اهتم العلماء على اختلاف اختصاصاتهم ومنذ القدم بموضوع الجريمة و الظاهرة الإجرامية وحاولوا تفسيرها من منطلقات عدة وغريبة أحياناً.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ... أما بعد:
تعتبر الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة قدم الإنسان ذاته فمنذ أن خلق الله سبحانه وتعالى البشرية ونحن نرى الجريمة شائعة بين الأفراد على اختلاف دياناتهم وألوانهم وأعمارهم وحضاراتهم وصفاتهم.
قال تعالى: (( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة أسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين)) الآيات إلى قوله تعالى: ((قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم* ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)), ( الأعراف : 11,16,17) فهنا نلمس تعهد واضح من الشيطان اللعين أن لا يترك مجالاً يؤذي فيه أدم وبنيه إلا سلكه. ونتيجة لهذا التحدي والوعيد فقد استطاع إخراج أبينا آدم من الجنة ليهبطا معاً إلى الأرض وليواصل الشيطان تحديه على هذه البسيطة وقد نجح في جعل ابني آدم يرتكبان أول جريمة على وجه الأرض وذلك بقتل قابيل أخيه هابيل.
في هذا يقول الحق تعالى:
(( واتل عليهم نبا أبني ءادم )) الآيات إلى قوله تعالى (( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين)) ( المائدة: 27:30).
ومنذ ذلك الوقت والجريمة تأخذ أشكالاً وألوناً بين بني آدم حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
والجريمة ظاهرة اجتماعية موجودة في كل المجتمعات بغض النظر عن درجة رقيها وتطورها فجميع دول العالم تعاني منها بلا استثناء. والحقيقة أن وجودها مرتبط بوجود المجتمعات البشرية نفسها, إلا أن أنماط الجريمة ومدى انتشارها تختلف من مجتمع إلى مجتمع آخر وفقا للعديد من العوامل والظروف التي تحكم الظاهرة الإجرامية ، وإزاء هذه الصورة حول الجريمة فقد تبلورت العديد من الرؤى والتفسيرات والنظريات لعدة مدارس من أجل تفسير الظاهرة الاجرامية.
و هذا البحث يتناول بالدراسة و التحليل موضوع : " مدارس تفسير الجريمة " فأسأل المولى تبارك و تعالى السداد و التوفيق في عرض هذا الموضوع على نحو طيب ... و الله الموفق ...
مدخل للظاهرة الإجرامية :
أثارت الجريمة والظاهرة الإجرامية اهتمام الإنسان منذ القدم خاصة وان الحياة الإنسانية على البسيطة ابتدأت بجريمة عندما قام قابيل بقتل أخيه هابيل . وبفعله هذا الذي ندم عليه فيما بعد ندماً شديداً ، يكون قد أعلن عن فتح باب الصراع الأزلي بين الخير والشر الذي ما برح مستمراً ليومنا هذا وسيستمر لا محالة مادام الإنسان موجوداً إلى جانب أخيه الإنسان الآخر.
ومنذ ذلك الوقت والجريمة تأخذ أشكالاً وألوناً شتى بين بني آدم حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من صور و أنماط و أنواع .
( منصور , د . ت , ص : 12)
اهتم العلماء على اختلاف اختصاصاتهم ومنذ القدم بموضوع الجريمة و الظاهرة الإجرامية وحاولوا تفسيرها من منطلقات عدة وغريبة أحياناً. فمثلاً ذهب الفلاسفة القدماء البابليون والأشورين والهنود والصينيون إلى الاعتقاد بعلاقة الإنسان بالنجوم وتأثيراتها على السلوك. وذهب بعض المفكرين إلى الاعتقاد بأن الجريمة إذا منا نظرنا إليها على أنها عدوان هي " استعداد غريزي" في الإنسان قائم بذاته أي أن الجريمة بوصفها عدواناً مغروزة في الإنسان بالفطرة. فأرسطو Atistotal ( 384- 322 ق م ) المعروف باسم " المعلم الأول" مثلاً اعتبر" الطبيعة الفطرية للإنسان أساساً لسلوكه" واعتبر الفيلسوف البريطاني توماس هويز Thomas Hobbles ( 1588- 1679) " الإنسان أنانياً بطبيعته"( ).
( طالب , 2002م , ص : 20)
لكن التجارب الحقلية أثبتت عكس ذلك. فالدراسات التي أجريت على المجتمعات البدائية ( الدراسات الانثرويولوجية) أثبتت في أكثر من مناسبة ودراسة أن العدوان ليس من فطرة أضف إلى ذلك أن أغلب الدراسات النفسية تشير إلى أن العدوان هو نتيجة لإحباط شديد يصيب دوافع الفرد أو لتوقع هذا الإحباط( ).
( طالب , 2002م , ص : 21)
وقد نظمت القوانين القديمة قواعد الجريمة والعقاب ومنها ، قانون أور نمو وقانون حمورابي ( حوالي القرن العشرين قبل الميلاد ) وسارت على ذات النهج قوانين اليونان (قانون دراكون ـ 620 ق.م) والرومان القديمة (قانون الألواح الاثني عشر 450 ق.م) . كما ونظمت بعض الأديان السماوية وغير السماوية قواعد الثواب والعقاب بالنسبة لأعمال المكلفين . قال تعالى ( وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (الشمس : 7-10) . أي أن الله تعالى قد خلق النفس البشرية وألهمها القدرة على التمييز بين الفجور والتقوى .
