المبحث الثاني: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب الإقرار و اليمين الحاسمة
المطلب الأول: دور الخصوم في توزيع عبءالإثبات بموجب الإقرار:
- الإقرار هو اعتراف شخص بحق عليه لآخر، ويكون قضائيا إذا ما تم هذا الإقرار أمام القضاء، و الإقرار قد يكون صريحا أو ضمنيا وقد يكون الإقرار الصريح مكتوبا أو شفويا ولا يشترط شكل خاص في هذه الكتابة ( المادة341 من القانون المدني).
وسنتطرق فيما يلي إلى:
العنصر الأول: قواعد الإقرار
العنصر الثاني: التجزئة في الإقرار
أولا: قواعد الإقرار
- يتبين من نص المادة 341 من القانون المدني أن للإقرار أركانا أربعة:
* اعتراف الخصم:
أي أن الاعتراف هو تقرير الخصم بواقعة معينة على أنها حصلت و هذا التقرير خلافا لباقي طرق الإثبات يحمل وصفين: واقعة مادية و تصرف قانوني، بل يمكننا القول أنه واقعة مادية تنطوي على تصرف قانوني أي واقعة مختلطة، وهذا الوصف له نتائجه القانونية. فالإقرار، من حيث أنه واقعة مادية لا حاجة في تمامه إلى قبول الخصم الآخر ولا يجوز للمقر بعد ذلك الرجوع فيه، أما من حيث أنه ينطوي على تصرف قانوني من جانب واحد فيشترط لصحته ما يشترط لصحة التزام المقر بالواقعة التي أقربها، أي أن يكون المقر أهلا للالتزام وأن تكون إرادته غير مشوبة بعيب من عيوب الإرادة و التوكيل فيه يكون بوكالة خاصة لأن الإقرار من أعمال التصرف ( المادة 574 من القانون المدني).
* واقعة قانونية مدعى بها:
يجب أن ينصب الإقرار على واقعة قانونية مدعى بها على المقر سواء كانت واقعة مادية أو تصرفا قانونيا،لذلك يجب أن يكون محل الإقرارمعينا تعينا كافيا مانعا للجهالة، و يكون الإقرار صوريا إذا كان محله يكذبه ظاهر الحال، كذلك يجب أن يكون محل الإقرار مما يجوز التعامل فيه، فالإقرار بشيء مخالف للقانون أو للنظام العام أو للآداب غير صحيح، ويترتب على ذلك أنه لا يصح الإقرار بدين مراهنة أو قمار، ولا الإقرار بالتعامل في المخدرات، وغيرها مع أنه لا يمنع من قبول هذه الإقرارات في المسؤولية الجنائية، ويصح الإقرار في التصرف أيا كانت قيمته ولو زادت عن نصاب الشهادة فللإقرار حجية مطلقة.
* أمام القضاء:
هذا الركن الذي يميز بين الإقرار القضائي و الإقرار غير القضائي، حيث يعتبر إقرارا قضائيا كل إقرار صادر أمام كل جهة نظمها القانون من جهات القضاء ويشترط أن تكون الجهة القضائية مختصة اختصاصا موضوعيا , كما يجوز أن يصدر الإقرار أمام المحكمين، ولكن الإ قرار الصادر أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق لا يعتبر إقرارا قضائيا .
* أثناء سير الدعوى:
يجب أن يصدر الإقرار خلال إجراءات الدعوى التي يكون الإقرار فيها دليل الإثبات، وذلك يكون في أي مرحلة من إجراءات الدعوى ابتداءا من العريضة الافتتاحية إلى غاية النطق بالحكم، ولكن الإقرار الذي يصدر في إحدى الدعاوى و يكون فيها إقرارا قضائيا، لا يكون في دعوى أخرى ولو بين الخصمين وفي نفس الواقعة إقرار قضائيا، لأن قوته مقصورة على الدعوى التي صدر فيها، كذلك فإن الإقرار أمام محكمة غيرمختصة من ناحية الولاية أو من ناحية الاختصاص الموضوعي لا يعد إقرارا قضائيا، بخلاف الإقرار أمام محكمة غير مختصة من حيث المكان.
- حجية الإقرار:
تنص المادة 342 من ف 01 من القانون المدني " الإقرار حجة قاطعة على المقر"[1].
معنى ذلك أن الواقعة التي أقر بها الخصم تصبح في غير حاجة إلى إثبات، و الإقرار لا يكون حجة لمقر لأن الشخص لا يصطنع الدليل لنفسه و لا يكون إلا حجة عليه، كما يمكن لهذا الأخير الطعن فيه بالصورية أو بوجود عيب من عيوب الإرادة أو فقدان الأهلية، أما في غير هذه الحالات فإنه لا يجوز الرجوع في الإقرار القضائي و لا يجوز إثبات عكسه ومن ثم يصبح الإقرار طريق معفي من الإثبات لا طريق إثبات ذلك أنه يعفي الخصم المقرله من عبء الإثبات وينقله إلى المقر الذي يقع عليه عبء الإثبات عدم صحة إقراره بأن يطعن فيه بأحد الأسباب التي تقدم ذكرها،و الإقرار القضائي يصلح أيضا أن يكون مبدأ الثبوت بالكتابة لواقعة متصلة بالواقعة التي تضمنها بالذات. وتجدر الإشارة إلى أن الإقرار حجة قاصرة على المقر وخلفه العام( ورثته) فلا يتعدى أثره إلى غيرهم، سواء كانوا: دائنين، أو شركاء أو الخلف الخاص. و فيما يخص الخلف العام فلو مات المدعى عليه بعد الإقرار و قبل الحكم في الدعوى، فإن الإقرار لا يكون حجة عليهم ولهم أن يثبتوا عدم صحته بجميع الطرق، ولكن إذا صدر الحكم قبل موت المورث وفي مواجهته، فإنه يسرى على الورثة، ذلك أنهم وقت صدور الحكم ضد مورثهم كان يسري في حقهم باعتبارهم ورثة ( خلفا عاما).
- في الفقه الإسلامي الإقرار يكون إما شفهيا أو مكتوبا فالعبرة في الإقرار المكتوب بالإشهاد عليه، فإن لم يستشهد المقر على كتابه بشهود فالكتاب لا يصلح إقرارا، كذلك يبطل الإقرار بعد وجوده بتكذيب المقر له المقر في حقوق العباد، وبرجوع المقر عن الإقرار في حقوق الله تعالى،و للمقرأن يرجع في إقراره للإكراه لا للغلط.[2]
ثانيا: التجزئة في الإقرار
تنص المادة 342 ف 02 من القانون المدني:" و لا يتجزأ الإقرار على صاحبه إلا إذا قام على وقائع متعددة و كان وجود واقعة منها لا يستلزم حتما وجود الوقائع الأخرى".
يمكن تقسيم الإقرار القضائي إلى أنواع هي:
* الإقرار البسيط:
إذا اقتصر الإقرار على تصديق المدعي للمدعى عليه في جميع ما ادعاه، و لا محل في النظر إذا كان يتجزأ أو لا يتجزأ، فلوأن المدعي قال في دعواه انه أقرض المدعى عليه مائة دينار فأقر المدعى عليه بأنه أقترض منه المائة دينار و لم يزد على ذلك شيئا، كان هذا إقرار بسيطا، و كان حجة قاطعة على المدعى عليه.
* الإقرار الموصوف:
يكون الإقرار موصوفا إذا تضمن الاعتراف بالواقعة المدعى بها مع إضافة واقعة أخرى مرتبطة بها نشأت وقت نشوء الواقعة الأصلية و من شأنها أن تؤثر في نتيجتها و مثال ذلك أن يدعي الداعي أن له دينا منجزا، فيقر المدعي عليه بالدين و لكنه يضيف إلى ذلك أنه دين معلق على شرط أو مضاف إلى أجل،و الإقرار الموصوف أيضا لا يقبل التجزئة فإماأن يأخذ به كله بالوصف الذي ألحق به و إما أن يترك كله. فلا يجوز للداعي أن يجزئ الإقرارفيأخذ منه ما في صالحه، و هو هنا وجود الدين، ويترك ما هو ليس في صالحه، و هو أن الدين معلق على شرط أو مضاف إلى أجل.على أنه يجوز للمقر له أن يتخذ من الإقرار وسيلة لإثبات ما يدعيه ثم يقيم الدليل على عدم صحة ما لحق به من وصف. فيكون في المثال السابق للمقر له أن يستفيد من الإقرار بالدين، وهي الواقعة الأصلية المدعى بها،ثم يلجأ إلى إثبات أن الدين لم يكن معلقا على شرط و هذا هو الوصف الذي ألحق بالواقعة الأصلية[3].
