المبحث الثالث: دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب الاتفاق:
بعدما تعرضنا في المبحث السابق إلى دور الخصوم في توزيع عبء الإثبات بموجب الإقرار واليمين الحاسمة، سنتعرض في هذا المبحث إلى اتفاق الخصوم أنفسهم قبل وقوع النزاع أو أثنائه على تعديل القاعدة العامة في عبء الإثبات، فيتم الاتفاق بينهم على أن الذي يكلف بالبينة هو المدعى عليه ،و الذي يكلف باليمين هو المدعي، فهل مثل هذا الاتفاق جائز ويقره المشرع ؟ أم أن الأمر بخلاف ذلك ؟ هذا ما سنتعرض له في هذا البحث والذي قسمناه إلى مطلبين. فتناولنا في المطلب الأول التعديل الاتفاق لقواعد عبء الإثبات و في المطلب الثاني تعرضنا إلى مدى جواز الاتفاق علي مخالفة قواعد عبء الإثبات.
المطلب الأول: التعديل الإتفاقي لقواعد عبء الإثبات:
ونتعرض إلى ذلك في الفقه القانوني ونحاول مقارنته بالفقه الإسلامي.
أولا: التعديل الاتفاقي لقواعد عبء الإثبات في الفقه القانوني:
يقتضى البحث في هذه المسألة أن نتعرض ليحث المسألة تعلق قواعد عبء الإثبات بالنظام العام, والحقيقة أنه إذا كان من المتفق عليه أن قواعد الإثباتالإجرائية التي يتعين اتباعها أمام المحاكم في إثبات الدعوى والمواجهة بالأدلة تتعلق بالنظام العام، وبالتالي فانه لا يجوز للأطراف أن يتفقوا على خلاف ما تقضي به، كما يجوز لأي طرف أن يتمسك بها في أي مرحلة كانت عليها الدعوى و لو لأول مرة أمام المحكمة العليا، وذلك لأنها تتعلق بسير أعمال السلطة القضائية، وبالتالي فإنه لا يملك الأطراف تغيرها عن طريق الاتفاق. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقواعد الإجرائية فإن الأمر مختلف بالنسبة للقواعد الموضوعية التي تتعلق بمحل الإثبات و عبءه وتنظيم طرقه، فقد اختلف بشأنها الفقه القانوني. هل تتعلق بالنظام العام أم لا ؟ على مذهبين :
المـذهـب الأول:
يرى أنصاره أن قواعد الإثبات الموضوعية، ومنها عبء الإثبات تتعلق بالنظام العام. و هذا المذهب يعتنقه جمهور الفقه الفرنسي .
و يرى أنصار هذا الاتجاه أن التصوير التنظيمي للعدالة يجب أن يغلب على التصوير الاتفاقي أو الفردي، فإذا كان المشرع قد نظم سلفا قواعد الإثبات الموضوعية، فإن هدفه من ذلك توفير الضمانات الجوهرية لتحقيق العدالة، فالخصوم لهم كامل الحرية في اللجوء إلى القضاء من عدمه ، فإذا هم ارتضوا اللجوء إليه طلبا لحماية حقوقهم فإنهم يكونون قد وضعوا باختيارهم حدا لحريتهم ،
و لا يسعهم إلا الانصياع لما وضعه القانون من قواعد إجرائية أو موضوعية، فيلتزمون باتباعها . و بالتالي لا يجوز للأطراف الاتفاق سلفا على خلاف ما تقضي به هذه القواعد أو التنازل عنها1 لأن المصلحة العامة تقتضي أن يقوم الجهاز القضائي بما هو مكلف به على أكمل وجه، دون أن يعرقل سيره اتفاق الأطراف .
و الواقع أن ما ذهب إليه أصحاب هذا الاتجاه لا يخلو من شطط واضح، ذلك أن الخصومة لا تمس سوى مصالح الأطراف الخاصة ، و ليس لها شأن بالمصلحة العامة بل إن الغاية العظمى من تنظيم الجهاز القضائي إنما هي حماية مصالح الأفراد الخاصة .
المذهب الثاني :
و يرى أنصاره أن قواعد الإثبات الموضوعية لا تتعلق بالنظام العام ، و لا سيما عبء الإثبات، و هذاالمذهب يؤيده الفقه المصري و القضاء.
