المقدمة
يحتل موضوع الوفاء بالالتزامات المالية، مكانة بارزة في مختلف التشريعات، فمنذ أقدم العهود وُضعت القواعد التشريعية التي تُعاد بموجبها الحقوق إلى أصحابها فيما لو لم يتمكنوا من الحصول عليها، كما تتشدد تلك القواعد في مواجهة كل من يحاول الاستيلاء على أموال الغير، لكن مع تطور المجتمعات البشرية وما نتج عن ذلك من زيادة في حجم التعاملات المالية، بدت الحاجة ماسة إلى تنظيمها خصوصا فيما يتعلق بكيفية الوفاء بالالتزامات المالية التي تنتج عادة عند قيام مثل تلك العلاقات التعاملية، فلقد بات من العسير، بعد أن أصبح النقد (أوراق البنكنوت) يمثل الطريقة الوحيدة لسداد ما يشغل ذمة الإنسان من حقوق للغير، أن يستمر الوفاء بالالتزامات المالية في كل الأحوال على شكل تقديم النقد كمقابل للحقوق واجبة الوفاء , لذلك فقد أدى هذا الوضع إلى ظهور وسيلة جديدة تقوم بنفس الدور الذي يقوم به النقد تماماً مع تلافي الأخطار الناتجة عن استعماله، فلقد ظهر الشيك وتطور منذ وقت بعيد، وأصبح يقوم مقام النقود في المعاملات على مختلف أنواعها، فبدلا من الوفاء بالالتزامات المالية عن طريق دفع مبلغ من النقود، يقوم المدين بوفاء المبالغ التي عليه بإعطاء دائنه شيكا يقبض قيمته من أحد البنوك المدينة للمدين.. وهكذا أصبح الشيك بحق أداة وفاء بارزة، ويزداد الإقبال على استعماله يوما بعد يوم في المجتمعات الحديثة نتيجة لما يحققه من فوائد عملية من شأنها التقليل من مخاطر استخدام النقد، إضافة إلى أنه يشجع الأفراد على إيداع أموالهم في مؤسسات الائتمان مما يزيد من فرص استثمارها في مشروعات التنمية وغيرها.
غير أن إعطاء الشيك للمستفيد الذي تسلمه كبديل مؤقت للنقود يعني قبض قيمته بالكامل من الجهة التي سحب عليها الشيك، ومؤدى ذلك أن يكون لمصدر الشيك لدى البنك المسحوب عليه رصيد كاف من النقود يمكنه من سداد قيمته لمن سحب لمصلحته.
إلا أن هذا الأصل الذي قامت عليه فكرة الشيك كأداة وفاء تقوم مقام النقد، من الممكن مخالفته من قبل المتعاملين بالشيكات في سبيل الاستيلاء على أموال الغير عن طريق إصدار الشيكات دون أن يتوافر لها مقابل مالي يفي بقيمتها، ومن ثم يخرج الشيك عن إطار وظيفته التي وجد من أجلها، بل على العكس يتحول مفهوم الشيك في مثل تلك الحالات ليصبح وسيلة من وسائل الخداع والتغرير فيضار به الأفراد و الجماعات وتنحدر الثقة فيه مما قد يؤدي إلى إحجام الكثيرين عن قبوله كبديل للنقود، ناهيك عما يسببه هذا الوضع من تراجع في مفهوم الائتمان كأحد الأسس التي تقوم عليها الأعمال التجارية.
من أجل ذلك كان لا بد من حماية الشيك حتى يتمكن من أداء وظائفه الاقتصادية المهمة، وتلك الحماية لا تتصور فعاليتها ومقدرتها إلا من خلال نصوص تجريمية تعاقب كل من يخل بالثقة المفترضة في الشيك إذا تم استخدامه في أغراض غير كونه أداة وفاء تقوم مقام النقود في المعاملات، فلقد ثبت عدم مقدرة الجزاءات المدنية وحدها لمواجهة حالات الاستخدام غير الصحيح للشيك، ذلك أن الالتجاء إلى تلك الجزاءات بالطرق التقليدية قد يطول أمد الحصول على الحق بها، إضافة إلى عجز الحلول المدنية إذا كان ساحب الشيك مُفلسا أو مُعسرا. و فيما يلي عرض لهذه الدراسة ...
