دور القاضي في توزيع عبئ الإثبات بموجب القرائن

 المبحث الثاني: دور القاضي في توزيع عبئ الإثبات بموجب القرائن:

_ القرينة هي ما يستخلصه المشرع أو القاضي من أمر معلوم للدلالة على أمر مجهول فهي دليل غير مباشر لا ينصب الإثبات فيها مباشرة على الواقعة محل التداعي و إنما أخرى بديلة يكون من شأن ثبوتها أن يجعل قيام الواقعة الأصلية أو نفيها أمرا محتملا بحكم اللزوم العقلي، و القرائن نوعان قانونية و قضائية[1]

_ تعرف الشريعة الإسلامية القرائن بأنها:" الأمارة التي نص عليها الشارع أو استنبطها أئمة الشريعة باجتهادهم أو استنتجها القاضي من الحادثة و ظروفها و ما يكتنفها من أحوال[2].

_ الأصل أن يقوم المدعي بإثبات كافة العناصر و الشروط التي يجب توافرها لوجود الحق المدعى به، ولكن لأن ذلك يعد تكليفا بما لا يستطاع فإنه يكتفي منه بإثبات ما يجعل وجود هذا الحق مرجحا في جانبه، فمثلا: لو ادعى شخص أنه أقرض آخر مبلغ من المال فإنه مكلف بإثبات عقد القرض الذي ادعى وجوده، وهو مكلف- بحسب الأصل أيضا- بإثبات أن هذا العقد خال من جميع أسباب البطلان بان يثبت بان العقد توفرت فيه كافة الشروط المتعلقة بالتراضي و المحل و السبب وذلك بتوفر أهلية المتعاقدين، وخلو الإرادة من العيوب كالغلط و الإكراه و التدليس وإثبات مشروعية المحل و السبب، ثم بعد ذلك يثبت أن الدين لم ينقض بأي سبب من الأسباب الوفاء كالمقاصة و الإبراء و الوفاء و يقوم بعد ذلك بإثبات أن العقد لم يلحقه أي تعديل بعد انعقاده...الخ. ولكن لا شك أنه لو كلّف المدعي بإثبات حقه على هذا النحو لعد ذلك ضربا من ضروب المستحيل، و من ثم اقتضت الضرورة أن يكتفي منه بأن يثبت ما يرجح وجود الحق في جانبه، ففي هذا المثال يكتفي منه بإثبات وجود عقد القرض، فإذا استطاع إثباته أفترض انه خال من أسباب البطلان، فإذا دفع المدين بأن العقد قد لحقه سبب منها فعليه هو يقع عبئ إثبات ذلك. هذا التوزيع لا بد منه حتى يتسنى للمدعي إثبات ما ادعاه، و الباعث على إقرار هذا التوزيع هو التخفيف من تحمل تبعة هذا العبء.

_ للقاضي دور أساسي في تحقيق هذا التوزيع مستعينا في ذلك بأساليب بعضها من القانون أو الشرع و تسمى القرائن القانونية أو الشرعية و البعض الآخر أساليب يستنبطها بحكم الواقع أي من ظروف الدعوى و هي القرائن القضائية.

المطلب الأول:  دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القانونية:

_ في الفقه القانوني هي بمثابة القرائن التي نص عليها القانون ولم يترك للقاضي أمر تقديرها فهي تعفي الخصم الذي يلجأ إليها من الإثبات و هي قابلة في أصلها لإثبات عكسها ما لم يوجد نص يقضي بخلاف ذلك ( المادة 337 من القانون المدني).

_ في الفقه الإسلامي تسمى بالقرينة الشرعية و هي التي نص عليها الشارع الحكيم أو التي استنبطت من إجتهادات الفقهاء حتى صارت أمرا ثابتا يفتي به المفتون.

_ تقسم القرائن القانونية و الشرعية على حد سواء إلى قرائن قاطعة و قرائن قابلة لإثبات العكس و نتعرض لها فيما يلي:

 

أولا:  بالنسبة للقرائن القانونية القاطعة:

_ لقد عرف الفقه القانوني القرائن القانونية بأنها التي نص القانون على عدم جواز إثبات عكسها إلاّ في حالات خاصة كالإقرار القضائي و اليمين أو إثبات السبب الأجنبي، ومن هذا القبيل ما نصت عليه المادة 139من القانون المدني، في مسؤولية حارس الحيوان عن الضرر الذي يسببه للغير، فهي مسؤولية تقوم على خطأ الحارس، وهو خطأ مفترض لا يقبل إثبات العكس، وما تنص عليه المادة 138 من القانون المدني في مسؤولية حارس الأشياء و ما تنص عليه المادة496 من نفس التقنين من مسؤولية المستأجر عن حريق العين المؤجرة[3]

_أما الفقه الإسلامي فهو يعرف القرائن الشرعية القاطعة بأنها تلك التي تصل في دلالتها على الحكم إلى مرتبة القطع وهذه القرائن اعتبرها الشارع الحكيم مراعاة للمصلحة العامة و بالتالي فإن القاضي ليس له أن يبحث في مدى دلالة هذه القرينة على الحكم، وهذا النوع من أنواع القرائن يعد بينة نهائية كافية للقضاء.

من صور القرائن القاطعة:

1)   نصت المادة 312 من القانون المدني على التقادم بسنة واحدة بالنسبة لحقوق التجار و الصناع على الأشياء التي وردوها لأشخاص لا يتاجرون فيها، و حقوق أصحاب الفنادق و المطاعم عن أجر الإقامة و ثمن الطعام و كل ما صرفوه لحساب عملائهم و المبالغ المستحقة للعمال الأجراء الآخرون مقابل عملهم. وقد أضافت هذه المادة انه يجب على من يتمسك بالتقادم لسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلا. وهذا ما يدل على أن المشرع قد جعل هذا التقادم القصير قائم على قرينة قاطعة تفيد الوفاء بالحق، ومن ثم أجاز دحض هذه القرينة بالنكول عن اليمين، فيجوز من باب أولى دحضها بالإقرار.

2)   نصت المادة338 من القانون المدني على أن الأحكام التي حازت قوة الشيء المقضي به تكون حجة بما فصلت فيه من الحقوق، ولا يجوز قبول أي دليل ينقض هذه القرينة[4].