و حجتهم عن الخصومة ملك لأطرافها، و القانون كفل لهم حرية تقاضي، و مادام عن القانون كفل الفرد حرية التصرف في حقوقه بما في ذلك التنازل عنها ، فيكون لهم من باب أولى الحق في حمايتها بما يراه محققا لمصلحته، و من ثم فأنه يجوز أن يتفق الطرفان مقدما على خلاف ما تقضي به هذه القواعد، و إن كان هناك خلاف في الفقه المصري في اعتبار بعض القواعد المتعلقة بطرق الإثبات من النظام العام ،و بحث هذا الخلاف خارج عن نطاق بحثنا و الذي يهمنا هو أن الاتفاق قائم بين الفقه المصري على اعتبار القواعد المتعلقة بعبء الإثبات ليست متعلقة بالنظام العام و من ثم يجوز للأطراف أن يتفقوا على خلافها، كأن يتفقوا على أن يعفى المدعي من عبء الإثبات ، أو يكلف به المدعى عليه ، و هذه بعض الأمثلة التي توضح ذلك1.
تنص المادة 138 من القانون المدني:" بأن حارس الحيوان مسؤول عما يحدثه الحيوان من ضرر، ما لم يثبت أن وقوع الحادث كان سبب أجنبي لا يد له فيه" و مع ذلك فإنه يجوز الاتفاق مقدما على تعديل هذه القاعدة، كأن يتفق شريكان في مرعى واحد على أن كل ضرر يقع من مواشي أحدهما على مواشي الآخر لا يكون الأول مسؤول عنه إلا إ ذا أثبت شريكه التقصير أو الإهمال في جانبه.
تنص المادة 496 ف1 من القانون المدني بأن المستأجر مسؤول عن حريق العين المؤجرة ما لم يثبت أن الحريق نشأ عن سبب لا يد له فيه و مع ذلك فإنه يجوز الاتفاق مقدما على نقل عبء الإثبات إلى المؤجر ، كأن يتفقا على أن المستأجر غير مسؤول عن أي حريق في العين المؤجرة ، ما لم يثبت المؤجر وجود الخطأ في جانب المستأجر.
كما أن الأصل أ ن أمين النقل مسؤول عن الضرر الذي يحدث أثناء النقل للشخص أو للشيء المنقول ، بناء على ما تقضي به قواعد المسؤولية العقلية ، و من ثم فإن عبء نفي الخطأ يقع على عاتق مسؤول النقل، و لكن يجوز الاتفاق سلفا ما لم يكن هناك شرط إذعان على نقل عبء الإثبات إلى الشخص المتعاقد معه، كأن يتفقا على أن المكلف بإثبات الخطأ في جانب مسؤول النقل هو الشخص المتعاقد معه.
- كما يجوز أن يتم الاتفاق على تعديل قواعد عبء الإثبات قبل حصول النزاع فإنه يجوز أ ن يتم أثناء وقوعه ، فمثلا يجوز للخصم الذي لم يكن أصلا مكلفا بإثبات واقعة معينة أ ن يتطوع للقيام بإثباتها، مع ملاحظة أن ذلك لو تم و أجابه القاضي إلى طلبه فليس له الرجوع عما ألزم نفسه به بحجة أنه لم يكن مكلفا أصلا بإثبات .
و قد فرق الدكتور سليمان مرقص بين الشخص الذي يتطوع بإثبات ما لم يكن مكلفا به و هو على بينة من أ ن هذا العبء ليس واقعا عليه في الأصل، و أنه قصد التنازل عن قيام خصمه بعبء الإثبات ، فمثل هذا الشخص لا يجوز له الرجوع عما ألزم نفسه به بحجة أنه غير مكلف أصلا بعبء الإثبات، و بين الشخص الذي يقوم بتحمل مشاق عبء إثبات معتقدا- خطأ- وقوعه عليه، فمثل هذا الشخص لا يعد تطوعه هذا نزولا عن حقه في تكليف خصمه بعبء الإثبات ، لأنه يقوم على أساس خطأ في القانون، فلا ينبغي التعويل عليه و يتعين إعمال القاعدة. [2] ، ذلك لأن تطوعه بالقيام بمشقة عبء الإثبات مع سكوت خصمه يعد بمثابة الاتفاق بينهما على نقل عبء الإثبات، فلا يحق له الرجوع عن القيام بما ألزم نفسه
ثانيا: التعديل الاتفاقي لقواعد عبء الإثبات في الفقه الإسلامي:
في الفقه الإسلامي، من المسلم به أن قواعد عبء الإثبات وضعت أصلا لحماية مصالح الخصوم أنفسهم و من ثمة يجوز لمن تقررت هذه الحماية لمصلحته أن يتنازل فيها بالاتفاق مع خصمه بالإعفاء منها. أو نقلها إلى غير المكلف بها أصلا، و هذا ما يعرف في القضاء بشرط التصديق.