مشكلة جريمة إصدار شيك بدون رصيد في نظام الأوراق التجارية السعودي
يتناول هذا البحث جريمة إصدار شيك بدون رصيد وفقاً لنصوص التجريم الواردة بنظام الأوراق التجارية السعودي، وتهتم هذه الدراسة بتحديد مفهوم الشيك الذي يعنيه النظام بالحماية الجنائية، ولكن تتمثل الحداثة في هذا البحث فيما يتعلق بتحديد وشرح صور الأفعال المادية المحققة لهذه الجريمة، خصوصاً بعد تدخل المنظم السعودي سنة 1409هـ بتعديل نص المادة (118) من نظام الأوراق التجارية، حيث أضاف صوراً جديدة لقيام هذه الجريمة لم تكن معروفة من قبل، وكذلك شدد بشكل ملحوظ في مقدار العقوبات التي كانت توقع فيما مضى على مرتكبي الجريمة .
يتبوأ موضوع الوفاء بالالتزامات المالية، مكانة بارزة في مختلف التشريعات، فمنذ أقدم العهود وُضعت القواعد التشريعية التي تُعاد بموجبها الحقوق إلى أصحابها فيما لو لم يتمكنوا من الحصول عليها، كما تتشدد تلك القواعد في مواجهة كل من يحاول الاستيلاء على أموال الغير، لكن مع تطور المجتمعات البشرية وما نتج عن ذلك من زيادة في حجم التعاملات المالية، سواء المدنية منها أو التجارية، بدت الحاجة ماسة إلى تنظيمها خصوصا فيما يتعلق بكيفية الوفاء بالالتزامات المالية التي تنتج عادة عند قيام مثل تلك العلاقات التعاملية، فلقد بات من العسير، بعد أن أصبح النقد (أوراق البنكنوت) يمثل الطريقة الوحيدة لسداد ما يشغل ذمة الإنسان من حقوق للغير، أن يستمر الوفاء بالالتزامات المالية في كل الأحوال على شكل تقديم النقد كمقابل للحقوق واجبة الوفاء، ويرجع السبب في ذلك إلى ضخامة حجم المعاملات المالية مما يترتب عليه استخدام كميات كبيرة من أوراق (البنكنوت) التي قد يصعب حملها والتنقل بها والحفاظ عليها في مكان آمن، فيسهل بالتالي تعرضها لخطر السرقة أو الضياع.
لذلك فقد أدى هذا الوضع إلى ظهور وسيلة جديدة تقوم بنفس الدور الذي يقوم به النقد تماماً مع تلافي الأخطار الناتجة عن استعماله، فلقد ظهر الشيك وتطور منذ وقت بعيد، وأصبح يقوم مقام النقود في المعاملات على مختلف أنواعها، فبدلا من الوفاء بالالتزامات المالية عن طريق دفع مبلغ من النقود، يقوم المدين بوفاء المبالغ التي عليه بإعطاء دائنه شيكا يقبض قيمته من أحد البنوك المدينة للمدين.. وهكذا أصبح الشيك بحق أداة وفاء بارزة، ويزداد الإقبال على استعماله يوما بعد يوم في المجتمعات الحديثة نتيجة لما يحققه من فوائد عملية من شأنها التقليل من مخاطر استخدام النقد، إضافة إلى أنه يشجع الأفراد على إيداع أموالهم في مؤسسات الائتمان مما يزيد من فرص استثمارها في مشروعات التنمية وغيرها.
غير أن إعطاء الشيك للمستفيد الذي تسلمه كبديل مؤقت للنقود يعني قبض قيمته بالكامل من الجهة التي سحب عليها الشيك، ومؤدى ذلك أن يكون لمصدر الشيك لدى البنك المسحوب عليه رصيد كاف من النقود يمكنه من سداد قيمته لمن سحب لمصلحته.