* الإقرار المركب:
و هو الذي يتضمن إلى جانب الواقعة الأصلية واقعة أخرى مرتبطة بها،نشأت بعد نشوء الواقعة الأصلية،مثال ذلك أن يقول المدعي في دعواه أنه أقرض المدعي عليه مائة دينار،و أقر المدعي عليه أنه أقترض المائة و لكنه وفاها أوفى جزءا منها،و الفرق بين الإقرار المركب و الإقرار الموصوف أن هذا الأخير فيه تقترن الواقعة المرتبطة بالواقعة الأصلية من وقت نشوء الواقعة الأصلية،فالأجل أو الشرط قد اقترن بالدين من وقت نشوئه، أما في الإقرار المركب فالواقعة المرتبطة لا تقترن بالواقعة الأصلية من وقت نشوئها بل توجد بعدها، فالإقرار بالدين مع الوفاء به إقرار مركب يتكون من واقعة المديونية و هي الواقعة الأصلية وواقعة الوفاء و هي الواقعة المرتبطة بها،و لكنها لم تقترن بها من وقت نشوئها. و الأصل في الإقرار المركب أنه هو أيضا لا يتجزأ على صاحبه،فإذا أقر المدين أنه اقترض المائة دينار و لكنه وفاها فلا يجوز للدائن إلا أن يأخذ بالإقرار كله أو يطرحه كله،فإذا أخذ بالإقرار كله برئت ذمة المدين من الدين، و إذا طرح الدائن الإقرار كله، أعتبر الإقرار كأن لم يكن، وكان على الدائن أن يثبت الدين، وعلى المدين أن يثبت الوفاء ، فلا يجوز تجزئة الإقرار في هذه الحالة بأن يستبقي الإقرار بالقرض ويلقي عبء إثبات الوفاء على المدين ،فإن هذا يعتبر تجزئة للإقرار حيث لا تصح التجزئة . ونفس الشيء إذا أقر المدين بوجود الدين ثم انقضائه بالإبراء أو بالتجديد،و السبب في ذلك أن الواقعتان الأصلية والمرتبطة بها،متلازتمان و لا تصح فيهما التجزئة ،أما إذا كانت الواقعة المرتبطة لا تستلزم حتما وجود الواقعة الأصلية فلا تلازم ما بين الواقعتين ويمكن تصور وقوع إحداهما دون الأخرى، ومن ثم كانت التجزئة فيهما جائزة . والمثل المألوف لهذه الحالة هو الإقرار بالقرض مع وقوع المقاصة فيه بدين آخر،فالمدين هنا قد اقر بالواقعة الأصلية وهي واقعة القرض وأضاف إليها واقعة مرتبطة بها وهي وجود دين له على الدائن أوقع المقاصة بين الدينين ، فمديونية المدين للدائن لا تستلزم حتما مديونية الدائن للمدين ،كما أن مديونية الدائن للمدين لا تفترض حتما مديونية المدين للدائن , إذ أن الدين الذي يدعيه الدائن منفصل عن الدين الذي يدعيه المدين , و من ثم صحت التجزئة قي هذا الإقرار , فيعتبر الإقرار قائما فيما هو في صالح الدائن فيكون القرض ثابتا بالإقرار و لا يكلف الدائن عبء إثباته , أما بقية الإقرار فلا يؤخذ به و لا ينتقل عبء الإثبات فيه إلى الدائن , بل المدين هو الذي يكلف بإثباته إذا أصر عليه، فإذا أصر عليه ثم عجز عن إثباته بقي الإ قرار قائما في إثبات القرض ، ويكون الإقرار تجزأ على هذا النحو، أخذ منه الدائن ما هو في صالحه وألقى عبء إثبات ما ليس في صالحه على المدين والمعيار الذي أتخذ هنا لمعرفة ما إذا كان الإقرار المركب لايتجزأ على صاحبه أو يتجزأ هو معيار تشريعي ذكره التقنين المدني في المادة342 في فقرتها الثانية، و مسألة عدم تجزئة الإقرار أو عدم تجزئته من مسائل القانون تخضع لرقابة المحكمة العليا، لكن يجب أن تثار مسألة التجزئة أمام محكمة الموضوع، فلا يصح أن تثار لأول مرة أمام المحكمة العليا .
*من خلال ما تقدم يمكن الكشف عن دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بينهم بموجب وسيلة الإقرار، حيث أنه انطلاقا من القاعدة العامة التي توقع عبء الإثبات على المدعي وهو الطرف القوي في الدعوى وتخفف هذا العبء على المدعى عليه وهو الطرف القوي فيها، فكان على المدعي إثبات ما يجعل الحق المدعى به مرجح الوجود لا أكيدا وبذلك يتم توزيع عبء إثبات هذا الحق و هذه الواقعة بين الخصوم، فعلى هذا الأساس إن استعمال وسيلة الإقرار بموجب دورها المعفي من الإثبات وقوتها القاطعة فيه، تجعلنا أمام عدة حالات، ففي الإقرار غير قابل للتجزئة إذا كان موصوفا يوزع عبء الإثبات بين الخصوم على الشكل التالي في بادئ الأمر كان عبء الإثبات على عاتق المدعي وبعد صدور الإقرار من المدعى عليه نقل عبء الإثبات لكن لما كان الإقرار موصوفا كان على المدعي إذا تمسك بالإقرار أن يقع عليه عبء إثبات الواقعة المرتبطة بالواقعة الأصلية أي أن عبء الإثبات موزع بينه وبين المدعي عليه،كذلك الحال في الإقرار المركب غير القابل للتجزئة . أما في الإقرار المركب القابل للتجزئة فإن عبء الإثبات يتوزع بين الخصوم كالتالي في بادئ الأمر يقع عبء إثبات الدين على المدعي ،فإذا أقر المدين بوجود الدين انتقل عبء الإثبات إليه وفي هذه الحالة عندما يضيف الواقعة المرتبطة بالواقعة الأصلية وهي المقاصة مثلا فعليه يقع عبء إثباتها.
المطلب الثاني: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب اليمين الحاسمة:
عندما يعوز الخصم الدليل الذي يسمح به القانون لإثبات دعواه، ولا يقر له خصمه بصحة ما يدعيه، لا يبقى أمامه إلا طريق واحد يلجأ إليه، هو أن يتحكم إلى ضمير هذا الخصم، فيوجه إليه اليمين الحاسمة يطلب منه حلفها لحسم النزاع و لا يملكم من وجهت إليه اليمين إلا أن يقبل هذا الاحتكام وهذا هو الإسعاف الذي يتقدم به القانون إلى الخصم الذي يعوزه الدليل القانوني فالقانون إذ يتشدد في اقتضاء أدلة معينة، لا يصل إلا الحقيقة القضائية وهي بعد حقيقة نسبية، وذلك سعيا وراء الاستقرار، لكنه بعد أن يقضي واجب الاستقرار، يرضى جانب العدل، بتمكين من يعوزه الدليل القضائي من أن يحتكم إلى ضمير خصمه الذي أنكر عليه ما يدعيه، فيوجه إليه اليمين الحاسمة، فإن حلفها الخصم، فقد أثبت بذلك أن ضميره راض بإنكار صحة الادعاء، ولما كان هذا الادعاء لا دليل عليه، لم يبق بد من الحكم برفضه، وإن نكل كان في هذا النكول إقرار ضمني بصحة الادعاء، فوجب الحكم عيه به اقتضى هذا الإقرار.
ويتبين من ذلك أن توجيه اليمين الحاسمة هو تصرف قانوني إن هو إرادة الخصم الذي يوجه اليمين في أن يحتكم إلى ضمير خصمه بما يترتب على ذلك من نتائج قانونية و الاحتكام على هذا النحو يعتبر تصرفا قانونيا يتم بإرادة منفردة إذ هو ينتج به جرد توجيه اليمين.
وسنرى أن توجيه اليمين يجوز الرجوع فيه إلى أن يقبل الخصم الذي وجهت إليه اليمين أن يحلف، ولكن هذا ليس قبولا لإيجاب إذا أن اليمين على من وجهها، أي أنه لا يملك إلا قبول الاحتكام إلى ضميره أو يحكم هو ضمير الخصم الذي وجه اليمين، ومن ثم لا يكون توجيه اليمين تصرفا يحتاج إلى قبول، بل هو لجعل حق الخصم في الاشتراك لمصلحة الغير عندما يقبل ما اشترط لمصلحته.
و الفقه يتردد في تكييف اليمين الحاسمة بين أنها تحكيم أو صلح، والذي يقطع في أنها ليست بصلح، أن الصلح يقتضي نزول كل من المتصالحين عن جانب من ادعائه، و من يوجه اليمين لا ينزل عن شيء دون شيء، فهو إما أن يخسر كل دعواه أو يقضي له بها كلها، فإذا ما خسر دعواه أو كسبها فليس ذلك مترتبا على إرادته، بل هي النتيجة المحتمة لاحتكامه إلى ضمير خصمه، وضمير الخصم هو الذي حكم: إما بخسارة الدعوى إذا حلف الخصم، أو بكسبها إذا نكل.
ثم إن الحلف ذاته هو دون شك واقعة قانونية، لأنه عمل مادي يترتب عليه أثر قانوني هو الحكم برفض دعوى من وجه اليمين، و رد اليمين تصرف قانوني كتوجيه اليمين، إذ هو أيضا احتكام إلى ذمة الخصم، و النكول يتضمن إقرار بدعوى من وجه اليمين، ورد الخصم و النكول عن اليمين عمل مادي سلبي، ولكنه ينطوي على تصرف قانوني، إذ النكول يتضمن إقرار بدعوى من وجه اليمين أو ردها، فالنكول و الإقرار تصرف قانوني.