 

- التفرقة بين القرائن القانونية القاطعة و القواعد الموضوعية:

التفرقة تدق بينهما في كثير من الأحيان لأن هناك قاسم مشترك أعظم بينهما و هو أن كلا منهما مبني على الغالب المألوف، لكن الفارق بينهما يكمن في الصياغة القانونية، ففي القاعدة الموضوعية يجعل المشرع الغالب المألوف حقيقة ثابتة لا يجوز إثبات عكسها بأي طريقة من الطرق إذ أنها لا تعد طريقا من طرق الإثبات وإنما أصبحت قاعدة موضوعية فبلوغ سن الرشد تتفاوت فيه الناس لكن الغالب المألوف أن الشخص يبلغ درجة النضج العقلي اعتبارا من سن (19) تسع عشرة سنة و ما فوق فيقوم الشارع باختبار سن معينة و يجعل بلوغ الرشد لجميع الناس عند هذه السن،هذا مثل عن القاعدة الموضوعية،و لذلك لا يجوز إثبات عكسها بأي طريق من الطرق، إذ لا تعد طريقا من طرق الإثبات، فمن يبلغ هذه السن فلا يعتبر رشيدا و لو كان عبقريا،أما القرينة القانونية القاطعة تعتبر قاعدة إثبات لا قاعدة موضوعية، لذلك يجوز إثبات عكسها أخذا بفكرة نقض الدليل بالدليل و لأنها حجة أقامها الشارع بناء على الغالب الراجح،فهي ليست إلا احتمالا قد يخطئ كما يتفق مع الحقيقية ، و من أمثلة القواعد الموضوعية التي تقوم على قرائن:حجية الأمر المقضي و التقادم و الحيازة في المنقول و مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع و غير ذلك.

-القرينة القانونية القاطعة يجوز دحضها بالإقرار و اليمين:

إذا قلنا أن القرينة القانونية القاطعة لا تقبل إثبات العكس فليس معنى ذلك أنها لا تدحض أبدا، ذلك أن عدم القابلية للدحض لا يكون إلا للقواعد الموضوعية أما القرائن القانونية القاطعة فهي قواعد إثبات و أي كانت المرتبة التي أرادها المشرع لها في القطع و الحسم فهي لا تستعص أن تدحض بالإقرار و اليمين، ذلك أن القرينة القانونية القاطعة لا تزال دليلا من أدلة الإثبات، بل هي تعدو أن تكون دليلا سلبيا إذ تقتصر على الإعفاء من الإثبات فإذا نقضها من تقررت لمصلحته بإقراره أو يمينه فقد دحضها ، و أفضل مثال على ذلك ما سبق ذكره حول تقادم بعض الحقوق بمضي سنة و المنصوص عليها في المادة 312 من القانون المدني حيث أضافت هذه المادة أنه "يجب على من يتمسك بالتقادم لسنة أن يحلف اليمين على أنه أدى الدين فعلا" مما يعني أنه يتم دحض هذه القرينة القاطعة بنكول الخصم عن أداء اليمين المقرر قانونا. كذلك نضرب مثالا آخر عن مسؤولية حارس الشيء المنصوص عليها في المادة 138 من القانون المدني و التي تقيم مسؤوليته على خطأ مفترض غير قابل لإثبات العكس إلا بإثبات السبب الأجنبي فإذا قام المدعي بإثبات مسؤولية المدعى عليه بإثبات الضرر و العلاقة السببية بين الشيء محل الحراسة و الضرر،وقع عبء نفي هذه المسؤولية على المدعى عليه بإثباته للسبب الأجنبي، فإذا عجز عن إثبات ذلك قامت ضده قرينة قاطعة على مسؤوليته اتجاه المدعي ،و لم يمكنه دحض هذه القرينة القانونية القاطعة إلا بإقرار قضائي يصدر عن خصمه(المدعي).

و بالتالي يمكن استنتاج أنه كل ما لا يجوز دحضه باليمين أو الإقرار هو من قبيل القواعد الموضوعية و ليس القرائن القانونية القاطعة.

و قد جاء في آخر نص المادة312 من القانون المدني:" و هذه اليمين توجه تلقائيا من القاضي إلى ورثة المدين أو إلا أوصياؤهم إن كان الورثة قاصرين على أنهم لا يعلمون بوجود دين أو يعلمون بحصول الوفاء"

و من خلال هذا النص يتبين لنا أنه رغم ضيق مجال توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القانونية القاطعة إلا أنه قد يتجلى دور القاضي في عملية التوزيع بموجب بعض هذه القرائن خاصة منها التي يمكن دحضها باليمين و الإقرار القضائي و إثبات السبب الأجنبي، حيث يتبين من المثال السابق [5]

أن القاضي يقوم بتوجيه اليمين إلى المدين أو إلى ورثته  أو أوصيائهم إذا كان الورثة قاصرين رغم أن هؤلاء يملكون دليلا معفيا من الإثبات و هو القرينة القانونية القاطعة المتعلقة بالتقادم القصير المدى و هو دليل كامل لا يحتاج تكملته باليمين المتممة في الأصل لكن في هذه الحالة أراد المشرع توزيع عبء الإثبات بين الدائن الذي يقوم بإثبات وجود الدين من جهة و المدين الذي يدفع بانقضائه بمضي مدة التقادم القصير.و هذا بهدف التخفيف من عبء الإثبات الملقى على عاتق الخصمين.

 و فيما يخص دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن الشرعية القاطعة و التي سبق شرحها و تعريفها بأنها القرائن التي جاء بها الشارع الحكيم الله عز و جل و رسوله الكريم-صلى الله عليه و سلم- و رأي الفقهاء،و هو دليل قاطع معفي من الإثبات غير قابل لإثبات العكس، لكن المستقر عليه أنه يمكن دحض هذا الدليل في بعض أحوال باليمين أو الإقرار خاصة بالنسبة لبعض القرائن الشرعية القاطعة التي أوردها الشارع الحكيم و بالنسبة لأغلبها التي جاء بها فقهاء الشريعة الإسلامية و التي نذكر بعض الأمثلة منها فيما يلي: قوله صلى الله عليه و سلم :"الولد للفراش و للعاهر الحجر" هذه قرينة شرعية قاطعة على ثبوت نسب الولد بمجرد ثبوت البناء (الدخول) بين الزوجين، فما على الزوجة إلا أن تثبت ذلك،فلا يمكن للزوج إثبات عكس هذه القرينة ،لكن في إمكانه دحضها بوسيلة اللعان المنصوص عليها شرعا و هي حلفه لليمين أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين أن الولد ليس من صلبه [6]      و بالتالي تستنتج دور القاضي في هذه المسألة و المتمثل في توزيع عبء إثبات واقعة نسب الولد بين الزوجين الخصمين بموجب القرينة الشرعية القاطعة السابق ذكرها و ذلك بتوجيه اليمين إلى الزوج،فإذا حلف هذا الأخير تنقل اليمين إلى الزوجة

ثانيا: بالنسبة للقرائن القانونية غير القاطعة (البسيطة): 

-عرف الفقه القانوني القرائن القانونية غير القاطعة(البسيطة) بأنها تلك التي تجعل جانب أحد المتداعيين أقوى من الآخر، فهي تعفي الشخص الذي شهدت له من الإثبات، و تغنيه عن أي طريق آخر للإثبات و لكن يحق للخصم إثبات عكسها.

