بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

قاعدة أو قرينة البراءة

بسم الله الرحمن الرحيم
قرينة البراءة

المقدمة:
إذا كان من الثابت أن جميع الأنظمة والمؤسسات السياسية والقانونية في بلد ما وزمان ما ليست إلا التطبيق العملي لمذهب نوعي معين فيما يتعلق بفكرة أو مفهوم الدولة نفسها وطبيعة علاقاتها بالأفراد المكونين لها أو غيرهم1  . فإن هذا المفهوم أو التصور المذهبي لدور الدولة ولوظائف أجهزتها ومؤسساتها . فإن هذه العقيدة – الأيديولوجية – في القانون الوضعي تنقسم إلي قسمين هما النظرية الاشتراكية ونظرية المذهب الفردي الحر . 
فطبقا لأنصار النظرية الاشتراكية .. إن القوانين ليست إلا نتاجا من الدولة أساسا ، وتتطابق مع القوة والتي ليست هذه القوانين إلا مظهرا من مظاهرها ، كما تذهب النظرية إلي أن الأفراد إنما يساهمون في قوتها ، إلا أنه ومع ذلك ليس مسلما لهم بأن يطالبوا بأي حق شخصي في مواجهة السلطة المطلقة للدولة ، وبالتالي تظل الحرية الفردية غير مثارة ، لأن الدولة هي التي تملك كل الحقوق باعتبار أنها الأكثر قوة. ومن نتائج ذلك فإن التسليم بهذه النظرية يؤدي إلي طغيان الدولة حيث أنها تظل هي الممسكة بزمام الأمور  في المبتدأ والمنتهى وفي مقابلها إنسان ليس له حقوق ولا حريات إلا بقدر ما تنعطف عليه الدولة بها وهذا ما يهدر حقه كإنسان في وجوده وفي حياته . 
أما النظرية الثانية فتميل إلي وضع كل الاعتبار للفرد وحقوقه حيث أنه هو الهدف الوحيد والمنشود للمجتمع المنظم ، أي أن كل سلطة صادرة أو منبثقة عن الجماعة ليس لها هدف غير حماية الكائن الآدمي وحقوقه ، على أن يبقى المجتمع وحقوقه في المقام الثاني . لأن المجتمع ليس إلا وسيلة أقيمت ووضعت لإسعاد الأفراد 2 حيث أن مصالح المجتمع لا تعدو أن تكون مجموع مصالح الأفراد . 
وما يقال عن هذه النظرية ، أنها تؤدي إلي الفوضى والرجوع إلي الهمجية فإطلاق العنان للفرد ليفعل ما يشاء به من الأضرار لما لا يكفي سرده في هذا المقال ، يكفي فقط أن الإنسان بطبعه أناني يرغب في الحصول على أكبر قدر من المنفعة بأقل جهد ممكن . 
وإذا كان لا بد من قول ، فإنه إذا كان صحيحا أن الفرد يعيش في المجتمع الذي أنشأه ، والذي يحتاج إليه لكي تتطور حياته وشخصيته ، وإشباع حاجاته المادية والمعنوية ، فإن الدولة يقع على عاتقها أن تقوم ببعض  الواجبات الضرورية ومن أبرزها إقامة السلام الاجتماعي والنظام العام والعدالة بين الأفراد أنفسهم ، وهو ما يمثل أحد الأسباب التي من أجلها أعطيت الدولة عدة وسائل تساعدها على أن تتولى بطريقة فعالة المهام الملقاة على عاتقها من خلال وضع مجموعة من القواعد العامة التي تنظم العلاقات ، سواء أن كان بينها وبين الأفراد من ناحية أو فيما بين الأفراد أنفسهم . 
وبناء على ذلك فقد أعطيت الدولة الحق في اللجوء إلي القوة متى ما استدعت الضرورة ذلك ، من أجل أن تؤيد احترام هذه القواعد العامة طالما أنها سارية وهذا ما سارت عليه الدولة الإسلامية منذ نشأتها حيث حاولت بل ونجحت في التوفيق والموازنة بين مصالح الأفراد من جانب والمصالح العامة من الجانب الآخر ، يقول الله تعالى " ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا " هذا المبدأ الذي اكتشفه القانون الوضعي في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي . 
وعلى أية حال فإنه من المتفق عليه من وجهة النظر العقابية ، أن المجتمع له الحق في أن يضع مجموعة من القواعد العامة التي تحظر على الأفراد ، أو تتطلب منهم إتيان بعض التصرفات ، كما أن له الحق في محاكمة الأفراد الذين لا يطيعون هذه القواعد ، وأن تطبق عليهم الجزاء المقرر قانونا لسلوكهم المعتبر جرما . هذا الحق يتجسد فعليا في القانون الجنائي المكون لحق الدولة في التجريم والعقاب المصنوع من السلطة التشريعية عملا بمبدأ فصل السلطات وتحديد الوظائف . هذا مع ملاحظة أن السلطة التشريعية ليست طليقة من كل قيد أثناء وضعها لتلك القواعد وفقا للنظام الدستوري للدولة المعنية ، ووفقا للفلسفة التي يقوم عليها النظام في الدولة والمبادئ التي يستند عليها ، وأهم هذه المبادئ ، مبدأ شرعية التجريم والعقاب باعتباره الوجه الأول للشرعية ، وقرينة البراءة باعتبارها الوجه الآخر لمبدأ الشرعية . 
فالمبدأ الأول ، أي شرعية الجرائم أي شرعية الجرائم والعقوبات ، يكون حجر الأساس القانون الجنائي ، أما المبدأ الثاني قرينة البراءة فإنه يسود ويسيطر على جزء مهم من القانون الجنائي بمعناه الواسع – الذي يعني بالبحث عن الحقيقة القضائية ، أي الإجراءات الجنائية وبعبارة أكثر وضوحا فإنه إذا كان اكتشاف الحقيقة هو هدف الإجراءات الجنائية فإن وسائل هذه الأخيرة للوصول إلي الهدف يجب أن تؤسس على مبدأ قرينة البراءة أو أن الأصل في الإنسان البراءة إلي أن يثبت بصورة قاطعة لا تحتمل أي تأويل عكس ذلك . 