أما اليمين المتممة، توجيها و حلفا و نكولا، فواقعة قانونية إذ هي عمل مادي محض، وهي طريق من طرق الإثبات التكميلية.
وحقيقة اليمين الحاسمة أنها تعفي الخصم من إقامة الدليل لإثبات مزاعمه ولذلك فهي وحدها التي تصلح لتكون موضوع دراسة هذا الفصل. و تتميز اليمين الحاسمة في أنها حق من حقوق الخصم و لا يستحلف الخصم إلا بناءا على طلب الخصم الآخر.
وتفترق اليمين عن البينة، في أن اليمين شرعت لإثبات خلاف الظاهر، ومعنى ذلك أن المدعى عليه بإنكاره يعتبر متمسكا بالحالة الأصلية وهي براءة ذمته، فيجب قبول قوله إلى أن يثبت شغل ذمته بسبب طارئ، لكن نظرا لاحتمال كذب المدعى عليه بإنكاره فإنه يوثق قوله باليمين التي يؤديها. إذا طلب المدعي تحليفه عندما يعجز عن الإثبات.
وتقضي القاعدة العامة، أن من كان القول قوله يصدق بيمينه.
أما مفهوم اليمين في الشريعة الإسلامية فالأصل في الإثبات عند الفقهاء المسلمين هو البينة، أما اليمين فهي بديل عنها، ولهذا فإنها لا تشرع إلا عند تعذر البينة و لقد نسب إلى الإمام الشافعي قوله: "إن اليمين أقل حجة في الشريعة الإسلامية بسبب أننا لم نجد مرجحا عند الاستواء إلا اليمين".
و يرى ابن عابدين في التكملة أن اليمين ليست طريقا من طرق القضاء، لأن المنكر إذا حلف وعجز المدعي عن البينة فإن الشيء المدعى به يترك في يد المدعى عليه لا قضاءا له بيمينه، و إنما لعدم قدرة المدعي على الإثبات و حجتهم في ذلك قوله عليه الصلاة و السلام:" اليمين على من أنكر"، فهذا الحديث يدل على أن القول قول المدعى عليه، لأنه متمسك بالأصل الذي هو براءة ذمته و انتفاء حق الغير عنه[4]. وشرعت اليمين للحاجة إليها لدفع التهمة، و هي تهمة الكذب عن المدعى عليه في حالة إنكاره للدعوى، ومن ثم يشترط في الشيء المدعى به أن يكون محتملا للإقرار به شرعا و إلا فلا يمكن أن يستحلف فيه[5].
وبعد أن كيفنا اليمين الحاسمة نتناول هذه اليمين في مطلبين.
الأول: توجيه اليمين الحاسمة.
الثاني: الآثار المترتبة على توجيه اليمين الحاسمة.
أولا: توجيه اليمين الحاسمة:
تنقسم اليمين إلى قسمين:
يمين قضائية:( serment judiciaire) تؤدى أمام الهيئة القضائية.
ويمين غير قضائية: تؤدى خارج الهيئة القضائية و يتفق عليها الأطراف و لكنها قليلة الوقوع.
كما تنقسم اليمين القضائية بدورها إلى قسمين:
يمين حاسمة: (serment décisoire)
و يمين متممة:( serment supplétoire)
ولم يتعرض القانون المدني إلى تعريف اليمين القضائية، وقد تكلم عليها في المواد من 343 إلى 350 منه.
كما تعرض قانون الإجراءات المدنية إلى كيفية أداء اليمين القضائية، وإلى صيغتها في المادتين 433 إلى 434 منه.
وسنتناول بالدراسة في هذا المطلب نقطتان أساسيتان و هما:
أولا: شروط توجيه اليمين الحاسمة و موضوعها وزمن توجيهها.
ثانيا: عدم جواز الرجوع في اليمين الحاسمة.
(1 – شروط توجيه اليمين الحاسمة وموضوعها وزمن توجيهها:
تنص المادة 343 من قانون المدني على أنه:" يجوز لكل من الخصمين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الآخر، على أنه يجوز للقاضي منع توجيه اليمين إذا كان الخصم متعسفا في ذلك".
الأصل: أن المدعى عليه إذا أنكر الدعوى، سأل القاضي المدعي: ألك بينة؟ فإن كانت له بينة أدلى بها، و إلا فإن على القاضي أن يفهم المدعي أن من حقه أن يستحصل اليمين من خصمه المنكر و بعبارة أخرى: إن كل خصم وقع عليه إثبات واقعة ما يستطيع، أن يوجه إلى الخصم الآخر يمينا إذا أعوزه الدليل لإثبات تلك الواقعة، وبذلك يستبدل عبء الإثبات، بالاحتكام إلى ضمير خصمه[6].
والحلف حق خاص بالخصم، وقد استقرت على هذا أحكام القضاء فليس من حق القاضي أن يتولى تحليف الخصم بدون طلب خصمه، لأنه قد تكون للخصم مصلحة في إرجاء الحلف أملا في الوصول إلى مصالحة، أو في استخلاص إقرار، أو بينة غائبة، أو رجوع المنكر على إنكاره.
وفي مقابل ذلك، لا يجوز أن للمنكر أن يسرع و يتبرع باليمين بدون طلب الحاكم و إذا حلف المنكر تبرعا، أو بدون طلب المدعي، وقعت اليمين لغوا، و كان من حق المدعي طلب إعادة أدائها.[7]
ولما كان توجيه اليمين تصرفا خطير الأهمية، لأنه يتوقف عليه مصير النزاع فإنه يشترط في الخصم الذي يوجهها أن تكون له أهلية التصرف، كما يجب أن تكون إرادته صحيحة، غير مشوبة بغلط أو تدليس أو إكراه و بما أن اليمين الحاسمة تعتبر مصالحة من طرف الخصم فيجب تطبيق قواعد الأهلية المتعلقة بالمصالحة، فتص المادة 460 من القانون المدني الجزائري على أنه يشترط في من يصالح أن يكون أهلا للتصرف بعوض في العقود التي يشتملها عقد الصلح.
ويشترط في رد اليمين ما يشترط في توجيهها إذ أن ردها كتوجيهها تصرف قانوني بإرادة منفردة، فالقاصر الذي لم يبلغ سن الرشد، أي 19 عاما حسب المادة 40 من القانون المدني، و المحجور عليه لا يجوز لهما توجيه اليمين أو ردها إلى بواسطة ممثليهما القانونيين.
وتنص المادة 574 من القانون المدني على أنه " لابد من وكالة خاصة في كل عمل ليس من أعمال الإدارة، لا سيما في البيع و الرهن و التبرع و الصلح و الإقرار و التحكيم و توجيه اليمين، و المرافعة أمام القضاء" .
وعليه فإنه لا تكفي الوكالة العامة، ولو كانت مطلقة أو غير محدودة، لتوجيه اليمين بالنيابة أمام القضاء، كما انه لا يصح توجيه اليمين من محام الخصم، ما لم يكن التوكيل الصادر إليه منصوصا فيه على تفويضه في توجيه اليمين، وقد قضي بأن المفوض بالمصالحة لا يمكن له أن يوجه اليمين باسم مفوضه.[8]
ولا يملك الأشخاص المكلفون قانونا بإدارة مصالح الغير صلاحية توجيه اليمين باسم هذا الغير، إلا إذا كانوا يملكون سلطة ذلك مثل الوصي، ووكيل التفليسة، ورئيس البلدية.
ويلاحظ أنه، وإن كانت اليمين من حق الخصم، إلا أن للقاضي سلطة تقديرية في ذلك، فيستطيع القاضي منع الخصم من إساءة استعمال هذا الحق، وله أن يرفض توجيه اليمين إذا كانت الواقعة موضوع الحلف ليست متعلقة بالشخص الحالف أو ليست منتجة في النزاع أو ليست حاسمة فيه بوضع حل نهائي له، أو إذا كان يستفاد من الأوراق ما يثبت قطعا عدم صحة دعوى طالب اليمين، ففي هذه الحالات و أشباهها يجوز للقاضي أن يتدخل لمنع الخصم من التعسف في استعمال حقه، ولكن بشرط أن يقوم بتسبيب ذلك.
وهذه السلطة هي من اختصاصات قضاة الموضوع، وليست عليهم فيها أية رقابة من طرف المحكمة العليا على أنه، إذا كانت اليمين الموجهة واضحة الألفاظ و محددة المحتوى، وقاطعة في النزاع في حالتي الحلف و النكول، فليس من حق القضاة أن يمنعوا ردها، لأن اليمين الحاسمة يجوز توجيهها في أية حالة تكون عليها الدعوى.
· من يحق له توجيه اليمين الحاسمة:
إن الذي يوجه اليمين الحاسمة هو أي من الخصمين يكون عليه عبء إثبات واقعة قانونية، فالمدعي يقع عليه عبء إثبات الدعوى، و المدعى عليه هو الذي يثبت الدفع، فيستطيع أي منهما أن يوجه اليمين الحاسمة إلى خصمه فيما يجب عليه هو أن يثبته، فيستبدل بعبء الإثبات الإحتكام إلى ضمير الخصم.