خلافا للحنفية الذين يمنعون الاتفاق على تغيير القاعدة العامة في عبء الإثبات ، كما منعوا نقل عبء الإثبات و قالوا : بأن مثل هذا الاتفاق يتعارض مع النص الشرعي الذي يبين ما يختص به كل طرف من أطراف الدعوى ، و هو الحديث المشهور: " البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر ". ونصوا على أن: " من قال لآخر لي عليك آلف درهم ، فقال له الآخر إن حلفت أنها لك علي أديتها إليك ، فحلف ،فأدها إليه المدعى عليه، إن كان أداها إليه على الشرط الذي شرطا فهو باطل ، وللمؤدي أن يرجع فيما أدى ، لان ذلك الشرط باطل ،لأنه على خلاف حكم الشرع ،لان حكم الشرع أن اليمين على من أنكر دون المدعي".[3]
و رأيهم هذا مترتب على قولهم بعدم جواز الحكم بالشاهد و اليمين ،وعدم جواز القضاء باليمين المردودة، على أن هذا الرأي ضعيف لأن القول بجواز نقل عبء الإثبات يتماشى و المصلحة العامة التي تقتضي المحافظة على الحقوق، فقد يحدث ألا يستطيع المدعي إقامة الحجة كاملة على دعواه، كأن لايتيسر له إلا الاستشهاد بشاهد واحد ، و حينئذ يكون من مصلحة الدعوى القول بجواز نقل اليمين من المدعى عليه إلى المدعي ليحكم له بها مع شاهده ، لأن اليمين مشروعة أصلا في حق من تقوى جانبه و ظهر صدقه، و لذلك شرعت في الأصل في جانب المدعى عليه الذي يتقوى جانبه بمرجح من المرجحات ، كبراءة الذمة مثلا، فإذا أقام المدعي شاهدا فقد تقوى جانبه و صار ظهور الحق أقوى إلى جانبه و حينئذ تنتقل اليمين من الجانب المدعى عليه إلى المدعي و أيضا فإن القول بالقضاء باليمين المردودة يتماشى مع هذه القاعدة لأن المدعي قد تقوى جانبه بنكول خصمه عن الحلف، ضف إلى ذلك أ ن يمين المدعى عليه حجة له في النفي ، كما أ ن بينة المدعي حجة له في الإثبات ، و لما كان ترك المدعي لحجته موجبا للعدول إلى يمين المدعى عليه، وجب أن يكون ترك المدعى عليه لحجته موجبا للعدول إلى يمين المدعي .
كذلك أنه إذا امتنع المدعي عن إقامة البينة، جاز للمدعى عليه إقامتها للحصول على حكم قضائي يقوي يده أو براءته ، فكذلك المدعى عليه إذا امتنع عن اليمين فيكون لخصمه حلفها .
كما أن رد اليمين إلى المدعي جائز على وجه الصلح حتى عند القائلين بعدم جواز الرد و الحكم بمجرد النكول و هذا يدل على أنه للقاضي نقل عبء الإثبات ما دام في ذلك قطع للمنازعة و حسم للخلاف بين الخصمين .
وعليه فإنه لا يسلم لهم ما ذهبوا إليه من رد الاتفاق على تعديل القاعدة العامة في عبء الإثبات.
و يظهر جواز الاتفاق على تعديل القاعدة العامة في عبء الإثبات من خلال الفروع التي ذكرها الفقهاء و منها:
- إذا شرط الرجل لإمرأته عند العقد أنها مصدقة في دعوى إضراره بها دون بينة تلزمها فذلك لها، فإذا شكت إضراره و ثبت الشرط كان لها التطليق دون بينة.
- إذا شرط الرجل لزوجته أن القول قولها في المغيب عنها، و أنها مصدقة في انقضاء الأجل المضروب في ذلك، فإنه يسقط عنها بهذا التصديق عبء إثبات المغيب عند الحاكم، و إنما يكفيها أن تثبت الزوجية عنده والشرط.
- افتداء اليمين بالمال، و ذلك في حالة ما إذا وجبت اليمين على أحد الخصمين فيصالح عليها خصمه الآخر، بأن يفتدي يمينه منه بالمال، فيصح و تنقضي الخصومة دون حلف اليمين.
لو قال: كنت أعامل فلانا و فلان، فما ادعيا فصدقوهما، فإنهما إذا ادعيا شيئا أعطياه بلا يمين.
إذا قال المدعى عليه لو شهد علي فلان فهو صادق، فإن شهد عليه هذا الشخص المعين فقد ثبت الحق، ولا يطلب من المدعي شاهد آخر.