ولهذا فان الظاهرة الإجرامية ظاهرة تاريخية وواقعية وحقيقة إنسانية دائمة ،لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات في كل زمان ومكان ولا يمكن إنهائها مطلقاً إلا انه يمكن الحد منها إلى مستويات مقبولة .
وتثير الجريمة اهتمام وانتباه كل الناس على حد سواء ، بل إن إخبار الجرائم والروايات التي تتناول الظاهرة الإجرامية هي الأكثر انتشاراً وتوزيعاً في الأوساط العامة من بين ما عداها من أخبار وروايات .
( بلال , 1985م , ص: 11)
إن السبب في ذلك هو الإحساس العام بان الجريمة تمس شعور كل فرد من أفراد المجتمع ولو لم تقع عليه الجريمة مباشرة ، فالجريمة ابتداء ،هي اعتداء على فكرة الحياة الاجتماعية التي تقوم على التضامن بين أبناء المجتمع فضلا عن انعكاساتها الخطيرة على توازن المصالح والقيم داخل المجتمع بما تمثله من اعتداء على تلك المصالح والقيم .
إن أولى الابتكارات البشرية لمواجهة الجريمة بشكل واقعي هو القانون ، فقد أولت التشريعات القديمة أهمية قصوى لتحديد الجرائم والعقوبات التي تناظرها ، وكانت العقوبات في تلك القوانين بدائية وقاسية جداً . ويذهب عالم الاجتماع إميل دوركهايم إلى أن دراسة التاريخ تؤكد انه كلما اقترب المجتمع من التحضر كانت العقوبة اقرب إلى الرحمة ، وكلما كان المجتمع متخلفاً برزت العقوبات البدائية التي تتميز بالعنف والقسوة ،كما أن العقوبات تكون مشددة وقاسية كلما كانت السلطة مركزية أقوى . ومن ذلك أن العقوبات في النظم الدكتاتورية تكون ذات طبيعة انتقامية لدرجة الوحشية .
إن تطور النظم القانونية والعلمية التي تواجه الجريمة قد قابله في ذات الوقت تطور على ذات المستوى في الأساليب الإجرامية ، فقد دخل العلم والتكنولوجيا والتنظيم المؤسسي الحديث عالم الإجرام وأصبحت للجريمة منظمات دولية تمارس العمليات الإجرامية عبر القارات .
وكتعبير عن اهتمام الإنسان بالجريمة تناولت الأساطير القديمة الظاهرة الإجرامية وفسرتها بطريقتها السحرية الميتافيزيقية ، وفي القرون الوسطى ساد الاعتقاد بان سبب الجريمة هو الأرواح أو الشياطين التي تتلبس الإنسان فيتحول بالنتيجة إلى مجرم .
وفي العصور الحديثة كانت الجريمة والظاهرة الإجرامية محل دراسة علوم مختلفة فقد اهتم الفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس والقانون بدراسة وتحليل الظاهرة الإجرامية مما أدى إلى نشوء علم مستقل هو علم الإجرام الذي تفرع بدوره إلى ثلاثة فروع علمية تدرس الظاهرة الإجرامية هي علم الانثروبولوجيا الجنائية وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي ،كما اهتم العلماء في مختلف الاختصاصات العلمية بإيجاد الوسائل العلمية والتكنولوجية اللازمة لرصد الجريمة وتتبع آثارها وصولاً إلى الكشف عنها .
إن اعتماد المنهج العلمي التجريبي في علم الإجرام يقتضي تحديد أوجه الظاهرة الإجرامية ، والحال أن للظاهرة الإجرامية وجهين ، وجه اجتماعي تبدو فيه الجريمة ظاهرة اجتماعية . ووجه فردي تبدو فيه الجريمة ظاهرة فردية تتمثل بالإنسان المجرم ، كما إن للعلم الحديث دوره في رصد الجريمة والظاهرة الإجرامية .
( حبيب , 1990م , ص : 36)
الإجرام والظاهرة الإجرامية
إن من بين أهم الوسائل اللازمة لمكافحة الظاهرة الإجرامية هو دراستها دراسة علمية وتحديد خصائصها وعناصرها وصولا إلى تحديد الخصائص المشتركة بين جميع الظواهر الإجرامية ، مما يسهل عملية تشخيص الظاهرة الإجرامية من قبل المختصين ورجال الشرطة وملاحقة مرتكبيها وإلقاء القبض عليهم لينالوا جزاءهم العادل على يد القضاء على ما ارتكبوه من جرائم بحق أبناء مجتمعهم أو الأسرة الدولية عموماً .
( مرسي , 2003م , ص : 24)
تعريف الظاهرة الإجرامية :
يمكننا تعريف الظاهرة الإجرامية بأنها، مشروع إجرامي احترافي يقوم على تكرار وقوع نوع معين من الجرائم، بأسلوب إجرامي واحد ، في منطقة جغرافية معينة ، وفي فترات زمنية متعاقبة ، وسواء قامت بها جماعة إجرامية واحدة أو مختلفة .
أما الجريمة العادية فيمكن تعريفها مقارنة بالظاهرة الإجرامية بأنها مشروع إجرامي يبدأ وينتهي باكتمال الوقائع المكونة له ولا يحمل معنى التكرار في الغالب وان تضمن معنى الاستمرار .
و تعرف الجريمة قانوناً بأنها فعل أو امتناع يخالف قاعدة جنائية يقرر لها القانون جزاء جنائياً).
( الطخيس , 1990م , ص: 40)
فهي جريمة تقع من فاعل أو عدد من الفاعلين على ضحية أو عدد من الضحايا في وقت واحد أو أوقات متقاربة ومكان واحد أو أمكنة قريبة وتنهي الجريمة باكتمال عناصرها . مثل قيام فاعل أو عدد من الفاعلين بقتل شخص أو مجموعة من الأشخاص .
