بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

كتاب الحق في العقاب

 للدكتور : احمد لطفي السيد مرعي
تمهيد وتقسيم :
تمثل مكافحة الظاهرة الإجرامية والحد منها الهدف الأسمى الذي يرمي إليه كافة المهتمين بتلك الظاهرة ، وبلوغ تلك الغاية أو الفشل فيه مقياس على مدى نجاح السياسة الجنائية المتبعة داخل المجتمع.
وللسياسة الجنائية - بحسبانها العلم الذي يهدف إلى استقصاء حقائق الظاهرة الإجرامية للوصول إلى أفضل السبل إلى مكافحتها - مراتب تبدأ بالمستوى القاعدي المتعلق بشق التجريم من القاعدة الجنائية ، فتبحث في مدى تلائم التجريم المقرر من قبل المشرع الداخلي مع قيم وعادات المجتمع ، ومدى الحاجة إلى هذا التجريم في الفترة المقرر فيها ، حيث تتباين المجتمعات في هذا بحسب مستواها من التطور الاجتماعى والخلقى والروحي. وكذلك تبحث في طبيعة الوقائع المجرمة لتحديد أى الوقائع يجب أن تظل مجرمة ، وأيها يجب إباحته ، وأيها يجب أن يصبغ عليها وصف التجريم . وتنتقل السياسة الجنائية إلى الشق الجزائي من القاعدة الجنائية ، كي تقيم العقوبات المقررة وحالات التخفيف والتشديد والإعفاء وسبل التفريد التشريعي المقررة في مدونة العقوبات . ثم تنتهي السياسة الجنائية إلى مرتبتها الثالثة المتعلقة بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ الفعلي للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية ، خاصة ما يتعلق بالتفريد التنفيذي للعقوبة والتدابير الجنائية ، وكفالة إتباع أسلوب علمي في تنفيذ الجزاء على المجرم بما يضمن تأهيله وإصلاحه وتهذيبه وإعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى.
وعلى ذلك فإن هدف السياسة الجنائية لا يقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات وإنما يمتد إلى إرشاد القاضي الذي يضطلع بتطبيق هذه الأخيرة وإلى الإدارة العقابية المكلفة بتطبيق ما قد يحكم به القاضي . وهذا الشق الأخير للسياسة الجنائية - والمسمى بالسياسة العقابية - هو الذي يضمه علم العقاب موضوع هذا الكتاب ، والذي يرمي بالتالي إلى الوقوف على الكيفية التي ينبغي بها مواجهة الظاهرة الإجرامية في مرحلة التنفيذ العقابي ، بما يكفل تحقيق أهداف المجتمع في منع الجريمة أو تقليصها إلى أبعد مدى . فكأن علم العقاب علم يسلم بحقيقة الظاهرة الإجرامية ، ويتلقفها بالدراسة والتحليل في أعقاب وقوع الجريمة وثبوتها على جان أو أكثر ، ثم يبدأ التعامل معها في مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي كي يباعد بين الجاني - وكذا بقية أفراد المجتمع - وبين تكرار وقوعها. من هنا تظهر أهمية دراسات علم العقاب حيث يتوقف على هذا العلم نجاح المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية . وكان لزامًا علينا والحال كذلك أن نكشف في مهد مؤلفنا عن بعض الأوليات والعموميات حول الحق في العقاب التي تعين على إدراك مبادئ هذا العلم وتفهم مشكلة الجزاء الجنائي ، كل ذلك من خلال الباب التمهيدي من هذه الدراسة.
ومن الحقائق الثابتة أن أي علم من العلوم ، طبيعياً كان أم إنسانياً ، ينمو ويتطور بقدر نمو وتطور موضوع هذا العلم والمحل الذي يعني بدراسته. وإذا كانت العقوبة قديماً ، بحسبانها نوعاُ من الألم يعادل ويكافئ ما قد وقع من جرم ، هي الصورة الأولى للجزاء الجنائي إلا أنه سرعان ما تبين أن هذا النمط يظل قاصراً عن تحقيق أغراض المجتمع من توقيع العقاب والمتمثل في منع ومكافحة الجريمة ، لذا فقد كشف التطور عن نمط آخر من أنماط الجزاء الجنائي ألا وهو التدابير ، سواء أكانت وقائية أو عقابية أم علاجية ، والتي ظهرت أواخر القرن التاسع عشر على يد المدرسة الوضعية الإيطالية حين قالت بفكرة الخطورة الإجرامية. فكأن هناك تطوراً قد أصاب ما يمكن أن نطلق عليه صور رد الفعل العقابي ، وهو ما سوف نوضحه من خلال الباب الثاني من المؤلف.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نجاح سياسة المكافحة للظاهرة الإجرامية على مستوى التنفيذ العقابي يتوقف في نهاية الأمر على أساليب وطرق المعاملة العقابية المتبعة داخل وخارج المؤسسة العقابية وقدرتها على إعادة تأهيل المجرم وتحقيق كلاً من الردع العام والخاص والحد من معدلات الجريمة في المجتمع. من هنا فقد خصصنا الباب الثالث والأخير من هذا المؤلف لبيان الكيفية التي يتم بها اقتضاء الحق في العقاب ، أي بيان أساليب المعاملة العقابية ، سواء أكانت داخلية كالتصنيف والرعاية الصحية والاجتماعية والعمل ، أو خارجية كالوضع تحت الاختبار وإيقاف التنفيذ والإفراج الشرطي والعمل للمصلحة العامة والرعاية اللاحقة.
بيد أن التطور الذي أصاب نوع العقاب وأساليب المعاملة العقابية (صور رد الفعل العقابي وكيفية اقتضاء الحق في العقاب) ما كان ليتم لولا التطور الذي طرأ على فلسفة وأساس حق العقاب ذاته ؛ هذا التطور الذي نجم عن تبدل وتنوع المدارس الفكرية في مجال الدراسات الجنائية. من هنا كان ولابد قبل بيان صور رد الفعل العقابي وكيفية اقتضاء الحق في العقاب أن تبدأ الدراسة بتسليط الضوء على فلسفة الحق في العقاب ، وهو ما خصصنا له الباب الأول من الدراسة.
وعلى هذا فسوف تنقسم الدراسة على النحو التالي :
الباب التمهيدي : عموميات حول الحق في العقاب
الباب الأول : فلسفة الحق في العقاب
الباب الثاني : صور رد الفعل العقابي
الباب الثالث : اقتضاء الحق في العقاب
الباب التمهيدي

عموميات حول الحق في العقاب

1- أولاً : موضع القانون الجنائي من القانون عامة :

إذا كان يمكن تعريف القانون بأنه مجموعة القواعد القانونية التي لها صفة الإلزام والتي تقرها الجماعة الإنسانية في مجتمع ما من المجتمعات من أجل تنظيم العلاقات والمبادلات والظواهر التي تسوده ، فإننا بهذا ندرك أن القانون هو أمر قديم قدم المجتمع الإنساني ذاته. فتلاحم الجماعة الإنسانية يؤدي وبالضرورة إلى نشوء علاقات متبادلة بعضها قد يتوافق وبعضها قد يتنافر بحكم توافق وتنافر الرغبات والمصالح ، مما يوجب في النهاية وضع إطار تنظيمي يضمن منع العدوان واستقرار الحقوق لأصحابها. وبالجملة فإن القانون والمجتمع وجهان لعملة واحدة يتواجدان سوياً ولا غنى لأحدهم عن الآخر .
وبقدر تنوع العلاقات والمعاملات فإن القواعد القانونية الحاكمة لها تتنوع ، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء ما نسميه الأفرع القانونية. فمن القواعد ما يهدف إلى تنظيم العلاقات المالية التجارية بين الأفراد كالقانون المدني والتجاري ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم علاقات الأفراد بالسلطة أو تلك الأخيرة بغيرها من السلطات داخل المجتمع كالقانون الإداري أو القانون العام ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم الإطار الأمني الذي تتحرك فيه كافة العلاقات السابقة من أجل درء أي عدوان أو عصيان أو خرق يقع على النظام الذي ارتضاه المجتمع ، وتلك هي رسالة القانون الجنائي.
فالقانون الجنائي يهدف إلى تحقيق الأمن في المجتمع عن طريق وضع القواعد التجريمية التي تحظر أنماط السلوك التي من شأنها أن تهدد المجتمع بالضرر أو تعرض أمنه للخطر، مع تفريد الجزاء المناسب والمكافئ لما وقع من اعتداء.

2- ثانياً : علم العقاب وموضعه من القانون الجنائي :

إذا أردنا أن نتخير من شتات التعريفات التي قيلت بشأن علم العقاب فإننا يمكننا أن نوجز الأمر بقولنا أنه العلم "الذي يعكف على دراسة الحق في العقاب فيبحث في أسسه ويبين القواعد الخاصة بتنظيم الجزاء الجنائي (رد الفعل العقابي) وسبل اقتضاء هذا الحق على النحو الذي يكون من شأنه أن يحقق الجزاء الجنائي أغراضه حال التنفيذ الفعلي داخل المؤسسة العقابية ". وأول ما يستلفت نظرنا في هذا التعريف هو أن علم العقاب يظهر في ثوب علم المكافحة اللاحق ، أي ذلك الذي لا تظهر قواعده إلا بعد وقوع الجريمة بالفعل .
على أنه لا ينبغي أن نفهم أن علم العقاب هو مجرد شرح لنصوص القانون الوضعي في معاملة المجرمين ، إنما هو علم كلي مجرد يهدف إلى استخلاص القواعد العامة والكلية التي تحكم تنفيذ الجزاء الجنائي كي يحقق الأغراض التي ترسمها له مصلحة المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية. وبالتالي فإن دراسات علم العقاب تهدف بالدرجة الأولى إلى توجيه المشرع في اختيار أفضل القواعد والأحكام التي يجب أن يراعيها في تنظيم الجزاء الجنائي وطرق تنفيذه . ومن ثم يظهر لنا أن موضع علم العقاب من القانون الجنائي هو الجزء المتعلق بشق الجزاء من القاعدة الجنائية.
فالمعلوم أن قواعد قانون العقوبات لها شقين ، الأول منها يتعلق بشق التكليف ، أي الشق الذي يحدد صور السلوك الأفعال المحظورة. وهذا الشق يحكمه ما يسمى مبدأ الشرعية الجنائية (م5 عقوبات ، م 66 من الدستور المصري) القائل بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ، وبمعنى أخر أنه لا يعد سلوكاً ما جريمة ما لم يكن هذا السلوك محظوراً صراحاً بنص القانون عند ارتكابه ، إذ لا رجعية لنصوص قانون العقوبات. والهدف من تلك القاعدة هو تحقيق الاستقرار في العلاقات الاجتماعية ، كي لا يعاقب الأفراد على أفعال هي مباحة لحظة القيام بها لمجرد أن تشريعاً ما اعتبرها جرماً في أعقاب وقوعها .
أما الشق الثاني من أقسام القاعدة الجنائية فهو شق الجزاء ، أي الشق الذي يحدد الآثار القانونية المترتبة على مخالفة الأوامر والنواهي الواردة في شق التكليف ، أي أنه رد الفعل تجاه الخروج على أحكام قانون العقوبات. وهذا الشق قديم قدم الجريمة ، وإن تنوع رد الفعل تجاه الجريمة بتطور المجتمعات ، حيث انتقل هذا الشق من صورة الانتقام الفردي والجماعي في المجتمعات القبلية في صورة اعتداءات مستمرة من قبل المجني عليه أو عشيرته. إلى أن وصلنا إلى صورة أكثر تهذيباً توكل أمر تنظيم رد الفعل تجاه الجريمة إلى يد سلطة عليا ، أخذت في العصر الحديث شكل الدولة ، وبدأت بالتالي معالم علم العقاب وعلم السياسة العقابية من أجل التنظيم الفعال الذي يجمع بين وجوب مكافحة الجريمة وبين إعادة تأهيل الجاني مرة أخرى ليصبح عضواً نافعاً في المجتمع.
واتصال علم العقاب بشق الجزاء من القاعدة الجنائية يفرض عليه من أجل مكافحة الظاهرة الإجرامية القيام بتفعيل الجزاء الجنائي في مرحلة الاختيار ، وكذا تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة العقابية ، وذلك على التفصيل التالي :

3- أ : تفعيل الجزاء الجنائي في مرحلة الاختيار :

بعد قيام المشرع بتحديد أنماط السلوك التي يعتبرها جريمة تمس الهيئة الاجتماعية عليه أن يتخير أفضل الأجزية التي تتناسب مع جسامة الفعل والأضرار الناشئة عنه. وهذا الاختيار لا يتم بصورة عشوائية إنما بعد دراسة مختلف الأجزية الجنائية المتاحة وفق تطور المجتمع ومفاهيمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية.
وهذه الدراسة تقع موقع القلب من علم العقاب ، فهي جوهره. وكان لهذا العلم دوره في تفعيل الجزاء الجنائي ، حيث لم يعد هذا الأخير يقتصر على العقوبات باعتبارها الألم الذي يتناسب مع جسامة الجريمة المرتكبة والذي يصيب المحكوم عليه في حياته أو حريته أو ذمته المالية ، وإنما اتسع الأمر ليشمل سلسلة من التدابير الاحترازية التي تطبق على طائفة معينة من الجناة الذين وفق قياسات معينة ينبئ وضعهم الجنائي عن عدم صلاحية العقوبة التقليدية في إصلاحهم وتقويمهم. وهكذا اتسعت فرصة الاختيار أمام القاضي الجنائي حال القيام بدورة في مكافحة الجريمة ، وما هذا إلا نتيجة للتطور الذي شهدته أبحاث علم العقاب والسياسة العقابية.

4- ب : تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة العقابية :

كان لدراسات علم العقاب أثرها في تطوير أغراض الجزاء الجنائي وأساليب المعاملة العقابية. ففي الوقت الذي كانت فيه العقوبة هي الجزاء الأساسي بدأ علماء القانون الجنائي في القرن الثامن عشر في الانتقال بالعقوبة من مرحلة اعتبارها مجرد قصاص تستوجبه قواعد الأخلاق أو مجرد اعتبارها تعويضاً عادلاً ومستحقاً للمجتمع إلى مرحلة الوظيفة الوقائية للعقوبة. إذ يجب على العقوبة أن تلعب دوراً في حماية المجتمع بمنع تكرار الجريمة سواء من غير المحكوم عليه وهو ما يسمى بالردع العام Prévention générale ، وسواء من المحكوم عليه ذاته وهو ما يسمى بالردع الخاص Prévention spéciale.
وفي المرحلة التي كان ينظر فيها للعقوبة على أساس أن لها طابع القصاص والانتقام اصطبغت بما يسمى بالوظيفة الاستبعادية للعقوبة Fonction d'élimination ، والتي ترى أن كفاح المجتمع ضد الجريمة لا يكون إلا بإقصاء المجرم عن المجتمع ككل. من هنا ازدادت أهمية عقوبة الإعدام وكذلك العقوبات السالبة للحرية (خاصة طويلة المدة أو المؤبدة) لأنها تؤدي في النهاية إلى إبعاد المحكوم عليه عن المجتمع. لذا فإن الدراسات العقابية في هذه المرحلة كانت تسمى " بعلم السجون "Science Pénitentiaire".
وإزاء العيوب التي ظهرت للوظيفة الاستبعادية للعقوبة ، لما لها من نتائج سلبية على المحكوم عليه ذاته وعلى أسرته وعدم تناسبها مع الجرائم القليلة الجسامة من وجهة النظر الاجتماعية ، بدأ الاهتمام بغرض عقابي آخر للجزاء الجنائي ألا وهو غرض الردع الذي قد يتحقق بطريق التخويف La dissuasion par l'intimidation أو بطريق الإصلاح La dissuasion par l'amendement . 
والطريق الأول له قسمان : الأول هو الردع العام الموجه للكافة من الناس لما يحدثه الجزاء الجنائي الواقع على عاتق المحكوم عليه من ترهيب لبقية أفراد المجتمع وإحباط الإرادة الإجرامية لديهم . وهذا الردع يتفاوت فيه الناس بحسب نوع الجريمة المرتكبة ، فالعقوبات المقررة لجرائم التهرب الضريبي والجمركي وللمخالفات عموماً لا تحدث درجة التخويف بذات القدر الذي تحدثه العقوبات في الجرائم الأخرى. كما أن الردع يتفاوت حسب نوع العقوبة ودرجة جسامتها ، فالإعدام أشد من الحبس في درجة الردع كما أن هذا الأخير له أثر رادع أشد من الغرامة. ويتوقف أخيراً غرض الردع العام على نوعية المجرم ، فالمجرم العاطفي مثلاً لا يتمثل العقاب في ذهنه قبل الإقدام على فعله الآثم ، كما أن هناك طوائف أخرى تقل لديها حدة الردع لما يثور لديهم من باعث الأمل من الإفلات من العقاب .
أما القسم الثاني فهو التخويف الذي ينصرف إلى المحكوم عليه وحده ، أو ما يسمى بالردع الخاص. وهذا التخويف ينصرف أثره للمستقبل بعد تنفيذ العقوبة ، بمعنى أنه يستهدف الحيلولة بين المحكوم عليه وبين العودة إلى سلوك سبيل الجريمة مرة أخرى. غير أن هذا التخويف الخاص في حالات العقوبة القاسية السالبة للحرية ، وأحيانا المغالي فيها ، من شأنه أن يجعل المحكوم عليه أكثر عدوانية وكراهية للهيئة الاجتماعية لما للسجن من أثر سلبي على صحة ونفسية وجسد وأسرة المحكوم عليه.
ولقصور وظيفة الردع بشقيقها العام والخاص عن مكافحة الجريمة كان لابد أن تنهج الدراسات العقابية نهجاً حديثاً في النظرة إلى أغراض الجزاء الجنائي وأساليب المعاملة العقابية ، الأمر الذي تم على يد أنصار المدرسة الوضعية الإيطالية ، التي لا تنظر للجسامة الذاتية للواقعة الإجرامية كأساس للعقاب وإنما للخطورة الإجرامية للفاعل واحتمال وقوع الجريمة منه في المستقبل.
من هنا ظهر الطريق الثاني ألا وهو الردع بطريقة الإصلاح ، أي العمل بأساليب مختلفة على دفع المحكوم عليه في المستقبل وبعد انتهاء مرحلة التنفيذ العقابي إلى التوافق في سلوكه مع القواعد الاجتماعية السائدة في المجتمع ، وبالجملة تحوله إلى رجل شريف. وهذا الهدف - كما ترى المدارس العقابية في فرنسا خاصة مدرسة الدفاع الاجتماعي - هو من مهام الإدارة العقابية التي يجب أن تعمل على خلق وتنمية الإرادة داخل المحكوم عليه وتهذيبه وتأهيله كي يعتاد على العمل الشريف في أعقاب خروجه من المؤسسة العقابية. وهذا يلقى على هذه الإدارة عبء تثقيفي وعبء القيام بالرعاية الصحية والاجتماعية للمحكوم عليه ، سواء أكان ذلك أثناء مرحلة التنفيذ العقابي أو بعد ذلك في إطار ما يسمى بالرعاية اللاحقة للمحكوم عليه بهدف ضمان تأهيله وانخراطه عضوا نافعاً في المجتمع. وقد أصبح تحقيق هذا الهدف أهم ما يشغل الباحثين في علم العقاب .
هذا التطور دفع البعض - ومع سيادة هذه المفاهيم الحديثة في المعاملة العقابية - إلى إطلاق اصطلاح "علم معاملة المجرمين" Science de traitement des délinquants على ذلك العلم الذي يعكف على دراسة القواعد التنفيذية لمختلف الجزاءات الجنائية (عقوبات وتدابير) ودراسة وسائل المكافحة العامة للجريمة والوقاية منها. هذا الأمر الذي تهتم به منظمة الأمم المتحدة في إطار دعوتها المتكررة للعديد من المؤتمرات الدورية والتي تنعقد كل خمس سنوات حول "الوقاية من الجريمة ومعاملة المذنبين" ومنها المؤتمر الأول الذي انعقد بمدينة جنيف بسويسرا عام 1955. وفى هذا المؤتمر تم عرض المشروع الذي أعدته سكرتارية الأمم المتحدة حول قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين وتم إقراره واعتماده من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة في 31 يوليو 1957 ليمثل جملة القواعد التي أجمع الخبراء في المجال العقابي على قبوله بوجه عام كمبادئ وأساليب صالحة في مجال معاملة المسجونين وإدارة المؤسسات العقابية ، وليعد بمثابة دليل العمل في مجال الإصلاح العقابي .
جملة القول أن الدراسات العقابية الحديثة لم تعد تقتصر على دراسة كيفية تنفيذ العقوبات والتدابير الاحترازية Mesures de sûreté أياً كان نوعها ، بل أصبحت تتناول فوق ذلك أساليب المعاملة العقابية التي تجري داخل المؤسسة العقابية أو التي تجري خارجها (الإفراج الشرطي ونظام الرعاية اللاحقة…الخ) على النحو الذي سيظهر في ثنايا هذا المؤلف.

5- ثالثاً : طبيعة التنفيذ العقابي :

من بين الأسئلة التقليدية التي تحاول دراسات علم العقاب الإجابة عليها التساؤل حول طبيعة التنفيذ العقابي. وفي الإجابة على هذا التساؤل يمكنا القول أن هناك سمات ثلاث تحكم طبيعة التنفيذ العقابي نتولاها بالإيضاح على النحو التالي :

6- أ : الطبيعة الإدارية لقواعد التنفيذ العقابي :

غالباً ما يكون سند التنفيذ العقابي هو الحكم الجنائي النهائي الذي يصدر من القاضي المختص بعد إحالة الدعوى إليه من السلطة المختصة بذلك وفق القانون ، متضمناً هذا الحكم توقيع عقوبة جنائية أو تدبير يحدده التشريع على متهم ثبتت إدانته. وقد يكون سند التنفيذ العقابي أمراً جنائياً يصدره قاضي أو أحد أعضاء النيابة من درجة معينة وفي أحوال تعينها النصوص القانونية. والأمر الجنائي له طبيعة قضائية ، إذ هو في حقيقة الأمر حكماً واجب التنفيذ متى صار نهائياً يتضمن توقيع عقوبة دون اتخاذ الإجراءات العادية للدعوى الجنائية من تحقيق ومحاكمة ، وبه تنقضي سلطة الدولة في العقاب قِبل المتهم (المواد 323 إلى 330 إجراءات جنائية مصري) .
وبمجرد صيرورة الحكم الجنائي حكماً باتاً لا يجوز الطعن فيه ، إما باستنفاذ طرق الطعن أو بسبب انقضاء مواعيده المقررة ، فإن الرابطة القانونية العقابية التي تترتب على وقوع الجريمة بين الدولة صاحبة الحق في العقاب وبين مرتكب الجريمة تكون واجبة التنفيذ. وفي هذه المرحلة (مرحلة التنفيذ العقابي) تكون الدعوى قد خرجت من حوزة المحكمة ويصبح أطراف الرابطة الإجرائية هما المحكوم عليه محل التنفيذ والسلطات الإدارية في الدولة التي يوكل إليها أمر تنفيذ ما جاء في الحكم الجنائي.
من أجل هذا فإن القواعد التي يشملها علم العقاب وتحكم مرحلة التنفيذ العقابي هي قواعد ذات طبيعة إدارية وليست قضائية. ويترتب على ذلك أن السلطة القضائية تغل يدها عن التدخل في هذه المرحلة إلا في الحالات الاستثنائية التي قد يقررها المشرع .

7- ب : الطابع الاستقلالي لقواعد علم العقاب :

ونقصد بالطابع الاستقلالي لقواعد تنفيذ الجزاء الجنائي هو استقلال هذه الأخيرة عن التشريع الوضعي باعتباره التجسيد الحي للقواعد القانونية التي تحكم تنفيذ الجزاء. فقواعد علم العقاب هي قواعد ودراسات إرشادية تهدف إلى توجيه المشرع إلى الوسائل العلمية والفنية الحديثة التي يمكن أن تتلافى عيوب الأساليب العقابية المأخوذ بها بالفعل في التشريع القائم.
وعلم العقاب في وصوله لهذه المبادئ الحديثة التي يوجها إلى المشرع لا يعتمد على تشريع وضعي معين ، ولا يتقيد بإدارة شارع بعينة. فهو علم توجيهى تجريبي يدرس الأصول والمبادئ الكلية المجردة التي تكفل تحقيق الأغراض المبتغاة من تنفيذ الجزاء الجنائي. إذاً لا تعني دراسات علم العقاب بتحليل النصوص القانونية القائمة وشرحها ، ولكن الدور الرئيسي هو تقيمها بهدف الوصول إلى أفضل النظم التي تحكم التنفيذ العقابي. ويعتمد علم العقاب في تحقيق ذلك - شأنه شأن بقية العلوم الاجتماعية - على أسلوب الدراسة المقارنة ، فهو يفاضل ويقارن بين التشريعات الأجنبية من أجل توجيه المشرع الوطني إلى النظم التي ارتقت بأساليب التنفيذ العقابي بغية التطوير على المستوى الوطني أو الداخلي .

8- ج : الطابع العلمي لقواعد التنفيذ العقابي :

دائماً ما يطرح الفقه التساؤل حول ما إذا كان العقاب يعد علماً Science أم أنه يعتبر مجرد فن Technique.
ولكي نجيب على هذا التساؤل نبادر إلى القول أنه إذا كانت الدراسات العقابية تعني باستقراء الواقع العملي للتنفيذ العقابي ، كي تفاضل بين الأنظمة العقابية الواجب إتباعها ، محاولة من ناحية استخلاص مجموعة من القوانين العلمية تحدد علاقة السببية بين وسائل تنفيذ العقوبات والتدابير المختلفة على نحو معين وتحقيق غرض معين من ناحية أخرى ، وتضع بذلك للمشرع الخطط التي يجب إتباعها حال التنفيذ العقابي ، فإن هذه الدراسات يكون لها الصبغة العلمية ، ويكون العقاب علماً بالمعنى الفني الدقيق للكلمة. ذلك أن العلم ما هو إلا مجموعة من القوانين التي تحدد صلة سببية بين ظاهرتين أو أكثر من ظواهر الدراسة . وهذه الصلة قد تكون حتمية وقد تكون احتمالية حسب نوع العلم (علم طبيعي ـ علم إنساني أو اجتماعي) . وإلى هذه الأخيرة ينتمي علم العقاب ، فهو لا يعطي قوانين عامة ويقينية كتلك المعروفة في العلوم الطبيعة.
ورغم الطابع العلمي للعقاب فإن الأخير له شق فني كجزء أساسي من مستلزمات علم العقاب، ذلك لأن القواعد التي تخص التنفيذ هي قواعد عامة ومجردة ويوكل تنفيذها إلى أشخاص متخصصين عليهم واجب العلم بوسائل وأدوات التنفيذ التي تصلح لكل مجرم على حدة حتى يمكن تطبيق كافة القواعد التي توصل إليها علم العقاب في مجال التنفيذ العقابي. ففن العقاب هو الأداة اللازمة لتطبيق علم العقاب ، وهو السلاح في يد رجال الإدارة العقابية يمكنهم من إعمال قواعد التفريد العقابي .
جملة القول أنه إذا العقاب في المقام الأول هو علم يستهدف الوصول للقواعد المثلى للتنفيذ العقابي من خلال مقارنة النظم العقابية بعضها ببعض ، إلا أن هذا العلم لن يكون له القيمة الفعلية إلا بالاهتمام بفن العقاب ، أي الاهتمام بالكيفية التي بها يتم تطبيق قواعد هذا العلم على المستوى العملي داخل وخارج المؤسسات العقابية. وهذا التركيز على جانب فن العقاب هو تمسك بحقيقة تاريخية مؤداها أن فن العقاب كان أسبق في الظهور من قواعد علم العقاب .

9- رابعاً : علم العقاب وأفرع العلوم الجنائية الأخرى :

لعلم العقاب طبيعة ذاتية تجعله مستقلا عن فروع القانون الجنائي الأخرى. هذه الذاتية تنشأ من اختلاف موضوعه وأغراضه عن موضوع وأغراض العلوم الأخرى ، مما يؤكد من جديد الطابع العلمي الخاص لهذا العلم. ورغم تلك الذاتية إلا أنه تظل لهذا العلم صلة وثيقة بغيره من العلوم الجنائية ، كقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وعلم الإجرام وعلم السياسة الجنائية. وهو ما سنوضحه بإيجاز في النقاط التالية.

10- أ : علم العقاب وقانون العقوبات :

من المعلوم أن قانون العقوبات هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم التجريم والعقاب. بمعنى أن المشرع من خلال هذا القانون يحدد أنماط السلوك (السلبي أوالإيجابي) التي توصف بأنها جريمة ، ويحدد لهذه الأنماط الأجزية (عقوبات وتدابير) المناسبة. وبهذا المعنى فإن قانون العقوبات هو علم قاعدي يهدف إلى دراسة القواعد التي تحكم التجريم والعقاب بقصد تفسيرها وبيان مضمونها ثم استخلاص النظريات التي تحكم الأشكال القانونية لنماذج السلوك محل التجريم والجزاءات المنصوص عليها كأثر لوقوع الجريمة وثبوت مسئولية مرتكبيها.
أما علم العقاب ، ورغم أنه هو أيضاً علم قاعدي يهتم بتنظيم الجزاءات الجنائية المختلفة وأساليب المعاملة العقابية بهدف الوصول إلى الغايات المرجوة من التنفيذ العقابي , إلا أنه علم مستقل عن قانون العقوبات. إذ أن هذا العلم – علم العقاب - كما قلنا لا يعتمد في دراساته على تشريع وضعي معين أو على ما هو مطبق بالفعل في دولة ما من الدول ، ولكنه يهتم بدراسة الأصول والقواعد الكلية التي تحكم التنفيذ العقابي ، أو بمعنى أدق يرسم الصورة لما يجب أن يكون عليه بالفعل تنفيذ الجزاء الجنائي. فجوهر دراساته هو تحديد أثر جزاء معين بنوع وقدر معين وكيفية تطبيق معينة في تحقيق الغايات المبتغاة من توقيع الجزاء من الناحية الفعلية .
وبالجملة فإن دراسات قانون العقوبات تعتمد على تحليل ما هو كائن بالفعل من تجريم وعقاب، أما دراسات علم العقاب فهي تبحث فيما يجب أن يكون عليه الحال في مرحلة التنفيذ العقابي.
ورغم هذه الاستقلالية إلا أنه يظل بين الفرعين صلة وثيقة تنشأ لعدة أسباب منها :
*- أن دراسات علم العقاب هي التي تقدم للمشرع الجزاء الجنائي المناسب عند محاولة المشرع الجنائي التدخل لتجريم سلوك ما. وعند إفراغ هذا الجزاء في قاعدة قانونية مضافاً إلى شق التجريم تبدأ قواعد قانون العقوبات في التشكيل والتكوين.
*- أن لكل من قواعد قانون العقوبات وعلم العقاب طابع معياري مشترك. فالأولى تبين ما ينبغي أن يكون عليه نشاط الأفراد حتى لا يقعوا تحت طائلته ، أما الثانية فتبين ما ينبغي أن يكون عليه نشاط الإدارة العقابية حتى تتحقق الأهداف المرجوة من توقيع الجزاء الجنائي .
*- أن الباحث في علم العقاب لايسعه للتعرف على النظام القانوني الذي يحكم التنفيذ العقابي في دولة ما من أجل تحليله ونقده ومعرفة مزاياه وعيوبه إلا التوجه إلى القواعد المدونة في قانون العقوبات لهذا البلد. فهي التي تبين للباحث في علم العقاب ما إذا كان التشريع القائم في بلد ما يأخذ بأساليب المعاملة العقابية المتطورة أم لا.

11- ب : علم العقاب وقانون الإجراءات الجنائية :

قانون الإجراءات الجنائية هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم السبيل الإجرائي لاقتضاء الدولة حقها في العقاب. فهو جملة قواعد إجرائية تنظم إثبات الواقعة الجنائية قبل متهم معين ، بدءاً من التحري والاتهام والتحقيق والمحاكمة ، انتهاءً بتنفيذ الجزاء المقضي به. فلا يكفي أن ينشأ للدولة حق في العقاب كحق موضوعي ينظمه قانون العقوبات ، بل يجب أن يتوافر أيضاً حق أخر يكفل وضع الحق الأول موضع التنفيذ. هذا الحق هو حق إجرائي يرسم كيفية ممارسة الدولة لسلطتها في العقاب وتحديد السلطة المنوط بها هذا الأمر. وكلها أمور يعالجها قانون الإجراءات الجنائية.
من هنا يظهر أن قانون الإجراءات الجنائية هو الأداة القانونية لتوقيع الجزاء الجنائي. فبعد المراحل المختلفة للدعوى الجنائية وبمجرد صدور الحكم النهائي تنتهي مرحلة الإجراءات الجنائية لتبدأ مرحلة التنفيذ العقابي كما يحددها علم العقاب. ومن هنا تبدو الصلة بين كلا الفرعين ، فمن ناحية ساهم علم العقاب بتطوير قواعد الإجراءات الجنائية من أجل كفالة أفضل الضمانات للمتهم ، ومن قبيل ذلك استحداث نظام قاضي تنفيذ العقوبات في بعض الدول. ومن ناحية أخرى تأثر قانون الإجراءات الجنائية بما وصل إليه علم العقاب من نتائج في مجال شخصية المتهم ووجوب فحصه طبيعياً ونفسياً واجتماعياً ووجوب إعداد ما يسمى بملف الشخصية الذي ينتقل مع المتهم خلال كافة مراحل الدعوى الجنائية.
كذلك تكشف دراسات وبحوث علم العقاب عن ضرورة تقسيم مراحل الدعوى الجنائية إلى مرحلتين : الأولى هي مرحلة الإدانة ، وفيها تبحث المحكمة حول ثبوت وقوع الجريمة وإسنادها إلى المتهم ، والثانية هي مرحلة الحكم وفيها تبحث المحكمة في شخصية المتهم ووضعه الاجتماعي والعائلي والمادي من أجل تحديد الجزاء الجنائي الذي يلائم ظروفه وحالته .

12- ج : علم العقاب وعلم الإجرام :

علم الإجرام هو فرع من العلوم الجنائية يهتم ببحث كافة العوامل الدافعة للسلوك الإجرامي. ومن هنا يبدو الفارق بين العلمين ، فبينما تهتم دراسات علم العقاب بدراسة الإجراءات التي يمكن اتخاذها بعد وقوع الجريمة ، فإننا نجد أن أبحاث علم الإجرام تهتم بدراسة الأسباب المختلفة للظاهرة الإجرامية قبل وقوع الجريمة ذاتها. علاوة على ذلك فإن علم العقاب كما سبق القول هو علم قاعدي يتناول بالدراسة الجزاء الجنائي – عقوبة أم تدبير – من أجل استخلاص أغراضه وبيان مجموعة القواعد والمبادئ العامة التي يجب أن تحكم تنفيذه. أما علم الإجرام فهو علم من العلوم السببية التفسيرية ، التي تعني بتفسير الظاهرة الإجرامية بهدف الوصول إلى قوانين عامة تحكم السلوك الإجرامي من حيث دوافعه وأسبابه الفردية والاجتماعية.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف ، إلا أن بين العلمين صله هي أقرب إلى التصاهر والاندماج. فكلا العلمين يجعل من الظاهرة الإجرامية موضوعاً لأبحاثه ، ومن المنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجريب أسلوباً ومنهجاً للدراسة. كما أن كلا الفرعين يلتقيان عند هدف واحد هو العمل على مكافحة الجريمة ، وأن كلاهما يعد منطلق للأخر ، فلا يمكن دراسة الجزاء الجنائي - كمحور اهتمام علم العقاب - إلا بعد التعرف على أسباب الإجرام ذاته. وبالتالي فإن علم الإجرام - أو علم أسباب الظاهرة الإجرامية - هو مقدمه أولية وضرورية لعلم العقاب ، الذي يرمى إلى إصلاح المجرم وإعادته إلى حظيرة المجتمع الشريف مرة أخرى. لذا يصدق قول البعض أن علم العقاب ما هو إلا "علم الإجرام التطبيقي" .
فبناء على ما تسفر عنه أبحاث علم الإجرام من نتائج حول أسباب الظاهرة الإجرامية والعوامل الدافعة إليها يمكن تحديد أفضل الأساليب في مجال المعاملة العقابية ، كي يؤتي الجزاء الجنائي ثماره ويحدث أثره في نفس الجاني وبقية أفراد المجتمع.

13- د : علم العقاب والسياسية الجنائية :

السياسية الجنائية هي العلم الذي يبحث فيما يجب أن يكون عليه القانون مستقبلاً لا فيما هو كائن بالفعل .
وكما سبق وأن أوضحنا في مهد هذا المؤلف فإن علم السياسية الجنائية يهدف إلى اقتراح الوسائل الفعالة لمحاربة الظاهرة الإجرامية. لذا فإن هدف السياسية الجنائية لا يقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات ، وإنما يمتد إلى إعطاء الإرشادات والتوجيهات إلى كل من المشرع في مرحلة صياغة النصوص العقابية ، وإلى القاضي حال تطبيق تلك النصوص ، وإلى الإدارة العقابية حال تطبيق ما قضى به القضاء في حكمه.
على هذا فإن للسياسية الجنائية مساحة بحثية أوسع وأرحب. فهي تشمل دراسة القاعدة القانونية في مرحلة التجريم ، فتبحث في الأفعال المجرمة بالفعل والأفعال التي يجب تجريمها والأفعال التي يجب أن يرفع عنها وصف التجريم. كما تشمل دراسة القاعدة القانونية في مرحلة اختيار الجزاء الجنائي ، فتبحث فيما إذا كان الجزاء الجنائي القائم يحقق أغراضه أم يلزم استبداله بجزاء أخر أكثر ردعاً ، وما هي أفضل النظم والوسائل التي يجب أن تتبع في تنفيذ الجزاء الجنائي.
عند تلك النقطة تتماس خطوط علم العقاب بعلم السياسية الجنائية. فعلم العقاب هو جزء من السياسية الجنائية يختص بدراسة أهداف وغايات الجزاء الجنائي وأفضل الأساليب التي بجب أن تتبع في تنفيذ هذا الجزاء على نحو يحقق معه أغراضه.

14- خامساً : مصادر قواعد التنفيذ العقابي :

تتنوع المصادر التي تحكم نشاط المؤسسات العقابية حال التنفيذ الفعلي للجزاء الجنائي. ويمكن أن نقسم هذه المصادر إلى نوعين رئيسيين ، فمنها ما يكون ذو طابع داخلي ومنها ما يكون ذو طابع دولي.

15- أ : المصادر الداخلية لقواعد التنفيذ العقابي :

تأخذ معظم الدول بنظام توزيع قواعد علم العقاب التي تحكم التنفيذ العقابي للجزاء الجنائي بين عدة قوانين ولوائح داخلية .
وإذا نظرنا إلى التشريع المصري نجد أن المصادر الداخلية توزعت بين عدة قوانين منها قانون العقوبات (كالمادة 23 عقوبات التي تنظم خصم مدة الحبس الاحتياطي بمقدار الحكم الصادر بالغرامة ، والمادتان 34 و35 اللتان تنظمان تنفيذ العقوبات المتعددة على محكوم عليه واحد) وقانون الإجراءات الجنائية (الكتاب الرابع المتعلق بالتنفيذ : المواد من 459 إلى 553 التي تنظم الأحكام واجبة التنفيذ ، وكذلك قواعد تنفيذ عقوبة الإعدام وتنفيذ العقوبات المقيدة للحرية وتنفيذ المبالغ المحكوم بها والإكراه البدني وتقادم العقوبة ورد الاعتبار) وكذلك المرسوم بقانون رقم 396 لسنة 1956 بشأن تنظيم السجون . ويضاف إلى كل ذلك اللائحة الداخلية للسجون الصادرة بقرار وزير الداخلية رقم 79 لسنة 1961. وقد تضمن هذا القانون الأخير وكذلك اللائحة الداخلية بيان بأنواع السجون وقبول المسجونين وتصنيفهم ومعاملتهم وعلاجهم وتأديبهم والإفراج عنهم والتفتيش على السجون والإشراف القضائي عليها.
بيد أن بعض الدول اتجهت إلى نظام توحيد قواعد علم العقاب ، أي ضم كل قواعد التنفيذ العقابي في مدونه واحدة ، وهو اتجاه محمود يرجع الفضل في المناداة به إلى الأستاذ تسربوليو Zerboglio في إيطاليا تحت تأثير مبادئ المدرسة الوضعية. وقد لاقت هذه الدعوة قبولاً لدى بعض التشريعات ، ومنها قانون العمل العقابي الصادر في إتحاد الجمهوريات السوفيتية السابق في 16أكتوبر 1924 ، الذي تم تعديله في أول أغسطس من عام 1933 منظماً أساليب العمل العقابي وتفريد المعاملة العقابية وفقاً لمدة العقوبة المقررة. ومن التجارب التي سعت إلى تكريس مبدأ توحيد قواعد التنفيذ العقابي ما قام به الأستاذ جوزيف مانيول Joseph Magnol في مؤتمر قانون العقوبات الذي انعقد في باليرمو بإيطاليا عام 1933. حيث قام هذا الأستاذ بتقديم مشروع متكامل لقانون التنفيذ العقابي ، ضمن الكتاب الأول منه مجموعة من القواعد العامة التي تحكم تنفيذ الجزاء الجنائي ، وتضمن الكتاب الثاني قواعد تنفيذ العقوبات ، وخصص الكتاب الثالث لتنفيذ التدابير الاحترازية ، ثم خصص الكتاب الأخير من المشروع لبيان القواعد التي تطبق بعد العقوبات والتدابير.
وكما سبق وأن قلنا فإن اتجاه التوحيد هو اتجاه مرغوب الأخذ به ، حيث ازدادت أهمية مرحلة التنفيذ العقابي بعد أن تغيرت فلسفة العقاب وأصبحت لا تنظر إلى العقوبة والغاية منها على مجرد أنها ألم يهدف إلى الانتقام من الجاني ، بل أصبح التهذيب والإصلاح والعدالة من بين أغراضها ، مما أدى إلى أتساع مجال علم العقاب وتنوع أساليب المعاملة العقابية ، الأمر الذي يوجب على المشرع التدخل بضم كل قواعد التنفيذ العقابي في مدونه واحدة تراعي الاتساق بين أحكامها .

16- ب : المصادر الدولية لقواعد التنفيذ العقابي :

تنبع أهمية دراسة المصادر الدولية لعلم العقاب من كون هذه المصادر يمكن أن تحتل جزء من التشريع الداخلى إذا ما وقعت عليها الدولة وصدق عليها البرلمان الوطني. فتكون هذه المصادر بمثابة قانون وطني داخلي ملزم وواجب التنفيذ من سلطات الدولة كافة ، مثاله في ذلك مثل القوانين الوطنية التي تصدر عن البرلمان (م151 من الدستور المصري). بل لا نغالي إذا قلنا أن هذه المصادر في تلك الحالة تكون لها قوة أعلى من القانون الوطني تعادل القوة الممنوحة للنصوص الدستورية . بيد أن هناك العديد من النصوص الدولية التي ليس لها إلا طابعاً إرشادياً بالنسبة للمشرع الوطني عند وضع النصوص الخاصة بالتنفيذ العقابي.

17- النصوص الدولية ذات الطابع الإلزامي :

من بين أهم النصوص الدولية التي لها طابع إلزامي في مواجهة المشرع الوطني عند تنظم أحكام التنفيذ العقابي يمكننا أن نذكر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 2200 (د-21) في 16 ديسمبر 1966 ، والذي دخل حيز التنفيذ في 23 مارس 1976 .
ومن بين أهم أحكام هذا العهد المتصلة بالتنفيذ العقابي ما جاء بالمادة السابعة منه بحظر إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللإنسانية أو الحاطة بالكرامة . ولا يجوز على وجه الخصوص إجراء أية تجربة طبية أو علمية على أحد دون رضاه الحر.
وكذلك ما جاء بالمادة العاشرة في فقرتها الأولى من وجوب معاملة جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية تحترم الكرامة الأصلية في الشخص الإنساني ، وفي الفقرة الثانية من وجوب الفصل بين الأشخاص المتهمون عن الأشخاص المدانين ، إلا في ظروف استثنائية ومعاملتهم على حدة بما يتفق وكونهم أشخاصاً غير مدانين. كما جاء بذات الفقرة الثانية من المادة العاشرة من وجوب الفصل بين الأحداث والأشخاص البالغين ووجوب إحالتهم على وجه السرعة للقضاء للفصل في قضاياهم. وأكدت الفقرة الثالثة من ذات المادة على أن يراعى نظام السجون معاملة المسجونين معاملة يكون هدفها الأساسي إصلاحهم وإعادة تأهيلهم الاجتماعي ، مع التأكيد ثانياً على وجوب الفصل بين المذنبون الأحداث والبالغين ووجوب معاملتهم بما يتفق مع سنهم ومركزهم القانوني.
وأكدت المادة الحادية عشر من ذات العهد على عدم جواز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي. كما أكد البند الرابع من المادة الرابعة عشر على أنه في حالة الأحداث يراعى جعل الإجراءات مناسبة لسنهم ومواتية لضرورة العمل على إعادة تأهيلهم.
ومن بين المصادر الدولية الإلزامية يمكن أن نذكر أيضاً اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة La lutte contre la torture et les peines ou les traitements inhumains ou dégradants ، والتي اعتمدت وصدق عليها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 39/46 في 10 ديسمبر عام 1984 والتي بدأ نفاذها في 26 يونيو عام 1987 .
هذه الاتفاقية تحظر كل أشكال التعذيب ، الذي تعرفه في مادتها الأولى بأنه "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أم عقلياً ، يلحق عمداً بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص ، أو من شخص ثالث ، على معلومات أو على اعتراف ، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه ، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو شخص ثالث ، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب للأي سبب من الأسباب يقوم على التميز أياً كان نوعه ، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص أخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها" .
وتلقى الاتفاقية على عاتق الدول الأطراف عبء اتخاذ كافة الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية الفعالة لمنع أعمال التعذيب على إقليمها (م2/1). كما توجب على الدول الأطراف اعتبار جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب القانون الجنائي الداخلي (م4/1). كما تلزم الدول الأطراف بإدراج التعليم والإعلام فيما يتعلق بحظر التعذيب في برامج تدريب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين وغيرهم ممن تكون لهم علاقة باحتجاز أي فرد معرض للأي شكل من أشكال التوقيف أو الاعتقال أو السجن أو باستجواب هذا الفرد أو معاملته (م10/1). كما توجب الاتفاقية إبقاء كل دولة قيد الاستعراض المنظم قواعد الاستجواب وتعليماته وأساليبه وممارسته وكذلك الترتيبات المتعلقة بحجز ومعاملة الأشخاص الذين يتعرضون للأي شكل من أشكال التوقيف أو الاعتقال أو السجن وذلك بقصد منع حدوث أي حالات تعذيب (م11). كما يجب على الدول الموقعة على الاتفاقية أن تتعهد بصنع حدوث أي أعمال أخرى من أعمال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية التي لا تصل إلى حد التعذيب وفق ما تم تحديده في المادة الأولى (م16).

18- النصوص الدولية ذات الطابع الإرشادي :

هناك من المصادر الدولية ماله طابع إرشادى بالنسبة للمشرع الوطنى ، ومن قبيل ذلك ما يصدر من اتفاقات إقليمية لا تكون الدولة بحكم موقعها الجغرافي طرفاً فيها. فعلى سبيل المثال يمكن للمشرع المصري مثلاً أن يسترشد في تنظيمه لقواعد التنفيذ العقابي بالاتفاقيات الصادرة عن دول الاتحاد الأوروبي والمتصلة عموماً بحقوق الإنسان . ومن قبيل ذلك الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والقواعد العقابية الصادرة عن المجلس الأوروبي والاتفاقية الأوروبية لمنع التعذيب والعقوبات وكافة أشكال المعاملة اللاإنسانية أو الحاطة من الكرامة La Convention européenne pour la prévention de la torture et des peines ou traitements inhumains ou dégradants. ويمكن أن نضيف إلى المصادر ذات الطابع الإرشادي ما يعرف باسم القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة المذنبين وكذلك مجموعة المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء.
فلقد تضمنت الاتفاقية الأوروبية لضمان حقوق الإنسان والحريات الأساسية La Convention de sauvegarde des Droits de l'Homme et des libertés fondamentales ، الصادرة عن المجلس الأوروبي والموقعة بروما في الرابع من نوفمبر عام 1950 وأصبحت نافذة في 3 سبتمبر عام 1953 ، العديد من النصوص التي تتضمن حقوق الإنسان في كافة المراحل ، خاصة في مرحلة التنفيذ العقابي ، التي يكون فيها الإنسان في أمس الاحتياج للبحث في ضمان حقوقه الأساسية.
من قبيل ذلك يمكن أن نذكر المادة الثالثة التي تحظر التعذيب La torture وتحظر إخضاع الأفراد للمعاملة اللاإنسانية أو المهينة Traitement inhumain ou dégradent والمادة الرابعة التي تحظر الرق L'esclavage أو العمل الجبري Travail forcé ، إلا في بعض الأحوال التي يحددها البند الثالث من ذات المادة. وكذلك المادة الخامسة التي تؤكد حق الإنسان في الحرية Droit à la liberté وحقه في الأمن Droit à la sûreté وتحظر كل مساس بهما ، إلا في الأحوال الاستثنائية المذكورة في عجز البند الأول من المادة.
كما تؤكد الاتفاقية على ضمان حق الإنسان في المحاكمة العادلة Droit à un procès équitable (م6) وحقه في احترام حياته الخاصة والأسرية (م8) Droit au respect de la vie privée et familiale وضمان حرية التفكير والعقيدة Liberté de pensée, de conscience et de religion (م9) وحرية التعبير Liberté d'expression (م10). وتحظر الاتفاقية كل أشكال التمييز Interdiction de discrimination بسبب الجنس أو اللون أو العرق أو اللغة أو الدين أو الأراء السياسية أو بسبب الانتماء للأقليات الوطنية L'appartenance à une minorité nationale (م14) أو بسبب الثروة La fortune أو بسبب الميلاد... الخ.
ويعطي الباب الثاني من الاتفاقية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان La Cour Européenne des Droits de l'Homme حق الاضطلاع برقابة احترام الدول الأطراف في الاتفاقية لتعهداتهم المتولدة عن الاتفاقية وبروتوكولاتها (م19).
ويمكن للمشرع الوطني أن يسترشد أيضاً بما جاء في توصيات اللجنة الأوروبية الخاصة بالمشاكل الجنائية ، كأحد اللجان المتفرعة عن مجلس أوروبا. ونشير بصفة خاصة إلى ما جاء بالتوصية رقم R(87)3 ، الصادرة عن لجنة الوزراء في 12 فبراير 1987 والمتضمنة مجموعة القواعد العقابية الأوروبية Règles pénitentiaires européennes(مئة قاعدة).
وقد اشتملت هذه التوصية على خمس أقسام : الأول منها يتضمن بيان المبادئ الأساسية (ستة مبادئ) التي تحكم فلسفة وإدارة المؤسسات العقابية والتي يجب أن تقوم على مبادئ الإنسانية Principes d'humanité والأخلاق Moralité والعدالة Justiceواحترام كرامة الإنسان Respect de la dignité humaine. ويبين القسم الثاني إدارة المؤسسات العقابية Administration des établissements pénitentiaires ، بدأً من الاستقبال والتسجيل Accueil et enregistrement وتوزيع وتصنيف المحكوم عليهم Répartition et classification des détenus وشروط أماكن الاحتجاز Locaux de détentionوالصحة الشخصية للمحكوم علية Hygiène personnelle والملابس والنوم Vêtements et literie والتغذية Alimentationوالخدمات الطبية Services médicaux والتأديب والعقاب Discipline et punition ووسائل الإكراه Moyens de contrainte والإعلام وحق الشكوى Information et de droit de plainte والاتصال بالعالم الخارجي Contact avec le monde extérieur والمساعدة الدنية والأخلاقية Assistance religieuse et morale. أما القسم الثالث فيبين ما يتعلق بموظفي الإدارة العقابية ذاتها Les personnelsوما يشترط فيهم من شروط وما عليهم من واجبات. أما القسم الرابع فيحدد أهداف المعاملة العقابية وأساليبها ومنها العمل Travail والتعليم Instruction والتدريب البدني Education physiqueوممارسة الرياضات والهوايات وكذلك النظام التمهيدي على الإفراج Régime préparatoire à la libration. ثم يأتي القسم الخامس لبيان الأحكام التكميلية المطبقة علي طائفة معينة من السجناء ، سواء المحكوم عليهم جنائياً Prévenusأو المدانون بعقوبات غير جنائية Condamnés par une procédure non pénaleأو المحتجزين من المرضى العقليين والنفسيين Détenus aliénés et anormaux mentaux.
ومن بين أهم المبادئ التي جاءت بهذه التوصية يمكن أن نشير خاصة إلى الآتي :
*- ضرورة احترام الكرامة الإنسانية والمعاملة الحيادية والعادلة غير القائمة على أساس الجنس أو اللون أو العرق أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الرأي السياسي أو الانتماء إلى أقلية قومية أو الثروة أو الميلاد أو أى وضع آخر .
*- أن يكون الهدف من المعاملة العقابية المحافظة على صحة السجين وحماية كرامته ، تنمية إحساسه بالمسئولية ، ومنح السجين الوسائل الضرورية لتأهيله اجتماعياً.
*- ضرورة خضوع المؤسسات العقابية لتفتيش دوري من قبل سلطة مستقلة عن الإدارة العقابية.
*- أن تسمح المؤسسات العقابية بالعزلة الليلية للسجناء وأن تراعي الاشتراطات الصحية خاصة من حيث كمية الهواء والمساحة المكانية المتاحة للسجين ، الإضاءة والتدفئة والتهوية. مع مراعاة أن تكون النوافذ من الاتساع بما يمكن المحكوم عليه من استخدام الضوء الطبيعي.
*- وجوب قيام الإدارة العقابية باختيار موظفيها من بين العناصر ذات الكفاءة المهنية وذات القدرة الشخصية على العمل.
*- وجوب الاستعانة بعدد كافي من الأخصائيين في مجال الطب والأمراض النفسية والعقلية وعدد كافي من الأخصائيين الاجتماعيين والتربويين.
*- حظر اللجوء للقوة من قبل إدارة السجن تجاه المحكوم عليهم إلا في الحالات الاستثنائية ، كأن يكون ذلك للدفاع عن النفس أو منع المحكوم عليه من الفرار.
*- حظر إخضاع المحكوم عليه للتجارب التي تمس بالتكامل الجسدى للإنسان ، كما يحظر إخضاعه للعقوبات الماسة بالكرامة أو اللاإنسانية.
*- يجب على الإدارة العقابية أن تمكن للسجين فرص الاتصال بها.
*- اعتماد مبدأ الشفافية مع السجين بأن تحدد الإدارة العقابية له أنماط السلوك المحظورة ، وأن تبصره بالعقوبات التأديبية التي يمكن أن توقع عليه في حالة مخالفة اللوائح الداخلية للسجن ، وأن تسمح له بالتظلم في حالة توقيع أحد العقوبات التأديبية عليه.
ولعل أهم القواعد التوجيهية أو الإرشادية للمشرع الوطني حال تنظيمه لقواعد التنفيذ العقابي ما يسمى بالقواعد النموذجية الدُنيا لمعاملة السجناء Règles minima pour le traitement des détenues ، التي أوصى باعتمادها مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين الذي انعقد في جنيف بسويسرا عام 1955 وأقرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي بقراريه 663ج (د. 340) الصادر في 31 يوليه عام 1957 والقرار رقم 2076 (د. 620) الصادر في مايو عام 1977 .
وكما تحدد هذه القواعد النموذجية في ملاحظاتها التمهيدية ، أنه ليس الغرض منها تقديم وصف تفصيلي لنظام نموذجي للسجون ، بل إن كل ما تحاوله هو أن تحدد على أساس التصورات المتواضع على قبولها عموماً في أيامنا هذه والعناصر الأساسية في الأنظمة المعاصرة الأكثر صلاحاً ، ما يعتبر عموماً خير المبادئ والقواعد العلمية في معاملة المسجونين وإدارة السجون. لذا فإنه لاختلاف القواعد القانونية والظروف الاجتماعية من بلد إلى أخر فإنه لا يرجى التوحيد في تطبيق هذه القواعد النموذجية ، وإنما ما يرجى هو بذل الجهد المستمر للتغلب على العقبات العملية التي تحول دون تطبيقها باعتبارها تمثل في جملتها الحدود الدُنيا التي تعترف بها منظمة الأمم المتحدة. ولذا لا تمنع تلك المبادئ من الخروج عليها متى كان هذا الخروج يتوافق مع جملة المبادئ ومع المعاني الكلية لها.
وتشتمل تلك القواعد النموذجية على جزأين : الأول منها يتناول القواعد المتعلقة بالإدارة العامة للمؤسسات الجزائية. وهذا الجزء ينطبق على جميع فئات المسجونين ، سواء كان سبب حبسهم جنائياً أو مدنياً ، وسواء كانوا متهمين أو مدانين وبما في ذلك أولئك الذين ينطبق بحقهم "تدابير أمنية" أو تدابير إصلاحية أمر به القاضي.
ولا تحاول تلك القواعد تنظيم إدارة المؤسسات المخصصة للأحداث الجانحين (مثل الإصلاحيات أو معاهد التهذيب... الخ). ومع ذلك فإن الجزء الأول منها يصلح أيضاً للتطبيق على هذا النوع من المؤسسات. ويبين الجزء الأول القواعد الكلية التي تشمل تطبيق هذه المبادئ بحيادية ، مع احترام المعتقدات الدينية والأخلاقية وعدم التمييز بين السجناء بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين أو الرأي أو المنشأ القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر.
وتوجب القواعد الإمساك بسجل تبين فيه المعلومات عن السجين ، وتوجب الفصل بين الفئات بما يراعى الاختلاف بين السجناء حسب سنهم وجنسهم وسوابقهم وأسباب احتجازهم. ثم تبين ما يحكم أماكن الاحتجاز من حيث عدد السجناء في الزنزانة الواحدة ومن حيث الاشتراطات الصحية لتلك الأماكن. ثم تبين ما يتعلق بالسجناء من حيث نظافتهم الشخصية وطعامهم وما يمارسونه من ألعاب ، والخدمة المقدمة لهم ، وعقابهم وتأديبهم والأدوات المسموح استخدامها لتأديب المسجون والحالات التي يجوز فيها ذلك. ثم تحدد القواعد النموذجية ما للسجين من حقوق تتعلق بحقه في تقديم الشكوى وحقه في الاتصال بالعالم الخارجي وحقه في التعليم والحق في ممارسة الشعائر الدينية ، وحقوقه في حالة الوفاة أو المرض أو النقل من سجن إلى آخر. وأخيراً تبين هذه القواعد الدنيا في جزئها الأول كل ما يتعلق بموظفي السجون من شروط وما عليهم من واجبات تجاه المسجون وكيفية التفتيش على هذه الأماكن.
ثم يبين الجزء الثاني من تلك القواعد المبادئ التي يمكن أن تنطبق على فئات خاصة ، كتلك التي تنطبق على السجناء المدانون والتي تنطبق على السجناء المصابون بالجنون والشذوذ العقلي والأشخاص الموقوفون والمحتجزون رهن المحاكمة والسجناء المدينين والأشخاص الموقوفون أو المحتجزون دون تهمة.
ونشير أخيراً إلى مجموعة المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء ، التي اعتمدت ونشرت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 45- 111 الصادر في 14 ديسمبر عام 1990. هذا القرار الأخير يتضمن إحدى عشر مبدأً تشتمل على القواعد الكلية أو الأصول التي يجب مراعاتها تجاه السجناء أياً كان سبب احتجازهم. وأهم ما حرص هذا القرار على تأكيده هو احتفاظ السجناء بكافة حقوق الإنسان والحريات الأساسية المبينة في المواثيق الدولية المختلفة (البند 5) ، ووجوب إلزام المؤسسات العقابية - وبمعاونة المجتمع المحلي والمؤسسات الاجتماعية - على تهيئة كافة الظروف للإعادة إدماج السجناء المفرج عنهم في المجتمع مرة أخرى (البند 10).

19- سادساً : تطور الدراسات العقابية :

لا شك أنه في الوقت الذي كانت تسود فيه فكرة العقوبات البدنية أبان العصور الوسطى مثل الإعدام وبتر الأعضاء والجلد لم تكن الدراسات العقابية لتشغل بال أحد ، إذ لا يثير تنفيذ هذه العقوبات مشاكل تستوجب الدراسة ، كما أن تنفيذها لم يكن يستغرق وقتاً طويلاً. ولم يكن السجن في تلك الفترة الزمنية مكاناً لقضاء العقوبة ، بل هو مجرد مأوى للفقراء والمشردين أو مكاناً للتحفظ على الأشخاص تمهيداً لمحاكمتهم أومن أجل تنفيذ العقوبات البدنية عليهم .
لذا فإن بداية ظهور الدراسات العقابية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظهور العقوبات السالبة للحرية أواخر القرن الثامن عشر ، حيث اعتبر السجن أداة رئيسية للعقاب. ويرجع ذلك إلى أن بقاء المحكوم عليه داخل السجن فترة من الزمن بهدف إيلامه والانتقام منه قد يفتح باب المشكلات العقابية ، كالتي تتعلق بأساليب المعاملة العقابية وكيفية تنظيم العلاقة بين الإدارة العقابية والمحكوم عليهم .
على أنه ممالا شك فيه أيضاً أن تلك الدراسات كانت من الضعف الشديد بحيث كانت أثارها محدودة ، وما هذا إلا للنظرة التي كانت سائدة تجاه المجرم على اعتبار أنه شخص شرير ومنبوذ من المجتمع يجب التنكيل به واحتقاره وإذلاله ، والنظرة للعقوبة على أنها مجرد انتقام من الجاني. ولتحقيق هذا الهدف كان التنفيذ العقابي يعتمد على مجموعة من العقوبات القاسية ولم تعتني الدولة بتقديم أية وسائل مساعدة للمحكوم عليهم.
ثم كانت نقطة الانطلاق عندما بدأت رياح التغيير تهب على فلسفة العقاب ، فبدأت تأخذ فكرة الإصلاح والتهذيب مكانها في الفكر العقابي وتصبح هي الهدف الأساسي للعقوبة ، وبدأ ينظر إلى المجرم على أنه شخص عادي دفعته بعض الظروف الاجتماعية والنفسية للانحراف والسير في دروب الجريمة. ومن هنا بدأت الدراسات العقابية يصيبها الثراء والخصوبة بهدف ضمان علاج وإصلاح المحكوم عليهم وتأهيلهم حتى يكونوا في المستقبل أعضاء نافعين في المجتمع.
وقد دفعت إلى هذا التطور عدة عوامل نوجزها في الآتي :

20- أ : العامل الديني :

كان لظهور المسيحية وتطور علوم اللاهوت أثره الفعال في تحول النظرة إلى المجرم من شخص منبوذ سيطرت عليه الأرواح الشريرة ولا سبيل لعلاجه إلى شخص مخطئ يمكن عن طريق الجرعات الدينية التي يقوم رجال الكنيسة ببثها في نفسه من إعادته إلى طريق الرشاد والتوبة. وفي ظل هذه التعاليم – القائمة على الرحمة والتسامح – لقول السيد المسيح " من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر" - تم اللجوء إلى فكرة العزل في زنازين تعمل على تذكير المخطئ بجريمته وتدفعه إلى التأمل فيما اقترفت يداه من ذنب إلى التوبة والندم. وكان هذا هو مهد ميلاد فكرة السجون الانفرادية .
ويرجع الفضل في إظهار هذه الفكرة إلى القديس جان مابيون Jean Mabillon في مؤلفة "تأملات حول السجون الدينية" والذي رجح فيه فكرة السجون الانفرادية لما لها من دور في إصلاح وتقويم المحكوم عليه ، مع مراعاة إصلاح أحوالها من حيث الاشتراطات الصحية. كما نادى بوجوب إعمال مبدأ تفريد العقوبة عند تنفيذها بطريقة تراعي التمايز في القوى العقلية والنفسية للمحكوم عليهم.

21- ب : العامل السياسي :

لقد شهدت أوروبا أواخر القرن الثامن عشر تطوراً في العديد من الأفكار السياسية على أثر انتشار المبادئ الديمقراطية التي نادى بها كبار الفلاسفة والمفكرين خاصة ما يتعلق منها بمفاهيم الحرية والإخاء والمساواة بين الأفراد على يد روسو وفولتير ومونتيسكيو. وكان لزاماً في ظل هذه الأفكار أن تتطور دراسات علم العقاب وأن تتبدل النظرة إلى المجرم ، فلم يعد من يسلك سبيل الجريمة مواطناً من الدرجة الثانية ، إنما هو مواطن يقف على قدم المساواة مع أقرانه من بقية أفراد المجتمع ، وله ما لهم من حقوق إنسانية. لذا كان من المؤكد الاعتراف للمحكوم عليه بكافة الحقوق الإنسانية في المجتمع ، كالحق في التعليم والحق في الرعاية الصحية ، والحق في العمل. كل هذا ألقى على عاتق الدولة واجب القيام بمساعدة المحكوم عليهم ، بحسبان أن ذلك التزام يفرضه عبء مكافحة الجريمة وليس بحسبان ذلك تبرعاً أو إحساناً.

22- ج : عامل تطور العلوم الإنسانية :

لقد أسهم التطور الذي شهدته العلوم الإنسانية بدوره في تطور الدراسات العقابية والمفاهيم التي تحكم تنفيذ الجزاء الجنائي.
وكان علم الإجرام من بين أهم العلوم التي ساهم تطورها في ازدهار الدراسات والبحوث العقابية. فهذا العلم الذي يبحث في أسباب الظاهرة الإجرامية باعتبارها ظاهرة في حياة الفرد وحياة المجتمع ، سواء أكانت أسباب شخصية تتصل بالفرد ذاته أو أسباب اجتماعية ، قد ساعد على توجيهه المعاملة العقابية نحو استئصال أسباب الجريمة حسب حالة كل مجرم على حدة. لذا فقد ظهر في علم العقاب ما يسمى بنظام "تصنيف المحكوم عليهم" تبعاً لنوع العوامل الإجرامية التي دفعتهم إلى انتهاج طريق الجريمة وبما يتفق وشخصية وظروف كل مجرم.
وما كان للدراسات في مجال التنفيذ العقابي أن تتطور إلا تبعاً لتطور عدد أخر من العلوم الإنسانية ، منها علم النفس ، الذي مكن الباحثين من التعرف على الخصائص النفسية للمحكوم عليهم حسب كل جريمة ، وعلم الاجتماع ، الذي ساعد الباحثين في مجال الدراسات العقابية على تحديد العوامل المؤثرة في علاقة الإنسان بالبيئة الاجتماعية المحيطة ، والتي يمكن أن تجعل من هذا الإنسان فرد سوي في علاقته الاجتماعية أو بالعكس تجعل منه فرد يهدد الكيان الاجتماعي المحيط به.
كل هذه العوامل قد تناولها العديد من الباحثين في مجال الدراسات العقابية بالاهتمام محاولين الاستفادة من نتائجها بما يمكن دراسات علم العقاب من النمو والتطور. ومن بين هؤلاء الباحثين يمكن أن نذكر العالم الإنجليزي جون هوارد John Howard الذي أجرى دراسة انتقادية للسجون الإنجليزية في ضوء المقارنة بينها وبين السجون في عدد من البلدان الأجنبية ، وانتهى إلى ضرورة التخفيف من قسوة نظام السجون الانفرادية ، والتأكيد على ضرورة الاهتمام بعمل المسجونين وتجميعهم نهاراً والفصل بينهم ليلاً ، لما للعمل من أثر في تهذيب وتأهيل المحكوم عليهم ، أو كما قال هذا العالم (دع المحكوم عليهم يعملون وسوف يصبحون رجالاً شرفاء) .
وقد توالت الدراسات على يد العديد من تلامذة هوارد ومنهم جيرمي بتنام Bentham الفيلسوف الإنجليزي ، وميرابو Mirabeau الباحث الفرنسي. وببزوغ السنوات الأولى من القرن التاسع عشر كان لشارل لوكا Charles Lucas دوره الهام في تطوير دراسات علم العقاب. فله الفضل في إضفاء الطابع العلمي والمنهجي على دراساته من خلال أفكاره عن نظام عزل المحكوم عليهم بعقوبات قصيرة المدة ، والأخذ بالنظام المختلط داخل السجون ، القائم على الجمع بين المحكوم عليهم نهاراً والعزل بينهم ليلاً ، والاهتمام بالعمل والرعاية الدينية والاجتماعية للسجناء. تلك الأفكار التي قام بنشرها في مؤلفين ، أحدهما بعنوان "النظام العقابي في أوروبا والولايات المتحدة Le système pénitentiaire en Europe et aux Etats-Unis في عام 1828 ، والأخر بعنوان "نظرية السجون"La théorie de l'emprisonnement في عام 1837. كما ساهم هذا العالم في تأسيس الجمعية العامة للسجون في عام 1877 .

23- سابعاً : منهج الدراسات العقابية :

علم العقاب أحد العلوم التي تعتمد في إجراء بحوثها على المنهج العلمي التجريبي القائم على الاستقراء والملاحظة. فالباحث في علم العقاب يبدأ بملاحظة كيفية التنفيذ العقابي وملاحظة أثر الوسائل السابق تنفيذها على سلوك من نفذت عليهم ، بمعنى أثرها على السلوك اللاحق للمحكوم عليهم بغية استقراء النتائج التي توصل إليها بالملاحظة والصعود من جزئيات هذه النتائج إلى تشكيل قانون علمي عام . وهو في هذا قد يعتمد إلى جانب الملاحظة على الأسلوب الإحصائي وبعض الأساليب الفردية كدراسة الحالة والاستبيان والمقابلة والاختبارات النفسية والبيولوجية والعقلية .
وبعد رصد النتائج المتصلة بتطبيق جزاء معين وبيان مدى نجاحه أو فشله في تحقيق الأغراض المرجوة منه تصاغ القواعد التي توضع تحت بصر المشرع لترشده إلى أفضل السبل لتحقيق أغراض السياسية العقابية.
ولإصباغ الصفة العلمية على منهج البحث في علم العقاب يتعين على دارسيه التجرد الكامل ، سواء من حيث محل الدراسة أو من حيث نطاقها ، بحيث لا تقتصر الدراسة على نتائج الأساليب العقابية في القوانين الوطنية القائمة بل ينبغي أن تمتد إلى دراسة نتائجها الأساليب العقابية المطبقة في القوانين الأجنبية بهدف الوصول إلى أفضل أساليب التنفيذ العقابي. وعلاوة على ذلك فيجب على دارسي وباحثي هذا العلم التجرد من الناحية المذهبية والفلسفية وألا يهتم بما قد يقوم في الفقه من خلافات ، فعماد الباحث وسنده هو الملاحظة والاستقراء كما سبق القول.
الباب الأول

فلسفة الحق في العقاب

24- تمهيد وتقسيم :

ما من فكرة تنشأ ولا مبدأ يسود إلا ويوقف وراءه فلسفة تمهد له وتدعمه. ولا تشذ عن ذلك فكرة الحق في العقاب ذاتها. وقد ارتبط نشوء الفلسفة التي تدعم حق الدولة في العقاب بالتطور الذي طرأ على المجتمعات الإنسانية وانتقالها من مرحلة البداوة إلى مرحلة النظم القانونية ، من الأسرة إلى العشيرة ثم القبيلة ثم المدنية وأخيراً الدولة ككيان سياسي معاصر.
لذا فليس من المقبول القول بأن الحق في العقاب قديم قدم الوجود الإنساني ذاته. فإذا كانت الجريمة حقيقة وظاهرة إنسانية وجدت مع وجود الإنسان ، إلا أن رد الفعل العقابي تجاه الفعل الإجرامي لم يكن يمثل استعمالاً لحق الجماعة في العقاب. فرد الفعل الغريزي تجاه الاعتداء لا يمكن النظر إليه بحسبانه عقوبة ، ففعل الإنسان هذا إنما يتماثل مع ردود الأفعال الغريزية للطيور والحيوانات التي تدفع عن نفسها وأقرانها قوي العدوان المختلفة ، ومن المعلوم أن هذا السلوك الغريزي الحيواني لا يمكن أن يكون عقوبة. فالحق في العقاب ما نشأ إلا مع ظهور الجماعة الإنسانية المنظمة ، وتطور معنى السلطة في الجماعة ، وكذلك تطور المنظور الديني للمجتمع وانتقاله من مرحلة العقيدة المبنية على الأساطير إلى العقائد القائمة على دعائم سماوية أو فكرية. كما أن هذا الحق قد تطور مع انتقال المجتمعات من مرحلة الزراعة إلى مرحلة الاقتصاديات الصناعية.
خلال هذا التطور كله نشأت وتطورت العديد من المدارس الفكرية - خاصة منذ القرن الثامن عشر - التي تؤسس لفكرة الحق في العقاب ، الأمر الذي يعتبر بداية النشأة الحقيقية لفكرة العقاب في العصور الحديثة. وعلى هذا فإننا سوف نقسم هذا الباب إلى فصلين : نبين في الأول فلسفة الحق في العقاب في المجتمعات القديمة ، وفي الثاني نعرض للحق في العقاب في الفلسفات الحديثة.
الفصل الأول

فلسفة الحق في العقاب في المجتمعات القديمة

25- تمهيد وتقسيم :

لقد ارتبط ظهور العقوبة بظهور الجريمة ذاتها ، الأمر الذي يمكن معه القول بأن العقوبة لصيقة بالإنسانية. ولما كان نظام العقاب يرتبط في حقيقته بمشكلة الحرية والسلطة ، ولا يمكن الفصل بين الأمرين ، بحسبان أن وجود سلطة ذات سيادة أمر لازم لممارسة الحق في العقاب ، لذا ففي المراحل الأولى للإنسانية ارتبطت فكرة العقوبة بفكرة الانتقام من الجاني مرتكب الجريمة. الانتقام الذي بدأ أولاً بمرحلة الانتقام الفردي دون تدخل من الجماعة (القبيلة أو العشيرة) ، ثم انتقل إلى الانتقام ذو الطابع العام الذي تتولاه السلطة السياسية ضد الخارجين على مصالح الجماعة.
ولقد اصطبغت العقوبة في نهايات تلك الفترة بالطابع الديني على اثر ظهور المسيحية والفكر الكنسي ، فظهرت فكرة العقاب بهدف التفكير. وفي مرحلة لاحقه أضيف إلى العقوبة هدف جديد هو هدف الردع ، والذي يعني الرغبة في منع وتحذير الكافة من الإقدام على ارتكاب الجريمة في المستقبل. ويشمل هذا كلاً من الجاني ذاته ، وهذا هو مضمون الردع الخاص ، ويشمل بقية أفراد الجماعة ، وهذا هو مضمون الردع العام.
على هذا النحو فإننا سوف نقسم هذا الفصل المتعلق ببيان فلسفة العقاب في المجتمعات القديمة إلى مبحثين يبينان المراحل التي مر بها الحق في العقاب في الفكر القديم.
المبحث الأول

الأساس الانتقامى للحق في العقاب

26- تمهيد :

يمكننا داخل هذا المبحث التمييز بين مرحلتين ، الأولى مرحلة الانتقام الثأري والثانية مرحلة الانتقام المتعادل.