هذه الفروع التي ذكرها الفقهاء يتضح منها جواز الاتفاق على تعديل قواعد عبء الإثبات ما دام ارتضى الطرف الذي تقرر عبء الإثبات لمصلحته على ذلك[4]
المطلب الثاني: مدى جواز الاتفاق على مخالفة قواعد عبء الإثبات
ونتعرض في هذا المطلب إلى القاعدة العامة المنصوص عليها بالمادة 333 من القانون المدني الجزائري، و نحاول أن نقارن ذلك بما يوجد في الشريعة الإسلامية، كما نتعرض في نقطة ثانية إلى مدى إمكانية الاتفاق على خلاف هذه القاعدة و مدى تعلق ذلك بالنظام العام.
أولا: موضع القاعدة العامة في الإثبات بشهادة الشهود.
1- في الفقه القانوني:
تنص المادة 333/01 من القانون المدني الجزائري على ما يلي:* في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على 1000 دج أو كان غير محدد القيمة فلا تجوز البينة في إثبات وجوده أو إنقاضه ما لم يوجد نصا يقضي بغير ذلك...*
و مضمون هذه القاعدة أنه لا يجوز إثبات التصرفات القانونية المدنية إذا زادت قيمتها على قيمة معينة إلا بالكتابة.
كما تنص المادة 334/01 من القانون المدني الجزائري على ما يلي:* لا يجوز الإثبات بالبينة و لو لم تزد القيمة على ألف دينار جزائري فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون عقد رسمي...*. و هذا النص هو الشق الثاني من القاعدة العامة و مضمونها أنه حتى إذا كان التصرف القانوني لا تزيد قيمته على 1000 دج فإنه إذا كان ثابتا في عقد رسمي فلا يجوز إثبات ما يخالفه.
و من خلال ذلك نرى أن القاعدة العامة تضيق من نطاق الإثبات بشهادة الشهود و القرائن و تجعل قوتها في الإثبات محدودة، و غني عن البيان أن هذا الميدان الذي استبعد فيه الإثبات بالبينة و القرائن ذو نطاق واسع فهو يستغرق الكثرة الغالبة من التصرفات المدنية التي تكون عادة محلا للتقاضي... غير أن هذين الطريقين تعود لهما قوتهما المطلقة في الإثبات في الإستثناء الوارد في المادتين 335 و 336 من القانون المدني الجزائري، و تنص المادة 335 من القانون المدني الجزائري على ما يلي:* يجوز الإثبات بالبينة فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة، و كل كتابة تصدر من الخصم و يكون من شأنها أن تجعل وجود التصرف المدعى به قريب الاحتمال، تعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة*.
كما تنص المادة 336 من القانون المدني الجزائري على ما يلي:* يجوز الإثبات بالبينة فيما كان يجب إثباته بالكتابة:
- إذا وجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي.
- إذا فقد الدائن سنده الكتابي لسبب أجنبي خارج عن إرادته*.
فيستثنى من القاعدة العامة حالة وجود مبدأ الثبوت بالكتابة و حالة وجود مانع من الحصول على الكتابة أو ضياع السند الكتابي.
- و في القانون الفرنسي، كان يجعل شهادة الشهود هي الأصل في الإثبات فيجوز إثبات أي إلزام أيا كانت قيمته و بقيت هذه الحال سائدة إلى أن انتشرت الكتابة و صدر قانون 1566 سمي * بأمر مولان*، تقضي المادة 56 منه بوجوب تدوين المعاملات التي تزيد قيمتها على مائة فرنك فرنسي في ورقة رسمية أمام موثق العقود فهذه الورقة هي وحدها التي تكون دليلا للإثبات دون أن تقبل البينة فيما يجاوز هذا الدليل الكتابي أو فيما يدعي أنه اتفق عليه قبل كتابة الدليل، و في أثناء كتابته أو بعد الكتابة. و بعد مائة عام من صدور هذا الأمر صدر قانون لويس الرابع عشر في الإصلاح القضائي يقضي بوجوب تدوين المعاملات التي تزيد قيمتها على مائة فرنك و لو كانت ودائع اختيارية في أوراق رسمية أو عرفية، و لا يقبل الإثبات بالبينة لما يخالف ما اشتملت عليه هذه الأوراق أو يجاوزه و لا لما يدعى أنه اتفق عليه قبل الكتابة أو في أثنائها أو بعدها، و لولم تجاوز القيمة مائة فرنك دون أن يخل ذلك بما قد جرى العمل عليه أمام القضاة و القناصل في المسائل التجارية.