ولما كان توجيه اليمين الحاسمة كما قدمنا تصرف قانوني، إذ هو تحكيم لضمير الخصم، فإنه يجب لصحته ما يجب لصحة المصالحة طبقا للمادة 460 من القانون المدني و هذا من ناحية الأهلية.
و من ناحية الإرادة يجب أن يكون توجيه اليمين الحاسمة غير مشوب بغلط أو تدليس أو إكراه.
أما من ناحية التوكيل في توجيه اليمين فيجب أن تكون هناك وكالة خاصة، كما أنه ترد عليه الصورية كما ترد على الإقرار، ويكون ذلك نتيجة لتواطؤ الخصمين إضرارا بحقوق الغير كالدائنين و الشركاء و الخلف، فيخفي الخصم الأدلة التي يملكها لإثبات حقه، ويقتصر على توجيه اليمين الحاسمة إلى خصمه، فيحلفها هذا، فيخسر المدعي دعواه و يضر بذلك دائنيه وشركاءه و الخلف و غيرهم ممن لهم مصلحة، فيجوز لهؤلاء التدخل في الدعوى قبل صدور الحكم لمنع الإضرار بحقوقهم، أو يعارضوا فيه عن طريق اعتراض الغير الخارج عن الخصومة لإثبات التواطؤ.
وإذا كان لأي من الخصمين ممن يحمل عبء الإثبات توجيه اليمين الحاسمة إلى خصمه، فإن للقاضي رقابة عليه في توجيه هذه اليمين، فاليمين الحاسمة يوجهها الخصم لا القاضي على انه يجوز للقاضي أن يمنع توجيه اليمين إذا كان الخصم متعسفا في توجيهها ومعني ذلك أن توجيه اليمين الحاسمة يكون دائما معلقا على إذن القاضي وله أن يمنع توجيهها إذا رأى أنها كيدية.
ويلاحظ انه إذا كانت الواقعة المراد التحليف عليها غير محتملة الصدق أو كذبتها مستندات الدعوى وكانت غير منتجة كان مدعي الواقعة وهو يوجه اليمين إلي خصمه متعسفا في توجيهها، فيتدخل القاضي لمنعه.
أما إذا كانت الواقعة ثابتة دون حاجة إلى حلف اليمين والذي يتعسف في توجيه اليمين هو الخصم الآخر فلا يقبل القاضي توجيه هذه اليمين لأنه يستطيع الحكم بثبوت الحق المدعى به بمقتضى الأدلة المقدمة دون حاجة إلى تحليف المدعي أية يمين.
فرقابة القاضي لمنع التعسف في توجيه اليمين على النحو الذي بسطناه تعتبر خطوة طيبة نحو إيجابية موقف القاضي من الإثبات.[9]
لمـن تـوجـه اليـمـين الحـاسـمـة؟
توجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الآخر الذي له حق المطالبة بالإثبات وتوجيه اليمين إليه تقلب موقفه. فبعد أن كان غير مكلف بشيء وما عليه إلا أن ينتظر من خصمه تقديم الدليل على دعواه فإن لم يقدم هذا الدليل خسر الدعوى وخرج الخصم من القضية منتصرا دون أن يقوم بعمل، إذا به بعد أن وجهت إليه اليمين يرى نفسه مضطرا إلى قبول احتكام خصمه إلى ضميره، إذا لم يختر هو بدوره أن يحتكم إلي ضمير خصمه برد اليمين عليه، فهو إنما يكسب الدعوى إذا حلف اليمين، فأصبح عندئذ مكلفا بشيء يقوم به حتى يكسب الدعوى، وقد كان قبل توجيه اليمين إليه غير مكلف بشيء. وإذا نكل عن حلف اليمين، كان في هذا معنى الإقرار بحق خصمه، فالإقرار ينطوي على نزول عن حق المطالبة بالإثبات، وهو الحق الذي كان له قبل توجيه اليمين إليه.
فلا يجوز توجيه اليمين إلا إلي خصم أصلي في الدعوى، فإذا رفع الدائن باسم مدينه دعوى الدين على مدين مدينه، فلا يجوز للمدعي عليه في هذه الدعوى أن يوجه اليمين الحاسمة إلى دائن الدائن لأنه ليس نائبا عن الدائن و ليس خصما اصليا في الدعوى، فيجب أن يكون توجيه اليمين إلى الدائن وهو الخصم الأصلي بعد إدخاله في الدعوى ولا توجه اليمين إلى الوكيل إذا كانت الواقعة المراد إثباتها منسوبة إلى الأصيل.
كما أنه يجب أن تتوافر فيمن توجه إليه اليمين أهلية التصرف في الحق الذي توجه إليه فيه باليمين، ذلك أن كل خصم توجه إليه اليمين يجب أن يكون قادرا على الخيار ما بين الحلف والرد والنكول، ورد اليمين كتوجيهها تشترط فيه أهلية التصرف، والنكول كالإقرار لا يملكه إلا من ملك التصرف في الحق، ومن ثم لا يجوز توجيه اليمين إلى قاصر لم يبلغ سن الرشد إلا فيما يملك من أعمال الإدارة، ولا للمحجور عليه لجنون أو عته أو غفلة أو سفه، ولا يجوز توجيهها إلى النائب عن هؤلاء كوصي أو قيم إلا عن أعمال صدرت منه شخصيا أو عن أعمال الإدارة التي يملكها، أما الولي فيملك التصرف في مال الصغير، فيجوز توجيه اليمين إليه.
ويجب أن تتوفر أهلية التصرف فيمن توجه إليه اليمين وقت الحلف لا وقت توجيه اليمين، كما انه يجوز التوكيل في توجيه اليمين بمقتضى وكالة خاصة فإنه لا يجوز التوكيل أصلا في حلف اليمين, ذلك أن النيابة تجرى في الاستحلاف ولا تجرى في الحلف.
*_متى توجه اليمين الحاسمة؟
تنص المادة344 /ف2 من القانون المدني على أنه " يجوز أن توجه اليمين الحاسمة في أية حالة تكون عليها الدعوى".
وانطلاقا من هذا النص فيمكن توجيه اليمين الحاسمة في جميع مراحل الدعوى، ما دام لم يصدر في القضية حكم نهائي، وذلك لان الخاصية الأساسية لهذه اليمين هي إنهاء النزاع، والتنازل عما عداها من أدلة إثبات.
كما يجوز للخصم بعد قفل باب المرافعة طلب إعادة فتحها و توجيه اليمين إلى خصمه، ويمكن أيضا توجيه اليمين طالما لم يصدر في النزاع حكم تعلقت به حجية الشيء المحكوم فيه، ولو كان قد صدرت في النزاع أحكام تحضيرية أو تمهيدية، تم تنفيذها ولو وقع في القضية خبرة أو تحقيق.
كما انه يمكن توجيه اليمين الحاسمة لأول مرة أمام المجلس القضائي في حالة الاستئناف ولكن لا يمكن توجيهها لأول مرة أمام المحكمة العليا.
ويجوز توجيه هذه اليمين أيضا أمام جميع جهات القضاء المدنية و التجارية، ولكنها لا توجه أمام قاضي الأمور المستعجلة وذلك لان من خاصية القضاء المستعجل أنه قضاء وقتي وانه لا يمس بأصل الحق، بينما تتميز اليمين الحاسمة بأنها من شانها وضع حد نهائي للنزاع بصفة قاطعة[10].
_هل يجوز توجيه اليمين الحاسمة على سبيل الاحتياط ؟
ليس في القانون ما يمنع من أن يوجه الخصم يمينا إلى خصمه على سبيل الاحتياط ولكن الخلاف يتعلق بتكييف هذه اليمين الموجهة على هذه الصفة.
ويحسن هنا أن نميز بين فروض ثلاثة حتى لا يقع لبس فيما بينها ولا يختلط بعضها ببعض.
الفرض الأول: أن يقدم الخصم أدلة على ادعائه فيفحصها القاضي ولا يقتنع بها وإذا عرف الخصم منه ذلك، ينزل عما قدم من أدلة ويقتصر على توجيه اليمين الحاسمة إلى خصمه، وهذا دون شك جائز.
الفرض الثاني: أن يوجه الخصم اليمين الحاسمة إلى خصمه ويقول أنه يوجهها ابتداء حتى إذا حلفها الخصم فإنه يحتفظ لنفسه بالحق في تقديم أدلة أخرى وهذا دون شك غير جائز، فإنه متى حلف الخصم اليمين، خسر من وجهها إليه دعواه, ولا يسمح له بالرجوع إلى هذه الدعوى، بل إن مجرد القبول الخصم لحلف اليمين الموجهة إليه تمنعه من وجه اليمين من الرجوع في توجيهها، ومن ثم تمنعه من التقدم بأدلة أخرى.