وفي ضوء ما تقدم فان مجرد تعدد النشاط الإجرامي لا يشكل بحد ذاته ظاهرة إجرامية ، ولا تعتبر الجريمة المستمرة ظاهرة إجرامية مثل استعمال الشخص لجواز سفر مزور لعدد من السنوات ، ولا الجرائم المركبة مثل جريمة القتل تمهيداً للسرقة ، والتعدد المادي للجرائم كما لو قتل المجرم عدة أشخاص في وقت واحد أو أوقات متقاربة جداً ووقف عند حده ، وكذلك حالة التعدد الصوري للجريمة كانطباق أكثر من نص على جريمة واحدة ، فهذه الصور من الجرائم لا تمثل ظاهرة إجرامية بالمعنى المقصود في تعريف الظاهرة الإجرامية المتقدم ذكره .
كما إن الجريمة العادية تقع على ضحية واحدة أو عدد محدد من الضحايا. في حين أن الظاهرة الإجرامية تقع على عدد كبير من الضحايا وغير محدد سلفاً في الغالب .
والجريمة الاعتيادية تقع عادة في زمان واحد ومكان واحد أو قريب من الفعل الإجرامي الأول ومع ذلك لا يغير من طبيعتها بعد المكان واختلاف الزمان مادام أن المشروع الإجرامي ينتهي بانتهاء الأفعال المكونة له ، كما لو قام شخص بقتل شخص في بغداد وسافر للبصرة وقتل شخص آخر ، ووقف مشروعه الإجرامي عند هذا الحد .
( عبيد , 1988م , ص : 36)
في حين أن الظاهرة الإجرامية لا يحدها زمان أو مكان أي أنها تتم في أوقات زمنية مختلفة أو متعاقبة وتقع في منطقة جغرافية أوسع .
الجريمة العادية مشروع فردي في الغالب لا يتسم بالديمومة في حين أن الظاهرة الإجرامية قد تكون مشروعاً فردياً وهذا أمر نادر أو مشروعاً جماعياً وهو الغالب وتتضمن معنى الديمومة والاحتراف المنظم حتماً .
( ثروت , 1982م , ص : 60)
1ـ نظرية لومبروزو ونموذج الإنسان المجرم بالولادة :
عمل الأستاذ سيزاري لومبروزو ( 1835ـ1909 ) في بداية حياته طبيباً في الجيش الايطالي ثم عين بعدها أستاذا للطب الشرعي والعقلي في جامعة بافيا ثم في جامعة تورينو . وبحكم امتلاك لومبروزو الروح التأملية وعمله في الجيش ومراقبته للسلوك الإجرامي للجنود قام بوضع أساس فكرته عن السلوك الإجرامي من خلال دراسته للظاهرة العضوية للمجرمين ، ووضع خلاصة بحوثه العلمية في مؤلفه الشهير ( الإنسان المجرم ) .
حيث ابتدأ رحلته العلمية بالتأمل في سلوك الجنود المنحرفين عن طريق فحصهم ودراسة تكوينهم الجسماني . وكان لومبوزرو يهدف من وراء ذلك إيجاد الخصائص المشتركة بين الجنود المنحرفين ومن ثم مقارنتها مع الخصائص المشتركة للجنود الأسوياء .
وقد لاحظ لومبروزو أن الجنود المنحرفين يتميزون بعدة مميزات جسدية لم تكن موجودة في الجنود الأسوياء، حيث لاحظ ابتداءا ومن الناحية الظاهرية أن الجنود المنحرفين يميلون إلى إحداث الوشم والرسوم القبيحة على أجسادهم كما وتبين له عند تشريحه لجثث عدد من المجرمين الذين ارتكبوا جرائم تتسم بالعنف والقسوة وجود عيوب خلقية في تكوينهم الجسماني وشذوذ في الجمجمة .
( الصيفي و أبو عامر , د. ت , : 142)
وإثباتا لدور الصفات العضوية قام لومبروزو بتشريح ما يقرب من 383 جمجمة لمجرمين متوفين كما فحص حوالي 5907 من المجرمين الإحياء ، ومن ابرز الحالات التي درسها حالة لص وقاطع طريق خطر يدعى فيللا ، حيث فحصه إثناء حياته وشرح جثته بعد وفاته . وقد وجد تجويفاً في قاع جمجمته مشابهاً لما هو موجود لدى بعض الحيوانات الدنيا كالقرود والطيور ، كما وتوصل إلى نتائج مشابهة عند دراسته حالة مجرم خطر آخر يدعى فرسيني الذي اعترف بقتل عشرين امرأة بطريقة وحشية وشرب دمائهن ، حيث تبين له اتصاف هذا المجرم ببعض الخصائص الجثمانية والتشريحية .
وقد ولد ذلك القناعة لدى لومبروزو بوجود نموذج للإنسان المجرم بطبيعته ، وهو الشخص الذي ترشحه منذ ولادته خصائص بيولوجية معينة لان يصبح مجرماً .
وحسب لومبروزو فأن المجرم نمط من البشر يتميز بخصائص عضوية ومظاهر جسمانية شاذة تنتقل بالوراثة ، أطلق عليها وصف علامات الرجعة ، يرتد بها المجرم إلى عصور ما قبل التاريخ حيث تتطابق الخصائص البيولوجية للإنسان المجرم مع خصائص الإنسان البدائي الأول.