-في الفقه الإسلامي، سواء كانت قرائن شرعية بنص شرعي أو ثابتة بنص فقهي، تعتبر حكما شرعيا يلتزم القاضي بتطبيقه، فيطبق النصوص الشرعية أولا، ثم يقضي بنصوص مذهبه ثانيا ما لم يكن مجتهدا، و القرائن الشرعية غير القاطعة هي تلك التي استنبطها الفقهاء باجتهادهم و اعتبرها الشارع، و لكنه جعل الباب مفتوحا أمام من شهدت عليه لإثبات عكسها.

-من أمثلة القرائن القانونية غير القاطعة:

1.          المادة 61 من القانون المدني:"ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه و يعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على العكس ذلك "فقد راعى المشرع أن الذي يحدث عادة هو أن يعلم الشخص بما يصل إليه وقت وصوله، فأقام هذه القرينة حتى يخفف عن موجه التعبير عبء إثبات العلم و هو أمر يتعذر إثباته. و يجوز لمن وجه إليه التعبير أن ينقض هذه القرينة بدليل عكسي، فيثبت أنه رغم وصول التعبير لم يحط به علما لغيابه(مثلا) أو مرض...إلخ.

2.          المادة 98 من القانون المدني:" كل التزام مفترض أن له سببا مشروعا ما لم يقم الدليل على ما يخالف ذلك، و يعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي ما لم يقم الدليل على ما يخالف ذلك، فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلى من يدعي أن للالتزام سببا آخر مشروعا أن يثبت ما يدعيه" أي أن المشرع قرر قرينة قانونية لصالح الدائن حيث لم يلزمه بإثبات أن الالتزام الذي يطالب به المدين سببا مشروعا، و هذه القرينة بسيطة تقبل النقض بالدليل العكسي، كذلك لم يلزم المشرع الدائن إثبات أن السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي، و إنما أقام قرينة قانونية على أن السبب الحقيقي المذكور في العقد. و لما كانت هذه القرينة غير قاطعة فيجوز للخصم أن ينقض الدليل المستفاد منها، بأن يثبت مثلا أن السبب المذكور في العقد صوري.

3.    المادة 193 من القانون المدني:"إذا ادعى الدائن عسر المدين فليس عليه إلا أن يثبت مقدار ما في ذمته من ديون، و على المدين أن يثبت أن له مالا يساوي قيمة الديون أو يزيد عليها"أي أنه إذا ادعى الدائن عسر المدين، فليس عليه إلا أن يثبت ما في ذمة مدينه من ديون، و عند ذلك تقوم قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس على أن المدين معسر، وينتقل عبء الإثبات بفضل هذه القرينة إلى المدين و عليه هو أن يثبت بأنه غير معسر، ويكون ذلك بإثبات أنم له أموال تساوي قيمة الديون أو تزيد عليها فإن لم يفلح في هذا الإثبات عد معسرا.

4.    المادة 776 من القانون المدني، حيث جاء في معنى هذا النص أن كل تصرف يصدر من المورث في مال من أمواله و هو في مرض الموت يعد صادرا على سبيل التبرع، ما لم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك. فهذه القرينة القانونية الدالة على نية التبرع من شأنها تيسير الإثبات على الوارث فيكفي أن يثبت أن التصرف قد صدر من مورثه في مرض الموت حتى تقوم القرينة فيعد أنه صدر على سبيل التبرع.

و الأمثلة كثيرة ومتنوعة عن القرائن القانونية غير القاطعة في القانون الجزائري.

 

- طرق إثبات العكس في القرائن غير القاطعة:

 يتم نقض القرائن القانونية غير القاطعة وفقا للقواعد العامة في الإثبات فيجوز نقضها بإقرار من قامت القرينة القانونية لمصلحته أو بنكوله عن اليمين الحاسمة التي وجهت إليه أو عن طريق الدليل الكتابي أو بمبدأ الثبوت بالكتابة معززا بالبينة أو القرائن القضائية، كما يجوز الإثبات بالبينة و بالقرائن القضائية إذا استحال الحصول على دليل كتابي أو عند فقده بعد الحصول عليه، ويلاحظ أن القرينة القانونية البسيطة قد يتم استخدامها في إثبات واقعة مادية أو تصرف قانوني لا تزيد قيمته عن النصاب المحدد لشهادة الشهود، وفي هذه الحالة لا يثور أي شك في جواز إثبات عكس هذه القرينة بكل طرق الإثبات وذلك طبقا للقواعد العامة. ولكن قد تستخدم القرينة القانونية البسيطة في إثبات تصرف قانوني تزيد قيمته عن النصاب المحدد للإثبات بشهادة الشهود( ألف دينار جزائري 1000).

وفي هذه الحالة وبما أن القرينة القانونية البسيطة لا تعفي في حقيقتها من الإثبات و إنما تنقل محل الإثبات من الواقعة الأصلية المتنازع عليها إلى واقعة أخرى متصلة بها و هذه الواقعة الأخيرة هي التي يجب إثباتها طبقا للقواعد العامة في الإثبات و بالتالي تقوم القرينة القانونية و تثبت بقتضاها الواقعة الأخرى المتنازع عليها، وإذا أراد الخصم الآخر أن يدحض هذه القرينة فعليه التزام حكم القواعد العامة في هذا الصدد[7].

لكن المشرع عين في بعض الحالات طرق خاصة لإثبات عكس القرينة القانونية غير القاطعة و من أمثلتها:

1- في المثال الذي سبق ذكره حول نص المادة 193 من القانون المدني: حيث أنه إذا أثبت الدائن أي مقدار من الديون في ذمة مدينه قامت قرينة قانونية على إعساره وهذه القرينة تنقض عن طريق إثبات المدين أن لديه أموالا تساوي قيمة هذه الديون أو تزيد عليها.

2- المادة 127 من القانون المدني تنص على أن العلاقة السببية بين الخطأ و الضرر تقوم على قرينة قانونية غير قاطعة، يجوز نقضها بإثبات السبب الأجنبي كالقوة القاهرة أو خطأ المضرور أو عيب في الأشياء المنقولة...الخ.

 3- المادة 496 من القانون المدني، تنص في معناها أن المستأجر يعد مسؤولة عن الحريق في العين المؤجرة مسؤولية قائمة على خطأ عقدي مفروض، ويجوز نفي هذا الخطأ المفترض بأن يثبت المستأجر أن النار قد بدأ نشوبها في الجزء الذي يشغله مستأجر آخر.