الفرض الثالث:أن يقدم الخصم أدلة على أدائه ويقول انه على سبيل الاحتياط, في حالة ما إذا لم يقتنع القاضي بهذه الأدلة، يوجه اليمين الحاسمة إلى خصمه، وهذا هو توجيه اليمين الحاسمة على سبيل الاحتياط وهو الفرض الدقيق الذي نقف عنده قليلا، ونذكر بادئ ذي بدء أن الخصم قد يجد نفسه في حاجة إلى هذا الاحتياط، فقد يكون الحكم الذي يوشك أن يصدر في دعواه حكما نهائيا، بأن كانت الدعوى أمام محكمة الاستئناف أو كانت مما لا يجوز الاستئناف فيه، وقد قدم ما في وسعه أن يقدمه من أدلة الإثبات وهو في شك من اقتناع القاضي بها، فيخشى أن هو ترك القاضي يفصل في الدعوى بحالتها هذه، أن يصدر حكم نهائي برفضها، فلا يستطيع بعد ذلك أن يوجه اليمين إلى خصمه لذلك يطالب في حالة ما إذا لم يقتنع القاضي بالأدلة المقدمة أن تعاد القضية إلى المرافعة لتوجيه اليمين الحاسمة، فطلب إعادة القضية للمرافعة هو طلب معلق على شرط عدم اقتناع القاضي بها فهو يحتفظ لنفسه على سبيل الاحتياط بتوجيه اليمين.
فهذا الفرض الثالث لا تثريب على الخصم فيه، فهو يقدم أدلته و يطلب في الوقت ذاته توجيه اليمين الحاسمة إلى خصمه إذا لم تقتنع المحكمة بهذه الأدلة، و ما دام يستطيع توجيه اليمين الحاسمة في أية حالة كانت عليها الدعوى إلى أن يصدر حكم نهائي، فالفرض الذي نحن بصدده لم يصدر حكم نهائي، فيجوز له إذن أن يوجه اليمين الحاسمة في هذه الحالة من حالات الدعوى[11].
- و في اعتقادنا فإن العدالة تقضي بأن يسمح للخصم بعرض أدلته على المحكمة مع الاحتفاظ بحقه في توجيه اليمين إذا لم تر المحكمة ضده الأدلة كافية، لأن اليمين في هذه الحالة ليست إلا طريق إثبات احتياطي يلجأ إليه الخصم عندما يعوزه الدليل، فيجب أن يبقى هذا الطريق مفتوحا أمامه إلى أن يستنفذ ما لديه من أدلة.
- هل يمكن الاتفاق على عدم توجيه اليمين؟
قد يكره الشخص أن توجه إليه اليمين لاعتبارات مختلفة فيحتاط لنفسه بالاتفاق مع من يتعاقد معه على عدم توجيه اليمين إليه في أي نزاع ينشأ بينهما مستقبلا بسبب تنفيذ العقد، فهل يصح هذا النوع من الاتفاق؟
يعتقد بعض الفقهاء أن هذا الاتفاق صحيح لأنه ليس فيه ما يخالف النظام العام و الآداب العامة[12].
و لكن بعض المحاكم المصرية قضت بعكس ذلك، و قد بنت أحكامها على أن الاتفاق في هذه الحالة يكون حاصلا قبل وجود أية خصومة أي في وقت لا يستطيع المتعهد أن يقدر فيه مدى تعهده[13].
و في القانون المدني الجزائري لا يوجد أي نص يشير إلى جواز الأطراف في الاتفاق على عدم توجيه اليمين الحاسمة و هو ما سنتطرق إليه بالدراسة لاحقا.
*موضوع اليمين الحاسمة:
تنص المادة 344 من القانون المدني على أنه:"لا يجوز توجيه اليمين الحاسمة في واقعة مخالفة للنظام العام، و يجب أن تكون الواقعة التي تقوم عليها اليمين متعلقة بشخص من وجهت إليه اليمين، فإذا كانت غير شخصية له، قامت اليمين على مجرد علمه بها".
فيمكن أن يتعلق موضوع اليمين بجميع أنواع المنازعات بدون تمييز بين ما إذا كان النزاع شخصيا، أو عينيا، أو مدنيا أو تجاريا، و سواء كان النزاع يدور حول الملكية العقارية، و الحقوق المتفرعة عنها، أو بالحيازة المجردة.
كما يمكن أن تتعلق اليمين بالنزاع الذي تجاوز مقداره حدود النصاب القانوني أي 1000 دج أو لإثبات ما يجاوز أو يخالف مضمون كتابة بين الخصوم، و لو بدون وجود بداية ثبوت بالكتابة.
لكن لا يمكن قبول اليمين الحاسمة لإثبات ما يخالف أو يجاوز مضمون كتابة رسمية بالنسبة للوقائع التي تعتبر ثابتة فيها إلى أن يطعن فيها بالتزوير[14].
كما يمكن توجيه اليمين الحاسمة لإثبات وقائع غير أخلاقية أو غير شرعية مثل الأفعال الربوية أو وقائع الإغراء لإثبات انعدام حرية التعاقد المتنازع فيه، فيجوز للمقترض أن يوجه اليمين إلى المقرض ليحلف على أن مبلغ القرض الذي يطالب به لا يشتمل على فوائد ربوية فاحشة، و يجوز للمدين بسند أن يوجه اليمين إلى الدائن ليحلف أن سبب الدين ليس سبب غير مشروع كمقامرة أو رهان.
و لكن لا يجوز توجيه اليمين الحاسمة فيما يتعلق بالوقائع التي تمس الدعوى العمومية أثناء المرافعة الجزائية، سواء كانت يمينا حاسمة أو يمينا متممة، تأسيسا على أنه لا يصح أن يكون النكول عن اليمين دليلا على ارتكاب الجريمة و لا يجوز إحراج مركز الخصم و تحليفه مدنيا على ما لا يجوز التحليف عليه جنائيا.
و لا ترد اليمين على مسألة من مسائل القانون ذلك أن استخلاص حكم القانون من شأن القاضي وحده لا من شأن الخصوم.
و على العموم يمكن أن ترد اليمين على أي نوع من أنواع الدعاوى، و يتعين على المحكمة التي تقدر عدم لزوم توجيه اليمين تسبيب حكمها على أن اليمين الحاسمة ترد على واقعة حاسمة في الدعوى لأن مهمة هذه اليمين هو حسم النزاع و هي بمجرد توجيهها إلى الخصم تقرر مصير الدعوى، فإن حلفها خسر المدعي دعواه، وإذا نكل أجيب المدعي إلى طلباته، وإذا ردها و حلف المدعي كسب الدعوى، أو ردها و نكل المدعي خسر الدعوى، فعلى أي وجه من الوجوه تنتهي اليمين الحاسمة، فإن النزاع لابد أن ينحسم بها، و كون الواقعة متعلقة بالدعوى و حاسمة في النزاع أم لا هي مسألة واقع لا مسألة قانون، ومن ثم فهي غير خاضعة لرقابة المحكمة العليا.
على أنه إذا قضت المحكمة بعدم قبول اليمين أو رفضها فإن حكمها يكون موضوع رقابة من المحكمة العليا.
كما أنه يجب عدم مخالفة الواقعة للنظام العام، و يجب أن تكون الواقعة التي يطلب الحلف عليها غير مخالفة للقانون أو النظام العام أو الآداب و ذلك لأن توجيه اليمين الحاسمة هو في حقيقة الأمر مصالحة أو تحكيم كما تقدم و كل من المصالحة و التحكيم يتضمن تنازلا عن بعض الحقوق، و من ثم لا يصح للمرء أن يتصرف فيها، و أن يقر بها و مثالها مسائل الأحوال الشخصية و خاصة منها الأهلية ( المادة 45 من القانون المدني ) والحرية الشخصية (المادة 46 من القانون المدني) والجنسية لتعلق هذه المسائل بمجال النظام العام كما لا يجوز توجيهها في مسائل النكاح و الطلاق و النسب و الخلع.
و لا يجوز توجيه اليمين الحاسمة لإقامة الدليل على تصرف يشترط القانون لوجوده شكلا خاصا كالكتابة، لأن الكتابة ليست مجرد دليل فحسب بل هي شرط من شروط الانعقاد و ذلك مثل التعامل في بعض المجالات التجارية و العقارية.كما لا تقبل اليمين لنقض قرينة قانونية على اعتبارات ترجع إلى النظام العام مثل قرينة حجية الأحكام.
و يلاحظ أنه في جميع الحالات التي لا يجوز فيها توجيه اليمين يستطيع الخصم الموجهة إليه أن يرفضها أو يمتنع عن أدائها، و على فرض قبوله فإن على المحكمة أن تمنع ذلك[15].
2) عدم جواز الرجوع في اليمين الحاسمة:
تنص المادة 345 من القانون المدني على أنه "لا يجوز لمن وجه اليمين أو ردها أن يرجع في ذلك متى قبل خصمه حلف ذلك اليمين"
فمن هذا النص يتبين أنه يجب التفرقة بين حالتين:
الحالة الأولى: و هي حالة سابقة لقبول اليمين.
طالما لم يعلن الخصم عن قبوله لأداء اليمين الموجهة إليه، فإن بإمكان الخصم الموجه لها أن يرجع عنها، شأنه في ذلك شأن أي اتفاق، فالقبول وحده هو الذي يمنع من الرجوع عن اليمين.