و بقي هذا النص معمولا به في القانون الفرنسي القديم، ثم نقله التقنين المدني الفرنسي نقلا يكاد يكون حرفيا، فنصت المادة 1341 على أنه: * يجب إعداد ورقة رسمية أو عرفية لإثبات الأشياء التي تزيد قيمتها على مائة و خمسين فرنكا و لو كانت ودائع اختيارية و لا تقبل للبينة فيما يخالف أو يجاوز مشتملات هذه الأوراق، أو فيما يدعى أنه وقع قبل كتابتها أو في أثناء الكتابة أو بعدها و لو كانت القيمة تقل عن مائة و خمسين فرنكا، وهذا كله دون إخلال بأحكام قوانين التجارة *.
Il doit être passe acte devant notaire ou sous signatures privées de toutes choses existantes la somme ou la valeur de cent cinquante francs, mêmes pour dépôts volontaires et il n’est reçus aucune preuve par témoins contre et autre le contenu aux actes ni sur ce qui serait allègue avoir été dit avant, lors ou depuis les s’actes acore qu’il s’agisse d’une somme ou valeur moins de cent cinquante francs, le tout sans préjudice de ce qui est prescrit dans les lois relatives au commerce.
وقد جعل قانون نابليون نصاب البينة مائة و خمسين فرنكا، و كانت في القانون الفرنسي القديم مائة فرنك ما يعادل ألفي فرنك، و قد نزل إلى هذا نظرا لزيادة انتشار الكتابة ، ثم نقصت قيمة الفرنك فصدر قانون أول أبريل سنة 1928 ليرفع النصاب مرة أخرى إلى خمس مائة فرنك، ثم نقصت بعد ذلك نقصا جسيما فنص قانون 21فبراير سنة 1948 على رفع النصاب مرة أخرى إلى خمسة آلاف من الفرنكات، أما في مصر فقد قرر النصاب بعشرة جنيهات و لم يتغير في القانون المدني الجديد ثم جاء قانون الإثبات ليرفع نصاب البينة إلى عشرين جنيه، أما في القانون المدني الجزائري فقد ثبت النصاب على قيمة ألف دينار جزائري (1000 د ج ).
2- موضع القاعدة في الشريعة الإسلامية:
قد أتى القرآن الكريم بأرقى مبادئ الإثبات في العصر الحديث، فهو يعد بحق أصل القاعدة و المصدر الأول لها و ليست كما ذهب إليه الفقه الفرنسي الذي قال بأن المصدر التاريخي المباشر لهذه القاعدة هو "أمر مولان" الصادر في فيفري 1566 حيث قال الله تعالى في كتابه الكريم:" يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوهو ليكتب بينكم كاتب بالعدل و لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق و ليتقي الله ربه و لا يبخس منه شيئا".
مصداقا لهذا القول الكريم، نستخلص أن الله قد أمر عباده المؤمنين بالكتابة " فاكتبوه" والأمر في الدين يفيد الوجوب و النكول عنه يعد من باب الوقوع في الحرام و مخالفة للشرع و عليه فإن الأولوية في الإثبات إذن للكتابة، و لكن لما كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك، وتقف عن المجاراة، هذا للتقدم لم يستطيع الفقهاء إلا أن يسايروا حضارة عصرهم، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولا بينا، و من العجيب أن عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت وراء تقديم الشهادة على الكتابة، فضل يردد ما قاله الفقهاء الأولون في تقديم الشهادة، و ذلك بالرغم من أنهم كانوا يستطيعون أن يقلبوا الوضع فيقدموا الكتابة، و يؤازرهم في ذلك انتشار الكتابة و تظاهرهم آيات القرآن الكريم.
ثانيا: مدى تعلق القاعدة بالنظام العام
إن الفقه و القضاء في فرنسا مختلفان فيما إذا كانت هذه القاعدة تعتبر من النظام العام فالفقه الفرنسي يذهب إلى وجوب اعتبارها من النظام العام، ذلك أن هناك الفقهاء الفرنسيين من يحذوا حذو القضاء الفرنسي إلا أن هذه القاعدة لا تعتبر من النظام العام أمثال " ديرانتون" "بونييه " "هيك" " بارتان" و" أوبري" و يستند الفقه الفرنسي في ذلك إلى حجتين
الأولى: أن القانون في تنظيمه طرق إثبات إنما يبغي الوصول إلى خير الحلول لحسم النزاع ما بين الأفراد، و من ثمة فهو يمس تنظيم القضاء نفسه،و تنظيم القضاء يعتبر من النظام العام.