بمعنى آخر أن الإنسان المجرم بنظر لومبروزو ما هو إلا إنسان بدائي يحتفظ عن طريق الوراثة بالصفات البيولوجية والخصائص الخلقية الخاصة بإنسان ما قبل التاريخ .
وبالنظر لتعرض نظرية لومبروزو للنقد فقد قام بتعديل بعض أرائه في هذا الشأن ، فذهب بشأن الطبيعة الوراثية للإجرام إلى أن العلامات الارتدادية لا تحدث لوحدها السلوك الإجرامي وإنما يجب أن تتفاعل مع شخصية من يحملها إذا تهيأت الظروف لإنتاج السلوك الإجرامي . وانتهى إلى القول إلى أن العلامات الارتدادية تكون موجودة لدى اغلب المجرمين ولكن ليس كلهم ، كما أنها يمكن أن توجد لدى غير المجرمين . كما لا يمكن لعامل الوراثة بمفرده أن يرشح السلوك الإجرامي وإنما ينبغي أن تتضافر معه عوامل أخرى يكتسبها الفرد بعد الميلاد .
( الزغل , 1422هـ , ص : 139)
وفي نهاية الأمر توصل لومبروزو الى تقسيم المجرمين إلى خمس فئات هي : المجرم بالولادة ، المجرم المجنون ، المجرم بالعاطفة ، المجرم بالصدفة والمجرم بالعادة .
وبالنسبة للإنسان المجرم بالولادة ، وهو محور نظرية لومبروزو ، فانه يتميز عن الإنسان العادي بخصائص ومظاهر شذوذ جسمانية من أهمها :
صغر حجم الجمجمة وعدم انتظامها، بروز عظام الوجنتين وضخامة أبعاد الفك والشذوذ في تركيب الأسنان ، شذوذ في حجم الإذنين ، وكثرة غضون الوجه ، عدم انتظام وتشابه نصفي الوجه ، ضخامة الشفتين وبروزهما ، غزارة شعر الرأس والجسم ،والطول المفرط للذراعين، ، واستعمال اليد اليسرى وضخامة الكفين .
كما يتميز المجرم بصفات نفسية مختلفة عما هو موجود لدى الإنسان لعادي ومنها : القسوة البالغة وعنف المزاج وحب الشر ، انعدام الإحساس بالألم والميل إلى الوشم ، اللامبالاة وعدم الشعور بتأنيب الضمير وعدم الحياء .
وبالإضافة إلى تلك الصفات العامة وقف لومبروزو على بعض الملامح العضوية التي تميز بين المجرمين.
فالمجرم القاتل يتميز بضيق الجبهة، وبالنظرة العابسة الباردة، وطول الفكين وبروز الوجنتين، بينما يتميز المجرم السارق بحركة غير عادية لعينيه ، وصغر غير عادي لحجمهما مع انخفاض الحاجبين وكثافة شعرهما وضخامة الأنف وغالباً ما يكون أعسرا .
ومع الانتقادات الكثيرة التي وجهت لنظرية لومبروزو فانه سيبقى المؤسس والرائد الأول لعلم الانثروبولوجيا الجنائية .
2ـ ارنست هوتون والانحطاط الجسماني
اعتمد الأستاذ هوتون على علم الإحصاء لدراسة الإجرام ،وكان موضوع الدراسة طيف واسع من المجرمين وغير المجرمين موزعين على ثمان ولايات أمريكية ، وراعى في اختيارهم التماثل نسبياً من حيث الظروف ،وكانت العينة محل الدراسة مكونة من ( 13873) من السجناء ، أما الجماعة الضابطة ( معيار المقارنة ) فتكونت من ( 3230 ) انتقاهم هوتون من بين طلبة الجامعات ورجال الإطفاء والشرطة والمرضى الراقدين في المستشفيات ، من البيض والسود ، واستمرت الدراسة حوالي تسع سنوات .
وخلاصة ما توصل إليه ، أن المجرمين يختلفون عن الناس الطبيعيين اختلافاً واضحاً في مقاسات أعضائهم الجسمانية ، وان مظاهر الشذوذ الجسماني هذه تشابه علامات الرجعة التي قال بها لومبروزو ، كما أنهم يختلفون في الملامح الخارجية ، مثل شكل الأنف والأذن والشفة والجبهة ولون العين .
فضلاً عن اتصاف المجرمين بانحطاط جسماني حدده هوتون بـ ( 107 ) صفات ترجع أساسا إلى العوامل الوراثية. وقرر هوتون ، أن لهذا الانحطاط والشذوذ البدني أهميته البالغة في تبرير السلوك الإجرامي لأنه علامة الانحطاط العقلي .
وأعطى هوتون أهمية خاصة للمقارنة بين طوائف المجرمين حسب نوع الجريمة المرتكبة، وانتهى إلى أن كل طائفة تتميز بنوع من الشذوذ البدني تمثل الميل إلى ارتكاب نوع معين من الجرائم وهكذا فان الشذوذ والانحطاط الجسماني لدى القاتل هو غيره لدى السارق وعلى النحو الأتي :
ـ إن طوال القامة ضعاف الجسم يميلون إلى ارتكاب جرائم القتل وجرائم النهب .
ـ أن طوال القامة ضخام الجسم يميلون إلى ارتكاب جرائم الغش والخداع .
ـ قصار القامة ضخام الجسم يميلون إلى ارتكاب الجرائم الجنسية .