إلا أن هذا الأصل الذي قامت عليه فكرة الشيك كأداة وفاء تقوم مقام النقد، من الممكن مخالفته من قبل المتعاملين بالشيكات في سبيل الاستيلاء على أموال الغير عن طريق إصدار الشيكات دون أن يتوافر لها مقابل مالي يفي بقيمتها، ومن ثم يخرج الشيك عن إطار وظيفته التي وجد من أجلها، بل على العكس يتحول مفهوم الشيك في مثل تلك الحالات ليصبح وسيلة من وسائل الخداع والتغرير فيضار به الأفراد الجماعات وتنحدر الثقة فيه مما قد يؤدي إلى إحجام الكثيرين عن قبوله كبديل للنقود، ناهيك عما يسببه هذا الوضع من تراجع في مفهوم الائتمان كأحد الأسس التي تقوم عليها الأعمال التجارية.
من أجل ذلك كان لا بد من حماية الشيك حتى يتمكن من أداء وظائفه الاقتصادية المهمة، وتلك الحماية لا تتصور فعاليتها ومقدرتها إلا من خلال نصوص تجريمية تعاقب كل من يخل بالثقة المفترضة في الشيك إذا تم استخدامه في أغراض غير كونه أداة وفاء تقوم مقام النقود في المعاملات، فلقد ثبت عدم مقدرة الجزاءات المدنية وحدها لمواجهة حالات الاستخدام غير الصحيح للشيك، ذلك أن الالتجاء إلى تلك الجزاءات بالطرق التقليدية قد يطول أمد الحصول على الحق بها، إضافة إلى عجز الحلول المدنية إذا كان ساحب الشيك مُفلسا أو مُعسرا.
وعليه اتجهت مختلف التشريعات الحديثة إلى تقرير العقاب الجنائي للمخالفين لأحكام الشيك، حتى يظل يعمل لتحقيق أغراضه الهامة التي أريد له أن ينجزها، فظهر بالتالي في قوانين العقوبات المقارنة العديد من النصوص الجنائية التي تحدد صور الأفعال المخلة بالثقة في الشيك وكذا العقوبات التي توقع على مرتكبيها.
اتجهت كذلك السلطة التنظيمية في المملكة العربية السعودية، بما تملكه من سلطات واسعة في مجال التجريم والعقاب- عند تقنينها لأحكام الشيك- إلى تحديد الأفعال الضارة التي قد يأتيها مستخدمو الشيك والعقوبات المقررة لها، فمنذ صدور أول نظام للأوراق التجارية في المملكة بموجب المرسوم الملكي رقم (37) وتاريخ 11/10/1383هـ، اشتمل على عدد من النصوص لمواجهة الحالات التي تخل بالثقة الواجب توافرها في الشيك، وقد كانت الأحكام الخاصة بجرائم الشيك بموجب تلك النصوص تتواءم مع شبيهاتها في معظم التشريعات العربية والأجنبية، مما يدل على أن المنظم السعودي انتهج وقتها نفس النهج الذي سارت عليه النظم العقابية المقارنة في هذا الخصوص مع وجود اختلافات بسيطة تبررها خصوصيات الأوضاع التنظيمية القائمة في المملكة، حيث تستمد كافة الأنظمة فيها من روح القواعد الكلية للشريعة الإسلامية السمحة.
غير أن تطبيق نصوص الحماية الجنائية للشيك في المملكة لمدة طويلة- طبقا لما جاء به نظام الأوراق التجارية- أظهر حاجة ماسة إلى إعادة النظر فيها كي تتلاءم مع المستجدات على أرض الواقع، فلقد أثبت التطبيق العملي لتلك النصوص أنها لم تعد قادرة على سد كل الثغرات التي يمكن من خلالها لمستخدمي الشيك ارتكاب بعض الأفعال المخلة بالثقة فيه دون أن تشملهم نصوص العقاب، لأن أفعالهم تلك لا تندرج تحت أية صورة من صور التجريم حسب ما كان يقضي به النظام، فالقاعدة أن لا جريمة ولا عقوبة من غير نص.
مبحث تمهيدي : الشيك محل الحماية الجنائية
يدخل الشيك من ضمن الأوراق التجارية الثلاث المعروفة وهي الكمبيالة والسند لأمر، إضافة إلى الشيك، والحقيقة أنه لم يرد تعريف محدد للأوراق التجارية في النظام السعودي وذلك على غرار النهج الذي سارت عليه معظم التشريعات التجارية المقارنة الذي تركت مسألة التعريف هذه لاجتهاد الفقه والقضاء حتى يتسنى اختيار التعريف الأكثر ملاءمة حسب الأعراف والعادات التجارية المعمول بها.