27- أولاً : مرحلة الانتقام الثأري :

في العصور القديمة لم تكن الدولة قد ظهرت كتنظيم سياسي وككيان على النحو المعروف في زماننا هذا. لذا فكان أساس الحق في العقاب يغلب عليه طابع الانتقام ، حيث لا توجد سلطة عليا تمارس هذا الحق. فقد ترك لكل فرد الحق في دفع الأذى والضرر الواقع عليه بنفسه انتقاماً وثأراً من الجاني ، بغض النظر عما إذا كان العدوان مقصوداً أم لا . فالفرد كان ينظر إلى الجريمة على أنها شر يجب أن يرد عليه بشر مثله. لذا فلا عجب أن يسود في تلك المرحلة الثأر بحسبانه الأذى المقابل للضرر الناشئ عن الجريمة .
وتختلف صور رد الفعل الانتقامي بحسب ما إذا كان الجاني ينتمي إلى ذات الجماعة أم ينتمي إلى جماعة أخرى. ففي الحالة الأولى كان العقاب يأخذ طابع التأديب الذي قد يصل إلى حد قتل الجاني أو طرده من الجماعة. وهذا العقاب كان يوقعه الزعيم أو السيد ، الذي كان له سلطة الحياة والموت على كل رعاياه. وهي سلطة تنتمي في حقيقتها إلى سلطة الأبوة أكثر مما تنتمي إلى معنى السلطة السياسية المعروفة في وقتنا الحالي .
أما في الحالة الثانية ، حيث ينتمي الجاني إلى جماعة أخرى (أسرة أو قبيلة أو عشيرة) ، وحيث لا توجد سلطة عليا يخضع لها كل من الجاني والمجني عليه ، فكان من الطبيعي أن يأخذ الحق في العقاب صور الانتقام الشامل على هيئة حرب بين الجماعتين ، حيث تهب الجماعة لنصرة المجني عليه والانتقام من الجاني وأفراد جماعته. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن يكون الانتقام والثأر مبالغ فيهما ولا يوجد بينهما وبين الضرر الناشئ عن الجريمة أي تتناسب ، لاسيما وأن هذا التجاوز ذاته لم يكن معاقباً عليه . فلم يكن يوجد حائل أو مانع - قانوني أو أدبي - يحول بين المجني عليه وأفراد جماعته وبين المبالغة في العقاب. وقد يفسر هذا التجاوز في تلك المرحلة البدائية أن الجريمة كان ينظر في جزء منها على أنها إساءة للقوى الإلهية وانتهاك للأمر أو نهي ديني ، وكان ينظر للعقاب الشديد والجسيم والمتجاوز على أنه محاولة للاستبقاء رضاء الآلهة .

28- ثانياً : مرحلة الانتقام المتعادل :

مع انتقال الجماعة الإنسانية إلى طور جديد من حياتها وزيادة نفوذ وهيمنة السلطة العامة في الجماعة ، بدأت المراحل الأولى لوضع القيود للحد من الانتقام الثأري والمتجاوز ، بحيث يكون العقاب متعادلاً ومتوازناً مع الضرر الناشئ عن الجريمة.
وكانت أولى الصور لتحقيق هذا التعادل ظهور مبدأ القصاص Loi du talion أو ما يسمى بشريعة المثل ، ليكون العقاب مماثلاً للجريمة كماً وكيفاً. فظهر ما نطلق عليه في لغتنا العامية "العين بالعين والسن بالسن" فالقاتل يقتل ، والضارب يعاقب بالضرب ، وشاهد الزور يقطع لسانه ، والسارق تقطع يده وهكذا. وقد ظهر هذا المبدأ لدى غالبية الشعوب الشرقية القديمة وفي تشريعاتها ، كشريعة بابل - وأشهرها قانون حمورابي في القرن السابع عشر قبل الميلاد - والقانون الموسوي وقانون مانو الهندي في عام 1200 قبل الميلاد وكذلك في القانون الفرعوني القديم .
وللقصاص في الشريعة الإسلامية مكانته كركن من أركان سياستها العقابية ، وذلك بسند من القرآن الكريم لقوله تعالى "النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص" . وأيضا قوله سبحانه "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" .
ومن بين الصور التي أمكن من خلالها تحقيق هذا الانتقام المتعادل النظام المعروف باسم الدية Régime de composition ، والذي عرفته على وجه الخصوص في ذلك الوقت روما القديمة من خلال قانون الألواح الإثنى عشر .
والدية عبارة عن مبلغ من المال يتقاضاه المجني عليه أو عشيرته في مقابل تنازلها عن الثأر أو القصاص. فالدية تنطوي في واقع الأمر على مقابل ثمن حياة المعتدي الذي يكون تحت سيطرة المجني علية أو عشيرته .
وكانت الدية في مراحلها الأولى اختيارية ، كثمن للصلح لا يمكن إقراره إلا عن طريق التراضي واتفاق الجاني والمجني عليه أو عشيرته. وكانت تتسم الدية الاختيارية بالمغالاة في التقدير إشباعا لغريزة الانتقام. ثم تحولت هذه الدية ، ومع تطور السلطة في الجماعة وازدياد نفوذها ، إلى ما يعرف بالدية الإجبارية Composition obligatoire ، وهي مقادير محددة من واقع العرف لكل جريمة يلتزم المعتدي بأدائها ، كما يلتزم المجني عليه بقبولها ، الأمر الذي استتبع بالطبع استقطاع مبلغ من هذه الدية كي يؤول إلى السلطة مقابل تدخلها للإقرار الأمن. وتطور الدية على هذا النحو جعل منها في النهاية عقوبة بالمعنى العام ، أي الجزاء الذي توقعه السلطة العامة على كل من يخرج على قواعد وأعراف الجماعة ويهدد نظام الأمن فيها . وبهذا المعنى الأخير أخذت الشريعة الإسلامية إذ أجازت للمجني عليه أو لولي الدم أن يتنازل عن حقه في القصاص مقابل الدية المقررة شرعاً .
غير أنه يجب التأكيد على أن هذه الحدود الرامية لجعل الانتقام متعادلاً مع الجريمة اقتصرت في غالب الأحيان على حالة ما إذا كان المجرم منتمياً لذات الجماعة ، أما في الفرد العكسي ، ففي الغالب لم يكن ليفلح نظام القصاص أو الدية ، وعادة ما تنشأ الحروب فيتحول الانتقام من الطابع الفردي إلى الانتقام الجماعي أو العام .
المبحث الثاني

الأساس الردعى والتكفيرى للحق في العقاب

29- تمهيد :

إن ظهور الغرض الردعي والتكفيري للحق في العقاب إنما يرجع في الحقيقة إلى سببين أو يستند على دعامتين ، مهدا لخروج العقاب من حيز الانتقام وإرضاء الآلهة إلى آفاق أخرى كالردع والتكفير والإصلاح. وهذين العاملين نوجزهما في الآتي :

30- أولاً : الدراسات الفلسفية الإغريقية :

أدى ظهور الفلسفات الإغريقية القديمة ، وخاصة على يد أفلاطون وتلميذه أرسطو ، إلى تطوير الأساس المتعلق بالحق في العقاب. فبعد أن كان الحق في العقاب حتى هذه المرحلة يمتزج بالطابع الديني ، بحيث ينظر للعقوبة على أنها محاولة لاسترضاء الآلهة ، بدأ ظهور طابع أخر للعقاب هو الطابع السياسي المتمثل في المحافظة على النظام الاجتماعي. فالجريمة ليست فقط إساءة للقوى الإلهية ولكنها أيضاً تمثل اضطراباً اجتماعياً.
وعلى هذا الأساس فقد نادى أفلاطون بمبدأ شخصية العقوبة ، وأن يكون من بين أهداف العقوبة الردع على أمل توقي المجتمع شرور الجريمة في المستقبل. وهى ذات المبادئ التي نادى بها أرسطو محاولاً جعل غرض إصلاح الجاني من بين أهداف الجزاء الجنائي إلى جانب الردع كوظيفة أساسية. أي أن العقوبة استهدف بها تحقيق أمرين هما الردع والإصلاح .

31- ثانياً : الفكر والدراسات الكنسية :

كان لدخول المسيحية أرجاء الإمبراطورية الرومانية واعتبارها الدين الرسمي لها أثره على النظرة للحق في العقاب. فكان لهذه الديانة الفضل في المناداة بالمساواة بين الناس في العقاب ، الأمر الذي كانت تنكره بعض الشرائع والتي كانت تخص الأسياد بعقوبات تختلف عما يطبق على العبيد (كالإعدام مثلاُ الذي خصص كعقوبة للعامة من الناس وللعبيد).
وعلى أثر الدراسات الكنسية بدأت العقوبة تستند إلى مبدأ التكفير عن الخطيئة المتمثلة في الجريمة. هذا التكفير لا يستهدف الانتقام من الجاني بل محاولة تطهير نفسه وتهذيبه وإصلاحه. من هنا كان بداية ظهور الأساس الإصلاحي والتهذيبي للجزاء الجنائي. الأمر الذي استوجب تعزيز الدراسات التي تهتم بشخص المجرم والعوامل الداخلية للنفس الآثمة. لذا فلا عجب أن ظهور فكرة المسئولية الفردية والإثم الجنائي والخطأ والإسناد كان يرجع إلى الفكر الكنسي.
إلا أنه رغم هذا الأثر الإيجابي للفكر الكنسي فإنه يظل لتلك الفترة من حياة الإنسانية آثارها السلبية ، التي نشأت بفعل جمع رجال الكنيسة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية وإدخالهم في عداد الجرائم كل ما يمس المصالح الدينية والعقاب عليها بأشد وأبشع العقوبات ، حتى ولو كان الأمر لا يخرج عن كونه نوع من الفكر الإنساني. فظهر ما نسميه في أيامنا هذه الإرهاب الفكري تحت مسميات عديدة كالهرطقة L'hérésie ، والزندقة La blasphème ، وانتهاك المحرمات Le sacrilège. كما أتخذ الدين في تلك الفترة ستاراً للتخلص من الخصوم السياسيين والمفكرين الذين يحفزون العامة على الخروج على سلطة الكنيسة. لذا فلم تفلح دعوات رجال الكنيسة ومفكريها المطالبة بالإقلال من قسوة العقوبات المفرطة.
ولقد استمر الحال هكذا أبان العصور الوسطى وظهور الملوك الذين يستندون في حكمهم إلى مبدأ التفويضي الإلهي ، والذين لجئوا لتدعيم حكمهم إلى إضفاء المزيد من القسوة على العقوبات واستخدام أبشع الوسائل في تنفيذها. فجعلت عقوبة الإعدام وبتر الأعضاء عقوبة لجرائم الخيانة وعدم الولاء للملك والهروب من الجيش ، وكلها جرائم تهدف إلى تدعيم سلطان الدولة والحكم. ولهذا غلب في مجال العقاب طابع الردع على طابع الإصلاح ، الأمر الذي أدى إلى تطبيق العقوبة أحياناً على صغار السن وعلى المكره وعلى المجانين والحيوانات وجثث الموتى . بل وتوارى مبدأ المساواة الذي حاولت المسيحية تدعيمه. ففي تلك الفترة كانت العقوبات تختلف باختلاف المركز الاجتماعي للجاني وكذلك تختلف وسيلة التنفيذ. كل هذا كان يدعمه ما يتمتع به القضاة من سلطة مطلقة في التجريم والعقاب.
الفصل الثانى

الحق في العقاب في الفلسفات العقابية الحديثة

32- تمهيد وتقسيم :

لما كان سمة الفكر الإنساني هي التبدل والتطور ، فكان لابد من ظهور اتجاهات فكرية ومذهبية وفلسفية تعمل على تطوير النظام الجنائي الذي استقر طيلة العصور الوسطى. وكان للكتابات الإصلاحية التي حمل لوائها العديد من الفلاسفة والمفكرين أمثال كريتوس (1583– 1645) ، وهوبز (1588– 1679) ، ولوك (1632– 1755) ، ومونتيسكيو (1686– 1755) ، وروسو (1712– 1778) ، وفولتير (1689– 1755) ، وبيكاريا (1738– 1794) ، أثرها في التمهيد لقيام ثورات سياسة كالثورة الفرنسية التي عملت على تطوير النظام الجنائي والعقابي. فكان لها الفضل في إصدار إعلان حقوق الإنسان والمواطن في عام 1789 والذي كرس مبدأ الشرعية الجنائية والمساواة أمام القانون (م 6 من الإعلان) وإحلال العقوبات السالبة للحرية محل العقوبات البدنية ووضع القيود على سلطة القضاء في التجريم والعقاب. فكما يقول مونتسكيو في مؤلفة "عن روح القوانين" "أنه من قبيل المبدأ الأبدي أن كل إنسان يحوز سلطة يسعى إلى إساءة استخدامها إلى أن يجد حدود تحده" .
وهذه الحدود ، فيما يتعلق بالحق في العقاب ، هي ما نسميها بالمدارس العقابية. والتي حاول مفكريها وضع الأسس والحدود التي ترسم للسلطة - المتمثلة في الدولة - كيفية وأسلوب ومقدار حقها في العقاب ، كما تحدد أيضاً الأهداف والغايات التي ترمي إلى تحقيقها من وراء توقيع العقاب.
وتتنوع المدارس العقابية بدءً من القرن الثامن عشر إلى وقتنا الحالي. ويمكننا أن نميز وفق التسلسل التاريخي بين المدارس التقليدية بطابعها النظري المجرد والمدرسة الوضعية بطابعها المفرط في استقراء الواقع ، ثم المدارس التوفيقية بين المذاهب السابقة ثم المدارس المعاصرة، سواء مذهب الدفاع الاجتماعي أو الاتجاه النيوكلاسيكي المعاصر.
ولكل من هذه المذاهب سوف نخصص مبحثاً مستقلاً نكشف فيه عن السياسة الجنائية لكل مذهب في مكافحة الظاهرة الإجرامية وعن الأساس الذي الأساس الذي اعتمده كل اتجاه للحق في العقاب.
المبحث الأول

السياسة الجنائية التقليدية

La politique criminelle classique

33- تمهيد وتقسيم :

لا ينتظم الفكر العقابي التقليدي في اتجاه مذهبي واحد. فداخل الاتجاه التقليدي يمكننا أن نميز بين المدرسة العقابية التقليدية الأولى أو المدرسة الكلاسيكية ، التي ترى أن الردع العام هو الهدف الأساسي للعقوبة ؛ وبين المدرسة التقليدية الحديثة أو النيوكلاسيكية والتي تضيف إلى هدف الردع العام هدفاً أخر للعقوبة ألا وهو تحقيق العدالة. ولكل من المدرستين سوف نخصص مطلباً.
المطلب الأول

المدرسة الكلاسيكية L'école classique

34- أولاً : نشأة الاتجاه الكلاسيكي :

ترجع نشأة هذه المدرسة إلى وقت كان يسود فيه نوع من الخلل في النظام الجنائي ككل. فالعقوبات كانت تتسم بالشدة والقسوة وعدم التناسب مع قدر الضرر والخلل الاجتماعي الذي أحدثته الجريمة ، كما أن القضاء قد أصابه التحكم والهوى والرغبة فقط في إرضاء الحاكم ، وبعيداً عن تحقيق المساواة بين المواطنين.
ويظل الفضل في الثورة على هذا الاستبداد الجنائي إلى الفيلسوف والمفكر الإيطالي سيزار بونزانا دي بيكاريا Cesar Bonesana de Beccaria (1735– 1794) وذلك من خلال مؤلفة الشهير "عن الجرائم والعقوبات (1767)" (Die delitti e delle pene) ، الذي يعد بحق نقطة تحول في تاريخ القانون الجنائي عامة . وقد أعقب هذه المحاولة للثورة على النظام الجنائي القائم محاولات أخرى على يد كل من العام الإنجليزي جيرمي بنتام Jeremy Bentham (1778– 1832) والعالم الألماني أنسلم فويرباخ ِAnselme Feuerbach (1775– 1833) والعام الإيطالي فيلاميجري Filamgerie (1702– 1788) .

35- ثانياً : الدعائم الفلسفية للمدرسة الكلاسيكية :

استمد بيكاريا الأساس الفلسفي لأرائه وللمدرسة التقليدية ككل من نظرية العقد الاجتماعي Le contrat social التي شيدها المفكر الفرنسي جان جاك روسو Rousseau في مؤلفه الذي يحمل ذات الاسم (1762). ووفقاً لهذه النظرية فإن أساس حق الدولة في العقاب يرجع إلى تنازل الأفراد عن بعض حرياتهم وحقوقهم للجماعة في سبيل المحافظة على الباقي منها. ومن ثم يكون جزاء الخروج على الجماعة بالقدر اللازم فقط لحمايتها. فهذا القدر هو ما يلزم حتماً للإقامة السلطة في الجماعة حتى تتمكن من إقرار الأمن والمحافظة على حقوق وحريات الأفراد فيها. فأفراد المجتمع -كما يرى روسو ومن وراءه بيكاريا - قد تعاقدوا على العيش في سلام وولاء لسلطة موحدة ، وبالتالي فإن الجريمة تعتبر إخلال بتنفيذ هذا العقد وتوجب توقيع العقاب.
فهذا التصور هو التبرير الأخلاقي والقانوني للجزاء الجنائي. فالأفراد تنازلوا للسلطة العامة (الدولة) عن حقهم في الدفاع عن أنفسهم وعن أموالهم ، وبالتالي فإن سلطة الدولة في العقاب ليست سوى حاصل جمع تلك الحقوق جميعاً وما زاد عن ذلك فلا يظل في حدود سلطتها. ومن ثم فإن توقيع العقاب في تلك الحالة يعتبر خرقاً للعقد الاجتماعي ونقضاًَ له. ويترتب على هذا التحليل عدة نتائج نوجزها في الأتي :

36- أ : الشرعية الجنائية أساس التجريم والعقاب :

إذا كان للمدرسة التقليدية فضل ، فلن يكون سوى إظهار أهمية إعمال مبدأ الشرعية الجنائية في مجال التجريم والعقاب ، بحيث لا تكون هناك جريمة ولا عقوبة إلا بمقتضى نص قانوني واضح ومحدد ، وبحيث يقطع على القضاء كل سبيل للتحكم والهوى. فالتشريع وحده هو السبيل لتقرير العقوبات مثلما هو الحال في مجال التجريم. وهذا الأمر يستلزم الاستقلال التام بين السلطتين التشريعية والقضائية , فإلى الأولى يسند أمر تقرير الجرائم والعقوبات والى الثانية يسند أمر تطبيقها. لذا فلا يجوز للقضاة إعمال القياس في التجريم أو في العقاب , كما لا يجوز لهم إعمال التفسير الموسع الذي يخرج عن حدود النص الجنائي الواضح. فليس للقاضي أن يجرم ما ليس مجرماً ولا أن يعاقب بعقوبة غير التي نص عليها المشرع.
ولقد سجل إعلان حقوق الإنسان والمواطن البدايات الأولى لهذا المبدأ في عام 1789 بإعلانه أنه "لا يجوز إطلاقاً عقاب شخص إلا بناء على قانون سابق على ارتكاب الجريمة و ليس للقانون أن ينص على عقوبات غير ضرورية". كما أقرت مدونة العقوبات الفرنسية في عام 1791 هذا المبدأ بصورة جامدة تمثلت في أخذها بمبدأ العقوبات المحددة والثابتة Peines fixes.

37- ب : المنفعة أساس الحق في العقاب :

لا يجوز للسلطة العامة (الدولة) أن تسرف في الحق في العقاب ولا أن تستعمله إلا بالقدر الذي يحقق المنفعة العامة المتمثلة - كما يرى بيكاريا ، في منع الجاني من تكرار جرمه في المستقبل ومنع أقرانه من تقليده. ففائدة العقوبة لا علاقة لها بالجريمة وقد وقعت بالفعل وإنما في نفعها في منع وقوع الجريمة مستقبلاً. فكأن وظيفة العقوبة – علي حد قول بيكاريا – هي الردع والزجر وليس التمثيل والتنكيل بكائن حساس ولا هو إزالة الجريمة . هذا الردع ينصرف إلي الجماعة ككل ، وهو ما يطلق عليه الردع العام ، وكذلك ينصرف إلي المجرم نفسه بترهيبه بالعقوبة وإنذاره ، وهو ما يسمي بالردع الخاص.
ولما كانت المنفعة هي أساس الحق في العقاب فكان لزاماً ألا تتعسف الجماعة في تقدير العقوبة بحيث تتجاوز مقدار الضرر الناشئ عن الجريمة. فيكفي لكي تكون العقوبة عادلة أن يفوق الألم أو الأذى الذي تمثله العقوبة مقدار الفائدة أو المنفعة التي يتوقع الجاني حصولها بعد ارتكابه للجريمة. فالمجرم حينما يوازن بين ألم العقوبة ومنفعة الجريمة ويجد أن الأولي هي التي تعلو سوف يحجم عن القيام بما يضر الجماعة. وفي هذا يقول بيكاريا "كي تتوصل العقوبة إلي أغراضها ، فإن الضرر الناجم عن العقوبة ينبغي فقط أن يتجاوز المنفعة التي سيتحصل عليها من الجريمة ، وفي هذا التجاوز للضرر ، فإن بوسع المرء أن يضمن فاعلية العقوبة وأن يفسد المنفعة التي تتحقق من الجريمة ، وكل ما يتعدى ذلك فهو تزيد وغير ضروري" .
وكان لفكرة المنفعة - كأساس للحق في العقاب - صداها لدي بقية أنصار المدرسة التقليدية رغم تنوع التفسيرات عندهم لهذه الفكرة. فالفليسوف الإنجليزي جيرمي بنتام نادي بفكرة منفعة العقوبة في مؤلفة مبادئ الأخلاق والتشريع Principes de morale et de législation ومؤلفة عن التشريع المدني والجنائيDe législation civile et pénale ومؤلفة نظرية العقوبات والمكافآت Théorie des peines et des récompenses (1818). علي أن هذا الفقيه يفهم المنفعة من منظور أن الإنسان أناني بطبعة تحركه منفعته الخاصة وأن النفس الإنسانية محكومة بقانون اللذة والألم. لذا فإن العقوبة يجب أن تنصرف إلي تحقيق أكبر قدر من الألم بما يفوق المنفعة المتوقعة من الجريمة ، وهذا وحدة هو الكفيل بمكافحة الجريمة. فمهمة العقوبة لا ينبغي أن تتعلق بتحقيق المعاني المجردة - كالعدل مثلا - وإنما بتحقيق منفعة ما ، أو كما يقول "إن ما يبرر العقاب هو منفعته أو بالأدق ضرورته" . فالقيود التي يضعها المشرع لا تكون مبررة إلا حيث تهدف إلي تحقيق منفعة ما دون نظر للعدالة أو الأخلاق ، وليس هناك محل للعقاب إلا حيث يكون هناك منفعة.
وذات التصور نجده عند العالم أنسلم فويرباخ الذي يرى أن الإنسان يندفع في تيار الجريمة بدافع اللذة التي يستشعرها بارتكابه لها ، لذا فإن العقوبة لن يكون لها من نفع إلا حيث تفوق هذه اللذة. فكأن هذا الفيلسوف يبرر العقوبة بفكرة "الإكراه النفسي" .

38- ج : حرية الاختيار المطلقة Libre arbitre absolu أساس المسئولية الجنائية ( المسئولية الأخلاقية )

لما كانت وظيفة العقوبة وهدفها لدى أنصار المدرسة الكلاسيكية هى الردع بشقية العام والخاص ، وأن هذا الردع يقوم علي أساس خلقي ، يتمثل في تقويم وتهذيب إرادة المجرم ، فكان لابد من تحديد المسئولية الجنائية وحصرها في كل شخص أهل لتحملها من واقع ثبوت الإرادة وحرية الاختيار لديه ، الأمر الذي لا يتوافر لدي عديمو الإرادة ولدي من يثبت جنونه أو صغر سنة. فالمجرم لدى أنصار المدرسة التقليدية ليس إنساناً وحشياً أو مريضاً أو كافراً ، بل هو فرد خالف عن وعي وإرادة العقد الاجتماعي. فهو إنسان حر الإرادة والاختيار لكنه أساء باختياره وإرادته استعمال حريته . وحرية الاختيار تلك - أي حرية الموازنة والخيرة بين طريق الخير وطريق الشر - لدى أنصار المدرسة الكلاسيكية متساوية لدى جميع الأفراد ، مما يوجب المساواة التامة بين جميع المجرمين الذين يتمتعون بملكتي الإدراك والتميز. وقد ترتب مع هذه المساواة أن اعتمدت هذه المدرسة مبدأ العقوبة ذات الحد الواحد ، بحيث ينحصر دور القاضي في تطبيق العقوبة المقررة قانوناً. وعلى هذا النحو فلا يوجد أي صدى لمبدأ تفريد العقوبة ، أي المغايرة في المعاملة العقابية من جان إلى أخر حسب ظروف وشخصية كل مجرم على حدة. كما انتفى لدى أنصار هذه المدرسة الأخذ بفكرة المسئولية المخففة أو الأخذ بنظام العفو الخاص. فضوابط التجريم والعقاب ضوابط مادية وموضوعية مجردة.
ولقد تأثر قانون العقوبات الفرنسي الصادرة في 1791 في أعقاب الثورة الفرنسية بهذه الفكرة عن المساواة ، التي يطلق عليها البعض فكرة المساواة الحسابية والتي تتطلب خضوع المخاطبين بأحكام القاعدة الجنائية لذات التجريمات ولذات العقوبات دون النظر للأي عوامل شخصية تتعلق بالإنسان المجرم .

39- ثالثاً : تقدير السياسة العقابية الكلاسيكية :

لا يمكن عند تقديرنا للدعائم الفلسفية للمدرسة التقليدية أن ننكر فضل تلك المدرسة على القانون الجنائي عامة. فلذلك الاتجاه الفضل في الدعوة إلى إقرار مبدأ الشرعية الجنائية في مجالي التجريم والعقاب ، وإظهار أهمية الأخذ بالمسئولية الأخلاقية القائمة على الخطأ الشخصي ، والدعوة إلى التخفيف من قسوة العقوبات ، ومنع الوسائل الوحشية في التنفيذ العقابي. ولعل أفضل ما يحسب لتلك المدرسة – على حد قول الفقيه الفرنسي ريموند سالي Raymond Saleilles - أنها دعت لإلغاء كافة السبل التي تدفع القضاة إلى التحكم والهوى .
بيد أن تلك المدرسة لم تفلت من النقد وقد تعدت أوجه القصور بشأنها والتي يمكن إيجازها في الآتي :
*- لقد نحت المدرسة الكلاسيكية نحو التجريد المطلق ، حيث أقامت أسس التجريم والعقاب على قواعد موضوعية مجردة لا تراعي شخص المجرم وعوامل انحرافه والظروف الفارقة من جان إلى أخر. ولقد ترتب على عدم مراعاة الفروق الفردية أو الجانب الشخصي في كل مجرم على حدة أن فشلت المدرسة التقليدية في تحقيق المساواة التي دعت إلى الأخذ بها. فتحقيق العدالة والمساواة يتطلب دراسة ومراعاة كافة الظروف الشخصية لكل مجرم التي تدعوه إلى الانحراف وسلوك سبيل الجريمة. فالطابع التجريدي المحض أسفر في الحقيقة عن ظلم ناشئ عن التطرف في الجزاء ، الذي وإن تناسب مع ماديات الواقعة الإجرامية إلا أنه لا يناسب ظروف المجرم الشخصية على مستوى الواقع العملي. فمعاملة المجرم العائد على قدم المساواة مع المجرم البادئ هو عين الظلم .
*- إن إصرار المدرسة الكلاسيكية على ربط الجزاء بعوامل موضوعية مجردة دفعها إلى جعل هذا الجزاء ثابتاً لا سلطان للقاضي عليه رفعاً أو خفضاًً ، وبالتالي فقد أهملت هذه المدرسة واجب تحقيق العدالة بحسبانه أحد أهداف العقوبة. فالجزاء المحدد الثابت لكل المجرمين المترفين لفعل واحد لا يمكن أن يكون رادعاً لهم جميعاً ، حيث أن اختلافهم في التكوين الخلقي والنفسي من شأنه أن يجعل هذا الجزاء ناقصاً بالنسبة لبعضهم وكافياً بالنسبة للبعض الآخر ومتجاوزاً للبعض الأخير. وهكذا تفقد العقوبة وظيفتها في الردع بالنسبة للبعض الأول وتصبح ظالمة للبعض الأخر .
*- كما أخذ على هذه المدرسة المغالاة في وظيفة الردع العام أو الخاص ، فهذه الوسيلة مهما قيل من خطورتها كوظيفة اجتماعية للتشريع العقابي لا ينبغي التعويل عليها إلا بعد استنفاذ الوسائل الأخرى للعلاج بما يكفل تهذيب وإصلاح وتأهيل المجرم بحيث لا يعاود ارتكاب الجريمة مرة أخرى. فكما يقول البعض "فارق كبير بين مجتمع يحكمه تشريع يقدر نوازع الإرادة البشرية حق قدرها ، ويتصدى لعلاج انحرافاتها في رفق وحكمه ، وبين تشريع يسلط على المجتمع - بحجة تحقيق الردع العام أو الخاص – سياطاً من الإرهاب لا تصنع فضيلة حقيقية ، بل نفوساً شرسة متحفزة للعدوان كلما أتيحت لها فرصة وهي متاحة أبداً – حتى لو افتقد العدوان أسبابه ، ومهما اشتط الشارع في عقابه" .
*- وفي النهاية فقد أخذ على هذه المدرسة أنها أخذت من فكرة العقد الاجتماعي التي قال بها روسو أساساً فلسفياً لها تقيم على أساسه فكرة الحق في العقاب ، والمعلوم أن هذه الفكرة – العقد الاجتماعي – لم يقم على وجودها دليل قاطع من الناحية التاريخية .
المطلب الثاني

المدرسة النيوكلاسيكية L'école néo-classique

40- تمهيد :

لم تكن المدرسة النيوكلاسيكية أو التقليدية الجديدة فكرة عارضة أو مرحلة منفصلة في الفكر الجنائي الحديث ، ولكنها تمثل امتداد طبيعي لما سبقها من أفكار ومفاهيم تتعلق بفكرة الحق في العقاب. ولذلك فقد احتفظت هذه المدرسة بالكثير من المبادئ التي قامت عليها المدرسة التقليدية ، فلم يزل المجرم في نظرها إنساناً خالف عن وعي وإرادة العقد الاجتماعي الذي ارتضاه ، كما أنها أسست المسئولية الجنائية على فكرة حرية الاختيار. بيد أن تلك المدرسة قد عمدت إلى إضافة مبادئ جديدة تستهدف دراسة شخصية المجرم وإقرار التفاوت النسبي بينهم في الظروف والإرادة ومن ثم في حرية الاختيار.
ولإظهار أكثر لمبادئ تلك المدرسة يجدر بنا أن نتعرض أولاً للدعائم الفلسفية لها قبل بيان أوجه النقد التي قيلت بشأنها .

41- أولاً : الدعائم الفلسفية للمدرسة النيوكلاسيكية :

تتحدد الدعائم الفلسفية للاتجاه النيوكلاسيكي في عنصرين ، يتصل الأول بفكرة العدالة المطلقة كأساس للحق في العقاب ويتعلق الثاني بحرية الاختيار النسبية كأساس للمسئولية الجنائية.

42- أ : العدالة المطلقة أساس الحق في العقاب :

إذا كانت فكرة العقد الاجتماعي التي قال بها المفكر الفرنسي جان جاك روسو هي دعامة وركيزة الأساس الفلسفي للمدرسة التقليدية وكل أفكارها حول الحق في العقاب ، فإن أنصار المدرسة النيوكلاسيكية – ومنهم الفقيه جيزو Guizot في مؤلفه عن عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية (1822) La peine de mort en matière politique , وجو فروي Jouffroy في مؤلفه عن القانون الطبيعي (1830) Traité de droit naturel ومنهم أيضاً الفقهاء روسي Rossi وأورتولان Ortolan وجارو Garraud وجارسون Garçon وشارل لوكا Charles Lucas - قد أقاموا دعائم هذه المدرسة على الأفكار المستمدة من الفلسفة المثالية الألمانية التي يمثلها الفليسوف إيمانويل كانت Kant حول "العدالة المطلقة"La justice absolue . وهذه العدالة المطلقة هي التي تمثل أساس الحق في العقاب وليس المنفعة كما كان يقول أنصار المدرسة التقليدية .
ونقطة البدء عند كانت ، هي إقراره بمبدأ الحرية ، وهي القيمة الخلقية العليا وبغيرها يصبح القانون مدعاة للسخرية. وهذه الحرية هي حق طبيعي للفرد لا منحه ، إذ للإنسان في أعماقه قدرة في الاختيار أسمى - على حد قول البعض - من قانون السببية الذي يحكم الظواهر الطبيعية . ويصبح العقاب - كما يرى كانت - هو المقابل الحتمي لحرية الإرادة التي دفعت الجاني إلى سلوك سبيل الجريمة ، وذلك بصرف النظر عن فكرة منفعة العقوبة. فالحرية إذا ما أسيئ استخدامها حق العقاب ، وهذا هو منطق العدل أو هذه هي العدالة المطلقة.
ولتأكيد كانت على فكرة عدالة العقاب بغض النظر عن نفعيته ضرب لنا المثال الشهير الذي أسماه "الجزيرة المهجورة" L'île abandonnée ، والذي يقول فيه لو فرض ووجدت جماعة إنسانية تعيش في جزيرة ثم قررت هذه الجماعة أن تنفض وتترك هذه الجزيرة ، فإن واجب العدالة يقتضي أن تقوم الجماعة بتنفيذ أخر حكم إعدام صدر عن السلطة العليا فيها ، رغم أن هذا التنفيذ عديم الجدوى بالنسبة للجماعة لأنها على وشك الانفضاض ولا يعود عليها بأي نفع. وما التنفيذ في تلك الحالة إلا لإرضاء الشعور بالعدالة مجرداً عن أي شعور أخر باعتباره فكرة ترتبط بالنواميس الخلقية التي تشعر بها الجماعات.
وتلك الفكرة تتطابق أيضاً مع ما قال به الفيلسوف الألماني هيجل الذي يرى أن الجريمة هي نفي للقانون وأن العقوبة هي نفي لهذا النفي ، وبالتالي فالعقوبة تأكيد للقانون.
وإذا كانت فكرة العدالة المطلقة هي أساس الحق في العقاب لدى أنصار تلك المدرسة إلا أنهم حاولوا التوفيق بين تلك الفكرة وفكرة نفعية العقوبة التي قال بها أنصار المدرسة التقليدية. وكان من نتيجة هذا المنهج التوفيقي أن قال أنصار المدرسة التقليدية الجديدة "النيوكلاسيكية" أن العقوبة ينبغي ألا تجمع بين العدالة والمنفعة الاجتماعية ، فهي – أي العقوبة – تهدف إلى العدالة ولكن في حدود تحقيق المنفعة الاجتماعية. فالعدالة هي مصدر سلطة المجتمع في العقاب والمنفعة هي المعيار الذي يتحدد به نطاق استعمال هذه السلطة. وعلى هذا فلا ينبغي للعقوبة - كما يقول الفقيه الفرنسي أورتولان - أن تكون أكثر مما هو عادل ولا أكثر مما هو نافع أو ضروريPas plus qu'il n'est juste pas plus qu'il n'est nécessaire.

43- ب: حرية الاختيار النسبية أساس المسئولية الجنائية :

لقد تداركت المدرسة النيوكلاسيكية النقد الذي وجه إلى المدرسة السابقة في أخذها بمبدأ المسئولية الجنائية القائمة على أساس حرية الاختيار ، منظوراً إليها على أنها حرية ذات طابع مطلق ومتكافئ لدى جميع الأفراد حال خروجهم على أحكام القانون. فالحرية لدى أنصار الاتجاه الجديد حرية نسبية وغير متساوية. فأما أنها نسبية فلأن هذه الحرية هي قدرة مقاومة الدوافع والميول المختلفة ، وهذه القدرة مقيدة بما جبل عليه الإنسان من طباع وبما يعتمل داخله من عوامل وراثية وتكوين فطري وما يحيط به من ظروف خارجية تتعلق بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها .
وأما أن هذه الحرية غير متساوية عند الجميع ، فلأنها تتفاوت باختلاف الميول والنزعات من إنسان إلى أخر وفي الإنسان الواحد من وقت إلى أخر. وعلى هذا اعتمدت هذه المدرسة مبدأ المسئولية الجنائية المتفاوتة أو غير المتكافئة ، حيث يراعى في تقدير المسئولية إلى جانب العوامل الموضوعية المتصلة بالواقعة الإجرامية ذاتها ، بعض الظروف والعوامل الشخصية المتصلة بالمجرم ذاته.
وعلى هذا دعت هذه المدرسة لتبني مبدأ تفاوت العقوبات بين حدين أقصى وأدنى ، كي يكون للقاضي الجنائي السلطة التقديرية بين الحدين حسب ظروف كل واقعة وحسب شخصية كل جان. كما أولت هذه المدرسة عناية بدارسة التأثيرات النفسية والبيولوجية والاجتماعية التي تؤثر في الجانب الشخصي للمسئولية الجنائية. كذلك اهتمت بالعناصر الشخصية المشددة للعقاب كعنصر سبق الإصرار والتمايز في المسئولية بين من يرتكب الجريمة والنفس هادئة وبين من يرتكبها في حالة استفزاز. ومن هنا عرف مبد المسئولية الجنائية المخففة ، كما كان لهذه المدرسة الفضل في انتشار أنظمة التخفيف العقابي التي من صورها نظام الأعذار القانونية والظروف القضائية المخففة ووقف التنفيذ. وهي حلول اعتمدتها الكثير من التشريعات منها قانون العقوبات الفرنسي في عام 1832 وقانون العقوبات الألماني في عام 1889 وكذلك قوانين العقوبات المصرية المتعاقبة بدءً من عام 1883 ومروراً بعام 1904 وانتهاء بقانون العقوبات الحالي لعام 1937 .

44- ثانياً : تقدير السياسة العقابية النيوكلاسيكية :

لا ريب أنه يعود لهذه المدرسة الفضل في توجيه الأنظار نحو الاهتمام بالجوانب الشخصية للمسئولية وما يترتب على ذلك من وجوب تحقيق التناسب بين العقوبة ودرجة المسئولية التي تقاس بصفة أساسية على أساس مقدار حرية الاختيار المتوافر حال ارتكاب الواقعة الإجرامية ، مع مراعاة كل الجوانب الشخصية التي قد تؤثر في هذه الحرية. فالمساواة الحسابية في حرية الاختيار أمر يتنافى مع منطق هذه المدرسة ، وهو اتجاه ولا شك موفق.
بيد أن هذه المدرسة قد اعترى النقص بعض جوانبها ، ومن قبيل ذلك :
*- أن دعوة هذه المدرسة للتخفيف من قسوة العقوبات ووضع العقوبات بين حد أدنى وحد أقصى أظهر فيما بعد مشكلات عقابية أخرى تتعلق بالعقوبات قصيرة المدة ، التي انتشرت بفعل إعمال قواعد التخفيف أو ما نسميه بالظروف المخففة للعقاب التي ظهر على يد تلك المدرسة. ومن المعلوم أن لهذا النوع من العقوبات مثالبة ، حيث أن قصر فترة العقوبة لا يتيح الفرصة لإصلاح وتهذيب الجاني ، بل يمكن لهذه العقوبات أن تساهم في انتقال عدوى الجريمة نتيجة اختلاط المجرمين المحكوم عليهم بعقوبات قصيرة المدة بغيرهم من عتاة المجرمين داخل المؤسسة العقابية.
*- أنه إذا كانت هذه المدرسة تجعل من حرية الاختيار ودرجتها أساس المسئولية الجنائية ، فإن هذا الأمر يقتضي بدأه إيجاد مقياس أو معيار واضح على أساسه يمكن قياس مقدار الحرية المتوافر حال ارتكاب الواقعة الإجرامية ، وهي أمور من المتعذر قياسها بأسلوب علمي دقيق.
*- على الرغم من محاولة الاتجاه النيوكلاسيكي التوفيق بين فكرتي منفعة العقوبة وعدالتها بيد أنه قد أغفل تماماً الاهتمام بفكرة الردع الخاص كهدف من أهداف العقوبة ، بمعنى أنها قد أهملت جوانب الإصلاح والتهذيب المتعلقة بالجاني والتي تحول بينه وبين معاودة ارتكاب الجريمة مرة أخرى.
المبحث الثانى

السياسة الجنائية الوضعية La politique criminelle positive

45- أولاً : نشأة السياسة الوضعية :

يرجع ظهور المدرسة الوضعية الجنائية في أواخر القرن التاسع عشر على يد الثلاثي الإيطالي الشهير سيزار لومبروزو C. Lombroso (1836-1909) وأنريكو فري E. Ferri (1856-1929) ورافائيل جاروفالو R. Garofalo(1851-1934) إلى الفشل الذي لاقته المدارس التقليدية في مكافحة الظاهرة الإجرامية ، وكذلك التشريعات التي أخذت بها. فلقد كشفت الإحصائيات الجنائية عن ازدياد نسبة الإجرام في تلك الدول التي طبقت تلك السياسة الجنائية في مواجهة الانحراف الجنائي. ولعل هذا الفشل يرجع إلى تعلق السياسة الجنائية التقليدية بأفكار فلسفية (العقد الاجتماعي – العدالة المطلقة – نفعية العقوبة) مجردة حول الجريمة والعقوبة وإعطاء الاهتمام الأكبر للجريمة على حساب المجرم ، فكأنها قد عالجت أثار الفعل وأهملت مصدر الفعل ذاته. وهذه الأزمة التي واجهت المذهب التقليدي – كمذهب مجرد وميتافيزيقي – يعود إلى ظهور الدراسات التي وجهت النظر نحو منهج الملاحظة والتجربة في دراسة السلوك الإنساني وكذلك ظهور الدراسات الإحصائية المتعلقة بالظواهر الاجتماعية .
ومن بين ما ساعد على انتشار المذهب العقابي الوضعي ظهور بعض الدراسات الإيطالية على يد الفقيد الإيطالي إليرو Ellero والذي أوضح إستحالة التناسب بين الجريمة والعقوبة ، ومن ثم إستحالة تحقيق العدالة الجنائية المطلقة. فتلك العدالة لن تكون في جميع الأحوال إلا عدالة نسبية أو اتفاقية ، الأمر الذي يهدم بالتالي المسئولية الأخلاقية كأساس لتحقيق تلك العدالة. وقد تابع دراسات إليرو فقيه إيطالي أخر هو جيوفاني بوفيو G. Bovio الذي أوضح أن الجريمة ما تنشأ إلا نتيجة مساهمة العديد من العوامل الطبيعية والاجتماعية إلى جانب الإرادة الفردية الآثمة. وهو استخلاص ذو قيمة عالية يمثل أحد أسس المدرسة الوضعية. غير أن هذا الفقيه لم يستطع أن يكون من ذلك نظرية عامة ، أو يستخلص النتائج المنطقية لهذا التحليل .
غير أن عماد المدرسة الوضعية المعتمدة على منهج الملاحظة والتجريب في استخلاص وتحليل النتائج قد قام على أكتاف الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت Aujuste Compte عندما شرع في نشر مؤلفة المكون من ستة أجزاء المعنون باسم "دروس الفلسفة الوضعية" (1803-1842).
ولقد تلقف الإيطالي سيزار لومبروزو (1836-1909) - والذي كان يعمل أستاذاً للطب الشرعي والعصبي بجامعة برافيا وطبيباً للأمراض العقلية في السجون الإيطالية - هذا المنهج التجريبي وبدأ يجري أبحاثاً تطبيقية تعتمد على منهج الملاحظة في دراسة الظاهرة الإجرامية. وقد ضمن نتائج بحوثه في مؤلفه الشهير الإنسان المجرم L'homme criminel (L'Umo delinquento1876) وكذلك مؤلفه الأخر عن "الجريمة أسبابها وعلاجها" Le crime : ses causes et Remèdes (1901). وقد عمد لومبروزو إلى إظهار ما قد يتميز به المجرمون من صفات تشريحية وجسدية وعضوية ، كعدم انتظام حجم الجمجمة وضيق الجبهة وبروز العظام الخاصة بالوجهين وطول الفك وبلادة الإحساس ...الخ .
وقد اعتقد لومبروزو في كون المجرم يحمل علامات ارتدادية وراثية Atavisme قد تدفعه في ظل ظروف معينة إلى سلوك سبيل الجريمة. ومن هنا غلب دور الوراثة لديه كعامل من عوامل الجريمة. وقد اعتمد لومبروزو تقسيماً خماسياً للمجرمين - وهو تقسيم يساهم في إنجاح المعاملة العقابية تجاه كل طائفة – يستند إلى نوع العوامل والظروف التي تساهم في تكوين السلوك الإجرامي. وهذه الطوائف هي المجرم بالفطرة Criminel instinctif ou né وأن المجرم العاطفي Criminel passionnel والمجرم المعتاد أو بالعادة Criminel d'habitude والمجرم المجنون Criminel aliéné والمجرم بالصدفة Criminel d'occasion .
أما رفائيل جاروفالو Raffaele Garofalo (1852-1932) - القطب الثاني من أقطاب المدرسة الوضعية وأستاذ القانون الجنائي بجامعة نابولي - فقد عرف بتمييزه بين الجرائم الطبيعية التي تنافي مشاعر العدل والقيم الخلقية لكافة المجتمعات (كالقتل والسرقة وشهادة الزور ...الخ) وبين الجرائم المصطنعة التي يتوقف تجريم الفعل فيها على القيم المستمدة من النظام السياسي والاجتماعي السائد ، ومن ثم تتفاوت فيها التشريعات. وكان هذه التقسيم هو أساس مؤلفة "علم الإجرام" La Criminologie (1885). وفي ضوء هذا التقسيم اعتبر جاروفالو المجرم الحقيقي هو الذي يرتكب الجريمة الطبيعية ومن ثم لابد من أن يتميز بمعاملة عقابية خاصة. كما أعطى هذا العالم للعوامل البيولوجية أهمية خاصة واعتبر أنها هي المحرك لتفعيل دور العوامل الاجتماعية في الدفع للارتكاب الجريمة .
ثم تابع عالم الاجتماع والنائب بالبرلمان الإيطالي أنريكو فيري (1856-1928) هذه الدراسات ، ولكنه نحي في دراسة الجريمة إلى استظهار بعض العوامل الاجتماعية لما ظهر من قصور في تفسير الظاهرة على أساس العوامل الداخلية للمجرم وحدها .
ويرى فيري أن هناك مجموعة من العومل تتفاعل بينهما لتكوين الحدث الإجرامي وتتلخص في عوامل أنثروبولوجية Facteurs anthropologiques وعوامل طبيعية وجغرافية Facteurs physiques et consomo-telluriques وأخيراً عوامل اجتماعية Facteurs sociaux ، وأنه يتفاوت لدى كل جان أياً كان نوعه وفي كل جريمة أياً كان نوعها مدى قوة العامل سواء أكان ينتمي إلى الدوافع البيولوجية أم الطبيعية أم الاجتماعية أم إلى دوافع خاصة به.
ومن خلال هذه النظرية الخاصة للجريمة وضع فيري ما يسمى "بقانون الإشباع والتشبع الإجرامي Saturation et de la satisfaction criminelle والذي مؤداه أنه إذا تكاتفت عوامل طبيعية مع ظروف اجتماعية معينة ، فينتج حتماً عدداً معيناً من الجرائم لا يزيد ولا ينقص . وقد ضمن فيري هذه الأفكار مؤلفه عن "علم الاجتماع الجنائي" La sociologie criminelle الذي ظهر بالإيطالية في عام 1884.

46- ثانيا : الدعائم الفلسفية للسياسة الوضعية :

تتلخص الدعائم الفلسفية للسياسة الوضعية في المجال الجنائي في ثلاث دعائم ، أولها تتصل بمنهج هذه المدرسة في البحث ، والثانية ترتبط بطبيعة المسئولية الجنائية ، أما الأخيرة فتعود إلى سبل مكافحة الجريمة.

47- أ : اعتماد التجريبية منهجا للبحث :

مما لاشك فيه أن السمة الأساسية للسياسة الجنائية الوضعية هى منهجها في البحث. فعند أنصار تلك المدرسة أن الجريمة ظاهرة لا يمكن مواجهتها إلا بالأسلوب الواقعي والمنهج التجريبي القائم على الملاحظة واستخلاص النتائج ، أي باستخدام المعطيات التي تتوصل إليها علوم الاجتماع والنفس والطب ، وليس باللجوء إلى الافتراضات النظرية غير المدروسة. وفى هذا يقول أنريكو فيري "إذا كنا نطلق على مدرستنا وصف الوضعية ، فما ذلك إلا لأننا نتبع نظاماً فلسفياً معيناً ، والذي هو نظام أوجست كونت ، القائم على أسلوب الملاحظة والتجريب. فلم يعد فيها بالتالي محل للنظر إلى الجاني كدمية حية يخضع لتطبيق صيغ نظرية نشأت من تخيلات نظرية ، وعلى ظهر هذه الدمية يتعين على القاضي أن يلصق رقم مادة من التشريع العقابي ، ثم تصبح هذه الدمية الحية نفسها رقما عند تنفيذ العقوبة" .

48- ب : اعتماد المسئولية القانونية بديلاً عن المسئولية الأخلاقية :

إن أهم ما تؤمن به الفلسفة الوضعية هو أن الجريمة هى نتاج مجموعتين من العوامل ، الأولى داخلية تتصل بالتكوين العضوي والنفسي للمجرم ، والأخرى خارجية تتعلق بظروف المجرم الاجتماعية والبيئية. والمجموعتين في مجملهما عوامل حتمية ، لا يملك الإنسان حيالها أدنى قدر من الحرية. فالإنسان المجرم ليس حراً في تصرفاته ، بل هو مسير شأنه شأن بقية أفراد المجتمع. فتلك المدرسة تستبعد مبدأ حرية الاختيار وتعتنق مبدأ الجبرية أو الحتمية.
ويترتب على ذلك أنه إذا ما كان الجاني منقاداً حتما للجريمة بتأثير عوامل وقوى داخلية وخارجية حتمية لا دخل لإرادته فيها ، فمن العبث القول بوجود المسئولية الأخلاقية المستندة إلى مبدأ حرية الاختيار والإرادة تجاه هذا المجرم. فلدى أنصار هذه المدرسة أصبحت المسئولية مسئولية قانونية أو اجتماعية ، يكون بموجبها الإنسان مسئولاً باعتباره عضو في المجتمع ، سواء توافر لديه الإدراك أو التميز أم لحقه عارض من عوارض الأهلية العقلية. أي سواء كان عاقلاً أم مجنوناً ، مميز أم غير مميز ، ويجب عندئذ أن يخضع إلى التدابير التي تحد من خطورته الإجرامية.
هذه المسئولية الاجتماعية أو القانونية كبديل عن المسئولة الأخلاقية تستند إذاً إلى فكرة الخطورة الإجرامية ولا تستند إلى درجة الخطأ. ففي كل حالة إجرامية يتعين إجراء فحص لتقدير مدى الخطورة الكامنة في الشخص لتقدير التدبير الاجتماعي الملائم والمعاملة (طبية – نفسية – تربوية) الملائمة للمجرم ، على أساس خطورته وليس على أساس الواقعة الإجرامية ودرجة جسامتها. فرد الفعل القضائي أو التدبير يقدر على أساس شخصية المجرم وما تفصح عنه خطورته على مصالح الغير المشروعة. فإذا كانت الاتجاهات التقليدية تقرر مبدأ "لا عقوبة إلا بنص" فإن الفكر الوضعي على المستوى الجنائي يأخذ بمبدأ "لا تدبير بدون خطورة".

49- ج : اعتماد التدابير كأسلوب لرد الفعل تجاه الجريمة :

لما كانت الخطورة الإجرامية - وليس الخطأ ولا جسامة الواقعة الإجرامية - هي أساس المسئولية عند الاتجاه الوضعي ، لذا وجب اعتماد أسلوب التدابير كوسيلة للدفاع الاجتماعي تجاه الجريمة. وكان لزاماً على هذا النحو الاهتمام بتصنيف المجرمين حسب الفروق النفسية والاجتماعية والعضوية ، وحسب تغلب العوامل الداخلية أو الخارجية في الدفع للجريمة ، كل هذا بهدف تسهيل مهمة القاضي في تطبيق التدبير الملائم وتحديد أنسب طرق المعاملة العقابية.
ولا يتوقف تطبيق التدابير بأنواعها على حدوث الجريمة بالفعل ، فهذه التدابير ابتدعت لمواجهة الخطورة الإجرامية للشخص التي قد تظهر في مرحلة سابقة على وقوع الحدث الإجرامي. وهى على هذا النحو يتعذر تحديد طبيعتها ومدتها مقدماً ، بل تترك لتقدير كل حالة على حدة وبعد متابعة هذه الحالة الفترة الكافية لتقدير ما إذا كانت الخطورة الكامنة قد زالت أم لا .
وتعتمد السياسة الجنائية الوضعية على نوعين من التدابير لمواجهة الخطورة الإجرامية : هما التدابير الوقائية وتدابير الدفاع أو الأمن :

50- التدابير الوقائية أو البدائل العقابية Les substituts pénaux

يقصد بهذا النوع من التدابير أو البدائل العقابية كما يسميها أنريكو فيري مجابهه كل الظروف الاجتماعية التي قد تدفع إلى سلوك سبيل الجريمة. ومثال ذلك مكافحة السكر والإدمان والبطالة عن طريق التوعية والتعليم والاهتمام برعاية الطفولة والنشئ وفتح فرص جديدة للعمل …الخ. فكما يقول فيري "إن الطريق المظلم ليلا يكون مسرحا للعديد من الجرائم ولكي نواجه ذلك فيكفي أن يضاء الطريق ليلاً ، فذلك أجدى في الدفاع ومكافحة الجريمة من أن تخصص الدولة عدداً من رجال الشرطة لمراقبة هذا الطريق". فاجتثاث الجريمة من جذورها بالقضاء على أسبابها أفضل من مكافحة أثارها.
وتلك التدابير عادة ما تستخدم قبل وقوع الفعل الإجرامي ، وخاصة لمواجهة حالات الخطورة الفردية والتي قد تفصح عن ميل نحو الجريمة ، ومثال ذلك التدابير التي تطبق في حالات التشرد والاشتباه لمنع حدوث الجريمة في المستقبل .

51- تدابير الدفاع أو الأمن :

وهى التدابير اللاحقة على الحدث الإجرامي ، وهى تهدف إلى وضع المجرم في ظروف لا يستطيع معها الإضرار بالمجتمع المحيط به. لذا فهى تتنوع من مجرم إلى أخر مما يقتضي دراسة المجرم دراسة شاملة من الناحية الجسدية والنفسية والاجتماعية. فعند بعض المجرمين قد لا تفلح إلا التدابير الإستئصالية كالإعدام أو العزل مدى الحياة ، وعند البعض الأخر قد تفلح التدابير العلاجية كالإيداع في مصحة نفسية أو عقلية ، أو قد تفلح التدابير الاجتماعية كحظر الإقامة في مكان معين أو المنع من مزاولة مهنة معينة .

52- ثالثا : تقدير السياسة الجنائية الوضعية :

لا يمكننا أن ننكر أن السياسة الجنائية الوضعية كانت ثورة في الفكر الجنائي عامة ، فقد كان لها التأثير الكبير بما ابتدعته من أفكار. فللمدرسة الوضعية الفضل في التأسيس لعلمين من العلوم الجنائية المساعدة ، هما علم الإجرام Criminologie وعلم العقاب Pénologie ، وتوجيه الاهتمام إلى شخص المجرم كعصب عملية المكافحة بعد أن كان التوجه كله ينصب على الواقعة الإجرامية ذاتها. كما يعود الفضل لهذه المدرسة في إظهار فكرة الخطورة الإجرامية وجعلها مناط المسئولية والعقاب ، واعتماد أسلوب التدابير الوقائية وتدابير الدفاع الاجتماعي كوسيلة للحد من الخطورة الإجرامية.
وكان لفكر هذه المدرسة أثره في الدعوة للأخذ بنظم جنائية جديدة ، مثل العفو ووقف التنفيذ والإفراج الشرطي والإبعاد وتأجيل النطق بالعقوبة والوضع تحت الاختبار. تلك النظم التي تبنتها الكثير من التشريعات ، منها قانون العقوبات الإيطالي لعام 1930 والبولندي لسنة 1932 والسويسري في عام 1937. كما تأثر بها المشرع المصري في عام 1908 بإصداره قانون الأحداث المشردين. كما أخذ بها المشرع المصري في قانون العقوبات الحالي لعام 1937 عندما أخذ ببعض التدابير الوقائية (كالمصادرة – وغلق المنشأة …الخ). كما اعتمد أسلوب التدابير مشروع قانون العقوبات لعام 1967 عندما ميز بين التدابير الجنائية التي تطبق على المجرم بعد ثبوت ارتكابه لفعل إجرامي وبين تدابير الدفاع الاجتماعي التي تهدف لمواجهة حالات الخطورة الإجرامية المجردة قبل وقوع الفعل الإجرامي (كالتشرد والاشتباه).
إلا أن هذه الثورة الفكرية لم تسلم من النقد ، على أننا يجب أن نؤكد أن هذا النقد كان موجها بصفة أساسية لفكرة المسئولية الاجتماعية عند أنصار هذه المدرسة وقيامها على أساس الجبر (مبدأ الجبرية أو الحتمية) ، أما سياستها العقابية فقد ظلت - إلى حد بعيد - بمنأى عن النقد الجاد.
ومن بين ما قيل في انتقاد هذه المدرسة :
*- إقرارها لإمكان خضوع الشخص لبعض التدابير الوقائية قبل وقوع الجريمة يمكن أن يعد اعتداء صارخ على الحرية الفردية ، وتعدي على مبدأ الشرعية الجنائية ، الذي يوجب توجيه الإنذار بالأفعال المحظورة قبل توقيع العقاب بالفعل .
*- القول بمبدأ الحتمية والجبرية للسلوك الإنساني - ومنه السلوك الإجرامي - أمر لم يقم عليه دليل علمي ، بل هو محض افتراض مجرد. ومن المعلوم أن تلك المدرسة لا تعتمد على أسلوب الافتراضات المجردة بل تعتمد على أسلوب التجريب العلمي والملاحظة ، فمن أين لها بهذا الافتراض ؟
*- حتى لو سلمنا بالقدرية المطلقة أو مبدأ الجبرية فإن ذلك سوف يتعارض مع البنيان الجنائي الذي يقوم عليه أي مجتمع معاصر ، أو ما يسميه البعض التعارض مع مبدأ "القانونية الجنائية" . فالحالة الخطرة ، أو الخطورة الإجرامية التي تقول بها هذه المدرسة ، لا يمكن الكشف عنها إلا عن طريق الجريمة ذاتها ، فإذا أبعدنا تلك الجريمة "كفكرة قانونية جنائية مستقرة" فكيف يمكن الكشف عن الحالة الخطرة للشخص ؟ وحتى لو قلنا أن الكشف عن تلك الحالة يمكن التوصل إليه قبل وقوع الجريمة من خلال الظروف التي يعيش فيها الشخص مثلا ، والتي قد تنبئ عن إمكانية ارتكابه لجريمة في المستقبل ، فإنه من العبث أن يخضع الشخص لأي تدبير على أساس هذا المظهر المادي الذي يعايشه دون مراعاة للجوانب النفسية لديه من حيث القصد أو الإهمال. وهى أمور لا تبنى إلا على حرية الاختيار التي تنفيها المدرسة الوضعية.
ولا يسعنا إلا أن نردد مع البعض قوله بأنه "لو قدر لأي تشريع وضعي أن يقيم عمد المسئولية على أساس من التسليم بصحة القضاء والقدر وانتفاء الاختيار على وجه مطلق ، لما كان في ذلك أية خطوة للإمام ، بل خطوت عديدة إلى الوراء ، وإلى أنظمة غامضة بعيدة عن أن ترضي احتياجات الجماعات المتحضرة" . فحرية الاختيار يجب أن تظل هى أساس المسئولية الجنائية وهو ما لا ترضي به تلك المدرسة.
وما يؤكد أن حرية الاختيار يتعين أن تظل ركيزة إنسانية أساسية ، وعليها يجب أن تقوم دعائم المسئولية الجنائية ، أن كافة التشريعات والمشروعات الوضعية التي حاولت إحلال المسئولية القانونية والاجتماعية محل المسئولية الأخلاقية لم يكتب لها النجاح. ومن ذلك مشروع فيرى Ferri في سنة 1921 والذي أخذ بالمسئولية القانونية حينما نص على أن "الفاعلين والشركاء مسئولين قانوناً عن الجريمة إلا إذا كان هناك سبب يبيح الفعل". إلا أنه اعترف بالمساهمة المعنوية في الجريمة وبالإكراه وبأن التدابير الاحترازية ذات الطابع العقابي لا تتخذ حيال المجانين وضعاف العقول الذين لا يستطيعون السيطرة على تصرفاتهم. مما يعنى الاعتراف بفكرة حرية الاختيار والإرادة رغم الرغبة في إنكارها.
ومن ذلك أيضا قانون العقوبات السوفيتي الصادر في أول يناير عام 1937 الذي أقر مبدأ المسئولية القانونية ثم وقع في التناقض في المادة 11 منه عندما نص على أن الأشخاص المسئولين هم الذين يتصرفون بادراك ويقدرون نتائج تصرفهم ويرغبون في هذه النتائج. وهو ما يعنى الاعتراف بمبدأ حرية الاختيار والمسئولية الأدبية .
*- كما عيب على هذه المدرسة تجاهلها للاعتبارات الردع العام والعدالة من نطاق أغراض الجزاء الجنائي.
*- وأخيراً فإنه لم يقم دليل علمي على ما اعتمدته هذه المدرسة في مجال تصنيف المجرمين على أسس عضوية ونفسية ، فهناك ممن تتوافر فيهم تلك الصفات ولم يقترفوا جرما قط ، في حين أنه وقعت أشبع الجرائم ممن لا تتوافر فيهم تلك الصفات. فهذا التضييف لا يصلح اعتماده في تحديد المعاملة العقابية.
المبحث الثالث

سياسات الوسط التوفيقية الجنائية

Les politiques criminelles conciliatrices

53- تمهيد :

كان من الطبيعي أن يُحدِث التصادم بين أفكار المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية نوع من عدم الاستقرار في الفكر الجنائي ، الأمر الذي أدى إلى ظهور مذاهب أو مدارس - أطلق عليها مذاهب الوسط أو المذاهب التوفيقية – حاولت أن تحدث التوائم أو التعادل بين المذاهب جميعها قديمها وحديثها. فلقد عيب على المدرسة التقليدية أو الاتجاه الكلاسيكي أن أسرف في الاعتداد بالجريمة باعتبارها كيانا قانونيا مجرداً يكفى التثبت من أركانه من أجل استحقاق العقاب ، دون الأخذ في الاعتبار ظروف المجرم الشخصية. فكانت النظرة لهذا الأخير على أنه كائن مجرد لا دور له في تقدير الجزاء. كما عيب على المدرسة الوضعية تطرفها في الاهتمام بشخصية المجرم وخطورته ، دون الأخذ في الاعتبار حقيقة الواقعة الإجرامية من كونها مزيج من جوانب مادية أو موضوعية وجوانب أخرى شخصية ، الأمر الذي دعاها إلى إنكار حرية الاختيار ومبدأ المسئولية القائمة على الخطأ الجنائي وتجاهل أفكار المنع العام والعدالة.
وفى ضوء ذلك حاولت التيارات الفكرية اللاحقة على المدرسة الوضعية الاهتمام بالجريمة من حيث جسامتها وشخصية المجرم وحالته الخطرة ، كنوع من الوسطية أو التوفيقية في الفكر الجنائي. ويمثل هذا الاتجاه تيارات ثلاثة نبرزها في النقاط التالية.

54- أولا : المدرسة الوضعية الانتقادية L'école critique

تسمى المدرسة الوضعية الانتقادية أحياناً بالمدرسة الثالثة La troisième école "Terza scuola" لمجيئها بعد المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الوضعية. ولقد تزعم هذه المدرسة عديد من الفقهاء الإيطاليين أمثال برناردينو أليمينا B. Alimena وإيمانويل كارنفالي E. Carnovale وجامباتيستا أمبالومينى G. Impollomeni.
وأول ما يميز المدرسة الوضعية الانتقادية أو المدرسة الثالثة أنها تنازلت عن البحث في مشكلة التسيير والتخيير واعتبرتها مشكلة هامشية مما أسقط أول محكات التطرف والتناقض بين الفكر التقليدي والفكر الوضعي. فآلمينا مثلا - الذي تعود إليه تسميه هذا الاتجاه بالوضعية الانتقادية عندما نشر مؤلفة المعنون بذات الاسم في عام (1892) - يرى أنه ما دامت الجريمة ظاهرة اجتماعية فإن العقاب ينبغي أن تكون له وظيفة اجتماعية هو الأخر. تلك الوظيفة هى الدفاع عن المجتمع لا إيلام المجرم بصرف النظر عن كونه قد اختار الجريمة حراً أو مجبراً. فالمجتمع في دفاعه عن نفسه لا تعنيه حرية المجرم وجبريته ، لأن تلك مشكلة فلسفية لا تنال من حقه في الدفاع عن نفسه ضد المخيرين والمسيرين سواء بسواء .
كما يميز هذا الاتجاه التوفيقي القول بإمكانية الجمع بين العقوبة والتدابير. فكارنفالي - الذي تعود إليه تسمية الاتجاه بالمدرسة الثالثة La Terza scuola - يؤكد على ضرورة الإبقاء على كل من العقوبة والتدابير ليتم النطق بإحداها حسب كل حالة على حده وفق ظروف وأسس محددة. ويتأتى ذلك من الجمع بين كل من الخطأ والخطورة كأسس للمسئولية الجنائية. فالخطأ الذي لا يتوافر إلا لدى من تتوافر فيهم الأهلية الجنائية لا يردعه إلا العقوبة بينما لا توجه التدابير إلا للمجرمين عديمي أو ناقصي الأهلية. فكما يؤكد هذا الفقيه ، فإن المفهوم العقابي لابد وأن يتسع ليشمل كافة الوسائل الصالحة للدفاع ضد الجريمة.
هذا الجمع بين كلا من العقوبة والتدابير يؤكد أن المسئولية الجنائية لدى أنصار مذاهب الوسط إنما هى مسئولية أخلاقية قانونية معاً ، أساسها الخطأ والخطورة جنباً إلى جنب.
وأخيراً يميز هذا الاتجاه أن الجزاء الجنائي يستهدف أن يحقق كلا من الردع العام والردع الخاص. فالجزاء أو حق العقاب - كما يقول كرنفالي - هو تعبير عن ضرورة سياسية وليس انتقاماً أو ثأراً من المجرم ، وهو وسيلة لوقاية المجتمع من ارتكاب جرائم مستقبلية سواء من قبل ذات المجرم أو من قبل غيره من الأفراد. فعلى المجتمع أن يوفر بالجزاء الأثر النفسي الكفيل بقمع النفوس وردعها ، سواء لدى المجرم ذاته أو لدى بقية أقرانه .

55- ثانيا : الاتحاد الدولي لقانون العقوبات L'Union International de Droit Pénal

تكفل الاتحاد الدولي لقانون العقوبات - الذي أنشئ في عام 1881 على يد كل من الأساتذة فان هامل Van Hamel الأستاذ بجامعة أمستردام وأدولف برانز Adolf Prins الأستاذ بجامعة بروكسل وفون ليست Von Liszt الأستاذ بجامعة برلين - بمحاولة التوفيق بين كلا من السياستين الجنائية التقليدية والوضعية ، وذلك من خلال سلسلة من المؤتمرات بدأت في عام 1889.
ويمكننا أن نحدد أهم ما يميز هذا الاتجاه التوفيقى في النقاط التالية :
*- اعتمد أنصار هذا الاتجاه سياسة جنائية تبتعد عن الافتراضات الفلسفية ، كما هو الحال عند أنصار المدرسة الوضعية ، ومن ثم فقد اتبعوا منهجاً تجريبياً يهتم أول ما يهتم بشخص المجرم لإصلاحه ومنعه من العودة لمقارفة الجريمة مرة أخرى. وعلى هذا فكان طبيعياً أن يكون للتفريد العقابي أهميته لدى هذا الاتجاه ، بحيث يكون لكل مجرم نوع متميز من المعاملة العقابية. في ضوء ذلك قام أعضاء الاتحاد بوضع نوع من التصنيف بين المجرمين ، يميز بين المجرمين بالتكوين أو بالفطرة ، والذي تدفعه عوامل بيولوجية ونفسية إلى سلوك سبيل الجريمة ، وبين المجرمين بالصدفة الذين تدفعهم للجريمة مجموعة عوامل خارجية تتصل بالظروف الاجتماعية والبيئية.
*- تمثل العقوبة الجنائية الجزاء الأول للجريمة لدى أنصار هذا الاتجاه ، والتي تستهدف المنع العام والمنع الخاص إلى جانب تحقيق العدالة وإصلاح المجرم والحد من خطورته في المستقبل ، الأمر الذي قد لا يتحقق إلا باستئصاله كلياً من المجتمع.
*- تعتبر التدابير بأنواعها المختلفة جزاء احتياطي عند هذا الاتجاه ، لا يلجأ إليه إلا عند عجز العقوبة عن تحقيق أغراضها. وفى حالة اللجوء إلى هذه التدابير ، يدعو الاتحاد إلى احاطتها من قبل المشرع بذات الضمانات التي تحيط بالعقوبة ، كالشرعية والشخصية والقضائية ، على نحو ما سنحدده فيما بعد.
*- يمكن للخطورة الإجرامية أن تكون أساسا لتوقيع الجزاء الجنائي ، حتى قبل وقوع الجريمة بالفعل ، وذلك من خلال توقيع بعض التدابير المانعة أو تدابير الأمن على بعض الأشخاص الذين تكشف حالتهم الشخصية وظروفهم الاجتماعية عن ميل نحو الجريمة ، ولو لم يكونوا قد أجرموا بالفعل ، وهو الحال في شأن حالات الإدمان والسكر وتعاطى المخدرات والتشرد .
بيد أن هذا الاتحاد قد توقف نشاطه على أثر نشوب الحرب العالمية الأولى ولوفاة مؤسسيه. وقد استمر الحال هكذا إلى حين تأسيس الجمعية الدولية لقانون العقوبات L'Association Internationale de Droit Pénal في باريس عام 1924 والتي أحيت مبادئ الاتحاد الدولي لقانون العقوبات. وتعقد الجمعية الدولية مؤتمرات دورية كل خمس سنوات في بلد من البلدان ، وعادة ما تمهد الجمعية الدولية لمؤتمرها الدوري بالعديد من الحلقات النقاشية التمهيدية Colloques préparatoires تتناول كل حلقة منها وجه من أوجه المشكلة التي سوف يتناولها المؤتمر العام ، فتنصب حلقة على المشكلة من وجه نظر القسم العام وثانية عن القسم الخاص ، وثالثة عن جوانبها الإجرائية ، وتخصص الأخيرة للجوانب الجنائية الدولية . وتنشر الجمعية أعمالها وتوصياتها في المجلة الدولية لقانون العقوبات Revue Internationale de Droit Pénal ، فضلاً عن مجلة الدراسات الجنائية الحديثة Nouvelles études pénales.
ورغم ما بذله الاتحاد الدولي لقانون العقوبات وما تبذله الجمعية الدولية للقانون الجنائي من جهود في محاولة للتوفيق بين المذاهب الجنائية والحد من تطرفها ، وتأكيدها على ضرورة الجمع بين العقوبة والتدابير والاهتمام بتفريد المعاملة العقابية ، إلا أن سياستها عموماً عيب عليها أنها لا ترتبط برباط واحد يجعل منها مدرسة أو نظرية فقهية متكاملة. فأفكارها لا تعدو إلا أن تكون مجموعة من الحلول العملية لعدد من كبار الفقهاء .