ثانيا: أن الاعتبار الأساسي الذي استند إليه المشرع في تحريم البينة إلا في حدود ضيقة هو أن السماح بها يفسح المجال للإكثار من رفع القضايا و ازدحام المحاكم بها اعتمادا على تقديم الشهود و شرائهم عند الاقتضاء، وهذا الاعتبار يتصل أوثق الاتصال بالنظام العام و جاء في الموجز للمؤلف "السنهوري" في هذا الصدد أنه عندما يتطلب القانون دليلا كتابيا، يبرر الفقهاء ذلك عادة باعتبارات ثلاثة:
- أولهما: حرص القانون على التقليل من المنازعات و الخصومات، لأن الدائن إذا علم أن الدليل الكتابي واجب حرص على الوصول إليه فلا يصير للمدين مجال كبير لإنكار الدين و منازعة الدائن.
وكذلك الأمر من جهة الدائن الذي لم يصل إلى الدليل الكتابي المطلوب، فإن أمله في كسب الدعوى يكون ضعيفا فيبعد عن التفكير في الالتجاء إلى القضاء.
- ثانيهما: عدم الطمأنينة إلى شهادة الشهود، فإن للذاكرة البشرية يتطرق إليها من عوامل الضعف ما لا يحتوي الورق المكتوب، ولا يمكن الاحتراز من السهو و النسيان.
- ثالثهما:عدم الثقة بالشهادة في جميع الأحوال، فاحتمال شراء الشهود أو التأثير فيهم ليقرروا غير ما وقع احتمال يتحقق كل يوم و الاعتبار أن الأولان من شأنهما أن يجعلا للقاعدة التي تتطلب الدليل الكتابي من النظام العام.
و يرتب الفقه الفرنسي على أن القاعدة تعتبر من النظام العام أنه لا يجوز الاتفاق على الإثبات بالبينة أو بالقرائن فيما تزيد قيمته على النصاب، أو فيما يخالف الكتابة أو يجاوزها و لو لم تزد قيمته عن النصاب كذلك لا يجوز الاتفاق على الإثبات بالكتابة فيما لا تزيد قيمته على النصاب، و هناك من يفرق بين الاتفاق على الإثبات بالبينة حيث يجب الإثبات بالكتابة و هذا لا يجوز لأن الأصل في إثبات التصرفات المدنية هي الكتابة فلا يجوز الاتفاق على الإثبات بغيرها، حيث يجوز الإثبات بالبينة و هذا حسبهم جائز لأن الإثبات بالبينة في التصرفات المدنية استثناء فالاتفاق على الرجوع إلى الأصل جائز.
و يؤكدون في ذلك على أنه يستوي أن يكون للاتفاق ما بين الخصوم على مخالفة القاعدة واقعا قبل رفع النزاع إلى المحكمة أو بعد رفعه ففي الحالتين يكون للاتفاق باطلا لمخالفته للنظام العام.[5]
وللقاضي أن يحكم من تلقاء نفسه دون طلب من الخصوم بل بالرغم من تنازلهم أو من اتفاقهم على العكس بوجوب تطبيق الأحكام التي تقضي بها هذه القاعدة، و الخصوم أن يتمسكوا بهذه الأحكام، لأول مرة أمام محكمة النقض أما القضاء الفرنسي فيذهب في شبه إجماع كذلك، إلى أن القاعدة وإن كانت تتعلق بالمصلحة العامة إلا أنها ليست من النظام العام.
وذلك للاعتبارين الآتيين:
أولا: أن الإثبات إنما يتناول حقوقا فردية خاصة بالخصوم، وللخصم أن ينزل عن حقه، فيملك من باب أولى أن يتفق مع خصمه عن طريق إثباته، حيث يقال في هذا المجال أن الاتفاق على طريق الإثبات يمكن أن يكون عند تحليله بمثابة نزول عن الحق، إما نزولا غير مقيد أو نزولا معلقا على شرط، فالاتفاق على إثبات حق هو اتفاق على الحق ذاته، فإذا كان صاحب الحق يمكنه أن يتصرف في حقه، فإنه
يستطيع كذلك أن ينظم بالاتفاق طرقا لمنحه أو منعه، ومن ثم يستطيع أن يخضعه لطريق معين للإثبات.
ثانيا: أن موقف القاضي في الإثبات هو موقف الحياد التام، والخصوم وحدهم هم الذين يقومون بالنشاط الإيجابي في الإثبات، فلهم إذا شاءوا، أن يعينوا بالاتفاق فيما
بينهم الطرق التي يثبتون بها حقوقهم دون تدخل من القاضي، ولا يتدخل المشرع، فيرسم طرق الإثبات، إلا إذا لم يتفق الخصوم صراحة أو ضمنا، على شيئا من ذلك.
