددها القانون, والتي يجب تقديمها من قبل الخصوم, لذا لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه الشخصي المتحصل خارج قاعة المحكمة في وقائع النزاع, سواء كان هذا المنع راجعا إلى كون الوقائع هي مجال الخصوم ولا يصح للقاضي أن يثير واقعة لم يتمسك بها هؤلاء ولم يقدموا الدليل على صحتها, أو استند على القاعدة التي توجب احترام حقوق الدفاع والتي تستلزم ألا يأخذ القاضي إلا بالوقائع التي أظهرها الخصوم في المناقشات المتبادلة بينهم, أو لأن هذا المنع يمثل الحد الأدنى لمبدأ حياد القاضي.
ولكن هل يتعين إثبات هذه الواقعة حتى ولو كانت معروفة بالشهرة العامة؟
ذهب البعض إلى أن الواقعة التي تشكل موضوع النزاع والتي يستند إليها القاضي كأساس لحكمه يجب أن تكون محلا للإثبات بالطرق القانونية, لأن القانون في مواد الإثبات يقتضي صحة الواقعة لا شهرتها.
ثم إن الشهرة العامة ليست من بين طرق الإثبات التي نص عليها القانون. إن الشهرة لا تغني عن الحقيقة. فإذا كانت الواقعة مشهورة ولكنها غير ثابتة فلا تكون الشهرة جدية ويجب أن لا يعتد بها.
إلا أن الدكتور " حجازي" يرى أنه لا تجب المبالغة في هذا الصدد إلى حد إلزام المتقاضين بإثبات الواقعة التي تكون من الشهرة بحيث لا تحتمل الجدل فالحوادث التاريخية لا يلزم إثباتها بشهود أو بأي طريق آخر من طرق الإثبات[3]، ويجب أن يعتبر القاضي مثل هذه الوقائع ثابتة على أساس الشهرة رغم أن خصم من يتمسك بها تكون مصلحته في أن ينكرها وخاصة إذا كانت الواقعة المشهورة معروفة عند الناس كافة فلا يمكن أن تكون غير معروفة عند القاضي.
أما الأستاذ " باتيفول" فيذهب إلى أنه يجوز للقاضي القضاء بعلمه الشخصي عن الوقائع العامة طالما كانت مشهورة أو كان العلم بها ميسورا بالكافة[4]
والحل الواجب الإتباع في هذا الصدد بإمكان التفرقة في هذا النطاق بين حالتين:
الحالة الأولى عندما تشكل الواقعة العامة أو المشهورة موضوع النزاع التي تحتجزها القاضي كأساس لحكمه ففي هذه الحالة يجب أن تكون محلا للإثبات, بغض النظر عن صفتها العامة أو الخاصة, بحيث لا يمكن للقاضي الحكم بعلمه الشخصي بالاستناد إلى شهرتها.
أما الحالة الثانية بالنسبة للواقعة العامة أو المشهورة التي لا تشكل موضوع النزاع ذاته والتي لم يحتجزها القاضي كأساس لحكمه, وإنما استخدمها فقط لتقدير وقائع النزاع التي يرتب عليها القانون أحكامه, فيجوز للقاضي أن يتصدى بعلمه الشخصي في شأنها بصفتها من قواعد الخبرة العامة.
ومن هنا يتضح لنا أن الوقائع المشهورة تخضع للإثبات إذا كانت محلا للنزاع وتكون أساس حكم القاضي, بينما يمكن للقاضي أن يتصدى بعلمه الشخصي بشأنها إذا كانت صفة تدخلها في الدعوى تنحصر في كونها من عناصر تقدير وقائع النزاع التي يرتب عليها القانون أحكامه. وهذا ما يذهب إليه الدكتور السنهوري حيث يقول: "ولكن هذا لا يمنع من أن يستعين القاضي في قضائه بما هو معروف بين الناس ولا يكون علمه خاصا به مقصورا عليه, كالمعلومات التاريخية والجغرافية والعلمية والفنية الثابتة".
ويبدو أن هذه الحالة هي التي جعلت الفقهاء المسلمين يختلفون في جواز الحكم بمقتضى علم القاضي أو عدم الجواز، وهو ما سوف نعرض له في الفقه الإسلامي.