3ـ فرويد والذات الدنيـا :
سيجموند فرويد ، عالم وطبيب نمساوي (1856ـ1939) اهتم بدراسة علم الأعصاب ، اتصف بالذكاء الشديد الذي دلت عليه براعته الفائقة في عرض أفكاره واستنتاجاته. وأثرت أفكاره وما برحت تؤثر في نفوس عدد كبير جداً من العلماء والباحثين في نطاق المعمورة ودافعوا عنها بكل قوة كلما تعرضت للنقد والتجريح .
ومن أهم مؤلفاته ( مدخل إلى التحليل النفسي ) ، ( نظرية الأحلام ) ، ( أفكار لأزمنة الحرب والموت ) ، ( الاضطراب النفسي في الحياة اليومية ) .
يذهب فرويد إلى أن الكيان النفسي للإنسان يتكون من ثلاث أقسام هي الذات الدنيا والذات والذات العليا .
الذات الدنيا : وتمثل الجانب الشهواني من النفس الذي يضم الغرائز والأحاسيس والنزعات الفطرية الموروثة من الإنسان البدائي الأول. وهذه الذات ، بما تتضمنه من ميول ورغبات كالرغبة في الانتقام وتعذيب الخصوم والاعتداء والأفعال الجنسية المحرمة، لا تتوافق مع النظام الاجتماعي المتطور وقيمه في الحياة المدنية المعاصرة .لذلك فان الإنسان المعاصر يبقيها مكبوتة في أعماق نفسه بحكم عوامل التربية الأخلاقية التي تتطلب منه الخضوع لقيم ومعايير المجتمع السائدة .
غير أن هذه الغرائز المكبوتة تظهر للسطح كلما تهيأت لها ظروف وأحوال ملائمة ، فيكون ظهورها إما ظهوراً صريحاً أو ظهوراً مقنعاً ، بحثاً عن فرصة ذاتية للإشباع .
( فرويد , 1980, ص: 125)
ويذهب فرويد إلى أن الأحلام تجسد الظهور بشكله المقنع للميول البدائية ، وتعبر عن الرغبات المكبوتة في أعماق النفس ، كالحب أو الكراهية .
وعلى هذا التصور فان حالة النوم الطبيعي تقدم لنا مثلاً رائعاً عن مرونة الحياة العقلية وعن طريقها يمكن أن نفسر الارتداد في حياتنا الانفعالية إلى إحدى المراحل السابقة للتطور فيكون الحـلم ممثلاً للحياة النفسية اثناء النوم ومن ثم يكون موضوعا للتحليل النفسي .
ووفقاً لتصور فرويد فان الذات الدنيا هي العالم الذاتي الحقيقي الذي يحرص على بلوغ اللذة والابتعاد عن الألـم .
الذات (النفس) : وتجسد الجانب الواعي الذي ينسجم مع الواقع والعقل .
وتتصل الذات بالجانب الاجتماعي فتكون وظيفتها القيام بدور وسيط مهمته تحقيق التكييف أو التوافق بين الميول والنزعات الغرائزية ولاسيما الجنسية منها من جهة وبين القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية والقانونية من جهة أخرى .
وفشل الذات في وظيفتها هذه قد يؤدي إلى انفلات شهوات النفس البدائية من مكامنها بما يتعارض تماما مع تلك القيم ، أو يؤدي إلى التسامي بالنشاط الغريزي عن طريق الإبقاء عليه مكبوتاً فيما وراء الشعور .
ويُشبه فرويد الذات بالفارس ، ويُشبه الذات الدنيا بالفرس الجامح ، فمهمة الفارس كبح جماح الفرس والسيطرة عليها ، وإلا انساق معها نحو الأخطار والأهوال .
الذات العليا : وتمثل ضمير الإنسان والجانب المثالي من الحياة النفسية ، وفيه تكمن المبادئ العليا والقيم السامية التي اكتسبها الإنسان أثناء طفولته من والديه ومعلميه ورجال الدين ومن اعتبرهم مثالا يحتذى به أثناء مراحل حياته ومن القيم الأخلاقية والدينية .
والضمير مصدر ردع قوي للشهوات ومنه يستمد العقل القوة اللازمة لضبط الميول والنزعات والغرائز البدائية .
فوظيفة الضمير مراقبة العقل ومحاسبته عن أي توجه نحو إشباع النزعات بطريقة بدائية ويرشده إلى الطريق المتزن لإشباع هذه الرغبات بطريقة مشروعة تتفق مع القيم السائدة ، وفي ضوء ما تقدم يرى فرويد أن تآلف وتفاعل الذات الدنيا والذات والذات العليا يحقق الاتزان الداخلي الذي يكون من سمات الشخص الاعتيادي .
إلا أن هذا التفاعل لا يتحقق بسهولة فقد ينجم عن تفاعلهما حالة من الصراع وعدم الانسجام مما يؤدي بالفرد إلى ارتكاب سلوك مخالف لنظام المجتمع وقيمه السائدة يتمثل في السلوك الإجرامي . فالسلوك الإجرامي هو أما نتيجة عجز الجانب العقلاني (الذات) عن أداء وظيفته ، وأما نتيجة انعدام الجانب المثالي ، ومن ثم تقع الجرائم أما عن طريق انفلات الغرائز والميول الشهوانية ، وأما عن طريق العقد النفسية التي تُكبت في الجانب اللاشعوري من العقل وتقوم بتوجيه سلوك الإنسان وجهة إجرامية دون وعي أو إدراك منه . وقد تجرف الذات الدنيا بتيارها الذات وتسخرها لتنفيذ رغباتها ونزعاتها الطائشة .