 مفهوم المبدأ قرينة البراءة: 

مقتضى المبدأ أن كل شخص متهم بارتكاب جريمة – أيا كانت جسامتها – تجب معاملته بوصفه شخصا بريئا حتى تتأكد إدانته بحكم قضائي نهائي محض – أي حائز بحجية الشيء المحكوم به بحيث لا يقبل الطعن فيه 1. 
والثابت أن الدعوى الجنائية تعرض من ترفع ضده – المتهم – إلي خطرين – الأول هو أن يتم اتهامه خطأ ، ولكنه يستفيد في النهاية بقرار الأوجه لإقامة الدعوى أو حكم البراءة . كما تشير بذلك المادة 141/1 من القانون الإجرائي الجنائي السوداني لسنة 1991م ، والخطر الثاني أن تتم إدانته والحكم عليه بعقوبة في حين أنه برئ . وبالرغم من أن الخطر الأول أقل بشاعة من الخطر الثاني إلا أنه على قدر كبير من الخطورة لما يمكن أن يستتبعه من إجراءات ماسة بحريته الشخصية – المتهم – أو حتى مقيدة لها كالقبض والتفتيش – للأشخاص والأماكن – والحبس الاحتياطي الأمر الذي لا يستطيع معه الحكم القاضي بالأوجه لإقامة الدعوى أو البراءة أن يمحو الأضرار التي تحملها بما في ذلك الثقة التي كان يتمتع بها المتهم من قبل والتي سوف تهتز بعد حبسه أو تفتيشه . 
أما فيما يتعلق بالخطر الثاني – إدانته وهو برئ – فإنه وإن كان قليل الوقوع عملا ، إلا أنه ليس نادرا أو مستحيلا . ذلك أن الحياة القضائية التي تم فيها الحكم على أبرياء ، وعلى هذا فإن إمكانية حدوث هذه الأخطاء مسلم به من الناحية التشريعية ، والدليل على ذلك هو وجود القواعد الخاصة بإعادة النظر في الأحكام القضائية الابتدائية في جميع قوانين الإجراءات الجنائية الحديثة 2 وفي سبيل تلافي هذا الخطر المزدوج – والذي يمكن أن يكون ضحيته أي مواطن فقد تبنت أنظمة الإجراءات الجنائية الحديثة مبدأ مقتضاه أن كل شخص متهم بارتكاب جريمة يجب أن يعتبر ويعامل كشخص برئ حتى يصبح القرار القضائي المعلن لإدانته نهائيا لا رجعة فيه. 
وبهذا الفهم تعتبر قرينة البراءة أساس كل تنظيمات وقواعد الإجراءات الجنائية والذي يقال عادة في تبريره أنه من الأفضل أن يفلت مذنبا من العقاب خيرا من أن يدان برئ . وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه للإمام أن يخطئ في العفو خيرا له من أن يخطئ في العقوبة . 
فالمبدأ الذي يمثل حماية للحرية الشخصية للإنسان ، والتي تعتبر أول حق من حقوقه كإنسان بعد حقه في الحياة ، فهو ضمانة أساسية للحرية الفردية ضد تعسف سلطات الدولة المختلفة في ممارستها لحق المجتمع في العقاب . وعليه فإذا  كان القسم الموضوعي من القانون الجنائي – أي القسم الخاص بتحريم الأفعال وتحديد عقوباتها – هو قانون المذنبين أو المجرمين ، فإن القسم الإجرائي منه – أي الإجراءات الجنائية – فهو قانون الناس الشرفاء . فالمتهم يحضر أمام مختلف الهيئات القضائية الجنائية . دون أن يكلف بإثبات شيء ، فهو ليس مكلفا بإثبات براءته لأن هذه الأخيرة مفترضة فيه . وعلى هذا فإن تقررت ضرورة القبض عليه ، فإن الحبس الاحتياطي يعد إجراءا استثنائيا بقدر ضرورته للتحفظ على شخصية المتهم من جانب وتجريم كل تعسف في تنفيذ وتطبيق قواعد الإجراءات الجنائية من جانب آخر 