ويرتب القضاء الفرنسي على أن القاعدة لا تعتبر من النظام العام عكس النتائج التي يرتبها الفقه الفرنسي على أن القاعدة تعتبر من النظام العام، فيجوز الاتفاق على الإثبات بالبينة أو بالقرائن فيما تزيد قيمته على النصاب، أو فيما يخالف أو يجاوز الكتابة و لو لم تزد قيمته على النصاب، بل ويجوز الاتفاق على إعطاء القاضي حرية كاملة في الحكم بمقتضى اقتناعه الشخصي ويجوز كذلك الاتفاق على الإثبات بالكتابة فيما لا تزيد قيمته على النصاب، ويستوي في هذا الجواز أن يكون الاتفاق واقعا قبل رفع النزاع إلى المحكمة أو بعده، وليس للقاضي أن يحكم من تلقاء نفسه بوجوب تطبيق الأحكام التي تقضي بها القاعدة إذا نزل الخصوم عن التمسك بها صراحة أو ضمنا، أو حتى إذا اقتصر الخصم على عدم الاعتراض على خصمه وهو يخالفها في إثبات ما يدعيه.
ـ أما في مصر، وفي عهد التقنين المدني السابق فقد كان الفقه والقضاء متفقين على أن القواعد المتعلقة بطرق الإثبات إذا كانت تجيز البينة، لا تعتبر من النظام العام، فيجوز للطرفين أن يتفقا على أن الإثبات لا يكون إلا بالكتابة حتى لو لم تزد قيمة الالتزام على عشرة جنيهات.
أما إذا كانت قواعد الإثبات تتطلب الكتابة فقد كان هناك رأي يعتبرها من النظام العام، فلا يجوز الاتفاق مقدما على الإثبات بالبينة بل لا يجوز نزول أحد الطرفين عن حقه في الإثبات بالكتابة أثناء رفع الدعوى ، وللقاضي من تلقاء نفسه أن يرفض الإثبات بالبينة حتى لو قبلها الخصمان.
وكان هناك رأي ثان يميز بين الحالتين، فلا يجوز الاتفاق مقدما على جواز الإثبات بالبينة، ولكنه يجيز تراضي الخصمين أثناء رفع الدعوى على قبول البينة في الإثبات أن يكون قد تعين لهما مدى النزاع وأهميته. وهناك رأي ثالث لا يعتبرها من النظام العام دون تمييز بين حالة وأخرى، بل ويجيز الاتفاق مقدما على الإثبات بالبينة فعنده أن كل القواعد المتعلقة بطرق الإثبات، سواء كانت تحتم الكتابة في الإثبات أو تجيز البينة، فإنها ليست من النظام العام و قد قال "السنهوري" في هذا المجال أن هذا الرأي هو رأينا في عهد التقنيين المدني السابق حيث كتب في الموجز في هذا المعني " ويمكن القول بشيء من التعميم أن عدم اعتبار قواعد الإثبات من النظام العام هو الرأي الذي يذهب إليه القضاء في فرنسا ويقول به الفقه في مصر ويجنح إليه القضاء المصري في بعض تطبيقاته ولا يخالفه إلا الفقه الفرنسي دون أن تصل هذه المخالفة إلى حد الإجماع ".
ونحن بدورنا نؤيد هذا الرأي لأن قواعد الإثبات، إذا كانت في الأصل موضوعة لضمان حسن سير العدالة والتقاضي، إلا أن هذا لا يمنع الخصوم إذا رأو فيما يتعلق بمصالحهم الشخصية لا بأس عليهم من إتباع قاعدة دون أخرى أن يتفقوا على ذ لك، فهم أحرار في تقدير ما يرونه صادقا، كونه قادرين على التنازل عن الحق موضوع الإثبات، فمن باب أحرى وأولى أن يرسموا طريقا خاصا لإثباته. أما التقنين المدني الجديد فقد حسم هذا الخلاف إذ نص الفقرة 1 من المادة 400 على عدم جواز الإثبات بالبينة إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على 10 جنيهات أو كان غير محدد القيمة ما لم يوجب الاتفاق أو نص يقضي بغير ذلك فأجاز التقنين الجديد بذلك صراحة الاتفاق على جواز الإثبات بالبينة في تصرف قانوني تزيد قيمته على 10 جنيهات.