ويعطي فرويد أمثلة عن الخلل والاضطراب الذي يصيب الكيان النفسي نتيجة عجز الضمير والعقل عن أداء وظيفتهما ، ومن هذه الأمثلة عقدة أوديب وعقدة الذنب . ( فرويد , 1980, ص : 132)
عقدة أوديب : تتسم العلاقات العاطفية لدى جميع الأفراد بنظر فرويد بالازدواج ، أي مشاعر الحب والكراهية تجاه الشيء الواحد في نفس الوقت. وحينما يبلغ الطفل مرحلة السادسة من العمر مجتازاً مرحلته الجنسية الذاتية تتجه ميوله نحو أول كائن يؤثر فيه وهو أمه ويحرص على أن لا يشاركه احد في حبها وان تبقى خالصة له إلا أن أمنيته هذه تصطدم بعقبة كبيرة تنافسه في حب أمه هي الأب ، فيتولد لديه نوع من الغيرة والأنانية فيبدأ بكراهيته وعدم الشعور بالراحة عند وجوده مع رغبة شديدة في التخلص منه . إلا أن هذه الرغبة تصطدم بنزعة معاكسة لها وهي شعور الطفل بحب أبيه وعطفه وحنانه ورعايته فينشأ في نفس الطفل نوعين متناقضين من الرغبات تجاه الأب هي مشاعر الكراهية والحب . وان لم تقم الذات (العقل) في تكييف هذا الازدواج مع القيم الاجتماعية وذلك بتغليب شعور الحب نحو الأب فان عقدة نفسية خطيرة ستستقر في جانب اللاشعور من عقل الطفل تسمى عقدة أوديب .
ولهذه العقدة آثار سيئة منها ، انعدام القدرة على تكوين التوازن النفسي والتكييف الاجتماعي وبالتالي الإتيان بسلوك شاذ .
كما أن البغض اللاشعوري تجاه الأب يولد في نفس الابن شعور بالكراهية تجاه ممثل كل سلطة كالمعلم والمدير ورئيس الدولة وكل جهة سلطوية أو رقابية ، ويميل إلى انتهاك القوانين والأنظمة المرعية رسمية كانت أم غير رسمية .
ومن مظاهر عقدة أوديب ان المصاب بها يتعرض لصدمة عنيفة قد تتطور إلى انهيار نفسي عند وفاة أمه .
ويرى بعض علماء الطب النفسي المعاصرين ، انه ينبغي على الوالدين إلا يظهرا مشاعر الحب المتبادل أمام الأطفال ، وانه إذا كان لابد من ذلك ، فيجب أن يشركا الأطفال في هذا الوجدان .
عقدة الذنب : تتحقق عقدة الذنب عندما يطغى على الإنسان شعور بالذنب والتقصير ، بسبب مغالاة الضمير في تأنيب الذات نتيجة سيطرة استبدادية ، فإذا ما غالى الوالدان في توبيخ الطفل ومعاقبته بقسوة فان من شان هذا التصرف الخاطئ من جانب الوالدين أن يسبب خللا كبيراَ في الجانب المثالي للطفل فيكون هذا الجانب قاسياً وصارماً في رقابته وتوجيهه للطفل بحيث انه يجعل من ابسط الهفوات والأخطاء في نظر الطفل خطايا كبيرة يستحق من اجلها العقاب الشديد وبالتالي يستأثر هذا الشعور المرضي بعقل الصغير ويسيطر على ملكاته ويرى فرويد أن شدة الشعور بالخطيئة قد يكون من أقوى البواعث على الإجرام لا نتيجة ارتكاب الجرم ذاته .
ومن جانب آخر فان هذه العقدة تصيب الإنسان فتظهر عليه علامات الاضطراب النفسي نتيجة غياب الذات العليا فيرتكب سلوكاً شاذاً غير مألوف وان لم يصل الى حد الجريمة ، ثم يستعيد بعد ذلك الضمير قدرته على التوجيه والمحاسبة وهنا تنشأ عقدة الشعور بالذنب والخطيئة لديه .
ان هذا الشعور يضغط على صاحبه بالتأنيب المستمر ولا يستطيع منه فكاكاً ولا يتمكن من التخلص من هذا الشعور إلا إذا عرض نفسه للمتاعب وقد يرتكب الجريمة ليثير نقمة المجتمع عليه ولا تهدأ نفسه إلا إذا نال الجزاء المناسب.
( فرويد , 1980م , ص : 136)
4ـ بونجيه والعامل الاقتصادي
يذهب الأستاذ والعالم الهولندي وليم ادريان بونجيه ( 1876ـ 1940) أستاذ علم الاجتماع في جامعة أمستردام
إلى أن الجريمة هي نتاج العوامل الاقتصادية السائدة في المجتمع الرأسمالي .
ويبدو تأثر بونجيه واضحاً بأفكار كارل ماركس وسذرلاند ، حيث يرى ماركس أن كل الظواهر السلبية التي تظهر في المجتمع ومنها ظاهرة الجريمة ترجع أساسا إلى الخلل الذي يصيب النظام الاقتصادي السائد ، ذلك أن نظام الإنتاج الاقتصادي يتحكم في نواحي الحياة كافة ومنها النشاط الإنساني المكون للسلوك الإجرامي ، وان مظاهر الخلل تصيب المجتمع الرأسمالي بسبب طبيعة العلاقات الاقتصادية السائدة وان إصلاح المجتمع كله يتأتى من إصلاح هذا النظام .