و لا يخضع هذا الرجوع لأي شكل خاص فيمكن أن يكون صريحا، إما بمذكرات مودعة أمام المحكمة أو بعمل خارج عن القضاء إذا بلغ إلى الخصم، كما يمكن أن يكون الرجوع ضمنيا إذا استفيد ذلك من ظروف الدعوى[16].
و قد قضي بأن الخصم الذي يوجه اليمين إلى الخصم الأخر يعتبر متراجعا عن توجيه تلك اليمين إذا قام باستئناف الحكم الذي يتضمن توجيهها و يمكن أن يكون الرجوع صادرا عن الخصم الذي قام بتوجيه اليمين، كما يمكن أن يكون صادرا من الخصم الذي ردها، ففي الحالة الأولى يزول كل أثر لليمين الحاسمة أما في الثانية فتزول اليمين وحدها و يبقى توجيهها قائما.
الحالة الثانية: و بعد قبول الخصم لأداء اليمين الموجهة إليه، ينعقد الاتفاق بصفة نهائية، بحيث لا يمكن لمن وجهها أن يرجع عنها، كما لا يمكن لمن قبلها أن يتنصل من هذا القبول.
ومفاد ذلك أنه إذا لم ينازع من وجهت إليه اليمين لا في جوازها و لا في تعلقها بالدعوى، وجب عليه إن كان حاضرا بنفسه أن يحلفها فورا أو يردها على خصمه، و إلا اعتبر ناكلا، و يجوز للمحكمة أن تعطيه ميعادا للحلف إذا رأت لذلك وجها، فإن لم يكن حاضرا وجب تكليفه على أيد محضر بالحضور لحلفها بالصيغة التي أقرتها المحكمة و في اليوم الذي حددته، فإن حضر و امتنع دون أن ينازع أو تخلف بغير عذر اعتبر ناكلا كذلك.
و لا يعبر قبولا لليمين أن يرضى الخصم بحلفها على بعض الوقائع دون البعض الآخر لأن الحكمة من اليمين هي وضع حد نهائي للنزاع كله.
على أن التعديل البسيط لليمين، لكي تصبح منتجة في الدعوى لا يعد رفضا لها كما أنه إذا صدر إقرار من الخصم الذي وجهت إليه اليمين، لم يكن هناك محل لليمين، و يعد هذا الإقرار أقوى من النكول عن اليمين، و عليه فيجوز لمن وجه اليمين أن يرجع عنها.
و يلاحظ أن بإمكان الخصم بعد قبوله اليمين، أن يقيم الدليل على أن قبوله كان نتيجة وجود عيب في إرادته من إكراه أو تدليس أو غلط و يطلب الرجوع عن قبوله[17].
ثانيا: الآثار المترتبة على توجيه اليمين الحاسمة.
إذا وجهت اليمين الحاسمة إلى الخصم وفقا للأحكام السالفة الذكر، لم يصغ هذا الخصم إلا أحد الأمرين: إما أن يحلف اليمين، و إما أن يردها على من وجهها، فإذا لم يحلف اليمين أو يردها، عد ناكلا و خسر الدعوى. فتوجيه اليمين الحاسمة إلى الخصم يترتب عليه حتما من جانب هذا الخصم أحد مواقف الثلاثة:
- إما أن يحلف اليمين.
- إما أن يردها على خصمه.
- إما أن يمتنع عن الحلف فيعد ناكلا.
ثم إن لحلف اليمين أو النكول عنها حجية حددها القانون مع جواز نقلها فهذه المسائل الخمس نتكلم فيها على التعاقب.
1- حلف اليمين و ردها و النكول عنها:
يترتب على عملية توجيه اليمين الحاسمة ثلاث احتمالات، فإن الخصم إما أن يقبل اليمين و يقوم بأدائها و إما أن يردها على صاحبها و إما أن يرفض أدائها و لا يردها.
و هناك أثار لليمين تتعلق بأشخاص الخصومة و سنتولى دراسة ذلك على النحو الآتي:
*أن يقوم الخصم بأداء اليمين:
إذا حلف الخصم الذي وجهت إليه اليمين، أصبح مضمون تلك اليمين حجة ملزمة للمحكمة بحيث أن المدعى عليه إذا أقسم المدعي عليه بإنكار دعوى المدعي، فإن على المحكمة أن تقضي برفض الدعوى دون النظر إلى قناعتها أو عدم قناعتها بصحتها، فالقاضي يفقد كل السلطة في تقدير مضمون اليمين لأن اليمين الحاسمة عملية اتفاق بين الطرفين و لا يجوز للقاضي أن يتدخل في الاتفاقات و إنما تنحصر مهمته في التأكد من عملية تأدية اليمين و ترتيب أثارها القانونية[18].
و يكون الحكم برفض الدعوى هنا حكما نهائيا، و تتعلق به حجية الشيء المحكوم فيه، لأن طبيعة اليمين إنما تحسم النزاع بصفة نهائية، فيمتنع بعد ذلك على المحكمة أن تتناول النزاع من جديد بالنسبة للواقعة موضوع اليمين، لأن اليمين تشكل حجة قاطعة لا تملك المحكمة أية سلطة تقديرية في شأنها، كما يمتنع على المحكوم عليه أن يثبت صحة الواقعة التي نكل فيها عن الحلف، و ذلك مهما كانت أدلة الإثبات، و على أساس أن اليمين الحاسمة ذات طابع اتفاقي و رضائي من شأنه إنهاء الخصومة، فإنه يترتب على الحكم الصادر بعد اليمين عدم قبول استئناف بشأنه.
و لكن ينبغي الإشارة إلى إمكانية قبول الاستئناف إذا كان توجيه اليمين غير واقع طبقا للقانون، فإذا انصبت اليمين على واقعة مخالفة للنظام العام أو في قضايا الطلاق و الزواج و النسب أو الجنايات، كان الحكم قابلا للاستئناف.
و يكون الاستئناف جائزا إذا قامت المحكمة بتعديل اليمين بزيادة أو نقصان أدت إلى تشويهها.
ويكون الاستئناف مقبول أيضا إذا كانت اليمين مؤسسة على غش أو تدليس أو إكراه.
ويترتب على أداء اليمين أنه يمتنع على الخصم الآخر أن يحبط مفعولها بان يعمد إلى التقليل من آثارها و بيان تزويرها أو كذبها، و تنص المادة 346 من القانون المدني على أنه :
" لا يجوز للخصم إثبات كذب اليمين بعد تأديتها من الخصم الذي وجهت إليه أو ردت عليه، على أنه إذا أثبت كذب اليمين حكم جزائي، فإن للخصم الذي أصابه ضرر منها أن يطالب بالتعويض دون إخلال بما يكون له حق في الطعن على الحكم الذي صدر ضده ".
وهذا النص يفيد أن ثبوت كذب اليمين بحكم جزائي لا يؤثر فيها، يتعلق بالحكم المدني، الذي انبنا على اليمين الكاذبة من حجية الشيء المحكوم فيه، ولكنه من جهة أخرى يخول من رفضت دعواه من حكم عليه بناء على هذه اليمين الكاذبة أن يطالب تعويضات عما أصابه من ضرر.
على انه إذا كان لا يجوز للخصم إثبات كذب اليمين فإن بإمكانه آن يقدم بلاغا إلى النيابة العامة حتى تقوم هي بتحريك الدعوى العمومية، وليست في القواعد العامة ما يمنع من ذالك.[19]
و لكن لا يجوز للمضرور أن يتدخل في هذه الدعوى مدعيا مدنيا، ولا يجوز له إذا امتنعت النيابة العامة من تحريك الدعوى العمومية أن يرفع دعوى الجنحة المباشرة.
أما إذا أقامت النيابة دعواها وصدر حكم بالإدانة أصبح نهائيا، فإنه يحق حينئذ للخصم المتضرر من اليمين الكاذبة أن يطالب بتعويضات أمام المحكمة المدنية بدعوى مستقلة.
ومع ذالك، فيبقى للحكم المؤسس على اليمين الكاذبة حجيته المطلقة ولا يفتح للخصم المتضرر أي طريق من طرق الطعن في هذا الحكم، وان الفقرة الأخيرة من المادة 346من القانون المدني قد اقتصرت على التنبيه إلى انه إذا كشف الحكم الجزائي عن وجه من وجوه إعادة النظر في الأحكام ( المادة 194 من قانون الإجراءات المدنية)، أو كان سببا في الحصول على مستندات صالحة لتأييد ادعائه كان الحالف قد أخفاها أو حمل على إخفائها فإنه يجوز للخصم الذي وجه اليمين في تلك الظروف أن يطالب إعادة المحاكمة إذا كانت مدة طلب الإعادة لم تنقض، ولكنه لا يستطيع استعمال طريق من طرق الطعن لم يكن له قبل ثبوت كذب اليمين.