لذلك اختلفت اتجاهات الفقهاء في تعريف الأوراق التجارية نتيجة لاختلاف اجتهاداتهم،و لكن على ما يبدو، فإن أكثر التعريفات قربا من الصواب، هي التي تدور حول الوظيفة الأساسية التي تؤديها الأوراق التجارية عموما، وعليه فقد أمكن تعريفها على هذا الأساس بأنها: " صكوك تقوم مقام النقود في المعاملات وتغني عن استعمالها، فهي والنقود سواء كل منها أداة عادية للوفاء" أو كما يراها البعض من الفقهاء بأنها: " محررات مكتوبة وفقا لأوضاع قانونية محددة، وتتضمن التزاماً بدفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين أو قابل للتعيين، وتنتقل الحقوق الثابتة فيها بالتظهير ويقبلها العرف التجاري كأداة لتسوية الديون بسبب تحويلها إلى نقود".
من هذه التعاريف يتضح أن الأوراق التجارية تعتبر أداة رئيسية في المعاملات التجارية وتستخدم في هذا المجال عوضا عن النقد، بيد أنه إذا كان الشيك يتفق مع الكمبيالة والسند لأمر في العديد من الخصائص المشتركة وفقا للتعاريف السابقة، إلا أنه يختلف عنهما في أنه لا يؤدي إلا وظيفة الوفاء، فهو أداة وفاء فورية تقوم مقام النقود في المعاملات على عكس الكمبيالة أو السند لأمر الذي يؤدي كل منهما دورا مختلفا عن الشيك باعتبار أنهما أداتا ائتمان بدلاً من الوفاء الفوري، لأنهما يتضمنان في العادة أجلاً للوفاء، فهما لا يستحقان غالبا إلا بعد فترة من الزمن قد تطول وقد تقصر.
لذلك فإنه من البديهي أن يكون للشيك تعريف خاص به يتفق مع طبيعته، باعتباره أداة وفاء فوري، ويميزه بالتالي عن باقي الأوراق التجارية، غير أن تعريف الشيك وحده لا يكفي لتحديد مدلوله القانوني الذي تتطلبه نصوص الحماية الجنائية، فنظام الأوراق التجارية السعودي، كغيره من الأنظمة المقارنة في مجال جرائم الشيك، يشترط صراحة لقيام كافة جرائم الشيك الواردة به أن ينشأ هذا الأخير طبقا لنموذج شكلي معين وأن يكون قد تم إصداره بالفعل.
عقوبات الجريمة
لم يقتصر مرسوم سنة 1409هـ في تعديله لنص المادة (118) من نظام الأوراق التجارية، على مجرد إضافة صور جديدة إلى صور الأفعال التقليدية المعروفة لجريمة إصدار شيك بدون رصيد. بل اشتمل ذلك المرسوم أيضا على تعديل آخر جوهري يتمثل في تشديد عقوبات الجريمة التي كان منصوصا عليها في المادة (118)، كما أضاف عقوبات جديدة لم تكون معروفة من قبل.