طبيعة أصل البراءة : 

ذهب بعض علماء الفقه إلي اعتبار أن هذه القاعدة تمثل قرينة قانونية بسيطة – أي تقبل إثبات عكسها – والقرينة هي استنباط واقعة مجهولة من خلال واقعة معلومة فالمتفق عليه أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يتقرر العكس بحكم قضائي وبناء على نص قانوني . 
إلا أن بعض أحكام المحاكم انتهت إلي أن افتراض البراءة لا يتمخض عن قرينة قانونية ولا هو من صورها . على أساس أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي – الواقعة المعلومة – أي واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها وهذه الواقعة البديلة هي التي تعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولى بحكم القانون وليس الأمر كذلك بالنسبة للبراءة التي افترضها القانون والدستور فليس ثمة واقعة أصلها الدستور محل واقعة أخرى وأقامها بديلا عنها ، إنما يؤسس افتراض البراءة علة الفطرة التي يميل الإنسان عليها فقد ولد حرا مبرأ من الخطيئة والمعصية ، ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامنا فيه مصاحبا له فيما يأتيه من أفعال إلي أن تنقضي محكمة الموضوع بقضاء جازم هذا الافتراض على ضوء البينات التي يقدمها الاتهام مثبتة للجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها وبالنسبة إلي كل واقعة ضرورية لقيامها 
ويظل هذا الأصل قائما رغم الأدلة المتوفرة والمقدمة حتى يصدر حكم قضائي بات يفيد إدانة المتهم ، وبهذا الحكم ينقضي أصل البراءة وتتوافر بالتالي قرينة قاطعة تصلح أساسا لإهدار الأصل في المتهم 
فإدانة المتهم إذا تتوقف على انتهاء الإباحة وعدم توافر موانع المسئولية1، ومع ذلك فقد لوحظ أنه إذا أريد احترام أصل البراءة احتراما حرفيا فسوف يضحى اتخاذ الإجراءات الجنائية أمرا مستحيلا ولهذا فإن المضمون الواقعي العملي لهذا الأصل يتوقف على ضمانات الحقوق والحريات التي تحيط بتطبيق هذه القرينة . 
فأصل البراءة يعني أن المتهم يجب أن يعامل كالأبرياء ، ومن ثم فإن الأصل هو تمتعه بجميع الحقوق والحريات التي كفلها الدستور ونظمها القانون . 
إلا أنه ولما كانت نصوص الدستور متكاملة مترابطة وكان الدستور كما كفل الحرية الشخصية معظم حقوق الإنسان كفل أيضا التجريم والعقاب  وكفل المحاكمة عن الجرائم حين نص على أنه لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي  فإن الشرعية الدستورية في الإجراءات الجنائية تتطلب الموازنة بين احترام الحقوق والحريات الأساسية وكفالة الإجراءات التي تتخذ تجاه المتهم . 
فالقانون ينظم الحرية الشخصية للمتهم داخل الخصومة الجنائية في ضوء أهداف الخصوم الجنائية ويجب ألا يتجاوز هذا التنظيم القانوني القائم على أصل البراءة والذي يتمثل في تقييد الإجراءات التي يسمح بها القانون بضمانات معينة تكفل حماية الحرية الشخصية للمتهم وحقوقه المتعلقة بها.
فالقانون يعد من أهم وأخطر مصادر المشروعية بحكم أنه المصدر المنظم لإجراءات تحصيل الأدلة منذ إلقاء القبض على المتهم مرورا بتفتيشه وتسجيل أقواله وضبط كل متعلقات الجريمة ، وتحديد ضوابط وقيود ذلك ، لذلك حرصت القوانين الإجرائية في السودان 1974 و1983م و1991م على النص على ضرورة وجوب قبول البينة في الإجراءات القضائية طبقا لنصوص القانون ، وبما يتفق مع المنطق والعدالة ودون أي معاملة غير كريمة للمتهم أو الشهود كما حظر القانون تعريض أي شخص لأي معاملة أو عقاب وحشي وغير إنساني. 