- إن كل قرينة قانونية قابلة لإثبات العكس ليست في الواقع إلا توزيعا لعبء الإثبات بين الخصمين، ينص عليه القانون و يتكفل بتطبيقه القاضي، ونرى كذلك مما سبق أن من يحمل عبء الإثبات ليس مطالبا في الواقع من الأمر بإثبات كامل قاطع، ولا هو يكلف بإثبات كل عنصر من العناصر التي تتكون منها الواقعة مصدر الحق المدعى به، وليست الحقيقة القضائية التي يتولى إثباتها بالحقيقة المطلقة التي لا يداخلها الشك، فالقانون يطلب ممن يحمل عبء الإثبات أن يقنع القاضي بأن الأمر الذي يدعيه أمر مرجح الوقوع، وينفي القاضي ما بقي من شك يحوم حول الأمر بأن بنقل عبء الإثبات إلى الخصم الآخر. ليثبت أنه بالرغم من الظواهر التي ترجح وقوع الأمر، توجد قرائن أخرى تجعل الراجح مرجوحا،ثم يرد عبء الإثبات على الخصم الأول ليهدم هذه القرائن بقرائن أخرى، وهكذا يتبادل الخصوم عبء الإثبات، إلى أن يعجز أحدهما عن دحض الدليل الذي تقدم به الخصم الآخر، فيخسر بذلك الدعوى[8].

من الأمثلة عن دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القانونية البسيطة ما يلي:

1- المادة 830 من القانون المدني، جاء في معناها انه عندما يريد الحائز أن يثبت أنه كسب الملكية بالتقادم، أي يثبت أن حيازته استمرت المدة التي حددها القانون لتمام التقادم، هنا يضع القانون قاعدة لتوزيع عبء الإثبات بين الخصوم، فالحائز يحمل عبء إثبات أن حيازته بدأت في وقت معين و أنها قائمة حالا، و هنا يقيم القانون قرينة على أن الحياز استمرت قائمة في المدة ما بين الزمنين، فيتولى القاضي مهمة تكليف الخصم الآخر بالإثبات، فيلقي عليه عبء إثبات أن مدة التقادم قد انقطعت، فانقطع التقادم لسبب من الأسباب.

2- عندما يطالب الدائن مدينه بوفاء التزام مترتب على عقد معين، هنا من المفروض أن يقع عبء إثبات الواقعة القانونية، و هي العقد على عاتق الدائن، فيثبت أن هناك عقدا توافرت فيه كافة عناصره القانونية من التراضي و تنزه الرضاء عن العيوب و وجود السبب المشروع و عدم استحالة مضمونه، و لا شك في ثقل عبء إثبات كافة هذه العناصر إذا ألقي هذا العبء على الدائن وحده، و لهذا و تحت دافع التخفيف من هذا العبء، يتولى المشرع تجزئة عبء الإثبات بين الدائن و المدين، فحسب الدائن هنا أن يثبت وجود الالتزام الذي لم ينفذه المدين، و يقيم المشرع بعد ذلك عدة قرائن تساعد على هذا التخفيف بإلقاء عبء إثبات بعض عناصر الواقعة القانونية على عاتق المدين. مثال ذلك أنه لا يجب على الدائن أن يثبت أن للالتزام سبب مشروع، فلقد تولت قرينة المادة 98 من القانون المدني هذه المهمة بافتراضها أنه إذا لم يذكر في العقد سبب الالتزام، فإنه يفترض أن له سببا مشروعا. ثم يقع على المدين عبء إثبات تخلف السبب المشروع. كما لا يجب على الدائن أن يثبت توافر التمييز و الإدراك أو أن الرضاء كان سليما، فكل هذه العناصر يفترض وجودها، و للمدين أن يثبت عكس ذلك، كما لا يجب على الدائن أن يثبت وجود محل الالتزام. فمثلا لا يجب عليه أن يثبت عدم هلاك المبيع وقت التعاقد و إنما يقع على المدين إثبات أن المحل كان غير موجود لهلاكه قبل التعاقد.

3- إذا باع شخص شيئا يملكه، و بعد موته تنازع ورثته المشتري في أن الثمن المذكور في عقد البيع صوري، و أن البيع قد صدر في مرض الموت فيكون وصية، و من ثم لا ينفذ إلا من ثلث التركة. يوزع القانون عبء الإثبات هنا أيضا بين الورثة و المشتري، فقد نصت الفقرتان الثانية و الثالثة من المادة776 على ما يأتي:" وعلى ورثة المتصرف أن يثبتوا أن التصرف القانوني قد صدر عن مورثهم وهو في مرض الموت و لهم إثبات ذلك بجميع الطرق، ولا يحتج على الورثة بتاريخ العقد إذا لم يكن هذا التاريخ ثابتا. إذا أثبت الورثة أن التصرف صدر عن مورثهم في مرض الموت أعتبر التصرف صادرا على سبيل التبرع ما لم يثبت من صدر له التصرف خلاف ذلك. كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة تخالفه".

فالورثة إذن يحملون عبء إثبات أن البيع قد صدر في مرض الموت.

ومتى أثبتوا ذلك قامت قرينة قانونية على أن العقد مقصود به التبرع و أن ثمنا ما لم يدفع و عند ذلك ينتقل عبء الإثبات إلى المشتري. وعليه أن يثبت انه دفع للبائع ثمنا لا يقل عن قيمة المبيع بمقدار يجاوز ثلث التركة و إلا فإن البيع فيما تجاوز فيه زيادة قيمة المبيع على الثمن ثلث التركة، لا يسري في حق الورثة.

فمن خلال الأمثلة السابق ذكرها يظهر جليا دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بين الخصوم بموجب القرائن القانونية غير القاطعة.

- ومن الأمثلة في الشريعة الإسلامية مسألة اختلاف الزوجين في متاع البيت، حيث أنه إذا اختلف الزوجين في متاع البيت و ادعى كل منهما أن المتاع ملكه، ولم يستطع إحضار البينة، فقد ذهب الحنيفية و المالكية و الحنابلة و الزيدية و الإمامية في الأظهر و الإباضيّة إلى وضع قرينة فقهية متمثلة في أن متاع البيت الذي يصلح للرجال كالعمامة و الكتب و السيف يعطى للزوج و المتاع الذي يصلح للنساء كالحلي و الثياب يعطى للزوجة، للقرينة القائمة على العرف و العادة في صلاحية كل نوع لصاحبه، وأنه لا عبرة لليد الحسية فيها ثم اختلفوا في المتاع الذي يصلح للرجال و النساء معا كالآنية و الذهب و الفضة و العقار و الأثاث. فقال المالكية و الحنفية: يقضى به للرجال، لأن البيت بيت الرجل في العادة، و المرأة تحت يده واليد قرينة و دلالة من دلالات الظاهر على المالك، وقال الإمام أحمد بن حنبل وابن القاسم من المالكية و الإمامية وعثمان البتى وعبد الله بن الحسن والحسن بن زيد و زفر في أحد قوليه: إن ما يصلح لهما يقسم بينهما بعد اليمين لإشتراكهما في اليد[9]. و من خلال هذه القرينة الفقهية يقوم القاضي بتوزيع عبء الإثبات بين الزوجين، حيث ترجح القرينة كفة الزوج فيما يكون عادة ملكا للرجال من متاع البيت فلا يحتاج إلى إثبات ذلك بدليل آخر في حين ينتقل عبء الإثبات إلى الزوجة لتقديم البينة على ملكية هذه الأشياء فإذا نجحت في ذلك قضي لها بما طلبت و إذا أخفقت خسرت الدعوى، و نفس الحكم بالنسبة للمتاع الذي يصلح للنساء، و المتاع الصالح للرجال و النساء معا.