قبل مرسوم سنة 1409هـ:
كانت المادة (118( تقضي قبل تعديلها بموجب المرسوم رقم (م/45) وتاريخ 12/9/1409هـ، بعقاب كل من أتى بسوء نية فعلاً من الأفعال الثلاثة التي ينص عليها، بغرامة مالية من مائة ريال إلى ألف ريال وبالسجن مدة لا تقل عن خمسة عشر يوما ولا تزيد عن ستة أشهر أو بإحدى هاتين العقوبتين. وقد راعى منظم سنة 1383هـ آنذاك، أن تكون هذه العقوبات هينة ومرنة آخذا بسنة التدرج حسب ما ورد بالمذكرة التفسيرية للنظام وقت صدوره، وأحسب أن المنظم وقتها كان محقا في تخفيف مقدار عقوبة إصدار شيك بدون رصيد بسبب عدم انتشار الشيك وندرة المتعاملين به لقلة البنوك في المملكة ولتدني قيم المدخرات النقدية في أيدي الناس التي تدفعهم في العادة إلى إيداعها في حسابات خاصة بالمصارف. فكان هذا الوضع يقتضي تشجيع الناس على التعامل بالشيكات مع عدم تعريضهم لعقوبات قاسية لم يألفوها وربما يفاجؤون إذا ما علموا أن إصدار شيك بدون رصيد يشكل فعلاً يعاقب عليه. لذلك كان لا بد من انتشار فكرة الشيك كورقة تقوم مقام النقود في المعاملات ويقبل الناس على التعامل بها ثم ينظر بعد ذلك في أمر مقدار العقاب الذي يتناسب بالفعل مع حجم الضرر الذي ينتج في العادة من إتيان صور الأفعال المتعددة التي تخل بالثقة المفترضة بالشيك.
الوضع بعد مرسوم سنة 1409هـ :
ظلت تلك العقوبات المخففة مطبقة في المملكة في مواجهة جريمة إصدار شيك بدون رصيد لمدة تربو على ستة وعشرين عاما. غير أنه بتغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المملكة وبسبب تطبيق خطط التنمية الشاملة التي شهدتها البلاد، زاد حجم الإقبال على التعامل بالشيكات، ولعل ما شجع على ذلك أيضا افتتاح مصارف جديدة انتشرت فروعها في كل مدن المملكة، إضافة إلى ارتفاع حجم المبالغ التي يتم تداولها في المعاملات التجارية والمدنية المختلفة والتي يخشى عليها من مخاطر السرقة والضياع لو أنها بقيت في أيدي الناس. وقد أدى هذا الوضع إلى ظهور الكثير من الحالات – وبشكل ملفت للنظر- التي يساء فيها استخدام الشيك خصوصا إصداره بدون مقابل وفاء مما زعزع الثقة فيه بين الناس وجعلهم يحجمون عن قبوله في كثير من الأحيان، ولم يكن هناك سبب يفسر انتشار هذه الظاهرة سوى عدم ملاءمة العقاب الذي كان يقرره النظام، وذلك من حيث عدم قدرته على تحقيق معنى الردع الخاص والعام على السواء. لذلك جاء منظم عام 1409هـ مشددا بشكل ملحوظ في مقدار عقوبتي السجن والغرامة مضيفا إليها عقوبة تكميلية جديدة.
أولا: العقوبة الأصلية
أصبحت تنص المادة (118) بعد تعديلها على العقاب بالسجن مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على خمسين ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من أقدم بسوء نية على ارتكاب الأفعال المتضمنة فيها. وعقوبة السجن أو الغرامة هذه تكون واجبة من حيث الحكم بها في كل مرة يثبت فيها لعضو مكتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية أن المتهم قد أتى فعلاً من الأفعال التي نصت عليها المادة (118) لكن- كما يظهر من قراءة النص- ليس الجمع بين عقوبتي السجن والغرامة وجوبيا، إذ يجوز الحكم بإحداهما فقط،وذلك يخضع لتقدير الجهة القضائية المختصة التي يتعين عليها عند اختيار العقاب الملائم أن تنظر كل حالة على حدة من حيث ظروف الواقعة وملابساتها المختلفة، وكذلك ظروف المتهم ووضعه الاجتماعي. هذا وتمتاز عقوبتا السجن والغرامة بموجب نص المادة (118) الأخيرة، بأن المنظم الجديد لم يضع لها حد أدنى مكتفيا بتحديد سقفها الأعلى كما رأينا. ولقد أحسن المنظم صنعا بذلك لما يهيئه هذا الوضع بحق من تطبيق لمفهوم تفريد العقاب لمن سيحكم عليهم وذلك بالنظر على وجه الخصوص إلى الظروف الشخصية الخاصة لكل منهم والعوامل التي دفعتهم لارتكاب الجريمة.