56- ثالثا : الحركة العلمية الفنية Le mouvement scientifique technique

إلى هذا الاتجاه دعا الفقيه الإيطالي فلوريان جرسبينى Florian Grispigni والذي استهدف منه تصحيح النتائج المتطرفة للمدرسة الوضعية. وتتلخص نتائج هذا الاتجاه في الآتي :-
*- أن هدف الجزاء الجنائي – سواء آكان عقوبة أم تدبير ، هو تحقيق الردع الخاص الذي ينصرف إلى شخص المجرم وحده بحيث ينصرف عن المعاودة لسبيل الجريمة مرة أخرى. وعلى هذا فإن هدف الردع العام يمثل هدف احتياطي ، بمعنى أنه إذا تحقق كأثر للردع الخاص فأهلاً ومرحباً ، أما إذا لم يتحقق فإنه يجب التنازل عنه واستبعاد العقوبة والأخذ فقط بالتدبير الذي يكفل الزجر الخاص وحده.
*- أن التدابير التي يعنى بها هذا الاتجاه ويقرر الأخذ بها في حالة عجز العقوبة عن أداء وظيفتها هى فقط تدابير الدفاع أو الأمن ، أي التدابير اللاحقة على ارتكاب الجريمة. وعلى هذا فالاتجاه العلمي لا يقر التدابير الوقائية أو السابقة على ارتكاب الجريمة ، لأن الجزاء الجنائي لا ينبغي توقيعه إلا على أثر فعل إجرامي معين ومحدد سلفاً في التشريع كي لا تكون حريات الأفراد وحقوقهم عرضه للمساس بها ، خاصة في ظل الأنظمة السياسية ذات الطابع الديكتاتوري.
*- أن أساس توقيع الجزاء الجنائي- عقوبة أم تدبير- هو دائماً المسئولية الأدبية أو الأخلاقية. وعلى هذا طرحت الحركة العلمية فكرتا التسيير والتخيير فيما يتعلق بالسلوك الإنساني جانباً باعتبارها مشكلة فلسفية بحتة. على أن هذا الاتجاه يعود ويؤكد على أنه يمكن الاحتفاظ بالمسئولية الاجتماعية أو القانونية التي قالت بها المدرسة الوضعية في الحالات التي تعجز المسئولية الأدبية عن تغطيتها ، كما هو الشأن في حالات العود للجريمة وفى حالات المجرمين الشواذ… الخ ، وذلك حتى تكون مواجهة الظاهرة الإجرامية أعم وأشمل .
المبحث الرابع

السياسة الجنائية المعاصرة

La politique criminelle contemporaine

57- تمهيد وتقسيم :

ينصرف مصطلح السياسة الجنائية المعاصرة عندنا إلى حركة الدفاع الاجتماعي التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية ولا زالت مستمرة إلى الآن ؛ وكذلك إلى الاتجاه التوفيقي – أو ما يسمى بالنيوكلاسيكية المعاصرة – والذي يهدف إلى التوفيق بين أفكار مدرسة الدفاع الاجتماعي والسياسة الجنائية التقليدية. وعلى هذا فسوف نقسم هذا المبحث إلى مطلبين نخصص الأول للسياسة العقابية في فكر الدفاع الاجتماعي ، بينما نخصص الثاني لبحث الاتجاه التوفيقي المعاصر.
المطلب الأول

السياسة العقابية في فكر الدفاع الاجتماعي

La politique pénitentiaire de la défense sociale

58- تمهيد وتقسيم :

لاشك أن تعبير الدفاع الاجتماعي La défense sociale تعبير موغل في القدم وتمتد جذوره إلى كافة النظريات التي قيلت في السياسة العقابية على مر العصور القديم منها والحديث ، غاية الأمر انه كان يأخذ في كل مرحلة مفهوماً مختلفاً.
فنراه في المذاهب القديمة التي تسند إلى الدولة ونظام العقاب وظيفة نفعية هدفها الدفاع عن المجتمع ضد عوامل الاضطراب فيها وعلى الأخص الجريمة. كما نراه أيضا في كتابات الفلاسفة القدماء في العصر الإغريقي أمثال أرسطو وفى العصر الوسيط والحديث لدى ومونتيسكيو وفولتير وبنتام وهوبز وفويرباخ ورومانيوزى. فيقول هذا الأخير تعبيراً عن فكرة الدفاع الاجتماعي "إن غاية القانون الجنائي والعقوبة ليس هو تعذيب أو إيلام كائن حي ، أو إشباع رغبة في الانتقام ، أو التكفير عن جريمة ، أو اعتبارها كأن لم تكن ، ولكن هو إرهاب كل آثم حتى لا يضر مستقبلا بالمجتمع" .
وكان لهذه الفكرة صدى أيضاً لدى الفكر التقليدي – بزعامة بيكاريا – الذي رأى أن هدف العقوبة هو الردع العام على أساس حق المجتمع في الدفاع عن نفسه. كذلك فإن للدفاع الاجتماعي حظ كبير لدى أنصار المدرسة الوضعية ، ولكن بمفهوم جديد مؤداه أن الهدف من النظام الجنائي عامة هو الدفاع عن المجتمع ضد المجرم لا ضد الجريمة ، وهو ما يوجب التضحية بالمجرم في سبيل حماية المجتمع. ولهذا سلمت هذه المدرسة في سبيل الدفاع عن المجتمع بإمكانية توقيع الجزاء الجنائي على أساس الخطورة الإجرامية للشخص لا الفعل الإجرامي أو الواقعة المؤثمة ، مما يوسع من دائرة الجزاء ليشمل كافة المجرمين أيا كان حظهم من الإدراك وحرية الاختيار.
إلا أنه ومنذ بدايات القرن العشرين بدأ الدفاع الاجتماعي يأخذ بعداً جديداً مؤداه أن هدف النظام الجنائي كله لا يجب أن ينصرف للدفاع عن المجتمع ضد المجرم ليقي المجتمع شره وخطره وإنما الهدف هو التوجه للمجرم ذاته من أجل معاونته على استعادة تكيفه مع المجتمع. فالدفاع الاجتماعي في صورته المعاصرة هو حركة نظرية وعملية تهدف إلى توجيه القواعد والتنظيمات الجنائية نحو العمل على استعادة المجرم من خارج المجتمع ليعاود الاندماج فيه مرة ثانية .
ولهذه الحركة المعاصرة للدفاع الاجتماعي اتجاهان أحدهما متطرف ، يتزعمه الفقيه الإيطالي فيليبو جراماتيكا Filippo Grammatica ، وهو الدفاع الاجتماعي التقليدي ، والأخر معتدل بزعامة مارك أنسل Marc Ancel القاضي والمستشار بمحكمة النقض الفرنسية ، المؤسس للدفاع الاجتماعي الجديد. وسوف نفرد لكل اتجاه بعض من الصفحات التالية.

59- أولا : الدفاع الاجتماعي التقليدي (مفهوم جراماتيكا) :

60- تمهيد وتقسيم :

ينسب الدفاع الاجتماعي المعاصر إلى الأستاذ الإيطالي فيليبو جراماتيكا الذي كان يعمل أستاذاً للعلوم الجنائية بجامعة جنوا ، وأسس بها مركزاً لدراسات الدفاع الاجتماعي في عام 1945 تولى عقد العديد من المؤتمرات العلمية الدولية حول الدفاع الاجتماعي كان أولها في سان ريمو San Remo في عام 1947 وكان ثانيها في لييج Liège في عام 1949 ، والذي خلاله تم إنشاء الجمعية الدولية للدفاع الاجتماعي L'Association Internationale de la Défense Sociale برئاسة جراماتيكا نفسه. ثم تولت الجمعية نفسها عقد العديد من المؤتمرات للدفاع الاجتماعي ، كان من بينها مؤتمر أنفرس Anvers في عام 1954 ومؤتمر ميلانو Milano في عام 1956 وكان أخرها المؤتمر الدولي السابع للدفاع الاجتماعي في عام 1966 في مدينة ليتشي Licci بإيطاليا.
وقد انتقلت عدوى الدعوة للدفاع الاجتماعي إلى الأمم المتحدة في عام 1948 فأنشأت قسماً للدفاع الاجتماعي يتبع المجلس الاقتصادي والاجتماعي بهدف توجيه النشاط في مجال الوقاية عن الجريمة ومعاملة المجرمين ، مع الاهتمام بصفة خاصة بانحراف الأحداث. ومن الصعيد الدولي إلى الصعيد الإقليمي داخل الوطن العربي تسربت أفكار الدفاع الاجتماعي فأنشئت المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي بمقتضى الاتفاقية التي أقرها مجلس جامعة الدول العربية في عام 1960.
هذا الانتشار يوجب علينا أن نبين الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي التقليدي قبل أن نستعرض تقديرنا لهذا الاتجاه.

61- أ : الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي التقليدي :

بين جراماتيكا دعائم الدفاع الاجتماعي في مؤلفه "مبادئ القانون الجنائي المقترح" Principi di diritto penale soggettivo في عام 1934 ثم في مؤلفه مبادئ الدفاع الاجتماعي Principi di difesa sociale في عام 1961 .
وتتلخص أهم أفكاره في الدفاع الاجتماعي في النقاط التالية :

62- هدم المفاهيم الجنائية التقليدية وإحلالها بمفاهيم الدفاع الاجتماعي :

يبدأ جراماتيكا أفكاره بانتقاد المفاهيم التقليدية للقانون الجنائي المرتبطة بالجريمة والمسئولية الجنائية ، على أساس أن هذه المفاهيم ما زالت تجعل من الفعل الإجرامي محوراً للنظام الجنائي ، مع التغافل عن شخص الفاعل نفسه. وعلى هذا ارتبطت المسئولية بالواقعة المسندة وصار تطبيق العقوبة يجرى على نحو تلقائي لا يحتاج سوى النظر إلى الجريمة والعقوبة المقررة. ففي القانون الجنائي التقليدي يرتكز بنيان الجريمة على مقدار ما تمثله من ضرر على المجتمع أو خطر عليه ، كما أن العقوبة ترتبط بالجسامة الذاتية للسلوك ومدى كثافة ما يمثله من ضرر ومقدار ما ينتج عنه من خطر ، ومن ثم تصبح العقوبة موضوعية المعيار لا علاقة بينها وبين شخص الفاعل.
وعلى هذا فيرى جراماتيكا إلغاء قانون العقوبات بمفاهيمه المرتبطة بالجريمة والمسئولية وإحلاله بقانون أخر للدفاع الاجتماعي ، يستعاض فيه عن الجريمة باسم "الانحراف أو العصيان الاجتماعي" وبدلاً من المجرم يستبدل به "الشخص المضاد للمجتمع" أو صاحب السلوك اللااجتماعي ، وأن يستبدل بالعقوبة بعض تدابير الدفاع الاجتماعي.
وعلى هذا فإن جراماتيكا يرى في الدفاع الاجتماعي نظاماً قانونياً مستقلاً يحل محل القانون الجزائي لا أن يندمج فيه أو يتكامل معه .

63- إحلال فكرة التكيف الاجتماعي محل المسئولية الجنائية :

انتقد جراماتيكا فكرة المسئولية الجنائية بمفهومها التقليدي المرتبط بالجريمة وبالخطأ قائلاً أن هذا المفهوم قاصر عن أن يدفع عن المجتمع حالات الانحراف التي لا ترقى إلى مستوى الجريمة ، كما لا تكفل الحماية الوقائية للمجتمع قبل وقوع الجريمة نفسها. لذا فإن جراماتيكا يقترح استبدال فكرة المسئولية الجنائية بفكرة أوسع هى فكرة "التكيف الاجتماعيSociabilité".
ولديه أن القانون المقترح - "قانون الدفاع الاجتماعي" – يجب أن يهدف إلى مناهضة كل شكل من أشكال عدم التكيف الاجتماعي ، سواء ظهر عدم التكيف في صورة جريمة أو ظهر في أي شكل أدنى من ذلك. وهو في هذا السبيل يقترح استخدام عدد من تدابير الدفاع الاجتماعي يكون غرضها الوقاية والعلاج والتربية ، وأساسها الدراسة العلمية والتجريبية وفق معطيات العلوم الإنسانية ، كتشغيل العاطلين ونشر التعليم والتثقيف بالنسبة للأميين وعلاج المرضى والشواذ … الخ. وتلك التدابير ليست جزاءات ولكنها وسائل تربوية وعلاجية ووقائية تنفذ على الفرد غير المتكيف اجتماعيا (مجرم أو غير مجرم) إكراهاً ، على نحو ما يحدث بالنسبة للمريض بمرض معدٍ أو المجانين ، وتنفذ في أماكن أبعد ما تكون عن معنى السجن.
وقد اشتراط جراماتيكا في هذه التدابير - والتي ستحل محل العقوبات - أن تكون موحده ، وأن تشتمل على تدابير وقائية ، وأن تكون غير محددة المدة بحيث يمكن تعديلها أو تبديلها أو إلغائها خلال التنفيذ ، وفق ما تسفر عنه عمليات الرقابة على شخصية الإنسان غير المتكيف اجتماعياً .

64- الجوانب الشخصية للفرد كأساس للدفاع الاجتماعي :

لقد نادى جراماتيكا بجعل الجوانب الشخصية للفرد ، سواء الاجتماعية أو البيولوجية أو النفسية ، وليس جسامه الضرر الناشئ عن الجريمة ، محوراً لاهتمام قانون الدفاع الاجتماعي المقترح. وعلى هذا فالجزاء (التدابير الاجتماعية عند جراماتيكا) ينبغي أن يرتبط لا بما تحويه الجريمة من ضرر أو بما تمثله من خطر وإنما بالتقدير الشخصي للفاعل على ضوء الظروف التي أحاطت بسلوكه. إذاً ترتبط المسئولية عند جراماتيكا بالحالة النفسية والصحية لصاحب كل سلوك منحرف. وبالتالي تصبح المسئولية الجنائية مجرد إعلان بوجود نفسية فردية مضادة للمجتمع ، أي تنبئ عن فرد غير متكيف اجتماعياً.
على هذا النحو يصبح للجزاء هدف أسمى هو إصلاح هذا الانحراف - "عدم التكيف أو العصيان الاجتماعي" - تمهيداً لعودة الفرد إلى حياة الجماعة الطبيعية. هذا الأمر يقتضى الأخذ بتدابير متنوعة ومتفاوتة بحسب التكوين النفسي وبحسب القالب الاجتماعي للفاعل. فلم يعد المبدأ "هو أن لكل جريمة عقوبتها" ولكن أصبح المبدأ هو أن "لكل شخص غير متكيف اجتماعيًا تدبير يلائمه".
بيد أن جراماتيكا يؤكد على أن بلوغ تلك الأهداف بطريقة متكاملة وعامة يوجب أن تمتد الثورة الإصلاحية لتشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية من نظام أسري واقتصادي وتعليمي وصحي. بمعنى أخر وجوب إتباع سياسة اجتماعية تقضي على أسباب الانحراف أو العصيان الاجتماعي في مهده.

65- ب : تقدير الاتجاه الجراماتيكي (الدفاع الاجتماعي التقليدي) :

يعود الفضل لجراماتيكا في توجيه الأنظار نحو الصفة الإصلاحية للجزاء الجنائي ، واعتبار هذا الإصلاح حق من حقوق الفرد ومقرر لمصلحته إذا ما ثبت انحرافه اجتماعياً. فالكشف عن هذا الانحراف يلقى على المجتمع الالتزام باتخاذ ما يلزم من تدابير من أجل إعادة التلاؤم بين الفرد وحياته النفسية وبين الحياة الاجتماعية. كما يعود له الفضل في الدعوة لتبنى سياسة عامة لإصلاح النظام العائلي والاقتصادي والتعليمي. وربما هذا هو ما دعى عدد من الدول إلى أن تتدخل في تشريعاتها الكثير من مفاهيم الدفاع الاجتماعي ، خاصة بالنسبة للتدابير التي تطبق على طوائف معينة من المجرمين كالأحداث ومرضى العقول والمشردين. ومثال ذلك قانون المتشردين والشواذ الصادر في أسبانيا في عام 1923 ، وقانون تدابير الأمن الصادر في ألمانيا في عام 1927 وقانون الدفاع الاجتماعي الصادر في بلجيكا عام 1930. وكان قانون الدفاع الاجتماعي الكوبي في عام 1934 أوضح القوانين أخذاً بمفاهيم الدفاع الاجتماعي ، حيث قد وضع أسس هذا القانون جراماتيكا نفسه. كما يعد مشروع قانون العقوبات المصري لعام 1967 من أحدث المشروعات التي تبنت بعض مفاهيم الدفاع الاجتماعي ، خاصة فيما يتعلق بالتدابير واجبة الإتباع حيال بعض أنماط الانحراف الاجتماعي.
وبالرغم من كل هذا فإنه عيب على هذا الفقيه تطرفه في الأفكار حين دعى إلى إلغاء فكرة الجريمة والمسئولية الجنائية والمجرم والعقوبة ، أي القضاء على كل مفاهيم قانون العقوبات التقليدية. ولا شك أن من شأن تلك الدعوة - إذا ما طبقت - أن تعرض النظام الاجتماعي كله للفوضى ، كما تعرض مبدأ الشرعية للخطر ، مما قد يوقع العدوان على الحقوق والحريات الفردية. وحتى لو سلمنا بهذا الإلغاء - رغم وضوح الأفكار المبتغى إلغائها - فإن المفاهيم المقترح الأخذ بها ، كعدم التكيف أو العصيان الاجتماعي والشخص المضاد للمجتمع والسلوك اللااجتماعي ، مفاهيم يصعب تحديدها ويشوبها الكثير من الغموض .
هذا التطرف دعا بعض مؤيدي الدفاع الاجتماعي إلى محاولة تهذيب أفكار جراماتيكا ورد العدوان الذي حاول القيام به على مفاهيم القانون الجنائي التقليدية. وهذا بالفعل ما حاول القيام به المستشار مارك أنسل ، مكونا ما يعرف "بالدفاع الاجتماعي الجديد".

66- ثانيا : الدفاع الاجتماعي الجديد (مارك أنسل) :

67- تمهيد وتقسيم :

لم تلقى أفكار جراماتيكا (الدفاع الاجتماعي التقليدي) تأييد من بعض أنصار حركة الدفاع الاجتماعي ، خاصة في فرنسا ، الأمر الذي دعا هؤلاء إلى المنادة بوجوب تصحيح مسار هذه المدرسة. ويعود الفضل إلى المستشار مارك أنسل (المستشار بمحكمة النقض الفرنسية) في وضع أسس الدفاع الاجتماعي الجديد ، أو ما يمكن أن نسميه الاتجاه المعتدل للدفاع الاجتماعي. فلقد وضع هذا الفقيه في عام 1940 كتابة "الدفاع الاجتماعي الجديد ، حركة لسياسة جنائية إنسانية" والذي توالت طبعاته كان أخرها عام 1981 .
وسوف نستعرض أهم ما جاء من أفكار في هذا المؤلف ، من خلال بيان الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي الجديد ، قبل بيان تقديرنا لهذه الحركة.

68- أ : الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي الجديد :

تتنوع الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي الجديد ، فمنها ما يرتبط بمفاهيم القانون الجنائي التقليدية خاصة المسئولية ، ومنها ما يتصل بشخصية المجرم ، وأخيراً ما يتصل بهدف الجزاء الجنائي وطابعه الإنساني.

69- الإبقاء على المفاهيم التقليدية للقانون الجنائي :

يضع مارك أنسل سياسة للدفاع الاجتماعي لا تنكر قواعد القانون الجنائي التقليدية ، فهو لا ينكر مبدأ الشرعية ولا يذهب إلى حد إلغاء المسئولية ولا الجزاء. ولديه أن المسئولية الجنائية ينبغي أن يكون مبناها الخطأ القائم على حرية الإرادة. فهو لا يؤمن بالوضعية المادية التي تؤمن بالحتمية ولا تعترف بالخطأ. كما أن محرك هذه المسئولية هو الجريمة وليس الفعل المناهض للمجتمع أو العصيان الاجتماعي كما كان يسميه جراماتيكا.
ويؤكد أنسل على أن المسئولية الجنائية هى الغاية والهدف من النظام الجنائي القائم ، بحيث تؤدى المعاملة العقابية بإنماء روح المسئولية لدى المجرم نحو المجتمع ، فينصرف عن سلوك سبيل الجريمة في المستقبل. وبالجملة فإن الدفاع الاجتماعي الجديد يقوم على ذات الأسس التي قامت عليها المدرسة التقليدية ولكن مع تطوير هذه الأسس في ضوء ما أظهرته الدراسات الحديثة حول السلوك الإنساني .

70- تدعيم الاهتمام بشخص المجرم :

إن أخذ شخصية المجرم في الاعتبار وإعطائها وزناً في الدعوى الجنائية ، من خلال دراسة مختلف العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية المتصلة بهذه الشخصية والمؤثرة فيها كعوامل دافعة لارتكاب الجريمة ، يمثل أول سمة لحركة الدفاع الاجتماعي الجديد. فعن طريق الاهتمام بتلك الشخصية وتدعيم الدراسات المتصلة بها يمكن تحديد أنسب طرق المعاملة العقابية ، ويمكن للقاضي تبعا لحالة كل مجرم أن يتخير الجزاء المناسب (عقوبة أو تدبير) ، بما يعين المجرم على التأهيل الاجتماعي والاندماج مرة أخرى في البيئة المحيطة .
وهذه الدراسة لشخصية المجرم هى دراسة علمية. فالدفاع الاجتماعي الجديد يدعو إلى إعداد ما يعرف بملف الشخصية Dossier de personnalité ، الذي يحوى كل ما يتصل بالجوانب الشخصية للمجرم ، والمعد من قبل الخبراء المتخصصين بدراسة السلوك الإنساني ، كالأطباء وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والإجرام والدراسات الجنائية ، كي يكون تحت يد السلطات الجنائية في كافة مراحل الدعوى ، بما فيها مرحلة التنفيذ العقابي ذاتها باعتبارها – عند هذا الاتجاه - مرحلة من مراحل الخصومة الجنائية. لذا فإن مارك أنسل يرى أن الاهتمام بالفحص العلمي للشخصية ، للاستعانة به في مراحل الدعوى ، لا يمكن أن يتحقق إلا بعد إجراء التعديلات الضرورية على النظام الإجرائي ذاته الذي يحكم الدعوى الجنائية .
ويمكن هذا الملف القاضي من التعرف على كل ما يتصل بالمتهم. ولا يعنى هذا مجرد التعرف على الظروف الخارجية للفعل الإجرامي والسوابق القانونية للمتهم ، ولا حتى بياناته الشخصية المحفوظة في دوائر الشرطة ، ولكن يمتد هذا إلى تكوينه البيولوجي وردود فعله النفسية ، وتاريخه الشخصي وحالته وبيئته الاجتماعية…الخ .

71- الطابع الإنساني للجزاء الجنائي :

يبقي الدفاع الاجتماعي على فكرة الجزاء الجنائي بشقيه العقوبة والتدابير. إلا أن هذا الاتجاه يطالب بتوحيد صور الجزاء الجنائي في نظام واحد يكون في مجموعة نموذج لرد الفعل الاجتماعي تجاه الجريمة ، بحيث يكون الجزاء الجنائي عملاً اجتماعياً يهدف إلى حماية المجتمع عن طريق التدابير الاجتماعية والعلاجية والتربوية لشخص الجاني ، بما يحول بينه وبين وقوع الجريمة في المستقبل وبما يكفل إعادة تأهيل الجاني ،كل ذلك في إطار مفاهيم القانون الجنائي التقليدية. فالجزاء الجنائي يطبق لتحقيق هذا الهدف الإنساني ، ألا وهو تأهيل المجرم وعدم تركه يهوى في دروب الجريمة ، بعيداً عن الأفكار الفلسفية المتصلة بعدالة الجزاء أو نفعيته.
والجزاء الجنائي عند فكر هذا الاتجاه له طابع إنساني ، يقوم على احترام وضمان الحرية الفردية. ويظهر ذلك جليا في رفض مارك أنسل وأنصاره للتدابير غير محددة المدة ورفضه للتدابير السابقة على الجريمة أو التدابير الوقائية ، كذلك إعلانة الرفض التام لعقوبة الإعدام لتنافيها - حسب زعمهم - مع القيم الإنسانية واحترام حقوق الإنسان .

72- ب : تقدير حركة الدفاع الاجتماعي الجديد :

لا يمكننا أن ننكر ما لحركة الدفاع الاجتماعي من مزايا ، ومن قبيل ذلك تأكيدها على ضرورة تخليص القانون الجنائي من الأفكار المجردة والافتراضات الميتافيزيقية التي لا تراعي جوانب الملاحظة والتجريب على مستوى الواقع ، ودعوتها إلى تفعيل دور المؤسسات المتصلة بالجريمة والمجرم سواء على المستوى التشريعي أو القضائي أو العلمي ومحاولة علاج هذه المؤسسات من حالة "تصلب الشرايين" على حد قول مارك أنسل .
ولهذه الحركة الفضل في تأكيد احترام حقوق الإنسان ووجوب إحاطة الجزاء الجنائي بكافة الضمانات ، والدعوة إلى الإشراف القضائي على التنفيذ والتمسك بمبادئ الشرعية الجنائية والمساواة وشخصية العقوبة وتناسب هذه الأخيرة مع الفعل الإجرامي. فلا يستعبد الدفاع الاجتماعي الجديد القانون الجنائي ومفاهيمه التقليدية كما سبق القول . كما كان لهذه الحركة الفضل في تصحيح التناقض الذي وقع فيه جراماتيكا عندما ارتكن إلى نظام وقاية تحكمى أو نظام ردع تقديري ، يكون الفاعل فيه مجرماً من حيث الإثم الذي أتاه ومريضا غير مسئول يستوجب فقط العلاج دون أن يكون للعقاب معنى الجزاء.
على أن أعظم ما قدمته حركة الدفاع الاجتماعي الجديد هو تركيزها على شخصية المجرم من خلال وجوب إعداد ما سمته ملف الشخصية للاستعانة به في مراحل الدعوى المختلفة . وهو الأمر الذي أخذ به المشرع الفرنسي في قانون الإجراءات الجنائية عندما عدل المادة 81/6 بالقانون رقم 466-83 الصادر في 10 يونيه 1983 ملزما قاضى التحقيق Juge d'instruction في الجنايات ببحث الظروف الشخصية للمتهم من حيث مركزه المادي والأسرى والاجتماعي ، والترخيص له بذلك في مواد الجنح. والإجازة له في كافة المواد بإجراء فحص طبي ونفسي لشخصية المتهم (م81/7) .
كما كان لهذه الفكرة - "ملف الشخصية" - أثرها الإجرائي عند بعض الفقهاء عندما اقترحوا تقسيم مراحل المحاكمة إلى مرحلتين ، في الأولى يقرر القاضي الإدانة من الناحية الموضوعية ، أي من حيث ثبوت ونسبة الواقعة الإجرامية إلى المتهم ، وفى الثانية يقرر القاضي الحكم. وهذه المرحة الأخيرة شخصية ينظر فيها القاضي للظروف المتصلة بشخص المتهم "المدان" من حيث وضعه المالي والعائلي والاجتماعي…الخ ، كي يقدر الجزاء المناسب لحالته.
هذا الاقتراح كرسته - إلى حد ما - بعض التشريعات ، منها قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي بالقانون رقم 624-75 الصادر في 11 يوليو 1975 (م 469/3 و 539/1) عندما أجاز للمحكمة بعد أن تقرر الإدانة أن تحكم بتأجيل النطق بالعقوبة L'ajournement ، عندما يثبت لديها أن الضرر الناشئ عن الجريمة قد زال أو على وشك الزوال وأن الجاني في سبيله للتكيف الاجتماعي مرة أخرى .
إلا أنه رغم هذا الانتشار لمفاهيم الدفاع الاجتماعي الجديد ، فإنها قد تعرضت للكثير من أوجه النقد ، نوجزها في الآتي :
*- عيب على هذه الحركة افتقارها إلى المنهج الموحد الذي يجعل منها مدرسة أو حركة مذهبية متكاملة ، وليس مجرد شتات أفكار. وقد يبدو أن هذا الأمر كان مقصوداً عند مارك أنسل إذ أنه في رده على هذا النقد قد أوضح أن الدفاع الاجتماعي الجديد ليس اتجاهاً عقائدياً ولا يرتبط بأي دين ولا لأية عقيدة سياسية. فهو مجرد حركة أو تيار مستقل من الناحية الفكرية ويهدف إلى إرساء مبادئ عامة تحكم رد الفعل الاجتماعي تجاه الجريمة ، من أجل أن تصبح السياسة الجنائية الحديثة معبرة عن جانب من جوانب إدخال الطابع الاجتماعي إلي القانون المعاصر وخاصة القانون الجنائي .
*- كما عيب على هذه الحركة أنها بتوجيهها الاهتمام نحو شخصية المجرم قد ألزمها بالاستناد إلى النتائج التي توصلت إليها علوم إنسانية أخرى ، رغم أن تلك العلوم مازالت في مرحلة التكوين ولم تتأكد بعد ، كعلم الإجرام مثلا. غير أنه مما يخفف من غلواء هذا النقد - وحسب ما يرى مارك أنسل نفسه - أن تلك الحركة استطاعت التقريب بين علماء القانون وعلماء السلوك الإجرامي في فروع العلوم الإنسانية الأخرى ، دون أن يكون رجل القانون تابعاً لعالم الإجرام. فالهدف هو أن يدرك رجل القانون من أنه ليس وحده المختص بمحاربة الجريمة ولكن يشاركه في ذلك أفرع أخرى ، بحيث ينظر للجريمة على أنها حقيقة قانونية ذات طابع اجتماعي دون تغليب لجانب على جانب أخر.
فقانون العقوبات يجب أن يخرج – وهو لحسن الحظ يخرج أخيراً – من عزلته الفخيمة والنظر إليه كعلم اجتماعي يرتبط بالشخصية الإنسانية وبالعلوم المتصلة بها . وكما يقول مارك أنسل : إن إقامة الفرصة للقاضي لفهم الإنسان الذي أمامه من حيث شخصيته ودوافعه ووسطه لا يؤدى إلى دعوة ذلك القاضي إلى الإقلاع عن مهمته الحقيقية (أي النظر للجريمة كحقيقة قانونية تقاس بمعايير قانونية موضوعية لجسامة الفعل) وإنما الهدف من كل ذلك هو التقدم نحو إقامة نوع من العدل الإنساني مما يوجب التخفيف من غلواء النظرة القانونية المجردة للجريمة وإصباغها ببعض السمات الشخصية النابعة من التمايز الفردي والاجتماعي لكل مجرم .
*- كما عيب على هذه الحركة مغالاتها في الهدف التأهيلي للجزاء الجنائي مما يقلل من الهدف والمضمون الأخلاقي لهذا الأخير المتمثل في الردع العام ، ويضعف بالتالي الإحساس بالمسئولية لدى الأفراد ولدى الجماعة. على أن مارك أنسل يرد على هذا النقد بقوله أنه يمكن الوصول لتحقيق الهدف الأخلاقي للجزاء وكذلك الهدف التأهيلي عن طريق الجمع بين كل من العقوبة والتدابير في نظام موحد لرد الفعل العقابي. ولا يعيب ذلك كون كلا النوعين من الجزاءات يستند إلى أسس مختلفة. فبالعقوبة يمكن للقاضي أن يواجه الجريمة على أساس القمع أو الردع العام بالنسبة لبقية أفراد المجتمع (الهدف الأخلاقي) ، وبالتدابير يمكن أن يحقق الهدف الاجتماعي الخاص بتأهيل وإصلاح المجرم عن طريق البرامج العلاجية والتربوية ، بحيث يرتفع التعارض بين العقوبة والتدابير ، ويرتفع التعارض بين الهدف الأخلاقي والتأهيلي للجزاء الجنائي .
وربما الذي جعل هذا الاتجاه يغالي في الهدف التأهيلي للجزاء الجنائي - كما يقول مارك أنسل - هو أن تحقيق الردع العام كهدف للعقوبة أمر يظل غير مؤكد إلى حين تمام تنفيذ العقوبة بالفعل داخل المؤسسة العقابية. فليس حكم القاضي نفسه هو الذي يحقق الأثر الرادع للعقوبة ، فالتفريد العقابي الذي يحدث داخل السجن وأساليب المعاملة المطبقة كثيراً ما تغير في هذا الحكم. فضلاً عن أن الأثر الرادع للعقوبة لا ينبع في الحقيقة من العقوبة ذاتها التي يطبقها القاضي وإنما يحدث نتيجة عوامل أخرى أهم منها ، كسرعة تحقيق العدالة الجنائية وفاعليه دور الشرطة والنيابة العامة والقاضي الجنائي .
المطلب الثاني

السياسة العقابية في النيوكلاسيكية المعاصرة

Le néo-classique contemporain

73- تمهيد :

ترتكز السياسة العقابية عند الاتجاه النيوكلاسيكي المعاصر على أفكار العديد من الفقهاء المعاصرين أمثال جورج ليفاسير G. Levasseur وروجه ميرل Merle R. وجان ليوتيه J. Léautéوجان لارجييه J. Larguier. ويهدف هذا الاتجاه إلى إجراء سياسة توفيقية بين فكر الدفاع الاجتماعي ، كما انتهى إليه مارك أنسل ، وبين السياسة الجنائية التقليدية ، في استعارة واضحة للأفكار الفقيه ريموند سالي R. Saleilles في مؤلفه الذي ظهر في عام 1898 حول تفريد العقوبة. وهو ما سنبينه من استعراض دعائمها الفلسفية وأوجه نقدها .

74- أولاً : الدعائم الفلسفية للنيوكلاسيكية المعاصرة :

لإعمال النظرة التوفيقية اعتمدت السياسة النيوكلاسيكية المعاصرة على عدد من المبادئ منها :
*- التمسك بالمفاهيم الكلاسيكية عن الجزاء الجنائي كمقابل للجريمة ، وأن الإدانة عن الجريمة تتوقف على المسئولية ، وهو شرط أساسي لكل معاملة عقابية ، دونما بحث نظري أو تجريدي لفكرة التسيير والتخيير في السلوك الإنساني ومنه السلوك الإجرامي. فالمسئولية الجنائية ليست حتماً مسئولية أخلاقية وإلا اعتبر ذلك إهدار لبعض جوانب الجبرية في السلوك البشرى.
*- أنه لتحقيق معنى الإيلام (الردع) ومعنى الإصلاح والتأهيل يجب الاقتصار على العقوبة وحدها كصورة للجزاء الجنائي دونما لجوء إلى فكرة التدابير. فتحدد العقوبة وفقاً لقدرة المجرم على تحمل العقاب والإستفاده منه في المستقبل ، وهو ما أسمته هذه الحركة "أهلية تنفيذ العقوبة". وهذا التحديد يتم في المراحل الأولى للدعوى الجنائية ، أما عند الدخول في مرحلة التنفيذ العقابي ، فإنه يتم إجراء فحص شامل للشخصية الإجرامية للمحكوم عليه من حيث وضعه العائلي والاجتماعي والمادي ، في ضوء معطيات كافة العلوم الاجتماعية ، بما يمكن من إعمال قواعد التفريد العقابي لكل مجرم ويحقق الهدف الإصلاحي والتأهيلي للعقوبة. وفى ضوء ذلك ترى النيوكلاسيكية المعاصرة إمكانية تحقيق كلا من الردع العام والإصلاح من خلال العقوبة وحدها ودون اللجوء إلى فكرة التدابير الاحترازية التي استعيض بفكرة التفريد العقابي بديلاً عنها.

75- ثانياً : تقدير النيوكلاسيكية المعاصرة :

أٌخذ على هذا الاتجاه إسقاطه للكثير من الأفكار التي ساهمت في تطوير الفكر الجنائي عامة. ومن قبيل ذلك فكر المدرسة الوضعية عن التدابير ، وخاصة التدابير الوقائية "بدائل العقاب" ، والتي تتخذ حيال الحالات الخطرة التي تكشف عن احتمالية ارتكاب الجريمة في المستقبل .
كما عيب على هذا الاتجاه أنه جعل التفريد عمل من أعمال الإدارة العقابية وليس مهمة القاضي الجنائي أي جعله تفريد تنفيذي فقط. فالقاضي يكتفى بتحديد العقوبة بطريقة قانونية مجردة ، ثم يترك للإدارة العقابية مهمة تحديد أشكال المعاملة العقابية الملائمة في ضوء ما يكشف عنه فحص الشخصية. ولا شك أن الأخذ بهذا الأمر فيه من الخطورة على الأفراد في ظل الأنظمة التي لا تأخذ بنظام الإشراف القضائي على التنفيذ (مثال مصر) ، وتجعل من هذه المرحلة مرحلة منفصلة عن الدعوى الجنائية تتولاها السلطة التنفيذية (وزارة الداخلية في مصر من خلال الإدارة العامة للسجون) ، الأمر الذي يوجب حال الأخذ بهذه المفاهيم النيوكلاسيكية ، إخضاع التنفيذ العقابي للإشراف ما يعرف بقاضي تطبيق العقوبات ، على نحو ما هو معمول به في التشريع الفرنسي ، ولا يخفى ما لتطبيق هذا النظام من مشكلات ، خاصة على الصعيد المالي للدولة.
الباب الثاني

صور رد الفعل العقابي

76- تمهيد وتقسيم :

تحديد صور رد الفعل العقابي ، هو بيان لأنماط الجزاء الجنائي واجبة التطبيق كأثر قانوني لازم عند وقوع الفعل الإجرامي وثبوت الإدانة من قبل القاضي الجنائي حال أداءه لدوره في مرحلة المحاكمة. وكما سبق وأن أوضحنا في الصفحات السابقة أن تطور الفكر الجنائي قد كشف عن ظهور نوعين من الجزاءات الجنائية ، هما العقوبة والتدابير الاحترازية. والأولى أسبق في الظهور من الثانية ، هذه الأخيرة التي ظهرت على يد المدرسة الوضعية ومع ابتداع فكرة الخطورة الإجرامية. وعلى هذا فليس صحيحا الربط بين الجزاء الجنائي - رد الفعل العقابي - وبين العقوبة. فالعقوبة وإن كانت جزاء جنائياً ظل لحقبة طويلة بمثابة الأثر القانوني المباشر للجريمة ، إلا أن كل جزاء ليس بالضرورة يشكل عقوبة جنائية ، فهناك التدابير كصورة أخرى لرد الفعل العقابي. وبذا أصبح مبدأ ازدواج العقوبات والتدابير هو السمة المميزة للسياسة الجنائية المعاصرة.
ولما كانت العقوبة الجنائية هى أخطر الجزاءات وهى الأثر الحتمي والمباشر للجريمة - فلا جريمة بدون عقوبة - فإننا سوف نشرع في دراستها من خلال الفصل الأول ، قبل أن ننتقل بالدراسة إلى التدابير الاحترازية في الفصل الثاني.
الفصل الأول

العقوبة الجنائية

77- تمهيد وتقسيم :

العقوبة La peine جزاء يوقع باسم المجتمع ، حماية له وضمان لمصلحته ، وهى جزاء يتناسب مع جسامه الواقعة الإجرامية ومقدار الخطيئة والإثم إعمالا لمبادئ العدالة. وعلى هذا فالعقوبة ضرورة حتمية تفرضها اعتبارات حماية النظام العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولبيان العقوبة كجزاء جنائي فإننا سوف نقسم هذا الفصل إلى أربعة مباحث نحدد فيها على التوالى جوهر العقوبة وأغراضها ، ثم بيان ضماناتها ، ثم بيان أقسامها ، وأخيراً بيان الإشكاليات المتصلة بتطبيق بعض العقوبات خاصة الإعدام والعقوبات السالبة للحرية .
المبحث الأول

جوهر وأغراض العقوبة الجنائية

78- أولا : جوهر العقوبة الجنائية :

يقرر الفقه التقليدي أن العقوبة ، هى جزاء يقرره القانون ويوقعه القاضي من أجل الجريمة على من يثبت إدانته ومسئولية . غير أن هذا التعريف لا يكفل في حقيقة الأمر بيان ذاتية وجوهر العقوبة الجنائية ، لذا فإننا نميل إلى تعريفها بأنها "إيلام مقصود وحتمي للجريمة ويتناسب معها" . وعلى هذا فإن جوهر العقوبة ينصرف إلى ثلاثة عناصر :

79- أ : العقوبة الجنائية كإيلام مقصود :

إن أول ما يميز العقوبة الجنائية هو أنها جزاء ينطوي على إيلام. ولا يقصد بالإيلام امتهان كرامة وإنسانية وأدمية المحكوم عليه بهدف إذلاله وتحقيره من الناحية الاجتماعية. إنما يقصد بالإيلام توجيه اللوم للمجرم عما اقترفه من سلوك إجرامي ، من خلال المساس بأحد حقوقه اللصيقة بالشخصية ، إما إلغاءً أو انتقاصاً ، بفرض بعض القيود على استعمال هذه الحقوق.
فقد ينصرف الإيلام إلى سلب المجرم حقه في الحياة باعتباره أهم الحقوق اللصيقة بالشخصية. وهذا هو الإيلام البدني. كما قد ينصب الإيلام على حق الإنسان في الحرية ، من خلال فرض العقوبات السالبة أو المقيدة للحرية ، وهذا هو الإيلام المعنوي. وقد ينصب الإيلام على حق الإنسان في التملك بحرمانه من جزء من أمواله لصالح الدولة ، كما هو الحال في عقوبة الغرامة والمصادرة ، وهذا هو الإيلام المادي. كما قد يمس الإيلام بحقوق أخرى كالحق في تولي الوظائف العامة أو الترشيح لعضوية المجالس النيابية.
ولا يعنى أن الإيلام مقصود في العقوبة ، أنه يكون مقصود لذاته ، ولكنه مقصود من أجل تحقيق أغراض مفيدة كالردع والإصلاح. ويرتهن تطبيق العقوبة وتنفيذها على نحو سليم باستظهار هذه الأغراض والاجتهاد في توجيه العقوبة نحو تحقيقها. وعلى هذا النحو فإن الإيلام لا يصيب المحكوم عليه عرضاً ، وإنما يقصده الشارع والقاضي والمكلف بالتنفيذ .
ولا يتوقف هذا الإيلام على إرادة المحكوم عليه ، بل يتحقق كرهاً عنه ، مما يعطي للعقوبة أعلى درجات الألم. وهو إيلام نسبى ويقدر بمعيار موضوعي قوامه الشخص العادي ، فقد لا يتوافر الإيلام لدى البعض ممن اعتادوا الجريمة والعقوبة . وعلى هذا الأساس لا تختلط العقوبة بغيرها من الإجراءات التي وإن أحدثت بعض الألم لدى من توقع عليه ، إلا أن هذا الألم ليس مقصود ولا يستهدف من وراءه ردع ولا إصلاح ، ومثال ذلك إجراءات التحقيق والمحاكمة ، حتى وإن اتخذت صورة القبض أو الحبس الاحتياطي.

80- ب : العقوبة الجنائية كأثر حتمي للجريمة :

لا يتصور إنزال الجزاء الجنائي ، في صورة العقوبة الجنائية ، إلا كأثر لاحق ومرتبط بسلوك إجرامي سبق تحديده سلفاً من قبل المشرع. بمعنى أخر ، أن إيلام العقوبة لا يجوز إنزاله إلا على من أخل بأمر أو نهي تحدده القاعدة التجريمية. وهذا أهم ما يميز العقوبة عن غيرها من الإجراءات التي قد تتخذها الدولة قبل وقوع الجريمة.
وليس معنى الأثر الحتمي ارتباط العقوبة الجنائية بالجريمة كواقعة مادية أو بالمظهر الشكلي المتعارض مع القاعدة الجنائية ، ولكن هذا الأثر الحتمي لا يتحقق إلا بعد إعمال قواعد تقيمية لهذا السلوك وثبوت توافر رابطة نفسية معينة بين السلوك الإجرامي والنتيجة الضارة الناشئة عنه ، سواء في صورة القصد أو الاهمال (الخطأ الجنائي بالمعنى الواسع). بمعنى أخر ، ضرورة توافر عنصر الإذناب أو الإثم. وعلى ذلك فإن ما يطبق من إجراءات على بعض أنماط السلوك الضار الذي لا يتوافر بشأنه قصد ولا إهمال لا يمكن عده عقوبة ، وإن اعتبرت هذه الإجراءات من قبيل التدابير اللاحقة التي تنم عن وجود حالة إجرامية خطرة لم ترقى بعد إلى درجة الجريمة متكاملة الأركان.

81- ج : العقوبة الجنائية كأثر متناسب مع الجريمة La proportionnalité :

إن اشتراط التناسب بين العقوبة الجنائية والجريمة يضمن أن تكون العقوبة عادلة ومحققة لوظيفتها في المجتمع. وعبء تحقيق هذا التناسب يقع على عاتق المشرع ، الذي عليه عند وضع العقوبة أن يراعي توافقها كماً ونوعاً مع جسامة الواقعة الإجرامية كسلوك ونتيجة ضارة ، وكذلك توافقها مع درجة الإثم الجنائي - أو ما يسمى بالركن المعنوي للجريمة - حال ارتكابه للسلوك الإجرامي. ودون التنسيق بين هذين الأمرين (جسامة الواقعة ودرجة الإثم أو الخطأ) لا يمكن ضمان التطبيق السليم والعادل للعقوبة . وهذا ما يسمى بالتفريد التشريعي L'individualisation législative. وعدم قيام المشرع بهذه المهمة عند وضع النص الجنائي قد يصم هذا النص فيما بعد بعدم الدستورية. وهذا ما أكدته محكمتنا الدستورية العليا في حكمها الصادر في 3 فبراير 2001 بقولها "إن المتهمين لا تجوز معاملتهم بوصفهم نمطاً ثابتاً أو النظر إليهم باعتبار أن صورة واحة تجمعهم لتصبهم في قالبها ، بما مؤداه أن الأصل في العقوبة هو تفريدها لا تعميمها. وتقرير استثناء تشريعي من هذا الأصل – أياً كانت الأغراض التي يتوخاها – مؤداه أن المذنبين جميعهم تتوافق ظروفهم ن وأن عقوبتهم يجب أن تكون واحدة لا تغاير فيها ، وهو ما يعني إيقاع جزاء في غير ضرورة بما يفقد العقوبة تناسبها مع وزن الجريمة وملابساتها والظروف الشخصية لمرتكبها" .
وقد يترك المشرع أمر مراعاة هذا التناسب للقاضي نفسه ، بعد وضع الضوابط الخاصة به. ومثال ذلك أن يضع المشرع أمام القاضي عقوبة تدور بين حد أقصى وحد أدنى تاركاً له الخيرة بحسب جسامة الواقعة ودرجة الخطأ الجنائي أو يجيز له الحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها. وهذا ما يسمى بالتفريد القضائي L'individualisation judiciaire.
بل لا نشك في أن كل قيد يوضع من قبل المشرع علي سلطة القاضي في التفريد يكون مشوباً بعدم الدستورية. وعلى هذا تؤكد المحكمة الدستورية في حكمها سابق الذكر بقولها "لا يجوز للدولة – في مجال مباشرتها لسلطة فرض العقوبة صوناً لنظامها الاجتماعي – أن تنال من الحد الأدنى لتلك الحقوق التي لا يطمئن المتهم في غيابها إلى محاكمة تتم إنصافاً...وكان من المقرر أن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها مرتبطتان بمن يكون قانوناً مسئولاً عن ارتكابها على ضوء دوره فيها ، ونواياه التي قارنتها ، وما نجم عنها من ضرر ، ليكون الجزاء موافقاً لخياراته بشأنها. متى كان ذلك ، وكان تقدير هذه العناصر جميعها داخلاً في إطار الخصائص الجوهرية للوظيفة القضائية ، فإن حرمان من يباشرون تلك الوظيفة من سلطتهم في مجال تفريد العقوبة...مؤداه بالضرورة أن تفقد النصوص العقابية اتصالها بواقعها، فلا تنبض بالحياة ، ولا يكون إنفاذها إلا عملاً مجرداً يعزلها عن بيئتها دالاً على قسوتها أو مجاوزتها حد الاعتدال ، جامداً فجاً منافياً لقيم الحق والعدل" .

82- ثانيا : التمايز بين العقوبة والجزاءات الأخرى المترتبة على الجريمة :

83- تمهيد :

لقد أشرنا في أكثر من موضع سابق - وسنشير إليه تفصيلاً بعد قليل - أن العقوبة تتمايز عن التدابير الاحترازية ، التي يكون مبنى توقيعها الخطورة الإجرامية وليس الفعل الإجرامي ولا الخطأ الجنائي كما هو الحال في العقوبة.
وعلى هذا فسوف نكتفي في هذا الموضع ببيان الأوجه التي تميز العقوبة الجنائية عن غيرها من الجزاءات المعروفة في فروع قانونية أخرى ، كالتعويض المدني والجزاء التأديبي ، والتي قد تترتب أحياناً على وقوع الجريمة.

84- أ : العقوبة الجنائية والتعويض المدني :

تشترك العقوبة الجنائية مع التعويض المدني في أن كل من الصورتين يعد جزاء. وقد يتماثلا من حيث الشكل إذا اتخذت العقوبة الجنائية صورة الغرامة أو المصادرة ، فيكون كلاهما انتقاص من الذمة المالية للمحكوم عليه. وفيما عدا ذلك فإن كلا الجزاءين يتباعدان على النحو التالي :
*- العقوبة الجنائية جزاء شرع من أجل الجريمة ، أما التعويض المدني فجزاء شرع من أجل تعويض الضرر الناشئ عن الجريمة ، باعتبار أن هناك التزام مدني يقع على عاتق مرتكب الفعل الخاطئ بتعويض المضرور من هذا الفعل عما أصابه من ضرر. فتقضي قواعد المسئولية التقصيرية أن "كل خطأ سبب ضرر للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض" (م 163 مدني مصري و م1382 مدني فرنسي). ويترتب على ذلك أن العقوبة الجنائية لا توقع إلا على فعل تكامل له وصف الجريمة بأركانها المادية والمعنوية ولو لم ينشأ عنها ضرر (إلا إذا كان الضرر ركن فيها وفق ما يحدده المشرع). أما التعويض المدني فلا يحكم به إلا إذا سبب الفعل ضرر في جميع الأحوال ، حتى ولو لم يكون هذا الفعل مكون لجريمة من الناحية الجنائية .
*- لا يتماثل الغرض من العقوبة الجنائية مع الغرض من التعويض المدني. ففي العقوبة الجنائية – حتى لو اتخذت صورة الغرامة – يكون الغرض هو تحقيق وظيفة اجتماعية ، هى مكافحة الجريمة عن طريق إيلام المجرم ، وتحقيق غرض نفعي هو الردع العام والخاص. بينما يقتصر الغرض في التعويض المدني على إعادة التوازن بين الذمم المالية بعد أن أخل به الفعل الخاطئ والضرر الناجم عنه . ويترتب على ذلك أن العقوبة الجنائية لا يجوز توقيعها إلا على مرتكب الجريمة شخصياً - عملاً بمبدأ شخصية العقوبة – في حين أن التعويض المدني يمكن أن يقضى به في مواجهة المسئول عن الحقوق المدنية ، ولو لم يكن هو مرتكب الفعل الخاطئ الضار. ومن هنا كانت العقوبة تتناسب مع شخص الجاني بخلاف التعويض المدني فإنه يتناسب مع عنصر الضرر الناشئ عن الفعل غير المشروع ولا يرتبط بالخطأ وجسامته ولا بشخص مرتكبه .
*- العقوبة الجنائية دائما ذات طبيعة قضائية ، لا تتقرر إلا بحكم قضائي أو ما يقوم مقامه ، كما في حالة الأمر الجنائي. أي أن العقوبة تستوجب دائما تدخل سلطة عليا بعيداً عن أطراف الجريمة (الجاني – والمجني عليه). أما التعويض المدني كما يمكن أن يتقرر بحكم قضائي - صادر عادة من المحكمة المدنية - يمكن أيضاً أن يتقرر باتفاق الأطراف (المخطئ والمضرور) دون الالتجاء إلى المحاكم ، أي عن طريق ما يمكن أن نسميه الأداء الاختياري للحق المدني. فإذا ما نشأ الفعل الضار عن جريمة أمكن للمضرور أن يلتجأ إلى القضاء الجنائي بدعواه المدنية - بالتبعية للدعوى الجنائية - التي تتكفل النيابة العامة (سلطة الاتهام) بمباشرتها.
*- تتعدد العقوبة الجنائية - ومنها الغرامة - بتعدد الجناة في الجريمة. في حين أن التعويض المدني عن الضرر لا يقضى به إلا مرة واحدة حتى ولو تعدد المشتركون في الفعل الضار أو المسئولون عنه. وقد يتضامن هؤلاء في أداء التعويض المقضي به ، بحيث إذا أداة أحدهم برأت ذمة الباقين منه. ومن الممكن أن يلزم الحكم كل مسئول بنصيب من التعويض يتناسب مع مدى ما صدر عنه من خطأ أو ما سببه من ضرر .
*- لما كانت العقوبة الجنائية تهدف إلى تحقيق وظيفة اجتماعية ، لذا فإن المطالبة بتوقيعها أصبحت حكراً على النيابة العامة (سلطة الاتهام) بوصفها ممثلة للمجتمع وتنوب عنه ولا يشاركها في ذلك أحد ، حتى المضرور الذي يباشر دعواه المدنية أمام القضاء الجنائي ، الذي لا يحق له إلا المطالبة بالتعويض المدني دون العقوبة الجنائية. لذا فإن هذا الأخير – المضرور أو المدعى المدني - حينما يخسر دعواه المدنية أمام القضاء الجنائي لبراءة المتهم فإنه لا يحق له الطعن إلا على الشق المتعلق برفض التعويض المدني. أما الطعن على حكم البراءة فيظل حقا للنيابة العامة كممثل وحيد للمجتمع. فالإنابة لا تتصور في المطالبة بتوقيع العقوبة الجنائية ، في حين أن الإنابة جائزة في المطالبة بالحقوق المدنية (التعويض). فضلا عن أن التنازل عن المطالبة بتوقيع العقوبة أمر - بحسب الأصل - غير جائز لتعلقه بحقوق المجتمع على عكس التعويض المدني.
*- وأخيراً فإن العقوبة الجنائية تنفذ جبراً على المحكوم عليه ، ويجوز تعليق تنفيذها على شرط (أو ما يسمى عملاً إيقاف التنفيذ) ، وقد تسقط بأسباب متعددة منها التقادم والعفو ، وقد يرد الاعتبار قانونيا أو قضائيا عن الأحكام الصادرة بعقوبة جنائية. أما التعويض المدني فيخضع في تنفيذه للأحكام خاصة يضمها قانون المرافعات المدنية والتجارية والقوانين المتفرعة عنه. وقد يجرى هذا التنفيذ اختياراً باتفاق أطرافه دون جبر ، وقد يلجأ في تنفيذه إلى وسائل جنائية كالإكراه البدني. كذلك فإن التعويض المدني يسقط الحق فيه بآجال وأسباب يحددها القانون المدني تبعد عن أسباب سقوط العقوبة الجنائية.

85- ب : العقوبة الجنائية والجزاء التأديبي :

تتفق العقوبة الجنائية مع الجزاء التأديبي (كاللوم – والتنبيه – والخصم من المرتب – والفصل عن الخدمة … الخ) في أن كلاهما يرتبط بمبدأ شخصية الجزاء ، فلا يوقعان إلا على المسئول عن الجريمة الجنائية أو الجريمة التأديبية. كما يتفقان في أن كلاهما يرمي إلى تحقيق الردع عن نوع معين من المخالفات (الخروج على أوامر ونواهي القانون الجنائي والقانون الإداري). كما قد يوقع الجزاء التأديبي كأثر ملازم للعقوبة الجنائية ، كما هو الحال في عزل الموظف المحكوم عليه بعقوبة جناية وجوباً (م25 عقوبات).
وفى غير ذلك يختلف كلا الجزاءين بعضهما عن الأخر على النحو التالي :
*- تخضع العقوبة الجنائية لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يوجب الحصر المسبق للأفعال الغير مشروعه أو المجرمة والتي يستحق عنها العقاب. هذا الحصر لابد وأن يكون محدداً بوضوح لا لبس فيه وبألفاظ لا تعوزها الدقة. أما الجزاء التأديبي فهو وإن كان محدد في اللوائح والقوانين إلا أن الأفعال التي يطبق بشأنها هذا الجزاء تبقى غير محددة. إذ يغلب على المخالفات التأديبية أن تتحدد وفق معيار عام مرن وفضفاض مثل الإخلال بواجبات الوظيفة أو الخروج على مقتضيات المهنة …الخ .
*- لا ينال الإيلام الناشئ عن الجزاء التأديبي إلا من المركز الوظيفي للشخص شاغل هذا المركز (كتوقيع التنبيه أو الإنذار أو الخصم من المرتب أو تأخير أو الحرمان من العلاوة أو تأخير الترقية أو الحرمان منها أو الوقف عن العمل أو الفصل من الخدمة…الخ). بينما تنال العقوبة الجنائية من حقوق متنوعة كما سبق وأن أسلفنا ، كالحق في الحياة ، أو في الحرية ، أو الحق في التملك ، أو الحق في الشرف والاعتبار…الخ.
*- إذا كانت العقوبة الجنائية تتقيد بمبدأ القضائية ، أي عدم جواز توقيعها إلا بحكم قضائي ، فإن الجزاء التأديبي لا يتقيد بهذا الأمر. فقد يصدر هذا الجزاء عن محكمة وقد يصدر بقرار من سلطة تأديبية رئاسية.
*- وأخيراً فإن العقوبة الجنائية - بحسب الأصل - ذات تطبيق عام على كافة المواطنين المتواجدين على إقليم الدولة ، متى قام أحدهم بانتهاك قاعدة من قواعد قانون العقوبات. بينما لا يتعلق الجزاء التأديبي ولا يثبت إلا بشأن فئة معينة من الأفراد يخضعون لنظام تأديبي معين ، كما هو الحال بشأن الموظفين العموميين. فالجزاء التأديبي محدود من حيث نطاق تطبيقه الشخصي.

86- ثالثا : أغراض العقوبة الجنائية :

87- تمهيد :

كشف لنا استعراض الفلسفات التي كانت وراء الحق في العقاب وبيان سلطة الدولة في توقيعه ، أن هناك تطوراً قد لحق أغراض العقوبة الجنائية Les finalités de la peine تبعا للتطور الفكري والاجتماعي الذي شهدته المجتمعات.
ولقد استبان لنا أن أغراض العقوبة تنوعت بين ثلاثة اتجاهات : اتجاه موغل في القدم ، يرى في العقوبة غرضاً انتقامياً (سواء أكان انتقام فردى أو جماعي) ، ثم اتجاه لاحق دعمت ظهوره الأفكار المسيحية الكنسية ، يرى في العقوبة غرضاً تكفيرياً. ثم ظهر الغرض النفعي كمرحلة ثالثة في القرن الثامن عشر على يد مفكري هذا العصر أمثال مونتيسكيو وروسو وبيكاريا وبنتام. واقتصر هذا الغرض عند مفكري المدرسة التقليدية الأولى على تحقيق الردع العام ، ثم أصبح تحقيق العدالة هدف يضاف إلى الردع العام عند أنصار المدرسة التقليدية الثانية أو الجديدة. وفى مرحلة رابعة أعيد للردع العام أهميته مرة أخرى وغلب كغرض للعقوبة الجنائية لدى مدارس الوسط التوفيقية. إلى أن استقر الأمر بإعلاء الهدف التأهيلي والإصلاحي للمجرم ، كأسمى أهداف العقوبة مجتمعه عند أنصار حركة الدفاع الاجتماعي الجديد وعند أنصار النيوكلاسيكية المعاصرة ، الذين يرون أن هذا الهدف الإصلاحي يمكن تحقيقه إلى جانب الردع والزجر بشقيه العام والخاص. فالردع يتحقق من مجرد النطق بالعقوبة من قبل القاضي ، أما الهدف أو الغرض الإصلاحي أو التأهيلي فيمكن تحقيقه في مرحلة التنفيذ وداخل المؤسسة العقابية.
على أنه لا يجب أن نفهم أن هذه المراحل تظل منفصلة بعضها عن الأخر. فلا يعنى الاهتمام بالانتقام كغرض للعقوبة في المراحل الأولى للإنسانية أن التكفير أو الردع لم يكن هدفاً. كما أن ظهور الدولة وتسيدها لتوقيع العقاب لم يلغ أبداً فكرة الانتقام والتكفير. والدليل على ذلك أنه إلى وقت قيام الثورة الفرنسية كانت العقوبات تتسم بالوحشية انتقاماً من الجاني وتشفياً فيه. وحتى مع ظهور المسيحية وظهور المحاكم الكنسية ، ظل المجتمع المدني (المحاكم غير الدينية) يطبق العقوبات الوحشية التي كانت تتعدى كثيراً الجاني وتمتد إلى أهله وأحيانا إلى الحيوانات وجثث الموتى. كما لا يمكن القول أن ظهور الغرض النفعي ، خاصة مع ظهور أفكار بيكاريا ، كان جديداً تماما في الفقه. فلقد عرفته المجتمعات القديمة ذات الطابع الانتقامي في العقاب عندما أرادت التخفيف عن غلواء هذا الطابع عن طريق اعتماد نظام الدية الاختيارية ثم الإجبارية فيما بعد. فهذا الإقرار بمبدأ الدية أريد به تغليب المنفعة على شهوة الانتقام.
وبالجملة فإن تقسيم أغراض العقوبة - بحسب المراحل التاريخية - هو تقسيم تحكمي. فتلك الأغراض متداخلة في كل العصور ، ولم يكن الهدف من التقسيم التاريخي إلا التبسيط وإبراز لعلو هدف على أخر خلال مرحلة معينة من تطور المجتمع البشري.
ومن المؤكد أن الهدف أو الغرض الانتقامي أو التكفيري للعقوبة لم يعد له دور يذكر في العصور الحديثة والمعاصرة. ومن ثم يمكن حصر أغراض العقوبة فقط في نوعين من الأغراض ، أحداهما الغرض الأخلاقي ، وهو تحقيق العدالة ، وغرض نفعي هو تحقيق الردع بنوعية العام والخاص.

88- أ : الغرض الأخلاقي للعقوبة :

كما سبق وأن أوضحنا ، فإنه يرجع الفضل للفلاسفة الألمان – خاصة "إيمانويل كانت" ومن بعده هيجل – في توجيه الأنظار نحو الغرض الأخلاقي للعقوبة Le but rétributif de la peine ، متمثلا هذا الغرض في العدالة. فعندهم أن الجريمة هى نفي للعدالة في المجتمع وأن العقوبة هى نفي لهذا النفي ومن ثم تصبح العقوبة تأكيد للعدالة أو إثبات لها من جديد. فالجريمة عدوان على العدالة كقيمة اجتماعية مثلى يجب أن تسود داخل المجتمع ، لما تمثله الجريمة من ظلم تجاه المجني عليه بحرمانه من حق من حقوقه (كالحياة في حاله القتل – والسلامة الجسدية في حالة الضرب والجرح – والحق في الملكية في حالة السرقة والنصب …الخ) ، وما تمثله من تعدي على الشعور العام في العدالة المستقر في ضمير الأفراد.
وفى ضوء ذلك فإن العقوبة تعمل على تحقيق العدالة لما تقوم به من إعادة التوازن بين المراكز القانونية التي أخل بها الفعل الإجرامي. وتنزل بالمجرم شر مماثل للشر الذي نجم عن الجريمة ولحق بالمجني عليه ، فكأنها تعيد للقانون هيبته في أذهان العامة. ويحقق اعتبار العدالة غرض من أغراض العقوبة ميزة كبيرة ، إذ أن الوصول إلى هذا الهدف يرضي شعور المجني عليه ويهدأ من ثورة المشاعر العامة اللاحقة على ارتكاب الجريمة ، بما يخمد نار الانتقام في صدر المجني عليه وعند أقرانه ، فيحقق بالتالي السلام الاجتماعي الذي ينقص من معدلات الجريمة في المجتمع. كما أن تحقيق هذا الهدف - خاصة عند الإسراع في توقيع العقاب - ينمى روح الندم والشعور بالمسئولية لدى الجاني ، مما يدفعه إلى محاولة تهذيب سلوكه كي يعود من جديد عضواً منتجاً ومندمجاً في مجتمعه .
ويمكننا القول أن الغرض الأخلاقي للعقوبة ، أي تحقيق العدالة ، ينحصر في رسالة القضاء. فهذا الهدف هو المهمة الأساسية للقاضي ولمرفق القضاء بكافة مستوياته الجنائية. وقد يساهم القاضي - وهو في سبيل سعيه نحو تحقيق العدالة - في تحقيق أهداف أخرى للعقوبة ، كالردع العام والخاص مثلا. فالقاضي من خلال العقوبة يؤكد على انتهاك القاعدة الجنائية ، مما يعلي من فكرة القانون في نفوس الأفراد ، ويساهم في كبت عوامل الجريمة أو ما يسمى بالإجرام الكامن ، سواء في نفوس الكافة (الردع العام) أو على المستوى الفردي ، أي في نفس المجرم (الردع الخاص). إلا أن تحقيق هذا الهدف الأخير ( الردع العام والخاص) يتحقق كأثر للهدف الأول المتمثل تحقيق العدالة.
فما يكون نصب عين القاضي هو الغرض الأخلاقي للعقوبة ، المتمثل في تحقيق العدالة. والدليل على ذلك ، أن القاضي (وذلك من خلال ما يثبته الواقع العملي في المحاكم) يسعى في تطبيقه للعقوبة إلى أن تكون متناسبة مع جسامه الفعل وماديات الجريمة (سلوك ونتيجة) ، دون مراعاة لتناسبها مع شخص المجرم. فهو يقدر للجريمة ، وليس للمجرم ، قدراً من العقوبة ، وهو ما يسمى في الفقه "بتسعير العقاب "La tarification de la punition". فلو كان الردع هدف للقاضي ، لأدخل في تقديره العناصر الشخصية للمجرم حتى يتأكد من كون العقاب سيحقق هذا الهدف .

89- ب : الغرض النفعي للعقوبة

قلنا أن جوهر العقوبة ، هو الأذى أو الإيلام الذي يلحق بمن توقع عليه نتيجة الماس بأحد حقوقه الأساسية أو اللصيقة بشخصية. ويستهدف إقرار هذا الإيلام والأذى كبح عوامل الجريمة داخل النفس البشرية ، وهو ما يسمى بالردع ، أي التخويف والزجر ، والذي يمثل غرضاً نفعياً للعقوبة Le but utilitaire de la peine. وقد ينصرف هذا الأخير إلى تحقيق الردع العام La prévention générale الموجه للكافة ، بحيث تمنع العقوبة بقية أفراد المجتمع من تقليد ومحاكاة المجرم ، استهجاناً لما أنزل عليه من عقاب. وقد يستهدف الردع الخاص La prévention spéciale ، أي محاولة وأد ميكروبات الجريمة أو الميكروبات الاجتماعية - على حد قول البعض - في نفس المجرم للحيلولة بينه وبين الجريمة مرة أخرى.

90- الردع العام:

ينظر للعقوبة على أنها إنذار موجه للكافة من الناس ، تنذرهم بسوء العاقبة في حالة تقليد المجرم في سلوكه. فالعقوبة هى المضاد الحيوي الذي يكبت نوازع الشر الطبيعية في كل نفس بشرية. فالعقوبة تمارس أثراً نفسياً تهديدياً ، يقوى بواعث الخير تجاه بواعث الشر أو بواعث الجريمة ، بما يحقق الموائمة بين السلوك الجماعي وبين قواعد قانون العقوبات. فالعقوبة هى التي تمنع من تحول الإجرام الكامن إلى إجرام فعلي.
وتحقيق هذا الهدف - أي الردع العام - يتوقف على عوامل كثيرة منها : عدالة العقوبة وتناسبها مع جسامه الواقعة الإجرامية والخطأ الجنائي. فزيادة العقوبة أكثر مما تقضيه جسامه الواقعة قد يحمل القضاء على عدم تطبيقها ، وسعيه الحثيث على تبرئه المتهم مخافة توقيع عقاب غير عادل ، مما يرسخ في أذهان العامة قلة أهمية دور العقوبة فلا يتحقق الردع العام. الأمر الذي يحدث بالمثل في حالة ضعف العقوبة بالمقارنة بجسامة ما وقع من جرم. كما يتوقف الردع العام في النفوس على ميكانيزم القضاء الجنائي ، أي الكيفية التي يسير بها هذا المرفق من حيث البطء أو السرعة في مواجهة الجريمة.
ومهمة تحقيق الردع العام تقع بحسب الأصل على المشرع ، وإليه يسعى دون الأهداف الأخرى للعقوبة ، وذلك من خلال خلق القواعد التجريمية وتقرير الأجزية المناسبة لكل جرم. فهو بهذا الخلق يوجه التحذير للكافة بتوقيع العقاب في حالة انتهاك القاعدة التجريمية.
ولكي يطمئن المشرع إلى تحقيق هذا الهدف ، فإنه يجب أن يستند إلى قواعد العدالة في التشريع. ولما كان أمر تحقيق العدالة موكول إلى القاضي ، لذا فقد جرت التشريعات على تقرير العقوبات بين حد أدنى وحد أقصى ، أو تقرير عقوبات تخيرية ذات جسامه متفاوتة، تاركة للقاضي حرية تقرير العقوبة المناسبة كماً وكيفاً حسب ظروف كل حالة. فهذا الأسلوب يضع أمام الكافة الصورة الفعلية للعقوبة وكيفية تطبيقها ، فتتفاعل النفوس مع هذا التطبيق. فإن رأته عادلاً فإنها تبدأ في مراجعة النفس (التخويف والترهيب) وتبدأ أولى مراحل الردع العام ، وإن رأته ظالماً ، استخفت النفوس بالقانون وبالعقوبة وقلت لديهم عوامل الردع العام.
وعلى ذلك ، فإذا كان المشرع هو المنشئ للردع العام من خلال القاعدة الجنائية ، فإن القاضي هو الموكول إليه التثبت من تحقيق تلك القاعدة للردع العام الفعلي. فيمكننا القول أن هناك نوعا من الإنابة بين السلطة التشريعية وبين القضاء الجنائي في تحقيق الردع العام في المجتمع.

91- الردع الخاص:

الردع الخاص هو الأثر المباشر للعقوبة الذي تحدثه على ذات المجرم المحكوم عليه ، أو هو الأثر الناشئ عن الانتقاص من حقوق المحكوم عليه في بدنه أو حريته أو ماله أو شرفه واعتباره.
من هنا يظهر أن للردع الخاص طابع فردي Intimidation de nature individuelle ، حيث ينصب على شخص بعينه هو المحكوم عليه ، فيدفعه إلى تغيير عناصر شخصيته في المستقبل بما يحول بينه وبين الرجوع إلى اقتراف الجريمة لاحقاً. فكأن الردع الخاص هو محاولة استئصال الخطورة الإجرامية المستقبلية أو الاحتمالية التي كشفت عنها الجريمة التي ارتكبها الشخص بالفعل. فبالعقوبة يتعاظم مقدار الألم في نفس الجاني وإحساسه بالمهانة والاحتقار بين أفراد مجتمعه ، فتنمو داخله العوامل التي تحول بينه وبين السلوك الإجرامي في المستقبل.
وللردع الخاص - كوسيلة لمنع المجرم من معاودة ارتكاب الجريمة في المستقبل - درجات أشدها هو الردع الخاص الاقصائي ، والذي يتم من خلال استبعاد الجاني كلياً من المجتمع ، كما هو الحال في عقوبة الإعدام وفى العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة أو المؤبدة ، وذلك بهدف تجميد النشاط الإجرامي للجاني في المستقبل. ولا يتحقق ذلك النوع الاقصائي إلا بشأن الجرائم شديدة الخطورة على مصالح المجتمع وفى حالات المجرمين الذين لا تجدي معهم برامج التأهيل والإصلاح من واقع سجلهم الإجرامي أو جسامه ما ارتكب من أفعال.
وللردع الخاص صورة أخف تتمثل في الردع الخاص الإنذاري. ويتحقق ذلك في حالات الإجرام غير الجسيم أو الذي يتمثل في تفاهة ما نشأ من ضرر ، والذي يثبت فيه أن الحدث الإجرامي لم يكن إلا شئ عارض في حياة المتهم. في تلك الأحوال ، يمكن تطبيق بعض العقوبات ذات الطابع الإنذاري ، كما هو الحال في الحبس قصير المدة مع إيقاف التنفيذ أو الوضع تحت الاختبار أو الحكم بالإدانة مع تأجيل النطق بالعقوبة أو الحكم بعقوبة مالية بسيطة.
وبين الصورتين توجد صورة وسط تتمثل في الردع الخاص الإصلاحي أو التأهيلي ، ويكون ذلك في حالات الإجرام المتوسط (كالسرقة وخيانة الأمانة والقتل الخطأ …الخ) ، حيث يوجب تحقيق هذا النوع من الردع الدخول الفعلي في إحدى المؤسسات العقابية من أجل إخضاع المحكوم عليه للبرامج الإصلاحية والتأهيلية الموضوعة من قبل الخبراء والمتخصصين في الشئون العقابية ، التي تعمل على تنمية روح التوافق مع المجتمع مرة أخرى.
ويظهر من ذلك أن الردع الخاص في شق كبير منه يلقى على عاتق السلطات القائمة على التنفيذ العقابي ، وإليه تهدف هذه السلطات أكثر من الأهداف الأخرى للعقوبة الجنائية .
المبحث الثاني

ضمانات العقوبة الجنائية

92- تمهيد وتقسيم :

يحدد الفقه الجنائي عادةً عدداً من الضمانات الأساسية التي تحكم العقوبة الجنائية عامةً ، أياً ما كان نوعها أو درجتها ، وبصرف النظر عن التقسيم الذي يتبعه المشرع أو الفقه في تحديد أنواع ودرجات العقوبة الجنائية. وللعقوبة ضمانات ستة تحكمها ، سواء في مرحلة وضع النص الجنائي (مرحلة التشريع) أو في مرحلة التطبيق الفعلي للنص من قبل القضاء ، أو في مرحلة التنفيذ العقابي.