4/ أساس قرينة البراءة : 

4/ 1/ الأساس الشرعي لقرينة البراءة : 

إن حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي عبارة عن فروض وواجبات شرعية فرضها الله تعالي . وبالتالي فليس لبشر أيا كان أن يعطلها أو يعتدي عليها ، ولها حصانة ذاتية لا تسقط بإرادة الفرد تنازلا عنها ، ولا بإرادة المجتمع ممثلا فيما يقيمه من مؤسسات أيا كانت طبيعتها أو سلطتها . 
فهي ليست منحة من حاكم وهي بهذا الوضع حقوق أبدية لا تقبل حذفا ولا تعديلا ولا نسخا ولا تعطيلا ، باعتبار أنها ضرورات فطرية للإنسان من حيث هو إنسان ، والإسلام دين الفطرة ، فمن الطبيعي أن يكون الكافل لتحقيقها . فقد بلغ الإسلام في الإيمان بالإنسان وفي تقديس حقوقه إلي الحد الذي تجاوز بها مرتبة الحقوق عندما اعتبرها ضرورات ، ومن ثم أدخلها في إطار الواجبات وبالتالي فالحفاظ عليها ليس مجرد حق للإنسان بل واجب عليه يأثم بالتفريط فيه1.     
ففي الحديث الشريف ( … والله لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة بيته المحرم ) متفق عليه ، وفي حجة الوداع قال عليه أفضل الصلاة والسلام ( أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم 2 . 
وفي هذا الإطار جاءت قاعدة البراءة الأصلية والتي تقرر أن الأصل في الإنسان براءة ذمته وعلى القاضي إعمالها فيما يطرح عليه من خصومات ودعاوى ، وذلك لقوله ( البينة على من يدعي )0 ولزوم اشتراط اليقين في الإثبات الجنائي مستمد من القاعدة الفقهية اليقين لا يزول بالشك ، فمن أدلة الفقه أن لا يرفع شك بيقين . ومما ينبني على هذه القاعدة أن المدعى عليه في باب الدعاوى لا يطالب بحجة على براءة ذمته بل القول في الإنكار بيمينه . وفي الحديث الشريف ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم ولأن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة.  ويقول الماوردي " إن للجرائم  عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية لها وعند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجيه الأحكام الشرعية . 
فإذا صادق القاضي على التهمة وأكدها بالبينات الشرعية فإن حالة المتهم تنقلب إلي مجرم ، وتكون العدالة قد أخذت مجراها ولا يستطيع أحد أن يدعي ظلما أو قهرا أو اعتداء وقع عليه لأنه قد استوفى حقه الشرعي في الاعتراض على الحكم . 