 

المطلب الثاني: دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القضائية :

 - تنص المادة 340 من القانون المدني:" يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، و لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فبها القانون الإثبات بالبينة". فالقرينة القضائية هي نتيجة يستخلصها القاضي من واقعة معلومة لواقعة غير معلومة و لذلك تعد القرائن القضائية من أدلة الإثبات غير المباشرة، حيث تثبت الواقعة أو يثبت التصرف بطريق غير مباشر عن طريق ثبوت واقعة أخرى قريبة منها أو متصلة بها. فمثلا إذا أثبت المستأجر أنه قام بدفع الأجرة عن شهر معين، أمكن للقاضي أن يستخلص من ذلك دفع الأجرة عن الشهر السابق، وقد تكون الواقعة المتنازع عليها هي سرعة السيارة أثناء وقوع الحادث، فيقوم قاضي الموضوع بتحديد سرعة السيارة وذلك استنباطا من واقعة أو وقائع أخرى مثل أن تكون آثار جهاز التوقيف ( الفرامل) طويلة وحالة السيارة و حالة الطريق وهكذا. فإذا ثبت للقاضي الوقائع الأخيرة أمكنه أن يستنبط سرعة السيارة أثناء الحادث فنكون بصدد قرينة قضائية أقامها القاضي وبذلك تختلف القرينة القضائية عن القرينة القانونية، ففي القرينة الأخيرة يتولى المشرع بنفسه عملية الاستنباط ثم يفرض الواقعة التي استخلصها على القاضي و الخصوم فرضا.

أما في الشريعة الإسلامية فالقرائن القضائية هي تلك التي يستخلصها القاضي من ظروف الدعوى و ملابساتها، فأمر استخلاص هذه القرائن قد تركه الشارع للقاضي ليستنبطه كيفما شاء، وحسبما أراد وأطلق له الحرية، فكلما اقتنع القاضي باستنباط أمر حكم بمقتضاه وإلا فلا. وهذا الأمر يستلزم من القاضي ألا يحكم بهذا الاستنتاج إلا وضميره مطمئن، وهذا لا يكون إلا حيث تكون القرائن قوية، متصلة بالواقعة المتنازع فيها اتصالا مباشرا. و القرائن القضائية لا تقع تحت حصر لأنها وليدة الظروف و الحوادث، وعلى كل حال فالمدار في استخلاصها على ذكاء القاضي وفطنته، فينبغي عليه ألا يبعد في الاستنباط عما يظهر من الحوادث. و من قبيل هذا النوع من القرائن، ما يقضي به الرسول صلى الله عليه و سلم في قصة قتل أبي جهل، وذلك أن إبني عفراء تداعيا قتل أبي جهل فقال(ص):" هل مسحتما سيفيكما؟" قالا: لا، فقال:" فأرياني سيفيكما" فلما نظرا فيهما، قال لأحدهما:" هذا قتله" وقضى له بسلبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب لأحدهما اعتمادا على أثر الدم على السيف، وأثر الدم قرينة من القرائن التي ترجح جانب أحد المتداعيين، ومن قبيل هذه القرائن – أيضا – ما قضى به نبي الله سليمان- عليه السلام- في أمر المرأتين اللتين ادعتا الولد، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله(ص) قال:" كانت امرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت لصاحبتها، إنما ذهب ابنك، و قالت الأخرى:إنما ذهب بابنك فتحاكما إلى داود- عليه السلام- فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان –عليه السلام-فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فسمحت الكبرى بذلك، فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى".  و يظهر من سياق القصة أن سليمان قضى به للصغرى، مخالفا بذلك رأي أبيه، الذي قضى به للكبرى، بناءا على ما انفتح في ذهنه –عليه السلام- من أن الحامل للصغرى على الاعتراف بأن الولد ليس ابنها، وامتناعها عن المخاصمة إنما هو الشفقة و الحنان اللذان أودعاهما الله قلوب الأمهات، كما فهم من رضي الكبرى بشق الولد بينهما أنه ليس ابنها، وإنما أرادت الكيد للصغرى بقتل ولدها، كما ذهب الذئب بولدها هي حقدا و حسدا[10].

و سنتطرق في هذا المطلب إلى السلطة التقديرية للقاضي في استنباط القرائن القضائية في العنصر الأول و إلى سلطة القاضي في تقدير الإثبات بالقرائن القضائية و توزيع عبء الإثبات بموجبها.

 


أولا: السلطة التقديرية للقاضي في استنباط القرائن القضائية:

- يقتضي استنباط القرينة القضائية توافر عنصرين أو ركنين:

1)         العنصر الأول:وجود واقعة أو وقائع ثابتة ذات صلة بالواقعة المتنازع عليها و يطلق على هذه الواقعة اصطلاح الدلائل أو الأمارات(Indices)، فلا بد إذن في هذه الواقعة أن تكون ثابتة فالقرنية هي استنباط أمر مجهول من واقعة ثابتة، بحيث إذا كانت هذه الواقعة محتملة و غير ثابتة فإنها لا تصلح مصدرا للاستنباط و نعرض فيما يلي إلى بعض صور الوقائع الثابتة و التي يمكن أن يستخلص منها الأمر المجهول و المتنازع عليه:

* يجوز الاعتماد على عقود الإيجار و إيصالات الأجرة عن مدة لا يدخل فيها شهر الأساس أو لأماكن أخرى مماثلة في ذات العقار قرينة قضائية لإثبات الأجرة القانونية.

* لمحكمة الموضوع أن تقول في حكمها على ما ورد في شكوى إدارية، أو ما مرد في محضر جمع الاستدلالات أو محضر الشرطة أو في أي تحقيقات إدارية أو قضائية، أو من أقوال شهود سمعوا في غير مجلس القضاء.

*يجوز المحكمة الموضوع التعويل في حكمها على حكم صادر في قضية أخرى لم يكن الخصم طرفا منها وذلك كقرينة قضائية.