و يجب على الخصم الذي وجهت إليه اليمين ولم يردها على خصمه أن يؤديها بنفسه لان الخصم قد أحتكم إلى ضميره فلا يصح أن يوكل عنه غيره في الحلف، وهذا بعكس التوكيل في التحليف إذ تصح النيابة فيه، و يجب أن تؤدى اليمين بالصيغة التي قررها الحكم وهي الصيغة التي وجهها فيها الخصم، وليس للمحكمة سلطة تعديل تلك الصيغة، وهذا راجع إلى أن ليس لها حق توجيه اليمين الحاسمة بصفة تلقائية.
على أن للمحكمة أن تقوم بتعديل صيغة اليمين المبهمة تعديلا لا يؤثر في جوهر الاتفاق الذي أعربت عنه تلك اليمين، كما لا يحق للخصم أن يقوم بتغيير صيغة اليمين أصلا، وانه لا يعتبر حلفا إلا إذا آداها في صيغتها التي وجهت إليه.[20]
*-أن يرد الخصم اليمين على من وجهها إليه :
تنص المادة 343 من القانون المدني على أنه : " لمن وجهت إليه اليمين أن يردها على خصمه، على أنه لا يجوز ردها إذا قامت اليمين على واقعة لا يشترك فيها الخصمان، بل يستقل بها شخص من وجهت إليه اليمين ".
والخصم هنا مخير بين أن يقوم بتأدية اليمين، وبين أن يردها على من وجهها إليه بشرط أن تكون الواقعة موضوع اليمين مشتركة بينهما، مثل واقعة الإقراض أو الوفاء أو البيع والسبب في ذلك هو أن اليمين الحاسمة عبارة عن احتكام إلى ضمير الخصم كما تقدم، فيستطيع الخصم الذي وجهت إليه اليمين أن يقوم بدوره بالاحتكام إلى ضمير خصمه، أما إذا كانت الواقعة خاصة بشخص من وجهت إليه اليمين فإنه لا يجوز الرد، ومثال ذلك: إذا كانت اليمين منصبة على علم الوارث أو عدم علمه بتصرف صدر من مورثه، وكذلك توجيه الشفيع اليمين إلى المشتري أن يرد اليمين على طالب الشفعة، لأن هذا أجنبي عن الاتفاق الخاص بالثمن فلا يمكنه التأكد من حقيقة مقداره .
ويجب أن يقع رد اليمين على نفس اليمين الموجهة، أما إذا وقع على صيغة معدلة منها اعتبر ذلك توجيها ليمين جديدة وجاز فيها الرد مرة ثانية، ومتى ردت اليمين فإنه لا يمكن ردها ثانية.
· - أن يرفض الخصم أداء اليمين ولا يردها، وهو النكول :
وقد نصت على هذه الحالة المادة 347 من القانون المدني بقولها: " وكل من وجهت إليه اليمين فنكل عنها دون ردها على خصمه، وكل من ردت عليه اليمين فنكل عنها خسر دعواه".
والنكول موقف سلبي يقفه الخصم يتمثل في عدم الحلف حينما يتوجب عليه الحلف، فإذا لم يقم بأداء اليمين الموجهة إليه حكم عليه لفائدة من وجه إليه اليمين".
وعلة ذلك أن المشرع اعتبر النكول إقرارا ضمنيا من طرف الخصم، ولا يجوز الرجوع عن الإقرار، ومن ثم فلا يجوز للخصم الناكل يطلب السماح له بالحلف من جديد، ويترتب على ذلك أيضا عدم تجزئة اليمين كما هو الشأن بالنسبة للإقرار[21]. ويترتب على النكول أيضا امتناع إثبات صحة الواقعة التي نكل فيها بأي طريق من الإثبات الأخرى.
على أنه لا يعد ناكلا عن اليمين إذا رفض الخصم أداءها على واقعة غير متعلقة بشخصه وذلك مثل الوارث إذا رفض أن يحلف على أن مورثه لم يتسلم المبلغ المدعى به.
*- آثار اليمين من حيث الأشخاص :
تعتبر اليمين الحاسمة كالإقرار ذات حجية قاصرة سواء في ذلك الحلف أو النكول، فهي في حالة الحلف حجة على الحالف وحده وعلى ورثته بصفتهم خلفا عاما له، ولا يتعدى أثرها إلى غير الخصم الحالف و ورثته، وأنه لا أثر لليمين على الشريك، وبعبارة أخرى فإنه لا يجوز للغير الخارج عن الخصومة أن يحتج باليمين، كما أنه لا يجوز للخصم أن يتمسك باليمين اتجاه الغير. و يقرر الفقهاء أن آثار اليمين الحاسمة هي نفس آثار العقود والالتزامات، وهي لا تسري إلا على المتعاقدين.
ولكن هذه القاعدة قد تختلف عندما توجد حالة من حالات التضامن بين الخصم الذي أدى اليمين أو نكل عنها، وبين غيره[22].
فنصت المادة 232 فقرة 2 و3 من القانون المدني على ذلك يقولها : " إذا نكل أحد المدينين المتضامنين عن اليمين الموجهة إليه، أو إذا وجه هذه اليمين إلى الدائن وأداها هذا الأخير فلا يضار المدينين، وإذا اقتصر الدائن على توجيه اليمين إلى أحد المدينين المتضامنين، وحلفها المدين ، فيستفيد منها الباقون ".
والمقصود من هذا النص أنه يجوز أن يستفيد المدينون المتضامنون من اليمين إذا حلفها واحد منهم، أو وجهها للدائن فنكل عنها، وكذلك يستفيد منها الدائنون المتضامنون إذا حلف أحدهم بما يفيد الآخرين أو وجهها للمدين فنكل عنها، ولكن لا يضار سائر الدائنين المتضامنين باليمين التي يحلفها أو ينكل عنها أحدهم أو التي يوجهها هذا إلى الدائن.
وقد حاول المشرع بهذا النص أن يوفق بين قواعد نسبية آثار اليمين وبين قواعد التضامن التي تتعارض معها والتي تقضي بأن عمل المدينين المتضامنين يفيد الآخرين.
- اليمين في الشريعة الإسلامية :
الأصل في الإثبات عند فقهاء الشريعة الإسلامية هو البينة، أما اليمين فهي بديل عنها، ولهذا فإنها لا تشرع إلا عند تعذر البينة. وشرعت اليمين للحاجة إليها لدفع التهمة وهي تهمة الكذب عن المدعى عليه في حالة إنكاره للدعوى، ومن ثم يشترط في الشيء المدعى به أن يكون محتملا للإقرار به شرعا بحيث لو أقر به المدعى عليه لصح إقراره به، و إلا فلا يمكن أن يستحلف فيه، ويترتب على ما تقدم عدد من النتائج:
-1- أن اليمين حجة للمدعي، بمثابة البينة فله أن يتحمل احداهما أو الأخرى حسبما يشاء، وبمعنى ذلك أن اليمين لا يجب توجيهها إلا بطلب المدعي لها، فإنها حق له وليست من حق القاضي، كما أنها ليست من حق المدعى عليه، ولذلك فلا عبرة باليمين الواقعة بغير محضر القاضي، ولا يصح التحليف إلا عنده كما أن تحليف القاضي للخصم من تلقاء نفسه لا عبرة به، وإنه لا يصح تحليف الخصم إلا بناء على طلبه.
-2- أنه لا يكمن توجيه اليمين إلا في المسائل التي هي من حق الخصوم، أما فيما هو حق الله تعالى، فلا يصح فيها توجيه اليمين وهي الحدود كالزنا والسرقة والسكر وغير ذلك[23].
-3- أن اليمين لما كانت من حق الخصم فيستوي فيها جميع أنواع الأملاك وجميع أنواع الخصوم، بلا فرق بين حر وعبد أو مسلم وكافر أو ذكر وأنثى أو مرتد وغيره، حتى أنه لا تشترط العدالة فيها مطلقا.
- ومن آثار اليمين في الشريعة الإسلامية :
أنه يترتب عنها أداءا أو نكولا عدة نتائج نوردها فيما يلي :
1/ - وقف الخصومة:
إذا حلف المدعى عليه انقطعت الخصومة، لأنه لا حجة للمدعي فحجته هي البينة أو إقرار الخصم أو نكوله، وقد انعدم ذلك كله وليس له أن يخاصم بغير حجة، و تنقطع الخصومة في الحال، أي بصفة مؤقتة، بحيث إذا قام المدعى عليه بأداء اليمين ثم أراد المدعي أن يقيم البينة على دعواه فيقول الأحناف والحنابلة أنه يجوز قبول البينة عملا يقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه :" اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة " وقالوا أيضا أن القضاء بالنكول لا يمنع المقضى عليه من إقامة البينة بما يطلبه لأن اليمين تعتبر بمثابة الخلف عن البينة التي هي الأصل في الإثبات، وإذا جاء الأصل انتهى حكم الخلف كأن لم يوجد أصلا.
2/ - ثبوت الحق باليمين من عدمه :
قال الإمام مالك رحمه الله :" يثبت باليمين حق المدعي في إثبات ما أنكره المدعى عليه وإبطال ما ثبت عليه من الحقوق إذا ادعى الذي ثبت عليه إسقاطه في الموضوع الذي يكون المدعي أقوى سببا وشبهة من المدعى عليه".