4/1/1 معنى القاعدة قرينة البراءة : 

اليقين في الاصطلاح الأصولي هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثابت وجودا حيث أن البراءة متيقنة وأن الاتهام هو الشك وهو الأمر العارض غير المستقر  حيث هو في مقام الظن وغلبته والشك في المصطلح الفقهي هو اعتدال النقضين عند الإنسان وتساويهما1 . فهو اذا  تردد الذهن بين أمرين على حد سواء بحيث لا يميل القلب إلي أحدهما . وعليه يكون القاضي بصدد أمرين أحدهما متأكد من وجوده بحكم الفطرة والجبلة الإنسانية – البراءة – والأمر الآخر متردد فيه وتتساوى فروض وجوده بفروض عدمه – الاتهام بالجرم – لذا فإن الأمر المتيقن ثبوته لا يرتفع إلا بدليل قاطع ولا يحكم بزواله لمجرد الشك لأن الشك اضعف من اليقين فلا يعارضه ثبوتا وعدما.

4/1/2  أهمية القاعدة قرينة البراءة: 

تعد قاعدة اليقين لا يزول بالشك من أصول الشريعة الإسلامية وتكاد المسائل المتفرعة عنها تبلغ ثلاثة أضعاف الفقه ، وفي هذا يقول النووي " وهذه قاعدة مطردة لا يخرج عنها إلا مسائل يسيرة لأدلة خاصة في تحقيقها وبعضها إذا حقق كان داخلا فيها " كما يتمثل فيها اليسر والرأفة ، إذا خرج من تقرير اليقين باعتباره أصلا معتبرا ، وإزالة الشك الذي كثيرا ما ينشأ عن الوسواس ولذا يتجلى فيها الرفق والتخفيف على العباد . 

4/1/3 : فروع القاعدة قرينة البراءة : 

للقاعده فروع عديده  ابرزها القواعد الاتيه :

  4/1/3/1قاعدة " لا ينسب لساكت قول "

 ولكن السكوت في معرض الحاجة إلي بيان بيان  فإذا وجهت التهمة لشخص وسكت عنها فإن سكوته هذا لا تنبني عليه الأحكام التي تنبني على النطق ، بالرغم من أن السكوت في المواضع التي تمس الحاجة فيها إلي البيان بيان إلا إذا صاحبته قرينة لأن الساكت مع القرينة كالناطق حيث أن القرينة دليل مناهضة مبدأ البراءة . 

4/1/3/2    لا عبرة بالتوهم 

وتعني القاعدة أنه لا اعتداد ولا اعتبار بالتوهم – وهو الاحتمال البعيد الحصول – في إثبات الأحكام الشرعية ، لأننا إذا لم نبني الأحكام الشرعية على الشك ، فعدم بنائها على الوهم من باب أولى لأن الوهم أدنى درجة من الشك . 

  4/1/3/3 لا حجة في الاحتمال الناشئ من غير دليل : 

ومفهوم القاعدة أن الاحتمال الناشئ من غير برهان مشكوك فيه ، فلا يرفع عدم الاحتمال الذي هو اليقين ، لأن اليقين لا يزول إلا بيقين مثله في درجته أو في درجة أقوى منه . 