إن الفقه الإسلامي يتوسع في تفسير طرق الإثبات بهدف الوصول إلى الحقيقة الواقعية كلما أمكن، وللوهلة الأولى يبدو أن هذا التوسع إنما يوحي بجواز الحكم بعلم القاضي الشخصي, ولكن الحقيقة أن أهل العلم اختلفوا في المسألة بين من يمنع من ذلك ومن يجيز. فأكثر أهل العلم ذهبوا إلى أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه الشخصي, فقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف عن أبي بكر قوله:" لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ما أخذته, ولا دعوت له حتى يكون معي غيره".
كما روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أيضا أن عمر بن الخطاب قال: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي".
و استدل القائلون بذلك بحديث جابر أنه قال: "أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمامه ثوب بلال به فضة, وكان يقبض منها يعطي الناس, فقال يا محمد أعدل, فقال صلى الله عليه وسلم:ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل, لقد خبت وخسرت أن لم أكن أعدل, فقال عمر: دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم: معاذ الله، أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا و أصحابه يقرؤون القرآن لا يجوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية". رواه أحمد و مسلم.
و وجه استدلالهم بهذا الحديث على عدم جواز حكم القاضي بعلمه، أن *النبي صلى الله عليه وسلم جعل العلة في عدم قتل هذا الرجل، الخوف من حدوث الفتنة، و كلام الناس أن محمدا يقتل أصحابه. في الوقت الذي يعلم بحقيقة هذا الرجل وأنه من المنافقين.
و قال أهل الحجاز الحاكم لا يقضي بعلمه، سواء علم بذلك في ولايته أو قبلها، قال الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة. و يلزم من الجواز فتح هذا الباب على مصراعيه ليحكم كل قاضي بما يجب مدعيا علمه بذلك.و من ثم قال الشافعي:لولا قضاة السوء لقلت أن للحاكم أن يحكم بعلمه، قال البخاري:و هذا قول مالك و أكثر أصحابه.
قال القاسم: لا ينبغي للحاكم أن يمضي قضاء بعلمه دون علم غيره مع أن علمه أكثر من شهادة غيره، و لكن فيه تعرضا لتهمة نفسه عند المسلمين إيقاعا لهم في الظنون، و لهذا ما أجاز أبو بكر و عمر الحكم بمقتضى علمهما.
و عن أبي حنيفة قوله:"القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه، و لكن أدع القياس و استحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه، و حكى مثل ذلك في فتح عن بعض المالكية، فقالوا: أنه يقضى بعلمه في كل شيء إلا في الحدود. قال:و هذا هو الراجح عند الشافعية.
و استدل القائلون بالجواز بحديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي (ص) أن تأخذ من ماله ما يكفيها و ولدها بالمعروف.
قال بن بطال:" احتج من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه بهذا الحديث، لأنه إنما قضى لها و لولدها بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان، و لم يلتمس على ذلك بينة.
و خلاصة القول في هذه المسألة في الفقه الإسلامي أن هناك رأيين:
أحدهما يمنع القاضي من الحكم بعلمه، والآخر يجيز له ذلك متى كان مؤتمنا، و جوهر الخلاف مرده إنما هو محاولة التقريب بين الحقيقة الشرعية و الحقيقة الواقعية و الرأي الراجح هو الرأي الأول القائل بعدم الجواز لانتفاء التهمة عن القاضي مما يحقق له ضمانة الحكم بفكر ثاقب و رأي سديد. و قد تقرر أنه في الحالة التي لا يعلم فيها الحقيقة إلا القاضي فإنه يجوز له أن يقضي بعلمه في هذه الحالة لأن المنع حينئذ قد يضيع الحقوق، و يؤدي إلى مفاسد وخيمة[5]
المطلب الثاني: الدور الإيجابي للقاضي:
الاتجاه السائد في التشريعات التي تأخذ بنظام الإثبات المختلط هو الحرص على تحقيق مزيد من إيجابية القاضي و فاعليته بتزويده بمزيد من حرية الحركة في هذه المرحلة الهامة من مراحل الدعوى، لسرعة الفصل فيها تجنبا لعدالة بطيئة، وحتى لا يترك كشف حقيقة رهينا بمبارزة الخصوم وحدهم، والحرص على استقرار الحقوق وسد باب الحيلة أمام طلاب الكيد وتوفيرا للوقت و اقتصادا في النفقات.
وكما يقول الأستاذ ليجيه :" إن القاضي بتدخله المباشر في توجيه الدعوى يساعد كثيرا على إيضاح موضوعها و المناقشات الجارية فيها، وعلى سيرها المنتظم وله ألا يتقيد بقواعد معينة بهذا الشأن[6].