بينما يرجع الأستاذ سذلارند السلوك الإجرامي إلى الانقلاب الحاصل في القيم والمفاهيم بعد الثورة الصناعة حيث انصب الاهتمام على جمع المال وتكنيزه بأية وسيلة وبدون مشقة لتحقيق الرفاهية والسعادة ، بحيث أن المال والثروة أصبح يعني القيمة الاجتماعية العالية والادخار فضيلة من الفضائل في حين أن الفقر يعني المذلة والمهانة وقد أدى هذا الانقلاب في المفاهيم والقيم إلى زيادة الظاهرة الإجرامية إذ انصب الاهتمام على جمع المال وكنزه أكثر من الاهتمام بطريقة كسبه . فالتاجر في النظام الرأسمالي يسعى لبيع سلعته بأعلى ربح ممكن حتى لو حصل عليها بابخس الأثمان ويتبع في سبيل ذلك كل الوسائل غير المشروعة كالغش والتزوير والاحتيال والبلاغ الكاذب للصمود أمام منافسيه بل وتشويه سمعتهم لإزاحتهم عن طريقه لتخلو له الساحة ، والأفعال المتقدمة ما هي إلا جرائم .
وفي ضوء ذلك يذهب بونجيه إلى أن ضغط النظام الاقتصادي الرأسمالي على سلوك أفراد المجتمع يرتب اثأرا سيئة على ذلك السلوك ومنها الأنانية والشعور بالحقد مما يدفع البعض إلى ارتكاب الجريمة , فهي تعد ناتجة عن شعور نفساني .
( الزغل , 1422هـ, ص :135 )
فكل فرد حسب بونجية يكتسب غرائز اجتماعية ، إن لاقت ظروفاً اجتماعية صالحة ترسخت في الفرد الغرائز الجيدة مما يعني استبعاد الغرائز الفردية المتسمة بالأنانية مما يجعل من سلوكه متسماً بالمحبة والسعي لفعل الخير ، بينما إذا لاقت ظروفاً سيئة تأكدت لدى الفرد مشاعر الحقد والأنانية ومن ثم تجرف صاحبها نحو الشر والجريمة .
ويقرر بونجيه في النهاية بان الظروف الاقتصادية غير الملائمة للنظام الرأسمالي بما تفرزه من فروق اجتماعية واسعة من شأنها أن تثير الحقد والأنانية لدى الطبقة العاملة ضد طبقة الرأسماليين ومن ثم يندفع بعض أفراد الطبقة العاملة ، تعبيراً عن هذه الغرائز الفردية، نحو طريق الشر والجريمة .
5ـ دي توليو والاستعداد الإجرامي
يرى الأستاذ والعالم الايطالي دي توليو ( di Tullio.B ) أن السلوك الإجرامي لا يمكن تفسيره بإرجاعه إلى سبب واحد ، كالتكوين البيولوجي أو النفي أو العامل الاجتماعي أو الاقتصادي كلا على انفراد ، بل إن اتحاد هذه العوامل هو الذي يفسر السلوك الإجرامي . وأساس نظريته في تفسير السلوك الإجرامي قائم على فكرة التكوين الإجرامي أي الاستعداد الفطري لارتكاب الجريمة وهو ـ حسب وجهة نظره ـ ما يميز المجرم عن غيره من الناس الأسوياء.
فقد ذهب دي توليو إلى تصنيف المجرمين على أساس أن الجريمة هي نتيجة تفاعل مجموعة من العوامل الداخلية
( البيولوجية ) مع مجموعة من العوامل الخارجية (العوامل الاجتماعية) .
ولذلك يذهب دي توليو إلى أن هناك أفراد لديهم ميل أو استعداد جرمي لا يتوافر لدى الآخرين ويستدل توليو على ذلك بالقول إن محفزاً أو مؤثرا خارجيا واحدا قد يواجه شخصين إلا أن ردة فعل كل منهما تختلف عن الآخر فقد يكون وقعه على احدهما شديداً مما يدفعه إلى ارتكاب الجريمة بينما يتصرف الآخر باتزان ويحجم عن ارتكاب الجريمة . فهذه المؤثرات تكون بمثابة محفزات للنزعة الإجرامية الموجودة أصلا ، وترتبط هذه النزعة لديهم بتكوينهم الجسمي والنفسي الخاص مما يميزهم عن الإنسان العادي .
وفي ضوء هذا التصور قسم دي توليو الاستعداد الإجرامي من حيث مدى تأثير الأسباب التي تدفع إلى ارتكاب الجريمة إلى نوعين، الاستعداد الإجرامي العارض والاستعداد الإجرامي الأصيل.
النوع الأول منهما يرجعه إلى عوامل اجتماعية وشخصية تكون أقوى من قدرة الجاني على ضبط توازن مشاعره فيخلق لديه استعداد عارض أو فجائي يحرك عوامل الجريمة لديه وأطلق عليه دي توليلو اسم (المجرم بالصدفة أو العاطفي ) وهو ذلك الشخص الذي يقع في الجريمة تحت تأثير ضغط ظرف استثنائي خارجي مع توفر بعض العوامل الداخلية الخاصة ، إذ يصدر الفعل الجرمي عنه عرضا نتيجة لظرف خارجي كالبطالة والأزمات الاقتصادية والهجرة أو حالة نفسية طارئة كالاستفزاز الخطير أو الانفعال الشديد كاليأس والحقد والشعور بالحيف الاجتماعي ، مما يخل بتوازن المانع من الجريمة مع الدافع إليها، ويؤدي ذلك إلى تغليب الدافع على قوة المانع لديه فيترتب على ذلك احتمال ارتكابه للجريمة .