كذلك أحسن المنظم الجديد صنعا من جهة أخرى، حيث لم يكتف فقط بتشديد العقوبة الأصلية للجريمة في مواجهة من يرتكبه لأول مرة، بل شدّد العقوبة أيضا في حالة العود. فمن يقترف فعل إصدار شيك بدون مقابل وفاء ويحكم عليه فلا يرتدع بالعقاب ويعود إلى ارتكاب مثل فعله الأول، من الممكن أن يعاقب هذه المرة بعقوبة أشد من التي وقعت عليه. فلقد أصبحت تقضي بذلك الفقرة الأخيرة من المادة (118) التي تنص: " فإذا عاد الجاني إلى ارتكاب أي من هذه الجرائم خلال ثلاث سنوات من تاريخ الحكم عليه في أي منها تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات والغرامة التي لا تزيد على مائة ألف ريال أو إحدى هاتين العقوبتين".ويلاحظ من ناحية، أنه يشترط لانطباق هذا النص على حالات العود أن يرتكب المحكوم عليه العائد جريمته خلال ثلاث سنوات من تاريخ الحكم عليه في المرة السابقة. فإذا كان إتيانه لأحد أفعال المادة (118) حدث بعد مرور الثلاث سنوات التالية ابتداءً من تاريخ الحكم عليه لأول مرة، فإنه لا يخضع لعقاب حالة العود هذه، وإنما للعقوبة الأصلية للجريمة التي يحكم بها في الأحوال العادية. ومن ناحية ثانية، فإن هذا النص لم يلزم القاضي بضرورة الحكم في حالة العود بشكل يزيد عما سبق أن حكم به على المتهم. فالنص لم يفرض حدا أدنى لأي من عقوبتي السجن والغرامة، وإنما زاد فقط الحد الأقصى لهما تاركا بذلك أمر تقدير العقاب لقاضي الموضوع الذي من الممكن أن يحكم على العائد إما بمقدار يزيد عما حكم به عليه في المرة السابقة وفي حدود ما قضى به نص العود، وإما بنفس تلك العقوبة.
وجدير بالذكر أنه إذا قام الساحب بإصدار عدة شيكات ولو بتواريخ مختلفة لصالح شخص واحد وعن معاملة واحدة، فإنه يحكم عليه بعقوبة واحدة تطبيقاً لمبدأ التداخل، ففعل إصدار شيكات متعددة لشخص واحد وفي نفس المناسبة يعد من قبيل الجرائم المتعددة المرتكبة لغرض واحد والمرتبطة ارتباطا لا يقبل التجزئة مما يقتضي الحكم بعقوبة واحدة فقط. ولقد استقر قضاء الأوراق التجارية في المملكة على تطبيق هذه القاعدة، ويستفاد ذلك من بعض أحكام اللجنة القانونية التي جاء في أحدها أن :" إصدار عدة شيكات بدون رصيد في وقت واحد وعن معاملة واحدة وإن تعددت تواريخ استحقاقها يكون نشاطا إجراميا واحدا- وجوب الحكم على المخالف بالنسبة لشيء واحد فقط".
ثانيا: العقوبة التكميلية
بالإضافة إلى ما قرره مرسوم سنة 1409هـ من تشديد لعقوبتي السجن والغرامة، فإنه ألحق كذلك بمواد التجريم في نظام الأوراق التجارية، مادة جديدة لم تكن موجودة من قبل وهي المادة رقم (121) وتنص هذه المادة على أنه " يجوز الحكم بنشر أسماء الأشخاص الذين يصدر بحقهم حكم الإدانة بموجب هذا النظام، ويحدد الحكم كيفية ذلك" بهذا النص يضيف منظم سنة 1409هـ عقوبة تكميلية جديدة إلى العقوبة الأصلية وذلك بنشر أسماء من حكم عليهم بإحدى عقوبات أي من جرائم الشيك الواردة بالنظام.
المادة (121) الجديدة لم تحدد كيفية نشر أسماء المحكوم عليهم ولا مدة النشر، وعليه فقد قامت وزارة التجارة بتحديد طريقة النشر- بوصفها الجهة المختصة بتطبيق نظام الأوراق التجارية – وذلك: " بوضع أسماء المحكوم عليهم لمدة شهر واحد داخل لوحة تعد لهذا الغرض بالغرفة التجارية والصناعية الكائنة بالمدن التي توجد بها مكاتب أو لجان للفصل في منازعات الأوراق التجارية....على أن تعلق في مكان بارز بمدخل كل غرفة، وأن يتم تغيير بياناتها شهريا".