إذا كانت القاعدة التقليدية التي مازال أثرها واضحا فقها وقضاءا أن حقوق الخصوم هي ملك لهم، وأن الطلبات القضائية هي طلباتهم، ومن ثم تجري الدعوى على مشيئتهم إلا أنه مع ذلك القانون ليس ملكا لهم فالقاضي لم يعد بمثابة مشاهد صامت للمنازعة القضائية ليس له فيها إلا الحكم فيها.إن القاعدة الأساسية التي تمتد شعابها إلى قواعد الإثبات وإجراءاتها هي أن للقاضي مركزا إيجابي[7].
ولا يخفى على أحد أن فقهاء المسلمين يرون أن للقاضي في سبيل الوصول إلى الحقيقة أن يبحث عنها بكل الطرق دون أن توجه له تهمة أو يسيطر عليه نزوة، مادام وصوله إليها سائغا شرعا، ولو كان ذلك بمقتضى علمه الشخصي الذي هو الحد الأدنى لمبدأ حياد القاضي و الذي لم يقل به من فقهاء القانون[8].
أولا: إمكان إكمال ما نقص من أدلة الخصوم:
إن نظام الإثبات المختلط يهدف إلى توكيد الدور الإيجابي للقاضي بمنحه مزيدا من الفاعلية في توجيه الدعوى وتحري الحقيقة، ومن مظاهر هذه الإيجابية في إدارة الخصومة وتحري وجه الحق فيها من حقه في إكمال ما نقص من أدلة الخصم عندما يرها غير كافية فللقاضي عندما يتبين له أن الخصم لم يقدم دليلا البتة أو قدم دليلا يمكن تكملته بطريقة أخرى كاليمين المتممة مثلا.
وكذلك أخذت بهذا الرأي محكمة نقض روما عندما قالت أن قاعدة براءة المدعى عليه عدم إثبات المدعى تسري عندما يكون من المؤكد عدم إثبات الواقعة، ولا تسري عندما يكون لدى المدعى مستندات و أدلة يمكن أن تكون أساسا لإقتناع القاضي و لم يعرضها المدعي ضنا منه أنها غير لازمة أو أن أدلة أخرى قدمها يمكن أن تغنى عنها.
ويرى الدكتور حجازي في هذا الإجراء أنه أجرى على المتقاضين و أكثر اتفاقا مع مبدأ الاقتصاد في رفع الدعوى، إذ أن القاضي عندما يأمر باستكمال الأدلة يعمل على ضرورة الالتجاء إلى طريق الاستئناف، إلا أن الأمر باستكمال الأدلة يجب أن يكون جوازيا لا إجباريا للقاضي يحكم به وفقا لتقديره وبالنظر لظروف و أحوال القضية[9].
وخير مثال على ذلك يتجلى فيما يخص القرائن القضائية وسلطة القاضي في استنباطها من ظروف الدعوى المعروضة عليه، فالقاضي يختار واقعة معلومة من وقائع الدعوى ويستدل بها على الواقعة المراد إثباتها. وهذا ما نص عليه المشرع الجزائري في القانون المدني المادة340 "يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون و لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة". وتقابلها المادة100من قانون الإثبات المصري.
وللقاضي سلطة واسعة في استخلاص القرائن القضائية وهذا ما أشارت إليه المادة 340ق م ج. ومثال على ذلك استخلاص صورية التصرف من واقعة القرابة، فإذا طعن الدائن في صورية تصرف صدرمن مدينه فإنه قد يستند في تأييد ما يدعيه إلى أن هناك علاقة قرابة بين المتصرف و المتصرف إليه. فإذا ثبتت هذه العلاقة جاز للقاضي أن يستنبط منها قرينة على صورية التصرف.