*يجوز أن يعتمد القاضي في استنباط القرينة على أقوال شهود سمعوا في قضية أخرى حتى ولو أطرحت المحكمة الذي سمع أمامها الشهود التحقيق منها.

*يجوز استنباط القرائن من أقوال شهود سمعهم الخبير بدون حلف اليمين و من المعاينة التي أجراها و من المستندات المقدمة إليه.

*يجوز أن تستخلص القرنية القضائية من يمين لكل الخصم عن حلفها أو من إقرار صادر عن الخصم.

ويلاحظ في تلك الواقعة الثابتة أنه يجب أن يكون لها أصل في الأوراق، فلا تستنبط القرينة من أوراق خارج ملف الدعوى.

كما لا يجب أن تكون الواقعة الثابتة سكوتا عن التمسك بأمر مخالف للنظام العام، فمثل هذا السكوت لا يصلح أن يكون قرينة على الواقعة الأخرى المتنازع عليها.

ويلاحظ أنه في خصوص العنصر الأول تتمتع محكمة الموضوع بسلطة واسعة في استخلاص القرائن بمعنى أن لهذه المحكمة اختيار ما شاءت من وقائع ثابتة في الأوراق لكي تستخلص منها القرينة المطلوبة، وبذلك يكون مفاد نص المادة 340 من القانون المدني أن لقاضي الموضوع السلطة المطلقة في استنباط القرائن التي يعتمد عليها في تكوين عقيدته غير مقيد في ذلك بالقاعدة التي تفرض عليه ألا يبني اقتناعه على وقائع لم تثبت بالطرق القانونية أو على وثائق لم تكن محل مناقشة الخصوم.

2) العنصر الثاني:  يتمثل هذا العنصر في عملية الاستنباط التي يقوم بها قاضي الموضوع، حيث يستخلص من الواقعة الثابتة لديه واقعة أخرى يراد إثباتها، حيث يقتنع القاضي بان الصلة بين الواقعة أو الوقائع الثابتة و بين الوقائع المتنازع عليها تجعل احتمال حصول الواقعة الأخيرة غالبا، وذلك على أساس أن الغالب و المألوف في العمل أنه كلما وجدت الوقائع الأولى ترتبت عليها بالضرورة الواقعة المتنازع عليها، وهذه هي عملية الاستنباط و الاستخلاص. وحصول هذا الاقتناع مسألة شخصية و نفسية أساس تتوقف على القاضي كإنسان، وتختلف باختلاف عقليات القضاة. و هنا مكمن الخطر في هذه الوسيلة من وسائل الإثبات، إذ من الواضح أنها تترك للقاضي حرية واسعة في التقدير وهي حرية قد لا يحسن استخدامها لعدم توافر مقومات الإدراك السليم و الفطنة الصحيحة لديه.

- مجال الإثبات بالقرائن القضائية: تقضي المادة  340 من القانون المدني بأنه لا يجوز الإثبات بهذه القرائن، إلا في الأحوال التي يجوز فيها الإثبات بالبينة( شهادة الشهود)، فقد رأينا أن للقاضي سلطة استخلاص واقعة ثابتة متصلة بها، و هذا يتضمن في حقيقة الأمر توسع لدور القاضي في عملية الإثبات بما يشمله من التخفيف من نظام الإثبات المقيد،و لهذا يكثر الإثبات بالقرائن القضائية في الميدان العملي، نظرا لتعذر أو صعوبة الإثبات المباشر الذي ينصب على ذات واقعة النزاع في كثير من الأحوال، لذلك اعتبر المشرع القرائن القضائية من الأدلة المقيدة لا المطلقة، و لهذا نص على أنه لا يجوز الإثبات بالقرينة إلا في بعض الحالات، و هي الحالات التي يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود، أي الوقائع المادية بصفة عامة و التصرفات التجارية، و التصرفات المدنية التي لا تتجاوز قيمتها ألف دينار جزائري، فالملاحظ أنه لو أجيز الإثبات بالقرائن القضائية لما لا يجوز إثباته بالبينة لأمكن تصور الإحتيال على النصوص التي لا تجيز الإثبات بالبينة.


-الفروق بين القرائن القضائية و القرائن القانونية:

* إن مجال إعمال القرائن القضائية كما رأينا محدود بمجال جواز الإثبات بشهادة الشهود، فحيث لا يجوز الإثبات بالبينة لا يجوز الإلتجاء إلى القرائن القضائية، أما القرائن القانونية فليس لها مجال معين لأعمالها. فمثلا صدور التصرف في مرض الموت يعد قرينة قانونية على أنه تصرف صادر على سبيل التبرع أيا ما كانت قيمته، أيضا فإن الوفاء بقسط من الأجرة يعد قرينة قانونية على الوفاء بالأقساط السابقة عليه أياما كانت قيمة كل منها.

* رأينا أن القرائن القانونية لا تنشأ إلا بنص القانون و حيث يقوم القانون باختيار واقعة معروفة و ثابتة ليستنبط منها واقعة غير معروفة و غير ثابتة، و هي التي تكون محلا للدعوى أو الدفع. أما القرائن القضائية فلا تنشأ بنص القانون و إنما الذي يقوم باستخلاصها و استنباطها هو قاضي الموضوع. و لذلك فالقرينة القانونية -على خلاف القرينة القضائية- يفرضها المشرع فرضا على الخصوم و على القضاة أيضا. و لذلك أيضا فإن القرائن القانونية مذكورة في القانون على سبيل الحصر بخلاف القرائن القضائية التي تستعصي على الحصر.

* و يترتب على ما تقدم أن القاضي لا تكون له سلطة تقديرية بشأن القرينة القانونية حيث يكون للخصم الذي تقررت القرينة القانونية لصالحه أن يتمسك بها، أما في القرائن القضائية فقد رأينا أن للقاضي السلطة الكاملة في استخلاص هذه القرائن و في تقدير حجيتها و لذلك ليس للخصوم هنا سوى أن يطلبوا من القضاء تقرير قرينة قضائية يستقل هو بتقديرها[11].