وقال غيره :"لا يثبت للمدعي باليمين دعوى سواء كانت إسقاط حق عن نفسه قد ثبت عليه، أو إثبات حق أنكره فيه خصمه".
وسبب اختلافهم ترددهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : " البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر" هل ذلك عام في كل مدع أو مدعى عليه أم إنما خص المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين لأن المدعي في الأكثر هو أضعف شبهة من المدعى عليه؟ [24] .
و في القضاء بالنكول : اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يرى أصحاب هذا القول أنه لا يقضى على المدعى عليه بمجرد نكوله، بل يجب أن ترد اليمين على المدعي، و هذا هو مذهب المالكية و الشافعية، لأن من حجة الإمام مالك أن الحقوق عنده إنما تثبت بشيئين: إما بيمين و شاهد و إما بنكول و يمين، و هو يرى اشتراط الاثنين في الشهادة، يعني أنه لا يقضى للمدعي إلا بشاهد إلى جانب يمينه التي هي بمثابة الشاهد، وإما بشاهد ونكول المدعى عليه، لأن هذا النكول بمثابة الشهادة، وإما بنكول المدعى عليه ويمينه، وإما بشهادة امرأتين والنكول. ويختلف الشافعي مع مالك في أن الشافعي لا يجيز القضاء بالشاهد و نكول المدعى عليه بل يجب على المدعي أداء اليمين لاستحقاق دعواه.
القول الثاني : ومقتضاه أنه يمقضى على المدعى عليه بمجرد نكوله، وأنه لا ترد اليمين على المدعى عليه بمجرد نكوله، وأنه لا ترد اليمين على المدعي، وهو قول الحنفية، وذلك لأن المدعى عليه إذا نكل عن أداء اليمين ظهر صدق المدعي، فيقضي له، كما لو أقام بينة، ومن وجهة أخرى فإن النكول يدل على الإقرار، ذلك لأن المدعى عليه لو كان صادقا في الإنكار لبرأ نفسه باليمين، فإذا نكل عنها كان ذلك بمثابة الإقرار فيقضى عليه به، ولكن ينبغي للقاضي أن يقول للمدعى عليه أن أعرض عليك ثلاث مرات، فإن حلفت و إلا قضيت عليك.
أما القول الثالث : فيرى أنه لا يقضى على المدعى عليه بالنكول ولا ترد اليمين على المدعي، بل يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف، وهذا هو قول ابن حزم الظاهري، والمدعي الذي يقيم شاهدا واحدا عدلا وامرأتان، فيحلف ويقضي له، فإن نكل حلف المدعى عليه وبرئ[25].
2- حجية اليمين الحاسمة :
اليمين الحاسمة كالإقرار حجيتها قاصرة كما قدمنا، سواء في ذلك عند الحلف أو عند النكول.
*- من حيث الحلف :
فمن وجه اليمين واحتكم بذلك إلى ذمة خصمه كان أثر هذا الاحتكام قاصرا عليه وهو و ورثته بصفتهم خلفا عاما له ولا يتعدى هذا الأثر إلى غير الخصم وورثته، فلا يتعدى إلى الشريك أو الورثة فيما بينهم أو المدين المتضامن، فلو وجه أحد الشركاء في الشيوع اليمين إلى مدعي استحقاق الملك الشائع، وحلف، كانت اليمين حجة على الشريك الذي وجه اليمين دون غيره من الشركاء، ولو وجه أحد المدينين المتضامنين اليمين إلى الدائن وحلف، كانت اليمين حجة على المدين الذي وجه اليمين دون غيره من المدينين.
وإذا ادعى شخص دينا على آخر، فوجه المدعى عليه اليمين إلى المدعى فحلف، كانت اليمين حجة على من وجهها، ولا تكون حجة على دائنيه إذا طعنوا في اليمين بالتواطؤ، وإذا تنازع شخصان على عقار، وباع أحدهما هذا العقار، ثم وجه اليمين للمتنازع عنه فحلف، كانت اليمين حجة على من وجهها دون المشتري منه، أما إذا كان حلف اليمين قبل البيع كانت اليمين حجة على المشتري.
*-من حيث النكول :
أما من حيث النكول، فمن نكل من الشركاء في الشيوع، كان نكوله حجة دون سائر الشركاء، ومن نكل من الورثة، كان نكوله حجة عليه دون سائر الورثة، ومن نكل المدينين المتضامنين كان نكوله حجة عليه دون سائر المدينين[26].
وحجية اليمين هي حجية قاطعة بالنسبة لأطرافها والقاضي معا، إذ أن توجيهها يسقط حق طالبها من الاستناد إلى أي دليل آخر ولو توفر، ولا يجوز لأي من الخصمين أن يثبت عكس دلالة اليمين الحاسمة أداءا ونكولا، ومن ثم لا يجوز للخصم أن يثبت كذب اليمين بعد أدائها من الخصم الذي وجهت إليه أو ردت إليه[27].
-ما المقصود بتوزيع عبءالإثبات في اليمين الحاسمة ؟
تقتضي القاعدة الأصلية في عبء الإثبات في الفقه القانوني شأنه في ذلك شأن الفقه الإسلامي – أن البينة يكلف بها المدعي، فهو الذي يتكفل بمهمة القيام بعبء الإثبات، فقد تكفل المشرع بالقيام بتوزيع عبء الإثبات بين أطراف النزاع، بحيث يكتفي من المكلف به أصلا أن يقوم بإثبات ما يرجح وجود حقه في ذمة خصمه، لينتقل إلى خصمه عبء إثبات ما أثبته المدعي، وهكذا إلى أن يخفق أحد الخصمين في دفع ما قام خصمه بإثباته فيخسر الدعوى.
(1) أما نقل عبء الإثبات، بمعنى تكليف القاضي لأحد الخصمين بما هو من اختصاص خصمه، فقد أقره القانون المدني الجزائري، حيث أجاز في اليمين الحاسمة - وهي لا تكون إلا أمام القضاء - أن يوجه أحد الخصمين اليمين إلى خصمه ليقوم بحلفها محتكما إلى ضميره وذمته فإذا ما حلف برئت ذمته، ويجوز لمن وجهت إليه اليمين أن يردها إلى خصمه، وهذا ما تقتضي به المادة 343 من القانون المدني، وهذا بغض النظر عن كون الذي وجهها هو المدعي أو المدعى عليه، والقاضي لا يملك إلا أن يجيب طلب توجيهها، ما دام طالبها غير متعسف في طلبه، وإذا نكل الخصم الذي وجهت إليه عن الحلف دون أن يردها أو نكل الذي ردت عليه، فإنه يخسر دعواه، وهذا ما نصت عليه المادة 347 من القانون المدني.
وبناءا على ما تقدم فإن القانون المدني يؤيد نفل عبء الإثبات من الشخص المكلف به إلى خصمه، ويتمثل ذلك في جواز رد اليمين الحاسمة من الشخص المكلف بها إلى خصمه.
كما نجد أن القانون يوافق مذهب الجمهور في الفقه الإسلامي الذي يقضي بجواز نقل عبء الإثبات من الشخص المكلف به إلى خصمه، ما دام هذا النقل في مصلحة الدعوى، حسبما يراه القاضي أو الخصوم محققا للغاية التي ينشدها أطراف الدعوى من حسم النزاع، وقطع الخصومة على نحو يتماشى مع ما تقتضيه قواعد العدالة، من تقريب الحقيقة القضائية من الحقيقة الواقعية قدر المستطاع.
[1] قرار عن المحكمة العليا: ملف:215174 بتاريخ 09/05/2000. م.ق.عدد 02 سنة2000 (أنظر الملحق).
[4] ابن عابدين – الجزء الأول – ص 220
[5] بكوش يحي – أدلة الاثبات في القانون المدني الجزائري و الفقه الإسلامي – دراسة نظرية و تطبيقية مقارنة – ص 338.
[6] بكوش يحي – المرجع السابق – ص 308
[7] المجلس الأعلى : رقم الملف 8983 الصادر بتاريخ 10/12/1975 – غير منشور
[8] دالوز – الموسوعة الإجرائية – البينة 1191.
[9] عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص 682-691 – 692 - 696
[10] يحي بكوش – أدلة الإثبات في القانون المدني الجزائري و الفقه الإسلامي – ص 313-314
[11] عبد الرزاق أحمد السنهوري – المجع السابق – ص 697-702
[12] سعدون العامري – موجز نظرية الإثبات – ص 118
[13] سليمان مر قس - موجز أصول الإثبات في المواد المدنية – ص 134.
[14] موسوعة دالوز للإجراءات – إثبات – 1210.
[15] عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص 702-710
[16] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 315-320
[17] عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص 715
[18] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 321.
[19] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 322-323
[20] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 322- 324
[21] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 324-326
[22] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 325-326
[23] يحي بكوش – المرجع السابق- ص 338-340
[24] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 350-351
[25] يحي بكوش – المرجع السابق – ص 349
[26] عبد الرزاق أحمد السنهوري – المرجع السابق – ص 741-743
[27] نبيل ابراهيم سعد – الإثبات في المواد المدنية و التجارية في ضوء الفقه و القضاء – ص 234.