و للقاضي سلطة واسعة أيضا في أن يستنبط القرائن من أي مصدر يراه، فللقاضي أن يستنبط القرينة التي يعتمد عليها من أوراق الدعوى، و إذا أحال الدعوى إلى التحقيق أن يعتمد على أية قرينة تطرح أمامه، و له أن يستنبط القرينة من أقوال الشهود أو من تقرير الخبير.و سنأتي إلى تفصيل ذلك في المبحث الثاني من هذا الفصل[10]
كما أن للقاضي دور إيجابي واسع فيما يخص اليمين المتممة و يوجهها القاضي لأي من الخصمين، وفق ما يتبينه، حسب تقديره لظروف الدعوى وملابساتها و أدلتها،و لا يلزم بتسبيب اختياره للخصم الذي يوجه إليه هذه اليمين،لأنه مجرد توجيهها إليه يكشف على أنه صاحب الأدلة الراجحة في تقديره،أو أنه هو المدعى عليه في الطلب القضائي الموجه إليه، و قد يكون مدعيا إذا كان هذا الطلب عارضا و موجها من المدعى عليه. و الأصل هو براءة ذمته.أو أنه هو الأجدر بالثقة فيه دون خصمه. و اليمين المتممة هي واقعة مادية يلجأ إليها القاضي لاستكمال أدلة الدعوى، أو توكيدا لأدلة أحد خصومها، إذا كان ادعاؤه قريب الاحتمال و بالتالي فهي ليست كاليمين الحاسمة، و سنأتي لإلى تفصيل ذلك في المبحث الثالث من هذا الفصل[11].
ثانيا: اتخاذ ما يلزم من إجراءات اٌلإثبات
إن القاضي في إطار الوقائع التي يدلي بها الخصوم مكلف باستخلاص الصحيح منها ملتزما في ذلك قواعد الإثبات القانونية، و كون القاضي ملزما باستخلاص الوقائع الصحيحة في الدعوى أوجب أن يكون له من تلقاء نفسه أن يحكم باتخاذ ما يراه من إجراءات الإثبات في حدود المقبول منها قانونا. وأن مهمة القاضي أن يبذل أقصى ما يمكن من جهد في هذا الصدد للتوصل إلى كشف الواقع،و إلا كان حكمه واجب النقض.
و من مظاهر إيجابية دور القاضي في الإثبات في هذا الصدد ما يتعلق بالبث في طلب إلزام الخصم بتقديم المستندات الموجودة تحت يده.إذ أن الأصل أن لا يكلف شخص بتقديم دليل ضد نفسه، وأن على كل خصم أن يستجمع بنفسه و بمجهوده أدلته الخاصة،و لا يستلزم من الغير إمداده بها أو تقديمها.
أما بالنسبة لموقف الفقه الإسلامي من هذا الموضوع- إلزام الخصم بتقديم المستند- فنجد في المذهب المالكي فتاوى و أقضية سبق فيها الفقه الإسلامي الفقه الوضعي في تقرير حق الخصم في إلزام خصمه بتقديم وثيقة أو أي رسم آخر بيده له فيه حق. فقد صرح بحق الخصم في ذلك أبو عبد الله التاودي في شرحه أرجوزه ابن عاصم، فجاء فيه:" سأل ابن أبي زيد عن المتخاصمين طلب أحدهما من صاحبه أن يوقفه على وثيقة بيده له فيها حق" فأجاب إذا حضر الخصم وجب إخراج الوثيقة للطالب للنظر فيها و ليس له الامتناع و هي من حق الطالب،و لكن هناك قضاة من المذهب المالكي ذهبوا إلى عكس ذلك فقد أفتى القاضي أبو عبد الله بن سودة و الشيخ أبو محمد عبد القادر الفاسي بأن الخصم لا يلزمه إعطاء موجباته التي بيده لخصمه.
و من أمثلة الإجراءات الأخرى التي يمكن للقاضي اتخاذها لإظهار الحقيقة و لمصلحة العدالة ما نصت عليه المادة 58 من قانون الإجراءات المدنية" يجوز للقاضي أثناء إجرائه للمعاينة أن يسمع شهادة أي شاهد يرى لزوما لسماع أقواله أو يطلب الخصوم سماعه،و له اتخاذ الإجراءات التي يراها لازمة بحضور الشهود إن وجد ضرورة لذلك."
و كذلك ما نصت المادة 118 من قانون المرافعات المصري" للمحكمة و لو من تلقاء نفسها أن تأمر بإدخال من ترى إدخاله لمصلحة العدالة أو لإظهار الحقيقة."
فيرى الأستاذ "موريل" مظهر من مظاهر إيجابية القاضي في أداء العدالة و يحقق اختصام الغير فض نزاعين أو أكثر في قضية واحدة، أو على الأقل جعل الحكم الصادر حجة على المختصم فيمتنع عليه الاحتجاج به[12]
كما تنص المادة 43 قانون الإجراءات المدنية " يجوز للقاضي بناء على طلب الأطراف أو من طلب أحدهم أو من تلقاء نفسه، أن يأمر قبل الفصل في الموضوع أو بموجب أمر شفوي بحضور أحد الأطراف شخصيا أو بإجراء تحقيق أو تقديم وثيقة، و بموجب أمر كتابي بإجراء الخبرة أو التحقيق في الكتابة أو بأي إجراء آخر من إجراءات التحقيق..."