- فالقاعدة هي أن الدليل على الحق لا يعلو الحق ذاته، ضف إلى ذلك أن الإثبات حق للخصوم و أن القاضي يلتزم بمبدأ الحياد و هو ما تبناه المشرع الجزائري صراحة في نص المادة 323 من التقنين المدني الجزائري" أي على الدائن إثبات الالتزام و على المدين إثبات التخلص منه" و عليه يجوز لهما الاتفاق على القواعد التي يريانها تقرب إلى أداء العدالة، ما لم يلزم المشرع صاحب الحق بنص آمر مثل عقد الشركة الذي لا يجوز إثباته بغير الكتابة، و كذلك عقد الكفالة، و عقد النقل البحري، و هذا الطرح يصلح مجاراته في القانون الجزائري ذلك أن المشرع قد نص صراحة في نص المادة 418 من التقنين المدني: "يجب أن يكون عقد الشركة مكتوبا و إلا كان باطلا ..." و كذلك في نص المادة 645: "لا تثبت الكفالة إلا بالكتابة..." و هذه النصوص آمرة على وجوب الإثبات بالكتابة بالنسبة لعقد الشركة و عقد الكفالة فإنه لا يجوز إطلاقا للخصوم الاتفاق على طريق آخر للإثبات واستبعاد الكتابة.
- و بالرجوع إلى نص المادة 333/ ف1 من القانون المدني التي تنص على ما يلي: "في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على 1000 د ج أو كان غير محدد القيمة فلا تجوز البينة في إثبات وجوده أو انقضائه، ما لم يوجد نص يخالف ذلك ".
أي أن المشرع الجزائري قد نص صراحة على عدم جواز الإثبات بشهادة الشهود إذا كانت قيمة التصرف القانوني تزيد على ألف دينار جزائري" 1000 دج" أو كانت غير محددة، فلو أخذنا بالتفسير الحرفي للنص نجد أنه يعتبر قاعدة آمرة أي أنه من النظام العام و هذا راجع إلى عبارة:
"..لا يجوز .." و كذلك من خلال مقارنته بما جاء به القانون المصري و القانون اللبناني في هذا المجال نجد نص المادة 60 من القانوني المصري: "في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على مائة جنيه أو كان غير محدد القيمة لا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد نص أو اتفاق يقضي بغير ذلك..." و نصت المادة 254 من القانون اللبناني على:" لا تقبل شهادة الشهود لإثبات العقود و غيرها من التصرفات القانونية التي يقصد بها إنشاء حقوق أو التزامات أو انتقالها أو تعديلها أو انقضائها إذا كانت قيمتها تتجاوز 4000 ليرة ...".
" و يجوز للخصوم أن يعدلوا عن التمسك بهذه القاعدة صراحة أو ضمنا"
- فمن خلال هذين النصين نجد أن القانونين المصري و اللبناني قد نصا صراحة على جواز الاتفاق على مخالفة هذه القاعدة و بالتالي استبعدا تعلقها بالنظام العام، و هو ما ذهب إليه القضاء الفرنسي حيث اعتبر أن القاعدة لا تتعلق بالنظام العام فيجوز الاتفاق على الإثبات بالبينة أو بالقرائن فيما تزيد قيمته على النصاب أو فيما يخالف أو يجاوز الكتابة و لو لم تزد قيمتها على النصاب.
و عليه ينبغي الإشارة إلى أن نص المادة 333 من القانون المدني الجزائري ينطبق تماما مع ما ورد في نص المادتين السابقتين، إلا أن المشرع الجزائري لم ينص على جواز الاتفاق على مخالفة هذه القاعدة و هذا ما يجعل المجال متاحا للقول بارتباطها بالنظام العام.
- محمد فتح الله النشار – المرجع السابق – ص303 1
[2] محمد فتح الله النشار – المرجع السابق – ص 305 .
[3] محمد فتح الله النشار – المرجع السابق – ص 301.
-[5] و يميز البعض بين الاتفاق مقدما على طريق الإثبات غير الذي عينه القانون كالكتابة أو البينة و هذا لا يجوز لأن النزاع لم يتحدد فلا يجوز تقييد الخصم مقدما بطريق الإثبات لم يعينه القانون و بين الاتفاق على طريق الإثبات بعد قيام النزاع و معرفة حدوده و مداه و لو كان ضمنيا بعدم اعتراض الخصم على طريق الإثبات الذي سلكه الخصم و هذا جائز، غير أنهم فسروا سكوت الخصم و عدم اعتراض على ما سلكه خصمه في الإثبات على أنه لا يعتد به و يتوجب على القاضي أن يسلك طريق للإثبات الذي حدده القانون.