93- أولاً : شرعية العقوبة الجنائية :

مبدأ الشرعية هو حجز الزاوية في القانون الجنائي عامة ، وهو بهذه الصفة يمثل الركن الركين والضمان العام للعقوبة. فمن هذا المبدأ تتولد بقية المبادئ التي تحكم العقوبة في أي مرحلة من مراحلها .
ويقصد بشرعية العقوبة الجنائية Légalité de la peine أن يوكل إلى المشرع وحدة أمر تقرير العقوبات التي تطبق حال مخالفة الشق التجريمي من القاعدة الجنائية. وإذا كان تحديد العقوبة بالتالي هو عمل السلطة التشريعية ، فإنها قد تفوض في ذلك السلطة التنفيذية في تحديد العقوبات لما يكون المشرع نفسه قد جرمه من أفعال ، وهو ما يسمى بالتفويض التشريعي المنصب على ركن الجزاء .
وعلى ذلك لم يعد صائبا القول أن "لا عقوبة إلا بقانون" ، إنما الأصوب القول أن "لا عقوبة إلا بناء على قانون ، أو لا عقوبة إلا بنص". ومن ثم يكون تطبيق عقوبات لم تصدر من السلطة التشريعية أو من السلطة التي فوضتها في ذلك عمل يمس بشرعية العقوبة مما يبطلها.
ولهذا المبدأ قيمة دستورية في النظام القانوني المصري. حيث نص دستور 1971 في المادة 66/2 على أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على القانون… ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون" Nullum crimena, nulla poena sine lege. كما أكدته المادة الخامسة من قانون العقوبات الحالي لسنة 1937 إذ قررت أن "يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول به وقت ارتكابها".
وينتشر هذا المبدأ في كافة القوانين المعاصرة ، ومنها قانون العقوبات الفرنسي الجديد الصادر في 22 يوليو 1992 ، والذي نص في مادته 111-2 على أن "يحدد القانون الجنايات والجنح، ويحدد العقوبات المطبقة على مرتكبيها ، وتحدد اللائحة المخالفات وتقرر في الحدود وبحسب التفرقة التي يحددها القانون العقوبات المطبقة على المخالفين". وتعود المادة 111-3 لتؤكد على المبدأ قائلةً "لا يعاقب أحد عن جناية أو جنحة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للقانون ، أو عن مخالفة إذا لم تتحدد أركانها وفقا للائحة. ولا يعاقب أحد بعقوبة لم ينص عليها قانونا إذا كانت الجريمة جناية أو جنحة ، أو لم ينص عليها في اللائحة إذا كانت الجريمة مخالفة".
ويفرض مبدأ شرعية العقوبة (وكذلك شرعية الجريمة) ، في ضوء مضمونه هذا ، عدداً من الالتزامات في جانب المشرع وفى جانب القضاء :

94- أ : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب المشرع :

تلزم السلطة القائمة على تحديد العقوبات أن تبدأ بتحديد موضوع العقوبة .L'objet de la peine ويقصد بهذا الموضوع قيام المشرع بتحديد قصده من العقوبة ، وما إذا كان الهدف منها مجرد الإنذار أم أنه يقصد التقويم والإصلاح ، أم يقصد أخيراً أن يكون لها طابع إقصائي. وهى كلها تندرج ضمن أهداف الردع الخاص لثلاثة سالفة الذكر.
كما أن على المشرع أن يقوم بتحديد طبيعة العقوبة La nature de la peine ، أي تحديد الحق الذي تنال منه من بين حقوق المحكوم عليه. فمن العقوبات ما يسلب المحكوم حقه في الحياة (كالإعدام) ، ومنها ما يسلب حقه في الحرية بصفة نهائية أو مؤقتة (كالعقوبات السالبة للحرية) ، ومنها ما يقيد تلك الحرية (كالوضع تحت مراقبة الشرطة وخطر الإقامة)، ومنها ما ينال من الذمة المالية لهذا المحكوم عليه (كالغرامة والمصادرة) ، ومنها ما يمس بالحقوق السياسية أو الوظيفية له (كالمنع من الترشيح لعضوية المجالس النيابية والعزل) ، ومن العقوبات ما ينال أخيراً من الشرف والاعتبار (كالنشر في الصحف لبعض الأحكام كأحكام الإفلاس والغش التجاري مثلا). كما قد يؤدى تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في ظهور أنواع أخرى من العقوبات ، كسحب الرخص وغلق المنشأة التجارية أو الاقتصادية وحظر مزاولة مهنة أو نشاط تجاري أو اقتصادي لفترة مؤقتة أو دائمة.
وعلى المشرع ألا يقصد عند تحديده لطبيعة العقوبة أن تمتد إلى غير المحكوم عليه إعمالاً لمبدأ شخصية العقوبة ، كما سنوضح بعد قليل.
وأخيراً فإن على المشرع أن يراعي عند تحديد العقوبة مقدار جسامتها ، والتناسب بينها وبين الجسامة الموضوعية للجريمة ، ومدى نصيب إرادة الجاني من الخطأ. وعلى هذا الأساس يقيم المشرع تفرقة مثلاً في العقوبة من حيث كونها عقوبة جناية أم جنحة أم مخالفة ، وإقامته تفرقة عقابية داخل كل طائفة من هذه الجرائم (المواد 9 ، 10 ، 11 عقوبات مصري) .

95- ب : الالتزامات المترتبة على مبدأ الشرعية في جانب القاضي :

يفرض مبدأ الشرعية في جانب القاضي عدد من الالتزامات منها : الالتزام بالعقوبات المقررة للجرائم وفق ما تحدده نصوص التشريع ، طبقا لدرجة وطبيعة العقوبة. فيمتنع عليه أن يضيف إلى النص عقوبات لم ترد به ، ولا أن يطبق عقوبة من نوع أو مقدار مختلف. ولا يخل بذلك أن يكون المشرع بنفسه قد أعطى للقاضي سلطة للإعمال التفريد القضائي ، إذا ما وضع له عقوبة بين حد أدنى وحد أقصى ، أو يكون قد خيره بين أكثر من عقوبة ذات طبيعة ومقدار مختلف. فليس في ذلك عدوان على مبدأ الشرعية ، لأن المشرع هو الذي أناب القاضي في أمر التحديد.
كما على القاضي أن يمتنع عن إعمال القياس في تقرير العقوبات. فالقانون الجنائي لا يعرف التفسير بطريق القياس L'interprétation par l'analogie لا في مقام التجريم ولا مقام العقاب ، فما سكت المشرع عن تجريمه فلا يجرم ، وما سكت عن تحديد عقوبته فلا يتقرر له عقاب ، حتى وإن بدا للقاضي أن هناك تجريم قريب يتحد في العلة مع السلوك الذي لم يوضح له المشرع عقاب. فما ترك على إباحته يظل مباح ، وإلا فتحنا باب التحكم والهوى من قبل القضاء ، ولا يخفى ما لذلك من أثر على حريات وحقوق المواطنين.

96- ثانياً : عمومية العقوبة الجنائية La généralité de la peine :

يقصد بعمومية العقوبة المساواة فيها ، أي سريانها في حق جميع الأفراد دون الأخذ في الاعتبار لتفاوتهم من حيث المكانة الاجتماعية. وهذا ما يسمى في الفقه الجنائي الحديث بمبدأ المساواة في العقاب L'égalité de la punition ، وهو مبدأ لم تكن تعرفه الشرائع القديمة حيث كانت تختلف العقوبات التي توقع على الأشراف عن تلك التي توقع على العبيد. وهذا المبدأ يستمد عموماً من القواعد الكلية للقانون ، التي توجب أن تتصف قاعدة القانون بالعمومية والتجريد.
ولقد حثت الشريعة الإسلامية الغراء على تلك المساواة والعمومية لقول سيدنا رسول الله "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" .
غير أنه لا يوجد تعارض بين هذا المبدأ وبين ما يخوله المشرع للقاضي من امكانية إعمال قواعد التفريد العقابي ، أو ما يسمى بالتفريد القضائي. فالمساواة والعمومية في العقوبة لا تعني وجوب تطبيق ذات العقوبة على كل من يرتكب جريمة من نوع معين. فالقاضي له أن يعمل سلطته التقديرية في وزن العقوبة حسب ظروف الجريمة الموضوعية (المتعلقة بمادياتها) والشخصية (المتعلقة بشخص الجاني). فالمساواة في العقاب تعني أن القاعدة العقابية إذا كانت تقدر عقاباً مشدداً أو مخففاً ، أو تقدر عقاباً بين حد أدنى وحد أقصى ، فإن تلك الأمور تنطبق على الكافة وللكل أن يستفيد من ذات القاعدة.

97- ثالثاً : قضائية العقوبة الجنائية :

إذا كانت شرعية العقاب تعني أن يترك للمشرع وحده أمر تحديد العقوبة كماً ونوعاً ، فإن قضائية هذه الأخيرة تنصرف إلى أن يترك للقاضي وحده أمر تطبيقها. وهذه الضمانة تعد تطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات في مجال القانون الجنائي La séparation des pouvoirs. فالعقوبة بحسبانها نوعاً من الألم وانتقاص للأحد الحقوق اللصيقة بالشخصية الجوهرية ، كان لابد من أن يوكل أمر تطبيقها إلى جهة محددة يتوافر بشأنها ضمانات الحيدة والنزاهة والاستقلال. وهو ما يوجب بداءة أن تكون جهة التطبيق محددة سلفاً في التشريع ، لا أن تخلق خلقاً لمواجهة جرم ما بعينه.
ولهذه الضمانة قيمتها الدستورية في النظام القانوني المصري ، حيث نصت المادة 66/2 من دستور 1971 على أنه "… لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي". وفى ضوء ذلك اعتمد قانون الإجراءات الجنائية في مادته 459 ذات المبدأ حين نص على أنه "لا يجوز توقيع العقوبات المقررة بالقانون لأية جريمة إلا بمقتضى حكم صادر من محكمة مختصة بذلك". وهو ما يستتبع ألا يترك لجهة الإدارة أو بعض الفنيين سلطة تطبيق العقوبات. وغني عن البيان أن القاضي عند تطبيقه للعقوبة يلتزم بذات الالتزامات التي تتفرع عن مبدأ الشرعية والتي أوضحناها سالفا.

98- رابعاً : شخصية العقوبة الجنائية :

يقصد بشخصية العقوبة الجنائية La personnalité de la peine عدم جواز توقيعها إلا على الجاني نفسه مرتكب الواقعة الإجرامية ، فاعلاً كان أم شريكاً. فالمسئولية الجنائية شخصية ، لا تضامن فيها ، والعقوبة التي تترتب على قيامها لها ذات السمة الشخصية. فلا يجب أن تمتد العقوبة أو أثرها - بحسب الأصل وكأمر مقصود - إلى أشخاص آخرين خلاف الجاني ، كأفراد أسرته أو ورثته أو من يربطهم به صله ما.
وهذا المبدأ يعد من ركائز التشريع الجنائي المعاصر حيث لم يكرس تشريعياً إلا من عهد قريب. ففي الشرائع القديمة كانت للعقوبة أثراً ممتداً ، يصيب الجاني نفسه وأفراد أسرته. ففي ظل القانون الفرنسي القديم ، كانت عقوبة التآمر ضد الملك أو الحكومة هى الإعدام والمصادرة لأموال المتآمر وأفراد أسرته ونفيهم خارج البلاد . وكان هذا هو الحال القائم في التشريع المصري في فترة سريان قانون المنتخبات وقبل الإصلاح القضائي في عام 1883 ، فكان العقاب يمتد ، بالإضافة إلى فاعل الجريمة ، إلى شيخه أو على القائممقام حسب الأحوال (م21 من قانون المنتخبات) . ولقد مضت تلك العهود إلى غير رجعة وأصبح مستقراً أن المسئولية الجنائية شخصية ولا تمتد إلى فعل الغير ، وأن العقوبة التي تتولد عنها شخصية ولا تمتد إلى غير الجاني ، حتى ولو كانت العقوبة الجنائية تافهة (كالغرامة البسيطة مثلا). وهذا الأمر هو ما حرص الدستور المصري في المادة 66/1 على التأكيد عليه عندما قال "العقوبة شخصية". كما رددته محكمة النقض المصرية في عبارات بليغة عندما قالت : "من المبادئ الأساسية في العلم الجنائي أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، فالجرائم لا يؤخذ بجريرتها غير جناتها ، والعقوبات شخصية محضة ، لا تنفذ إلا في نفس من أوقعها القضاء عليه. وحكمة هذا المبدأ أن الإجرام لا يحتمل الاستنابة في المحاكمة وأن العقاب لا يحتمل الاستنابة في التنفيذ" .
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية الغراء المشرع الوضعي بكل طبقاته في التأكيد على هذا المبدأ. فقد قال رب العزة "ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً ، ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً" . ويقول المولى عز وجل "كل نفس بما كسبت رهينة" . ويقول الحكم العدل " ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" .
ولما كانت العقوبة شخصية فإن من الطبيعي أنه إذا توفى المتهم من قبل الحكم عليه وأثناء نظر الدعوى فإن تلك الأخيرة تنقضي بوفاة المتهم ، وإذا ما توفى بعد الحكم وقبل التنفيذ ، سقط الحكم وامتنع التنفيذ. كذلك فإن المشرع المصري يمنع تنفيذ حكم الإعدام على المرأة الحامل حتى إلى ما بعد شهرين من الوضع (م 476 إجراءات جنائية) ، حتى لا يؤخذ الوليد بذنب أمه.
ولا يخل بمبدأ شخصية العقوبة كون تلك الأخيرة قد تُحدث في بعض الحالات الفردية أثاراً غير مباشرة تمتد إلى غير الجاني أو المحكوم عليه. فمثلاً كون حكم الإعدام الذي نفذ على شخص قد حرم أسره من عائلها الوحيد الذي كان ينفق عليها لا يعني أن مبدأ الشخصية قد تم المساس به ، فهذه آلام غير مقصودة من المشرع أو من القاضي .

99- خامساً : تفريد العقوبة الجنائية:

يتصل بضمانة العمومية السابق بيانها أن الفقه الجنائي الحديث لم يعد يعرف العقوبة الثابتة أو المحددة تحديداً جامداً. بمعنى أنه إذا كانت العقوبة معروفة مقدماً إلا أنها أصبحت متدرجة من حيث النوع والمقدار حتى تتلاءم مع جسامه الجريمة وخطورة الجاني. هذا الأمر الذي يعرف بتفريد العقوبة الجنائية L'individualisation de la peine. ولهذا التفريد مستويات ثلاثة :

100- أ : التفريد التشريعي:

يكون التفريد تشريعياً L'individualisation législative حين يراعي المشرع في إنشاءه للعقوبة تدريجها بحسب ظروف كل مجرم ، فيفرض على القاضي تطبيق نص معين عقوبته أشد أو أخف من العقوبة العادية المقررة لنفس الفعل إذا وقع في ظروف معينة أو من جناه محددين. ومثال ذلك وجوب تشديد العقوبة إذا اتصل السلوك الإجرامي بواقعة إكراه مادي أو معنوي ( م. 268 عقوبات مصري) ، أو إذا وقع هذا السلوك من طائفة معينة (كالإجهاض الواقع من طيب أو صيدلي أو جراح أو قابلة م. 263 عقوبات مصري). ومثال ذلك تقرير الإعفاء من العقاب في حاله إخبار أحد الجناة عن بقية شركاءه متى أوصل هذا الإخبار السلطات إلى القبض على بقية الجناة (الأمر المقرر في جرائم العدوان على المال العام وجرائم الإرهاب م88 مكرر هـ و م. 101 و م. 118 مكرر ب عقوبات مصري ).

101- ب : التفريد القضائي:

يكون التفريد قضائياً L'individualisation judiciaire إذا تم عن طريق الإنابة من قبل المشرع. فالأخير يضع العقوبة بين حد أدنى وأخر أقصى ثم يترك للقاضي إعمال سلطته التقديرية بين هذين الحدين حسب ظروف الجريمة والمجرم. ومن صور التفريد القضائي أيضاً أن يترك المشرع للقاضي الخيرة بين عقوبتين من نوعين أو درجتين مختلفتين ، كالخيرة بين الإعدام والسجن المؤبد في الجنايات ، أو بين الحبس والغرامة في الجنح ؛ أو إمكانية النزول بالعقاب درجة أو درجتين وفقا لما تقتضيه ظروف الجريمة (م 17 عقوبات مصري). وصورة ذلك أيضاً الحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها أو بنفاذها حسب الأحوال.

102- ج : التفريد التنفيذي:

يكون التفريد تنفيذياً L'individualisation exécutoire حين يتاح للإدارة العقابية نفسها ، حال تنفيذها للحكم الصادر بالعقوبة ، أن تعدل من طبيعة العقوبة أو من مدتها أو من طريقة تنفيذها حسب ما يطرأ على شخصية المجرم ومدى استجابته للتأهيل والإصلاح.
فمثلا إذا كان نوع العقوبة يقتضي تطبيقها في الليمانات فيمكن لجهة التنفيذ بعد فترة أن تنقل المحكوم عليه إلى أحد السجون العمومية إذا رأت أن التطور الايجابي الذي طرأ على شخصيته لم يعد يناسب ظروف الليمانات. ومثال هذا النوع من التفريد أيضاً إمكانية إسقاط الجزء المتبقي من العقوبة بعد فترة من البدء في تنفيذها وفقا لنظام الإفراج الشرطي أو العفو عن العقوبة كلها أو بعضها أو إبدالها بأخف منها ، متى كان سلوك المحكوم عليه ينبئ عن عدم العودة إلى طريق الجريمة مرة أخرى .

103- سادساً : إنسانية العقوبة الجنائية:

يقصد بإنسانية العقوبة الجنائية Peine humanitaire ، ألا يكون للعقوبة أثر سالب لكرامة الإنسان. فليس لكون الفرد قد هوى في طريق الجريمة أن يعاقب ويعامل بما يهدر كرامته وأدميته. وعلى هذا أكدت المادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حينما نصت على أنه "لا يجوز إخضاع شخص للتعذيب أو لعقوبات قاسية أو غير إنسانية أو حاطه بالكرامة". وإلى هذا أشار المشرع الدستوري المصري في عام 1971 في المادة 42 بقوله "كل مواطن….يحبس… تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً. كما لا يجوز… حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون". وهذا أيضا ما رددته المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية حين نصت على أنه "لا يجوز القبض على أي إنسان أو حبسه إلا بأمر… كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً". وإلى هذا استجاب المشرع المصري مؤخراً بإلغائه للمادة 43/7 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 التي كانت تنص على الجلد كعقوبة تأديبية توقع على السجون .
المبحث الثالث

أقسام العقوبة الجنائية

104- تمهيد وتقسيم :

للعقوبة الجنائية أقسام خمسة متنوعة ، فيمكن تقسيم العقوبات حسب جسامتها إلى عقوبات جنايات وعقوبات للجنح وعقوبات للمخالفات ، وهو ما يعرف بالتقسيم الثلاثي للجرائم والعقوبات ، ويمكن تقسيمها حسب الحقوق التي تمس بها - أي من حيث محلها - إلى عقوبات بدنية وأخرى ماسة بالحرية وأخرى سالبة للحقوق أو ماسة بالشرف والاعتبار ، ويمكن تقسيمها حسب مدتها إلى عقوبات مؤبدة وأخرى مؤقتة ، ويمكن تقسيمها - وفق ما أخذ به التشريع المصري - حسب أصالتها أو تبعيتها ، إلى عقوبات أصلية وأخرى تبعية وتكميلية ، وأخيراً يمكن تقسيمها حسب مصدرها إلى عقوبات وضعية وأخرى شرعية. وهذه الأقسام سوف نتناولها بالتفصيل في المطالب التالية.
المطلب الأول

العقوبات الجنائية من حيث جسامتها

أشار المشرع المصري في المواد 10 ، 11 ، 12 من مدونة العقوبات إلى أنواع العقوبات من حيث جسامتها La sévérité des peines ، فقسمها إلى عقوبات للجنايات وأخرى للجنح وأخرى للمخالفات. وقرر بأن عقوبات الجنايات هى الإعدام والسجن المؤبد والسجن المشدد والسجن (م10) . أما عقوبات الجنح فهى الحبس والغرامة التي يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه (م11). بينما تتوحد عقوبة المخالفات في عقوبة واحدة هي الغرامة التي لا يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه (م12).
ويظهر من ذلك أن المشرع يجعل من تقسيم العقوبة معيار لبيان نوع الجريمة ، فلاستكشاف كون الجريمة جناية أم جنحة أم مخالفة يتعين الرجوع إلى مقدار عقوبتها. كما يظهر التقسيم أيضا أن ضابط التفرقة بين الجنح والمخالفات ، إذا كانت العقوبة المقررة هى الغرامة ، هو مقدار هذه الأخيرة. فإن كانت تزيد على مائة جنيه فهى جنحة ، وإن كانت تقل عن ذلك فهى مخالفة.
ويرتب المشرع المصري على هذا التقسيم العديد من الأثار ، يتعلق بعضها بأحكام القانون الجنائي الموضوعي (قانون العقوبات) ، وبعضها الأخر يتعلق بأحكام القانون الجنائي الإجرائي (قانون الإجراءات الجنائية). ومثال ما يتعلق بقانون العقوبات ، أحكام الشروع ، والعود ، ووقف التنفيذ ، وسريان القانون الجنائي من حيث المكان ، والمصادرة، والظروف القضائية المخففة. ومثال أثر هذا التقسيم على الجانب الإجرائي ، تعلق أحكام وضمانات التحقيق الابتدائي ، والادعاء المباشر ، والاختصاص ، ونظام الأوامر الجنائية ، وحق الاستعانة بمحام ، والطعن في الأحكام ، وتقادم الدعوى ، ورد الاعتبار به...الخ.
وقد يثير هذا التقسيم أحد المشكلات الفقهية المتعلقة بتحديد طبيعة الجريمة حينما يقرر لها المشرع عقوبة ثم يسمح للقاضي بإمكانية الحكم بعقوبة أشد أو اخف. فهذه الإجازة التشريعية قد تجعل القاضي يحكم بعقوبة جنحة في جناية ، كحالة اقتران الجناية بعذر قانوني أو بظرف قضائي مخفف (م.17 ، م.251 عقوبات) ، وقد تجعله يحكم بعقوبة الجناية في جنحة ، كما لو كان المتهم عائداً مثلاً (م. 51 عقوبات).
في مثل هذه الأحوال يثور التساؤل حول طبيعة الجريمة ، هل تظل جناية أو جنحة حسب العقوبة المقررة في النص ، أم تتغير طبيعتها حسب ما قد قضى به القاضي من عقوبة. : حول تلك المشكلة تنوعت الآراء على ثلاثة مذاهب : أولها يرى أن الجريمة تظل جناية أو جنحة على حالها وفق ما هو مقرر في النص التشريعي ، على أساس أن العبرة في تحديد طبيعة الجريمة هى بجسامتها الموضوعية لا بما يطرأ من ظروف وأعذار. فهذه الأخيرة أمور استثنائية طارئة لا تغير من جسامة الفعل .
ويذهب الرأي الثاني إلى القول إلى أن طبيعة الجريمة تتحول إلى جناية أو جنحة حسب الأحوال ، على أساس أن المشرع هو مصدر التشديد أو التخفيف ، وهو وحدة الذي قدر أن جسامه الفعل في ظل ظروف وأعذار معينة تبدل تشديداً أو تخفيفاً .
أما الرأي الثالث فيتجه إلى التفرقة إلى ما إذا كان التشديد أو التخفيف يرجع إلى عذر قانوني أم إلى ظرف قضائي. ففي حالة التشديد أو التخفيف لعذر قانوني يتغير نوع الجريمة من جناية إلى جنحة أو العكس ، أما في حالة التشديد أو التخفيف لظرف قضائي فتظل الجريمة على حالها. وعلة هذا أن العذر القانوني يكون وجوبي التطبيق ولا حيله للقاضي فيه ، أي أن المشرع قدر بنفسه أن الفعل مع توافر هذا العذر يجعل الجريمة من طبيعة مختلفة ، وبالتالي فهو لا يقدر للجريمة إلا عقوبة واحدة وهى التي يجب أن تؤخذ في الحسبان. أما في حالة الظروف القضائية المشددة أو المخففة ، فللقاضي السلطة التقديرية في تطبيقها ، فإن أنزل بنفسه الجناية إلى جنحة أو رفع الجنحة إلى جناية كان هذا هو عمله لا عمل المشرع وبالتالي يجب أن تظل الجريمة على حالها .
ونحن نميل إلى تأييد الرأي الأول للاتفاقه مع مبدأ الشرعية ، والذي يمنع أن يتوقف التكيف النهائي للواقعة الإجرامية على عمل ختامي للقاضي ، ألا وهو النطق بالعقوبة. فتحديد الجريمة وأقسامها عمل تشريعي محض لا شأن للقضاء به.
المطلب الثاني

العقوبات الجنائية من حيث محلها

105- تقسيم :

تنقسم العقوبات الجنائية من حيث محلها L'objet de la peine ، أي من حيث الحق الشخصي الذي تمس به، إلى عقوبات بدنية ، وسالبة أو مقيدة للحرية ، وسالبة أو مقيدة للحقوق ، ومالية ، وأخيراً ماسة بالاعتبار.

106- أولاً : العقوبات البدنية :

العقوبات البدنية Peines corporelles نوع من الجزاءات ينصب على جسد المحكوم عليه ، كالإعدام والجلد وقطع اليد أو الأطراف والتعذيب. ولم يعد يبقى في التشريعات الجنائية المعاصرة إلا الصورة الأولى وهى الإعدام ، والتي سنوليها الشرح في صفحات تالية عند بيان الخلاف حول الإبقاء عليها أو إلغائها.

107- ثانياً : العقوبات الماسة بالحرية:

العقوبات الماسة بالحرية Peines touchant la liberté نمط من العقوبات تصيب المحكوم عليه في حريته فتلزمه بأن يقيم في مكان معين أو تفرض عليه قيوداً تحول دون تجواله بحرية. وهذه العقوبات قد تكون سالبة للحرية Peines privatives de liberté ، وقد تكون العقوبات الماسة بالحرية مجرد مقيدة لها Peines restrictives de liberté وليست سالبة.

108- أ : العقوبات السالبة للحرية في التشريع المصري :

العقوبات السالبة للحرية هى تلك التي يقتضي تنفيذها إيداع المحكوم عليه في مكان معين فترة ما من الزمن يحرم خلالها من حريته في التنقل كيف يشاء. وكان المشرع المصري إلى ما قبل صدور القانون رقم 95 لسنة 2003 بشأن إلغاء محاكم أمن الدولة المنشئة بالقانون 105 لسنة 1980 وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات والإجراءات الجنائية ، يدرج بين العقوبات السالبة للحرية عقوبتي الأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال الشاقة المؤقتة ، إلى جانب عقوبتي السجن والحبس (المواد من 10 إلى 19). وبصدور هذا القانون حلت عقوبة السجن المؤبد محل عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة ، بينما استبدلت عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة بعقوبة السجن المشدد ، دون أن يترتب على هذا الاستبدال تغير في مضمون العقوبة أو في مدتها أو في طريقة تنفيذها ، فلا يعدو الأمر إلا إحلال للفظ محل آخر بغية تيسير نفاذ طلبات تسليم المجرمين التي تجريها السلطات المصرية. ومن ثم أصبحت للعقوبات السالبة للحرية في التشريع المصري نماذج أربعة على التفصيل التالي :

109- عقوبة السجن المؤبد :

السجن المؤبد Réclusion à perpétuité ، الذي حل محل عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة ، أول العقوبات السالبة للحرية المقررة للجنايات. وقد عرفته المادة 14 عقوبات المعدلة بالقانون 95 لسنة 2003 بقولها "عقوبة السجن المؤبد هى وضع المحكوم عليه في أحد السجون المخصصة لذلك قانوناً ، وتشغيله داخلها في الأعمال التي تعينها الحكومة ، وذلك مدة حياته إذا كانت العقوبة مؤبدة".
والأصل أن يستغرق السجن المؤبد كل حياة المحكوم عليه بها ، ولكنها تصبح عملياً مؤقتة بتطبيق نظام الإفراج الشرطي ، إذ يجوز وفق شروط معينة الإفراج عن المحكوم عليه بالسجن المؤبد إذا قضى من العقوبة عشرين سنة (م 52/2 من قانون تنظيم السجون).
كما أن الأصل أن تنفذ هذه العقوبة في الليمانات. إلا أن المشرع أعفى فئات معينة من تنفيذها في هذه الأماكن. فنصت المادة 15 عقوبات على أن "يقضي من يحكم عليه بعقوبة السجن المؤبد من الرجال الذين جاوزا الستين من عمرهم ومن النساء مطلقا مدة عقوبته في أحد السجون العمومية". كما أوضحت المادة الثالثة من قانون تنظيم السجون أن "ينفذ المحكوم عليهم بالسجن المؤبد...عقوبتهم في السجون العمومية في الحالات الآتية :
*- الرجال الذين يثبت عجزهم للأسباب صحية عن الخضوع لنظام الليمان؛
*- من أمضى في الليمان نصف المدة المحكوم عليه بها أو ثلاث سنوات أي المدتين أقل وكان سلوكه حسنا خلالها.

110- عقوبة السجن المشدد :

السجن المشدد Réclusion criminelle إحدى العقوبات المقررة للجرائم المعدودة من الجنايات وتقتضي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المخصصة لذلك قانوناً وتشغيله داخلها في الأعمال التي تعينها الحكومة المدة المحكوم بها ، والتي لا يجوز أن تنقص عن ثلاث سنين ، ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً (م. 14 عقوبات معدلة).
وتلك العقوبة ، شأن سابقتها تنفذ بحسب الأصل في الليمانات ، إلا إذا كان المحكوم عليه امرأة ، أو رجلا جاوز الستين من العمر (م. 15 عقوبات) ، أو ثبت ما يفيد صعوبة خضوع المحكوم عليه من الرجال لنظام الليمان لأسباب صحية ، أو ثبت أن سلوكه كان حسنًا وأمضى نصف المدة المحكوم بها أو ثلاث سنوات أي المدتين أقل (م. 3 من قانون تنظيم السجون).

111- عقوبة السجن :

عرفت المادة 16 عقوبات عقوبة السجن La prison ، كعقوبة مقررة للجنايات ، بقولها أنها وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية ، وتشغيله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعنيها الحكومة المدة المحكوم بها عليه. ولا يجوز أن تنقص تلك المدة عن ثلاث سنين ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً".
والسجون العمومية توجد في دائرة كل محكمة ابتدائية وتنفذ فيها عقوبة السجن أو عقوبة السجن المؤبد أو المشدد إذا توافر أحد الظروف التي تقتضى ذلك.

112- عقوبة الحبس :

عقوبة الحبس L'emprisonnement - هى أولى عقوبات الجنح - عرفتها المادة 18 عقوبات بقولها "عقوبة الحبس هى وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه. ولا يجوز أن تنقص هذه المدة عن أربع وعشرين ساعة ولا أن تزيد على ثلاثة سنين إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانوناً".
والحبس نوعان بنيتهما المادة 19 عقوبات : هما الحبس البسيط والحبس مع الشغل. والأول لا يتضمن إلزام المحكوم عليه بعمل داخل أو خارج المؤسسة العقابية. أما الثاني فقد أوضحت الفقرة الثانية من المادة المذكورة أن المحكوم عليهم بالحبس مع الشغل يشتغلون داخل السجون أو خارجها في الأعمال التي تعينها الحكومة. وفى رأينا أنه على المستوى العملي لا فارق بين النوعين إذ غالبا ما يتضمن الحبس البسيط تشغيل المحكوم عليهم في بعض الأعمال. وبالتالي نؤيد الرأي القائل أن نوعا الحبس ليسا إلا أسلوبين للتنفيذ وليسا عقوبتين منفصلتين. فالحبس عقوبة واحدة لها طريقتين في التنفيذ .
والحبس مع الشغل قد يكون عقوبة وجوبية وذلك كلما كانت العقوبة المقضي بها أكثر من سنة وكذلك في كل حالة ينص عليها القانون حتى ولو كانت العقوبة أقل من سنة. ومن ذلك حالات السرقة والشروع فيها (م 317 و318 عقوبات) جريمة تقليد المفاتيح (م/324)…الخ.
والأصل أن تنفذ عقوبة الحبس في السجون المركزية ، إلا أنه يمكن تنفيذها في السجون العمومية وذلك في حالتين :
*- إذا زادت المدة المتبقية للتنفيذ وقت صدور الحكم عن ثلاث شهور (أى بعد خصم هذه الحبس الاحتياطي من مدة العقوبة المحكوم بها) (م/3 – د من قانون تنظيم السجون).
*- إذا لم يكن المحكوم عليه قد أودع من قبل في السجون العمومية أياً كانت مدة الحبس (أي حتى لو كانت أقل من ثلاثة شهور) (م/3 – د من قانون تنظيم السجون).
وقد أوضحت المادة 18 عقوبات في فقرتها الثانية أنه يجوز لكل محكوم عليه بالحبس البسيط لمدة لا تجاوز ثلاثة شهور أن يطلب بدلاً من تنفيذ عقوبة الحبس عليه تشغيله خارج السجن ، إلا إذا نص الحكم على حرمانه من هذا الخيار. وهو ذات الأمر الذي رددته المادة 479 من قانون الإجراءات الجنائية. وعلة هذا النص واضحة وهى الرغبة في تفادى عيوب عقوبة الحبس قصير المدة كما سنوضح بعد ذلك.

113- ب : العقوبات المقيدة للحرية في التشريع المصري (نموذج الوضع تحت مراقبة البوليس):

العقوبات المقيدة للحرية نوع من العقوبات يؤدى إلى وضع قيود على حرية المحكوم عليه في التنقل أو في مزاولة مهنة معينة…الخ. فهى لا تسلب المحكوم عليه حريته تماماً ولكنها تقيد تلك الحرية. ومن أمثلتها تحديد إقامة المهتم في مكان معين أو منعة من ارتياد أمكنة معينة أو الإقامة فيها (م 533 إجراءات جنائية).
ومن أشهر صور العقوبات المقيدة للحرية على الإطلاق في التشريع المصري الوضع تحت مراقبة البوليس والتي بينت المادة 29 عقوبات الأثر المترتب على الحكم بها بقولها "يترتب على مراقبة البوليس إلزام المحكوم عليه بجميع الأحكام المقررة في القوانين المختصة بتلك المراقبة". ثم بينت ذات المادة الأثر المترتب على مخالفة أحكام المراقبة مقررة أنها تستوجب الحكم على مرتكبها بالحبس مدة لا تزيد على سنة واحدة.
والقانون المنظم لهذه المراقبة هو القانون رقم 99 لسنة 1945 وكذلك القانون رقم 24 لسنة 1923 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم. ويظهر من هذين القانونين أن الوضع تحت مراقبة البوليس يفرض عدد من الالتزامات على المحكوم عليه بتلك العقوبة منها : إلزامه باتخاذ محل إقامة محدد توافق عليه الجهات الأمنية ، وأن يتقدم لتلك الجهات في مواعيد معينة ، وعدم مبارحة مسكنة من غروب الشمس إلى شروقها ، إلا إذا أعفى من ذلك بسبب عمله أو لأي سبب أخر تقدره جهة الإدارة. وقد استثنى المشرع من الخضوع لعقوبة مراقبة البوليس الأحداث المشردين الذين لم يبلغوا ثمان عشرة سنة ميلادية (م 14 من القانون 124 لسنة 1949 الخاص بالأحداث المشردين وكذلك المادة الأولى من القانون 31 لسنة 1974 بشأن الأحداث).
وعن طبيعة عقوبة الوضع تحت مراقبة الشرطة يمكن القول بأن لها طبيعة مختلطة. فقد تكون عقوبة أصلية أو تبعية أو تكميلية حسب الأحوال.
فقد يكون الوضع تحت المراقبة عقوبة أصلية - أي يحكم بها وحدها- في جرائم التشرد (م 2/1 ، 3 فترة 2 من مرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945) وجرائم الاشتباه (م6 فقرة أولى وم7 فقرة 2 من ذات المرسوم بقانون سالف الذكر). وحال الحكم بهذه العقوبة وحدها فإنها تصبح مماثلة لعقوبة الحبس في كافة أحكامه (م1 من المرسوم بقانون سالف الذكر) ، بمعنى ضرورة خصم مدة الحبس الاحتياطي من مدة الوضع تحت المراقبة ، وكذلك ضرورة احتساب عقوبة المراقبة سابقة في العود (م49/2 ، 3 عقوبات).
وقد تكون عقوبة المراقبة عقوبة تبعية - أي يجب تنفيذها تابعاً للعقوبة الأصلية ولو لم ينطق بها القاضي - وذلك في حالتين :
*- حالة الحكم بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد أو السجن في جرائم معينة ، كالجنايات المخلة بأمن الحكومة وتزيف النقود أو سرقة أو قتل في الأحوال المبينة في الفقرة الثانية من المادة 234 عقوبات ، أو لجناية من المنصوص عليها في المواد 356 و368 عقوبات (وهى جرائم قتل أو سم الحيوانات والدواب بدون مقتضى وجناية إتلاف المزروعات). وفى تلك الأحوال يوضع المحكوم عليه تحت مراقبة الشرطة مدة مساوية لمدة العقوبة الأصلية المحكوم بها بما لا يزيد على خمس سنوات (م28 عقوبات).
*- حالة المحكوم عليهم بالسجن المؤبد عند العفو عنهم أو إبدال عقوبتهم. وهذا ما أكدت عليه المادة 75 عقوبات حين نصت على أنه "إذا عفي عن محكوم عليه بالسجن المؤبد أو بدلت عقوبته وجب وضعه حتما تحت مراقبة الشرطة مدة خمس سنوات ما لم يكن نص في قرار العفو على غير ذلك". ونرى أن هذا الحكم يمتد إلى حالة المحكوم عليهم بعقوبة الإعدام حال العفو عنهم أو إبدال هذه العقوبة بعقوبة أخف.
وأخيراً قد يكون الوضع تحت مراقبة الشرطة عقوبة تكميلية ، أي كعقوبة تكمل عقوبة أصلية ولا تنفذ إلا عند الحكم بها ، سواء كان هذا الحكم جوازياً أو وجوبياً. وعلى هذا فقد تكون عقوبة مراقبة الشرطة عقوبة تكميلية وجوبية ، أي يلزم القاضي حتماً الحكم بها عند الحكم بعقوبة أصلية ، وذلك في حالات العود إلى التشرد والاشتباه (وفى تلك الحالة لا تقل العقوبة عن سنة ولا تزيد عن خمس سنوات) ( م2/2 و 6/2 من الرسوم سالف الذكر). وقد تكون عقوبة مراقبة الشرطة عقوبة تكميلية جوازية ، أي يكون للقاضي الخيرة في الحكم بها أم لا عند الحكم بعقوبة أصلية ، ومثال ذلك ما جاء بالمادة 320 عقوبات التي تنص على أن المحكوم عليهم بالحبس لسرقة يجوز في حالة العود أن يجعلوا تحت مراقبة البوليس مدة سنة على الأقل أو سنتين على الأكثر. ومثال ذلك أيضا عقاب العود في النصب (م336 عقوبات)، وقتل أو سم الحيوانات دون مقتضى (م 350 عقوبات) ، أو إتلاف المزروعات (م367 عقوبات).
ويؤثر تقسيم مراقبة الشرطة إلى هذه الأنواع الثلاث على تحديد ميعاد بدأ تنفيذها. ففي حالة كونها عقوبة أصلية ، فإنه يبدأ تنفيذها من يوم صدور الحكم بها نهائياً. أما حين تكون عقوبة تبعية أو تكميلية فإنه يبدأ سريانها من تاريخ انتهاء العقوبة الأصلية.
ويذهب الفقه إلى القول بأن عقوبة مراقبة الشرطة لا توقف ولا يقطع تنفيذها حتى ولو بهروب المحكوم عليه أو لوجوده في الحبس خلال فترة منها. ذلك أن علة هذه العقوبة هو منع المحكوم عليه من ارتكاب جريمة خلال مدة المراقبة. وعلى ذلك لو هرب المحكوم عليه بعقوبة المراقبة مثلا أو حبس خلالها ولكنه لم يرتكب خلال فترة الهروب أي جريمة فما المانع من القول بتمام تنفيذها رغم الهروب أو الحبس وانقضاء أجلها .

114- ثالثاً : العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق

العقوبات السالبة أو المقيدة للحقوق Peines privatives au restrictives de droits نوع من الجزاءات يصيب المحكوم عليه في حقوقه المدنية والسياسية. ومثالها الحرمان من التعيين في وظائف الحكومة ، أو التحلي برتبة أو ينشان ، أو الحرمان من حق الانتخاب أو الترشيح له ، أو الحرمان من ممارس مهنة أو عمل معين. ومثالها في القانون المصري ما جاء في المادة 25 عقوبات عندما قررت أن "كل حكم بعقوبة جناية يستلزم حتماً حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا الآتية" :
*- القبول في أي خدمة في الحكومة مباشرة ، أو بصفة متعهد أو ملتزم أياً كانت أهمية الخدمة ؛
*- الحرمان من التحلي برتبة أو نيشان. وهذا الحرمان مؤبد ينصرف إلى الحاضر والمستقبل ، أي إلى ما قد يتحلى به بعد صدور الحكم من رتب ونياشين.
*- الحرمان من الشهادة أمام المحاكم إلا على سبيل الاستدلال. أي تسمع شهادة المحكوم عليه بعقوبة جناية بدون حلف يمين ، ولا يكون لها قوة الدليل في الإدانة أو البراءة . وهذا الحرمان مؤقت بمدة عقوبة الجناية.
*- الحرمان من إدارة أشغاله الخاصة بأمواله وأملاكه. وهو أيضاً حرمان مؤقت بمدة تنفيذ العقوبة الأصلية. وهو حرمان له طبيعة مختلطة إذ ينظر إليه على أنه جزاء إذ يعامل المحكوم عليه معاملة ناقص الأهلية ، وينظر إليه على أنه ضمانة للمحكوم عليه أيضاً حتى يكون هناك مسئول يرعى مصالحة التي صار بحكم سلب حريته عاجزاً عن رعايتها.

115- رابعاً : العقوبات الماسة بالاعتبار :

العقوبات الماسة بالاعتبار نوع من العقوبات التشهيرية Peines humiliants ou infamants يستهدف خدش كرامة المحكوم عليه واعتباره ؛ أي النيل من منزلته ومكانته بين أفراد المجتمع ، وذلك من خلال التشهير به وبجريمته وإعلان عقوبته. ومن أمثلة ذلك نشر الحكم في الصحف أو غيرها من وسائل النشر وإلصاقه على الجدان وفى الأماكن العامة (م198 عقوبات) ، وحرمان المحكوم عليه من تولي الوظائف العامة (م 25/1) ، وحرمانه من الشهادة أمام المحاكم إلا على سبيل الاستدلال (م25/3) ، وحرمانه من التحلي بالرتب والنياشين (م25/2) ، وحرمانه من إدارة أمواله وأملاكه (م25/4).

116- خامساً : العقوبات الجنائية المالية :

117- تقسيم :

العقوبات الماليةPeines pécuniaires نوع من الجزاءات يصيب المحكوم عليه في ذمته المالية فيحرمه من جزء من أمواله ، ويظهر ذلك عن نحو جلي في حالة الحكم بالغرامة أوالمصادرة. وللأهمية هاتين العقوبتين في التطبيق العملي فإننا نوليهما بعض الأهمية على التفصيل التالي :

118- أ : عقوبة الغرامة الجنائية :

119- تعريف الغرامة الجنائية

عرفت المادة 22 عقوبات الغرامة Amende بأنها إلزام المحكوم عليه بأن يدفع إلى خزينة الحكومة المبلغ المقدر في الحكم. ولا يجوز أن تقل الغرامة عن مائة قترش ولا أن يزيد حدها الأقصى في الجنح على خمسمائة جنيه ، وذلك مع عدم الإخلال بالحدود التي يبنيها القانون لكل الجريمة. فهى عقوبة تهدف إلى إيلام المحكوم عليه في ذمته المالية ويلزم هو فقط بأدائها للدولة. وبالتالي تختلف الغرامة عن التعويض المدني على التفصيل الذي سبق وأن أوضحناه.
والأصل في الغرامة أن تكون عقوبة أصلية ، وذلك في الجنح والمخالفات. إلا أنها قد تكون عقوبة تكميلية ، كما هو الحال في الجنايات الخاصة بجرائم الأموال العامة ، كالرشوة والاختلاس والاستيلاء.
والغرامة هى العقوبة الوحيدة للمخالفات ، ولا يزيد أقصى مقدارها على مائة جنيه (م.12). أما الغرامة في الجنح فإنها تزيد على مائة جنيه ، وقد تكون هى العقوبة الوحيدة للجنحة ، وذلك في حالة الجنح التافهة أو قليلة الجسامة. وقد تكون الغرامة إلى جوار الحبس على سبيل الوجوب أو الجواز وقد ينص المشرع عليها على سبيل التخير مع الحبس .

120- أقسام الغرامة الجنائية :

تنقسم الغرامة عادة إلى نوعين : أحدهما الغرامة المحددة أو البسيطة Amende déterminée ou simple والأخرى الغرامة النسبية Amende proportionnelle. والغرامة المحددة أو البسيطة هى التي يتولى أمر تحديد مقدارها المشرع أو يحدد لها حدا أدنى وحدا أقصى تاركاً للقاضي حرية تقديرها.
وقد سبق القول بأن الحد الأدنى العام للغرامة هو مائة قرش ، ويجوز أن يجعل المشرع حدا أدنى أخر أعلى من هذا المبلغ ، وهو الأمر الذي أخذ به المشرع المصري في الجرائم المنصوص عليها في المادة 98 (و) عقوبات التي أضيفت بالقانون رقم 29 لسنة 1982 ، والتي جعلت الحد الأدنى للغرامة ألف جنيه. كما سبق كذلك القول أن الحد الأقصى العام للغرامة في المخالفات هو مائة قرش وفى الجنح هو خمسمائة جنيه.غير أن المشرع قد يخرج عن ذلك ، كما هو الحال في جرائم التعامل غير المشروع في المخدرات حيث قد لا تقل الغرامة عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه (م33 و34 و34 مكرر ، 35 و37 من القانون 182 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989).
أما الغرامة النسبية فهى التي لا يتحدد مقدارها في النص بمبلغ ثابت أو ما بين حدين ثابتين ولكن يجرى ربطها بمقدار الضرر الفعلي أو المحتمل للجريمة ، أو ربطها بالفائدة أو ما كان يطمع الجاني في تحقيقه من كسب مادي أو فائدة.
وقد تكون الغرامة النسبية مطلقة الحدود بأن يترك تحديد مقدارها ابتداًء وانتهاءً ليتحدد وفقاً لحجم الضرر أو الكسب غير المشروع. مثال ذلك ما كانت تنص عليه م 108 عقوبات قبل تعديلها بالمرسوم بقانون رقم 69 لسنة 1953 والتي كانت تقرر للراشي والمرتشي والوسيط عقوبة السجن والغرامة التي تساوى قيمة ما أعطى أو وعد به. ومثال ذلك أيضاً ما تنص عليه حاليا م 118 مكررا (أ) فيما يتعلق بجرائم العدوان على المال العام.
ويمكن للمشرع أن يجعل الغرامة النسبية مقيدة في أحد حدودها ونسبيه في حدها الأخر. مثال ذلك م103 بعد تعديلها بالمرسوم بقانون رقم 69 لسنة 1953 إذ تقرر للرشوة عقوبة السجن المؤبد والغرامة التي لا يقل حدها الأدنى عن ألف جنيه ولا تزيد على ما أعطى أو وعد به.

121- أحكام تنفيذ الغرامة الجنائية :

تخضع الغرامة في تنفيذها لمبدأ الشخصية ، بمعنى ألا يحكم بها إلا على مرتكب الجريمة. فلا يجوز الحكم بها على المسئول عن الحق المدني ولا على ورثة الجاني إذا توفى قبل صدور حكم نهائي في الدعوى الجنائية المقامة ضده. على أنه إذا توفى المتهم بعد صدور الحكم النهائي عليه بعقوبة الغرامة وقبل التنفيذ ، فإنه يجوز التنفيذ في تركته إذا كان قد ترك مالاً يورث وذلك عملاً بالقاعدة الشرعية القائلة "لا تركه إلا بعد سداد الديون". وعلى هذا نصت المادة 535 إجراءات جنائية حين قررت إذا توفى المحكوم عليه بعد الحكم عليه نهائياً تنفذ العقوبات المالية… في تركته.
والأصل ألا تنفذ الأحكام الجنائية إلا إذا صارت نهائية (م 460 إجراءات جنائية). غير أن المشرع قد خرج في أحكام الغرامة عن هذا الأصل العام فنص في المادة 463 على أن الأحكام الصادرة بالغرامة والمصاريف تكون واجبة التنفيذ فوراً ولو مع حصول استئنافها. والحكمة في هذا الخروج أن أحكام الغرامة في حالة إلغائها في الاستئناف فإنه يمكن تداركها برد قيمة الغرامة المدفوعة إلى المحكوم عليه. وهذا الاستثناء - أي التنفيذ الفوري للأحكام الغرامة ولو كان الحكم ابتدائياً - لا ينصرف إلا إلى الأحكام الصادرة حضورياً ، أما الأحكام الغيابية بالغرامة فإنها تعود للأصل العام في تنفيذ الأحكام. وعله ذلك أن الأحكام الغيابية تكون أضعف في الدلالة على صحة ما قضت به من الأحكام الحضورية .
أما عن طرق تنفيذ الغرامة ، فإن هذا التنفيذ قد يجري اختياراً ، أو جبرياً ، أو بطريق الإكراه البدني ، وذلك على النحو التالي :

122- التنفيذ الاختياري :

قد يقوم المحكوم عليه طواعيًا ودون جبر بدفع المبالغ المقضي بها للحكومة. ورغبة من المشرع في التيسير على المحكوم عليه فإنه نص في المادة 510 إجراءات جنائية على أنه "لقاضى المحكمة الجزئية في الجهة التي يجرى التنفيذ فيها أن يمنح المتهم في الأحوال الاستثنائية بناء على طلبه وبعد أخذ رأى النيابة العامة أجلا لدفع المبالغ المستحقة للحكومة ، وأن يأذن له بدفعها على أقساط ، بشرط ألا تزيد المدة على تسعة أشهر ، ولا يجوز الطعن في الأمر الذي يصدر بتبدل الطلب أو رفضه". وعند التأخر في رفع أحد الأقساط فإنها تحل جميعها ، بل ويجوز للقاضي الرجوع فيما أصدره من أن إذا رأى مقتضى لذلك".

123- التنفيذ الجبري :

أجازت المادة 506 إجراءات جنائية من أجل تنفيذ أحكام الغرامة أن يجرى تحصيلها بالطرق المقررة في قانون المرافعات في المواد المدينة والتجارية أو بالطرق الإدارية المقررة لتحصيل الأموال الأميرية المستحقة للحكومة.

124- التنفيذ بطريق الإكراه البدني :

قررت المادة 507 إجراءات جنائية هذا الطريق إذا لم يدفع المتهم المبالغ المستحقة للحكومة. فللنيابة عند عدم الدفع أن تصدر أمراً بالإكراه البدني ، ويكون هذا الإكراه بالحبس البسيط وتقدر مدته باعتبار يوم واحد عن كل خمسة جنيهات (م.511 إجراءات جنائية ). 
وقررت المادة 511 أنه لا تزيد مدة الإكراه البدني في مواد المخالفات عن سبعة أيام للغرامة وفى مواد الجنح والجنايات فإن المدة لا تزيد على ثلاثة أشهر للغرامة. وعلى ذلك إذا تبقى في ذمه المحكوم عليه مبالغ أخرى على سبيل الغرامة بعد استنفاذ هذه المدد فإنه يجري التنفيذ باستخدام الطريق المدني (التنفيذ الجبري) المنصوص عليه في قانون المرافعات.
وقد حظر المشرع اللجوء للإكراه البدني كطريق لتنفيذ الغرامات والمبالغ المحكوم بها للحكومة تجاه المحكوم عليهم الذين لم يبلغوا من العمر خمس عشرة سنة كاملة وقت ارتكاب الجريمة ، ولا على المحكوم عليهم بالحبس مع إيقاف التنفيذ (م 512 إجراءات جنائية). وعلة ذلك أنه متى كانت الدولة قد قدرت أن حالة هؤلاء لا توجب أن يزج بهم في السجن كعقوبة ، فمن باب أولى ألا يلجأ للحبس تحت مسمى الإكراه البدني ، خاصة أن هذا الأخير وسيلة لتنفيذ العقوبة وليس في حد ذاته عقوبة.

125- ب : عقوبة المصادرة:

126- تعريف المصادرة :

المصادرة Confiscation عقوبة مالية تتضمن نقل ملكية المال محل المصادرة جبراً وإضافته إلى ملك الدولة بدون مقابل. وهى بهذا المعنى تشترك مع الغرامة في كونها عقوبة مالية. غير أن المصادرة تختلف عن الغرامة في كون المصادرة عقوبة عينية تنصب على مال بعينه كانت له صله بالجريمة المرتكبة من المحكوم عليه ، أما الغرامة فهو عقوبة نقدية لا ترد على مال بعينه ، فهى لا تنشئ إلا حق دائنية للدولة قبل المحكوم عليه. يضاف إلى ذلك أن المصادرة عقوبة تكميلية بحسب الأصل ، في حين أن الغرامة يمكن أن تكون عقوبة أصلية كما سلف وأوضحنا. كما أن الغرامة قد تعلق بالمخالفات والجنح والجنايات ، أما المصادرة فيقتصر مجالها على الجنح والجنايات فقط.

127- أقسام المصادرة :

المصادرة نوعان ، فقد تكون مصادرة عامة Confiscation générale ، وتعني نزع كل أموال المحكوم عليه لصالح الدولة وبدون مقابل ، وقد تكون المصادرة خاصة Confiscation spéciale حينما تنصب على مال أو أكثر معين من أموال المحكوم عليه سواء آكان منقولاً أو عقاراً.
والنوع الأول تحظره أغلب التشريعات المعاصرة ، ومنها الدستور المصري في مادته رقم 36 عندما قررت أن "المصادرة العامة للأموال محظورة ولا تجوز المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي". والغلة من ذلك أن لهذا النوع من المصادرة أثار خطره ومتجاوزه سواء على المحكوم عليه نفسه أو على من يعولهم أثناء حياته وحرمان ورثته من حقوقهم المتعلقة بأموال المحكوم عليه.

128- طبيعة المصادرة :

يمكن أن ينظر للمصادرة من نواح ثلاث تبرز الطابع المختلط للمصادرة في التشريع المصري : فهى قد تكون عقوبة جنائية ، وقد تكون تدبيراً احترازياً وقائياً ، وقد تكون تعويضا.

129- المصادرة كعقوبة جنائية :

تكون المصادرة عقوبة إذا كان محلها أشياء مما يباح حيازته وتداوله بحسب الأصل. وتكون المصادرة في هذه الحالة عقوبة تكميلية ، والتي قد تكون جوازية ، كما هو الحال في المادة 30/1 عقوبات حين نصت على أنه "يجوز للقاضي إذا حكم بعقوبة لجناية أو جنحة أن يحكم بمصادرة الأشياء المضبوطة التي تحصلت من الجريمة وكذلك الأسلحة والآلات المضبوطة التي استعملت أو التي من شأنها أن تستعمل فيها". كما قد تكون المصادرة عقوبة تكميلية وجوبية كما هو الحال في المادة 110 عقوبات التي توجب الحكم في جميع الأحوال بمصادرة ما يدفعه الراشي أو الوسيط على سبيل الرشوة. وكذلك الشأن أيضا بالنسبة لما نصت عليه المادتان 352-353 عقوبات الواردتان في باب ألعاب القمار واليانصيب والبيع والشراء بالنمرة المعروفة باللوتري.
وقد قيد المشرع المصادرة حال الحكم بها كعقوبة بألا تمس بحقوق الغير حسني النية (م 30/1). ويقصد بالغير هنا من كان أجنبياً عن الجريمة ، أي لم يكن فاعلاً فيها ولا شريكاً. فإذا كان المحكوم في مواجهته بالمصادرة قد باع هذا المال المصادر إلى شخص من الغير ، فإن هذا المال يؤول للدولة محملة بحق الملكية المقرر للغير حسن النية.

130- المصادرة كتدبير احترازي وقائي :

تكون المصادرة تدبيراً وقائيا إذا انصبت على مال مما يعد صنعه أو استعماله أو حيازته أو بيعه أو عرضه للبيع جريمة في ذاته. وهذا ما أشارت إليه الفقرة الثانية من المادة 30 عقوبات عندما أوجبت المصادرة عند ثبوت أن الشيء المصادر يثبت بشأنه أحد الأشكال السالفة ، وذلك حتى ولو لم يكن الشيء مملوكا للمتهم. وهذا الامتداد الأخير يكشف عن طبيعة المصادرة كتدبير ، إذ لو كانت عقوبة هنا لما امتدت إلى أموال غير المتهم.
والمصادرة في تلك الحالة وجوبية دائماً ، نظرا لطبيعتها الخاصة. كما أنه يحكم بها حتى مع الحكم بالبراءة أو بسقوط الدعوى العمومية لوفاة المتهم أو صدور عفو عن جريمته. لأن الهدف منها هو منع تداول أشياء ذات طبيعة خطره.

131- المصادرة كتعويض :

قد يقصد بالمصادرة تيسير سداد التعويضات المحكوم بها للمدعي. وهذا ما جاء على سبيل المثال في المادة 36 من القانون 57 لسنة 1939 الخاص بالبيانات والعلامات التجارية والتي يجرى نصها على النحو التالي "يجوز للمحكمة في أية دعوى مدنية أو جنائية أن تحكم بمصادرة الأشياء المحجوزة أو التي تحجز فيما بعد للاستنزال ثمنها من التعويضات أو الغرامات أو التصرف فيها بأية طريقة أخرى تراها المحكمة مناسبة".
والواضح من هذا النص أن حكم المصادرة قد يصدر من المحكمة المدنية أو الجنائية ، دون تقيده في الحالة الأخيرة بصدور حكم بالإدانة قبل المحكوم تجاهه بالمصادرة.
المطلب الثالث

العقوبات الجنائية من حيث مدتها

132- تقسيم :

يقسم الفقه الجنائي العقوبة من حيث المدة La durée de la peine إلى عقوبات مؤبدة وأخرى مؤقتة وأخرى غير محددة المدة. وهذا التقسيم لا يتعلق إلا بصنف معين من العقوبات وهى العقوبات الماسة والسالبة للحقوق والمزايا. أما عقوبة الإعدام والمصادرة والغرامة والإزالة ونشر الحكم وغلق المنشأة…الخ فلا محل لتقسيمها من حيث المدة.

133- أولاً : العقوبات الجنائية المؤبدة :

العقوبة المؤبدة Peine perpétuelle هى التي يستغرق تنفيذها كل حياة المحكوم عليه ، أي يكون لها صفة الدوام فلا تنقضي مهما مضى من زمن. ومثال ذلك السجن المؤبد ، فهو يمتد بحسب الأصل طيلة حياة المحكوم عليه. ومثال ذلك أيضا حرمان المحكوم عليه من تقلد وظائف الحكومة أو التحلي بالرتب والنياشين ، وحرمانه من عضوية المجالس الحسبية والمحلية واللجان العامة متى كان الحكم صادراً عليه بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد. فهذه النماذج من العقوبات التبعية تمتد إلى نهاية حياة المحكوم عليه (م25 عقوبات فترة أولى وثانية وسادسة) .
وحينما تكون العقوبة مؤبدة فإن المشرع يستهدف بها إنفاذ الهدف الاستئصالي للعقوبة ، بمعنى الخلاص من المجرم بإبعاده عن المجتمع. ولذلك فإن هذا النمط من العقوبات لا يتقرر إلا في الجرائم الخطيرة وقبل عتاة الإجرام الذين لا يرجى صلاحهم.
وقد انتقد البغض فكرة العقوبة المؤبدة ، على أساس أنها تفقد المحكوم عليه كل أمل في العودة للحياة الاجتماعية الطبيعية ، وبالتالي لا يكون لديه الوازع للإصلاح والتأهيل. يضاف إلى ذلك أن تلك العقوبات تجعل المجرم لا يخشى شيئاً إن ارتكب جريمة تالية حتى داخل المؤسسة العقابية ، كالاعتداء على زملائه أو على الحراس أو على رجال الإدارة بالسجن ، إذ أن العقوبة المؤبدة تستغرق بطبيعة الحال كل عقوبة مؤقتة قد يحكم بها.
وكان لهذه الانتقادات أثرها في توجيه نظر المشرع الجنائي نحو ابتداع أساليب معاملة عقابية تفريدية تقضى على مثل تلك العيوب. ومثال ذلك الأخذ بنظام الإفراج الشرطي ، بحيث تتحول العقوبة المؤبدة إلى عقوبة مؤقتة بعد فترة زمنية من التنفيذ إذا ثبت أن المحكوم عليه قد تحسن سلوكه وأصبح مقبلاً على برامج الإصلاح والتأهيل.

134- ثانياً : العقوبة المؤقتة :

تكون العقوبة مؤقتة Peine temporelle متى كان لها مدة محددة تنتهي العقوبة بانتهائها. فهى لا تستغرق حياة المحكوم عليه ، بل لها مقدار زمني معين. وتدخل معظم العقوبات المتعارف عليها في هذا النوع. فالسجن المشدد والسجن لهما حد أدنى هو ثلاث سنوات وحد أقصى خمس عشرة سنة. أما الحبس فيتراوح بين حد أدنى 24 ساعة وأقصى ثلاث سنوات. وكذلك فإن مراقبة البوليس لا يتجاوز حدها الأقصى خمس سنوات. أما عقوبة العزل فلا تقل عن سنة ولا تزيد على 6 سنوات (م26/2 عقوبات).
وهناك عقوبات تبعية تدخل ضمن العقوبات المؤقتة أو محددة المدة. مثال ذلك حرمان المحكوم عليه من الشهادة أمام المحاكم إلا على سبيل الاستدلال أو حرمانه من إدارة أمواله أو التصرف فيها ، أو حرمانه من عضوية المجالس الحسبية والمحلية واللجان العامة عند الحكم بعقوبة جناية (م25/3 ، 4 ، 5).

135- ثالثاً : العقوبة غير محددة المدة :

العقوبة غير محددة المدة Peine indéterminée هى العقوبة التي يقتصر فيها القاضي على تقرير الإدانة ووضعه في المؤسسة العقابية دون أن يحدد في حكمه مدة للمحكوم عليه ، تاركاً أمر تحديدها فيها بعد إلى السلطة القائمة على التنفيذ ، في ضوء ما يظهر من تحسن على سلوك المحكوم عليه. فإما أن تفرج عنه أو تستمر في التنفيذ لفترات أخرى غير محددة. وعلى هذا تختلف العقوبة غير محددة المدة عن العقوبة المؤبدة في كون الأخيرة محددة سلفا من القاضي بمدة حياة المحكوم عليه ، وبانتهاء هذه الحياة تنهي العقوبة.
وقد ظهرت فكرة المناداة بهذه العقوبات تحت تأثير أفكار المدرسة الوضعية الإيطالية. كما دعت إليها المؤتمرات الدولية في واشنطن عام 1910 ولندن عام 1925 ، كما بدأت تقرها بعض التشريعات تجاه مرضى العقول وصغار المجرمين الذين يرجى علاجهم وإصلاحهم .
ومن أجل محاولة الحد من الاعتراضات التي قيلت في شأن هذا النوع من العقوبات ، من حيث كونها تمثل اعتداء على حريات الأفراد خاصة عندما تفوض السلطة التنفيذية في تقدير مدة العقوبة ومدى صلاح المحكوم عليه من عدمه ، رغم أن هذا التفويض لا يجب أن يتم حيث أن العقوبة قضائية ولا يملك القاضي أن يفوض أحداً في ذلك ، رؤي ألا يكون عدم تحديد المدة مطلقاً بل يكون نسبياً ، حتى لا يترك المحكوم عليه تحت رحمة السلطة المنوط بها أمر الإفراج عنه. ويكون ذلك بفرض حدين للمدة ، حد أدنى لا يخلى سبيل المحكوم عليه قبل انقضائه ، وحد أقصى يخلى سبيل المحكوم عليه عند بلوغه. كما رؤي أن يسند أمر تقرير الإفراج من عدمه إلى السلطة القضائية ، لما يشوب عمل السلطة التنفيذية من انحراف وسوء تقدير. ويفضل دائماً أن تكون السلطة صاحبة الحق في تقرير الإفراج هى ذات المحكمة التي أصدرت حكم الإدانة مع امكان الاسترشاد برأي جهة الإدارة العقابية.
وقد أخذ المشرع المصري بفكرة العقوبة غير محددة المدة ، سواء المطلقة أو النسبية ، وذلك في حالتين :
*- حالة الأحداث المجرمين : وهذه الحالة نموذج لعدم التحديد المطلق للمدة ، حيث نص قانون الأحداث لسنة 31 لسنة 1974 في المادة 13 منه على أن يكون الإيداع في إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية. وإذا كان الحدث ذا عاهة يكون الإيداع في معهد مناسب لتأهيله، ولا تحدد المحكمة في حكمها مدة الإيداع. وبهذا الحكم أخذت المادة 107 من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996.
*- حالة الأحداث المشردين : وهذه الحالة مثال للعقوبة غير محددة المدة إلا أن عدم التحديد نسبي ، حيث نص القانون 2 لسنة 1908 في شأن الأحداث المشردين ومن بعده القانون رقم 124 لسنة 1949 والقانون 31 لسنة 1974 والقانون 12 لسنة 1996 في شأن الطفل (م 107/2 ، 108) على ألا يزيد الإيداع عن مدد معينة ، على أن ينتهي حتما ببلوغ المحكوم عليه الحادية والعشرين من عمره (م 110 من قانون الطفل) ، وذلك بصرف النظر عن مدة التدبير المحكوم به.
المطلب الرابع

العقوبات الجنائية من حيث أصالتها

136- تقسيم :

طبقاً لهذا التصنيف تنقسم العقوبة إلى عقوبات أصلية Peines principales ، وأخرى تبعية Peines accessoires وثالثة تكميلية Peines complémentaires.

137- أولاً : العقوبات الأصلية :

العقوبة الأصلية هى العقوبة التي تكفي بذاتها لأن تكون الجزاء الوحيد المقابل للجريمة. فهي العقوبة الأساسية التي يلتزم القاضي بالنطق بها صراحة في الحكم وتحديد نوعها ومقدارها دون أي عقوبة أخرى. وقد عرفتها محكمة النقض بقولها أن العقوبة تعتبر أصلية إذا كونت العقاب الأصلي والمباشر للجريمة ووقعت منفردة دون أن يعلق القضاء بها على حكم بعقوبة أخرى .
والعقوبات الأصلية في القانون المصري هى العقوبات الواردة بالمواد 10 إلى 12 عقوبات، أي الإعدام والسجن المؤبد والمشدد والسجن والحبس والغرامة. كما تعتبر مراقبة البوليس عقوبة أصلية في بعض الجرائم الخاصة بالتشرد والاشتباه. على أن يلاحظ أن الغرامة هى العقوبة الأصلية في الجنح والمخالفات فقط. كما أن إدراج العقوبة في طائفة العقوبات الأصلية يجعلها سابقة في العود دون الأنواع الأخرى من العقوبات .

138- ثانياً : العقوبات التبعية :

العقوبة التبعية نوع من العقوبات التي لا تكفي بذاتها لأن تكون جزاء للجريمة ، لذا فهي تتبع الحكم بعقوبة أصلية وتدور في فلكها وجوداً وعدماً. وهذه التبعية تكون بقوة القانون ودون الحاجة إلى أن يذكرها القاضي صراحة في الحكم. فإذا ما فرض وبينها القاضي فإنه لا يضيف إلى حكمه شيئاً لأن السلطة القائمة على التنفيذ كانت ستنفذها حتى وإن أغفلها القاضي.
ومن أمثلة العقوبات التبعية العقوبات المنصوص عليها بالمادة 25 من قانون العقوبات المصري التي توجب حتماً أن يحرم كل محكوم عليه بعقوبة جناية من بعض الحقوق والمزايا. كذلك فإن مراقبة البوليس عقوبة تبعية في الأحوال المنصوص عليها في المادة 28 والمادة 75 عقوبات مصري ، وكذلك العزل في الأحوال المنصوص عليها في المادة 26/1 من مدونة العقوبات.

139- ثالثاً : العقوبات التكميلية :

العقوبة التكميلية - شأنها شأن العقوبة التبعية – لا تكفي بذاتها لأن تكون الجزاء المباشر للجريمة. فلا يقضى بها إلا إلى جانب عقوبة أصلية ، مع ضرورة أن يذكرها القاضي في حكمه ، فإن أغفلها فلا يجوز تنفيذها. وهذا هو ما يفرقها عن العقوبة التبعية. فهي – كما تقول محكمة النقض "أنها تحمل في طياتها فكرة رد الشيء إلى أصله وأنها عقوبات نوعية مراعى فيها طبيعة الجريمة" .
والعقوبة التكميلية قد تكون وجوبية ، أي يتعين على القاضي الحكم بها وإلا اعتبر حكمه معيباً. ومثال ذلك العزل من الوظائف الأميرية في الأحوال المنصوص عليها في المادة 27 عقوبات ، والمصادرة وفق المادة 30/2 عقوبات. ويمكن أن تكون جوازية ، بحيث يكون للقاضي الخيرة في النطق بها من عدمه اكتفاء بالعقوبة الأصلية. ومن أمثلة هذا النوع مراقبة البوليس في الجنح المنصوص عليها في المواد 320 و336 و355 و367 عقوبات. ومن قبيل ذلك أيضاً المصادرة إذا كان محلها أشياء تحصلت عن الجريمة أو أسلحة أو آلات استعملت أو كان من شأنها أن تستعمل في ارتكابها (م. 3/1). وكذلك عقوبة النشر الحكم في الصحف (م 198).
المطلب الخامس

العقوبات الجنائية من حيث مصدرها

140- تقسيم :

تنقسم العقوبات حسب مصدرها إلى عقوبات وضعية وأخرى شرعية. وأساس هذا التقسيم هو الجهة المنشئة للعقوبة وقواعد تنفيذها.

141- أولاً : العقوبات الوضعية:

العقوبات الوضعية Les peines positives هى الجزاءات التي يجرى سنها وتنفيذها وفق قواعد ونظم بشرية محضة. ومثالها الإعدام والسجن المؤبد والمشدد والسجن والحبس… الخ. وقد سبق لنا بيان بعض أحكام هذه العقوبات في بعض مواضع هذا المؤلف فنحيل القارئ الكريم إليها.

142- ثانياً : العقوبات الشرعية :

143- تمهيد وتقسيم :

العقوبات الشرعية Les peines islamiques هى جزاءات تحددت نوعاً ومقداراً من قبل الشارع الحكيم عز وجل في قرآنه أو في سنة رسوله أو إجماع الأمة ممثلة في علمائها. وعن هذا النوع الأخير تتغافل البلدان الإسلامية حالياً ، ماعدا القليل النادر منها كالسعودية وإيران وبعض ولايات السودان. وتنقسم العقوبات الشرعية إلى عقوبات حدية ، وإلى قصاص ودية ، وإلى عقوبات تعزيرية .

144- أ : العقوبات الحدية :

العقوبات الحدية هي العقوبات التي فرضت من قبل المولى عز وجل مقدرة وواجبة لعدوانها على حق من حقوق الله خالص أو على حق مشترك بين الله والعبد ولكن حق الله فيه غالب . وهى عقوبات لا يجوز فيها التبديل فيها بالزيادة أو النقص ولا يمكن تعديل نوعها ولا تقبل السقوط لا من قبل الأفراد ولا من الجماعة ، وهذا هو عله تعلقها بحق من حقوق الله. فهى ما شرعت من الله إلا لمصلحة المجتمع والناس كافة ودرءً للفساد عن دار الإسلام عامة. وتسمى الجرائم التي تتقرر لهل هذه العقوبات بجرائم الحدود وهي الزنا والسرقة وشرب الخمر والحرابة والقذف والردة والبغي .
وتتنوع العقوبات الحدية بين الرجم ، والقتل ، والجلد ، وقطع الأطراف ، والنفي ، وعدم قبول الشهادة.

145- الرجم :

الرجم هو أحد العقوبات المقررة للزاني المحصن ، لقول الرسول (ص) "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلا البكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" . وقوله (ص) لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى بثلاث ، الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" . وقد ثبت أن الرسول (ص) قد أمر برجم ماعز والغامدية عندما ثبت عليهما ارتكاب الزنا باعترافهما .