وتنص المادة 48 من قانون الإجراءات المدنية" يعين القاضي الخبير إما من تلقاء نفسه أو بناء على اتفاق الخصوم".
في حين تنص المادة 56 من قانون الإجراءات المدنية" في الحالات التي يأمر فيها القاضي، من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم، بالانتقال إلى المعاينة يحدد يوم وساعة انتقاله ويرسل إخطار للخصوم بدعوتهم لحضور المعاينة".
وتنص المادة 71 من قانون الإجراءات المدنية" يدلي الشاهد بشهادته دون الاستعانة بأية مذكرة وللقاضي من تلقاء نفسه أو بناء على طلب الخصوم أو أحدهم أن يوجه إلى الشاهد جميع الأسئلة اللازمة".
وللقاضي دور إيجابي وفعال في حل المنازعات الإدارية، لأن الإثبات في هاته المنازعات يتم عن طريق التحقيق في الدعوى، وبواسطته، يكون للقاضي الإداري اقتناع في إيجاد الحل المناسب في النزاع.
بالنسبة للدعاوى المدنية، فإقامة الدليل هي قائمة على مبدأ حياد القاضي، لكنه في المنازعات الإدارية، القاضي الإداري له دور في التعامل مع إجراءات التحقيق، وبالتالي في إقامة الدليل، على أن الإجراءات التي تقوم عليها المنازعات الإدارية، هي من الناحية العملية المحضة ذات الصفة التحقيقية، على أن هناك تفاوت في المركز بين الأطراف في النزاع. على أن الإدارة ككل، هي في الغالب طرف في الدعوى، وهي التي يكون بحوزتها وسائل الإثبات. وان الطرف الآخر هو في حاجة إليها، وهو في موقف ضعيف، ولذا يتعين تدخل القاضي الإداري لاسترجاع التوازن بين الطرفين في النزاع.
وإن القاضي الإداري هو صاحب المبادرة في إقامة الدليل، وهو لا يخضع لإدارة الخصوم وله أن يأمر أو يقوم بأي إجراء، من تلقاء نفسه. وهذا نظر للصفة التحقيقية للإجراءات أمام القضاء الإداري.
إن السلطات المخولة للقاضي الإداري قد تحد من تطبيق القاعدة التي تقر بالبينة على من أدعى، و التي تكلف المدعى بإقامة الدليل على ما يدعيه.
فمثلا بالمنازعات المتعلقة بتجاوز السلطة، فالخصم لم تكن له علاقة أو معاملة مع الإدارة، قبل إصدار القرار الإداري المطعون فيه، ولذا قد يصعب عليه تقديم الدليل، وهذا لا يكون ممكنا إلا عن طريق تدخل القاضي.
وان القانون لم ينص على وسائل الإثبات التي يعتمد عليها القاضي الإداري فالمشرع الجزائري أحال على إجراءات التحقيق، بما في ذلك وسائل الإثبات، بمقتضى المادة 171 من القانون الإجراءات المدنية أمام الغرف الإدارية بالمجالس القضائية. والمادة 283 من نفس القانون، وهذا أمام مجلس الدولة[13].
[2] آدم وهيب النداوي - دور الحاكم المدني في الإثبات - ص 198-199-200-201.
[3] آدم وهيب النداوي - نفس المرجع السابق- ص 205
[4] آدم وهيب النداوي - نفس المرجع السابق- ص 205
[5] د/ محمود عبد الرحيم الديب - أسس الإثبات المدني في القانون المصري و الفقه الإسلامي - ص31-32-33-34-35
[6] آدم وهيب النداوي- المرجع السابق - ص 209.
[7] د/ رمضان أبو السعود – المرجع السابق – ص76-77.
[8] د/محمود عبد الرحيم الديب – المرجع السابق – ص 38.
[9] آدم وهيب النداوي / المرجع السابق ص 211-212
[10] د/ محمد حسن قاسم .الإثبات في المواد المدنية و التجارية ص 246-247-248 .
[11] د/ أحمد أبو الوفا الإثبات في المواد المدنية و التجارية 234 .
[12] آدم وهيب الندوي – المرجع السابق ص 213-214-215-225.
[13] د/الغوثي بن ملحة - قواعد و طرق الإثبات و مباشرتها في النظام القانوني في الجزائر- ص 117-118-119-120