4/2 الأساس القانوني لأصل البراءة : 

تعد قرينة البراءة من الأحكام الأساسية لمبدأ الشرعية وتأتي من بعد شرعية الجرائم والعقوبات وذلك أن تطبيق قاعدة لا جريمة ولا عقاب إلا بنص قانوني – يفترض حتما قاعدة اخرى هي قاعدة البراءة في المتهم حتى يثبت جرمه وفقا للقانون . 
وحقيقة الأمر أن حماية الحقوق والحريات التي كفلها الدستور  لكل مواطن تفترض براءته إلي أن تثبت إدانته في محاكمة منصفة وإذا كانت شرعية الجرائم والعقوبات ، فإنها استنتاج من إباحة الأشياء ، فيجب النظر إلي الإنسان بوصفه بريئا . 
ولا تنتفي هذه البراءة إلا عندما يخرج الإنسان من دائرة البراءة إلي دائرة التجريم وهو ما لا يمكن تقريره إلا بمقتضى حكم قضائي وفقا للدستور 
فهذا الحكم هو الذي يقرر إدانة المتهم فيكتشف ارتكابه الجريمة ، وبمعنى آخر الاعتماد على الحكم القضائي وحده يدحض أصل البراءة حيث أن القضاء هو الحارس الطبيعي للحرية فيملك بناء على هذا الأصل تحديد المركز القانوني للمحكوم عليه بالنسبة إلي الحقوق والحريات فيكون الانتقاص من هذه الحقوق والحريات هو الجزاء الجنائي المترتب على إدانته بالجريمة التي ارتكبها . 
ولهذا لا بد من القول أن أصل البراءة هو أحد الدعائم الأساسية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها ويعتبر حكما لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة . 
وعليه فإنه إن كانت المصلحة العامة في إدانة المجرمين ومعاقبتهم ، فإن هذه المصلحة تتعارض أيضا مع الاعتداء على حريات الأبرياء والدفاع عن هذه الحريات في مجال إثبات الإدانة على وجه قطعي لا يعتبر قيدا على المصلحة العامة ، لأن المصلحة المحمية هنا هي الحرية الشخصية وهي مصلحة تهم المجتمع بأسره ولا تقل أهمية عن المصلحة العامة في معاقبة المجرمين وبالتالي لا بد من تحقيق موازنة بين الاعتبارين بحيث لا يفلت مجرم من العقاب ولا أن يدان برئ في آن واحد .

5/ التطور التاريخي للمبدأ : 

5/1 في القانون الوضعي : 

كانت المجتمعات البدائية قبل ظهور الدولة في مفهومها السياسي المتواضع عليه حاليا ، تخضع لتأثيرات العقائد الدينية غير السماوية 1 وهي بالتالي لم تكن تعرف المبدأ مبررة ذلك بأن المجرم ما هو إلا إنسان مسكون بالشياطين وبالتالي لا بد من تطهيره منها من خلال التعذيب والإيلام بقصد انتزاع الاعتراف منه . 
وفي فترة لاحقة عرف المبدأ بصورته الراهنة ، على أن قوانين الإجراءات الجنائية الوضعية لم تتبع في تطورها خطا واضحا مستمرا . فقد تأثر موقفها إلي حد كبير بطبيعة النظام الإجرائي الذي تعتنقه ما بين النظام الاتهامي والنظام الآخذ بقرينة البراءة . وهو ما يتوقف على نظامها القانوني للحريات العامة . 
ففي القرن السابع عشر ظهر هذا المبدأ في كتابات فلاسفة تلك الفترة وبصفة خاصة أفكار مونتسكيو وبيكاريا . 
ففي كتابه المشهور روح القوانين استطاع مونتسكيو أن يسجل الملاحظة التالية " إنه عندما تكون براءة المواطنين غير مكفولة فإن حرياتهم أيضا تكون غير مكفولة " . أما بالنسبة لبيكاريا فقد ذكر في كتابه الجرائم والعقوبات والذي تضمن أفكارا بناءة وهامة والتي وجدت تأييدا من بعض الفلاسفة الفرنسيين مثل فولتير ، فقد اقترح " على كل مجتمع متمدين أن يقيم قرينة قانونية للبراءة في صالح كل متهم أيا كانت الأدلة المقدمة ضده ، كما يرى أن هذه القرينة يجب أن يستفيد منها المتهم طيلة كل إجراءات التحقيق والمحاكمة ، بل وحتى صيرورة الحكم الصادر بالإدانة نهائيا مبررا ذلك بقوله بأن كل إنسان لا يمكن اعتباره مذنبا قبل حكم القاضي ، والمجتمع لا يستطيع أن يخلع عنه الحماية العامة إلا بعد أن يتم إثبات مخالفته للشروط التي أعطت له هذه الحماية .
وانتقد بيكاريا بشدة استعمال التعذيب عند التحقيق مع المتهم قائلا أن من نتائجة الشاذة أن يكون المجرم في وضع أحسن حالا من البريء لأن الثاني قد يعترف بالجريمة تحت وطأة التعذيب فتقرر إدانته ، أما الأول فإنه قد يختار بين ألم التعذيب وألم العقوبة التي يستحقها فيختار الألم الأول لأنه أخف لديه من ألم العقاب فيصمم على الإنكار وينجو من العقوبة. 