146- القتل :

القتل هو أولى عقوبات الحرابة ، والتي قد تتحقق بأخذ المال على سبيل المغالبة مع القتل ، وقد تتحقق بالقتل إذا هدف المجرم إلى أخذ المال على سبيل المغالبة دون أن يأخذ مالاً بالفعل ، وقد تتحقق بأخذ المال على سبيل المغالبة دون قتل النفس ، وقد تتحقق فقط بإخافة السبيل ، أي بتهديد الطريق دون أن يأخذ مالا أو يقتل نفسا . والحرابة جريمة أقرب في كثير من جوانبها للسرقة بالإكراه المعرفة في القوانين الوضعية.
وقد ثبت القتل كعقوبة لجريمة الحرابة بالقرآن ، لقوله تعالى " إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" . ويتفق الجمهور أن القتل كعقوبة للحرابة لا تتقرر إلا في حالتين فقط ، هما حالة خروج قاطع الطريق لأخذ المال عنوة وعلى سبيل المغالبة فيأخذه ويقتل نفساً ، وحالة خروج المحارب لأخذ المال بالقوة فيقتل في سبيل ذلك نفساً دون أن يأخذ المال بالفعل .
والقتل أيضاً عقوبة جريمة الردة ، أي رجوع المسلم البالغ العاقل عن الإسلام باختياره من غير إكراه بالقول أو بالفعل أو بالامتناع عن فعل. وبالجملة إنكار وجحود المعلوم من الدين بالضرورة . ولقد ثبت حد الردة بالسنة لقوله (ص) "من بدل دينه فاقتلوه . وقوله (ص) "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني ، والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" . كما روى عن جابر رضي الله عنه أن امرأة تدعى أم رومان ارتدت عن الإسلام فلما بلغ أمرها رسول الله (ص) أمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" .
كما أن القتل عقوبة حدية لجريمة البغي. ويتفق جمهور الفقهاء على تعريف البغي بأنه "خروج فئة من المسلمين على الإمام بتأويل معين في الدين غير مقطوع بفساده ، مستخدمه في هذا الخروج القوة والمنعة والقتال" .
ولقد ثبت القتل عقاباً للبغي والبغاة بالقرآن لقوله تعالى " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" . ويباح قتل البغاة إلى الحد الذي يردعهم ويكسر شوكتهم ، فإن ظهر عليهم الحاكم وتغلب عليهم عصمت دمائهم وأموالهم، ويمكن للحاكم فقط أن يوقع عليهم عقوبة تعزيرية .

147- الجلد :

عقوبة الجلد إحدى عقوبت الحدود الأصلية المقدرة لجرائم كثيرة منها :
*- زنا غير المحصن : لقوله تعالى "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" .
*- جريمة القذف : أي الرمي بالزنا أو نفى النسب لقوله تعالى " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" .
*- شرب الخمر : وقد ثبتت حرمتها بالقرآن والسنة . أما عقوبتها فقد ثبتت بالسنة لقول أنس وأبو هريرة رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين" . وقال على رضوان الله عليه وآله عندما سئل في حد شرب الخمر أنه "إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحده حد المفترى (القاذف) . والثابت لدى الأحناف والحنابلة والمالكية هى الجلد ثمانون جلده للروايات السابقة. أما الشافعية فيرون أنها أربعين جلده فقط .

148- قطع الأطراف :

قطع الأطراف عقوبة حدية مقدره لعدد من الجرائم الماسة بحقوق الله منها :
*- السرقة : لقوله تعالى " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" . ويتفق الفقهاء على أن المقصود باليد في الآية هى الأطراف عموماً. فالسارق لأول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع ، أي من مفصل الكتف ، فإن عاد وسرق ثانية قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب. فإن عاد وسرق ثالثة فلا قطع فيه وإنما يعزر بالحبس مدة غير محددة .
*- الحرابة : قطع الأطراف إحدى عقوبات الحرابة بعد القتل والصلب لقوله تعالى " إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" .

149- النفي :

عقوبة النفي عقوبة حدية قد تكون أصلية ، وذلك في جريمة الحرابة لقوله تعالى في سورة المائدة (آية 33) "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ". وقد تكون عقوبة النفي عقوبة تبعية ، بمعنى أنها تكون تابعة لعقوبة أخرى أصلية. وقد ثبت ذلك في حد الزنا بالحديث الذي رواه عباده بن الصامت أن رسول الله (ص) قال "خذوا عنى فقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" .

150- المنع من الشهادة :

المنع من الشهادة عقوبة حدية تبعية مؤبدة في جريمة القذف ، أى الرمي بالزنا أو نفي النسب. وذلك لقوله تعالى "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" . وهذه العقوبة حدية لكون المولى والشارع الحكيم هو الذي قدرها لتعلقها بحدود وحقوق الله. أما كونها تبعية مؤبدة فذلك لأنه يتوقف الحكم بها على عقوبة أصلية وهي الجلد ثمانون جلده في القذف ، ولأنها تستغرق طيلة حياة المحكوم عليه (القاذف).

151- ب : القصاص والديه :

القصاص والدية نوع من العقوبات المقدرة شرعاً والتي يطلب توقيعها المجني عليه أو ولي دمه ، إذا انصب الاعتداء على حق خالص للعبد أو على حق مشترك بين الله والعباد ولكن حق العبد فيه غالب. وتعلق هذه العقوبات بحقوق العباد يعطي للمجني عليه أو وليه حق العفو بإسقاط العقوبة.
وعقوبة القصاص والديه تسري في حالة توافر إحدى الحالات التالية :
*- القتل العمد : أي الاعتداء الذي يقصد به الجاني إزهاق روح إنسان أخر وذلك باستعمال أداة من شأنها أن تؤدي إلي ذلك في الغالب كالسكين والرمح...الخ . وثبت القصاص بسند من القرآن لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" .
*- القتل شبه العمد : أي الاعتداء الذي يقصد به الجاني الضرب أو الجرح دون إزهاق الروح ولكنه يفضى إلى ذلك (أي أنه الضرب أو الجرح المفضي إلى موت المعروف في القانون الوضعي). وفيه توجب الدية لقول الرسول (ص)" عقل "أي دية" شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه". والدية عبارة عن مقدار مالي يؤدى على سبيل العقوبة والتعويض. فالدية عقوبة لأن الحكم بها غير متوقف على طلب المجني عليه ولا وليه. وللدية صبغة التعويض لكونها تدخل ذمة المجني عليه أو ورثته لا خزانة الدولة أو بيت المال ، ولكونها تسقط بتنازل المجني عليه ، ولكون مقدارها يتوقف على جسامة الضرر ، فتكون الدية مغلظة في حالة القتل العمد الذي لا قصاص فيه والقتل شبه العمد وتكون الدية مخففة في حالة القتل الخطأ .
*- القتل الخطأ : وهو الذي لا تنصرف فيه إرادة الجاني إلى العدوان إطلاقاً. وهو على ثلاثة أنواع : إما الخطأ في القصد ، كأن يرمى إنسانا شيئا يظنه صيداً أو نحوه فإذا هو إنسان، وإما الخطأ في الفعل ، كأن يرمي إنساناً صيداً فيخطئه ويصيب إنسان ، وإما الخطأ بالتسبب ، كمن يحفر حفره في طريق للأغراض الصرف مثلاً فيسقط فيها أحد المارة فيموت . ولا يجب في القتل الخطأ القصاص وتجب فيه الدية لقوله تعالى " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" . ولقول المصطفى (ص) "العمد قود - أي قصاص - إلا أن يعفو ولى المقتول" . ويفهم من ذلك أن ما دون العمد لا قصاص فيه ومن ثم تجب الدية.
*- الجناية على ما دون النفس عمدا : ويقصد بالجناية على ما دون النفس عمداً كل أنواع الضرب والإيذاء المقصود والتي تصل إلى حد القتل العمد أو شبه العمد. مثال ذلك حالات بتر الأطراف أو فقد عضو بالجسم كالأذن اوالعين أوالتذوق ...الخ. وتتمثل عقوبة هذا الجرم في القصاص المتماثل لقوله تعالى " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" . والعفو في القصاص جائز اكتفاءً من المجني عليه بالدية. بل أن لهذا الأخير أن يعفو عن القصاص والدية ، تاركاً الجاني للأمر الحاكم إن شاء أن يوقع عليه عقوبة تعزيرية.
*- الجناية على ما دون النفس خطأ : ويقصد بهذا النوع من الجرائم كل إيذاء بالضرب ونحوه يمس بسلامة الجسم أو عضو من أعضائه دون توافر القصد في الإيذاء. ولا قصاص في الخطأ ، قتلاً كان أم إيذاء ، مما يوجب الدية فقط ، والتي يختلف مقدارها حسب جسامة الضرر الناشئ عن الجناية . وقد يلحق القصاص الدية بعض العقوبات التبعية مثال ذلك وجوب حرمان القاتل من الميراث متى كان بالغاً ورشيداً لقوله (ص) "لا ميراث لقاتل".

152- ج : العقوبات التعزيرية :

العقوبات التعزيرية نوع يقابل الجرائم التي لا حد فيها ولا قصاص ولا دية. وسميت عقوبات تعزيرية لأنها من شأنها أن تدفع الجاني وترده عن ارتكاب الجرائم أو العودة لاقترافها . وأمر تحديد هذه الجرائم وكذلك عقوباتها موكول إلى الحاكم يقدره حسب تطور المجتمع الإسلامي ومدى الحاجة لحمايته من أنماط الإجرام الحديث. لذا فإن جرائم التعازير غير محددة فيدخل فيها كل الجرائم التي لا تجتمع فيها شروط الحد وكذلك أشكال الجرائم البعيدة عنها كالرشوة وخيانة الأمانة والسب والربا والغش التجاري .
وعلى هذا تقوم سياسة التجريم والعقاب في الفقه الإسلامي على نظام يجمع بين الثبات والمرونة أما الثبات فينحصر بشأن الجرائم والعقوبات الحدية وهي جنايات (جرائم) لا تتغير بتغير الزمان والمكان ، وقد أوجبها الشرع لعدوانها على حق من حقوق الله ولصيانة المجتمع ككل. أما المرونة فتتمثل في الجرائم والعقوبات التعزيرية الموكول أمر تحديدها إلى ولي الأمر وفقاً لما يراه صالحاً للأمة ، ووفقاً لما قد يطرأ على المجتمع الإسلامي من تغيرات نتيجة لتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية . ونود أن نشير إلى أنه من خلال الأنواع المختلفة من العقوبات الشرعية يحقق النظام الجنائي الإسلامي أهداف العقوبة مجتمعه كما حددتها النظريات الوضعية في العقاب وهى الردع العام والردع الخاص والعدالة. بل لا نشك في أن تلك الأهداف تتحقق على نحو أفضل في ظل النظام الجنائي الإسلامي إذا ما قورن بغيره من الأنظمة الوضعية. وجسامة العقوبات المقررة في التشريع والفقه الإسلامي ، فضلاً عن فورية تنفيذها وعلانيته أمر فيه الكفاية لتحقيق الردع العام والخاص. غير أن الأهداف الأخرى للعقوبة ليست ببعيدة عن النظام العقابي الإسلامي.
فالإسلام ينشد الإصلاح والتأهيل ويظهر ذلك سواء من حيث طبيعة العقوبة أو من حيث أسلوب تنفيذها. فالنفي مثلاً كعقوبة مقررة لجريمة الحرابة يستمر إلى أن ينصلح أمر الجاني المحارب. كما أن عقوبات القطع والجلد تنفذ بما يزجر الجاني لا بما يهلكه. فالعقوبات الإسلامية - وإن كانت بدينة – تترك للفرد فرصة البحث عن مصدر رزقه واستمرار اتصاله بأسرته فيرعاهم مادياً ومعنوياً. ويكفينا دليل على نشدان الإسلام للإصلاح أن إقامة الحد أو القصاص والدية إنما تتم بدافع التطهير من الذنب حتى يعود المجرم عضواً نافعاً في المجتمع.
وعدل الإسلام لا يعلوه عدل. فالعقوبة في الإسلام تنشد العدالة ، وذلك عن طريق إقرار القصاص من أجل إرضاء شعور المجني عليه وإطفاء نار الثأر والانتقام بداخله. وإذا كانت التشريعات الوضعية تتفاخر بأخذها بمبدأ "أن الأصل في الإنسان البراءة" ، وأنه لا عقوبة إلا على أساس الإدانة اليقينية ، فإن سيد الخلق (ص) قد سبق الفقه الوضعي في المناداة بذلك حينما قال الرسول الكريم (ص) ادرءوا الحد عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلو سبيله ، فإن للإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة". فالأصل الذي لا يقبل استثناء أن الحدود تدرأ بالشبهات ولا حد عند الظن ، ويكفي هذا دليل على عدالة الإسلام وسياسته العقابية .
المبحث الرابع

إشكاليات العقوبة الجنائية

153- تمهيد وتقسيم :

أياً ما كان التقسيم المعتمد للعقوبة ، فإن بعض العقوبات قد أثارت عند تطبيقها العديد من المشكلات والجدل الفقهي ، وقد حدث ذلك على الأخص بالنسبة لعقوبة الإعدام وللعقوبات السالبة للحرية. وعرض المشكلات التي تتعلق بهذين النوعين من العقوبات هو مانسوف نفصله في المطلبين التاليين.
المطلب الأول

إشكالية عقوبة الإعدام

154- تمهيد وتقسيم :

الإعدام Peine de mort هو أخطر وأشد أنواع العقوبات الجنائية على الإطلاق ، إذ يتضمن إزهاق الروح والحرمان من الحق في الحياة. تلك الجسامة دفعت المشتغلين بالحقل الجنائي إلى إثارة الجدل حول إبقاء أو إلغاء تلك العقوبة. ويتنازع الفقه الجنائي اتجاهين في ذلك ، أحدهم مؤيد للإبقاء عليها والأخر معارض يدعو إلى إلغائها . ومن وراء الفقه تنازعت التشريعات فمنهم من أبقى عليها (كالتشريع المصري) ، ومنهم من ألغاها (كبعض الولايات الأمريكية وفرنسا وإيطاليا وسويسرا وغيرها). وتتجه المواثيق الدولية إلى التأكيد على ضرورة إحاطة هذه العقوبة بالضمانات الكافية في البلدان التي أبقت عليها.
ولبيان إشكالية عقوبة الإعدام يجدر بنا أولاً أن نبين الجدل الفقهي حول عقوبة الإعدام ، ثم بعد ذلك نوضح ضمانات تنفيذ هذه العقوبة حال الأخذ بها.

155- أولاً : الجدل الفقهي حول عقوبة الإعدام :

156- تمهيد وتقسيم :

ظلت عقوبة الإعدام محتفظة بضرورتها العقابية في الردع فيما قبل القرن الثامن عشر. فجان جاك روسو دعا إلى الاحتفاظ بتلك العقوبة بحسبان أن الفرد بموجب العقد الاجتماعي قد قبل اندماجه في الجماعة وقبل قيام المجتمع بصيانة حقه في الحياة ، فإذا ما اعتدى الفرد بنفسه على المجتمع في شكل القتل فقد قبل مقدماً إعدامه. كما أن بيكاريا قد حبذ الإبقاء على عقوبة الإعدام في ظروف الفتنة السياسية والاضطرابات التي تتطلب توقيع أقصى العقوبات من أجل إقرار النظام. كما أن الشريعة الإسلامية تقرر هذه العقوبة كجزاء لبعض جرائم الحدود والقصاص . بل هى سمة من سمات النظام الجنائي الإسلامي وإرثا من تراثه.
على أنه منذ مطلع القرن الثامن عشر بدأ المفكرين والفلاسفة ينحون نحو مهاجمة هذه العقوبة ، فنشأ في الفقه تيارين منقسمين بين مؤيد ومعارض ولكل حجه وأسانيده. وتتصل هذه الآراء - مع تنوعها - بشرعية عقوبة الإعدام ، وملاءمتها ، وطبيعتها ، وكذلك فائدتها.

157- أ : الجدل من حيث شرعية عقوبة الإعدام :

انتقد الرأي القائل بوجوب إلغاء عقوبة الإعدام هذه العقوبة من حيث أنها لا تجد سنداً شرعياً. وفى تفسير ذلك يقولون بأن المجتمع لم يهب الحياة للفرد ، بل إن تلك الحياة هى هبة الخالق عز وجل ، وبالتالي فإن الدولة أو المجتمع لا يحق له أن يحرم الفرد من حقه في الحياة.
بيد أن القائلين بالإبقاء على تلك العقوبة يردون على ذلك بقولهم أن الحرية أيضا هبة الله للإنسان وليست هبة المجتمع لأن الأفراد ولدوا أحراراً. فلماذا لم يتم الاعتراض على العقوبات السالبة للحرية مع أن أساس حق العقاب واحد بالنسبة لكافة العقوبات على اختلاف أنواعها. وبالتالي فإن البحث في شرعية العقاب من حيث مانح الحق في الحياة أو الحق في الحرية سيؤدى إلى تعطيل تطبيق العقوبات جميعها.

158- ب : الجدل من حيث تطبيق عقوبة الإعدام :

قيل في الاعتراض على هذه العقوبة انه لا يمكن الرجوع فيها أو إزالة أثارها ، فهى عقوبة ذات حد واحد ولا يستغرق تنفيذها زمناً. فإذا ما نفذت استحال الرجوع فيها وإصلاح ما يكون قد حدث من خطأ في الحكم القضائي. فإدانة البريء أمر مازال ممكن ، وسيؤذي العدالة كذلك كون الإدانة قد تضمنت عقوبة الإعدام. فالضمير العام سوف يظل مثقلاً بذنب لا يمحى متمثلا في إعدام شخص برئ.
غير أن المؤيدين لهذه العقوبة يردون على ذلك بأن كافة التشريعات التي أبقت على تلك العقوبة تحيطها بالعديد من الضمانات التي تمنع أو تحول دون الوقوع في الخطأ القضائي. كما أن هذا الأخير (الخطأ) أمر ممكن الحدوث بشأن العقوبات السالبة للحرية ، بل بالنسبة لكافة العقوبات ، فهل نطالب بإلغاء كافة العقوبات ؟!!. وكما لا يمكن تعويض حياة إنسان لا يمكن تعويض حريته أيضا.

159- ج : الجدل من حيث ملائمة عقوبة الإعدام :

حاول المعارضون لتلك العقوبة إبراز عدم ملائمتها ، بقولهم أن هذه العقوبة تحدث ضرراً غير محدود بالجاني في حين أن أذى وضرر الجريمة يكون محدوداً بالنسبة للمجتمع ، مما يرفع التناسب بين الجريمة والجزاء.
إلا أنه تم الرد على ذلك بالقول بان التناسب بين الجريمة وعقوبة الإعدام المقررة لها يتحقق من كون هذه العقوبة لا تتقرر إلا بصدد الجرائم شديدة الخطورة على المجتمع وعلى حياة الأفراد. فضلا عن أن العدالة توجب في حالة إزهاق روح برئ بالقتل مثلاً أن يقتص من الجاني بإزهاق روحه. فالأرواح تتكافأ ، والقول بغير ذلك يعلي من قيمة نفس وروح الجانى القانونية بالمقارنة بمثيلتها لدى المجني عليه.

160- د : الجدل من حيث فائدة عقوبة الإعدام :

احتج المعارضون على تلك العقوبة بقولهم أنها غير مجديه ولا فائدة منها ، سواء بالنسبة للفرد أو بالنسبة للمجتمع. فالإعدام عقوبة لا يتحقق فيها معنى الإصلاح والتأهيل ، إنما يكون الانتقام الهدف الأسمى. فضلاً عن أن الإحصاءات قد اثبتت أن معدلات الجريمة لم تنقص في المجتمعات التي مازالت تأخذ بهذه العقوبة ، كما لم تزد نسبة الإجرام في الدول التي ألغتها ، مما ينفى فائدتها بالنسبة للمجتمع ككل.
بيد أن المؤيدين للإبقاء على تلك العقوبة قد ردوا على ذلك بقولهم أن عقوبة الإعدام لا يثبت توقيعها إلا بشأن المجرمين عتاة الإجرام ، والذين يثبت بحسب وضعهم الإجرامي عدم الأهلية للإصلاح. كما أنه من الصعب الربط بين معدل الجريمة وبين كون تلك العقوبة ألغيت أو تم الإبقاء عليها ، حيث لا تتوافر إحصاءات مماثلة عن كم الجرائم الذي لم يقع خشيه الحكم بالإعدام. يضاف إلى ذلك أن لتلك العقوبة أثرها الكبير في تحقيق الردع العام. وليس أدل على ذلك من أن الدول التي كانت قد ألغتها قد اضطرت إلى إقرارها مرة ثانية ، بل وتظهر من آن لأخر - وتحت تأثير بعض الحوادث المؤثرة في المجتمع – دعوات للمطالبة بإعادة عقوبة الإعدام.
وفى الحقيقة فإن الرأي حول الإبقاء أو إلغاء عقوبة الإعدام هو أمر يرتهن بمبادئ وقيم وأخلاق كل مجتمع. لذا فمن الصعب فرض رأى معين قد يتصادم مع أسس المجتمع. ولما كانت الشرعية الإسلامية وحضارتها هى عصب وأساس التشريع المصري في كل فروعه ، فإننا ندعو المشرع إلى الإبقاء على تلك العقوبة توافقاً مع ما قررته الشريعة الغراء في شأن القصاص شريعة النبيين أجمعين في كافة الشرائع السماوية .
وإذا كنا قد أيدنا الإبقاء على تلك العقوبة في التشريع المصري ، إلا أننا ندعو المشرع أيضا إلى الأخذ بالمواثيق الدولية والإعلانات العالمية الخاصة بحقوق الإنسان وما جاء فيها بشأن عقوبة الإعدام. من ذلك ما جاء بالمادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966 وتم تنفيذه في 23 مارس 1976 التي نصت فقرتها الثانية على أنه "لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاء على أشد الجرائم خطورة…". ونرى كذلك حظر إقرار عقوبة الإعدام بشأن جرائم الرأي والفكر أو بشأن الصغار والأحداث (م6/5 من العهد).

161- ثانياً : ضمانات الحكم بالإعدام وتنفيذه :

أحاط المشرع المصري عقوبة الإعدام بالعديد من الضمانات التي تكفل الاطمئنان لسلامة الحكم القضائي الصادر بها وإلى ما قبل تنفيذها. ويمكن أن نشير بصفة خاصة إلى الآتي :

162- أ : اعتماد جسامه الجريمة معيارا لعقوبة الإعدام

أخذ المشرع المصري بما دعت إليه المواثيق الدولية من عدم وجوب تقرير تلك العقوبة إلا جزاء للجرائم الشديدة والجسيمة. مثال ذلك جنايات القتل مع سبق الإصرار أو الترصد أو القتل بالسم (م 230–233 عقوبات) ، والقتل المقترن بجناية والمرتبط بجنحة (م 234/2) ، والحريق العمد الذي ينشأ عنه موت شخص (م 257) ، وتعطيل المواصلات إذا نشأ عنه موت شخص (م 168) ، وشهادة الزور إذا حكم على المتهم المشهود ضده بالإعدام ونفذت فيه (م 295) ، وبعض جنايات أمن الدولة (م 77–89 عقوبات) ، وجنايات المخدرات المنصوص عليها في المادة 33 من القانون 182 لسنة 1960 المعدلة بالقانون رقم 122 لسنة 1989.

163- ب : أخذ رأى المفتي :

أوجب المشرع قبل الحكم بالإعدام استطلاع رأى المفتي. فتنص المادة 381 إجراءات جنائية على أن "… ويجب عليها (أي المحكمة) قبل أن تصدر هذا الحكم (الإعدام) أن تأخذ رأى مفتي الجمهورية. ويجب إرسال أوراق القضية إليه ، فإذا لم يصل رأيه إلى المحكمة خلال عشرة أيام التالية للإرسال الأوراق إليه ، حكمت المحكمة في الدعوى".
ويظهر من ذلك أن رأى المفتى استشاري ، ويمكن للمحكمة أن تحكم دون وروده ، ولها أن تطرحه وتأخذ بغير ما جاء فيه إذا ورد الرد في المواعيد. كما أن المحكمة غير مكلفة بالرد عليه أو مناقشته.

164- ج : اجتماع أراء أعضاء المحكمة :

الأصل في الأحكام أن تصدر بأغلبية الآراء في المحاكم التي تتشكل من أكثر من قاض. وقد خرج المشرع على هذا الأصل في حالة الحكم بالإعدام إذ اشترط المشرع في المادة 381/2 إجراءات جنائية أن "لا يجوز لمحكمة الجنايات أن تصدر حكما بالإعدام إلا بإجماع أراء أعضائها". وهذه ضمانه من أهم الضمانات التي إذا لم تراعى بطل الحكم وتعين نقضه.

165- د : العرض على محكمة النقض :

أوجب المشرع على النيابة العامة أن تعرض الحكم الصادر حضوريًا بالإعدام على محكمة النقض ، حتى ولو لم يطعن المحكوم عليه في الحكم الصادر ضده ، كي تتأكد المحكمة من سلامة الحكم من حيث تطبيق القانون (م 46 من القانون 57 لسنة 1959 بشان حالات وإجراءات الطعن بالنقض). ويكون لمحكمة النقض أن تنقض الحكم لمصلحة المتهم من تلقاء نفسها إذا تبين لها مما هو ثابت فيه أنه مبني على مخالفة القانون أو على خطأ في تطبيقه أو تأويله أو أن المحكمة التي أصدرته لم تكن مشكلة تشكيلاً صحيحاً أو لا ولاية لها بالفصل في الدعوى ، أو إذا صدر بعد الحكم المعطون فيه قانون يسرى على واقعه الدعوى (م 35/2 وم 46 من قانون حالات وإجراءات الطعن بالنقض).

166- هـ : العرض على رئيس الجمهورية :

أوجبت المادة 470 إجراءات جنائية رفع الحكم النهائي الصادر بالإعدام إلى رئيس الجمهورية لينظر في امكان صدور عفو عن المحكوم عليه أو إبدال العقوبة المحكوم بها. ويقوم على تنفيذ هذا الإجراء وزير العدل. على أنه ينفذ الحكم إذا لم يصدر الأمر بالعفو أو بإبدال العقوبة في ظرف أربعة عشر يوما .
فإذا استوفى الحكم بالإعدام كل تلك الإجراءات وجب تنفيذه ، وتتقيد جهة التنفيذ ببعض الإجراءات منها :
*- تأجيل تنفيذ حكم الإعدام على المرأة الحبلى إلى ما بعد شهرين من الوضع (م 476 إجراءات). وعله هذا القيد هو إنقاذ الجنين كي لا يؤخذ بذنب أمه عملاً بمبدأ شخصية العقوبة كما سبق وأن ذكرنا .
*- تأجيل تنفيذ أحكام الإعدام الباتة في الأعياد الخاصة والرسمية المتعلقة بديانة المحكوم عليه (م 475 إجراءات)
*- أن يجرى التنفيذ داخل السجن أو في مكان مستور بحضور أحد وكلاء النائب العام ومندوب عن وزارة الداخلية ومأمور السجن وطبيب السجن أو أي طبيب أخر تندبه النيابة العامة. ولا يجوز لغير هؤلاء حضور التنفيذ إلا بإذن خاص من النيابة العامة. ويجوز أن يؤذن للمدافع عن المحكوم عليه بالحضور (م 473).
المطلب الثاني

إشكاليات العقوبات السالبة للحرية

167- تمهيد وتقسيم :

يقصد بالعقوبات السالبة للحرية Peines privatives de liberté العقوبات التي يكون مضمونها حرمان المحكوم عليه من حريته الشخصية وذلك عن طريق إيداعه إحدى المؤسسات العقابية. ويمثل لهذه العقوبات في التشريع المصري بالسجن المؤبد والمشدد والسجن والحبس. ومن المعلوم أن تلك العقوبات ظهرت مع بدء العصور الوسطى وثورة مفكري هذه العصور على قسوة العقوبات البدنية المطبقة ومحاولتهم إصلاح النظام الجنائي. فقبل تلك الفترات الزمنية كان السجن مجرد وسيلة للتحفظ على المتهم انتظاراً لتوقيع العقوبة عليه أو لانتظار محاكمته من قبل القضاء.
وقد أثار الأخذ بهذا النوع من العقوبات الجدل الشديد في الفقه ، وذلك من زاويتين : الأولى تتعلق بالجدل حول جدوى تعددها ، والثانية ترتبط بالجدل حول جدوى العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة. وحول كلا المشكلتين تنازع الفقه ، فظهرت اتجاهات تدعو إلى توحيد العقوبات السالبة للحرية وإلى إلغاء العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.

168- أولاً : إشكالية توحيد العقوبات السالبة للحرية :

169- تقسيم :

لإبراز مشكلة توحيد العقوبات السالبة للحرية يتعين علينا أن نوضح مضمون مشكلة التوحيد وتطورها ، ثم بيان حجج المؤيدين والمعارضين للتوحيد ، وأخيراً بيان موقف التشريعات المقارنة من تلك المشكلة.

170- أ : مضمون مشكلة التوحيد وتطورها :

يثور التساؤل بين الفقه حول ما إذا كان من الأفضل تعدد أنواع العقوبات السالبة للحرية تبعا لجسامة الجريمة ، أم أن من الأفضل توحيد كافة العقوبات السالبة في عقوبة واحدة لها اسم واحد وتتفاوت من جريمة إلى أخرى ومن مجرم إلى أخر حسب المدة فقط.
والذي أظهر تلك المشكلة هو اتجاه التشريعات الجنائية الحديثة نحو تبني التقسيم الثلاثي للجرائم حسب نوع ومقدار العقوبة ، ومن ذلك التشريع المصري الذي يقسم الجرائم إلى جنايات وجنح ومخالفات ، ويفرد لكل نوع من الجرائم عدد من العقوبات يختلف نوعاً ومقداراً. ويبدو على هذا التقسيم أنه يأخذ في اعتباره جسامه الجريمة من أجل تحديد نوع ومقدار العقوبة ، بما يهمل في الحقيقة شخصية المجرم حين تقدير العقوبة. على هذا النحو ذهب البعض إلى القول بأنه لابد من توحيد وجمع العقوبات السالبة للحرية في عقوبة واحدة مع تفريدها حسب المدة وفق ما يتكشف بعد ذلك من ظروف تتصل بجسامه الفعل الإجرامي وحالة المجرم الشخصية والاجتماعية.
ولقد بدأت الدعوة لهذا الاتجاه التوحيدي بهدف القيام بعمل إنساني خالص ، مؤداه التخلص من عقوبة الأشغال الشاقة التي تقوم في جوهرها على فكرة الإيلام والتكفير عن الذنب. ثم بدأت هذه الحركة تتعاظم أواخر القرن التاسع عشر ومع تغير نظرة الفقه الجنائي نحو الجريمة والمجرم ، وحين ظهر الإصلاح والتأهيل كأحد الأغراض السامية للعقوبة.
والحق أن الفضل يرجع على العديد من المفكرين في الدعوة لهذا الاتجاه من أمثال شارل لوكا Lucas في فرنسا عام 1830 وإلى أوبر ماير Obermaier في ألمانيا عام 1835 .
وقد كانت هذه الفكرة مثار بحث في المؤتمرات الدولية الجنائية التي كان أولها في لندن عام 1879 ثم مؤتمر استكهولم عام 1878. ثم أصدرت الهيئة الدولية للعقوبات والسجون في عام 1946 توصية مؤداها الدعوة إلى أن تزول الفروق بين العقوبات السالبة للحرية المؤسسة فقط على طبيعة وجسامه الجريمة. ثم تأكدت هذه الدعوة في اجتماع ثان لهذه الهيئة في برن عام 1951 ، حيث تمت الموافقة على اقتراح بتأكيد أهمية تقرير عقوبة واحد سالبة للحرية يراعى فيها التفريد وتنوع المعاملة العقابية وفقا لحالة كل محكوم عليه وظروفه الشخصية والاجتماعية.

171- ب : موقف الفقه من فكرة التوحيد :

172- تقسيم :

توزع الفقه حول فكرة التوحيد إلى اتجاهين : أحدهما مؤيد ، والأخر معارض ، ممثلاً لرأى الفقه الجنائي التقليدي.

173- الاتجاه المؤيد لفكرة التوحيد :

استند أنصار الاتجاه التوحيدي إلى العديد من الجنح منها :
*- أنه لم يعد هناك مبرر لتعدد العقوبات السالبة للحرية بعد أن أصبح هدف كافة أنواعها هو التأهيل والإصلاح عن طريق تطبيق العديد من البرامج العلاجية والتعليمية والتهذيبية التي لا ترمى إلى إيلام المحكوم عليه.
*- أن الاتجاهات العقابية الحديثة تدعو إلى إتباع تصنيف علمي للمحكوم عليهم يعتمد على فحص دقيق للجوانب الشخصية والاجتماعية لكل محكوم عليه ، من أجل تحديد نوع المعاملة العقابية الملائمة. ويتم هذا التصنيف عن طريق اللجوء إلى الخبراء الاجتماعين والنفسين والأطباء وعلماء الاجتماع والإجرام. ولاشك أن إتباع منهج التوحيد يسهل من عمل هذا التصنيف بما يسهل في النهاية مهمة المؤسسة العقابية في إصلاح المجرم وتأهيله.
*- أن الفروق بين العقوبات السالبة للحرية ما هى إلا فروق نظرية بحته ، أما في الواقع العملي فلا فارق بين أنواعها حيث يجرى التنفيذ بأسلوب واحد ، وهو ما يعنى إتباع فكرة التوحيد على المستوى العملي والواقعي. وهذا بالفعل الذي يجرى في مصر حيث تنفذ عقوبة السجن (المحكوم بها في الجنايات) وكذلك عقوبة الحبس (المحكوم بها في الجنح) داخل السجون العمومية. كما أن المشرع المصري يعفي أحيانا بعض الفئات من الخضوع لعقوبة السجن المؤبد أو المشدد مما يعنى التوحيد العملي بين تلك العقوبة والعقوبة الأدنى منها. كما أن المشرع يجمع أحياناً طوائف من المحكوم عليهم في مؤسسات عقابية خاصة، بالنظر إلى ما يحتاجون إليه من معاملة من نوع معين ، دونما النظر لنوع جريمتهم ، وهو ما يعنى أنه قد وحد بين عقوباتهم من الناحية العملية.

174- الاتجاه المعارض لفكرة التوحيد :

على الرغم مما قدمه أنصار فكرة التوحيد من حجج قوية لتأييد وجه نظرهم ، إلا أن فكرة التوحيد مازالت تلاقى مقاومة شديدة من جانب نفر من الفقه ، وذلك للحجج التالية :
*- أن الأخذ بتوحيد العقوبات السالبة للحرية تحت مسمى عقوبة واحد كالحبس أو السجن مثلا يؤدي إلى إهدار غرض الردع العام وإرضاء الشعور بالعدالة الذين يجب أن تسعى العقوبة إلى تحقيقهما. الأمر الذي يقتضي أن تقدر العقوبة ومدتها ونوعها حسب جسامه الجريمة المرتكبة. فالتوحيد يؤدي إلى هدم التناسب الذي استقر لدى الكافة بين جسامه الجريمة وجسامه العقوبة. فقد استقر في الأذهان أن السجن المؤبد أو المشدد عقوبة جسيمة تواجه جرائم جسيمة ، أما الحبس فهى عقوبة يسيره خصصت لجرائم بذات القدر من اليسر. فإذا ما وحدنا بين العقوبات مثلا في صورة الحبس وجعلناها عقوبة للجرائم أيا كانت جسامتها لتساوى لدى الناس جسامه القتل والاغتصاب مع السرقة والضرب ، مما يقضى على الردع العام والشعور بالعدالة ، ولا يغنى عن ذلك كون العقوبة ستتفاوت من حيث المدة .
*- أن تعدد وتنوع العقوبات السالبة للحرية لا يتعارض بالضرورة مع قواعد مواجهة الجريمة. إذ أن هناك صله وثيقه تربط الجريمة بشخصية المجرم ، فالأولى تساهم في الكشف عن الثانية ، أي أن جسامة الجريمة تدل على خطورة شخصية المجرم والعكس بالعكس. مما يعنى أن التقسيم الثلاثي للجرائم لا يعتبر مجرد افتراض تشريعي غير مطابق للواقع. بل إنه مطابق للكثير من حقائق علم الإجرام والعلوم المتصلة بالجريمة عموماً والتي تكشف عن الربط بين تقسيم الجرائم حسب جسامتها وتصنيف المجرمين حسب خطورتهم ، وأن العلاقة بينهم علاقة غالبا طردية.
*- يضاف إلى ذلك أن إتباع نظام التوحيد ، أي التميز بين طوائف المحكوم عليهم لا حسب نوع العقوبة السالبة ولكن فقط بحسب مدتها ، سوف يحرم السلطة القضائية من سلطتها في التفريد القضائي وتضع المحكوم عليهم تحت تصرف الإدارة العقابية المشرفة على التنفيذ ، مما يحرم المحكوم عليه من الكثير من الضمانات القضائية خاصة المتصلة بالحيدة والموضوعية.
*- وأخيرا فإن الاتجاه التوحيدي يقتضي التغير الشامل في أحكام قانون العقوبات وأحكام قانون الإجراءات الجنائية ، حيث تتوقف العديد من أحكام كلا القانونين على التقسيم الثلاثي للجرائم إلي جنايات وجنح ومخالفات. كما أن التوحيد يوجب التعديل في نظم المؤسسات العقابية التي تعتمد تقسيماً ثلاثياً لها ، فتتنوع بين ليمانات وسجون عمومية وسجون مركزية .
والواقع أننا نؤيد تماما فكرة التوحيد بين العقوبات السالبة للحرية ، وجمعها في عقوبتين فقط أحدهما للجنايات وأخري للجنح. ذلك أن التوحيد يتبع منهجاً علمياً في تقدير العقاب يقوم علي الأخذ في الاعتبار ظروف كل محكوم عليه ودرجة خطورته الإجرامية ، بعض النظر عن جسامه الفعل الإجرامي. فليس صحيحا - كما يقول معارضوا التوحيد - أن هناك تلازم بين خطورة الجريمة وجسامتها وبين خطورة المجرم. فقد يرتكب مجرم مبتدئ جريمة جسيمة تحت ظرف عارض وكذلك قد يرتكب مجرم خطير العديد من الجرائم التافهة والبسيطة. وبالتالي فإن خطورة الجريمة نسبية في دلالتها علي خطورة الجاني , والعكس بالعكس.
ولا يقلل من قوة هذا الرأي ما قد يحتاجه الأخذ بالتوحيد إجراء تعديلات في أحكام قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية , ذلك أن هذه التعديلات لن تكون إلا في إحلال معيار محل معيار أخر , أي إحلال معيار مده العقوبة , محل معيار نوع العقوبة المتبع حالياً من قبل المشرع. فيكون سلب الحرية لمدة معينة عقوبة جناية وسلبها لمده أقل عقوبة جنحة وهكذا. فالتوحيد لا يعني إلغاء تقسيم الجرائم بل هذا الأخير سيظل قائما.
كما لا يقدح في ذلك خشيه سيطرة جهة الإدارة علي التنفيذ وإطلاق يدها في اختيار الأسلوب الملائم لتنفيذ العقوبات بما يهدر من حريات الأفراد. فالحقيقة أنه في ظل نظام التوحيد يكون من اللازم مد نطاق سلطه القضاء إلى مرحلة التنفيذ العقابي , كي يكون عمل الإدارة العقابية محاطاً بإشراف قضائي بما يضمن حقوق وحريات المحكوم عليهم.

175- ج : موقف القانون المقارن من فكرة التوحيد:

لقد استجابت العديد من التشريعات الجنائية لنداء التوحيد بحيث تكون العبرة بمدة العقوبة وليس بنوعها. من ذلك قانون العقوبات الهولندي الصادر في عام 1881. الذي أدمج ثلاث عقوبات سالبة للحرية في عقوبة واحدة هي الحبس. وبهذا أيضا أخذت كل من بورتوريكو في عام 1902 ، وباراجواي عام 1914 ، والمكسيك عام 1931 ، وكوستاريكا عام 1941. وإلى هذا ذهب المشرع الإنجليزي عام 1948 بعد إصدارة لقانون العدالة الجنائية Criminal Justice Act ، الذي ألغى التقسيم الثلاثي للعقوبات السالبة للحرية , بأن ألغى عقوبة السخرة المقابلة لعقوبة الأشغال الشاقة Penal Servitude . وكذلك ألغى عقوبة الحبس مع الشغل الشامل Imprisonment With Hard Labor ، المقابلة لعقوبة السجن ، واستبدل بها عقوبة واحدة هى الحبس البسيط Simple Imprisonment .
والى هذا كان قد ذهب المشرع الفرنسي عندما ألغى الأشغال الشاقة Travaux forcée عام 1960 ، وعندما أخذ في مشروع قانون العقوبات لعام 1978 بعقوبة الحبس كعقوبة سالبة للحرية وحيده (م 131 وما بعدها) . وقد اتبع قانون العقوبات الفرنسي الجديد الصادر في 22 يوليو1992 فكرة تقسيم العقوبات السالبة للحرية إلى عقوبتين أحدهم للجنايات وأخرى للجنح يتفاوتا فقط من حيث المدة تبعاً لجسامه الفعل وخطورة المجرم. فجعل المشرع الفرنسي عقوبة الجنايات المقررة للأشخاص الطبيعيين تتمثل إما في الاعتقال أو السجن المؤبد متفاوتة بين ثلاثون عاما علي الأكثر وخمسة عشر عاماً علي الأكثر. أما مدة الاعتقال أو السجن المؤقت فهى عشر سنوات علي الأقل (م 131/1). أما عقوبة الحبس فهى عقوبة الجنح (م131- 3) مع تدرجها بين عشر سنوات على الأكثر وسبع سنوات علي الأكثر وخمس سنوات علي الأكثر وثلاث سنوات علي الأكثر وسنه علي الأكثر وستة أشهر علي الأكثر (م131- 4).
ولقد اعتمد منهج دمج العقوبات السالبة للحرية في عقوبتين فقط تشريعات أخرى منها قانون عقوبات البرازيل والأرجنتين وأوراجوي ونيوزيلندا والسويد.
ورغم أن التشريع المصري الحالي يأخذ بمبدأ تعدد العقوبات السالبة للحرية مقسماً إياها إلي أربع عقوبات (السجن المؤبد والسجن المشدد والسجن والحبس) ، إلا أن هناك اتجاه كبير يدعم فكرة دمج هذه العقوبات في عقوبتين هما السجن والحبس مع إلغاء عقوبة السجن المؤبد والمشدد واللذين حلا محل عقوبة الأشغال الشاقة بنوعيها ، بحسبان أنه لا يوجد فارق عملي يفصل بين هذه الأنواع من حيث أسلوب تنفيذها .
وبهذا أخذ مشروع قانون العقوبات المصري في عام 1967 ، حين نص علي عقوبتين سالبتين للحرية إحداهما السجن المؤبد أو المؤقت في الجنايات والثانية هي الحبس في الجنح ، وهو اتجاه محمود ندعم الأخذ به.

176- ثانياً : إشكاليه العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة :

177- تمهيد وتقسيم :

تمثل مشكلة العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة Peines privatives de liberté à courte durée أدق المشكلات الجنائية والعقابية التي واجهت الفقه الجنائي , لما لها من تعقيدات تتصل بفاعلية السياسة العقابية ومدي قدرة هذا النوع من العقوبات على تحقيق أغراض العقاب المختلفة خاصة الغرض الأخلاقي والتأهيلي .
ويلاحظ بداءة أن فكرة العقوبة قصيرة المدة ليست فكرة قانونية محددة , فتخلو التشريعات الجنائية من تحديد العقوبات السالبة للحرية التي يمكن أن تعتبر من قبيل العقوبات قصيرة المدة. وعلي هذا فقد تنوعت المعايير من أجل تحديد المقصود بالعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة. فالبعض أخذ بمعيار مدة العقوبة والبعض أخذ بنوع المحكمة التي أصدرت الحكم والبعض الأخر أخذ بنوع الجريمة.
علي أن أهم تلك المعايير- والتي تتفق مع وصف العقوبة بققصيرة المدة - هو معيار المدة ، أي مدة العقوبة. وعلي هذا أعتبر البعض أن العقوبة تكون قصيرة المدة حين لا تتجاوز ثلاثة أشهر ، وهو الحد المعمول به في الإحصاءات الجنائية في العديد من الدول وأقرته الهيئة الدولية للعقوبات والسجون في اجتماعها في برن عام 1946 .
ويعتقد آخرون أن المقصود بالعقوبة قصيرة المدة تلك التي لا يزيد حدها الأقصى علي سنه ، وهو الرأي المعمول به في دول أمريكا االلاتينية ، خاصة شيلي ، وكذلك في الصين وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا. بينما يرى آخرون أن تلك العقوبة لا توصف بهذا الوصف إلا حينما يكون الحكم قد صدر بعقوبة لا تجاوز ستة أشهر , وهو الرأي المأخوذ به في بلجيكا وهولندا وفنلندا واليونان والهند واليابان وإنجلترا وبعض الولايات الأمريكية .
وفي رأينا أن المعيار الأصوب يجب أن يستند ألي معيار موضوعي بالنظر إلي مدى إمكانية تطبيق البرامج التأهيلية والأخلاقية خلال مدة العقوبة المحكوم بها أم لا. فإن أمكن تطبيق تلك البرامج خلالها فهى عقوبة طويلة المدة , في حين تصبح قصيرة المدة حينما لا تسمح المدة بتحقيق الغرض من العقوبة خاصة التأهيل والإصلاح .
ولا شك أن هذا المعيار يتسم بنسبيته , فالمدة التي تكفي لتأهيل شخص قد لا تكفي لتأهيل شخص أخر ، إذ يتوقف ذلك على مدى الاستجابة الشخصية للتأهيل والإصلاح ومدى فاعلية البرامج المطبقة من الإدارة العقابية.
وتواجهه العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة مشكلتين : الأولى تتعلق بالجدل حول الإبقاء عليها والأخذ بها ، والثانية تتعلق بالبدائل التي يمكن أن تحل محلها في حالة إلغائها. وفي هاتين المشكلتين تفصيل نبينه على النحو التالي :

178- أ : العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بين الإبقاء والإلغاء :

إنقسم الفقه الجنائي في شأن العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة إلى عدة أراء ، فالبعض يرى ضرورة إلغائها لما لها من مضار ونتائج سيئة ، والبعض الأخر يرى ضرورة الإبقاء على تلك العقوبات حيث لا تخلو من المزايا التي تعود بالنفع على النظام العقابي.

179- حجج فقه الإلغاء:

يستند الرأي القائل بإلغاء العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة إلى عدد من الحجج نوجزها في الأتي :
*- أن العقوبة قصيرة المدة لا تتحقق أي غرض من أغراض العقوبة , سواء كان الردع العام أوالخاص أو الإصلاح والتأهيل. فهى غير كافية لتخويف الأفراد ومنعهم من تقليد الجاني في سلوكه الإجرامي ، كما أنها لا تروع الجاني نفسه. يضاف إلى ذلك أن قصر مدة العقوبة يحول دون التعرف على شخصية المحكوم عليه وتصنيفيه من أجل تحديد برامج التأهيل المناسبة له , مما يبطل وظيفة العقوبة في إصلاح الجاني. وإذا لا حظنا من خلال الإحصاءات أن أغلب المحكوم عليهم بهذه العقوبات القصيرة يكونون من المتشردين والمتسولين والطبقات الفقيرة , أمكن القول بأن هذه العقوبات لا تنمي الشعور العام بالعدالة لدى الجماعة.
*- قيل أن للعقوبة قصيرة المدة أثار سيئة على المستوى الفردى وعلى المستوى الجماعي. فالعقوبة قصيرة المدة تفقد الشخص احترامه لذاته واحترام الآخرين له وثقتهم فيه , مما يحول دون اندماجه في المجتمع مرة أخرى بعد خروجه من المؤسسة العقابية. كما أن هذا النوع من العقوبة يصاحبه عادة فقد عمل المحكوم عليه ، ومن ثم يحرم من مصدر رزقه وتحرم أسرة من مصدر إعالتها. وقد يتطور الأمر فتضطر الزوجة مثلا إلى العمل فتقل الرقابة على الأبناء مما قد يسهل انحرافهم ودفعهم نحو الجريمة. وعند خروج المحكوم عليه لا يجد في الغالب من يمنحه الثقة في عمل ما مما يضطره إلى اكتساب الرزق من طرق غير مشروعة فيعاود ارتكاب الجريمة مرة أخرى.
*- وقيل أيضاً أن هذا النوع من العقوبات يساعد على نقل عدوى الجريمة نتيجة اختلاط المجرمين بعضهم ببعض , فيتحول الجاني بسيط أو متوسط الخطورة الإجرامية إلى أحد عتاة الإجرام نتيجة هذه الخلطة التي قد تنقل إليه أساليب وطرق فنية جديدة في ارتكاب الجريمة.
*- فضلاً عن كل هذا فإن لهذه العقوبات مردود اقتصادي سيئ في جانب الدولة. إذ تكبد الدولة نفقات باهظة من أجل إيواء المحكوم عليهم بهذه العقوبات وإعالتهم من كساء وطعام وعلاج.

180- حجج فقه الإبقاء :

على الرغم من وجاهة الحجج التي قال بها الرأي المنادي بإلغاء العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة , إلا أن هناك جانباً من الفقه يرى ضرورة الإبقاء على تلك العقوبات وذلك لعدة أسباب منها :
*- أن هذه العقوبات مازالت تحقق الردع لفئات معينه من المجرمين لا يجدي معهم سوى العزل المؤقت عن المجتمع وعن البيئة الاجتماعية الفاسدة التي كانوا يحيون فيها. كما أن هذه العقوبات مازالت رادعاً مناسباً للمجرمين بالصدفة الذين يرتكبون جرائمهم نتيجة طيش أو رعونة أو عدم تبصر أو عدم احتياط ، دون تأصل نوازع الإجرام داخلهم. ومثال ذلك جرائم القتل الخطأ أو الإصابة الخطأ الناشئة عن استخدام السيارات وغيرها من الآلات الخطرة. فهذا النوع من المجرمين لا يردعهم إلا صدمة سلب الحرية.
*- أن هذه العقوبات تمثل - رغم قصر مدتها – رادعاً وقائياً للعامة يمنعهم من تقليد الجاني. فإلغائها سوف يشجع العامة علي تقليد المجرم , خاصة بالنسبة للمجرمين المبتدئين , الذين يخشون سلوك سبيا الجريمة وتظل داخلهم قوى المنع تتصارع مع قوى الدفع. فحال الإبقاء على هذه العقوبات فإن جانب المنع سوف يقوى داخل هؤلاء المجرمين المبتدئين. حيث سيقارن المجرم بين الفائدة التي ستعود عليه من الجريمة وبين ما سوف يلحق به من أضرار مترتبة علي سلب الحرية ومعاناته الشخصية والعائلية رغم قصر مدة سلب الحرية.

181- ب : بدائل الاتجاه التوفيقي :

ظهر في الفقه الجنائي اتجاه توفيقي في شأن العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة , فلا يغالي حتى يصل إلى إلغائها ولا يغالي بالإبقاء عليها دون تعديل. فهو اتجاه يعمل على التقليل بقدر الإمكان من مساوئ هذه العقوبة والتخفيف من أثارها الضارة. لذا يدعو هذا الاتجاه إلى استعمال العديد من البدائل العقابية التي تحل محل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة متى كانت ظروف الجريمة وشخصية المجرم توجب هذا. فإن رأت المحكمة أن هذا البديل لا يجدي في مواجهه حاله إجرامية معينه كان لها أن تقضي بالعقوبة السالبة للحرية رغم قصر مدتها.
فهذه البدائل من قبيل نظم المعاملة العقابية التفريدية المقررة تشريعياً لتكون بين يد القاضي إن شاء أعملها إذا استدعت ظروف الجريمة ذلك وإن شاء قضى بالعقوبة السالبة للحرية أياً كانت مدتها.
وفي الحقيقة فإن هذه البدائل متنوعة. ومن الناحية التاريخية فإن أقدمها هو نظام إيقاف التنفيذ كبديل ذو نشأه أوربية , ثم ظهر بعد ذلك نظام الوضع تحت الاختبار ذو النشأة الأنجلوسكسونية أمريكية. ثم توالت البدائل كنظام شبه الحرية والإعفاء من العقوبة وتأجيل النطق بها والوضع تحت المراقبة الالكترونية والعمل لخدمة المجتمع وتقسيط العقوبات. وسوف نعطي بعض التفصيلات عن تلك الأنظمة البديلة.

182- البديل الأول : نظام إيقاف التنفيذ (تعليق تنفيذ الأحكام علي شرط) :

183- مضمون إيقاف التنفيذ وحكمته ونشأته :

يقصد بإيقاف تنفيذ Le sursis العقوبة أنه يجوز للقاضي أن يصدر حكمة بالعقوبة مع تضمين هذا الحكم أمراً بإيقاف تنفيذها إذا توافرت شروط معينة , وذلك لمده معينة. فإذا كان الحكم صادراً بالغرامة أمتنع أدائها , وإذا كان صادراً بعقوبة سالبة للحرية أفرج عن المحكوم عليه ويترك حراً . فإذا ما أنقضت المدة الموقوف تنفيذ الحكم خلالها دون أن يلغي إيقاف التنفيذ سقط الحكم بالعقوبة وأعتبر كأن لم يكن , وإلا نفذت العقوبة الموقوف تنفيذها مع العقوبة الجديدة. فكأن إيقاف التنفيذ هو تعليق العقوبة المحكوم بها على شرط واقف خلال مدة معينة يحددها القانون , فإذا لم يتحقق الشرط أعفى المحكوم عليه من تنفيذها نهائيا , أما إذا تحقق الشرط ألغى إيقاف التنفيذ , ونفذت العقوبة المحكوم بها.
والحكمة من هذا النظام تظهر بوضوح في حالات الإجرام بالصدفة الناشئ عن ضغوط بعض الظروف الاجتماعية على الشخص فتدفعه إلى ارتكاب الجريمة. فهذا النوع من الأجرام غير المتأصل في نفس من يرتكبه , يعود إلى ظروف خارجة في العادة عن إرادة الجاني. ومن ثم فإن السياسة العقابية الحديثة توجب منع المحكوم عليه بعقوبة سالبة للحرية قصيرة المدة - عن جريمة حدثت لظروف اجتماعية خارجة عن إرادة الجاني وللأسباب لا ترجع لتأصل عوامل الشر والأجرام بداخله - من مخالطة غيرة من عتاة الإجرام في السجن , فكان الأخذ بفكرة إيقاف التنفيذ.
وقد ظهر هذا النظام أول ما ظهر في أوربا ، وبالتحديد في القانون البلجيكي عام 1888 ، ثم انتقل بعد ذلك إلى فرنسا بالقانون الصادر في 26 مارس عام 1891 (قانون برنجيه Bérenger) ومنه انتقل إلى التشريع المصري بدءً من قانون العقوبات الصادر في عام 1904.

184- شروط إيقاف التنفيذ:

عادة ما يتطلب المشرع عدد من الشروط من أجل تعليق تنفيذ العقوبة , وهى في مجملها شروط قد تتعلق بالجريمة ، وقد تتعلق بالعقوبة ، وقد تتعلق أخيراً بالجاني نفسه .
وقد كان ذلك هو مذهب المشرع المصري في معالجته لنظام إيقاف التنفيذ. فهذا الأخير يوجب كي يحكم بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها :
*- أن تكون الجريمة من بين الجنايات والجنح , وبالتالي تخرج المخالفات من هذا النطاق لتفاهة عقوباتها, خاصة وأنه لا يعتد بها في العود للجريمة. علي أن هناك بعض الحالات استثناها المشرع من أحكام وقف التنفيذ وذلك بهدف التشديد على مرتكب هذه الجرائم , مثال ذلك بعض جرائم المخدرات وبعض الجرائم الاقتصادية.
*- أن تكون العقوبة بالغرامة أو الحبس الذي لا يزيد علي سنه. فإذا رأت المحكمة أن المتهم يستحق عقاباً أكثر من سنه فإنه لا يستفيد من نظام إيقاف التنفيذ .
*- أن يتبين من أخلاق المحكوم عليه وطباعه وماضيه أو سنه أو كافه ظروف الجريمة ما يبعث علي الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مقارفة الجريمة مرة أخرى (م55 عقوبات). وتحديد هذا متروك لمطلق السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع دون رقابة عليها من محكمة النقض . وعلى هذا يمكن للقاضي أن يحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة في مواجهه شخص له سوابق متي كان هناك اعتقاد أنه في سبيل إصلاح نفسه.

185- مدة إيقاف التنفيذ وأثاره :

أشارت المادة 56 من قانون العقوبات إلى أن مدة إيقاف التنفيذ هي ثلاث سنوات تبدأ من اليوم يصبح الحكم الصادر بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها نهائيا. وليس للقاضي حيال تلك المدة أي سلطة تقديرية فلا يجوز له أن ينقص منها أو أن يطيلها.
ويترتب على إيقاف التنفيذ – عند توافر شروطه – أنه لا يجوز اتخاذ أي إجراء لتنفيذ العقوبة التي أوقف تنفيذها. وإذا انتهت مدة وقف التنفيذ (ثلاث سنوات) دون أن يصدر خلالها حكماً بإلغائه فلا يمكن تنفيذ العقوبة المحكوم بها ، ويعتبر الحكم بها كأن لم يكن. فكان وقف التنفيذ نوع من رد الاعتبار القانوني بمحو العقوبة الأصلية والعقوبات التبعية والتكميلية والأثار الجنائية المترتبة علي الجريمة.

186- إلغاء إيقاف التنفيذ :

حدد المشرع المصري حالتين يجوز فيهما إلغاء وقف التنفيذ :
*- الأولى حالة صدور حكم خلال فترة إيقاف التنفيذ - أي خلال الثلاث سنوات التالية للحكم النهائي الصادر بالعقوبة مع إيقاف التنفيذ - سواء كان هذا الحكم عن جريمة ارتكبت قبل الإيقاف ولم يحكم فيها إلا بعده , أو عن جريمة ارتكبت بعد الأمر بإيقاف التنفيذ. وفي تلك الحالة يجب أن يكون الحكم الصادر عن تلك الجريمة حكماً نهائياً وأن يكون صادراً بالحبس مدة تزيد علي شهر
*- الثانية حالة ظهور أن المحكوم عليه كان قد صدر ضده قبل الإيقاف حكم بالحبس لمدة تزيد علي شهر , ولم تكن المحكمة التي أمرت بالإيقاف قد علمت به قبل إصدارها الحكم بإيقاف التنفيذ. وعلة ذلك أن المحكمة لو كانت قد علمت بصدور هذا الحكم لكان من المحتمل ألا تأمر بإيقاف التنفيذ.
وإذا ما توافرت إحدى هاتين الحالتين , فإنه يجوز للقاضي أن يلغي ماسبق وأصدره من أمر بإيقاف التنفيذ. فالإلغاء لا يتقرر بقوة القانون , وإنما يخضع للسلطة التقديرية للقاضي. فإذا ما ألغي الإيقاف تعين تنفيذ العقوبة التي قد أوقف تنفيذها وكافة العقوبات التبعية والتكميلية وكافة الأثار الجنائية الأخرى.

187- البديل الثاني : نظام الوضع تحت الاختبار (الاختبار القضائي) :

188- مضمون الوضع تحت الاختبار ونشأته :

يقصد بالوضع تحت الاختبار La mise à L' épreuve - كأحد بدائل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة - عدم الحكم علي المتهم بعقوبة ما , مع تقرير وضعه مدة معينة تحت إشراف ورقابة جهات معينة. فإذا مرت تلك المدة ووفى المحكوم عليه بالالتزامات المفروضة عليه فإن الحكم الصادر بالإدانة يعتبر كأن لم يكن. أما إذا أخل المحكوم عليه بهذا الالتزام خلال المدة فإنه يتعين استئناف إجراءات المحاكمة والحكم علي المتهم بالعقوبة . فكأن نظام الاختبار القضائي أو الوضع تحت الاختبار يتضمن إيقاف مؤقت لإجراءات المحاكمة عند حد معين وإرجاء النطق بالحكم إلي فترة لاحقة ، مع إخضاع المتهم خلال تلك الفترة إلي عدد من الالتزامات التي يمكن أن يترتب على الإخلال بها أن تسلب حريته . فهو نظام يحقق الدفاع عن المجتمع عن طريق حماية نوع من المجرمين المنتقين بتجنيبهم دخول السجن وتقديم المساعدة الإيجابية لهم تحت التوجيه والإشراف والرقابة .
ولقد نشأ هذا النظام أولاً في الدول ذات النظام الأنجلوأمريكي. فطبق في إنجلترا عام 1820 بهدف إنقاذ الأحداث الجانحين من دخول المؤسسات العقابية. وكان يجوز لقاضي الصلح Judge of Peace أن يلزم من ارتكب جريمة ما تخل بالأمن العام أن يكتب تعهداً يلتزم فيه باحترام الأمن وأن يسلك سلوكاً حسناً مقابل إطلاق سراحه. فإن خالف ذلك أمكن توقيع عقوبة عليه أو إبدالها بمبلغ من المال. ثم أستبدل بهذا التعهد فيما بعد إجراءات رقابية وإشرافية من قبل الشرطة للتحقق من سلوك المتهم , وكانت هذه هى بداية ظهور نظام الوضع تحت الاختبار بمعناه الدقيق.
وقد أخذت بعض الولايات الأمريكية بفكرة الوضع تحت الاختبار The Probation ، منها ولاية ماساشوشتس عام 1841 ، إلى أن أقر القانون الفيدرالي هذا النظام بصفه عامة في عام 1925. ومن دول القانون العام إلى الدول الأوروبية أنتقل هذا النظام فأخذ به التشريع الألماني عام 1953 والفرنسي عام 1957.

189- الصلة بين وقت التنفيذ والوضع تحت الاختبار :

يشترك كلاً من وقف التنفيذ والوضع تحت الاختبار في أن الهدف منهما هو تجنيب الشخص مساوئ العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة , فكلاهما بديلاً لتلك العقوبة , ويهدفان إلى إفساح فترة زمنية للشخص المحكوم عليه كي يثبت فيها صلاح حاله وحسن سلوكه كي يتجنب العقوبة السالبة.
بيد أن كلا النظامين يختلفان في فروق معينة منها :
*- في إيقاف التنفيذ يترك الفرد لجهوده الخاصة لإثبات إنصلاح حاله واندماجه الاجتماعي , أي أن لإيقاف التنفيذ دور سلبي. على العكس من ذلك يقف نظام الوضع تحت الاختبار , حيث يتميز بالايجابية , نظراً لأنه يتضمن فرض عدد من القيود والالتزامات تحت رقابة وإشراف جهات معينة يوكل إليها أمر التحقيق من تنفيذها.
*- في إيقاف التنفيذ يكون القاضي قد أظهر في الحكم شقين , شق الإدانة وشق الجزاء المترتب علي تلك الإدانة , مع تعطيل تنفيذ الشق الثاني دون الأول. أما في الوضع تحت الاختبار فإن القاضي لا يقرر إلا الشق الأول فقط المتعلق بالإدانة , دون أن يظهر الشق الثاني المتعلق بالجزاء أو العقوبة. فهذا الشق يكون لاحقاً على الحكم وبعد ثبوت فشل فترة الاختبار.
*- لا يلغى إيقاف التنفيذ إلا بثبوت ارتكاب المحكوم عليه لجريمة , في حين أنه يكفي لإلغاء الوضع تحت الاختبار أن يخالف الموضوع تحت الاختبار أحد الالتزامات المفروضة عليه حتى ولو لم تشكل هذه المخالفة فعلاً إجرامياً في نظر القانون.
*- يعد إيقاف التنفيذ أحد صور أو أحد أساليب المعاملة العقابية , فهو ليس بجزاء ولكنه أسلوب لتنفيذ الجزاء. بينما يعد الوضع تحت الاختبار جزاء بالمعنى الفني الدقيق أو كتدبير جنائي مستقل.

190- مضمون الالتزامات والرقابة في الوضع تحت الاختبار :

يتعلق نظام الوضع تحت الاختبار بفئة المجرمين الذين يقتضي اصلاحهم إبعادهم عن محيط المؤسسات العقابية. أي فئة من المجرمين يعتقد من خلال ظروفهم وفحص شخصيتهم أنهم قابلين للإصلاح وعدم العودة لسبيل الجريمة دون الخضوع لعقوبة سالبة للحرية . وعلى هذا فلا ينظر لنوع الجريمة المرتكبة أو لجسامة الواقعة بقدر ما ينظر إلى شخصية المحكوم عليه ، ومدى إمكانية تأهيله في الوسط الحر - أي خارج السجن - ومدى استعداده لتنفيذ الالتزامات المفروضة عليه ، حتى يكون في مأمن من تنفيذ عقوبة سالبة للحرية عليه إذا ما أخل بتلك الالتزامات.
وتتنوع الالتزامات التي تفرض على الخاضع للاختبار بين تدابير مساعدة تستهدف مساندة الجهود التي يبذلها الخاضع للاختبار في سبيل تأهيله اجتماعياً. وقد تأخذ تدابير المساعدة صورة معنوية ، كإلزامه بحضور جلسات دينية وعلمية معينة ، وقد تأخذ صورة مادية كإعانته بمبلغ نقدي أو مده بعمل مهني معين. وقد تكون التدابير ذات طابع رقابي تستهدف كفالة احترام الخاضع للاختبار للالتزامات المقررة وتمكينه من الاندماج في البيئة الاجتماعية. ومثال ذلك إلزامه بالإقامة في مكان معين ، أو إلزامه بتقديم مستندات معينة إلى مأمور الاختبار Agent de probationأو إلى الشخص القائم برقابته كي يتعرف منها على موارد رزقه وعلى الأشخاص الذين يخالطونه.
كما قد تأخذ الالتزامات صور سلبية أخرى كالامتناع عن ممارسة بعض الأنشطة أو الامتناع عن ارتياد بعض الأماكن كالحانات ودور القمار ، والامتناع عن الاشتراك في المراهنات أو عن شرب الكحوليات والامتناع عن قيادة وسائل معينة من وسائل النقل.
ويجوز للقاضي (قاضي تنفيذ العقوبات) أو لمأمور الاختبار أن يضيف إلى هذه الالتزامات كلما دعت الحاجة إلى ذلك ، وكلما ثبت أن الالتزامات المفروضة لم تعد كافية لتحقيق تأهيل المحكوم عليه وإصلاحه أو لم تعد تتلائم مع شخصية هذا الأخير.
وتجري الرقابة من قبل أشخاص يمثلون فئة من معاوني القضاء (ضباط الاختبارAgents de probation). فلقد ثبت أن الخاضع للاختبار لا يمكنه من تحقيق التأهيل لنفسه ، إنما هو دائماً في حاجة إلى معاونة من قبل أخصائيين مؤهلين ومدربين علمياً ومهنياً على تقديم النصح والإرشاد للخاضع للاختبار وقادرين على إقناعه بأهمية هذا النظام في الإصلاح والتأهيل. ويجرى عمل ضباط الاختبار تحت رقابة القضاء (قاضي تنفيذ أو تطبيق العقوبات Juge d'exécution ou d'application des peines) حتى نضمن عدم المساس بحريات وحقوق الأفراد أوالتعسف في تقيدها بدون مبرر أو مقتضى.

191- نهاية الوضع تحت الاختبار :

ينتهي الوضع تحت الاختبار عادة بنهاية المدة المقررة له دون إخلال الموضوع تحت الاختبار للالتزامات المفروضة عليه خلال تلك المدة. وعادة ما يحدد المشرع مدة الاختبار بين حد أدنى وأخر أقصى ، على أن يترك للقاضي سلطة تقديرية في تحديد مدة الاختبار فيما بين الحدين. ودائماً يجب على المشرع أن يراعي أن تكون هذه المدة مدة معتدلة حتى لا يكون الشخص الخاضع للاختبار أسوأ حظاً من الشخص الذي يحكم عليه بعقوبة سالبة للحرية. وفي حالة نهاية الوضع تحت الاختبار عن طريق إخلال الشخص الخاضع لهذا النظام للالتزامات المفروضة عليه تستأنف الدعوى الجنائية سيرها من جديد ، ويمكن للقاضي أن يقضي في مواجهة المخالف بعقوبة جنائية سالبة للحرية أو بغيرها من العقوبات حسب الأحوال.

192- الوضع تحت الاختبار في التشريع المصري :

أخذ المشرع المصري بنظام الوضع تحت الاختبار في شأن الأحداث الجانحين. فقد نصت المادة 12 من القانون رقم 13 لسنة 1974 على أن يكون الاختبار القضائي بوضع الحدث في بيئته الطبيعية تحت التوجيه والإشراف ومع مراعاة الواجبات التي تحددها المحكمة. ولا يجوز أن تزيد مدة الاختبار على ثلاث سنوات ، فإذا فشل الحدث في الاختبار عرض الأمر على المحكمة لتتخذ ما تراه مناسباً من التدابير . وقد أعيد التأكيد على هذا الأمر ثانية في المادة 106 من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 الذي حل محل قانون الأحداث سالف الذكر.

193- مدى تطلب رضاء الخاضع للاختبار :

أثار الفقه تساؤلاً حول مدى لزوم رضاء الشخص الخاضع للاختبار لما هو مفروض عليه من التزامات. فقد ذهب رأى إلى اشتراط رضا الخاضع لهذا النظام على أساس أن الوضع تحت الاختبار يتضمن فرض قيود والتزامات تستهدف التأهيل والإصلاح ، وبداهة لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا إذا كان الشخص الخاضع للاختبار راضياً ومقتنعاً بتلك القيود والالتزامات. فلا يتصور تأهيل شخص عن طريق فرض قيود يرفضها منذ البداية.
في حين ذهب رأى ثان إلى القول بأنه لا يجوز تعليق الوضع تحت أو تعليق الهدف منه على رضاء الخاضع له ، إذ يعني ذلك أن يترك تقدير ملائمة أساليب التأهيل لكل محكوم عليه وتقييد سلطة القضاء التقديرية في اللجوء لهذا الأسلوب من أساليب المعاملة العقابية.
وفي رأينا أن اشتراط الرضا غير ضروري ، حيث أن العقوبة وأساليب تنفيذها أمور تتعلق بالمصلحة العامة ولا يجوز ترك صيانة هذه المصلحة معلقاً على قبول ورضاء المحكوم عليه. غير أنه يغلب أن يرغب المحكوم عليه في الخضوع لهذا النظام بدلاً من توقيع عقوبة جنائية سالبة للحرية عليه فضلاً على أن ما يحققه هذا النظام من مزايا تضمن استجابة المحكوم عليه الخاضع للاختبار للالتزامات والقيود المفروضة عليه وتضمن تعاونه مع السلطات الرقابية خلال مدة الاختبار.

194- البديل الثالث : نظام وقف التنفيذ المقترن بالوضع تحت الاختبار :

195- مضمون النظام ونشأته :

فضلاً عن نظام وقف التنفيذ البسيط Le sursis simple المعروف في التشريع المصري ، يعرف التشريع الفرنسي نظام الجمع بين إيقاف التنفيذ والوضع تحت الاختبارLe sursis avec la mise à l'épreuve (المواد من 738 إلى 747 إجراءات جنائية فرنسي). وفق هذا النظام يجوز للقاضي أن يحكم بالعقوبة الجنائية مع إيقاف تنفيذها مدة معينة في خلالها يخضع الموقوف تنفيذ العقوبة قبله لعدد من القيود والالتزامات .
والواقع أن هذا الجمع أريد به تفادي ما قيل في شأن نظام إيقاف التنفيذ البسيط من كونه يقتصر على القيام بدور سلبي محض ، هو مجرد التهديد بتنفيذ العقوبة في المحكوم عليه إذا صدر عنه ما يجعله غير جدير بإيقافها ، دون أن يخضع الموقف ضده العقوبة لنوع من تدابير المساعدة أوالرقابة. فالمحكوم عليه في حالة إيقاف التنفيذ العادي يترك وشأنه دون إعانته ومساعدته على مقاومة العوامل الإجرامية الكامنة داخله أو المحيطة به.
وترجع بدايات هذا النظام إلى عام 1952 عندما قدمت الحكومة الفرنسية مشروع قانون يهدف إلى الأخذ بنظام الوضع تحت الاختبار مقترناً بإيقاف التنفيذ. وقد تم إقرار هذا القانون من قبل الجمعية الوطنية عام 1957 وتم إدماجه في قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي في المواد 738 وما بعدها ، والتي أعيد الأخذ بها في قانون العقوبات الفرنسي الجديد في 22 يوليو 1992 (المواد 132–40 إلى 132–53) بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة .
ويختلف نظام الجمع بين وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار الفرنسي عن نظام الوضع تحت الاختبار العادي المعروف خصوصاً في النظام الأنجلوأمريكي. ففي نظام الجمع الفرنسي يفترض أن يقرر القاضي الإدانة والعقوبة مع إيقاف تنفيذها وإخضاع المحكوم عليه لعدد من القيود والالتزامات خلال مدة إيقاف العقوبة. أما في نظام الوضع تحت الاختبار الأمريكي فيقتصر دور القاضي على تقرير الإدانة فقط تاركاً الحكم بالعقوبة في مرحلة تالية عند إخلال المحكوم عليه بالالتزامات المفروضة عليه خلال مدة الوضع تحت الاختبار .