وتبقى الإشارة هنا إلى أن عقوبة النشر التكميلية ( أو التشهير) ليست وجوبية، فنص المادة (121) يشير إلى ذلك صراحة بالقول:" يجوز الحكم" مما يعني أن الحكم بهذه العقوبة أمر متروك لتقدير القاضي، فهو مخيّر بين الحكم وبين عدم الحكم بها. فإذا لم ينطق بها يعني ذلك أنه لا يرى توقيعها ويكون حكمها صحيحا.
خاتمة
يظهر لنا من خلال استعراضنا لنصوص التجريم الخاصة بالشيك في نظام الأوراق التجارية، بعد أن أدخل عليها منظم 1409هـ العديد من التعديلات الجوهرية، أنها قد توسعت بشكل كبير في مجال عقاب الأفعال المخلّة بالثقة في الشيك، فلم تعد تلك النصوص قاصرة على تجريم أفعال أمكن للمتعاملين بالشيك تفادي الوقوع فيها مع تحقيق ما يريدون تحقيقه من حرمان لحامل الشيك من قبض قيمته. بل بفضل مرسوم سنة 1409هـ أخذ التجريم في مجال استعمال الشيك نطاقا أوسع مما كان عليه قبل صدور ذلك المرسوم.
فإذا كان المادة (118) القديمة تحدد بشكل دقيق صور الأفعال التي تعاقب مرتكبها، فإن نص المادة (118) الحالي بعد أن تم تعديله، لم يعد يكترث كثيرا بتلك الصور، حيث اعتبر أن سواها من التي لم يشتمل عليها صراحة، هي مثلها من حيث التجريم والعقاب.
وبذلك يعلن المنظم الجديد، وبشكل صريح، أن أي فعل يأتيه الساحب أو المظهر متعمدا ويكون من شأنه عدم الوفاء بقيمة الشيك يمثل جريمة إصدار شيك بدون رصيد. هذا يدفعنا إلى القول بأنه لم يعد من المناسب في ظل النصوص الجديدة، التي تعاقب حتى من يظهّر أو يسلم الشيك غير القابل للصرف، أن يستمر إطلاق مسمى: (جريمة إصدار شيك بدون رصيد) على أفعال لا يرتكبها ساحب الشيك ولا تتصل بوجود الرصيد أو عدم وجوده. فكل فعل من الأفعال التي نصت عليها المادة (118) يستحق أن يكون جريمة مستقلة يطلق عليها المسمى الذي يتناسب مع مضمونها. لكن العمل سيستمر على ما يبدو، في استعماله لمسمى الجريمة التقليدي لأن كل شيك لا يصرف يعتبر مجازا وكأنه بدون رصيد.
ومهما يكن الأمر، فإنه لا يسعنا هنا إلا أن نبدي استحسانا لهذا التدخل التنظيمي الجديد، فهو يحيط الشيك بسياج قوي آخر من الحماية الجنائية لا يستطيع أن ينفذ منه في الغالب من يريد إساءة استخدام الشيك على غرار ما كان يحدث فيما سبق. وهذا التشديد في أحكام التجريم الخاصة بالشيك يؤكد حرص المنظم في المملكة على ضرورة قيام الشيك بأداء وظيفته الرئيسية، فيجري مجرى النقود في المعاملات بعد أن تفشت حالات استخدامه لأغراض أخرى وتحول في أحيان كثيرة إلى أداة غش وخداع وأحجم الكثيرون عن قبوله خوفا من عبء ثقيل سيلقى عليه فيما لو ظهر عدم وجود المقابل له، حيث سيضطرون إلى إضاعة الكثير من الوقت والجهد حين يلجؤون إلى القضاء طالبين الحكم لهم بإلزام ساحب الشيك بدفع قيمته.