5/2   في الشريعة الإسلامية : 

ظهر هذا المبدأ مع ظهور البعثة النبوية في القرن السادس الميلادي حيث قال صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي … . من هنا يتضح أن الشرعية الإسلامية قد تقدمت على الفقه الوضعي في هذا الصدد بما يقارب العشرة قرون وهذا يكفي . 

5/3   في المواثيق الدولية : 

جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 بأن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات للدفاع عنه. 
أكد هذا المبدأ  العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والذي أقرته الأمم المتحدة سنة 1966م حيث ورد النص حرفيا كما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان  . كما تبنت الاتفاقية الدولية التي عقدت على مستوى القارات والتي تهدف إلي حماية حقوق الإنسان والتي من أبرزها الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية الموقعة في نوفمبر 1950م بروما  مشروع حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي الذي وضعه مؤتمر الخبراء العرب الذي انعقد في المعهد الدولي للدراسات العليا في العلوم الجنائية في إيطاليا 1985م نص على أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته بحكم قضائي صادر من محكمة مختصة . 
وتعتبر فرنسا من الدول الرائدة في هذا المجال ، حيث كان هذا المبدأ من نتائج الثورة سنة 1789 حيث عبرت عنه المادة التاسعة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789 والتي تنص على أن " كل إنسان تفترض براءته حتى تثبت إدانته وإذا تقرر أنه لا مفر من القبض عليه فإن كل عنف – تنفيذ هذا القبض – لا تتطلب الضرورة من أجل التأكد من شخصيته يجب أن يعاقبه القانون بقسوة " .

قرينة البراءة في النظام السعودي:

لقد أصدرت وزارة الخارجية السعودية في عام 2000 تقريرا مطولا بعنوان "حماية حقوق الإنسان في الإجراءات الجزائية وفي تنظيم النظام القضائي". ومن الجوانب التي تستحق الإشادة في هذا التقرير أنه أشار إلى أن المملكة "شديدة الحرص" على أن تؤدي التحقيقات في الجرائم الجنائية وعملية تحديد هوية مرتكبيها إلى إثبات "الحقيقة الكاملة بدون أدنى شك حتى لا يضار أي شخص بريء نتيجة لقرار تعسفي، وحتى لا يتمكن أي مجرم من الفرار من العدالة بسبب التراخي أو الإهمال". كما أكد التقرير على كفالة قرينة البراءة كمبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية، وأشار إلى أن "أحكام الإدانة يجب أن تستند إلى اليقين المطلق في ضوء الأدلة المقدمة، والتي يجب أن يقتنع بها القاضي1.
المراجع:
1 - د . ثروت بدوي – النظم السياسية والقانون الدستوري – منشأة المعرف 1982 .
2 - د. سعاد الشرقاوي – الأنظمة السياسية المعاصرة – دار النهضة العربية .
3 - د. مصطفى فهمي – الوجه الثاني للشرعية الجنائية 1986.
4 - د. فتحي سرور – الحماية الدستورية للحقوق والحريات – دار الشروق.
5 - د. محمد عمارة – الإسلام وحقوق الإنسان – سلسلة عالم المعرفة الكويت .
6 - محمد بن سليمان – مجمع الفوائد – الأصفهاني للطباعة  2/260
7 - الأشباه والنظائر للسيوطي  .
8 - د. أحمد عوض بلال  - علم الإجرام والعقاب – دار الثقافة العربية ج 1 - 1983 .
9 - http://www.mohamoon-montada.com/default.aspx?action=Display&id=1451&Type=3

0 تعليق:

إرسال تعليق