196- شروط وقف نظام التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار :

اشترط المشرع الفرنسي عدداً من الشروط من أجل الاستفادة من نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار ، بعضها يتصل بالمتهم وبعضها يتعلق بالعقوبة وبعضها يتعلق بمدة الاختبار.
أما بالنسبة للشروط المتعلقة بالمتهم ، فخلافاً لوقف التنفيذ البسيط الذي لا يتقرر إلا إذا كان المتهم لم يحكم عليه بالإدانة خلال الخمس سنوات السابقة على الجناية أو الجنحة بعقوبة الاعتقال Réclusion أو الحبس (م132-30 عقوبات فرنسي جديد) فإن نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار يطبق على كل متهم محكوم عليه بالحبس لمدة خمس سنوات أو أكثر لجناية أو جنحة من جرائم القانون العام (م 132-741).
أما فيما يتعلق بالعقوبة ، فعلى العكس من وقف التنفيذ البسيط الذي يمكن للمحكوم عليه الاستفادة منه إذا حكم عليه بالحبس أو الغرامة أو العقوبات البديلة أو الغرامة اليومية أو العقوبات التكميلية مع استبعاد المصادرة وغلق المنشأة ولصق الإعلان (م132–31/2 عقوبات فرنسي جديد) فإن نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار لا يطبق إلا بالنسبة لعقوبة الحبس لجناية أو جنحة من جرائم القانون العام (م132-41/1). مما يعني استبعاد عقوبات الحبس المقررة للجرائم السياسية والعسكرية.
وأخيراً فيما يتعلق بمدة الاختبار ، فإن للمحكمة الجنائية – سواء كانت محكمة الجنح أو محكمة الاستئناف أو محكمة الجنايات أو حتى المحكمة العسكرية وفقاً للشروط الواردة في المادة 369 من قانون العقوبات العسكري رقم 82/621 الصادرة في 21 يوليو 1982 – أن تقرر الأخذ بإيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار بحيث لا تقل مدة الاختبار عن ثمانية عشر شهراً ولا أن تزيد عن ثلاث سنوات (م 132 –42/1 عقوبات فرنسي جديد). ويبدأ ميعاد الوضع تحت الاختبار وفقاً للفقرة الثانية من المادة 132– 42 من اليوم الذي تصبح فيه الإدانة نافذة وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 708 إجراءات جنائية فرنسي.
وجدير بالذكر أن المشرع الفرنسي لم يخير المحكوم عليه في المفاضلة بين الحبس وبين إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار ، حيث أن إعمال هذا النظام لا يتوقف على رضاء المحكوم عليه.

197- أثار نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار :

يترتب على نظام الجمع بين وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار -كما هو الحال في حالة إيقاف التنفيذ البسيط – وقف عقوبة الحبس كلها أو بعضها (م132–42 فقرة ثانية عقوبات فرنسي جديد) دون إيقاف تنفيذ العقوبات المالية أو التبعية (م746 إجراءات جنائية فرنسي) .على أن أهم ما يرتبه هذا النظام من أثار هو إخضاع المحكوم عليه لعدد من تدابير الرقابة والمساعدة والالتزامات التي تهدف إلى تأهيل المحكوم عليه اجتماعياً (132–43 ، 132–44 ، 132–45).
فقد نصت المادة 132–44 عقوبات على عدد من تدابير الرقابة تفرض على كل شخص خاضع للاختبار منها : الاستجابة لطلب الاستدعاء الذي يصدر من قاضي تنفيذ العقوبات أو مأمور الاختبار ، إلزام المحكوم عليه بإخطار مأمور الاختبار بكل تغيير يتم في محل العمل وبكل تغيير في محل الإقامة أو بكل انتقال تزيد مدته على خمس عشر يوماً وإلزامه بالحصول على إذن مسبق عند الرغبة في الانتقال خارج فرنسا وإلزامه بتقديم المستندات اللازمة لمأمور الاختبار للتحقق من وسائل معيشته.
كما تنص المادة 132–45 على أنه يجوز للمحكمة التي أصدرت حكم الإدانة أو قاضي تنفيذ العقوبة أن يفرض على من وضع تحت الاختبار واحد أو أكثر من الالتزامات المنصوص عليها في تلك المادة ، ومنها : المنع من مزاولة نشاط مهني معين أو الإقامة في مكان معين ، أو الخضوع لتدابير وإجراءات الفحص الطبي أو العلاج حتى ولو اقتضى الأمر الالتزام بالإقامة في مستشفى ، وإلزامه بإصلاح الأضرار الناشئة عن الجريمة ، أو المنع من قيادة السيارات أو ارتياد أماكن معينة أو ارتياد بيوت المراهنات أو محال بيع الخمور والكحوليات، أو المنع من حيازة أو حمل أسلحة ، أو المنع من مخالطة أشخاص معينين ، كالمساهمين معه في الجريمة أو المجني عليه فيها .

198- تعديل وإلغاء نظام إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار:

أجاز المشرع الفرنسي لكل من المحكمة التي قضت بإيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار وإلى قاضي تطبيق العقوبات Juge d'application des peines تعديل هذا الإجراء أثناء مدة الاختبار.
فللمحكمة الابتدائية Tribunal de Grande Instance (TGI) التابع لها محل إقامة المحكوم عليه أن تضيف إلى الالتزامات الواقعة على عاتق المحكوم عليه. ولها أن تمد مدة الاختبار بما لا يجاوز الحد الأقصى لها (3سنوات) (م 742 إجراءات جنائية فرنسي). وللمحكمة أن تأمر بالتنفيذ الكامل أو الجزئي للعقوبة السابق إيقافها إذا أخل المحكوم عليه بالالتزامات والقيود المفروضة عليه. كما أن للمحكمة أن تقرر إعفاء المحكوم عليه من مدة الاختبار المتبقية وإلغاء الالتزامات المفروضة إذا ما كشفت شخصيته عن قابلية للتأهيل والإصلاح. واعتبار حكم الإدانة الصادرة ضده كأن لم يكن بشرط مضي سنة على الأقل ابتداءً من اليوم الذي أصبح فيه حكم الإدانة نهائياً (م743 إجراءات جنائية فرنسي).
كما يجوز لقاضي تطبيق العقوبات - أثناء مدة الاختبار - أن يعدل من الالتزامات المفروضة على المحكوم عليه بالزيادة أو النقص. ويجوز للمحكوم عليه التظلم من هذا القرار أمام محكمة الجنح ، ولهذه الأخيرة أن تقره أو تعدله (م729/2 ، 3 إجراءات جنائية فرنسي). كما أن لقاضي تطبيق العقوبات أن يأمر باعتقال المحكوم عليه في أقرب مؤسسة عقابية إذا ما أخل بالالتزامات المفروضة عليه ، على أن يعرض أمر الاعتقال على محكمة الجنح خلال خمس أيام وإلا أفرج عن المحكوم عليه المعتقل.
ويعد إخلال المحكوم عليه بالالتزامات وتدابير الرقابة والمساعدة المفروضة عليه سبباً لإلغاء إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار (م 132–47). وهذا الحق مقرر لمحكمة الجنح وفقاً للشروط المنصوص عليها في المادة 132–48 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد. كما يمكن للجهة القائمة على تنفيذ العقوبات أن تقرر إلغاء هذا النظام وفقاً للشروط المحددة في قانون الإجراءات الجنائية. ويمكن لهذا الإلغاء أن يكون كلياً أو جزئياً إذا ما ثبت ارتكاب المحكوم عليه في فترة الاختبار جناية أو جنحة وتمت إدانته عنها والحكم بعقوبة سالبة للحرية وكان الحكم بها نهائي ( م132–48 عقوبات).

199- البديل الرابع : نظام الإعفاء من العقوبة وتأجيل النطق بها:

حاول المشرع الحد من مثالب العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة بإتباع بعض وسائل المعاملة العقابية التي تتمثل في العفو عن العقوبة أو في تأجيل النطق بها La dispense de peine et de l'ajournement. وإلى هذين النظامين ذهب المشرع الفرنسي في قانون العقوبات الفرنسي الجديد. فقد أجازت المادة 132–59 لمحكمة الجنح أن تعفي المتهم من العقوبات إذا تبين أن تأهيل المتهم قد تحقق وأن الضرر الناتج عن الجريمة قد عوض وأن الاضطراب الذي أحدثته الجريمة قد توقف. كما أجاز المشرع الفرنسي تأجيل النطق بالعقوبة ، ولهذا التأجيل صور ثلاث :
*- فإما أن يكون هذا التأجيل بسيطاً Ajournement simple إذا ظهر أن المتهم في سبيله إلى التأهيل وأن الضرر الناجم عن الجريمة في سبيله للإصلاح وأن الاضطراب الذي أحدثه الجريمة على وشك التوقف. ويشترط في جميع الأحوال حضور الشخص بنفسه أما المحكمة أو ممثله إذا كان شخصاً معنوياً (م 132–60).
*- كما قد يكون التأجيل مع الوضع تحت الاختبار Ajournement avec mise à l'épreuve. فيجوز للمحكمة في مواجهة المتهم الحاضر للجلسة أن تؤجل النطق بالعقوبة تجاهه مع إخضاعه لعدة من القيود والالتزامات وفقاً لما هو معمول به في نظام الوضع تحت الاختبار (المواد 132–43 إلى 132–46 من قانون العقوبات). وتكون مدة الوضع تحت الاختبار سنة على الأكثر. ويجوز للمحكمة أثناء تلك المدة أن تعفي المتهم من العقوبة نهائياً أو أن تنطق بها أو تؤجل النطق بها لمدة أخرى. على أنه يجب الفصل في أمر العقوبة خلال سنة من أول تأجيل.
*- وأخيراً هناك نظام التأجيل مع الأمر .Ajournement avec injonction ويتعلق هذا النظام بالأحوال التي توجد فيها قوانين ولوائح خاصة تفرض عقوبات معينة نتيجة الإخلال بالتزام معين. في تلك الحالة يجوز للقاضي الجنائي أن يؤجل النطق بالعقوبة المفروضة في تلك القوانين واللوائح مع إلزام المحكوم عليه بتنفيذ الالتزام الوارد في القانون أو في اللائحة.وهذا يفرض على المحكمة أن تحدد في الأمر طبيعة الالتزامات والتعليمات التي يجب الامتثال لها والقيام بتنفيذها ، وكذلك يفرض عليها أن تحدد ميعاد للتنفيذ يختلف عن ميعاد التأجيل (م132–66). ولا يصدر الحكم بالتأجيل مع الأمر إلا في الجنح والمخالف دون الجنايات ، ولا يشترط فيه حضور المتهم أو ممثل الشخص المعنوي. ويجوز للمحكمة أن تصدر التأجيل مع الأمر مقروناً بغرامة تهديدية إذا كان القانون أو اللائحة الذي تمت مخالفته يقرر ذلك. ويمتنع تنفيذ هذه الغرامة إذا نفذ المحكوم عليه الالتزامات المقررة في القانون أو في اللائحة (م 132–67). وكبقية أنواع التأجيل فإن التأجيل مع الأمر يتقرر لمدة سنة على الأكثر. غير أن هذه المدة - على خلاف الأنواع الأخرى من التأجيل - لا تمتد إذا تم تحديدها من قبل المحكمة (م132–68). فإذا تم تنفيذ التعليمات الواردة بالأمر في الميعاد المحدد فإن للمحكمة الحق في أن تعفي المتهم من العقوبة المقررة في القانون أو اللائحة أو تؤجل مرة ثانية النطق بها. أما إذا حدث تأخير في التنفيذ فإن للمحكمة أن تعفي من الغرامة التهديدية مع تطبيق العقوبات الواردة بالقانون أو اللائحة. فإذا لم يتم التنفيذ نهائياً فإن للمحكمة أن تعفي من الغرامة التهديدية إذا كان لذلك محل وتقضي بالعقوبات المقررة ، ولها أن تأمر بمتابعة التنفيذ على نفقة المحكوم عليه (م 132–68).

200- البديل الخامس : نظام شبه الحرية :

201- مضمون النظام :

يقصد بنظام شبه الحرية Régime de semi-liberté إلحاق المحكوم عليه بعقوبة قصيرة المدة بعمل خارج المؤسسة العقابية دون إخضاعه لرقابة جهة الإدارة ، مع إلزامه بالعودة إلى المؤسسة العقابية كل مساء وقضاءه فترة العطلات فيها ، كل ذلك طيلة مدة العقوبة . وعادة ما يكون هذا النظام أسلوباً تدريجياً يلجأ إليه بشأن المحكوم عليهم الذين قرب موعد الإفراج عنهم أو من أجل تمكين المحكوم عليهم من متابعة دراسة معينة أو مهنة معينة أو الخضوع لعلاج معين أو المشاركة في حياته الأسرية (م 132–26 عقوبات فرنسي) . وبهذا النظام أخذ المشرع الفرنسي ، إذ أجاز تطبيق نظام شبة الحرية على المحكوم عليهم الذين بقي على إتمام عقوبتهم مدة لا تزبد على سنة (م132–25). ويخضع المحكوم عليه في هذا النظام لذات الأوضاع التي يعمل فيها أي عامل حر غير محكوم عليه. وبالتالي فهو يخضع لعقد عمل حقيقي ولمظلة التأمين الاجتماعي. غير أن الخاضع لهذا النظام لا يتقاضى أجره من رب العمل مباشرة ، وإنما يتقاضاه من مدير السجن. على أن يستقطع من هذا الأجر مبلغاً يخصص للمحكوم عليه بعد انتهاء فترة شبه الحرية ، ويخصص لتعويض المضرور من الجريمة (المدعي بالحق المدني) فيما لا يجاوز نسبة 10%.
وبالإضافة إلى التزام الخاضع لنظام شبة الحرية بالعودة إلى المؤسسة العقابية عقب انتهاء فترة العمل بالخارج ، فإن هناك عدد آخر من الالتزامات قد تفرض عليه من قبل قاضي تطبيق العقوبات ، لا تخرج في مجموعها عن الالتزامات التي سبق وأن أشرنا لها عند الحديث عن نظام وقف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار ، باستثناء ما يتفق مع طبيعة هذا النظام. ومثال ذلك إلزام المحكوم عليه بمراعاة ساعات الخروج والعودة التي يقررها القاضي ومراعاة الضوابط المحددة بمعرفة وزارة العدل بشأن حسن الهيئة والهندام والمسلك الشخصي والانتظام في العمل وعدم التخلف عنه بدون عذر.

202- مميزات وصعوبات تطبيق نظام شبه الحرية :

لا شك أن نظام شبة الحرية يضمن تحقيق العديد من المزايا بالنسبة للمحكوم عليه. فهذا النظام يجنب المحكوم عليه الاختلاط بالسجناء نظراً لتغيبه طيلة فترة النهار ، وبالتالي فإنه يتجنب عدوى الجريمة ممن هم أشد منه خطورة. كما أن النظام يضمن للمحكوم عليه عدم الانفصام عن بيئته الطبيعية ، فهو يضمن له الاستمرار في الدراسة ومتابعة أسرته ومتابعة نشاطه المهني. وعلى الرغم من تلك المزايا فإن تطبيقه يواجه العديد من الصعوبات ، حيث من المتعذر غالباً أن يجد المستفيد من نظام شبه الحرية عملاً مناسباً نظراً لفقد الثقة القائمة بشأنه من قبل أرباب الأعمال. فضلاً عن أن اتصال المحكوم عليه بالعالم الخارجي واختلاطه ليلاً بعد العودة من العمل بأقرانه في المؤسسة العقابية سيساعد على دخول الأشياء الممنوعة داخل السجن ، ولا يمكن مواجهة ذلك إلا بفصل المستفيدين من نظام شبة الحرية عن بقية النزلاء داخل المؤسسة العقابية.
وتفادياً لتلك الصعوبات كانت بعض الدول قد طورت نظام شبة الحرية ، آخذةً ما يعرف بنظام "حبس نهاية الأسبوع"Arrêt de fine de semaine ، وبهذا أخذ المشرع البلجيكي طبقاً للمنشور الصادر عن وزارة العدل بتاريخ 15 فبراير 1963. ويتمثل هذا النظام في إيداع المحكوم عليه السجن بعد ظهر يوم السبت إلى السادسة من صباح الاثنين ، على ألا يزيد حبس نهاية الأسبوع على ثلاثين مرة على أن تحسب كل مرة بيومين حبس. بمعنى آخر فإن العقوبة يجري تنفيذها على أجزاء ، كل أسبوع ينفذ المحكوم عليه يومين من أيام الحبس مضافا إليها أيام العطلات ويستمر هذا النظام إلى حين انقضاء العقوبة كاملةً.

203- إلغاء نظام شبة الحرية :

يكون إلغاء نظام شبة الحرية من قبل المحكمة الابتدائية التابع لها محل إقامة المحكوم عليه إذا كانت هي التي قررته - بناء على تقرير من قبل قاضي تطبيق العقوبات - وذلك في حالة إخلال المحكوم عليه بالقواعد والالتزامات المفروضة عليه. كما يجوز في هذه الحالة لقاضي تطبيق العقوبات في حالة الاستعجال أن يوقف من تلقاء نفسه نظام شبة الحرية على أن يعرض هذا القرار على المحكمة لتنظر فيه خلال خمسة أيام. كما أن لهذا القاضي أن يلغي هذا النظام إذ كان هو الذي قرره. ولمدير المؤسسة العقابية في حالة الاستعجال أن يصدر أمراًًًًًًًًً بإعادة المحكوم عليه إلى المؤسسة العقابية ، على أن يطلع قاضي تطبيق العقوبات على هذا الأمر.

204- البديل السادس : نظام الوضع تحت المراقبة الالكترونية :

أصدر المشرع الفرنسي قانون في 19 ديسمبر 1997 من أجل استحداث المواد 723/7 إلى 723/12 في قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي بغية ابتداع بديل آخر من بدائل العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة ، ألا وهو نظام الوضع تحت المراقبة الالكترونية Le placement sous surveillance électronique ، وذلك بعد نجاح تجربته في دول أخرى ، كالولايات المتحدة ، والسويد ، وبريطانيا ، وهولندا ، وكندا. ويقوم هذا النظام على ترك المحكوم عليه بعقوبة سالبة قصيرة المدة طليقاً في الوسط الحر مع إخضاعه لعدد من الالتزامات ومراقبته في تنفيذها الكترونياً عن بعد. وقد بدأت تجربة هذا النظام في عام 2000 في أربع مؤسسات عقابية ، ثم في تسع في أول أكتوبر 2002، واستفاد منه 393 محكوم عليه. ثم أصدر المشرع قانون توجيه وتنظيم العدالة loi d'orientation de programmation pour la justice في 9 سبتمبر 2002 بهدف تعميم هذا النظام تدريجياً على ثلاث سنوات بحيث يستفيد منه 400 محكوم عليه في البداية ويضاف مئة مستفيد كل شهر للوصول لثلاثة آلاف محكوم عيه نهاية عام 2006 .
ويشترط للاستفادة من هذا النظام ألا تكون مدة العقوبة المطلوب تنفيذها أو المتبقية أكثر من عام ، ويجري تطبيقه بعد موافقة المحكوم عليه بناء على أمر من قاضي التنفيذ أو بناء على طلب النائب العام أو طلب من المحكوم عليه ذاته (م. 723-9). والخاضع لهذا النظام يلزم بعدم التغيب عن محل إقامته أو أي مكان آخر يحدده القرار الصادر من قاضي التنفيذ خلال ساعات معينه من اليوم ، بما يتفق مع الوضع الأسري والمهني للمحكوم عليه. ويراقب تنفيذ تلك الالتزامات الكترونياً عن طريق ارتداء المحكوم عليه أسورة الكترونية Bracelet-ématteur في كاحله تقوم بإرسال إشارة مداها 50 متراً كل 30 ثانية. وتستقبل تلك الإشارات على جهاز Récepteur مثبت في مكان يحدده قاضي تطبيق العقوبات ويتصل بمركز المتابعة الموجود في المؤسسة العقابية عن طريق خط تليفون. كما قد يجرى التحقق من احترام الالتزامات المفروضة عن طريق زيارات تجريها الإدارة العقابية للمحكوم عليه (م. 723-9). وإذا حدث وعطل المحكوم عليه أجهزة المراقبة الإلكترونية فإنه يعد مرتكباً للجريمة المنصوص عليه في المادة 349-29 ، ويكون ذلك سبباً لإلغاء قرار الوضع تحت المراقبة الالكترونية.

205- البديل السابع : نظام العمل للصالح العام:

من أجل تدارك عيوب العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة ، أخذ المشرع الفرنسي - في قانون العقوبات الفرنسي الجديد - بنظام العمل للصالح العام Le travail d'intérêt général (م131–8 عقوبات). ويتقرر هذا النظام بشأن المتهمين المحكوم عليهم في مواد الجنح بعقوبة الحبس أياً كانت مدته. وكذلك يستفيد من هذا النظام المتهمين الذين صدرت ضدهم أحكاماً بالإدانة خلال الخمس سنوات السابقة على الجريمة. بمعنى أن المشرع لا يأخذ في اعتباره الماضي الإجرامي للمتهم Le passé pénal du prévenu، مما يعطي مساحة تقديرية أكبر للقاضي الذي يمكن له بالتالي أن يقرر نظام العمل للصالح العام في حالات لا يمكن الأخذ فيها بنظام إيقاف التنفيذ.
ويطبق هذا النظام على البالغين وعلى الأحداث البالغ عمرهم ست عشر سنة فأكثر. وكذلك جعل المشرع الفرنسي مدة العمل واحد في شأن البالغين وفي شأن الأحداث بحيث تصل لكلاهما إلى 240 ساعة عمل كحد أقصى. ولا يتقرر العمل للصالح العام إلا إذا كان المتهم حاضراً بالجلسة وقبله حين عرض عليه من قبل رئيس المحكمة. وفي حالة قبول المتهم لهذا البديل عن الحبس تحدد المحكمة المدة التي يتعين أداء العمل خلالها ، بما لا يجاوز ثمانية عشر شهراً ، كما تحدد مدة ساعات العمل المحكوم بها ، وهي تتراوح بين 24 ساعة و 240 ساعة سواء بالنسبة للبالغين والأحداث. وهذا العمل لا يتقرر مع الحبس إذ أنه بديل عنه. كما أنه يتقرر دون مقابل Travail non Rémunéré لما للعمل للصالح العام من معنى الجزاء الجنائي.
ويجرى تنفيذ العمل للصالح العام تحت إشراف قاضي تنفيذ العقوبات الذي يقع في دائرته محل إقامة المحكوم عليه. ويتقيد العمل للصالح العام بكافة القيود التشريعية واللائحية المنصوص عليها بشأن العمل عموماً ، كتلك المتعلقة بأوقات العمل وجوانب الأمن الصناعي وعمل النساء والعمل الليلي ...الخ (م 131–23 عقوبات فرنسي). ويستفيد المحكوم عليه أثناء القيام بالعمل للصالح العام من كافة أحكام قانون الضمان الاجتماعي فيما يتعلق بحوادث العمل والأمراض المهنية. وإذا ما سبب العمل للصالح العام ضرراً للغير فإن الدولة تحل بقوة القانون في حقوق المجني عليه أو المضرور ، ولها أن تقيم دعوى المسئولية ودعوى الرجوع قبل المحكوم عليه (م 131–24). ويجرى تحديد الأعمال التي يمكن القيام بها للصالح العام عن طريق مشاورات بين التجمعات العامة والأهلية وقاضي تطبيق العقوبات وأعضاء المجلس الإقليمي للوقاية من الإجرام Le conseil départemental du prévention de la délinquance. وعادة ما تتصل هذه الأعمال بتحسين البيئة الطبيعية ، كإعادة غرس الغابات وإصلاح وترميم الآثار التاريخية وإنارة الطرق ونظافة الشواطئ وأعمال التضامن ومساعدة المرضى والمعاقين.
ويمكن إخضاع المحكوم عليه بالعمل للصالح العام لعدد من تدابير الرقابة والمساعدة التي سلف وأشرنا إليها في معرض حديثنا عن نظام إيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار.
وإذا ما تم تنفيذ العمل المحدد للمحكوم عليه فإن جهة العمل أي الجهة التي تم العمل لصالحها تخطر قاضي تنفيذ العقوبات أو مأمور الاختبار بهذا وتسلم المحكوم عليه شهادة تفيد تنفيذ العمل. أما إذا خل المحكوم عليه بالعمل الموكول إليه تنفيذه أو أخل بأحد الالتزامات المصاحبة للعمل أمكن عقابه عن جنحة عدم مراعاة الالتزامات الناشئة عن العمل للصالح العام المنصوص عليها بالمادة 434–42 عقوبات والتي يتقرر لها عقوبة الحبس سنتان وغرامة مائتي ألف فرنك.

206- البديل الثامن : نظام تقسيط العقوبات :

أخذ المشرع الفرنسي بنظام تقسيط العقوبات Fractionnement des peines في قانون العقوبات الجديد في المادة 132–27 التي تقرر أنه "يجوز للمحكمة في مواد الجنح وللأسباب جدية طبية أو عائلية أو مهنية أو اجتماعية ، أن ينفذ الحبس المحكوم به لمدة سنة على الأكثر بالتقسيط ، خلال فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات ولا تقل مدة كل تقسيط عن يومين". ويظهر من هذه المادة أن نظام تقسيط العقوبات لا يسري إلا بشأن الجنح دون الجنايات ويصدر القرار به من المحكمة المختصة وليس من قاضي تطبيق العقوبات. وهي نظام يقترب في مجموعه من النظام البلجيكي المعروف باسم "حبس نهاية الأسبوع" سالف الإشارة إليه.
ونهيب من جانبنا بالمشرع المصري أن يوسع من الأخذ بهذه البدائل كي يتجنب مساوئ العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة ، والتي انتشرت بعد تفشي ظاهرة "تسعير العقاب" Système de trafication de la punition في النظام القضائي المصري ، أي إصدار القضاء أحكام متماثلة في الجرائم المتماثلة دون اعتبار لشخصية المحكوم وظروفه ، وكذلك ما يسمى "عقدة الحد الأدنى" ، أي ميل القضاة إلى إصدار أحكام تقترب من الحد الأدنى للعقوبة .
الفصل الثانى

التدابير الاحترازية

207- تمهيد :

ظلت العقوبة لسنوات طويلة تمثل السلاح الوحيد في يد المجتمع ضد الجريمة. غير أن هذا السلاح قد أخفق في مواطن عدة عن تحقيق الهدف المنشود المتمثل في مكافحة الظواهر الإجرامية المختلفة ، الأمر الذي استوجب البحث عن بديل يحل محل العقوبة - أو يشاركها في بعض الأحيان - ويكون له من الفاعلية التي تمكن من تحقيق أغراض الجزاء الجنائي المتنوعة. وعلى هذا ، وفي ضوء الرغبة في تنوع أساليب مكافحة الجريمة، ظهرت فكرة التدابير الاحترازية Mesures de sûreté كصورة جديدة من صور الجزاء الجنائي .
وهذا النمط الجديد من الجزاءات يثير في الواقع بعض التساؤلات المتعلقة ببيان ماهيته وكيفية تطوره ، وكذلك أقسامه وأغراضه ، ثم بيان خصائصه وشروط تطبيقه ، وأخيراً إظهار الإشكاليات المتصلة بعلاقة التدابير بالعقوبة الجنائية. ولكل من هذه التساؤلات سوف نخصص مبحثاً.
المبحث الأول

ماهية التدابير الاحترازية وتطورها ومبرراتها

208- أولاً : ماهية التدابير الاحترازية :

التدابير الجنائية عموماً مجموعة من الإجراءات القهرية التي يرصدها المجتمع من أجل مواجهة الخطورة الإجرامية الكامنة في الشخص والتي تنبئ عن احتمال ارتكاب الجريمة في المستقبل. ويتضح من هذا التعريف أن التدابير ليست إلا وسائل الغرض منها حماية ووقاية المجتمع ضد الخطر المستقبلي للمجرم ، وذلك بقطع الطريق بينه وبين الوسائل الدافعة أو التي تسهل له ارتكاب الجريمة - مثال ذلك مصادرة السلاح أو إغلاق المحل أو حظر الإقامة ...الخ - أو عن طريق إعداده لحياة شريفة في المجتمع أو علاجه من مرض عقلي أو نفسي يؤثر في سلوكه ، كإلحاق المجرم بعمل ما من الأعمال أو وضعه تحت مراقبة الشرطة أو إيداعه في إحدى المصحات النفسية أو العقلية.
والتدبير وفق هذا التعريف لا يتوافر فيه معنى الألم المتوافر في العقوبة ، أي أنه يتجرد من المضمون الأخلاقي الذي يعطي للعقوبة أهم خصائصها. فالغرض النفعي ، المتمثل في الدفاع عن المجتمع ضد خطورة المجرم لمنع ارتكاب لجرائم جديدة ، هو الغرض الأساسي للتدابير .
كذلك يتضح أن التدابير إجراءات قسرية توقع جبراً على من توافرت فيه الخطورة الإجرامية. ومن ثم فهي لا تؤسس على فكرة المسئولية الجنائية وإنما على أساس الخطورة المستقبلية للمجرم. لذا فمن المتصور توقيعها قبل من لم توافر فيه شروط المسئولية الجنائية ، كالمجنون وناقص الأهلية وصغير السن ...الخ.
وارتباط التدابير بالخطورة الإجرامية إنما يعني توقيع هذه التدابير على من وقعت منه بالفعل جريمة سابقة تكشف عن تلك الخطورة. ومن هنا تتميز التدابير الاحترازية عن إجراءات الوقاية التي قد يتخذها المجتمع قبل وقوع الجريمة ، وبهدف منع وقوعها بداءةً. تلك التدابير الأخيرة - التي يطلق عليها البعض "تدابير التحصين الاجتماعي ضد الإجرام" - توصف بأنها تدابير ذات طبيعة اجتماعية عاطلة من أي صبغة جنائية بهدف تضيق فرص الإجرام ، مثالها إنارة الطرق وتحسين مستوى المعيشة والاهتمام بالتعليم والحد من البطالة...الخ .

209- ثانياً : نشأة وتطور التدابير الاحترازية :

عرفت التدابير الاحترازية منذ زمن بعيد ، حتى قبل ظهور أفكار المدرسة الوضعية الإيطالية كإجراءات مشتتة لا يجمعها نظرية عامة موحدة وتحت أسماء متفاوتة كالتدابير الإدارية في حالة إيداع المجنون في محل معد لذلك أو كعقوبة تبعية أو تكميلية كما هو الحال في المصادرة أو الحرمان من بعض الحقوق والمزايا.
إلا أن تأصيل جملة التدابير - على تنوعها - وإعطائها صفة الجزاء الجنائي ووضعها في إطار نظرية عامة كان الفضل فيه للمدرسة الوضعية الإيطالية. ويرجع السبب في ذلك إلى أن عقيدة تلك المدرسة هي حماية المجتمع والدفاع عنه ضد مصادر الخطورة الإجرامية. ولما كانت العقوبة في نظر أنصار هذه المدرسة قد أفلست في القيام بدورها سواء قبل معتادي الإجرام أو قبل طائفة المجانين وعديمي التميز والشواذ والأحداث فكان لابد من ابتداع ما أسمته تلك المدرسة تدابير الأمن Mesures de sûreté اللاحقة على ارتكاب الجريمة متى كانت هذه الأخيرة تنم عن خطورة إجرامية في المستقبل.
ولقد أثرت المدرسة الوضعية على تشريعات العديد من الدول فأخذت بصور متنوعة من التدابير ، مثال ذلك القانون الفرنسي عام 1885 الذي كان يقضي بالنفي Relégation على معتادي الإجرام ، وكذلك القانون البلجيكي عام 1891 الذي كان يقرر وضع المتشردين تحت تصرف الحكومة بغرض تأهيلهم ، وقانون البرتغال عام 1892 والأجنتين عام 1903 وكذلك قانون الحجز الوقائي في إنجلترا عام 1908.
غير أن أولى المحاولات الجادة لوضع تنظيم متكامل للتدابير كان في مشروع قانون العقوبات الذي قدمه كارل استوس Karl Stooss في سويسرا عام 1893 ، والذي أصبح قانوناً بالفعل بعد عدة سنوات في عام 1937. هذا المشروع اختص بالتدابير حالات معتادي الإجرام والمتشردين ومن اشتهر عنهم سوء السلوك ومدمني الكحول. حيث اقترح إرسالهم لأماكن خاصة عازلة في حالات الخطورة الجسمية أو إلى محال عمل لذوي الخطورة المتوسطة أوالبسيطة .
وقد دعت مدارس الوسط ، والتي ترمي إلى التوفيق بين أفكار المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الوضعية ، إلى الأخذ بالتدابير الاحترازية إلى جوار العقوبة مع الاحتفاظ لكلا الجزاءين بنطاقه الخاص. فتختص العقوبات بالمجرمين كاملي الأهلية وتنفرد التدابير بالحالات التي تحتاج إلى العلاج أو التقويم كالأحداث وناقصي وعديمي الأهلية.
وإلى هذا النظام الجمعي بين العقوبة والتدابير ذهبت العديد من التشريعات كالقانون اليوغسلافي عام 1929 ، والألماني عام 1933 ، وقوانين كل من إيطاليا والدنمارك وبولندا عام 1930 ، والمكسيك في عام 1928 ، وقانون الدفاع الاجتماعي الكوبي عام 1936. واخذ بهذا الاتجاه أيضا المشرع الفرنسي في قوانين كثيرة ، منها قانون عام 1953 المتعلق بالاتجار واستعمال المواد المخدرة ، وقانون 14 أبريل عام 1954 بشأن علاج مدمني الكحول والخطرين على الغير ، وقانون 4 يوليو سنة 1954 بشأن العائدين ، وقانون مارس لسنة 1955 بشأن حظر الإقامة. وأخذ بذلك أيضاً بشأن المجرمين الشواذ ومعتادي الإجرام 1936. يضاف إلى ذلك بعض التشريعات العربية كلبنان عام 1943 ، وليبيا عام 1953 ، والأردن عام 1960 ، وقانون العقوبات الاتحادي الإماراتي رقم 3 لسنة 1987 والذي خصص الباب السابع منه (م 159 –132) لبيان التدابير الجنائية. وقد نهج هذا النهج مشروع قانون العقوبات المصري عام 1967 والذي خصص للتدابير الاحترازية الفصل الثالث والرابع منه (م 76 إلى 113) .

210- ثالثاً : علة التدابير الاحترازية :

تستمد التدابير الاحترازية وجودها من قصور فكرة العقوبة عن القيام بدورها في مكافحة الجريمة وصيانة المجتمع ضد حالات الخطورة الإجرامية. فلقد سبق وأن ذكرنا أن جوهر العقوبة هو الألم الذي يصيب المحكوم عليه في حق من حقوقه اللصيقة بشخصيته كالحق في الحياة أو في الحرية أو الحق في التملك أو في الشرف والاعتبار. بهذا الأسلوب العقابي أراد المشرع أن ينقل المحكوم عليه من مرحلة تمثل الألم إلى مرحلة التذوق الفعلي له لكي لا يعود إلى الجريمة مرة أخرى .
كما سبق وأن قلنا أن هذا الأسلوب العقابي يرتكن إلى فلسفة قوامها الإرادة الآثمة أو الخطأ، أي اندفاع المجرم بإرادته نحو الجريمة حراً مختاراً. وارتكان العقوبة على هذا المنطق يعطيها المشروعية كوسيلة لتقويم الإدارة الآثمة عن طريق إشعار المجرم بما يجره عليه الإجرام من متاعب وآلام.
هذا الأسلوب يظل قاصر في الحالات التي تكون الجريمة فيها قد ارتكبت تحت تأثير الجنون أو المرض العقلي أو النفسي أو بسبب انعدام التميز والإدراك. فلدى المصابون بتلك الحالات ينعدم استشعار الألم والإحساس به مهما عظم العقاب وتكرر. فأي ألم يجدي في منع الصغير أو المجنون المجرم أو المجرم العائد من تكرار الجريمة.
من هنا كان لابد من البحث عن منهج آخر خلاف ألم العقوبة ، وكان هذا السبيل هو استخدام وسائل تقوم على التأهيل والعلاج ، ولا تستند مشروعيتها إلى الخطأ بقدر ما تستند إلى أساس اجتماعي مضمونه الدفاع عن المجتمع ضد حالات الخطورة الإجرامية ، والتي أطلق عليها اسم التدابير الاحترازية . هذا السبيل الذي بدأت المؤتمرات الدولية الحث على الأخذ به بدءً من المؤتمر الرابع للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في كيوتو باليابان في الفترة من 17 إلى 26 أغسطس 1970.
المبحث الثاني

أقسام وأغراض التدابير الاحترازية

211- أولاً : أقسام التدابير الاحترازية :

لبيان أقسام التدابير يجدر بنا أن نبين أولاً الأقسام العامة للتدابير ، قبل تبيان أقسامها في كل من التشريعين المصري والفرنسي.

212- أ : الأقسام العامة للتدابير :

تنقسسم التدابير - كما هو الشأن في العقوبات - إلى أقسام متنوعة تكشف عن موضوعها ، أو عن طبيعتها ، أو عن سلطة القاضي نحوها ، أو عن علاقتها بالعقوبة.
فمن حيث موضوعها تنقسم التدابير إلى تدابير شخصية وأخرى عينية. والأولى هي التي يكون موضوعها شخص المجرم ذاته ، وبعضها قد يكون سالب للحرية ، كإيداع المجنون إحدى المصحات العقلية أو النفسية أو إيداع المتسول غير صحيح البنية إحدى دور الرعاية الاجتماعية أو الملاجئ (م8 من قانون رقم 49 لسنة 1933 الخاص بالتسول) ، وبعضها الآخر قد يكون مقيد للحرية ، كالوضع تحت مراقبة الشرطة وكحظر إقامة كل محكوم عليه بالإعدام أو بالسجن المؤبد أو المشدد لجناية قتل أو شروع فيه أو ضرب أفضى إلى موت بعد سقوط العقوبة بمضي المدة في دائرة المديرية أو المحافظة التي وقعت فيها لجريمة (م523 و م523 إجراءات جنائية) وكإيداع معتادي الإجرام ومعتادي ممارسة الفجور أو الدعارة مؤسسات أخلاقية (م9 من قانون رقم 10 لسنة 1961 بشأن مكافحة الدعارة).
أما التدابير العينية فهي التي تنصب على شئ مادي استخدمه المجرم في جريمته أو عاد عليه منها للمباعدة بينه وبين وسائل إجرامه. ومن أمثلتها مصادرة الأِشياء التي تستعمل في جناية أو جنحة أو تتحصل منها (م30 عقوبات) ، ومصادرة الموازين والمكاييل والمقاييس المغشوشة (م11 من قانون رقم 229 لسنة 1951) ، ومصادرة المخدرات المضبوطة (م42 من قانون رقم 182 لسنة 1960) ، ومصادرة النقود والأمتعة في محال القمار واليانصيب (م352 و م353 عقوبات) ، وإغلاق المحال العمومية (م36 و37 من قانون رقم 371 لسنة 1956) ، وإغلاق بيوت الدعارة (م128 من قانون رقم 10 لسنة 1969) ، وتعطيل إصدار الجرائد (م179 و200 عقوبات).
أما من حيث طبيعتها فتنقسم إلى تدابير إلى تدابير علاجية وأخرى تحفظية. والأولى يغلب عليها طابع العلاج لا الإيلام ، كإيداع المجنون مصحة عقلية أو علاجية ، وإيداع المعتاد الإجرام إصلاحية أو منشأة عمل. أما الثانية فيتساوي فيها نسبة العلاج مع الإيلام ، كالوضع تحت مراقبة الشرطة أو إغلاق بيوت الدعارة.
أما من حيث سلطة القاضي إيذائها ، فتنقسم التدابير إلى تدابير وجوبية وأخرى جوازية ، بحسب السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي في تطبيق التدبير.
وأخيراً تنقسم التدابير من حيث صلتها بالعقوبة إلى تدابير يمكن الجمع بينها وبين العقوبة ، وذلك إذا توافر للمجرم الأهلية الجنائية اللازمة لتحمل المسئولية الجنائية ، وإلى تدابير لا يتصور تطبيقها مع العقوبة وإنما توقع بمفردها في حالات تنعدم فيها المسئولية الجنائية لدى المجرم لمرضه أو لعاهة عقلية فيه.

213- ب : أقسام التدابير في التشريع الفرنسي والمصري :

214- التدابير الجنائية في التشريع الفرنسي :

تنقسم التدابير في التشريع الفرنسي إلى تدابير ذات طابع تهذيبي أو تأهيلي Mesures de sûreté à prédominance rééducation وتدابير ذات طابع إبعادي Mesures de sûreté neutralisatrice.
أما التدابير التهذيبية فهى على أنواع شتى. فمنها التدابير التربوية Mesures éducatives التي تهدف إلى إعادة تأهيل الفرد من كافة جوانبه العقلية أو المهنية أو الأخلاقية أو الاجتماعية كالتدابير التي تطبق بشأن المشردين Vagabonds والمتسولين Mendiants و العاهرات Prostituées وفقاً للمرسوم رقم 143 الصادرة في يناير عام 1959 ، والذي أسند إلى لجنة مساعدة المشردين Commission d'assistance aux vagabonds - التي يرأسها قاضي تنفيذ العقوبات - تحديد التدابير التربوية المناسبة للمتشرد. 
ومن التدابير التهذيبية أو التأهيلية ما يعرف بالتدابير العلاجية Mesures thérapeutiques التي تطبق على المصابين بأمراض عضوية أو عقلية أو نفسية أو على مدمني الكحوليات Les alcooliques والشواذ جنسياً Malades vénériens أو على المجرمين المجانين Les délinquants aliénés ويخضع تطبيق مثل تلك التدابير لإشراف رئيس المحكمة الابتدائية من أجل ضمان الحريات والحقوق الفردية.
ومثال التدابير التهذيبية كذلك ما يسمى تدابير مساعدة الوصي Mesures d'assistance tutélaire والتي تخضع الشخص إلى وصاية أحد الأفراد المؤهلين من أجل توجيه النصح والإرشاد له.
وهناك أخيراً ما يسمى بتدابير الرقابة والإشراف Mesures de surveillance والتي تخضع الشخص لعدد من الالتزامات والقيود تحت رقابة عدد من الأشخاص المؤهلين لتلك الرقابة كمنعه من ارتياد بعض الأماكن أو مخالطة من شاركوه في الجريمة أو الاتصال بالمجني عليه أو إلزامه بالحضور أمام قاضي التنفيذ أو مأمور الاختبار (مسئولي الرقابة والإشراف) في مواعيد محددة ….الخ.
أما التدابير ذات الطابع الإبعادي فمثالها طرد المجرمين الأجانب وإبعادهم عن البلاد L'expulsion des étrangers délinquants ، وهو إجراء هددت السلطات الفرنسية باستخدامه قبل من يثبت إدانتهم في أحداث العنف التي اندلعت في شهر نوفمبر 2005 في ضواحي باريس وفي مدن فرنسية غيرها.

215- التدابير الجنائية في التشريع المصري :

يمكن القول بأن المشرع المصري الحالي لم يفرد للتدابير نظرية كاملة وإنما قرر النص عليها في أماكن متفرقة بين قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وبعض القوانين الخاصة. وبمراجعة هذه القوانين يمكننا أن نقسم التدابير في التشريع المصري إلى تدابير تطبق على البالغين وأخرى على صغار السن.

216- التدابير المقررة بشأن البالغين :

يطبق المشرع المصري العديد من التدابير تجاه البالغين بعضها ذات طابع شخصي تتصل بشخص المجرم والأخرى ذات طابع عيني تتصل بماديات الجريمة أو بما تحصل عنها.
ومن التدابير ذات الطابع الشخصي النصوص عليها في قانون العقوبات يمكن أن نذكر الوضع تحت مراقبة الشرطة التي يحكم بها في بعض الجرائم (م28 و355 و367 عقوبات) أو تجاه المحكوم عليهم بالسجن المؤبد عند العفو عنهم أو إبدال عقوبتهم (م 75/2 عقوبات). ومثال ذلك أيضاً الحرمان من الحقوق والمزايا (م25 أولاً عقوبات و م26 و27 عقوبات). ومثال ما ورد من تدابير شخصية في قوانين خاصة يمكن أن نذكر تحديد الإقامة في جهة أو مكان معين أو المنع من الإقامة في مكان معين والإعادة إلى الموطن الأصلي والإبعاد بالنسبة للأجنبي أو الإيداع في إحدى مؤسسات العمل المحددة بقرار من وزير الداخلية. ومثال ذلك أيضاً الإيداع في مؤسسات أخلاقية للمجرمين معتادي ممارسة الفجور والدعارة (م9 من قانون رقم 10 لسنة 1961 بشأن مكافحة الدعارة) أو الإيداع في مؤسسة علاجية لمدمني المخدرات (م37 من قانون رقم 182 لسنة 1960 المعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1989). ومثال ذلك أيضا ما تنص عليه المادة 48 مكرراً من القانون الأخير من جواز أن تحكم المحكمة الجزئية على من يثبت ارتكابه وسبق الحكم عليه أكثر من مرة في جناية من الجنايات المنصوص عليها في القانون. وهذه التدابير هي الإيداع في إحدى مؤسسات العمل أو تحديد الإقامة في جهة معينة أو منع الإقامة في جهة معينة أو الإعادة للموطن الأًصلي أو حظر التردد على أماكن ومحال معينة أو الحرمان من ممارسة مهنة أو حرفة معينة. ولا يجوز أن تقل مدة التدبير المحكوم به عن سنة ولا أن يزيد على عشر سنوات. وفي حالة مخالفة التدبير يحكم على المخالف بالحبس .
ومن أمثلة التدابير العينية في التشريع المصري ما سلف وأن ذكرناه منذ قليل في شأن المصادرة المنصوص عليها بالمادة 30 عقوبات ، ومصادرة الموازين والمكاييل والمقاييس المغشوشة ، ومصادرة النقود والأمتعة في محال القمار واليانصيب ، وإغلاق المحال كالصيدليات والمحال المرخص لها بالاتجار في المواد المخدرة إذ وقعت فيها جريمة مخدرات، وإغلاق المحال العامة وبيوت الدعارة وتعطيل الجرائد …الخ.

217- التدابير المقررة بشأن صغار السن :

نصت المادة 101 من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 على أنه يحكم على الطفل الذي لم يبلغ سن خمس عشرة سنة ، إذا ارتكب جريمة بأحد التدابير الآتية :
*- التوبيخ : أي توجيه اللوم للحدث من قبل المحكمة في الجلسة وتأنيبه.
*- التسليم : أي أن يعهد القاضي بالصغير إلى لولديه أو لمن له الولاية عليه. فإذا لم يكن له والدين أو ولي أمر جاز أن يعهد إلى شخص مؤتمن برعاته وتربيته.
*- الإلحاق بالتدريب المهني : بأن تعهد المحكمة بالصغير إلى أحد المصانع أو المزارع أو المتاجر من أجل تدريبه وتعليمه ، على ألا يجاوز ذلك ثلاث سنوات.
*- الاختبار القضائي : أي ترك الحدث في الوسط الحر في بيئته الطبيعة مع إخضاعه للرقابة والإشراف وتقيده بمجموعة من الالتزامات. ولا يجاوز هذا التدبير ثلاث سنوات .
*- الإيداع الاجتماعي : أي وضع الصغير إحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية. ويظل الحدث في الدار أو الإصلاحية إلى أن يأمر وزير العدل بالإفراج عنه بقرار يصدر بناء على طلب مدير الإصلاحية وموافقة النائب العام. ولا يجوز أن يبقى الحدث أكثر من عشر سنوات في الإصلاحية في حالة الجنايات وخمس سنوات في حالة الجنح وثلاث سنوات في حالة التعرض للانحراف. وعلى المؤسسة المودع لديها الحدث أن ترفع إلى المحكمة تقريراً عن حالته كل ستة شهور على الأكثر لتقرر ما تراه بشأنه.
*- الإيداع العلاجي : أي وضع الصغير في إحدى المستشفيات المتخصصة وذلك في حالة الأحداث المجرمون المصابون بمرض عقلي أو نفسي. وتخضع هذه المستشفيات لرقابة وإشراف المحكمة والتي لها أن تخلي سبيل الحدث إذا سمحت التقارير الطبية المرفوعة عن حالته بذلك.
*- الإلزام بواجبات معينة : يكون ذلك بترك الحدث في الوسط الحر مع إلزامه ببعض الواجبات الإيجابية أو السلبية. كالامتناع عن ارتياد أماكن معينة أو التقدم لجهة رقابية أو إشرافية في فترات معينة أو الامتناع عن مخالطة بعض الأشخاص ...الخ.
وتقر ذات المادة (م110) أنه لا يجوز أن يحكم على الطفل الذي لم يجاوز سنه خمس عشر سنة بأي عقوبة أو تدبير آخر منصوص عليه في قانون آخر ، وذلك فيما عدا المصادرة وإغلاق المحل. كما تطبق هذه التدابير أيضاً على الطفل الذي تعرض للانحراف وفقاً للمادة 98 من قانون الطفل.
والواقع أن القول بعدم جواز توقيع عقوبة أخرى أو تدبير آخر على الطفل الذي لم يبلغ خمس عشر سنة يدفع إلى التساؤل حول طبيعة الجزاءات المنصوص عليها في المادة 110 ، هل هي عقوبات أم تدابير ؟
في البداية ذهبت محكمة النقض في أحكامها القديمة إلى القول بأن الطرق التقويمية المقررة للأحداث وصغار السن ليست بعقوبات بالمعنى القانوني. فهي ليست داخلة في التعداد الوارد بقانون العقوبات بصدد العقوبات الأصلية أو التبعية أو التكميلية. فهي مجرد طرق تربوية يحكم بها بديلاً عن العقوبات لظروف خاصة بالحدث . ثم عدلت محكمة النقض بعد ذلك عن هذا الاتجاه مقررة أنه وإن كان المشرع لم يذكر بالمادة 9 وما بعدها عقوبات تلك التدابير إلا أنها في حقيقتها عقوبات مقررة لصنف معين من المجرمين ويتوافق مع ظروفهم .
والواقع أننا نحبذ وصف هذه الجزاءات بأنها مزيج يجمع بين وصف العقوبات ووصف التدابير ، ولا يبرر رأي محكمة النقض وصفها لهذه الوسائل التقويمية بأنها عقوبات إلا بتأثرها بخطة المشرع الذي لم يجعل من نظام "التدابير الاحترازية" نظاماً قانونياً مستقلاً وبرغبتها في إجازة الطعن بالاستئناف والنقض في الأحكام الصادرة بهذه الوسائل .
وقد استبعد المشرع المصري توقيع عقوبتي الإعدام والسجن المؤبد على الحدث إذا كان الحث قد جاوز خمسة عشر عاماً. فإذا ما ارتكب الحدث في ذاك السن جناية فإن العقوبة التي يمكن الحكم بها هي السجن الذي لا يقل عن عشر سنوات وذلك إذا كانت عقوبة الجناية هي الإعدام أو السجن المؤبد. فإذا كانت العقوبة هي السجن المشدد ، فإن العقوبة التي يمكن الحكم بها هي السجن بحدها الأدنى والأقصى. وإذا كانت العقوبة هي الأشغال السجن المشدد أو السجن ، فإن العقوبة التي يمكن الحكم بها على الحدث الذي يجاوز خمس عشر عاماً هي الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر. أما إذا كانت العقوبة هي السجن فإن العقوبة تبدل إلى الحبس مدة لا تقل عن ثلاث أشهر ، وفي جميع الأحوال لا تزيد عن ثلث الحد الأقصى المقرر للجريمة. ويجوز للمحكمة أن تقرر إيداع الحدث إحدى دور الرعاية الاجتماعية مدة لا تقل عن سنة. فإذا كانت جريمة الحدث الذي جاوز خمس عشر عاماً جنحة جاز الحكم عليه بالحبس أو إيداعه في إحدى المؤسسات الاجتماعية أو وضعه تحت الاختبار (م.12 من قانون الأحداث ، م. 111 من قانون الطفل).
وكان المشرع المصري في مشروع قانون العقوبات عام 1967 قد قسم التدابير إلى تدابير دفاع اجتماعي ، وتدابير جنائية مقيدة للحرية ، وتدابير جنائية سالبة للحقوق ، وأخرى مادية.
فقد نصت المادة 104 من المشروع على أن تدابير الدفاع الاجتماعي هي الإيداع في مأوى علاجي ، أوالإيداع في إحدى مؤسسات العمل ، أوالمراقبة ، أو الإلزام بالإقامة في الموطن الأصلي. ونصت المادة 77 منه على أن التدابير المقيدة للحرية هي حظر ارتياد الحانات ، أومنع الإقامة في مكان معين ، أوالمراقبة ، أوالاختبار القضائي ، أوالإلزام بالعمل ، أوالإبعاد عن البلاد (بالنسبة للأجانب فقط). كما قررت المادة 78 من ذات المشروع على أن التدابير السالبة للحقوق هى إسقاط الولاية أو الوصاية أو القوامة وكذلك الوكالة عن الغائب ، أوحظر ممارسة عمل أو سحب ترخيص القيادة. وأخيراً قررت المادة 79 على أن التدابير المادية هي المصادرة أو إغلاق المحل.

218- ثانياً : أغراض التدابير الاحترازية :

إذا كان للعقوبة ، كما أسلفنا ، أهداف ثلاث تتمثل في تحقيق الردع العام والردع الخاص وإرضاء الشعور بالعدالة ، فإننا نجد أن التدابير تتميز بكونها أحادية الهدف ، الذي يتمثل فقط في تحقيق الردع الخاص. وعلى هذا يمكن القول أن العقوبة لها وظيفة أخلاقية ، أي الرغبة في التكفير أو إرضاء الشعور الاجتماعي الذي تأذى بالجريمة بما يحقق معنى العدالة ، الأمر الذي يستوجب أن تنطوي العقوبة على معنى الإيلام المكافئ أو المعادل لما أحدثه الجاني من ضرر بالمصلحة المعتدى عليها. على العكس من ذلك فإن الوظيفة الأساسية للتدابير هو تحقيق غرض نفعي يتمثل في الدفاع عن المجتمع ضد احتمالية ارتكاب جرائم تمثل عدوان عليه في المستقبل ، وذلك إما بالتوجه للمتهم من أجل إصلاحه أو علاجه وإما بعزله وإقصائه نهائياً عن المجتمع .
فالتدابير تتجرد من أي وظيفة أخلاقية ، حيث لا يبني توقيعها على أساس الخطأ أو قيام المسئولية الأخلاقية ، وإنما مناط توقيعها هي الخطورة الإجرامية الكامنة في شخص الجاني والتي كشفت عنها الجريمة التي سبق له ارتكابها.
فلا تستهدف التدابير تحقيق الردع العام - وإن أمكن تحقيقه عرضاً وعلى نحو غير مقصود - حيث لا يرتبط توقيعها بالجريمة التي ارتكبت وإنما بالخطورة الإجرامية المستقبلية ، أي احتمالية ارتكاب الجرائم في المستقبل. ومن ثم تنتفي الصلة في تقدير الرأي العام بين الجريمة المرتكبة وبين التدابير المطبقة. وعلى هذا النحو فإن أثرها التهديدي والتخويفي أثر ضعيف لا يكاد يذكر.
كما أن التدابير لا تهدف إلى تحقيق العدالة. فهي لا ترمي إلى إعادة التوازن بين الجريمة كشر وقع والتدبير كشر مقابل. فهي على الأكثر تقدير وسيلة لعلاج المجرم بالقضاء على الخطورة الكامنة فيه وتحويله إلى رجل شريف .
ويتحقق الردع الخاص الذي ترمي إليه التدابير بإحدى ثلاثة أساليب : إما بالتأهيل وإما بالإبعاد وأما بالتعجيز. ويقصد بالتأهيل علاج خطورة المجرم وأسباب إجرامه بمختلف الأساليب الطبية والنفسية والعلمية من أجل تحويله إلى عضو نافع في المجتمع. وقد يصبح التأهيل أمراً عسيراً وصعب المنال في بعض الحالات بما يدفع المجتمع - من أجل أن يقي نفسه شر المجرم في المستقبل - إلى ابعاد المجرم عن المجتمع ، سواء على سبيل التأبيد أو بشكل مؤقت عن طريق العزل أو بمنعه من ارتياد بعض الأماكن أو بإبعاده عن البلاد إذا كان المجرم أجنبيا. وقد يتحقق الردع الخاص أخيراً عن طريق المباعدة بين المجرم وبين الوسائل التي يكون بغيرها عاجزاً عن الإجرام ، ومثال ذلك غلق المنشأة أو المصادرة.
وهذه الوسائل ليست منفصلة بعضها عن بعض ، ولكنها تتكامل أحياناً بحيث يكون إحداها تمهيداً للآخر أو قد تشترك واحدة مع الأخرى إذا استدعت ظروف المجرم هذا الأمر .
المبحث الثالث

خصائص التدابير الاحترازية وشروط تطبيقها

219- أولاً : خصائص التدابير الجنائية :

لإبراز الخصائص التي تميز التدابير الاحترازية يتعين علينا أن نبين أولاً الخصائص التي تشترك فيها التدابير مع العقوبات قبل أن نبين ما تتميز بها التدابير وحدها.

220- أ : الخصائص المشتركة بين التدابير والعقوبات :

221- التدابير والعقوبات جزاءات قانونية :

حاول البعض أن يشكك في الطبيعة القانونية للتدابير من حيث كونها جزاءات قانونية ، على أساس أن هذه الأخيرة هي رد فعل يقرره النظام القانوني في مواجهة وقائع مخالفة للقانون ، وتعبر بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن سلوك إرادي. وبالتالي فالجزاء يفترض قاعدة قانونية انتهكت إرادياً ، وهذا الأمر لا يتوافر بشأن التدابير. فهده الأخيرة لا تفترض قاعدة موجهة للأفراد بل إن القاعدة القانونية التي تنص على التدابير إنما هي موجهة إلى أجهزة الدولة تطبقها متى توافرت شروطها.
فالفرد لا يمكن أن يوجه إليه أمراً بألا يكون خطراً ، ذلك أن الخطورة صفة وليست واقعة، قد تتدخل الإرادة أحياناً وبصورة غير مباشرة في اكتسابها بالنسبة لفئات معينة من الأفراد، مثل كاملي الأهلية الخطرين ، بينما بالنسبة لفئات أخرى ، كالأحداث عديمي الأهلية ومرضى العقول ، فتتخلف ارادة اكتساب تلك الصفة. فالتدابير لا تجازي الفرد على جريمة ، بل هى وسيلة تستخدمها الدولة في مكافحة الجريمة .
ولاشك أن هذا الرأي ينظر إلى الجزاء الجنائي بمنظور ضيق. فالوظيفة الوقائية للتدابير - التي وإن كانت تختلف بالطبع عن وظيفة العقوبة التي يناط بها أساساً الردع - لا تحول دون اعتبار التدابير من قبيل الجزاءات القانونية. فليس في التشريع ما يمنع من تبني مفهوم موسع للجزاء الجنائي يشمل الجزاء الرادع والجزاء الوقائي. ويكون كلاً من العقوبات والتدابير صورتين للجزاءات الجنائية ، وأن القواعد التي تتعلق بهما تتوجه بالخطاب إلى الأفراد للعمل على احترامها .
222- شرعية التدابير والعقوبات :
تخضع التدابير لمبدأ الشرعية الجنائية المقرر بشأن العقوبات. فإذا كان المبدأ أنه لا عقوبة إلا بناءً على قانون ، فإن ذات المبدأ يسري على التدابير الاحترازية ، فلا يوقع تدبير إلا بناءً على قانون. والعلة في ذلك أن التدابير شأنها شأن العقوبات تتضمن قيوداً على حريات وحقوق الأفراد ، ومن ثم فلا يجوز تقريرها إلا من قبل المشرع أو من يفوضه في ذلك.
وقد كرست بعض التشريعات هذه الشرعية صراحاً ومن ذلك ما نص عليه قانون العقوبات اللبناني في مادته الأولى من أنه "لا تفرض عقوبة ولا تدبير احترازي أو إصلاحي من أجل جرم لم يكن القانون قد نص عليه حين اقترانه". ومن ذلك أيضاً ما نص عليه قانون العقوبات الاتحادي بدولة الإمارات العربية المتحدة في مادته الرابعة حين أكد على أنه "لا يفرض تدبير جنائي إلا في الأحوال وبالشروط المنصوص عليها في القانون". وإلى هذا ذهب أيضاً مشروع قانون العقوبات المصري في عام 1967 حين نص في المادة الرابعة فقرة أولى منه على أنه "لا يحكم بتدبير إلا في الأحوال وبالشروط المنصوص عليها في القانون".

223- شخصية التدابير والعقوبات :

تخضع التدابير الجنائية - كما هو الحال في شأن العقوبات - لمبدأ الشخصية ، بحيث لا يتحمل الأثار الناشئة عن التدابير إلا من عينة الحكم لتحملها. وإذا كانت العقوبات تتقرر على مرتكب الفعل بشخصه ولا يجوز فيها الحلول في تحميلها ولا التوارث فكذلك الأمر بالنسبة للتدابير ، فلا توقع إلا على من ثبتت خطورته الإجرامية دون حلول في ذلك أو توارث. فالتدابير إجراء قصد به تفريد الجزاء الجنائي تبعاً للشخصية الفردية ، أي يستهدف مكافحة عوامل الخطورة الكامنة في الشخص. ولما كانت الخطورة صفة فردية فقد كان طبيعياً أن يطبق التدبير على الإنسان الخطر فقط محواً لخطورته ومن أجل الدفاع عن المجتمع.

224- قضائية التدابير والعقوبات :

تتضمن التدابير بحسبانها جزاءً جنائياً - مهما كانت بساطتها - تقيداً وسلباً للحرية أو حرمان من بعض الحقوق والمزايا ، مما يعني أنها تمس بحقوق وحريات الأفراد ، من هنا كان لابد من أن يوكل أمر توقيعها إلى السلطة القضائية منفردة بهذا الأمر وحدها لا يشاركها فيها سلطة أخرى ، شأنها في ذلك شأن العقوبات.
لذا فإن كل تدخل من جهة الإدارة في أمر توقيع التدابير يمثل انتهاكاً لمبدأ قضائية الجزاء الجنائي .La juridictionnalisation de la sanction pénale ومن قبيل ذلك القانون رقم 74 لعام 1970 في شأن وضع بعض المشتبه فيهم تحت مراقبة الشرطة بناء على حالة الاشتباه. فهذا القانون قد أجاز لوزير الداخلية وضع المعتقل تحت مراقبة الشرطة لمدة سنتين بعد الإفراج عنه إذا توافرت في حقه حالة الاشتباه ، مع إعطائه الحق في التظلم أمام السلطة القضائية. هذا النص قد انتقدته المحكمة العليا في حكمها الصادر بتاريخ 5 أبريل 1975 مطالبة بأن يوكل أمر وضع المشتبه فيهم تحت مراقبة الشرطة للسلطة القضائية وحدها خشية التعسف والاستبداد من الإدارة.
كما يمكننا أيضاً أن ننتقد تدخل الإدارة في توقيع تدابير غلق المنشأة والمحال العامة بناء على التوسع في فكرة قانون العقوبات الاقتصادي.

225- جبرية التدابير والعقوبات :

الجزاء الجنائي - تدبير كان أم عقوبة - مقرر لمصلحة المجتمع ، لذا فإن التدابير - كما هو الحال في شان العقوبات - تطبق بصرف النظر عن رضاء أو إرادة المحكوم عليه. وهذه الصفة الجبرية هي التي تكفل للتدابير عامة صفة الجزاء الجنائي.

226- ب : السمات الخاصة بالتدابير:

تنفرد التدابير بحسبانها جزاء يتعلق بمواجهة الخطورة الإجرامية الكامنة في الجاني بعدة خصائص منها :

227- الوقاية الخاصة كهدف للتدبير:

للتدابير وظيفة محددة هي الوقاية أو المنع الخاص ، أي محاولة القضاء على عوامل الخطورة الفردية التي قد تدفع الشخص إلى ارتكاب جريمة في المستقبل. وعلى هذا الأساس فيتوقف تطبيق التدابير على تحقق شرطين : الأول موضوعي يتمثل في ارتكاب الفرد لجريمة، والثاني شخصي يتمثل في توافر الحالة الخطرة التي تجعل من صاحبها مصدر لإجرام جديد .
ويترتب على ذلك أن التدابير ، حتى ولو اتخذت صورة سلب الحرية ، فإنها لا تستهدف الإيلام والتكفير عن الجريمة التي وقعت. وإنما ترمي إلى إبعاد المجرم عن الظروف والعوامل التي تهيئ له سلوك سبيل الجريمة ، أي إبعاده عن أسباب خطورته. وكون التدابير تتصل بالخطورة الإجرامية المستقبلية وليس الجريمة أو الواقعة الإجرامية المرتكبة فإن الأمر يوجب أن يراعى عند توقيعها تناسبها مع شخصية الجاني وخطورته دون بحث في الأساس الموضوعي المتمثل في الجريمة التي كانت قد وقعت.

228- عدم تحديد مدة التدابير Mesures indéterminées :

لما كان هدف التدابير ينحصر في مقاومة الحالة الخطرة الكامنة داخل الشخص المجرم كي يباعد بينه وبين ارتكاب جريمته في المستقبل ، فإن من الصعب وضع حد أقصى محدد سلفاً لما قد يفرض من تدابير تقومية وتأهيلية وعلاجية تجاه شخص المجرم. لهذا تذهب التشريعات إلى وضع حداً أدنى للتدابير مع ترك انتهائها متوقف على السلطة التقديرية للقاضي في ضوء ما يرفع له من تقارير عن حالة المجرم ومدى نجاحه أو فشله في التأهيل.
ونظراًُ لأن مثل هذا الإطلاق في مدة التدابير قد يمس بمبدأ الشرعية الجنائية ، خاصة في حالة التدابير السالبة للحرية ، فإن التشريعات المختلفة توجب إخضاع المجرم المحكوم عليه لفحص دوري يباشره الأخصائيون في مجال العلوم النفسية والاجتماعية وعلوم الجريمة مع عرض أمر الخاضع للتدبير على السلطة القضائية في فترات دورية للاستجلاء حالته الإجرامية وتقدير ما إذا كان من المناسب إنهاء التدبير أو تجديده لمدة أخرى .

229- قابلية التدبير للتعديل :

من بين السمات التي تميز التدبير عن العقوبة الجنائية هي قابلية التدبير للتعديل Mesures modifiables خلال مرحلة لتنفيذ. فعلى العكس من العقوبة التي لا يجوز إبدالها بعقوبة أخرى أثناء مرحلة التنفيذ ، فإن التدبير يجوز أن يبدل كليه أو يعدل جزئياً أثناء التنفيذ ، متى كان ذلك يلاءم شخصية المجرم ودرجة خطوته الإجرامية. وعلى هذا نص قانون العقوبات الإيطالي في مادته 27 في فقرتها الأخيرة إذ أجاز التعديل اللاحق للحكم بالتدبير سواء كان هذا التعديل بالتخفيف أو التشدد أو الإلغاء.

230- عدم خضوع التدابير لأحكام العقوبة الجنائية :

هناك العديد من الأحكام الخاصة المتعلقة بالعقوبة التي تستقل بها هذه الأخيرة عن التدابير الجنائية. ومن تلك الأحكام ما يتعلق بعدم رجعية نصوص التجريم والعقاب على الماضي وعدم تنفيذ العقوبة إلا بعد حكم نهائي وأحكام التقادم وإيقاف التنفيذ والعفو والعود. كل تلك الأحكام تستقل بها العقوبة دون التدابير ، حيث أن تلك الأحكام لا تتمشى مع فكرة الدفاع الاجتماعي القائمة على الإصلاح والتقويم والعلاج والتأهيل.
فعند البعض تخضع التدابير لقاعدة الأثر الفوري والمباشر ، أي تطبيق القانون المنظم لها مباشرة فور صدوره ولو على وقائع ارتكبت قبل نفاذه. فهي ليست عقوبة عن فعل مضى وإنما هي علاج لحالة خطرة قائمة وقد تستمر في المستقبل .
إلا أننا لا نسلم بصلاحية هذا الرأي حيث أن هناك من التدابير ما قد يسلب الحرية أو يقيدها ، أي أنها قد تنطوي على إيلام يعادل الإيلام الناجم عن العقوبة. فضلاً عن أنه من غير المنطقي القول بخضوع التدابير لمبدأ الشرعية ثم إرجاع هذه التدابير إلى الماضي.
كذلك لا تخضع التدابير لنظرية الظروف المخففة. كما لا يجوز الحكم بإيقاف تنفيذها ولا انقضائها بالتقادم أو العفو. فضلاً عن أن الأحكام الصادرة بالتدابير تكون واجبة التنفيذ فوراً دون انتظار لصدور حكم نهائي. ولا تعد الأحكام الصادرة بها سابقة في العود لأن الألم الذي تنطوي عليه غير مقصود لذاته حتى يقال أن المحكوم عليه بها لم يرتدع فيجب أن يزاد الألم بالتشديد عليه. وأخيراً لا تخضع التدابير لقاعدة خصم مدة الحبس الاحتياطي من مدتها لأنها أصلاً غير محددة ولأنها لا تنطوي على إيلام مقصود حتى يقال أن هناك تعادلاً بين هذا الإيلام وإيلام الحبس الاحتياطي .

231- ثانياً : شروط تطبيق التدابير الاحترازية (الخطورة الإجرامية) :

232- تمهيد :

لقد اختلطت السياسة العقابية الحديثة لنفسها منهجاً واقعياً قوامه حماية المجتمع من الاتجاهات الخطرة للمجرم. ولهذا لم يعد أساس الجزاء يتمثل فيما قد وقع من جرم ، متمثلاً في الواقعة الإجرامية ، بهدف التكفير والإيلام أو حتى الردع العام و الخاص. وإنما أصبح أساس الجزاء الجنائي في شق منه يقوم على الخطورة الإجرامية La dangerosité criminelle الكامنة في الشخص ، وبقدر توافر تلك الخطورة يمكن إخضاع الفرد إلى جزاء جنائي بهدف التوجه إلى المجرم ذاته للإعادة تأهيله ليتكيف من جديد مع المجتمع.
وعلى هذا أصبح منع المجرم من أن يفضي سلوكه إلى جريمة حقيقية في المستقبل هو الهدف الذي تسعى إليه الدراسات الجنائية العقابية الحديثة ، وكان ذلك هو الدافع إلى ظهور فكرة التدابير الاحترازية كنوع من الجزاء الجنائي بغرض إلى الضرب على عوامل الجريمة الكامنة في شخص المجرم للحيلولة بينه وبين الإجرام المستقبلي.
وكون الخطورة الإجرامية أصبحت أحد الأسس التي يقوم عليها توقيع الجزاء الجنائي المتمثل في التدابير فإنه يجب علينا أن نبدأ بتعريف فكرة الخطورة الإجرامية وتحديد طبيعتها قبل أن نحدد أخيراً أدلة الخطورة الإجرامية.

233- أ : مضمون الخطورة الإجرامية :

يتحدد مضمون الخطورة الإجرامية في كونها حالة نفسية يحتمل من جانب صاحبها أن يكون مصدراً لجريمة مستقبلة .
ويظهر من هذا أن الاحتمال هو معيار الكشف عن الخطورة الإجرامية وعن مداها وفقاً للمبادئ التي تحكم السببية أو العلاقة بين النتائج والعوامل التي تؤدي إلى حدوثها. فكما يقول بعض الفقه أن سبب نتيجة من النتائج هو مجموعة العوامل التي أدت إلى حدوثها. ويمكن أن تقاس هذه العوامل قياساً سليماً بعد تحقق النتيجة بالفعل ، لكنه قبل تحقق النتيجة بالفعل يصبح الأمر متوقعاً. هذا التوقع يكون "مؤكداً" ما دامت عوامل إحداث الظاهرة معروفة بطريقة واضحة ثابتة ، بحيث تكشف عن إكتمال سائر العناصر المحدثة لها فيكون تحقق النتيجة مؤكداً. غير أن تحقق النتيجة قد يكون ممكناً فحسب إذا انحصرت المعرفة في بعض العناصر التي تسبب النتيجة والتي تجعل توقع حدوثها متساوياً مع توقع انتفائها. أما إذا ذادت العناصر المعروفة عن هذا الحد بحيث أصبح توقع الحدوث طاغياً على توقع عدم الحدوث صار حدوث النتيجة "محتملاً". وعلى هذا فينحصر مضمون الاحتمال في العلاقة السببية التي تربط بين جملة من العوامل الإجرامية وبين الجريمة ذاتها كواقعة مستقبلية .
ودراسة الاحتمال كمعيار للخطورة الإجرامية يقوم على دراسة العوامل بمختلف أنواعها التي من شأنها أن تفضي إلى الجريمة في شخص ما. فإذا كانت كثافة هذه العوامل من شأنها أن تؤدي - وفقاً لما توفره تجارب الحياة ووفقاً للمجرى العادي للأمور - إلى احتمال وقوع الجريمة من شخص ما كان هذا الشخص ذو خطورة إجرامية. فجوهر الخطورة الإجرامية هو طغيان الدوافع التي تجعل لدى الفرد ميلاً إلى الجريمة على الموانع التي تصرفه عنها ، أي أنها نقص في الموانع وإفراط في الدوافع .
والخطورة الإجرامية قد تكون عامة ، حين تنذر بوقوع أي جريمة من أي نوع ، وقد يكون طغيان دوافع الجريمة متجهاً نحو نوع معين من الجرائم وحين إذا توصف الخطورة بأنها خاصة (كالتخصص في النصب أو النشل أو سرقة المنازل ...الخ).
وبذات التقسيم يمكن أن تتدرج الخطورة الإجرامية ، فنسبة الميل للجريمة تتنوع من شخص إلى آخر. فقد يكون طغيان عوامل الإجرام كبير إلى حد الدفع للارتكاب جرائم جسمية كالقتل العمد ، وقد تكون هذه العوامل غير متأصلة في الشخصية الإنسانية فتدفع إلى ما يسمى إجرام الصدفة أو إجرام اللحظة كالسب والقذف. وفي العادة تتحدد درجة الخطورة الإجرامية بنوع العوامل الدافعة للجريمة. فحينما تكون تلك العوامل أقرب للعوامل الجينية أو الوراثية كانت درجة الخطورة أشد وأعظم منها حين تكون تلك العوامل مستندة إلى أساس اجتماعي أو بيئي.