لكن إذا كان الناس لا يعبؤون كثيرا بعقوبات فعل إصدار شيك بدون رصيد قبل سنة 1409هـ بسبب سهولة العقوبات التي كانت تتضمنها المادة (118) من النظام، مما دعا الكثيرين منهم إلى اعتياد إتيان إعطاء الشيكات غير القابلة للصرف، فإنهم يشعرون الآن بكثير من الرهبة إذا ما فكروا في الإقدام على مثل تلك الأفعال، وما ذلك إلا نتيجة طبيعية لتشديد العقاب الملحوظ الذي أتى به مرسوم عام 1409هـ، سواءً في مواجهة مرتكب الجريمة لأول مرة أو مرتكبها العائد. وهو ما يحقق هدف الردع الذي يتغياه المنظم.
و مع ذلك لم تتحقق الأهداف المبتغاة من هذه التعديلات بالشكل المطلوب ويبقى لإتمام فعالية هذا الواقع التنظيمي المتّميز أن تتعامل معه جهات القضاء المختصة بنظر جرائم الشيك بكثير من الدقة والحزم حتى يستطيع تحقيق أغراضه التي أرادها له المنظم. ولن يتسنى ذلك إلا باستمرار تلك الجهات على نفس نهجها الذي تبنته قبل تعديل نصوص لتجريم، حيث يتضح من أحكامها في ذلك الوقت أنها تميل إلى التشدد في عقاب مرتكبي جرائم الشيك من خلال التفسير المنطقي والمعقول لتلك النصوص ...
الخاتمة
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات و الصلاة و السلام على خاتم النبيين , محمد بن عبد الله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا ... أما بعد ...فقد تناولت على الصفحات السابقة من هذا البحث موضوع : مشكلة جريمة إصدار شيك بدون رصيد في نظام الأوراق التجارية السعودي و ذلك وفقاً لنصوص التجريم الواردة بنظام الأوراق التجارية السعودي، واهتمت هذه الدراسة بتحديد مفهوم الشيك الذي يعنيه النظام بالحماية الجنائية، و تمثلت الحداثة في هذا البحث فيما يتعلق بتحديد وشرح صور الأفعال المادية المحققة لهذه الجريمة، خصوصاً بعد تدخل المنظم السعودي سنة 1409هـ بتعديل نص المادة (118) من نظام الأوراق التجارية، حيث أضاف صوراً جديدة لقيام هذه الجريمة لم تكن معروفة من قبل، وكذلك شدد بشكل ملحوظ في مقدار العقوبات التي كانت توقع فيما مضى على مرتكبي الجريمة...
و انتهت الدراسة إلى أنه لم تتحقق الأهداف المبتغاة من هذه التعديلات بالشكل المطلوب ويبقى لإتمام فعالية هذا الواقع التنظيمي المتّميز أن تتعامل معه جهات القضاء المختصة بنظر جرائم الشيك بكثير من الدقة والحزم حتى يستطيع تحقيق أغراضه التي أرادها له المنظم. ولن يتسنى ذلك إلا باستمرار تلك الجهات على نفس نهجها الذي تبنته قبل تعديل نصوص لتجريم، حيث يتضح من أحكامها في ذلك الوقت أنها تميل إلى التشدد في عقاب مرتكبي جرائم الشيك من خلال التفسير المنطقي والمعقول لتلك النصوص...
هذا و أسأل المولى تبارك و تعالى و أدعوه أن أكون قد وفقت في عرض هذا الموضوع على نحو طيب ...
و بالله التوفيق ..
المراجع
1- الياس حداد: الأوراق التجارية في النظام التجارية السعودي , معهد الإدارة العامة, الرياض , 1407هـ .
2- سعيد أحمد شعلة : قضاء النقض في الأوراق التجارية, منشأة المعارف, القاهرة , 1999م .
3- عبد الفضيل محمد أحمد الأوراق التجارية وفقاً لنظام الأوراق التجارية السعودي واتفاقية جنيف , مكتبة الجلاء الجديدة . المنصورة , 1421هـ .
4- عبد الله العمران: الأوراق التجارية في النظام السعودي, ط2 , مطابع معهد الإدارة العامة , الرياض , 1416هـ.
5- نظام الأوراق التجارية السعودي :الصادر بالمرسوم الملكي رقم م / 37 وتاريخ 11/10/1383هـ .