- تحول بعض القرائن القضائية إلى قرائن قانونية: قد يحدث و يتكرر استنباط القضاة للقرائن على نحو معين، فتستقر عليها المحاكم و يتوحد تطبيقها في مختلف الدعاوى، فيصبح الأمر وكأنه ملزم بالمحاكم، عندئذ قد يرى المشرع أنه من المناسب اعتبار هذه القرائن جديرة بتوحيد دلالتها فيرفعها إلى مرتبة القرينة القانونية، فالقرينة القانونية ليست في الواقع من الأمر إلا قرينة قضائية قام القانون بتعميمها و تنظيمها فإذا اضطرت أحكام القضاء على تقرير قرينة قضائية معينة وطال الزمن على هذا المسلك و ساد الاعتقاد بلزومها، فإنه يمكن القول بنشوء عرف قضائي يعد مصدرا لقرينة قانونية، ومثال ذلك اعتبار مجرد تهدم البناء قرينة على خطأ حارس البناء، فتلك قرينة قضائية إضطردت عليها أحكام القضاء قبل أن ينص عليها القانون باعتبارها قرينة قانونية. وأيضا قد جرت الأحكام على اعتبار الوفاء بقسط من الأجرة قرينة قضائية على الوفاء بالأقساط السابقة، ثم أتى القانون المدني فنص عليها باعتبارها قرينة قانونية[12]

 

ثانيا: سلطة القاضي في تقدير الإثبات بالقرائن القضائية:

- سلطة محكمة الموضوع في تقدير القرائن:

رأينا أن محكمة الموضوع تتمتع بسلطة واسعة في استخلاص القرائن مما هو مطروح عليها من وقائع لها أصل في الأوراق، و لنشير هنا إلى أن للمحكمة كذلك السلطة الكاملة في تقدير القرائن، فتقدير الأدلة و القرائن مما يستقل به قاضي الموضوع متى كانت مستمدة من أوراق الدعوى و مستخلصة منها استخلاصا سائغا فيكون النعي في هذا الشأن مجادلة في سلطة القاضي في ترجيح استخلاص على آخر بغية الوصول إلى نتيجة أخرى وهو ما لا يجوز، وإذا كانت للمحكمة هذه السلطة فإنه يشترط ألا يكون استخلاصها للقرائن مخالفا للثابت في الأوراق، فإذا تقيدت بهذا القيد كان لها أن تأخذ بالقرينة، أو تطرح الأخذ بها إذا تطرق إليها الشك، و لإن كان لمحكمة الموضوع السلطة الكاملة في تقدير القرائن القضائية و إطراح ما ترى الأخذ به منها، إلا أن ذلك مشروط بأن تكون قد اطلعت عليها و أخضعتها لتقديرها بحيث إذا بان أنها لم تطلع عليها و بالتالي لم تبحثها فإن حكمها يكون قاصرا قصورا يبطله. و لكن لا تلتزم محكمة الموضوع بتنفيذ كل قرينة مناهضة يدلي بها الخصم أمامها. و إذا كان تقدير القرائن هو ما يستقل به قاضي الموضوع، فلا شان للمحكمة العليا فيما يستنبطه منها متى كان استنباطه سائغا، ولذلك لا يجوز التمسك بالقرائن لأول مرة أمام المحكمة العليا.

 

- جواز نقض القرينة القضائية بكافة طرق الإثبات:

  تعد القرينة القضائية حجة متعدية غير ملزمة، وقد رأينا أن مجال الإثبات بالقرائن القضائية هو ذات المجال للإثبات بشهادة الشهود. إذن فالقرائن القضائية تأخذ حكم البينة فهي غير قاطعة ولذلك تقبل دائما إثبات العكس، إما بالكتابة أو بشهادة الشهود أو بقرينة مثلها أو بغير ذلك من أدلة الإثبات، فالقرينة القضائية في هذا الصدد مثلها مثل القرينة القانونية البسيطة (غير القاطعة)، فالقرائن القضائية هي من الأدلة التي لم يحدد القانون حجيتها و التي أطلق للقاضي في الأخذ بنتيجتها وعدم الأخذ بها، كما أطلق له في أن ينزل كل قرينة منها من حيث الأهمية و التقدير المنزلة التي يراها.

 

-قوة الإثبات المحدودة للقرائن القضائية: [13]

رأينا فيما سبق أنه ينحصر مجال الإثبات بالقرائن القضائية في المسائل التي تقبل الإثبات بشهادة الشهود، إذن فلها نفس قوة الإثبات المحدودة التي تتميز بها هذه الأخيرة، أي أن لها قوة مطلقة في إثبات الوقائع المادية و التصرفات القانونية التجارية، وتبقى بعد ذلك التصرفات القانونية المدنية وهذه ليس لها فيها إلا قوة إثبات محدودة، و قد وضع القانون في ذلك قاعدة عامة ثم أورد عليها استثناءات معينة:

 

1. القاعدة العامة: فيها شقين:

أ- لا يجوز إثبات التصرفات القانونية المدنية إذا زادت قيمتها على ألف دينار جزائري إلا بالكتابة: معنى ذلك أن التصرف القانوني لا يجوز إثباته بالقرائن القضائية إلا إذا كانت قيمة الالتزام الناشئ عن هذا التصرف لاتزيد عن ألف دينار، إلا إذا ووجد اتفاق أو نص في القانون يجيز الإثبات بالقرائن القضائية، فنستنتج أن هذه القاعدة ليست من النظام العام ما دام الاتفاق على مخالفتها ممكنا، هذا من جهة أما من جهة أخرى فوجب تحديد التصرفات القانونية المدنية التي تسري عليها القاعدة بالدرجة الأولى ثم تحديد قيمة الالتزامات الناشئة عن هذه التصرفات.

* تحديد التصرف القانوني: قد يكون اتفاقا أو عقدا و قد يكون تصرفا قانونيا صادرا عن إرادة فاصلة منفردة، فتدخل في نطاق الاتفاقات أو العقود تلك التي تنشأ الالتزام أو تنقل الحق العيني أو تلك التي تقضي الالتزام أو تنقله أو آثار قانونية أخرى. وتدخل في نطاق التصرف القانوني الصادر عن إرادة منفردة الإيجاب الملزم، والقبول، و الوعد بجائزة و الإجازة و الإقرار و الاعتراف بدين طبيعي، كل ذلك سواء اشترط القانون كتابة رسمية أو عرفية سواء للإثبات أو للانعقاد.

* تحديد قيمة الالتزام: يجب ألا تزيد قيمة الالتزام عن ألف دينار جزائري حتى يجوز إثباته بالقرائن القضائية، فإذا كان محل الالتزام مبلغا من النقود يسهل تحديد قيمته أما إذا كان شيئا غير النقود، قدر القاضي قيمته وقت صدور التصرف لا وقت المطالبة، و لا عبرة بما يطرأ عليها بعد ذلك من نقص أو زيادة، أما إذا كان الالتزام غير محدد القيمة فلا يجوز إثباته بالقرائن القضائية، لكن يجوز الإثبات بها إذا كانت زيادة الالتزام على ألف دينار جزائري لم تأت إلا من ضم الملحقات إلى الأصل و إذا شملت الدعوى على طلبات متعددة ناشئة عن مصادر متعددة جاز الإثبات بالقرائن القضائية في كل طلب لا تزيد قيمته على ألف دينار جزائري ولو كانت هذه الطلبات جميعها تزيد على هذه القيمة، ولو كان منشؤها علاقات بين الخصوم أنفسهم أو تصرفات قانونية من طبيعة واحدة، وكذلك الحكم في كل وفاء لا تزيد قيمته عن تلك القيمة.