234- ب : طبيعة الخطورة الإجرامية :

يظهر من المضمون السابق أن الخطورة الإجرامية حالة تتعلق بالفرد الذي تتوافر لديه جوانبها ، لكنها لا ترتبط بالواقعة الإجرامية ذاتها. وعلى هذا فإن الخطورة الإجرامية تختلف عما يسمى بجرائم الخطر التي يرى المشرع فيها أن سلوكاً معيناً يمثل في ذاته خطراً اجتماعياً لمساسه بمصلحة معينة يحرص عليها المجتمع فيعده من قبيل الجريمة دون الحاجة للانتظار وقوع ضرر فعلي (مثال ذلك تجريم القيادة تحت تأثير عقار مخدر أو مادة مسكرة أو تجريم القيادة المتسرعة). فالخطورة حالة نفسية وصفه فردية تكشف عن إمكانية وقوع جريمة ما في المستقبل.
وكذلك تختلف الخطورة الإجرامية عن الجريمة ذاتها ، فالأولى كما قلنا صفة فردية أما الثانية فهي سلوك إرادي يصدر من جانب الفرد. وعدم الربط التام بين الجريمة كواقعة مادية وبين الخطورة الإجرامية كتعبير عن الإجرام المستقبلي ، يوجب عدم اشتراط أن تكون الجريمة المحتمل ارتكابها من نوع معين ، أو أن تكون على درجة معينة من الجسامة ، أو أن يكون ارتكاب المجرم لها محتملاًُ في وقت معين من تاريخ ارتكابه للجريمة السابقة. فالخطورة الإجرامية أساس للجزاء الجنائي (التدابير) بهدف منع الجريمة في المستقبل ووقاية المجتمع أياً كان نوع ودرجة الجريمة .
إلا أن الفصل بين الجريمة والخطورة الإجرامية ليس تاماً ، فوقوع الجريمة يعتبر أمراً أساسياً للقول بتوافرها كدليل إثبات لها وليس كعنصر من عناصرها. أي أن الجريمة السابقة قرينة على قيام حالة الخطورة الإجرامية. بيد أن هذه القرينة ليست مطلقة. فهذا الدليل - أي الجريمة السابقة - يفقد دلالته في الحالات التي تكون فيها الجريمة الواقعة على درجة دنيا من الجسامة. والدليل على ذلك أن المشرع المصري يعطي مثلاً سلطة تقديرية للقاضي في الحكم بإيقاف تنفيذ العقوبة (م55 عقوبات) ، رغم وقوع الجريمة واكتمال أركانها المادية والمعنوية، إذا ما تبين له أن فاعل الجريمة ليس على درجة كبيرة من الخطورة الإجرامية.
وبالمثل فإن وقوع الجريمة ليس شرطاً للقول بتوافر هذه لخطورة , أي لن تنحصر الخطورة فيمن سبق ارتكابهم لوقائع إجرامية. فتلك الخطورة قد تتوافر حتى فيمن لم يرتكب جرماً قط ما دام وقوع هذه الجرم في المستقل صار أمراً محتملاً ، غاية الأمر أن الخطورة لا تثبت على هؤلاء إلا بعد إجرامهم بالفعل .

235- ج : أدلة الخطورة الإجرامية :

قلنا أن شرط ارتكاب جريمة سابقة ليس عنصراً من عناصر الخطورة الإجرامية ولا شرطاً من شروطها. فقد تتوافر تلك الخطورة في حالة ارتكاب أفعال لا تصل إلى مرحلة التجريم. غير أن كون الخطورة الإجرامية أصبحت وفقاً للسياسة العقابية الحديثة تمثل أساساً لتوقيع التدابير الاحترازية التي قد تأخذ طابع سلب الحرية أو تقيدها أو الحرمان من الحقوق والمزايا فإن إعمال الشرعية الجنائية يوجب عدم توقيع التدبير والقول بالتالي بتوافر الخطورة الإجرامية إلا بعد وقوع جريمة بالفعل باعتبارها أمارة قوية على هذه الحالة. ويبرر هذا القول أن الخطورة الإجرامية حالة نفسية كامنة وباطنة لا يتأتى الوقوف عليها مباشرة وإنما بطريق غير مباشر من خلال السلوك الذي سلكه من كان على هذه الخطورة .
فوقوع الجريمة يعد أمارة حاسمة على وجود الخطورة باعتبار أن الجريمة أشد صور السلوك الإنساني انحرافاً وتكشف أكثر من غيرها من صور السلوك غير الأخلاقي عن طبع الشخص ومزاجه. فالثابت – حسب الخبرة الحياتية للمجموع – أن وقوع الجريمة من شخص يكون في ذاته دليلاً على أن فاعلها يكون على استعداد لأن يجرم مرة ثانية في المستقبل مما يوجب توقيع تدبيراً احترازياً ذو طابع تأهيلي أو علاجي إلى جانب العقوبة.
غير أن الجريمة بحسبانها دليلاً أو أمارة على الخطورة الإجرامية لا يعني القول بضرورة اشتراط توافر المسئولية الجنائية واكتمال شروطها للقول بإمكان توقيع أحد التدابير الجنائية ، فقد توقع تلك الأخيرة رغم انتفاء مسئولية الفاعلين أو الشركاء عن الجريمة المرتكبة ، حيث سبق القول بأن مناط توقيع التدابير هو الخطورة الإجرامية وليس الخطأ الجنائي بصوره المختلفة.
وقد حاول البعض التأكيد على عدم اشتراط وقوع جريمة بالفعل كشرط لتوقيع التدابير حيث أن التدابير تواجه حالة نفسية كامنة لا صلة لها بالواقعة الإجرامية. ودليلهم في ذلك أن كون الجريمة المرتكبة تعد أمارة أو قرينة على توافر الخطورة الإجرامية وليس عنصراً من عناصرها لا يمنع من القول بتوافر تلك الخطورة – ومن ثم امكان توقيع التدابير الجنائية – إذا توافرت أمارت أخرى قد لا تصل إلى حد الجريمة .
والواقع أننا لا نوافق على هذا الرأي لمساسه بالحرية الفردية التي يمكن أن تهدد بتدابير سالبة أو مقيدة دون وجود إجرام حقيقي من قبل الفرد. فإطلاق توقيع التدابير لمجرد وجود أمارات لا تصل إلى حد الجريمة هو أخذ للناس بالشبهات ودعوة إلى التعسف والاستبداد من قبل السلطات العامة.
وفي رأينا أن هذا الرأي يخلط بين الخطورة الإجرامية كأساس لتوقيع التدابير الجنائية وبين الخطورة الاجتماعية التي يمكن أن تتخذ كأساس لتوقيع تدابير وقائية غير ماسة بالحرية أو بالحقوق الفردية. فهذا النوع الأخير من الخطورة قد يقوم في حق الأفراد لمجرد وجود أمارت أو قرائن تثبت في حقهم نوع من المناهضة للمجتمع دون أن يصل الأمر إلى حد ارتكاب جرائم معينة. أي يمكن القول بأن الخطورة الإجرامية تضم في طياتها الخطورة الاجتماعية ، أما الأخيرة فلا تعني بالضرورة توافر الخطورة الإجرامية ، ومن ثم فلا يمكن اتخاذها كأساس لتوقيع جزاء جنائي ، عقوبة كان أم تدبير .
ولقد اتجهت التشريعات إلى الأخذ بالرأي الأول الذي يربط بين الخطورة الإجرامية وسبق ارتكاب جريمة كقرينة على توافرها. فقد نص قانون العقوبات الإيطالي على ألا يطبق التدبير الاحترازي إلا على من ارتكب فعلاً منصوصاً عليه في القانون كجريمة (م202). وعلى هذا نص المشرع المصري في مشروع قانون العقوبات لسنة 1967 (م106) وقانون العقوبات اللبناني (م1/1). وقد تنكشف الخطورة الإجرامية بناء على عناصر متصلة بماديات الواقعة الإجرامية السابقة أو بعناصر متصلة بشخص المجرم ذاته. ومن قبيل ذلك ما نص عليه المشرع الإيطالي في المادة 133 من قانون العقوبات من أن تعد أمارت على توافر الخطورة الإجرامية :
*- طبيعة الجريمة ومدى جسامتها وكيفية وزمان ومكان تنفيذها
*- نوع ودرجة الضرر الناشئ من الجريمة
*- درجة الآثم الجنائي (العمد والخطأ غير العمدي)
*- بواعث الجريمة وطباع المجرم
*- سوابق المجرم وظروفه الجنائية السابقة على الجريمة
*- سلوك المجرم المعاصر واللاحق على الجريمة.
كما قد يفترض المشرع الخطورة الإجرامية إذا كانت الجريمة من نوع معين أو تم ارتكابها من شخص بذاته. مثال ذلك ما نص عليه المشرع الإيطالي في المادة 204/2 عقوبات من افتراض الخطورة الإجرامية بشأن المجرم شبه المجنون الذي يرتكب جريمة عمدية أو متعدية القصد يعاقب عليها القانون بعقوبة لا تقل مدتها عن خمس سنوات. ومعنى هذا الافتراض هو إلزام القاضي بتوقيع أحد التدابير العلاجية والتأهيلية الملائمة لهذا النوع من الخطورة .
والواقع أن المشرع المصري قد أخذ بشكل ضمني بفكرة الخطورة الإجرامية كأساس لتوقيع الجزاء الجنائي المتمثل في صورة التدابير أو كأساس لإعمال قواعد التفريد القضائي. مثال ذلك الأخذ بنظام وقف التنفيذ (م55 عقوبات) ، ومثال ذلك ما توجبه المادة 342 من قانون الإجراءات من إيداع المتهم أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إذا ما صدر أمر بأن لا وجه للإقامة الدعوى أو حكم ببراءة المتهم وكان ذلك بسبب عاهة في عقله متى كانت الواقعة جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس.
ويؤكد ذات الفكرة أخذ المشرع المصري بنظام الإفراج تحت شرط (م52 وما بعدها من قانون تنظيم السجون) ، وأخذه بفكرة تصنيف المحكوم عليهم إلى فئات داخل المؤسسة العقابية (م13 من قانون السجون) ، ومنح السجين فترة انتقال تخفف فيها القيود قبل الإفراج عنه (م18 من قانون السجون) ، وكذلك أخذه بفكرة رد الاعتبار سواء القانوني منه أو القضائي (م563 إجراءات الجنائية).
المبحث الرابع

إشكاليات التدابير الاحترازية

236- تمهيد :

سبق وأن ذكرنا أن كلاً من العقوبات والتدابير تتحد في التكيف من حيث كونهما جزاءات جنائية. هذه الوحدة أثارت جدلاً في الفقه حول مدى جواز الجمع بين كلاً من الجزاءين ومدى استقلال كل منهما عن الآخر. والواقع أن لهذا التساؤل مستويين ، الأول يتعلق بمدى جواز الجمع بين الجزاءين على مستوى التشريع ، والثاني يتعلق بمدى جواز الجمع بينهما في مرحلة التطبيق.

237- أولاً : مدى قابلية العقوبات والتدابير للوحدة في مرحلة التشريع :

يذهب اتجاه في الفقه – خاصة من بين أنصار مدرسة الدفاع الاجتماعي - إلى القول بإمكانية الجمع بين كلاً من العقوبات والتدابير في نظام واحد L'unification de la peine et de la mesure de sûreté ، قائلين بأن ذلك لا يتعارض مع أهداف السياسة الجنائية ، متى كانت الفوارق بين نوعي الجزاء ليست بالفروق العميقة. فعند هذا الاتجاه يتحد كلاً الجزاءين في الغاية كما أنهما من حيث الموضوع يمسان بحق من حقوق المجرم ، على الأخص إذا كان سالب أو مقيد للحرية. كما أن كلا الجزاءين يخضع لمبدأ الشرعية بحيث لا يجوز تقريرهما إلا بناء على قانون وينطبق بشأنهما مبدأ القضائية. كما يؤكد هذا الاتجاه على أنه لا يجوز التعليل من أجل رفض فكرة التوحيد بكون التدابير تهدف إلى مواجهة الخطورة الإجرامية بينما العقوبة تستهدف في الأصل تحقيق الردع والعدالة ، وذلك لأن تطبيق العقوبة وتنفيذها يستند إلى حد كبير على درجة خطورة الجاني الإجرامية.
وفوق أن كلا الجزاءين يهدف إلى تحقيق الردع الخاص ، فإن التدابير يمكن أن تشارك العقوبة تحقيق الردع العام والعدالة. ذلك أن التدابير وما تنطوي عليه من ألم غير مقصود وبحسبانها جزاء مرتبط بوقع جريمة يجعل العامة تربط بين هذه الصورة من الجزاءات وبين الجريمة المرتكبة ، مما يخلق في نفوس العامة نوعاً من الزجر والترهيب (الردع العام) والكافي لتحقيق العدالة.
وعلى الجانب الآخر يؤيد بعض الفقه فكرة استقلالية العقوبة عن التدابير وعدم قابليتهما للجمع في نظام عقابي موحد. وعلة ذلك أن العقوبة تقوم على أسس أخلاقية تستهدف توجيه اللوم القانوني للمجرم مما يوجب عند وزنها الرجوع إلى ماضي المجرم لمحاسبته على جريمته وإلى جسامة الواقعة الإجرامية ودرجة الإثم الذي صاحب الإرادة ، حتى تكون العقوبة في النهاية متعادلة ومتناسقة مع تلك العناصر. تلك الأمور لا تتوافر بشأن التدابير فهي لا تتوجه إلا إلى المستقبل كي تقي المجتمع الخطورة الإجرامية المتمثلة في احتمالية وقوع الجريمة في المستقبل. لذا فإنها لا تقاس - في الأصل - حسب جسامة الواقعة الإجرامية ولكن بحسب درجة خطورة المجرم. ولهذا كله كانت العقوبة محددة المدة بخلاف التدابير التي يتوقف انتهائها أو تعديلها على ما سوف يكشف عنه مستقبل المجرم ومدى تفاعله مع المجتمع وتقلص نوازع الشر داخله.
ولدينا أن هذا الرأي الأخير يجب تأييده ، ذلك أن الجمع بين العقوبة والتدابير في نظام عقابي واحد سوف يؤدي إلى تغليب أغراض العقوبة أو أغراض التدابير ، وفي ذلك ضرر بالمجتمع. حيث أن تغليب أغراض العقوبة فيه من التشديد تجاه المجرمين الذين تقل درجة خطأهم عن درجة خطورتهم الإجرامية. كما أن تغليب مقتضيات التدابير قد يؤدي إلى التساهل مع المجرمين اللذين تقل لديهم الخطورة عن درجة خطأهم.
وفي رأينا أنه يجب أن يبقى لكل من الجزاءين مجاله الخاص ، فيبقى للتدبير طبيعته كأسلوب دفاع اجتماعي لا يجازي خطيئة ولا يعبر عن لوم ولا يصم من ينزل به بالعداء للمجتمع أو التقصير قبله ، على العكس من العقوبات التي يظل مناط توقيعها الخطأ الجنائي ويبقى الإيلام جزء من كنهها ومقصود كي يعبر عن طبيعتها كجزاء أخلاقي.
ويكفينا دليل على سلامة رأينا هذا المبني على استقلالية الجزاءين أن الجمع بين العقوبة والتدبير في نظام موحد سوف يضع على قدم المساواة من حيث طبيعة الجزاء الأشخاص الذين تتوافر بشأنهم عناصر المسئولية الجنائية ومن يتوافر بشأنهم مانع من موانع المسئولية كجنون أو كعاهة في العقل أو كصغر السن.
ويبدو أن هذا الرأي هو الراجح لدى غالبية التشريعات الجنائية. فبه أخذ القانون الإيطالي والألماني واليوناني والسويسري والدنماركي ، وكذلك بعض التشريعات العربية كالقانون اللبناني والسوري والعراقي والجزائري ومشروع من قانون العقوبات المصري في عام 1967. وقد أخذ بهذا الأسلوب أيضاً - وإن كان بشكل ضمني – التشريع الفرنسي والتشريع المصري. بل لقد عدلت التشريعات التي كان قد سبق لها أن أخذت بفكرة التوحيد إلى نظام الاستقلال ومن ذلك التشريع السوفيتي الصادر عام 1926 والذي عدل عن فكرة الوحدة تحت مسمى "تدابير الدفاع الاجتماعي" إلى نظام استقلال العقوبة عن التدابير عام 1958.

238- ثانياً : مدى قابلية العقوبات والتدابير للوحدة في مرحلة التطبيق :

ينصب التساؤل في تلك النقطة حول مدى جواز الجمع بين العقوبة والتدبير كجزاء عن جريمة واحدة توافر في شأن مرتكبها عناصر المسئولية الجنائية وكذلك الخطأ تعبير عن الإرادة الجنائية الآثمة مما يوجب توقيع العقوبة ، وتوافرت لدية الخطورة الإجرامية ، مما يوجب توقيع تدبير. فهل يطبق على هذا المجرم عقوبة مقابل ما بدر منه من خطأ فضلاً عن التدبير لقاء ما ظهر لديه من خطورة إجرامية ؟
هذا التساؤل يطرح جانباً حالة الأشخاص الذين لا يتوافر بشأنهم إلا أحد الأساسين الذين يبنى عليهما الجزاء الجنائي عقوبة أم تدبير ، ألا وهما الخطأ والخطورة. فالمجرم بالصدفة لا يثور بشأنه هذا التساؤل حيث يتوافر لدى هذا النمط الإجرامي الخطأ دون الخطورة ، كما أن المجرم المجنون تتوافر بشأنه الخطورة دون الخطأ مما لا يجعل لهذا التساؤل محلاً بشأنه أيضاً. وبالتالي فإن المشكلة ستثور بشأن أولئك الذين تكتمل لديهم عناصر الأهلية الجنائية ، كحالة المعتاد على الإجرام والأشخاص ناقصي الأهلية كالشواذ أو ذوي المسئولية المخففة .
وللإجابة على التساؤل المطروح ذهب البعض إلى أنه لا مانع من الجمع بين العقوبة والتدبير كجزاء واحد طالما اجتمع لدى الجاني مرتكب الجريمة الخطأ والخطورة. فهذا أمر يحتمه المنطق القانوني ، كي تكون العقوبة مقابل الخطأ ويكون التدبير مقابل الخطورة. وعلى هذا سارت التشريعات الغالبة كالتشريع الألماني والإيطالي واليوناني والفرنسي ومشروع قانون العقوبات المصري والقانون اللبناني.
على أن الأخذ بهذا الرأي يوجب طرح تساؤل آخر مؤداه بأي الجزاءين - عند الجمع بينهما عن جريمة واحدة - يبدأ التنفيذ.
ذهب البعض إلى ضرورة البدء في تنفيذ العقوبة ، حيث أن البدء في تنفيذها متى كان الخطأ ثابتاً أمر يحقق الردع العام ، فالتأخير في تنفيذها يقتل في النفوس الزجر والترهيب. فإذا ما نفذت وتحقق الهدف منها أمكن البدء في تنفيذ التدابير بقصد التأهيل أو العلاج. في حين ذهب البعض إلى ضرورة البدء بتطبيق التدابير باعتبارها أسلوباً علاجياًُ وتأهيلياً للمجرم تهدف إلى إعادته إلى حظيرة المجتمع كشخص سوي يدرك معنى العقاب ويتفهم دلالته. فلا شك أن البدء في تنفيذ العقوبة قد يعقد من نفسية المجرم ويجعل تحقق أغراض التأهيل والإصلاح والعلاج المستهدفة من التدابير أمراً صعباً فيما بعد.
ولدينا أن هذا الرأي الذي يرى جواز الجمع بين العقوبة والتدبير كجزاء عن جريمة واحدة يجب رده وعدم الأخذ به. وعلة ذلك أن هناك تناقض جوهري بين العقوبة كوسيلة إيلام وبين التدبير كوسيلة علاج ، والجمع بين الوسيلتين في مجرم بعينه فيه تجاهل لوحدة شخصية الإنسان وتمزيق لها. فالتناقض في معاملة المجرم سوف يؤدي إلى إحداث خلل اشد في شخصيته. فالبدء بتنفيذ عقوبة على مجرم يعاني شذوذاً قد يؤدي إلى زيادة الشذوذ تجاهه ، بحيث يصبح من الصعب علاجه فيما بعد عن طريق التدابير. كما أن البدء بتنفيذ التدبير بهدف العلاج قد يوقف فوائدة العقوبة التي توقع لاحقا . من هنا نرى ضرورة تغليب أحد الجزاءين على الأخر إذا اجتمع في شخص واحد الخطأ والخطورة. ولدينا أنه من الضروري في تلك الحالة تغليب الخطأ بما يوجب توقيع العقوبة دون التدبير. ذلك أن العقوبة تشتمل على أهداف أعم وأشمل وتجب في داخلها هدف التدابير المتمثل في تحقيق الردع الخاص .
ونود أخيراً الإشارة إلى أن مبدأ عدم جواز الجمع بين الجزاءين عن جريمة واحدة وفي شخص واحد قد أوصىت به المؤتمرات الدولية ، ومنها مؤتمر لاهاي الدولي في عام 1950، والمؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات بروما عام 1953 ، والمؤتمر الأوروبي لمكافحة الجريمة ومعاملة المذنبين بجنيف في عام 1956.
الباب الثالث

اقتضاء الحق في العقاب

239- تمهيد وتقسيم :

ينصرف تعبير اقتضاء الحق في العقاب إلى الكيفية التي يتم بها تحقيق أغراض الجزاء الجنائي ، كالتزام يقع على عاتق الدولة وسلطاتها المعنية بمكافحة الظاهرة الإجرامية.
وقد أبانت الصفحات السابقة عن استقرار الجزاء الجنائي على صورتين رئيسيتين أحدهما يشمل العقوبة الجنائية والآخر يتعلق بالتدابير الاحترازية. وأوضحنا أن الأولى جزاء ينطوي على معنى أخلاقي يهدف إلى إيلام الجاني من أجل ردعه وإثناءه عن سلوك سبيل الجريمة مرة أخرى. كما تهدف إلى زجر وترهيب العامة كي يتجنبوا تقليد الجاني في مسلكه. أما الثانية -أي التدابير - فذات غرض تأهيلي وعلاجي ولا تنطوي على إيلام مقصود. فجل غرضها كبح جماح الخطورة الإجرامية الكامنة لدى شخص المجرم كي لا تتحول إلى إجرام فعلي في المستقبل.
ورغم تلك الازدواجية الجزائية إلا أنه ما زالت للعقوبة غلبتها في التشريعات الجنائية ، بل وتحتل العقوبة السالبة للحرية القاسم الأعظم منها. والاعتماد على هذا النمط العقابي ، أي في صورتها السالبة للحرية ، خلق ما يعرف بالسجون أو ما يطلق عليه المؤسسات العقابية ، بحسبانها الأماكن التي تنفذ فيها هذه العقوبات. وبدخول المحكوم عليه المؤسسة العقابية تبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوى والخصومة الجنائية .
وعلى ذلك فإن اقتضاء الحق في العقاب يوجب تحديد أسلوب المعاملة العقابية ، سواء من الناحية المادية أو من الناحية القانونية ، الذي يتناسب مع شخصية وظروف كل مجرم في ضوء ما يسفر عنه فحص الشخصية. وهذه المرحلة - خاصة في النظام المصري - يوكل أمرها إلى جهة الإدارة ، لكون هذه المرحلة توجب تدخل العديد من المتخصصين ، كالأطباء ورجال الدين والأخصائيين الاجتماعين والنفسيين ورجال التعليم وكافة المعنيين بوضع برامج التأهيل والتهذيب والإصلاح داخل المؤسسة العقابية.
وفي ضوء ذلك فإننا سوف نقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول نحدد في أولهما الإطار المكاني للتنفيذ العقابي السالب للحرية - أو ما يطلق عليه المؤسسات العقابية - وفي ثانيهما نحدد التنظيم المادي للمعاملة العقابية ، وفي الفصل الأخير نبين التنظيم القانوني للمعاملة العقابية.
الفصل الأول

الإطار المكاني للتنفيذ العقابى

(المؤسسات العقابية) Les établissements pénitentiaires

240- تمهيد :

إن بدء التنفيذ العقابي - خاصة في حالات سلب الحرية – يعد أهم المراحل التي تلي وقع الجريمة عموماً. فعليه يتوقف محو الضرر الاجتماعي الناشئ عن الجريمة وإرضاء الشعور بالعدالة ، وعليه يتوقف مدى النجاح في إعادة المجرم مرة أخرى إلى حظيرة المجتمع كعضو نافع فيه.
ومن أجل تحقيق هذه الأغراض بذلت العديد من الجهود من أجل إصلاح أماكن التنفيذ العقابي ومن أجل الارتقاء بأساليب المعاملة العقابية. وعلى هذا فسوف نقسم هذا الفصل إلى مبحثين نحدد في أولهما ميكانيزم التنفيذ العقابي ، وفي ثانيهما أنواع المؤسسات العقابية.
المبحث الأول

ميكانيزم التنفيذ العقابي

241- تمهيد :
يقصد بتحديد ميكانيزم التنفيذ العقابي رسم صورة للكيفية التي يسير عليها التنفيذ العقابي منذ صدور الحكم الجنائي بالإدانة. ونهدف من هذه النقطة أن نوضح بعض المبادئ العامة لهذه المرحلة ، سواء انصب الأمر على عقوبة سالبة للحرية أو غيرها من أشكال العقوبات ، وكذلك بيان أهم الاتجاهات الحديثة في التنفيذ العقابي ، خاصة الدعوة إلى تدخل القضاء الجنائي في مرحلة التنفيذ العقابي.

242- أولاً : بعض المبادئ الحاكمة للتنفيذ العقابي :

يقصد بالتنفيذ إعمال ما يقضي به حكم نهائي – كأصل عام - صادر عن القضاء الجنائي، في دعوى جنائية صحيحة وبناء على أمر صادر عن سلطة التنفيذ . فالتنفيذ ما هو إلا إعمال ما يقض به حكم نهائي بالإدانة صـادر عـن قضـاء الحكم. أي أن مرحلة التنفيذ لا تبدأ إلا عندما تنتهي إجراءات الدعوى الجنائية بصدور الحكم البات.
ولا يعد التنفيذ واقعة ماديه , بل هو حاله قانونية تتجسد في علاقات قانونية تنشأ بين الدولة كشخص معنوي والمحكوم عليـه. وتفرض تلك العلاقة عدداً من الالتزامات المتبادلة بين الدولة والمحكوم عليه. فعلي الأخير أن يخضع ويتقدم لتنفيذ ما جاء بالحكم الصادر بالا دانه ، كمـا أن علي الدولـة ألا تنفـذ عقوبة أخرى خلاف ما جاء بالحكم .
ويكشف لنا هذا التعريف عن أن الحكم الجنائي هو سند التنفيذ Titre d'exécution ، وبدونه لا يجوز الالتجاء إلى السلطة المختصة بإجراء التنفيذ. فالحكم الجنائي الصادر بالإدانة هو الكاشف عن تحقق المسئولية الجنائية وعن إلحاق الضرر بالمجتمع ووجوب العقاب. أو هو بالأحرى الذي يعطي التبرير للدولة – ممثلة في سلطتها التنفيذية - لاستعمال حقها في العقاب.
واستلزام حكماً جنائياًُ لبدء التنفيذ العقابي أمر يستوجبه التمسك بمبدأ الشرعية الجنائية في شقها العقابي ، المتضمن أن لا عقوبة إلا بحكم قضائي (م66 من الدستور المصري) ، بحسبان أن القضاء هو حارس الحريات. والحكم الجنائي لا يوصف بهذه الوصف إلا إذا كان صادراً عن محكمة مختصة وفقاً لما تحدده القوانين الإجرائية والقوانين المنظمة للسلطة القضائية للدولة. وعلى هذا تؤكد المادة 409 إجراءات جنائية مصري بقولها "لا يجوز توقيع العقوبات المقررة بالقانون لأية جريمة إلا بمقتضي حكم صادر من محكمة مختصة بذلك".
والأصل ألا تنفذ إلا الأحكام النهائية , أي التي استنفذت كافة طرق الطعن العادية (المعارضة والاستئناف) . ألا أنه يمكن البدء في تنفيذ بعض الأحكام حتى ولو تكن نهائية. ومن قبيل ذلك ما تنص عليه المادة 463 من قانون الإجراءات الجنائية من أن الأحكام الصادرة بالغرامة والمصاريف تكون واجبه التنفيذ فوراً ، ولو مع حصول استئنافها. وكذلك الأحكام الصادرة بالحبس في سرقة أو على متهم عائد أو ليس له محل إقامة ثابت بمصر ، وكذا الحال في الأحوال الأخرى إذا كان الحكم صادر بالحبس , وإلا إذا قدم المتهم كفالة بأنه إذا لم يستأنف الحكم لا يفر من تنفيذ الحكم الذي يصدر ، وكل حكم صادر بعقوبة الحبس في هذه الأحوال يعين فيه المبلغ الذي يجب تقديم الكفالة به..وفي عجز ذات المادة أشارت إلي أنه إذا كان المتهم محبوساً حبساً احتياطياً , يجوز للمحكمة أن تأمر بالتنفيذ المؤقت ولو مع حصول الاستئناف.
وتقضي المادة 464 إجراءات جنائية بأن تنفذ أيضا العقوبات التبعية المقيدة للحرية المحكوم بها مع عقوبة الحبس طبقا للمادة 463. كما تنص المادة 467 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه يجوز تنفيذ الحكم الغيابي بالعقوبة إذا لم يعارض فيه المحكوم عليه في ظرف العشره أيام التالية للإعلان بالحكم الغيابي. كما أن للمحكمة عند الحكم بالتضمينات للمدعي بالحقوق المدنية أن تأمر بالتنفيذ المؤقت مع تقديم كفالة ولو مع حصول المعارضة أو الاستئناف بالنسبة لكل المبلغ المحكوم به أو بعضه ولها أن تعفي المحكوم له من الكفالة.
وأخيراً تقضي المادة 468 إجراءات بأن للمحكمة عند الحكم غيابياً بالحبس مدة شهر فأكثر إذا لم يكن للمتهم محل إقامة بمصر , أو إذا كان صادراً ضده أمر بالحبس الاحتياطي , أن تأمر بناء علي طلب النيابة العامة بالقبض عليه وحبسه.
ويعطي المشرع المصري للنيابة العامة سلطه تنفيذ الأحكام (م461 إجراءات جنائية) باعتبارها ممثلة عن المجتمع وتنوب عنه في المطالبه بالحق في العقاب . بل أن المشرع المصري يوجب علي تلك السلطة المبادرة إلي تنفيذ الأحكام الواجبة التنفيذ الصادرة في الدعوى الجنائية ولها من أجل القيام بهذا الالتزام أن تستعين بالقوة العسكرية مباشرة (م462 إجراءات جنائية) .
ويسند أمر التنفيذ الفعلي للعقوبات إلي السلطة التنفيذية وفقاً للتشريع المصري ممثلة في وزارة الداخلية ، وعلى الأخص مصلحة السجون فـي حالة العقوبات السالبة للحرية. وهنا توجب المادة 41 إجراءات جنائية بأن لا يحبس أي إنسان إلا في السجون المخصصة لذلك, كمـا لا يجوز لمأمور أي سجن قبـول أي إنسان فيه إلا بمقتضي أمر موقع عليه من السلطة المختصة ، ولا يبقيه بعد المدة المحددة بهذا الأمر. فعمل النيابة العامة ينحصر خلال مرحلة التنفيذ في إصدار الأمر به فقط ، أي إعمال منطوق الحكم الجنائي .
ومن أجل درء التعسف والعدوان علي حريات الأفراد مـن قبل السلطة التنفيذيـة القائمة علي أمر التنفيذ العقابي أجازت المادة 42 إجراءات جنائية لكـل مـن أعضاء النيابة العامـة ورؤساء ووكلاء المحاكم الابتدائية والاستئناف زيارة السجون العامة والمركزية الموجودة في دوائر اختصاصهم والتأكد من عدم وجود محبوس بصفة غير قانونية. ولهم أن يطلعوا علي دفاتر السجن وعلي أوامر القبض والحبس وأن يأخذوا صوراً منها وأن يتصلوا بأي محبوس ويسمعوا منه أي شكوى يريد أن يبديها لهم ، وعلى مديرو وموظفي السجون أن يقدموا لهم كل مساعده لحصولهم علي المعلومات التي يطلبونها.

243- ثانيا: الاتجاهات الحديثة في التنفيذ العقابي:

لعل أبرز ما طرأ على التنفيذ العقابي في السنوات الأخيرة هـو اعتراف بعـض الدول بمبدأ تدخل القاضي الجنائي في مرحلة التنفيذ. فهـذا الاتجاه ـ على حـد قول البعض ـ يعد ثورة حقيقية في التشريع الجنائي . وقد لاقت هذه الفكرة في مهدها مناهضة من قبل الفقه التقليدي بحجة أن تنفيذ الأحكام هو عمل مادي بحت لا يتلاءم إلا مع وظيفة الإدارة العقابية. يضاف إلى ذلـك قـولهم بـأن الاعتـراف للقاضي بدور في مرحلة التنفيذ هو اعتداء على مبدأ الفصل بين السلطات , الذي يوكل أمر التنفيذ إلي السلطة التنفيذية كاختصاص أصيل لها , والقول بغير ذلك قد يصادم بين السلطات بعضها ببعض .
والواقع أننا لا نؤيد هذا الاتجاه التقليدي الذي لم يعد مقبولاً التسليم به في ظل أفكار الدفاع الاجتماعي التي تعطي للإدارة حرية فـي التقدير والاختيار بين أنواع الجزاءات الجنائية وكيفيه تنفيذها على المحكوم عليه. فلم يعد حكم الإدانة يتضمن تحديداً كافياً للعقوبة أو للتدبير, بل يترك هذا التحديد إلي مرحلة التنفيذ الفعلي للجزاء وفقاً لمجموعة من الظروف والعوامل التي تتصل فـي الغالـب بشخص المحكوم عليه.
هذا التطور في المفاهيم العقابية أوجب عدم الفصل بين تنفيذ العقوبة وبين مـن أصدر الحكم بالإدانة. فالتنفيذ في الحقيقة ما هو إلا امتداد للدعوى الجنائـية. ويجب أن تمتد يد القاضي إلي هذا الشق التنفيذي كي يتحقق مـن أن الجـزاء المحكوم به سوف يحقق أغراضه التي تمثلها القاضي فـي ذهنه حال النطق بالجزاء على مرتكب الفعل الإجرامي. فإذا كان الجزاء الجنائـي - عقوبـة أم تدبير - يرنو إلي تحقيق التأهيل والإصلاح - أي علاج المجرم من مرضه المتمثل في عوامل الإجرام الكامنة - كي يعدو شخص نافع في المجتمـع ، فكان من المتعين القول بوجوب أن يتحقق القاضي من أن الجزاء كعلاج قد أتي ثماره وحقق إغراضه تجاه المحكوم عليه. شأن القاضي في ذلك شأن الطبيب الذي يشخص حالـه المريض ويصـف لـه الدواء وعليه الاستمرار في متابعة مريضه حتى يتأكد من أن العلاج قـد حقـق فوائده المرجوة.
وطالما أن الاتجاهات العقابية الحديثة تعطي لجهة الإدارة الحرية فـي تحديـد المعاملة العقابية الملائمة للمحكوم عليه - كأن تقرر مثلا إفادة المحكوم عليـه من نظام الإفراج الشرطي أو نقل المحكوم عليه من مؤسسة إلي أخري أو مـن نظام معاملة إلي نظام أخر - فكان لابد من مد سلطه القضاء إلي الإشراف على أداء الإدارة العقابية ، فقد يمس أسلوب المعاملة العقابية المتبع بقوة وحجية الحكم الجنائي الصادر. وحيث أن تحديد قوة الأحكام ومضمونها عمل قضائي فكان ولابـد مـن قبـول مشاركة القضاء الذي أصدر الحكم في تنفيذ مضمونه ومتابعة هذا التنفيذ.
ولا يقدح في ذلك القول بتصادم القضاء مع الإدارة العقابية , ذلـك أنـه يـمكن التغلب علي هذا الأمر بتحديد اختصاصات كل من القاضي الذي يسمي حال ذلك قاض التنفيذ أو قاضي تطبيق العقوبات - والإدارة العقابية. فيعهد إلي الإدارة القيام بالأعمـال الماديـة كالتنظيم الداخلي للمؤسسة العقابية وتوجيه سير العمل فيها وتوقيع الجـزاءات التأديبية من أجل حفظ النظام ومنح المكافآت ، في حين يتـرك للقـاضي - قاضي التنفيذ - الرقابة علي كل ما من شأنه تعديـل وضع المحكـوم عليه كما حدده الحكم. فيسند له كل ما يتعلق بمدة العقوبة أو التدبير وتعديل أسلوب التنفيذ وتقريـر مدي أحقية المحكوم عليها من الاستفادة من نظام الإفراج الشرطي وإلغاءه حال منحه وتعديل الالتزامات المفروضة علي الخاضع لهـذا النظام. كذلك يختـص برقابة تنفيذ الالتزامات المفروضة حال تقرير نـظام الـوضع تـحت الاختبـار والتعديل فيها بالزيادة أو النقص أو الإعفاء منـها. وأخيـراً يختص بنظـر إشكالات التنفيذ .
ولقد تجاوبت العديد من الدول مع هذا الاتجاه الحديث , وكان أولهـا القـانون الإيطالي في عام 1930 والذي تنص المادة 144 منه علي خضوع تنفـيذ العقوبـات السالبة للحرية لرقابة قاضي الإشراف Juge de surveillance. وقـد وسع قانـون العقوبات الجديدة الصادرة في 24 يوليو عام 1975 مـن اختصاصـات هـذا القاضي لتشمل ابداء الـرأي بشأن الإفراج الشرطي بالنسبة للمحكـوم عليـه وكذلك مدي السماح لهذا الأخير بالعمل خارج المؤسسة العقابية. وتأخذ بعـض الدول بنظام محكمة تنفيذ العقوبات , ومنـها القانون البرتغالي الصـادر عـام 1944 , والذي أوكل إلي محكمة مشكلة من قاضي فرد النظـر في كـل مـا يتعلق بتنفيذ العقوبات أو التدابير ، سواء مـا يتعلق بمدتها أو ما يتعلـق بنمـط المعاملة العقابية المطبق. وبهذا أيضا أخذ القانون الفيـدرالي الألمانـي الصادر في 17 مارس 1976 بأن خصص في محاكم الدرجـة الأولي دوائـر للتنفيـذ العقابي ومشكلاته .
ويعد التشريع الفرنسي من بين التشريعات التي سبقت الجميع في الأخذ بنظـام قاضي التنفيذ, بل أن هذا النظام قد عرف عملياً منذ الثورة وقبل النص عليـه تشريعيا حيث كان يعهد إلي قاضيين بالإشراف علي تنفيذ العقوبات ، أحدهما كان رئيس لجنة تنظيم السجون المركزية والأخر رئيس لجنه مساعده المفرج عنهم.
وكانت النقلة الحقيقية في عام 1949 عندما أقر المشرع الفرنسي نظام قاضي تنفيذ العقوبات والذي يلحق بكل مؤسسة عقابية تنفذ فيها عقوبات تزيـد علي سنه. ويعهد إلي هذا القاضي بالنظر في كل ما يتعلق بالتنفيذ العقابي فيما عدا منح الإفراج الشرطي , الذي بقى من اختصاص وزير العدل. وقد صدر قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الحالي عـام 1958 آخـذاً بمـا أسماه قاضي تطبيق العقوبات Juge d'application des peines (م721) والذي يعين بقرار من وزير العـدل بعد أخذ رأى مجلس القضاء الأعلى لمـدة ثـلاث سنوات قـابلة للتجديد . ووفقا للمادة 722 إجراءات فرنسي فإن قاضي تطبيق العقوبات يختص بالإشراف علي تنفيذ العقوبات وتحديد نوع المعاملة العقابية بالنسبة للمحكوم عليه ومنح تراخيص الإقامة في الخارج في حالة الوضع تحت الاختبار وتقرير نظام شبه الحرية وكذلك اقتراح منح الإفراج الشرطي وإبداء الرأي فـي إلـغاءه. كذلـك يختص بتقرير نقل المحكوم عليه من درجة إلى أخرى في المؤسسات التي تأخذ بالنظام التدريجي.
المبحث الثانى

أنواع المؤسسات العقابية

244- تمهيد وتقسيم :
يرتبط ظهور المؤسسات العقابيـة - السـجون - بظهور العقوبـات السالبة للحرية. مما يعني أن فكرة السجون ليسـت قديمة كما قد يعتقد البعض , فعمرها الزمني يرجع إلي قرنين فقط من الـزمان. فالعقوبات التي كانت تسود في الماضي كانت تأخذ طابع العقوبـات البدنية كالإعـدام وقطـع الإطراف والجلد , ولم يكن السجن - الذي كان يأخذ صورة الحصون والقلاع والأقبيـة - إلا مكانا للتحفظ علي الأشخاص لحين محاكمتهم أو لحين تنفيذ العقوبـة البدنية عليهم. ولم تكن الدولة - التي لم تكن سلطتها في ذاك الوقت قد قويت - تتولي إدارة السجون. بل كان يعهد بذلك إلي أحد الأشخاص الذي كان يهدف في الغالب إلى تحقيق الربح , الأمر الذي جعله يفرض إتاوات علي المساجين دون أن يهتـم بالإنفاق على تحسين المرفق الذي يديره.
وكانت بشائر حركة إصلاح السجون قد بدأت علي يد رجال الكنيسة , الذين قاوموا بشـدة العقوبات البدنية ودعوا إلى فتح الطريق من أجل التكفير والتوبـة ، الأمر الذي أوجب الاهتمام بإصلاح الأماكن التي يجري فيها وضـع المذنبيـن. فظهر في ذلك الأثناء نظام الحبس الانفرادي الذي يسمح للمحكوم عليـه بتأمل ذنبه والندم عليه بالتقرب والطاعة للرب.
وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأت الدعوة إلي إصلاح السجون تـأخذ مظهراً علمياً علي يد العالم الإنجليزي جون هوارد Johon Howard , الـذي أبرز - من خلال دراسته لأحوال السجون في عدد من البلدان الأوربية والتي نشرها من خلال مؤلفه "حالة السجون في انجلترا وويلز" (1777) - ضرورة الاهتمـام بإصلاح وتهذيب وإرشاد المسجونين ، وذلك عن طريق الاهتمام بالتعاليم الدينية ودفعهم إلى اكتساب حرفه أو مهنة أثناء التنفيذ العقابي تعينـهم علي مواصلة الحياة بعد خروجهم إلي المجتمع.
ولقد توالت الدعوات الفردية بعد هـوارد إلـي أن تأسست الجمعيـة الدوليـة للعقوبات والإصلاحيات في عام 1880 بهدف الحد من شدة العقوبات والاهتمام بشخص المحكوم عليه والسعي بأن يكون الهدف الاسمي للعقوبة هـو الإصلاح والتأهيل. ولقد أسفرت جهود الجمعية في عام 1933 عن وضع مجموعة مـن القواعد النموذجية لمعاملة المسجونين ، والتي أقرتها الجمعية العامة لعصبة الأمـم عام 1934 .
وخلال تلك الرحلة الطويلة ، التي امتدت منذ العصور الـوسطي إلى وقتنا الحالي ، يمكن القول أن التطور قد كشف عن ثلاثة أنواع مـحددة مـن المؤسسات العقابية , هي المؤسسات المغلقة Les établissements fermes والمؤسسات المفتوحة établissements ouverts Les والمؤسسات شبه المفتوحة Les établissements semi-ouverts. وسوف نوالي شرح هذه الأنواع في النقاط التالية ، مع بيان موقف المشرع المصري من الأخذ بها.

245- أولا: المؤسسات العقابية المغلقة :

فكرة السجون أو المؤسسات المغلقة Les établissements fermés هي الصورة التقليديـة الأولي بين مختلف الأنواع من المؤسسات العقابية. وتستند هذه الفكرة إلـي نظرة خاصة للمجرم باعتباره شخصاً خطراً علي المجتمع يتعين عزلة خـلال فتـرة معينة يخضـع خلالها لنظام رقابي صارم وقاس من حيث المعاملة العقابية ، يكفل تحقيق الردع والزجر بالنسبة للمحكوم عليه.
وتتميز هذه السجون بموصفات خاصة من حيث نظامها العقابي وحراستها وقسوة العقوبات التأديبية التي توقع على من يخالف النظم الداخلية لها.
ولما كان الهدف الرئيسي لتلك المؤسسات هو الردع , فإن هذا النوع غالباً مـا يخصص للمجرمين المحكوم عليهم بعقوبات طويلة المدة وللمجرمين الخطرين ولمعتادي الإجرام , ولكل من يثبت أنه لن يجدي في ردعه إلا الخضوع لنظام عقـابي مفرط في الشدة والقسوة .
ولا شك أنه يعيب تلك المؤسسات - بأسوارهـا العالية وبعدها عن المدن وحراستها المشددة - أنها تضفي علي الحياة داخلها جواً يخالف تماماً طابع الحياة العادية في المجتمع , بما يفصم العلاقة بين المسجـون وبيـن العالم الخارجي , فينمي هذا داخله مزيد من العداء للمجتمـع ولإدارة السجن , ويضعف داخله إرادة التأهيل ويضعف من ملكاته الفرديـة مـما يجعـل عمـل القائمين علي إدارة المؤسسة العقابية في التأهيل أمر لا طائل منه. كما أن هـذا المؤسسات في سبيل إنشائها وإدارتها تكلف الدولة مبالغ طائلة لما تتطلبه مـن طاقم إداري كبير وحجم منشات ضخم .

246- ثانيا: المؤسسات العقابية المفتوحة:

لعل خصوصية المؤسسات العقابية المفتوحة Les établissements ouverts توجب علينا أن نبين عدة أمور بشأنها أولها يتعلق ببيان مضمون هذه الفكرة وثانيها يرتبط بتحديد المعايير التي على أساسها يتم اختيار نزلاء تلك المؤسسات وأخرها يتعلق بتقييم هذا النوع من المؤسسات.

247- أ : مضمون فكرة المؤسسات المفتوحة وتطبيقاتها :

المؤسسات المفتوحة هي علي النقيض التام من المؤسسات المغـلقة , ذلك أنها نوع من السجون المتخصصة تتميز بغياب العوائق المادية التـي تحـول دون هروب المحكوم عليه , مثل الأسوار العالية والقضبان والحراس. ففيـها تتـرك النوافذ والأبواب مفتوحة , ولا يستخدم فيها وسائل القسر والقهـر لحمـل المحكوم عليهم علي الخضوع لنظام المؤسسة أو للأساليب التأهيلية أوالعـلاجية. فهـي تعتمد أساساً على الثقة الممنوحة للمحكوم عليهم واقتناعهـم الشخصـي بالبرامـج الموضوعة من قبل الإدارة العقابية .
وغالباً ما توضع هـذه المؤسـسات خارج المدينة أو في الريف , مع وبالقرب من المناطق الحضرية كي يسهل الحصـول علـي الضروريات اللازمة لإعاشة النزلاء والقائمين علي تنفيذ العقاب ، وحتى يمكـن الاتصال بالاختصاصيين في برامج التأهيل والعلاج عند اللزوم. وعادة ما تتخذ المؤسسة شكل منطقة زراعية يحوطـها بعـض الأسلاك الشائكة أو الحواجز البسيطة لتحدد معالمها ، وبداخلها يمـارس النزلاء الأعمال الزراعية والصناعات الملحقة بها .
وفكرة المؤسسات المفتوحة ليست بالفكرة الحديثة ، فقد ظهرت أواخـر القـرن التاسع عشر ونمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية نظراً لتزايد عـدد المحكـوم عليهم بسبب ظروف الحرب ، الأمر الذي أوجب وضـع المحكوم عليـهم فـي مبان عادية ومعسكرات بهدف تشغيلهم لصالح المجهود الحربي .
وقد تكون هذه المؤسسات منفصلة , أي عبارة عن مبـان متخصصة يـودع فيهـا النزلاء الذين يثبت بشأنهم ومن واقع معايـير التصنيف المختلفة صلاحيتـهم للخضوع لهذه المعاملة العقابية المتميزة. وقد تكون هذه المؤسسات عبـارة عن أقسام ملحقة في سجن أخر قد يكون مغلق وقد يكون شبـه مفتوح , بحيث ينتقل إلـي القسم المفتوح من يكون علي وشك الإفراج عنه بهدف البدء في تأهيله وتدريبيه علي حياه أقرب إلي حياه المجتمع العادية.
ولقد أوصت المؤتمرات الدولية بالأخذ بهذا النمط من المؤسسات وشجعت عليه. ومن قبيل ذلك المؤتمر الدولي الثاني عشر الجنائي والعقابـي المنعقد في لاهاي 1950 ، وكذلك مؤتمر الأمـم المتحدة لمكافـحة الجريمة ومعاملـة المذنبين المنعقد في جنيف عام 1955. وبهذه التوصيات أخذت دول كثيرة منها بلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا وفنلندا وانجلترا والولايات المتحدة .
وقد بدأت فرنسا الأخذ بنظام المؤسسات المفتوحة منذ يوليو عام 1948 عندما أنشأت ما يسمي المركز الزراعي بكازابياندا Centre agricole de Casabiande في جزيرة كورسكا Corse ثم تحول أسمة إلى مركز الحبس للنظام المفتوح ، يوضع فيه المحكوم عليهم الذين تتراوح أعمارهم بين 30 ، 50 عاما ، وغالبا مما لا يسبق إدانتهم من قبل. وهناك أيضا مركز السجن المفتوح للمحكوم عليهم الشباب Centre de détenus ouvert pour jeunes condamnés أو ما يسمي بمركز السجن المفتوح بمدينة أورمنيجن La prison-école d'Ormingen ، وفيه يوضع المحكوم عليهم الذين يتراوح سنهم بين 18 ، 28 سنة .

248- ب : معايير اختبار النزلاء بالمؤسسات المفتوحة :

تثير المؤسسات المفتوحة التساؤل حول المعيار الذي علي أساس يتم اختيار النزلاء بها. وتتوزع الاتجاهات في هذا الشأن إلي ثلاثة : فيذهب اتجاه إلي جعل المعيار هو معيار مدة العقوبة , فإذا ما كانت هذه العقوبة طويلة المدة كان الإيداع واجباً بإحدى المؤسسات المغلقة. وعلي العكس إذا ما كانت العقوبة تقصيرة المدة فيمكن إيداعهم بالمؤسسات المفتوحة. وبالطبع يعيب هذا الرأي اعتماده علي معيار غير واضح إذ لا يوجد معيار ثابت لفكرة العقوبة قصيرة المدة. كما يؤخذ عليه اعتماده علي قرينة غير مطلقة ، إذ يعتبر أن طول المدة يكون أمارة علي عدم الثقة في المحكوم عليهم , وهي أمارة أو قرينة غير مطلقة الصحة. إذ يمكن للمحكوم عليه بعقوبة قصيرة المدة أن يكون أكثر خطورة من غيرة من المحكوم عليهم بعقوبات طويلة المدة.
ويذهب اتجاه أخر إلى وجوب اعتبار المؤسسة المفتوحة مرحلة تمهيديه سابقة علي الإفراج , بحيث لا يودع المحكوم عليه مباشرة في المؤسسة المفتوحة , بل لابد من معاملته معامله تدريجية , بحيث لا يكون الاستفادة من نظام المؤسسات المفتوحة إلا في نهاية مدة العقوبة المحكوم بها. ويعيب هذا الرأي نظرته بعين الشك في كافة المحكوم عليهم , فلا مبرر لأن يودع في مؤسسة عقابية مغلقة من يكون جدير منذ بدء العقوبة بالثقة وقابليته للإيداع في مؤسسة مفتوحة. خاصة إذا علمنا أن الإيداع في أحد المؤسسات المغلقة لمن هم جديرون منذ البداية بالإيداع في مؤسسة مفتوحة قد يجعل منهم أعضاء فاسدين خلال مرحلة التنفيذ وقبل إقرار نقلهم إلي درجة عقابية أخف .
وفي رأينا أن المعيار الواجب الإتباع يجب أن يستند إلي أساس علمي يقوم علي إجراء الاختبارات الملائمة من الناحية الطبية والنفسية والاجتماعية لتحديد أي من بين المحكوم عليهم يكون جدير بالثقة في الإيداع في مؤسسة مفتوحة .

249- ج : تقييم نظام المؤسسات المفتوحة :

لا شك أن لهذا النوع من المؤسسات العديد من المزايا التي يمكن أن نوجزها في الأتي :
*- لا يوجد في هذا النوع من المؤسسات فصم بين حياة المحكوم عليه العادية وبين حياته داخل المؤسسة العقابية , إذ يبقي داخل المؤسسات المفتوحة علي اتصال بالعالم الخارجي , مما يسهل عمليه التأهيل والإصلاح من قبل الإدارة العقابية.
*- يجنب نظام هذه المؤسسات المحكوم عليه الآثار السلبية للمخالطة بين المحكوم عليهم , خاصة إذا كان المحكوم عليه مجرماً بالصدفة ولم تتأصل نوازع الشر داخله ، أو كان محكوم عليه بعقوبة قصيرة المدة ولم تكن الجريمة في حياته إلا حادثا عرضيا.
*- يمكن هذا النوع من المؤسسات قيام المحكوم عليه بإعمال واجب الرقابة والإشراف علي أسرته وتقديم العون لهم من ناتج ما يحصل عليه من عمل داخل المؤسسة. ولا شك أن هذا يجنب انحراف بعض الأسر علي أثر دخول عائلهم السجن.
*- يحفظ هذا النوع من المؤسسات التكامل الجسدي والنفسي للمحكوم عليه فلا يشعرهم بالملل والتوتر وغيرها من الأمراض التي يعانيها غيرهم من نزلاء المؤسسات المغلقة.
*- عادة ما يكتسب النزيل بالمؤسسة المفتوحة عملا أو مهنه تمكنه من إيجاد فرصة عمل ومواصلة حياته بعد الإفراج عنه. خاصة أن ظروف العمل الزراعي والصناعي بهذه المؤسسات لا تختلف كثيراً عن ظروف العمل العادي خارج المؤسسة.
*- وأخيراً فإن هذه المؤسسات قليلة التكلفة, كما أنها تدر عائداً إنتاجياً يسوق داخل المجتمع , فتصبح المؤسسات العقابية أداة في دفع عجلة النمو الاقتصادي وليس عبئاً علي الدولة .
ورغم كل تلك المزايا إلا أنه قيل بعدة عيوب في شأن تلك المؤسسات نلخصها في الآتي :
*- أنها قد تتيح هروب النزلاء بكل سهولة نظراً لضعف الحراسة والأمن بها. وقد شهدت فرنسا هذه النماذج في أعوام 1978 و 1979 وفي عام 1988 . وفي رأينا أن هذا النقد لا يقلل من قيمة هذه المؤسسات , فهروب السجناء أمر محتمل في كافه أنواع المؤسسات , كما أن الهروب من هذا النوع من المؤسسات يرجع إلى فشل أنظمة الاختبار وقياسات فحص الشخصية المطبقة لاختيار النزلاء لا إلى عيب في ذات المؤسسات نفسها. والواقع أنه لا معنى لهروب المحكوم عليه من المؤسسة المفتوحة إذ قد يعرضه هذا الهروب لعقوبة أطول مدة من تلك المحكوم بها أصلاً أو نقله إلى أحد المؤسسات المغلقة. ويبقي في جميع الأحوال أن حالات الهرب من هذه المؤسسات أقل كثيراً من تلك المعروفة في المؤسسات المغلقة.
*- وقيل في نقد هذا النوع من المؤسسات أنها تقلل من الأثر الرادع للعقوبة سواء بالنسبة للمحكوم عليه ذاته أو بالنسبة لغيرة من أفراد المجتمع. إذ يعطي نظام هذه المؤسسات الانطباع بأن المحكوم عليه يمارس حياته العادية وبالتالي فلا خوف من العقوبة التي تنفذ بداخلها. وفي رأينا أن هذا النقد غير دقيق أيضاً , ذلك أن هدف الردع ليس هو الهدف الوحيد للعقوبة وفقاً لمفاهيم السياسة العقابية الحديثة. فضلا عن أن الأثر الرادع للعقوبة يتحقق من مجرد سلب الحرية سواء نفذت العقوبة السالبة للحرية في مؤسسة مغلقة أو مؤسسة مفتوحة.
*- وقيل أيضاً في نقد نظام المؤسسات المفتوحة أنها قد تعرض نزلائها للخطر , نظراً لما تسمح به من حرية اتصال بالعالم الخارجي , بما يسمح بعبور بعض الممنوعات - كالمخدرات والعقاقير - إلى داخل المؤسسة العقابية. والواقع أن هذا النقد مبالغ فيه أيضاً ، إذ أن الإيداع في هذه المؤسسات لا يتحقق إلا بعد الخضوع لاختبارات فحص الشخصية التي تثبت صلاحية وجدارة المحكوم عليه بالثقة فيه من قبل الإدارة العقابية , مما يجعل المحكوم عليه يدرك أنه ليس من مصلحته الإخلال بالنظام المتبع داخل المؤسسة. ويمكن عموماً تفادي هذا النقد بإقامة هذه المؤسسات في أماكن ريفية قليلة الكثافة السكانية .

250- ثالثا: المؤسسات العقابية شبه المفتوحة :

تمثل المؤسسات العقابية شبه المفتوحة Les établissements semi-ouverts مرحلة وسطي بين نوعي المؤسسات المغلقة والمؤسسات المفتوحة ، بحيث تجمع بين مزايا هذين النوعين الآخرين. فهي مؤسسات متوسطة الحراسة تحيطها أسوار ليست عالية كما هو الحال في المؤسسات المغلقة , ولا يوجد بها قضبان حديدية علي النوافذ. وقد تكون هذه المؤسسات سجناً مستقلاً أو مجرد قسم مستقل داخل مؤسسة مغلقة ينتقل إليها النزيل بعد فترة من عقوبته وفقاً للتحسن الذي يطرأ علي شخصيته ، وهو النظام المتبع في غالبية الدول .
ونزلاء هذا النوع من المؤسسات فئة من المحكوم عليهم الذين تدل دراسة واختبارات فحص الشخصية عليهم أن نظام المؤسسات المغلقة لن يجدي في إصلاحهم كما أنهم ليسو جديرين بالثقة الكاملة حتى يمكن إيداعهم في مؤسسة مفتوحة. بمعنى أخر هم فئة من النزلاء متوسطي الخطورة الإجرامية ممن تتطلب حالتهم معاملة وسطاً بين الحذر الشديد وبين الثقة الكاملة .
والواقع أن فكرة المؤسسات شبه المفتوحة تتوافق مع نظام التفريد التنفيذي للعقوبة , إذ أن تنوع المؤسسات يراعي حالة كل محكوم عليه ويتيح اختيار المؤسسة العقابية التي تتوافق مع ظروف كل محكوم عليه ودرجة خطورته الإجرامية. لذا ففي الغالب ما تشتمل المؤسسات شبه المفتوحة علي أقسام متدرجة من حيث الشدة والحراسة وينتقل المحكوم عليه بين درجة وأخري حسب التطور والتحسن الذي يطرأ علي سلوكه إلى أن يفرج عنه. وغالباً ما تشتمل المؤسسات شبه المفتوحة علي مزارع وورش صناعية وأماكن تعليمية وتثقيفية وأماكن لقضاء أوقات الفراغ .

251- رابعا: المؤسسات في النظام العقابي المصري :

لبيان أنواع المؤسسات العقابية في التشريع المصري يجدر بنا أولاً أن نعطي نبذة عن تاريخ النظام العقابي المصري.

252- أ : النظام العقابي المصري تاريخياً:

حتى نهاية القرن التاسع عشر لم تعرف مصر سجون بالمعنى الفني الدقيق للكلمة. فلم ترعى الدولة هذا الأمر بإنشاء مبان خاصة يتوافر فيها الاشتراطات الصحية وأساليب التفريد العقابي ونظم التصنيف بين المحكوم عليهم. فلم تفرق النظم العقابية السائدة في تلك الفترة بين معتادي الإجرام ومبتدئيه , بين المجرمين البالغين وصغار السن , بين متوسطي الخطورة ومرتكبي الجرائم شديدة الخطورة. وكان النزلاء عاماً يتلقون نظاماً عقابياً قاسياً ، كالوضع في قيود حديدية والجلد وغيرها من طرق المعاملة اللاإنسانية.
ولم يختتم القرن التاسع عشر سنواته العشر الأخيرة حتى بدأت الدولة تنظر بعين الاعتبار لنظام السجون بهدف إصلاح أحوالها وفق ما وصلت إليه النظم العقابية في ذاك الوقت. لهذا صدرت لائحة السجون في 13 مارس 1885 ، فقررت بعض الضمانات للمحكوم عليهم بإخضاع السجون لإشراف النائب العمومي والمديرين والمحافظين ، وحددت الجزاءات التأديبية التي يمكن أن توقع علي المساجين عند مخالفة النظام داخل المؤسسة العقابية.
ثم صدرت في عام 1901 لائحة جديدة للسجون نصت علي حق المسجون في التعليم والعمل. وفي ذاك الأثناء أقامت الدولة عدد من المنشئات العقابية التي تراعي الاشتراطات الصحية المتطلبة في المؤسسات من هذا القبيل.
من بعد ذلك بلغ النظام العقابي المصري مرتبة أعلى بصدور المرسوم بقانون رقم 180 لسنه 1949 والذي أعمل قواعد التصنيف بين المحكوم عليهم فقسمهم إلي فئتين (أ) و (ب) ، مع السماح بإنشاء سجون خاصة. كما قرر هذا المرسوم الأخذ بالنظام التدريجي عن طريق خضوع المحكوم عليه لفترة انتقال قبل لإفراج عنه لا تقل عن ستة شهور ولا تزيد عن سنه إذا زادت مدة العقوبة علي خمس سنوات.
ومن أجل مواكبة الاتجاهات العقابية الحديثة أصدر المشرع المصري قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنه 1956 وكذلك اللائحة الداخلية للسجون الصادرة بقرار وزير الداخلية رقم 79 لسنه 1961 .

253- ب : أنواع المؤسسات العقابية في التشريع المصري :

تأخذ مصر – بحسب الأصل -بنظام المؤسسات العقابية المغلقة لكافة المجرمين أيا كانت ظروفهم حسب مدة العقوبة. فتنص المادة الأولى من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنه 1956 على أن "السجون على أربعة أنواع : ليمانات , سجون عمومية, سجون مركزية, وسجون خاصة تنشأ بقرار من رئيس الجمهورية يقيم فيها فئات المسجونين اللذين يودعون بها وكيفية معاملتهم وشروط الإفراج عنهم , ويصدر وزير الداخلية قرار بتعين الجهات التي تنشأ فيها السجون من كل نوع ودائرة كل منها".

254- الليمانات:

الليمانات Les bagnes هي السجون التي يتم فيها تنفيذ عقوبة السجن المؤبد والمشدد. علي أن المشرع يعفي من تنفيذ هذه العقوبة في الليمانات النساء إطلاقاً ، والرجال الذين جاوزوا سن الستين من عمرهم ، وكذلك المرضي الذين تكشف ظروفهم الصحية عن عدم قدرتهم علي تحمل نظام الليمانات ( م15 ، م30 ، م34 من قانون تنظيم السجون) . كذلك يعفى من البقاء في الليمان كل من قضي نصف مدة العقوبة المحكوم بها أو ثلاث سنوات أي المدتين أقل متى كان سلوكه حسناً خلالها (م3 ج من قانون السجون). وتنفذ عقوبات هؤلاء جميعاً بالسجون العمومية.
ويوجد في مصر ثلاثة ليمانات ، اثنان منها في طره بمحافظة القاهرة ، والثالث في أبو زعبل بمحافظة القليوبية.

255- السجون العمومية :

توجد السجون العمومية Les pisons centrales في كل جهة بها محكمة ابتدائية. ووفقا للمادة الثالثة من قانون السجون فإن داخل هذه المؤسسات تنفذ الأحكام الصادرة بعقوبة السجن إلي جانب عقوبات السجن المؤبد والمشدد بشأن المحكوم عليهم الذين يعفون من قضائها داخل الليمانات. كما ينفذ فيها أحكام الحبس لمدة تزيد علي ثلاثة أشهر إلا إذا كانت المدة الباقية وقت صدور الحكم عليهم أقل من ذلك (بسبب خصم مدة الحبس الاحتياطي) ولم يكونوا مودعين من قبل في سجن عمومي ( م3/د من قانون السجون).
كما يودع بالسجون العمومية الأشخاص الذين يكونون محلاً للإكراه البدني إذا كان هذا السجن أقرب إلي النيابة أو ضاق بهم السجن المركزي. كذلك المحبوسون حبساً احتياطياً يضعون في السجون العمومية في أماكن خاصة بهم (م14 من قانون السجون).

256- السجون المركزية :

وفقا للمادة الرابعة من قانون السجون ينفذ بالسجون المركزية Prisons Locales - التي تكون ملحقة بأقسام ومراكز الشرطة وخاضعة لرقابة وإشراف مأموريها –المحكوم عليهم بعقوبة الحبس مدة لا تزيد علي ثلاثة أشهر أو المحكوم عليهم مدة تزيد على ذلك إذا كانت المدة المتبقية للتنفيذ وقت صدور الحكم أقل من ثلاثة أشهر (بسبب خصم مدة الحبس الاحتياطي).
وكذلك تنفذ أحكام الإكراه البدني في السجون المركزية إلا إذا ضاقت بهم فينقلون إلى السجون العمومية ، أو إذا كان السجن العمومي أقرب إلى مقر النيابة (م14 من قانون السجون).
والواقع أنه لا يوجد فارق بين السجون العمومية والسجون المركزية فكلاهما يخضع لذات النظام العقابي ويكلف فيها المحكوم عليهم بذات الأشغال , وما الفارق بينهما إلا بصدد مدة العقوبة فقط ، وكان ذلك من بين حججنا في تأييد فكرة توحيد العقوبات السالبة للحرية.

257- السجون الخاصة:

السجون الخاصة Les prisons spécialisés نوع من السجون المتخصصة من حيث فئات المحكوم عليهم أياً كانت مدة عقوبات. وقد جاء النص عليها في قانون رقم 180 لسنة 1949 وأعيد النص عليها في قانون السجون الحالي (م1). إلا إنه لم ينشأ حتى الآن سجون خاصة بمصر لتطلبها عدد من الخبراء والمشرفين والفنيين وقدرات مادية ومالية كبيرة.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه إذا كان المشرع المصري لا يعرف – بحسب الأصل - إلا السجون المغلقة أياً كانت ظروف المحكوم عليهم ، إلا أن التجارب والأنواع الأخرى من المؤسسات العقابية ليست بالغريبة علي النظام العقابي المصري. حيث أخذت مصر بنظام المؤسسات العقابية شبة المفتوحة حينما أنشئت سجن المرج متوسط الحراسة بناء علي قرارات وزير الداخلية في أغسطس 1956. وهو نوع من السجون العمومية الذي أنشئ بغرض نقل المحكوم عليه إليه في الفترة السابقة على الإفراج بقصد إعادة تأهيله.
وقد جاء الأخذ بفكرة هذا السجن شبة المفتوح أو متوسط الحراسة علي أثر توصيات حلقة دراسات الشرق الأوسط لمكافحة الجريمة ومعاملة المسجونين التي عقدت بالقاهرة سنه 1953 حول السجون المفتوحة ، وكذلك تنفيذاً لما أوجبته المادتين69 و80 من لائحة السجون بالمرسوم رقم 108 لسنة 1949 من ضرورة أن يمر المسجون الذي تزيد مدة بقائه في السجن على خمس سنوات بفترة انتقال.
وفي عام 1965 تكررت تجربة المؤسسات شبه المفتوحة في مصر بإنشاء معسكر عمل للمسجونين بمديرية التحرير بموجب قرار مدير مصلحة السجون الصادر في 30 نوفمبر 1965. وبهذا السجن يودع المحكوم عليهم الذين لا تقل أعمارهم عن عشرين عاماً ولا تزيد على خمس وأربعين عاماً متى كان الحكم صادر بعقوبات قصيرة المدة ، ومتى ثبت حسن سيرهم وسلوكهم وكان لا يوجد منهم خطورة على الأمن العام ولا يخش هروبهم.
وهذه التجارب تكررت فيما بعد بالعديد من المناطق الجديدة بهدف استصلاحها , من ذلك سجن الطريق الصحراوي وسجن القطا وسجن دمنهور .
الفصل الثانى

التنظيم المادي للمعاملة العقابية

258- تمهيد وتقسيم :
يقصد بالتنظيم المادي للمعاملة العقابية مقدار ما يسمح به نظام المؤسسه العقابية من حرية للنزلاء في الاتصال بين بعضهم البعض. وتتنوع المؤسسات في ذلك إلى أربعة نظم مختلفة. فإما أن يكون نظام المؤسسة جمعي أو مشترك Régime commun ، يسمح فيه بالاتصال بين النزلاء في كل وقت. وإما أن يكون نظام فردي Régime cellulaire ، ويقتضي الفصل التام بين النزلاء في كل وقت ليلاً ونهاراً. وإما أن يكون نظام مختلط Régime mixte ويقتضي الجمع بين النزلاء نهاراً والفصل بينهم ليلا. وإما أن يكون نظاماً تدريجياً progressif Régime ، يقتضي البدء مع النزلاء بمستوي عقابي صارم والتدرج معهم نحو التخفيف شيئا فشيئا إلى حين الإفراج عنهم.
والواضح من هذه الأنواع أن النظامين الأولين – الجمعي والفردي - يقومان علي المغالاة، أما النوعين الآخرين - المختلط والتدريجي - فيقومان على الجمع بين مزايا النظامين الأولين ومحاولة تلافي عيوبها ، أي أنها أنظمة توفيقية. ولكل من هذه الأنظمة سوف نخصص مبحثاً.
المبحث الأول

النظام الجمعي Régime en commun

259- أولاً : مضمون النظام الجمعي :

جوهر النظام الجمعي عدم الفصل بين المحكوم عليهم خلال مدة تنفيذ العقوبة السالبة للحرية كاملة سواء أكان ليلاً أو نهاراً ، وسواء في مكان المبيت أو العمل أو الترفية أو الطعام. ولا يغير من طبيعة النظام أن تقسم الإدارة العقابية المحكوم عليهم إلى طوائف على أساس السن والجنس. كأن تخصص الإدارة داخل المؤسسة العقابية أقسام للبالغين وأخري لصغار السن أو أن تخصص أقسام للنساء وأخري للرجال .