( مرسي , 2003م , ص : 69)
وعلى هذا فان الإجرام بالصدفة يرجع أساسا إلى ظروف خارجية تحيط بالمجرم فضلا عن ظروف شخصية ... ، على أن العوامل الخارجية أو النفسية الطارئة هذه لا تقلل من أهمية العوامل الداخلية لدى المجرم، إذ ليس كل من يتعرض لظروف اجتماعية قاسية أو ظروف نفسية طارئة يرتكب جريمة .
أما النوع الثاني فيرجعه إلى التكوين الفطري للإنسان من الناحيتين الجسمانية والنفسية ، وهذا هو الاستعداد الإجرامي الأصيل الذي يدفع إلى ارتكاب الجرائم الخطرة واحتراف الإجرام . وأطلق عليه دي توليو اسم ( المجرم بالعادة أو بالتكوين ) ، وهو الشخص الذي يعاني من نقص في تكوينه ، كالنقص الجسماني أو الخلل في الجهاز العصبي فان تأثير الحالة التكوينية على سلوكه يكون أكثر تأثيرا من الظروف الاجتماعية . ذلك أن المجرم بالعادة يتميز بتوافر ميل داخلي أو تكويني في شخصيته يدفعه إلى الإجرام، ففي هذه الحالة تتضاءل المقاومة أو قوة المانع تضاؤلا جسيما أمام قوة الدافع مما يخلق لديه ميلاً دائما إلى ارتكاب الجريمة.
ويبدو واضحاً أن المجرم بالعادة أو بالأصالة يكون اشد خطراً من المجرم بالصدفة ، لان المجرمين بالأصالة يتسمون بالعود إلى ارتكاب الجريمة واحتراف الإجرام ولا يردعهم عقاب من ارتكاب الجريمة والعود إليها بالنظر لاتصاف استعدادهم الإجرامي بالثبات والاستمرار .
الخاتمة
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات و الصلاة و السلام على خاتم الأنبياء و المرسلين , محمد بن عبد الله , صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا .... أما بعد ...
فعلى الصفحات السابقة قمت بدراسة و استعراض موضوع : " الظاهرة الإجرامية " و التي تعرف بأنها، مشروع إجرامي احترافي يقوم على تكرار وقوع نوع معين من الجرائم، بأسلوب إجرامي واحد ، في منطقة جغرافية معينة ، وفي فترات زمنية متعاقبة ، وسواء قامت بها جماعة إجرامية واحدة أو مختلفة.
و قد تناولت هذا البحث في ضوء المحاور الآتية :
محور: الإجرام والظاهرة الإجرامية , و فيه تطرقت إلى :
التعريف بالظاهرة الإجرامية , و خصائص الظاهرة الإجرامية ,و عناصر الظاهرة الإجرامية
محور : النظريات العلمية في تفسير الظاهرة الإجرامية:
و قد كشف البحث عن تعدد النظريات التي طرحت بشأن تفسير الظاهرة الإجرامية ، فهي تعد ظاهرة فردية وظاهرة اجتماعية في آن واحد ، وبالنظر إليها كظاهرة فردية اتخذ بحثها طابعاً بيولوجياً ونفسياً ، وبالنظر إليها كظاهرة اجتماعية اتخذ بحثها طابعاً اجتماعياً .
و قد تطرقت في البحث إلى تفسير الظاهرة الإجرامية في ضوء المدارس التالية :
1ـ نظرية لومبروزو ونموذج الإنسان المجرم بالولادة .
2ـ ارنست هوتون والانحطاط الجسماني .
3ـ فرويد والذات الدنيـا .
4ـ بونجيه والعامل الاقتصادي.
5ـ دي توليو والاستعداد الإجرامي.
و في الختام آمل أن أكون قد وفقت في طرح هذا الموضوع عى نحو طيب ,,,
و الله الموفق ...
المراجع:
1- بلال, احمد عوض : علم الإجرام ، ط1 ، دار الثقافة العربية ، القاهرة ، 1985م .
2- ثروت , جلال : الظاهرة الإجرامية ، مؤسسة الثقافة الجامعية ، الإسكندرية ،1982م .
3- حبيب , محمد شلال : أصول علم الإجرام ، ط2 ، مطبعة دار الحكمة ، بغداد ، 1990 .
4- الزغل , عبد القادر : البناء الاجتماعي الاقتصادي و تفسير السلوك المنحرف , النظريات الحديثة في تفسير السلوك الإجرامي , أبحاث الندوة العلمية السادسة – الخطة الأمنية الوقاية العربية الأولي –الرياض , دار النشر العربي للدراسات الأمنية و التدريب , 1422هـ .
5- الصيفي, عبد الفتاح و أبو عامر , زكي : علم الإجرام والعقاب ،دار المطبوعات ، الإسكندرية, د. ت .
6- طالب، أحسن : الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية، بيروت، دار الطليعة. الطبعة الأولى، 2002م،
7- الطخيس , إبراهيم عبد الرحمن : دراسات في علم الاجتماعي الجنائي، الرياض، دار العلوم للطباعة والنشر، 1990م.
8- عبيد , رؤوف : أصول علمي الإجرام والعقاب ، ط5، دار الجيل للطباعة ، القاهرة ، 1988.
9- فرويد : سيجموند : مدخل إلى التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، ط2، دار الطليعة، بيروت ، 1980.
10- مرسي: عبد الواحد إمام : الظاهرة الإجرامية ـ أساليب الرصد والمواجهة ، بحث منشور في مجلة الأمن والقانون ، دبي ـ الإمارات العربية المتحدة العدد (1) سنة 2003.
11- منصور، عبد المجيد سيد أحمد، السلوك الإجرامي والتفسير الإسلامي، الجزء الأول، وزارة الداخلية، مركز مكافحة الجريمة، د. ت .