ب- لا تقبل القرائن القضائية فيما يخالف الكتابة أو يجاوزها:

وهذه تخضع في تطبيقها إلى شروط هي:

 

*وجود كتابة أعدت للإثبات: وهي الكتابة التي وقع عليها المدين رسمية أو عرفية، أما الأوراق غير المعدة للإثبات فيجوز إثبات ما يخالفها أو يجاوزها بالقرائن القضائية فهذا الشرط يقتضي وجود كتابة معدة للإثبات وتكون دليلا كاملا في غير التزام تجاري أيا كانت قيمة الالتزام الثابت بهذا الدليل الكتابي الكامل.

 

*إثبات ما يخالف الكتابة أو يجاوزها: لا يجوز إثبات ما يخالف الكتابة أو ما يجاوزها إلا بالكتابة، أما إذا أريد إثبات شيء متعلق بما هو ثابت بالكتابة لكنه ما يخالفها ولا يجاوزها فإن إثبات ذلك يكون وفقا للقواعد العامة مثال: إثبات انقضاء الالتزام الثابت بالكتابة.

*الإثبات مقصور على العلاقة فيما بين المتعاقدين: وكالمتعاقدين الخلف العام، أما الغير فيجوز له إثبات وجود التصرف نفسه بالقرائن القضائية و لو زادت قيمته عن ألف دينار جزائري (1000) بجميع الطرق.


2.    الاستثناءات:

 هناك نوعان من الاستثناءات:

و كلا النوعين يسمح للخصم بالإثبات بالقرائن القضائية التصرفات المدنية حتى لو زادت قيمة الالتزام على ألف (1000)دينار جزائري وحتى ولو كان المراد إثبات ما يخالف الكتابة أو يجاوزها:

 

أ- مبدأ الثبوت بالكتابة:[14] ولهذا المبدأ ثلاثة أركان هي: أن تكون هناك ورقة مكتوبة – أن تكون هذه الورقة صادرة من الخصم الذي يحتج بها عليه أو ممن يمثله- وأن يكون من شأن هذه الورقة أن تجعل وجود التصرف القانوني قريب الاحتمال.

 

ب- قيام المانع من الحصول على الكتابة أو من تقديمها:[15]

 

* قيام المانع من الحصول على الكتابة: سواء كان المانع ماديا أو أدبيا.

 

* قيام المانع من تقديم الورقة لفقدها بسبب أجنبي: إذا أثبت الخصم أنه حصل فعلا على سند مكتوب و أن هذا السند قد فقد وأن هذا الفقد كان بسبب أجنبي لا يد له فيه.

 

- وفي الأخير نعطي بعض الأمثلة عن دور القاضي في توزيع عبء الإثبات بموجب القرائن القضائية في مايلي:

 

* يريد دائن الشريك المدير في شركة التضامن أن يثبت أن العقد الذي وقعه هذا المدير كان لحسابه الخاص لا لحساب الشركة، فحسبه أن يثبت أن هذا الشريك قد وقع باسمه و دون ذكر لعنوان الشركة و عندئذ يستنبط القاضي من هذه الواقعة الثابتة قرينة قضائية على أن هذا العقد تم إبرامه لحساب الشريك دون الشركة وهذه القرينة توزع عبء الإثبات بين الخصمين، فيلقى على عاتق الشريك عبء إثبات عكس هذه القرينة.

 

* شخص يريد أن يثبت له حيازة المنزل محل النزاع، فيقدم مستندات تثبت أنه هو الذي يؤجر المنزل و يقبض أجرته ويدفع ضريبته، فيستنبط القاضي قرينة قضائية على أنه هو الحائز للمنزل و عند ذلك يتم توزيع عبء الإثبات بين الخصمين فيلقي على عاتق الخصم الآخر عبء دحض هذه القرينة، بأن يثبت مثلا أن الخصم الأول يؤجر المنزل ويدفع الضريبة لا لحسابه الشخصي بل لحساب المالك الذي يدير هو أعماله.



[1]  نبيل ابراهيم سعد وهمام محمد محمود زهران- أصول الإثبات في المواد التجارية و المدنية - ص 341

[2]  محمد فتح الله النشار – المرجع السابق - ص 175

[3]  قرار صادر عن المحكمة العليا: ملف رقم 30064 بتاريخ 02/03/1983 / المجلة. ق. لسنة 1987. ص 27.

 

[4]  المشرع يفرض فرضا غير قابل للعكس أن الحكم هو عنوان الحقيقة و ذلك باعتبار أن الحكم متى فصل في خصومة كان لابد من الوقوف عنده لوضع حد لتجدد الخصومات و المنازعات، فلا يجوز للخصم المحكوم عليه أن يعيد طرح النزاع على القضاء بدعوى مبتدأة، هذا من جهة و من جهة أخرى باعتبار أنه إذا سمح القانون بتجديد النزاع بدعاوى مبتدأة لجاز لكل من الخصمين أن يحصل على حكم يتعارض مع الحكم الذي حصل عليه الخصم الآخر.

- حجية الأمر المقضي ليست من النظام العام من المسائل المدنية بحسب نص المادة 338 من القانون المدني التي جاء فيها أنه لا يجوز للمحكمة أن تأخذ بهذه القرينة تلقائيا.

- لا تقوم حجية الأمر المقتضي إلا إذا توافر مجموعة من الشروط منها ما يتعلق بالحكم و منها ما يتعلق بالحق المدعى به:

(1) الشروط المتعلقة بالحكم : - أن يكون حكما قضائيا – أن يكون حكما قطعيا – أن بكون التمسك بالحجية في منطوق الحكم لا في أسبابه.

(2) الشروط المتعلقة بالحق المدعى به : - اتحاد الخصوم – اتحاد المحل – اتحاد السبب.

* قرار صادر عن المحكمة العليا : ملف 174.416 قرار بتاريخ 03/02/1999 م ق عدد 01 سنة 1999 ص 97 (أنظر الملحق)

[5]  المادة 312 من القانون المدني .

 

[6] د/ محمد الزحيلي -  وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية في المعاملات المدنية و الأحوال الشخصية - ص 517   

[7]   رمضان أبو السعود – المرجع السابق – ص 227.

[8]   د/ عبد الرزاق السنهزري – المرجع السابق – ص 83.

[9]   د/ محمد الزحيلي – المرجع السابق – ص 491.

[10]  محمد فتح الله النشار – المرجع السابق – ص 185.

[11]   د/ رمضان أبو السعود – المرجع السابق – ص 248.

[12]   المادة 499 من القانون المدني.

[13]   المادة 333 من القانون المدني.

[14]   المادة 335 من القانون المدني.

[15]   المادة 336 من القانون المدني.

ابحث عن موضوع