260- ثانياً : تقييم النظام الجمعي :

يمتاز النظام الجمعي بعدد من المزايا منها :
*- يمتاز النظام الجمعي بكونه يتوافق مع الطبيعة البشرية التي تنزع إلي الاجتماع والاتصال بالآخرين. فالإنسان حسب الفطرة كائن اجتماعي محب للتواجد بين مجموع.
*- أن النظام الجمعي قليل النفقات إذ لا يستوجب الإكثار من الإنشاءات أو من عدد رجال الإدارة.
*- هذا النظام يتفادى المشاكل الصحية التي قد يتعرض لها المحكوم عليه إذا ما عزل بمفردة عن بقية أقرانه , كالتوتر والاضطرابات النفسية والعقلية.
*- قد يسهم هذا النظام في تطبيق الاستفادة من وسائل الإنتاج الحديثة فيضاعف من إنتاجية المؤسسة العقابية.
بيد أن هذا النظام يعيبه الكثير من السلبيات التي نوجزها على النحو التالي :
*- فقد قيل أنه نظام يفسد أكثر مما يصلح Ce régime corrompt plus qu'il amende , حيث يسمح هذا النظام بالاختلاط بين السجناء الصالح منهم مع الطالح المبتدئ مع العائد فتنتقل عدوي الجريمة وتتشكل العصابات الإجرامية , التي تمارس عملها الإجرامي بعد الخروج من المؤسسة. فتصبح هذه الأخيرة وكأنها معاهد لتدريس الجريمة.
*- يضاف إلي ذلك أن الجمع بين النزلاء ليلاً ونهاراً ينمي روابط الصداقة بينهم مما قد يهدد النظام الداخلي للسجن ويساعد علي تزايد حالات العصيان والإضراب سواء عن العمل أو عن الطعام.
وقد حاول البعض التأكيد علي أن هذه الانتقادات مبالغ فيها, إذ أن نظام الجمع في ذاته ليس معيباً ، بل إن جوهرة يتوافق مع الطبيعة الإنسانية. وربما ما قيل بشأنه من عيوب يعود إلى غياب أساليب التأهيل. وبالتالي يمكن تفادي عيوب هذا النظام إذا ما تم تصنيف المحكوم عليهم بحيث لا يتم الجمع إلا بين الطوائف المتقاربة في السن وفي الظروف الاجتماعية ودرجة الخطورة الإجرامية .
المبحث الثاني

النظام الانفرادى (البنسلفانى)

Régime cellulaire ou pennsylvanien

261- أولاً : مضمون النظام الانفرادي ونشأته :

النظام العقابي الانفرادي هو علي النقيض من النظام الجمعي ، إذ يقوم هذا النظام على أساس الفصل التام بين النزلاء ليلاً ونهاراً وتنقطع الصلة بينهم بحيث يقضي كل مسجون عقوبته منفرداً في زنزانة خاصة بالسجن لمنع الاختلاط الضار بين المسجونين. وفي داخل هذه الزنزانة يمارس النزيل أنشطتة ولا يبرحها إلا حين انتهاء العقوبة.
وترجع بدايات هذا النظام إلي العهود الأولى للكنيسة المسيحية التي كانت تري أن العزلة مدعاة إلى مراجعة النفس وتطهيرها من الخطيئة. ثم عرفته سجون أخرى مدنية كسجن أمستردام في هولندا في نهايات القرن السابع عشر وسجن سان ميشيل في روما وسجن ميلانو عام 1759. ثم طبق هذا النظام في فيلادلفيا في نهاية القرن السابع عشر 1790 تحت تأثير أفكار جون هوارد John Howard وفي ولاية بنسلفانيا عام 1827. لذا يطلق أحيانا علي هذا النظام أسم النظام الفيلادلفي Régime philadelphien أو النظام البنسلفاني .Régime pennsylvanien
وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأ هذا النظام يلاقي قبولاً في عدد من الدول أخري. ففي فرنسا أخذ بنظام العزلة التامة L'isolement complet عام 1840. وفي عام 1853 كان عدد السجون الانفرادية قد بلغ 49 سجناً تشتمل على 4485 زنزانة. وفي عام 1875 أنشئت الجمعية العامة للسجون Société Général de Prisons بهدف التوسع في نظام السجون الانفرادية , إلا أن التكاليف المالية الباهظة التي يتطلبها تطبيق هذا النظام وقفت حائلا دون ذلك , مما أدى إلي تقلص عدد السجون الانفرادية حتى وصل العدد إلي 50 سجنا انفراديا فقط .
وعلي ذات المنوال سارت بلجيكا , إذ أنشئت العديد من السجون الانفرادية في لوفان Louvain عام 1860. وصدر عام 1870 قانون يقرر تطبيق النظام الانفرادي علي كافة العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة أو قصيرة المدة. واستمر الحال هكذا إلي أنه تم التخلي عن هذا النظام القاسي في 1945 بالنسبة لتنفيذ العقوبات السالبة للحرية طويلة المدة.

262- ثانياً : تقييم النظام الانفرادي :

إذا أردنا تقدير هذا النظام العقابي , فإننا يمكننا القول بأنه يتفادى العيوب التي قيلت بشأن النظام الجمعي والناشئة عن الخلطة الكاملة بين المحكوم عليهم. فهذا النظام الذي يقوم على العزل التام يتيح لكل نزيل أن يتأمل في جرمته ويولد لدية الرغبة في التوبة والندم.
بيد أن هذا النظام يعيبه أنه يصطدم بالطبيعة والفطرة الإنسانية التي تنحو نحو الانضمام والترابط والتجمع وتأبى العزلة والانفراد , الأمر الذي يؤدي بالمحكوم عليه – خاصة بعقوبة سالبة للحرية طويلة المدة - إلى التعرض للكثير من المشاكل والاضطرابات العصيبة والنفسية. مما قد يدفعه إلى التفكير في الانتحار أحياناً أو على أقل تقدير إلى الهرب من المؤسسة العقابية. فضلا عن ذلك فإن هذا النظام يتطلب الأخذ به تخصيص تكاليف مالية باهظة مما قد يشكل عبئاً علي الدولة. إذ يتطلب هذا النظام إنشاء عدد ضخم من الزنازين وتعيين عدد أكبر من السجانيين والحراس والمشرفين الإداريين والأخصائيين النفسيين والأطباء…الخ. كما أن هذا النظام يضعف إدارة المحكوم عليه وتجاوبه مع الإدارة العقابية مما يجعل من برامج التأهيل والتثقيف والتهذيب أمراً لا طائل من ورائه.
ولا شك أن تلك العيوب كانت وراء التراجع الذي شهده هذا النظام في كل دول العالم تقريباً ، حتى أنه لم يعد مأخوذ به إلا في بعض الأحيان كمرحلة من مراحل النظام التدريجي وإما بصدد طوائف معينة من المحكوم عليهم. من قبيل ذلك المحكوم عليهم شديدي الخطورة أو المصابين بشذوذ أو مرض نفسي وعصبي ، أو عندما يكون المحكوم عليه خاضعاً لعقوبة قصيرة المدة ويرجى ابعاده عن الوسط السيئ للمؤسسة العقابية وتجنيبه مضار الاختلاط ببقية المحكوم عليهم ، أو أن يكون المحكوم عليه من طائفة معينه , كالمحكوم عليهم في جرائم الرأي والذين يرجى عدم اشعارهم بالمهانة باختلاطهم بالمجرمين في الجرائم العادية .
المبحث الثالث

النظام المختلط ( الأوبراني)

Régime mixte ou Auburnien

263- أولاً : مضمون النظام ونشأته :

يهدف النظام المختلط إلي محاولة التوفيق بين النظامين السابقين الانفرادي والجمعي من أجل الاستفادة من مزاياهما والحد من أثارهما السلبية. فيقرر هذا النظام الجمع بين المحكوم عليهم نهاراً في أماكن العمل والترفيه والراحة والفصل بينهم ليلاً أثناء النوم. وتجنيباً لأثار الاختلاط النهاري يتم فرض الالتزام بالصمت مع كافة المحكوم عليهم , لذا يطلق علي هذا النظام أحياناً اسم النظام الصامت Régime de silence.
وقد بدأت تجربة هذا النظام في سجن مدينة أوبرين Auburin في ولاية نيويورك عام 1818، لذا يسمي هذا النظام بالنظام الأوبراني. ووفقا لنظام هذا السجن يجلس كل محكوم عليه في ظهر زميله وعين كل منهم منكفئة إلى أسفل. ويمكن للأقارب المحكوم عليه زيارته أثناء العمل دون أن يكون للمحكوم عليه الحق في رؤيتهم. كما يحرم المحكوم عليه من حق القراءة والكتابة أو متابعة البرامج التدريبية.

264- ثانياً : تقييم النظام المختلط :

لا شك أن النظام المختلط يتفادى عيوب النظامين الجمعي والانفرادي ويجمع بين الكثير من مزاياهما. فهو لاشك يتجاوب مع حقائق النفس البشرية التي تسعى إلى الاجتماع بالآخرين مما يعطي للمحكوم عليه حياه أقرب للحياة الطبيعية. كما أن هذا النظام يهيئ السبيل إلي تنظيم العمل الجماعي والاستفادة من أساليب الإنتاج.
ومن ناحية أخرى يتلافى هذا النظام مضار الاختلاط السيئ , إذ أن فرض الصمت الكامل نهاراً والعزل بين المحكوم عليهم ليلاً لا يعطي فرصة للاتفاقات الإجرامية والأحاديث المخلة. كما أن هذا النظام يجنب المحكوم عليه مخاطر التعرض للمشاكل النفسية والعصبية التي كانت تنشأ عن تطبيق النظام للانفرادي.
وأخيراً فإن هذا النظـام قليل التكاليف إذا ما قورن بالنظام الانفرادي علي الرغم مما يتطلبه النظـام المختلط من إنشاء زنازين بعدد المحكوم عليهم , إلا أن تلك الزنازين لا تكون معدة إلا للنوم فقط ، وبالتالي تكون أقل تكلفة فيما لو جهزت بغرض ممارسـة كافة مظاهر الحياة اليومية.
غير أنه يعيب هذا النظام أنه يفرض نظام قاسي في العمل أثناء النهار بإلزام المحكوم عليهم بالصمت ، وهو أمر يصعب تنفيذه من الناحية العملية. لذا بدأت بعض الدول من التخفيف من قاعدة الصمت أثناء اجتماع المحكوم عليهم في العمل وأماكن الطعام والترفية ، مما يجعل لهذا النظام الكثير من المزايا التي تفوق النظامين الجمعي والانفرادي ، الأمر الذي حدا بالكثير من الدول إلى الأخذ به ، بل وجعله أحياناً مرحلة من مراحل النظام التدريجي في الدول التي تأخذ بهذا النظام الأخير .
المبحث الرابع

النظام التدريجى (الأيرلندي)

Irlandais Régime progressif ou

265- أولاً : مضمون النظام ونشأته :

يقوم النظام التدريجي علي تقسيم مدة العقوبة السالبة للحرية إلى مراحل مختلفة يطبق في كل مرحلة نظام عقابي يختلف عما يطبق في المراحل الأخرى. بحيث تتدرج هذه المرحل من الشدة إلى التخفيف ، وفقاً لما يطرأ على سلوك المحكوم عليه من تحسن ، حتى الوصول إلى أقل المراحل شدة وهي الأقرب للحياة الطبيعية والتي تسبق الإفراج النهائي. فكأن هذا النظام يهدف إلى تهيئة المحكوم عليه وإعداده للانتقال من حياة سلب الحرية إلى حياة الحرية الطبيعية.
وقد طبق هذا النظام في الجزر القريبة من استراليا في علم 1840 ، ثم انتقل إلى أيرلندا حيث تحددت معالمه الكاملة علي يد العلامة ولتر كروفتن Walter Crofton لذا يسمي هذا النظام أحياناً بالنظام الأيرلندي. ثم عرفته الدول الأوربية الأخرى كسويسرا وإنجلترا. وطبق في فرنسا في العديد من السجون المركزية وسجون المدرسة Les prisons-écoles في الفترة ما بين عام 1945 وعام 1958 ، إلى أن تم العدول عنه نهائياً بالقانون الصادر في 28 يوليو 1978 .
وعادة ما يقسم هذا النظام إلى ثلاث مراحل. في المرحلة الأولى يطبق النظام الانفرادي ، حيث يعزل المحكوم عليه في زنزانة خاصة خلال الفترات الأولي من العقوبة السالبة للحرية، يمارس فيها حياته اليومية من مأكل ومشرب ، مع السماح له أحياناً بالتريض والترفيه في أوقات محددة كي يتم تجنب مساوئ النظام الانفرادي.
وفي المرحلة الثانية - وهي القسم الأكبر من مدة العقوبة السالبة للحرية - يطبق النظام المختلط ، بحيث يجتمع النزلاء ببعضهم البعض نهاراً في أماكن العمل والطعام والترفيه والراحة مع الفصل بينهم ليلاً أثناء النوم ، بحيث يأوي كل واحد منهم إلى زنزانته الخاصة. ولتفادي عيوب النظام الجمعي والمختلط يجب على الإدارة العقابية أن تصنف المحكوم عليهم إلى فئات ، فتجمع نهاراً بين أفراد الطائفة الواحدة المتجانسة.
وفي المرحلة الأخيرة يستفيد المحكوم عليه الذي يثبت تجاوبه مع المراحل السابقة ويثبت حسن سلوكه من نظام يعرف باسم نظام الثقة. وهي مرحلة تسبق الإفراج النهائي ، يتدرب خلالها المحكوم عليه على مواجهة الحياة الطبيعية. ويتم ذلك عن طريق وضعه في جناح خاص بعيداً عن السجن والسماح له بارتداء الملابس المدنية والسماح له بزيارات دورية في فترات قصيرة ، وقد يسمح له أحياناً بالاستفادة من نظام الإفراج تحت شرط أو نظام شبة الحرية.

266- ثانياً : تقييم النظام التدريجي :

لا شك أن النظام التدريجي هو أفضل الأنظمة العقابية علي الإطلاق , ذلك أنه ينمي في المحكوم عليه روح الانضباط وحسن السلوك ، إذ بذلك يمكنه الانتقال إلى نظام عقابي أخف. كما أنه نظام يقوم على تأهيل المحكوم عليه وتدريبه على حياه الحرية الطبيعية شيئاً فشيئاً ، فيتفادى عيوب الانتقال إلى الإفراج النهائي المفاجئ.
ورغم تأييدنا لهذا النظام إلا أنه لا يسلم من النقد. فقد قيل أن المزايا التي تحققها إحدى مراحل النظام التدريجي قد تمحوها المرحلة التالية لها. فمثلا إذا كان العزل والصمت المفروضان على المحكوم عليهم في المرحلة الأولى يهدفان إلى تفادي تأثير الاختلاط بينهم وبين المجرمين شديدي الخطورة , فإن انتقال المحكوم عليهم إلى المرحلة التالية الأخف قسوة ، والتي يتاح لهم فيها الاختلاط نهاراً وتبادل الأحاديث خلال فترات التجمع ، قد يطيح بما حققته المرحلة الأولي.
يضاف إلى ذلك أن معتادي الإجرام , لما لهم من خبرة إجرامية وسجونية , يكونوا قادرين على التحايل على الإدارة العقابية وإيهامهم بحسن سلوكهم ومن ثم وجوب استفادتهم من الانتقال إلى مرحلة تالية أخف. وهذا على عكس المحكوم عليه المبتدئ الذي لا يطيق حياة سلب الحرية ويبدو سلوكه عدوانياً تجاه رجال الإدارة ولا يتجاوب معهم ، مما يوقعه أحياناً تحت طائلة العقاب التأديبي ، فلا يستفيد بلانتقال إلى مراحل تالية أخف في النظام العقابي.
والواقع أن تلك العيوب لا تنال من مزايا هذا النظام. ولا يسعنا من أجل تفادي تلك العيوب إلا الدعوة إلى الاهتمام بعلوم فحص الشخصية وتصنيف المجرمين ، بحيث يتم الكشف من خلالها على حقيقة التقدم الذي يطرأ على سلوك المحكوم عليه قبل الانتقال به إلى مراحل تالية. كما أن يفضل في خلال المرحلة الأولى - أي مرحلة العزل - الإكثار من برامج التهذيب والتثقيف حتى ينتقل المحكوم عليه إلى المرحلة التالية وقد أوقظت داخله مشاعر الثقة وتحمل المسئولية.

267- ثالثاً : موقف المشرع المصري من النظام التدريجي :

لقد تجاوب المشرع المصري مع النظام العقابي التدريجي عندما نص في المادة 13 من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنه 1956 بأن يقسم المحكوم عليهم إلى درجات لا تقل عن ثلاثة. كما نصت المادة الرابعة من قرار وزير الداخلية رقم 81 لعام 1959 على وجوب تشكيل لجنه في كل سجن تكون مهمتها وضع المحكوم عليه في الدرجة الملائمة له مستعينة في ذلك بتقدير ظروفه الشخصية وبنوع الجريمة التي ارتكبها وبالعقوبة المحكوم عليه بها.
وتنص أيضاً المادة 18 من قانون السجون على أنه إذا ذات مدة بقاء المحكوم عليه في السجن على أربع سنين وجب قبل الإفراج عنه أن يمر بفترة انتقال , على أن يراعى التدرج في تخفيف القيود أو منح المزايا. كما توجب المادة 46 من لائحة السجون الداخلية عزل المحكوم عليه عشرة أيام عند بدء تنفيذ العقوبة.
ورغم تقديرنا لهذا التجاوب من قبل المشرع المصري مع هذا النظام من أنظمة التنفيذ العقابي إلا أنه يعيب نظام التدرج في التشريع المصري أن الدرجات الثلاث التي نص عليها المشرع إنما تحددت في ضوء اعتبارات أساسها الجريمة والعقوبة ، في حين أن ضابط التدرج كان يجب أن يكون مقتضيات التأهيل والتهذيب.
ويمكننا القول بأن ما وضعه المشرع المصري ما هو إلا نظام تصنيف في بدء تنفيذ العقوبة وليس خلقاً لمراحل عقابية تدريجية وفق ما يقتضيه النظام التدريجي الصحيح. كما أن مرحلة العزل التي نصت عليها المادة 46 من اللائحة الداخلية للسجون إنما وضعت للاعتبارات صحية وليس كمرحلة من مراحل النظام التدريجي. للأجل هذا قلنا أن خطة المشرع المصري هى نوع من التجاوب مع النظام التدريجي وليس تبنى كامل له ، وهو ما يجب على المشرع المصري أن يعاود النظر فيه .
الفصل الثالث

التنظيم القانوني للمعاملة العقابية

268- تمهيد وتقسيم :
إن تحقيق الجزاء الجنائي - عقوبة أم تدبير – لأغراضه يتوقف في حقيقة الأمر على ما تعتمده الإدارة العقابية من تنظيم قانوني لأساليب المعاملة المطبقة على المحكوم عليه داخل المؤسسة العقابية.
من أجل ذلك اعتمدت الدول عدد من الأساليب العقابية - بعضها قد يمثل حقاً للمحكوم عليه - من أجل تأهيل المحكوم عليه وإعادته مرة أخرى عضواً متكيفاً مع بيئته الاجتماعية المحيطة به. وبحيث أصبح المحكوم عليه وليس فعله هو محل اهتمام الدراسات المتعلقة بمرحلة التنفيذ العقابي ، أو كما يقولون "المحكوم عليه هو الذي يدخل السجن ، أما جريمته فتبقى خارج الأسوار" . وبقدر سلامة تلك الأساليب يكون تحقيق الأهداف المنشودة من الجزاء الجنائي ، خاصة السالب منه الحرية.
إلا أن الدراسات العقابية المختلفة قد أثبتت أن المعاملة العقابية داخل السجن لا تحقق دائماً أغراض العقوبة خاصة التأهيل والتقويم. من هنا اتجهت النظم العقابية إلى الأخذ بوسائل مختلفة تطبق خارج المؤسسة العقابية للحد من الآثار التي ترتبها العقوبات السالبة للحرية ، ومن أجل محاولة تأهيل المحكوم عليه في الوسط الحر.
ولكل من أساليب المعاملة العقابية ، سواء داخل المؤسسة العقابية ، أو خارجها سوف نخصص مبحثاً مستقلاً.
المبحث الأول

أساليب المعاملة العقابية الداخلية

267- تمهيد وتقسيم :
يقصد بأساليب المعاملة العقابية الداخلية ما تتبعه الإدارة العقابية من وسائل داخل المؤسسة من أجل أن يحقق الجزاء الجنائي هدف الإصلاح والتأهيل. وتتحصل أهم أساليب المعاملة العقابية الداخلية في العمل والرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم والتهذيب ونظام الجزاءات التأديبية والمكافأة.
غير أن تنفيذ هذه الأساليب يوجب بداءة دراسة المحكوم عليه دراسة كاملة حتى يمكن في ضوء ذلك تحديد أسلوب المعاملة الأمثل والذي يتفق مع ظروفه. من هنا كان يلزم أن يسبق دراسة أساليب المعاملة العقابية داخل المؤسسات العقابية دراسة ما يسمى بالتصنيف العقابي للمحكوم عليهم.
المطلب الأول

التصنيف العقابي

268- تقسيم :
لبيان المقصود بالتصنيف العقابي للمحكوم عليهم Reclassement des détenus يجدر بنا أن نبين على التوالي مفهومه ، ومعاييره ، ونظمه ، ثم موقف المشرع المصري منه.

269- أولاً : مفهوم التصنيف العقابي :

يقصد بالتصنيف العقابي تقسيم المحكوم عليهم إلى طوائف متجانسة من حيث الظروف ثم توزيعهم على المؤسسات العقابية ، بهدف إخضاع أفراد كل طائفة للمعاملة العقابية الملائمة لتأهيلهم .
ويقتضي إعمال التصنيف بهذا المعنى القيام بعمل فني سابق تبدأ به مرحلة التنفيذ يسمى الفحص ، وذلك بإجراء دراسة كاملة عن المحكوم عليهم بهدف تحديد أسلوب التنفيذ وبرامج المعاملة الملائمة. ويقوم بهذا الفحص السابق على التصنيف مجموعة من الفنيين بمختلف التخصصات.
وقد ينصب الفحص على الحالة البدنية للمحكوم عليه ويسمى بالفحص البيولوجي للكشف عما يعانيه المحكوم عليه من أمراض. وقد يتم ذلك في المؤسسة العقابية ذاتها أو في إحدى المستشفيات عند اللزوم. وقد يستهدف الفحص الكشف عن الحالة العقلية والعصبية للمحكوم عليه ، بهدف عزل المحكوم عليهم الذين يعانون من أمراض نفسية أو عقلية. وقد يستهدف الفحص دراسة نفسية المحكوم عليه ، أي قياس ذكائه وقدراتة المختلفة ومعرفة ميوله واتجاهاته والكشف عن النواحي الانفعالية والمزاجية عنده. وقد يستهدف الفحص أخيراً الكشف عن طبيعة وظروف البيئة الاجتماعية للمحكوم عليه ، خاصة مجتمع الأسرة ومجتمع العمل والأصدقاء ، لما لهذه الأوساط من أثر في توجيه الفرد أحياناً نحو لجريمة.
وعلى هذا الفحص السابق نصت المادة 16 من اللائحة الداخلية للسجون بقولها "يخصص لكل مسجون سجل يتضمن بحثاً شاملاً عن حالته من النواحي الاجتماعية والنفسية وما يطرأ عليها من تحسن أو انتكاس".
ويعتبر التصنيف كمرحلة لاحقة على الفحص من أهم الخطوات اللازمة لتحقيق أهداف السياسة العقابية ، ذلك أن هذا التصنيف يحقق غرضاً هاماً ألا وهو عزل المحكوم عليهم الذين يخشى تأثيرهم الضار على غيرهم من المذنبين بسبب ماضيهم الإجرامي أو فساد أخلاقهم ، فضلاً عن تقسيمهم إلى فئات في ضوئها تحدد نوع المعاملة العقابية التي تناسب كل فئة .

270- ثانياً : معاييرالتصنيف العقابي :

توجد عدة معايير يمكن الاستناد إليها من أجل تصنيف المحكوم عليهم عقابياً ، وهي بالتحديد سبعة معايير نوجزها على النحو التالي : 
*- السن : بحيث يتم تقسيم المحكوم عليهم إلى فئتين رئيسيتين ، هما فئة الأحداث وفئة البالغين. وفي داخل كل فئة يمكن التميز بين مراحل سنية معينة ، كأن يقسم البالغين إلى شباب وإلى شيوخ ناضجين. ويهدف هذا المعيار إلى تجنب الاختلاط السيئ بين الشباب والأحداث أو بين الناضجين من الشيوخ وبين من هم أقل منهم سناً ، باعتبار أن الشباب والأحداث أكثر استجابة لبرامج التأهيل والإصلاح.
*- الجنس : لاشك أن مقتضيات المعاملة العقابية السليمة توجب الفصل بين الرجال والنساء منعاً لنشوء العلاقات الشاذة بينهما ، مما يؤثر على سلوك المحكوم عليه وتجاوبه مع البرامج التأهيلية التقويمية. وإعمال هذا المعيار في التصنيف يقتضي إنشاء سجون خاصة للرجال وأخرى للنساء مع إخضاع الأخريات إلى معاملة عقابية خاصة تتفق مع تكوينهم الجسماني وقدرتهم على تحمل برامج الإصلاح والتقويم.
*- الماضي الإجرامي : وفقاً لهذا المعيار يتم تصنيف المحكوم عليهم إلى طوائف متنوعة ، فيكون منهم المجرمين المبتدئين والمجرمين العائدين أو المعتادين على الإجرام ، وذلك من أجل تجنب انتقال عدوى الجريمة من الطائفة الأشد خطورة إلى الطائفة الأقل. ولاشك أن هذا المعيار يراعى قابلية طائفة المبتدئين من المجرمين للتأهيل والإصلاح بشكل أسرع مما هو عليه الحال بشأن طائفة المعتادين على الجريمة ، مما يوجب إخضاع هذه الطائفة الأخيرة لبرامج أشد قسوة وصرامة من الطائفة الأولى.
*- مدة العقوبة : بناءً على هذا المعيار يتم تصنيف المحكوم عليهم إلى ثلاث طوائف : الأولى تضم المحكوم عليهم بعقوبات قصيرة المدة والتي لا تتعدى سنة على الأكثر ، والثانية تضم فئة المحكوم عليهم بعقوبات متوسطة المدة التي لا تتجاوز ثلاث سنوات على الأكثر ولا تقل عن سنة ، أما الطائفة الثالثة فتضم المحكوم عليهم بعقوبات طويلة المدة والتي تجاوز الثلاث سنوات. وعلة هذا التصنيف هو عدم الجمع بين المحكوم عليهم بعقوبة قصيرة المدة مع غيرهم من طوائف المحكوم عليهم لما لهذا الجمع من أثر سيئ ناشئ عن سهولة انتقال عدوى الجريمة من فئة إلى أخرى. كما أن فئة المحكوم عليهم بعقوبة قصيرة المدة عادة لا يخضعون لبرامج تأهيلية نظراً لقصر مدة ، ويكتفى غالباً بعزلهم في أماكن خاصة داخل المؤسسة العقابية.
*- نوع الجريمة : في ضوء هذا المعيار يتم تقسيم المحكوم عليهم إلى طوائف متنوعة ، كأن يفرق بين المحكوم عليهم في الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية ، أو يفرق بين المحكوم عليهم في جرائم الدم أو جرائم المخدرات وبين المحكوم عليهم في الجرائم الأخرى. فكل نوع من تلك الأنواع مجرميها متفردي الشخصية. فالمحكوم عليهم في جرائم الدم عادة ذوي طبيعة عدوانية وعدائية للمجتمع إذا ما قورنوا بغيرهم من المحكوم عليهم ، مما يوجب إخضاعهم إلى معاملة عقابية تميل إلى الشدة والقسوة.
*- الحالة الصحية : على أساس هذا المعيار يتم تقسيم المحكوم عليهم إلى طائفة الأصحاء وطائفة المرضى. وداخل هذه الطائفة الأخيرة يتم التمييز بين المحكوم عليهم بحسب نوع المرض ، وما إذا كان مرض عضوي أو مرض نفسي أو مرض عقلي. وعلة هذا التقسيم واضحة ، التي تتمثل في عدم انتشار العدوى بين النزلاء ، بالإضافة إلى إخضاع المحكوم عليهم المصابين بأمراض معينة إلى معاملة عقابية يغلب عليها طابع العلاج.
*- حكم الإدانة :طبقاً لهذا المعيار يتم الفصل بين المحكوم عليهم نهائياً بالإدانة وبيم من صدر ضده فقط أمر بالحبس الاحتياطي أو من يكون خاضعاً لنظام الإكراه البدني تنفيذاً للأحكام الصادرة بالغرامة عند عدم التنفيذ اختياراً أو بالطريق المدني (التنفيذ الجبري). فلا شك أن المحكوم عليهم نهائياً بالإدانة هم الذين يحتاجون إلى الخضوع إلى برامج التأهيل والإصلاح والتهذيب. أما طائفة المحبوسين احتياطياً فلم يثبت بعد إدانتهم ومن ثم يستفيدون من قرينة البراءة لحين ثبوت إدانتهم ، لذا وجب أن تفرد لهم معاملة خاصة لاحتمال براءتهم. أما طائفة الخاضعين للإكراه البدني فلأنهم لا يخضعون لسلب الحرية إلا لمدة قصيرة ، ولأن نوازع الشر لم تتأصل بداخلهم ، لذا ففي العادة لا يخضعون لبرامج تأهيلية اكتفاءً باستنفاذ الغرض الذي من أجله سلبت حريتهم بعد قضاء مدة الإكراه البدني.

271- ثالثاً : نظم التصنيف العقابي :

للتصنيف العقابي أنظمة ثلاثة هى : نظام التصنيف الداخلي ، أو نظام مكتب التصنيف، ونظام التصنيف الإقليمي ، ونظام التصنيف المركزي.

272- أ : نظام التصنيف الداخلي :

يقوم نظام التصنيف الداخلي ، المسمى أحياناً نظام مكتب التصنيف ، على أساس استقبال المحكوم عليهم داخل المؤسسة العقابية من قبل عدد من الأخصائيين والفنيين في النواحي المختلفة من أجل فحص كل محكوم عليه على حدة. وفي ضوء هذا الفحص يتم إعداد تقرير عن حالة المحكوم عليه كي يتم على أساسه تحديد نوع المعاملة العقابية الملائمة لكل محكوم عليه. وبهذا النظام أخذت بعض الولايات الأمريكية وكذلك الدنمارك.
وقد ألمح المشرع المصري إلى هذا النظام في المادة 30 من اللائحة الداخلية للسجون عندما أوجب وجود أخصائي نفسي في كل مؤسسة عقابية يكون مسئولاً عن دراسة شخصية المسجون وقياس ذكائه وقدراته المختلفة ، ومعرفة ميوله واتجاهاته ، والكشف عن النواحي الانفعالية والمزاجية عنده ، وكذلك رسم السياسة لخطة المعاملة والعلاج والتوجيه ، بما فيها التوجيه للناحية المهنية التي يصلح لها المسجون. وكذلك المادة 46 من اللائحة التي أشارت إلى وضع المحكوم عليه عند قبوله في السجن تحت الاختبار الصحي مدة عشرة أيام لا يختلط خلالها بالمسجونين الآخرين.
ويعاب على نظام التصنيف الداخلي أنه غالباً ما يكون رأي الجهاز الذي يجري التصنيف استشارياً فقط بالنسبة للإدارة العقابية ، لاعتماد الجهاز على أخصائيين فنيين بعيدين عن العمل الإداري العقابي ، مما يجعل من تنفيذ توجيهاتهم أمراً صعب التحقيق من الناحية العملية .

273- ب : نظام التصنيف الإقليمي :

يقوم هذا النظام على تقسيم إقليم الدولة إلى عدة مناطق ، يكون بكل إقليم مؤسسة عقابية أو أكثر ويوجد بداخل كل مؤسسة جهاز يتولى تصنيف المحكوم عليهم الداخلين في اختصاصه الإقليمي. ويأخذ بهذا النظام عدد قليل من الدول منها السويد ونيوزيلاند.
ويعيب هذا النظام أنه قد لا يؤدي إلى توحيد المعايير الخاصة بتصنيف المحكوم عليهم ، كما أن أراء الأجهزة الموجودة بالمؤسسات دائماً استشارية بالنسبة للإدارة العقابية.

274- ج : نظام التصنيف المركزي :

يقوم هذا النظام على أساس مبدأ وحدة جهاز التصنيف العقابي. بمعنى وجود جهاز تصنيف واحد يختص بكافة المحكوم عليهم من كافة الجوانب البيولوجية والنفسية والاجتماعية على كل إقليم الدولة ، وكذلك وضع برامج المعاملة العقابية الملائمة لكل محكوم عليه. وتكون لقرارات وتوجيهات هذا الجهاز القوة الملزمة قبل القائمين على الإدارة العقابية.
وقد أخذ المشرع الفرنسي بهذا النظام عندما أنشأ عام 1950 ما يسمى مركز التوجيه القومي Centre d'orientation national بمدينة فريزن Fresnes ، الذي يتضمن نحو 124 زنزانة ويستقبل كل شهر حوالي مائة من المحكوم عليهم بعقوبة سالبة للحرية ليقضي فيه المحكوم عليه حوالي أربعة أسابيع من أجل فحصه من قبل لجنة متخصصة يرأسها قاضي. وتتولى هذه اللجنة وضع تقرير عن حالة المحكوم عليه يعرض على رئيسها كي يحدد في ضوء ما جاء به نوع المعاملة والمؤسسة العقابية المناسبة.
وقد أوجب المرسوم الصادر في 25 مايو 1975 إعداد ما يسمى بمذكرة التوجيه La notice d'orientation ، وتشتمل هذه المذكرة على مجموعة من المعلومات كالبيانات الشخصية للمحكوم عليه وحالته المدنية ومهنته ووضعه الأسري ووسائل إعانته وسوابقه ووضعه المادي وقرار الاتهام وكذلك رأي رئيس المحكمة الذي أصدر حكم الإدانة.
ويحرر هذه المذكرة مدير المؤسسة العقابية ثم ترسل إلى قاضي التنفيذ كي يبدي رأيه حول المحكوم عليه ونوع المعاملة التي يقترحها. ثم يرسل هذا الملف إلى المدير الإقليمي للخدمات العقابية الذي يكلف بمخاطبة الإدارة المركزية التي تتخذ بشأن المحكوم عليه قراراً نهائياً في ضوء ما جاء من معلومات بمذكرة التوجيه. ولهذه الإدارة أن تقوم بإجراء تحقيق تكميلي حول المحكوم عليه إذا كان لذلك مقتضى .
وقد أخذت بهذا النظام دول أخرى كاليابان إذ أنشئت مركزاً بمدينة ناركنال Narkanal يقيم فيه المحكوم عليه لمدة شهرين يخضع خلالهما لفحص شامل من النواحي البدنية والنفسية والاجتماعية قبل أن يتقرر إرساله إلى مؤسسة عقابية معينة تناسب حالته في ضوء ما يسفر عنه الفحص.
وكذلك فإن إيطاليا قد أخذت بهذا النظام عندما أنشئت عام 1954 مركزاً تصنيف بمدينة ريبيبيا Rebibbia يكون تابعاً للإدارة العامة لمؤسسات الوقاية والعقاب بوزارة العدل. وفي البداية فإن هذا المركز كان ذو هدف طبي ، أي من أجل تقسيم المحكوم عليهم من الناحية الصحية فقط ، إلى أن عدل غرض هذا المركز في عام 1956 كي يمتد التصنيف إلى النواحي البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية .

275- رابعاً : التصنيف العقابي في التشريع المصري :

276- أ : نظم التصنيف في التشريع المصري :

يمكن الإشارة إلى ثلاثة أنواع من نظم التصنيف في القانون المصري على النحو التالي :
*- التصنيف الداخلي : شكلت في عام 1956 لجان داخل المؤسسات العقابية برئاسة مدير السجن وعضوية طبيب وأخصائي اجتماعي ومهندس من أجل تصنيف المحكوم عليهم وفقاً لقدراتهم البدنية والعقلية ، من أجل تحديد نوع العمل والمعاملة العقابية الملائمة.
*- سجن الاستقبال والتوجيه : قد تم إنشاء هذا السجن في عام 1963 في منطقة طره للاستقبال المحكوم عليهم بالسجن المؤبد أو المشدد أو السجن أو الحبس لمدة تزيد على سنة. ويوضع المحكوم عليهم في هذا السجن لمدة ثلاثين يوماً كي يتم فحصهم عن طريق مجموعة من الأخصائيين تشمل أطباء ووعاظ ومدرسين. ويلزم كل من هؤلاء الأخصائيين بتقديم تقرير عن حالة المحكوم عليه إلى لجنة التوجيه كي تقرر توزيعهم على الليمانات أو السجون.
*- مراكز الاستقبال : وقد أنشئت هذه المراكز بدور التربية بالجيزة لتصنيف المحكوم عليهم من الأحداث من قبل مجموعة من الأخصائيين في مختلف النواحي تمهيداً لإحالتهم إلى أمكان الإيداع المناسبة مع تحديد أسلوب المعاملة العقابية الملائم.
277- ب : معايير التصنيف في التشريع المصري :
أوجب قانون السجون وكذلك لائحته الداخلية الفصل بين فئات متنوعة من المحكوم عليهم، وتوزيعهم بالتالي على المؤسسات العقابية وفقاً لعدة معايير على النحو التالي :
*- السن : كانت توجب المادة 364 إجراءات جنائية قبل إلغائها تنفيذ العقوبات المقيدة للحرية على الأحداث الذين لم يبلغوا السابعة عشر في أماكن خاصة منفصلين عن غيرهم من المحكوم عليهم. كما توجب المادة 373/ب من اللائحة الداخلية عزل المحكوم عليهم ممن تجاوزوا السابعة عشرة ولم يبلغوا الخامسة والعشرين عن بقية المسجونين.
*- الجنس : توجب المادة الرابعة من اللائحة الداخلية للسجون أن يخصص سجن خاص بالنساء المحكوم عليهن بعقوبة السجن أو بالسجن المؤبد أو المشدد. وقد أنشئ في يوليو من عام 1957 سجن خاص بالنساء في منطقة القناطر بموجب القرار الوزاري رقم 42 لسنة 1957. أما النساء المحكوم عليهن بغير العقوبات السابقة فيودعن في أماكن منفصلة عن الرجال في السجون العمومية أو المركزية حسب الأحوال.
*- نوع العقوبة ومدتها وسوابق المحكوم عليه : أوجبت المادة 367 من اللائحة الداخلية للسجون في فقرتها الأولى الفصل بين المحكوم عليهم بالحبس البسيط أو الحبس مع الشغل لمدة أقل عن سنة وبين المحكوم عليهم بما لا يجاوز تلك المدة. وداخل كل طائفة من هذه الطوائف يعزل من لهم سوابق عن المحكوم عليهم لأول مرة. كذلك نص قانون السجون في المواد من 1 إلى 4 على توزيع المحكوم عليهم على الليمانات والسجون العمومية والمركزية وفقاً لنوع العقوبة المحكوم بها.
*- نوع الجريمة : وفقاً للمادة 371 من اللائحة الداخلية للسجون يقسم المحكوم عليهم طبقاً لنوع الجريمة التي ارتكبها كل منهم. وعلى ذلك يلزم الفصل بين مرتكبي جرائم الدم وبين مرتكبي جرائم المخدرات وبين أولئك وبين مرتكبي جرائم الأموال أو غيرها من الجرائم.
*- الحالة الصحية : توجب المادة 371 من اللائحة الداخلية للسجون التفرقة بين المحكوم عليهم من حيث البنية. وتوجب المادة 19 من قانون السجون إخضاع المرأة الحامل عند شهرها السادس لمعاملة طبية خاصة من حيث الغذاء أو التشغيل أو النوم حتى تضع حملها ويمضي عليها أربعون يوماً. ولا يجوز حرمان الحامل أو الأم من الغذاء لأي سبب كان ، مع وجوب توفير الرعاية الكاملة لطفلها من غذاء وملبس وعلاج.
*- الحبس الاحتياطي : توجب المواد من 14 إلى 16 من قانون السجون عزل المحبوسين احتياطياً في أماكن خاصة بعيداً عن بقية المحكوم عليهم. ولهؤلاء الحق في ارتداء ملابسهم الخاصة وإحضار ما يلزمهم من الغذاء من خارج السجن أو شرائه من داخل السجن.
*- جنسية المحكوم عليه : تقضي المادة 940 من قانون السجون بأن لوزير الداخلية أن يخصص مكاناً في السجن العمومي لقبول الأجانب الذين يؤمر بحجزهم مؤقتاً تمهيداً لابعادهم عن البلاد بالتطبيق للأحكام المرسوم بقانون رقم 74 لسنة 1952 في شأن جوازات السفر وإقامة الأجانب والقوانين المعدلة له. ويعامل هؤلاء الأجانب المعاملة التي يقررها وزير الداخلية.
ونأمل من جانبا – ومن أجل إعمال مبدأ تفريد المعاملة العقابية - أن يأخذ المشرع المصري في اعتباره عند تصنيف المحكوم عليهم أن يخصص سجوناً أو على الأقل أقساماً مستقلة داخل المؤسسة العقابية لبعض المحكوم عليهم في جرائم الرأي والجرائم السياسية ، مع تقرير معاملة خاصة لهم بالنظر إلى أن أثار تنفيذ العقوبة عليهم تكون مختلفة عن تلك المعرفة بالنسبة للمحكوم عليهم في القضايا الجنائية العادية .
المطلب الثاني

الـعـــمـــــــــــل الـــعـــقـــــــابــــي

278- أولاً : نشأة العمل العقابي :

يمكننا التأكيد على أن العمل في السجون Le travail pénitentiaire يرجع إلى فترات لم يكن فيها المعنى الحالي للسجن قد ظهر ، بحسبانه مكاناً لتنفيذ العقوبة الجنائية لا مكاناً للتحفظ على الأفراد لحين محاكمتهم أو لحين تنفيذ العقوبة البدنية عليهم. فحتى في العصور القديمة والوسطى عرف نظام العمل في السجون ، حيث كان المتحفظ عليهم يسخرون في الأعمال الشاقة مثل تجديف السفن وأعمال المناجم أو يرسلون إلى المستعمرات بهدف التنكيل بهم وإيلامهم.
ثم بدأ العمل العقابي يظهر داخل المؤسسات العقابية خلال القرن السادس عشر في هولندا عندما تم إنشاء ما يعرف بمنازل عمل أمستردام Les maisons du travail d'Amsterdam . بيد أنه في تلك الأثناء لم يكن العمل داخل المؤسسة العقابية إلا وسيلة للإيلام المحكوم عليه والحد من طاقته البدنية وخطورته الإجرامية ، فهو أقرب إلى أن يكون عقوبة تكميلية إلى جانب العقوبة السالبة للحرية .
وقد استمر الحال هكذا حتى بدايات القرن التاسع عشر وظهور الدعوات الفكرية للحد من قسوة العقوبات والاهتمام بشخص المحكوم عليه والسعي نحو إصلاحه وتأهيله ، بحيث يغدو هذا الإصلاح هو هدف العقوبة الأسمى ويعلو على الإيلام والتكفير. وكان من ثمار هذه الأفكار أن تغيرت النظرة للعمل في السجون. فلم يعد هذا الأخير أحد عناصر العقوبة بل أصبح أداة ووسيلة للتأهيل تهدف إلى الحفاظ على التكامل الجسدي والنفسي للمحكوم عليه. ولقد راج هذا المفهوم مع ظهور فكرة السجون الجماعية (النظام الأوبراني) التي تقوم أساساً على فكرة تشغيل المحكوم عليهم في الأعمال الصناعية والزراعية بما يعود بالفائدة على الدولة وعلى المحكوم عليه أيضاً. 

279- ثانياً : العمل العقابي في المؤتمرات الدولية :

إن أهمية العمل العقابي قد جعلت منه موضوعاًً للبحث من قبل العديد من المؤتمرات الدولية. ويمكننا أن نشير هنا بصفة خاصة إلى المؤتمر الدولي الذي انعقد في لاهاي La Hayes بهولندا في عام 1950 ، والذي أوصى بثمان توصيات عن العمل العقابي نذكرها على النحو التالي :
*- أن ينظر إلى طبيعة العمل في السجون كأحد وسائل المعاملة العلاجية للمسجونين ، واعتباره حقاً لهم جميعاًُ ، ولو أنه التزام كذلك. وأن تتحمل الدولة عبئ تدبيره لهم ، على أن يكون لهم الحق في اختيار العمل الذي يريده كل منهم في حدود ما تسمح به احتياجات التدريب وإدارة السجن ونظامه.
*- تنظيم العمل في ظروف مشابهة للعمل الحر.
*- أهمية هذا التشابه في تحقيق الأغراض التربوية والاقتصادية والاجتماعية للعمل في السجون.
*- دحض دعوى منافسة عمل السجناء للعمل وللصناعة في خارج السجن.
*- وجوب التعويض عن إصابات العمل وأمراض المهنة وتمتع السجناء بنظم التأمين الاجتماعي القائمة في البلاد.
*- وجوب أن يتقاضى المسجون أجراً عن عمله يحسب على أساس القواعد السائدة خارج السجن.
*- أن يكون الغرض من العمل بالنسبة للمجرمين الصغار هو قبل أي اعتبار أخر تعليمهم حرفه. ويلزم لذلك تنويع الحرف لمواجهة كل احتياجات هذا التعليم.
*- وجوب توفير أسباب استغلال المسجون لوقت فراغه في ممارسة هواياته فضلاً عن أوجه النشاط الذهني والتدريب الرياضي.
كما يمكننا كذلك أن نشير إلى ما قرره مؤتمر جنيف الدولي الجنائي العقابي عام 1955 من أنه "لا يعتبر العمل عقوبة إضافية وإنما هو وسيلة للسير قدماً بتأهيل المسجون وتدريبه على العمل وتكوين عادات أفضل خاصة بالعمل لدية". كما أكد هذا المؤتمر في توصياته على أن مصالح المسجونين وتدريبهم المهني يجب ألا يخضع لمقتضيات تحقيق ربح مالي من الصناعة في السجن .
وهكذا انتهى العمل العقابي الآن إلى أن أصبح وسيلة لتأهيل المسجون وعنصراً يهدف إلى تقويمه ولا شأن له بالعقوبة المقضي بها.

281- ثالثاً : أغراض العمل العقابي :

يهدف عمل المحكوم عليه داخل المنشئات العقابية إلى تحقيق العديد من الأغراض : فهو أولاً وسيلة لمنع البطالة السجونية التي قد تدفع المحكوم عليه إلى التمرد على النظام الداخلي للمؤسسة العقابية . فقد لوحظ أن المحكوم عليه الذي لا يعمل ينصرف تفكيره إلى أنه ضحية لمظالم وهمية ويزداد من حقده على نظام المؤسسة والعاملين فيها فيتجه إلى الإخلال بالنظام القائم فيها. فالعمل العقابي يستنفذ الطاقات الجسدية المعطلة للمحكوم عليه بما يجعله يصرف تفكيره إلى الأشياء المفيدة ويجعله راضياً عن نفسه وعن معيشته في السجن ، الأمر الذي من شأنه أن يسهل من تعاونه مع الإدارة العقابية ونجاح كل مجهود يبذل من أجل تهذيبه وتأهيله .
يضاف إلى ذلك أن العمل العقابي يحقق غرض العقوبة ، حيث أن للعمل في السجون طبيعة عقابية. يؤكد ذلك أن كثير من القوانين تجعل السجن المؤبد أو المشدد عقوبة لبعض الجرائم شديدة الخطورة ، كما أنها تفرق في عقوبة الحبس كمثال لأخف العقوبات السالبة للحرية بين الحبس البسيط والحبس مع الشغل. وقد يكون العمل بديلاً عن الحبس إذا لم يفي المحكوم عليه بما عليه من غرامات أو المصاريف أوما يجب رده من تعويضات ، فيما يعرف بنظام الإكراه البدني الذي يمكن للمحكوم عليه أن يطلبه قبل أن تصدر النيابة الأمر به .
وإذا كان من بين أغراض العقوبة إعادة تأهيل المحكوم عليه ، فلا شك أن أداة ذلك هو إخضاع المحكوم عليه للعمل العقابي. فبهذا الطريق يمكن تدريب المحكوم عليه على حرفة معينة تتلاءم مع ميوله واستعداده الشخصي وتساعده على الاستمرار في مباشرتها بعد الإفراج عنه ، مما يباعد بينه وبين الإجرام في المستقبل.
ولا شك أنه يسهل تأهيل المحكوم عليه عن طريق العمل كلما كان النظام العقابي للمنشأة يقترب من الحياة العادية والطبيعية للإنسان (النظام الأوبراني). فهذا النظام الأخير يتيح أكبر فرصة لاجتماع المحكوم عليهم نهاراً ويهيئ فرصة العمل الجماعي ، مما يساعد على تنمية قدرات المحكوم عليه وإكسابه مهارات فنيه جديدة . وتزداد فرصة التأهيل أكثر كلما كان العمل يمارس خارج المنشأة العقابية. حيث يتيح له ذلك التدريب على الوسائل الفنية الحديثة التي تتطابق مع ما سوف يراه من أدوات عند خروجه من المؤسسة ، كما يساعد أداء العمل في الوسط الحر على حفظ التوازن النفسي والبدني للمحكوم عليه وحفظ صلاته وروابطه الأسرية والاجتماعية. 
على أن للعمل أيضاً غرض اقتصادي سواء بالنسبة للنزيل أو بالنسبة للدولة. فالعمل يساعد المحكوم عليه على ادخار جزء من مقابل العمل الذي يتقاضاه داخل المؤسسة يساعده حين الإفراج عنه على مواجهة الأعباء المادية للحياة. كما أن العمل العقابي يحقق مصلحة اقتصادية بالنسبة للدولة. فهو من ناحية يساعد في تخفيف العبء الإنفاقي للدولة حيث تستقطع هذه الأخيرة جزء من أجر عمل المحكوم عليه مقابل تعهدها بإعاشته. ومن ناحية أخرى فإن العمل السجوني أداة لزيادة الإنتاج والتنمية في الدولة ، حيث يدر العمل عائداً مالياً لها ناتج عن بيع ما تنتجه ورش العمل داخل وخارج المؤسسات العقابية. على أنه يجب أن يظل هذا الغرض بالنسبة للدولة غرض ثانوي بحيث إذا كان هناك تعارض بين مقتضيات تأهيل المحكوم عليه وبين زيادة الإنتاج وربحية الدولة فإنه يجب التضحية بهذا الغرض الأخير .
وتتنوع الأعمال التي يمكن أن يكلف بها المحكوم عليه. فقد تكون تلك الأعمال صناعية أو زراعية. وفي رأينا أنه يجب أن يترك للنزيل الحق في اختيار ما يناسبه من عمل ، على أن يكون هذا العمل منتجاً حتى يقبل عليه المحكوم عليه وأن يكون نوعه وأسلوبه مطابقاً لما هو كائن خارج المؤسسة العقابية ، وأن يتقرر له مقابل عادل يتقاضاه المحكوم عليه حتى يشعر بقيمة العمل ويتعلق به ويدفعه إلى الاستمرار فيه بعد انقضاء مدة العقوبة.
وبصفة عامة – ووفقاً لما تنص عليه البند رقم 71/1 من قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين – يجب ألا يكون العمل في السجون ذا طبيعة مؤلمة . ونري أن العمل يكون كذلك إذا كان يزيد على قوة المسجون البدنية ، أو إذا كان يوقع به ألماً لا مبرر له ، أو كان يشكل خطراً على صحة المسجون .

282- رابعاً : التنظيم القانوني للعمل العقابي :

تعتمد الدول ثلاثة أنظمة متنوعة من أجل تنظيم العمل في السجون. فقد يتم ذلك عن طريق نظام المقاولة العامة L'entreprise générale أو بأسلوب التوريدLa concession أو وفقاً لنظام الاستغلال المباشر La régie directe.

283- أ : نظام المقاولة العامة :

وفقاً لنظام المقاولة تعهد الدولة إلى أحد المقاولين بالانفاق الكامل على المحكوم عليهم من مأكل وملبس وأجور عمل. ويترك لهذا المتعهد أمر تحديد أنواع العمل التي يكلف المحكوم عليهم بأدائها ، وشروط ووسائل العمل. ويلزم المقاول وفق هذا النظام بأن يمد المحكوم عليهم بكل مستلزمات الإنتاج وأن يتولى هو بيع المنتجات لحسابه الخاص وأن يتحمل كافة الأخطار المرتبطة بالعمل وكذلك كافة المخاطر الاقتصادية المرتبطة بالإنتاج. وغالباً ما تقدم الدولة إلى المقاول دعم مالي حيث تزيد في الغالب نفقات تشغيل المحكوم عليهم على ما يحصل عليه مقابل بيع منتجات المؤسسة .
وبالرغم من أن هذا النظام لا يرهق خزينة الدولة ، مما حدا ببعض الدول إلى الأخذ به مع بدء الثورة الصناعية في أوربا ، إلا أنه يتعارض مع مقتضيات تأهيل المحكوم عليهم. فالمقاول هدفه الرئيسي هو تحقيق ربح من وراء تشغيل المحكوم عليه بغض النظر عن ظروفهم الاجتماعية والصحية والنفسية. بالإضافة إلى أن المقاول في هذا النظام يتمتع بنفوذ كبير داخل المنشأة العقابية وعلى المسجونين الأمر الذي قد يأتي بنتائج سلبية خطيرة تمس أمن ونظام المؤسسة العقابية .

284- ب : نظام التوريد :

طبقاً لأسلوب التوريد تختار الإدارة العقابية صاحب الامتياز Confectionnaire الذي يمد النزلاء بالمواد الأولية والآلات ويحتفظ بحق بيع منتجات السجن لحسابه الشخصي. على أن يترك لتلك الإدارة الحق في الإشراف على المسجونين والحق في اختيار المحكوم عليهم المكلفين بالعمل مراعية في ذلك ظروفهم الصحية والنفسية واستعداداتهم وقدراتهم الخاصة .
وتحصل الدولة مقابل توريد الأيدي العاملة على مبلغ من المال من صاحب العمل. وهذا المقابل يمثل مكافأة لها وليس مرتباً نظراً لعدم وجود عقد تأجير خدمات لا بين صاحب العمل والمحكوم عليه ، ولا بين هذا الأخير والإدارة العقابية. فما هو قائم يوصف بأنه محض عقد إداري وليس عقد عمل بالمعنى الدقيق للكلمة . وقد يتحدد هذا المقابل وفق نظام الإنتاج بالقطعة حيث لا يدفع للدولة مقابل توريد الأيدي العاملة مبلغاً محدداً جزافاً أو مراعياً فيه أنه أجر للعمل ولكنه يحدد بالنظر إلى أنه ثمناً لكل قطعة تسلم إليه .
ويعيب هذا النظام أن يؤدي إلى التضحية أحياناً ببعض الاعتبارات العقابية في مقابل الاعتبارات الاقتصادية ، فضلاً عن عدم إقبال رجال الأعمال على هذا النظام لأنه لا يحقق مصالحهم إذ يحرمهم من الإشراف الكامل على رؤوس أموالهم المستغلة وفق هذا النظام .

285- ج : نظام الاستغلال المباشر :

بناءً على نظام الاستغلال المباشر تتولى الإدارة العقابية بنفسها تشغيل المحكوم عليهم والإنفاق الكامل عليهم والإشراف على الإنتاج وتحمل مخاطره الاقتصادية ولا تستعين بأحد في هذا المجال. فتقوم بتقديم الآلات والمواد الأولية وتختص بالإنفاق الكامل على النزلاء ثم تسويق المنتجات لحسابها .
وتتنوع أغراض الاستغلال المباشر : فإما أن يكون الإنتاج مخصصاً لاستهلاك المؤسسات العقابية أو غيرها من المصالح الحكومية (الإنتاج للاستهلاك) ، وإما أن يكون الإنتاج بغرض البيع للجمهور في السوق الحرة (الإنتاج للتسويق) ، وإما أن تستفيد الدولة من تشغيل المسجونين في المزارع الحكومية والطرق العامة وغير ذلك من الخدمات العامة (التشغيل للخدمات العامة) .
ويمتاز هذا النظام بأن المحكوم عليهم يخضعون للإشراف الكامل من جانب الإدارة العقابية مما يمكنها من توجيه العمل لهدف الإصلاح والتأهيل.
إلا أنه قد عيب على هذا النظام أنه أحياناً يثقل الميزانية العامة للدولة حيث تتحمل هذه الأخيرة بنفقات تشغيل المحكوم عليهم ، وقد تتحمل بخسارة لكون إنتاج المؤسسة العقابية أقل جودة عن نظيره في السوق الحر لنقص المهارات الفنية أو وسائل التقنية الحديثة .
بيد أنه لا تجب المبالغة في هذا النقد حيث أن الاعتبار الاقتصادي في العمل العقابي يجب ألا يطغى على الوظيفة التأهيلية والتهذيبية للعمل في السجون. من أجل هذا أوصى البند رقم 73/1 من قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين بأنه من المفضل أن تقوم مصلحة السجون بإدارة مصانعها ومزارعها إدارة مباشرة وليس عن طريق متعهدين خصوصيين. وهو النظام المعمول به في السجون المصرية .

286- خامساً: الطبيعة القانونية للعمل ومقابله :

287- أ : طبيعة العمل العقابي :

يثور التساؤل عما إذا كان العمل العقابي التزاماً يتحمله المحكوم عليه أم أنه حق قبل الدولة. يتجه الرأي الغالب في الفقه إلى اعتبار أن العمل العقابي كما أنه التزام يتحمله المحكوم عليه فهو في الوقت نفسه حق له إزاء الدولة . فهو مزيج بين الحق والواجب ، وإن غلبت مظاهر الالتزام أو الواجب على مظاهر الحق.
وكون العمل العقابي يغلب عليه طابع الالتزام يعود إلى أن العمل داخل المؤسسات الأصل فيه الإلزام والاستثناء أن تعفى بعض الفئات منه لاعتبارات خاصة يقدرها المشرع . فقد نصت المادة 24 من قانون تنظيم السجون على أنه لا يجوز تشغيل المحبوسين احتياطاً أو المحكوم عليهم بالحبس البسيط والخاضعين للإكراه البدني إلا إذا رغبوا في ذلك. كما أنه إذا رفض السجين أو امتنع عن القيام بالعمل توقع عليه الجزاءات التأديبية التي تقررها اللائحة الداخلية للسجون وذلك لأن العمل أسلوب للتهذيب والتأهيل وعنصراً في المعاملة العقابية .
وبالرغم من أن العمل له طبيعة الالتزام إلا أنه في ذات الوقت يعد حقاً للمسجون ، وذلك لأن صفة المحكوم عليه كإنسان تلقى على عاتق المجتمع توفير عمل له ، كما أن وصف العمل بأنه أسلوب للتهذيب والتأهيل يبني على اعتباره حقاً للمحكوم عليه ؛ إذ التأهيل وفقاً للاتجاهات العقابية الحديثة حق حتى لمن انحرف سلوكه وسلك سبيل الجريمة . ويؤكد طبيعة العمل كحق أنه لا يجوز حرمان السجين منه على سبيل العقوبة التأديبية ، حيث يعد ذلك تعسف من الدولة في استعمال حقها في العقاب.

288- ب : طبيعة مقابل العمل :

تستوجب العدالة الجنائية وإنسانية الجزاء الجنائي حصول المحكوم عليه لمقابل العمل نظير ما قام به من جهد إنتاجي أو خدمي داخل أو خارج المؤسسة العقابية. فالعمل ليس جزاء جنائي وإنما وسيلة لتحقيق التأهيل والإصلاح ويبعد تماماً عن العقوبة التي تقف عند حد سلب الحرية. فلا شك أن مقابل العمل يشعر المحكوم عليه بقيمة العمل ويمنحه الثقة في نفسه وفي قدرته على إشباع حاجاته بالطريقة الشريفة بعد الإفراج عنه.
وحق المحكوم عليه في مقابل العمل ثابت في المواثيق الدولية وفي التشريعات الوطنية. فتنص الفقرة الثانية من المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه "لكل فرد ، وبدون تمييز ، الحق في أجر المثل عن العمل الذي يؤديه". وينص البند رقم 76 من قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين على أنه يجب أن يثاب المسجون على عمله طبقاً لنظام مكافآت عادلة. وطبقاً لهذا النظام ، يجب السماح للمسجونين بإنفاق جزء على الأقل من مكاسبهم لشراء الأشياء المصرح لهم بها وإرسال جزء آخر لأسرهم. ويجب أن ينص النظام أيضاً على احتفاظ إدارة السجن بجزء من مكاسب السجين لتوفير حصيلة تسلم إليه عند الإفراج عنه.
وقد قررت المادة 25 من قانون تنظيم السجون حق المحكوم عليهم في الحصول على مقابل أعمالهم في السجن ، وعهدت إلى اللائحة الداخلية للسجون بتنظيم هذا الأمر. وقد خصصت اللائحة الداخلية للسجون الفصل الثاني منها لبيان الأحكام المنظمة لأجور المسجونين (المواد من 8 إلى 14) .
وطبقاً للمادة 26 من قانون تنظيم السجون فإنه لا يجوز توقيع الحجز على أجر المحكوم عليه وذلك دون إخلال بحق إدارة لسجن في خصم مقابل الخسائر التي تسبب فيها المسجون. ويجوز للمسجون التصرف في نصف الأجر المستحق . أما باقي ما يستحقه المحكوم عليه من أجر فيصرف له عند الإفراج أو لورثته الشرعيين عند الوفاة.
ورغم أن حق المحكوم عليه في مقابل العمل متفق عليه ، إلا أنه قد ثار خلاف حول طبيعة هذا المقابل ، هل يمثل أجراً أم أنه مجرد منحة أو مكافأة يحصل عليها المحكوم عليه ؟
يذهب نفر من الفقه إلى أن المقابل مجرد منحه أو مكافأة تمنحها الإدارة العقابية للمحكوم عليه. وعلة ذلك أنه لا توجد علاقة تعاقدية بين النزيل والإدارة العقابية. فالأجر أثر لعقد العمل ، وعمل المسجون لا يحكمه لا عقد ولا قانون العمل . فضلاً عن كون العمل مفروض على النزيل ؛ والالتزام بالعمل يتنافى مع تقرير أجر لمن يقوم به. يضاف إلى ذلك أن الإدارة العقابية تغطي نفقات النزيل وإعاشته من مسكن وطعام وعلاج وترفيه فلا يكون هناك محل – والحال كذلك – لأن تلتزم بدفع أجر مقابل أداء العمل . وكون هذا المقابل مجرد منحة أو مكافأة يرتب أثراً مؤداه أنه ليس للمحكوم علية الحق في أن يتقاضى كل المقابل. بل يتم توزيعه إلى أجزاء ، قد يخصص منها جزء لتعويض المجني عليه وقد يوضع جزء تحت تصرف المحكوم عليه وقد يرسل جزء لأسرته. وبالجملة فهو ليس حراً في كيفية التصرف في المقابل ، لذا فهو أقرب للمنحة منه للأجر.
ويضفي اتجاه أخر – نميل إلى تأييده - صفة الأجر على المقابل الممنوح للمحكوم عليه نظير العمل العقابي. لأنه وإن كان العمل التزام على المحكوم عليه فهو أيضاً حق له كما سبق الذكر ، ومن ثم وجب الاعتراف له بالمزايا المتفرعة عن هذا الحق وأهمها أجر هذا العمل. ولا يلزم قيام علاقة تعاقدية مبناها عقد العمل كي يوصف هذا المقابل بكونه أجراً. فقد يستحق النزيل الأجر استناداً إلى نصوص القوانين واللوائح والتنظيمات المباشرة. ولا يغير كذلك من كون المقابل له طبيعة الأجر قيام الدولة بالانفاق على المحكوم عليه وإعاشته أو كون المحكوم عليه مقيد في التصرف في الأجر ، إذ أن ذلك يتعلق بكيفية توزيع الأجر ، وهذا أمر لاحق على تقرير مبدأ الأجر ذاته .
المطلب الثالث

الرعــــــاية الــصــحيـــة

289- تمهيد وتقسيم :
مما لا شك فيه أن الرعاية الصحية La protection hygiénique داخل المؤسسة العقابية تسهم إسهاماً فعالاً في تأهيل المحكوم عليهم وإعدادهم لمواجه الحياة في المجتمع بعد الإفراج عنهم ، خاصة إذا كان الدافع لارتكاب الجريمة إصابة المحكوم عليه بأحد الأمراض. فالرعاية الصحية العلاجية تؤدي إلى انتزاع هذا الدافع الإجرامي حتى لا يؤدي بالمحكوم عليه إلى ارتكاب الجريمة مرة أخرى في المستقبل. كما أن الرعاية الصحية تعمل على احتفاظ النزلاء بقواهم البدنية والنفسية والعقلية خلال فترة الإيداع فتحميهم من الاضطرابات المرضية التي قد تؤثر سلباً على المحكوم علية وتعوقه فيما بعد عن القيام بدوه في المجتمع وكسب رزقه عن طريق مشروع وشريف . ولهذه الرعاية أيضاً دورها في التهذيب ، ذلك أن نظام المؤسسة العقابية يفرض على النزيل الالتزام ببعض القواعد الصحية فيعتادها وتصبح جزءً من حياته اليومية ، الأمر الذي ينعكس على أفراد أسرته وعلى البيئة المحيطة به فيمنع تفشي الأمراض بينهم.
لأجل هذا أصبحت الرعاية الصحية – المنقوصة كثيراً في واقعنا العقابي المصري والعربي - حقاً للمحكوم عليه ، تلتزم الدولة بتوفيرها مجاناً للسجين ، حتى لا تتحول العقوبة السالبة للحرية إلى عقوبة بدنية إذا ما ترك المحكوم عليه يعاني من الأمراض والآلام خلال فترة سلب الحرية.

290- أولاً : طرق الرعاية الصحية :

تتم الرعاية الصحية داخل المؤسسات العقابية بأحد أسلوبين : إما أسلوب الوقاية وإما أسلوب العلاج.

291- أ : أسلوب الوقاية :

يقصد بالوقاية إيجاد حد أدنى من الاحتياطيات تستهدف توقي إصابة النزلاء بالأمراض المعدية ، إذ لا يمثل ذلك خطورة فقط على المحكوم عليهم وإنما على بقية أفراد المجتمع ككل. فتفشي مرض بين المحكوم عليهم يؤدي إلى معاناتهم آلاماً تفوق القدر الذي تستوجبه العقوبة ، ومن ناحية أخرى فإن انتشار الأمراض بين المحكوم عليهم قد يمتد إلى خارج أسوار السجن عن طريق زوار المحكوم عليهم أو من العاملين بالمؤسسة العقابية ورجال الإدارة .
ويتعلق أسلوب الوقاية بعدة نواحي تتصل بالمحكوم عليه في فترة تنفيذ العقوبة وأهم هذه النواحي ما يتعلق بالوقاية في مكان تنفيذ العقوبة وبنظافة المحكوم عليه وبغذاءة وبالرياضة التي يمارسها. يضاف إلى هذا ما يجب أن يتوافر من رعاية إذا كان النزيل سيدة حامل.

292- الوقاية في مكان تنفيذ العقوبة :

توجب فكرة الوقاية أن تتوافر في جميع أجنحة المؤسسة العقابية بعض الاشتراطات الصحية سواء من حيث المساحة أو التهوية أو الإضاءة أو المرافق الصحية أو النظافة. فالأماكن المخصصة للنوم يجب أن تكون ذات مساحة معقولة بالنسبة لعدد النزلاء ، وأن يدخلها قدر كاف من الهواء والضوء وأن يكون لكل نزيل سرير لنومه وأغطيه كافية لوقايته من البرد. ويجب أن تكون الأماكن الأخرى المخصصة للعمل أو القراءة أو للتهذيب على قدر معقول من حيث التهوية والتدفئة والإضاءة. ويجب أن يتوافر عدد من دورات المياه لكي يتاح للنزلاء قضاء حاجاتهم في أي وقت وبصورة تتفق مع الكرامة الإنسانية .
ولإعمال الوقاية في مكان التنفيذ يجب على إدارة السجن التأكد من تطهير الغرفة التي حصل بها مرض معد ووضع المسجون بها وعزل المسجونين المصابين ووضع علامات مميزة على جميع الأواني والمفروشات المخصصة لهم (المادتان 48 و49 من اللائحة الداخلية للسجون).

293- النظافة الشخصية للمحكوم عليه :

تمثل النظافة الشخصية للمحكوم عليه أهم سبل الوقاية داخل المؤسسة العقابية. وتشمل نظافة المحكوم عليه نظافة بدنه ونظافة ملابسه. فيجب أن يزود النزيل بالأدوات اللازمة لاستحمامه في أوقات دورية منتظمة تتلاءم مع درجة برودة الجو. ويجب على المؤسسة أن توفر للنزيل الأدوات التي تمكنه من العناية بشعره وبلحيته ، وأن تسهل له فرصه قصه مرة كل شهر على الأقل وبتقليم أظافره بشكل دوري خلال مدة الإيداع (م45 من اللائحة الداخلية للسجون).
ويجب أن تشمل الوقاية ملابس المحكوم عليه التي يتسلمها فور دخوله المؤسسة العقابية. ويجب أن تختلف هذه الملابس باختلاف فصلي الشتاء والصيف حتى تسهم في المحافظة على صحة المحكوم عليه ، وأن يتم استبدالها في فترات دورية منتظمة .

294- غذاء المحكوم عليه :

يجب أن تكون الوجبات الغذائية المقدمة للنزلاء بالمؤسسة العقابية متنوعة وكافية من حيث الكمية والقيمة الغذائية ، وأن تعد بطريقة نظيفة وتقدم بطريقة لائقة تحفظ إنسانية وكرامة المحكوم عليه. ويجب أن تتناسب كمية الطعام مع سن وحالة المحكوم عليه الصحية ونوعية العمل الذي يقوم به. ويجب أن تتنوع وجبات الطعام فلا تقدم وجبات متكررة لفترة طويلة. كما يراعى تقديم وجبات خاصة لأي نزيل يقرر الطبيب المسئول عن السجن حاجته لذلك . ويجب على الإدارة العقابية أن توفر للنزيل حاجته الطبيعية من ماء الشرب النظيف .

295- رياضة المحكوم عليه البدنية :

لا ريب أن توفير وسائل ممارسة الرياضة البدنية داخل المؤسسة العقابية يسهم في المحافظة على صحة المحكوم عليهم. وتتخذ الرياضة البدنية إحدى صورتين : صورة تمرينات تتم تحت إشراف مدرب مختص ، وهذه التمرينات في أغلب التشريعات إلزامية بالنسبة للشباب واختيارية لغيرهم أو في الأحوال التي يقرر طبيب السجن إعفائهم منها. والصورة الأخرى هي النزهة اليومية في مكان طلق الهواء داخل المؤسسة العقابية. وتفيد هذه النزهة الأشخاص الذين يودعون في مؤسسات تتبع النظام الانفرادي أو يعملون في أماكن مغلقة داخل السجن .

296- الرعاية الخاصة للنساء الحوامل :

تستوجب قواعد الوقاية الصحية توفير رعاية طبية للمحكوم عليهن الحوامل حتى لا يتعرضن لمخاطر صحية خلال هذه الفترة الحرجة. ويتطلب ذلك وضع نظام خاص للمعاملة العقابية لهن ، يسمح بمقتضاه لهن بالخضوع لفحص طبي دوري خلال فترة الحمل ، وبالانتقال إلى مستشفى عام حين اقتراب موعد الوضع ، أو إتمام عملية الوضع داخل السجن تحت اشراف الأطباء المتخصصين. وعندما يخرج الطفل إلى الحياة يجب أن توجه إليه رعاية خاصة ، فهو شخص برئ لا يجوز أن يتحمل أثر من آثار العقوبة المحكوم بها على والدته. فتستخرج له شهادة ميلاد لا يذكر فيها مكان الولادة إذا تمت هذه الأخيرة داخل المؤسسة العقابية. ويجب أن تتوافر في السجن دار للحضانة يودع فيها الأطفال إذا ما سمح ببقائهم مع أمهاتهم خلال قضائهن فترة العقوبة .

297- ب : أسلوب العلاج :

تشمل الرعاية الصحية إلى جانب أسلوب الوقاية من الأمراض المحتملة أسلوب العلاج لمن ثبت مرضه من بين المحكوم عليهم سواء قبل دخولهم السجن أو أثناء تواجدهم فيه. وهذا حق للمحكوم عليه تجاه الدولة ؛ إذ لا يستطيع المحكوم عليه اللجوء بنفسه للطبيب خلال التنفيذ العقابي. ويتولى مهمة هذا العلاج جهاز من الأطباء في التخصصات المختلفة يعاونهم هيئة تمريض تختارهم الإدارة العقابية دون تدخل من قبل المحكوم عليه. وفي هذا توجب المادة 33 من قانون تنظيم السجون أن يكون في كل ليمان أو سجن غير مركزي طبيب أو أكثر ، أحدهم مقيم ، تناط به الأعمال الصحية وفقاً لما تحدده اللائحة الداخلية. ويكون للسجن المركزي طبيب فإذا لم يعين طبيب كلف أحد الأطباء الحكوميين بأداء الأعمال المنوطة بطبيب السجن.
ويبدأ الأسلوب العلاجي تجاه المحكوم عليه بما يسمى الفحص أو التشخيص. وتوجب المادة 46 من اللائحة الداخلية للسجون التأكد من وضع المسجونين المقبولين حديثا تحت الاختبار الصحي لمدة عشرة أيام. وبمجرد إيداع المحكوم عليه في السجن يقوم الطبيب بفحصه فإن اكتشف وجود مرض لديه يوصي بالعلاج اللازم وبأسلوب المعاملة الملائمة له. وإذا كان المرض من الأمراض المعدية فيجب عزله حتى لا ينتقل إلى باقي المحكوم عليهم .
وفي هذا يوجب البند رقم 24 من قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين على أن يوقع الطبيب الكشف على كل مسجون عقب قبوله بالسجن بأسرع ما يمكن للكشف عما يحتمل أن يكون مصاباً به من مرض جسماني أو عقلي واتخاذ كل التدابير الضرورية. وتنص المادة 27 من اللائحة الداخلية للسجون على أنه "يجب على الطبيب أن يكشف على كل مسجون فور إيداعه السجن ، على ألا يتأخر ذلك عن صباح اليوم التالي. كما يجب عليه أن يفحص المسجونين المرضى يومياً وأن يأمر بنقل المريض إلى مستشفى السجن إذا لزم الأمر. كما يجب عليه أن يزور المحبوسين انفرادياً ، وأن يعود كل مسجون من غير هؤلاء مرة في الأسبوع على الأقل.
ويشمل العلاج الأمراض البدنية وكذلك علاج المحكوم عليهم المصابون بأمراض عقلية. وقد يصل المرض العقلي إلى الحد الذي يوجب نقل المصاب إلى مستشفى الأمراض العقلية على أن تحسب فترة العلاج من فترة العقوبة. كذلك يمتد نظام العلاج ليشمل معالجة الأمراض النفسية. لذا نرى ضرورة وجود طبيب نفسي ، خاصة الخبراء منهم في علاج حالات الإدمان الكحولي والمخدرات. وأياً ما كان نوع المرض تلتزم الإدارة العقابية بتقديم الأدوية التي يوصي بها الطبيب المعالج ، على أن يكون كل ذلك مجاناً .
وقد ثار جدل في الفقه حول تطلب رضاء المحكوم عليه المريض بالعلاج ، إذ من المعلوم أن قبول المريض بالعلاج شرط ضروري لتدخل الطبيب. ويعود هذا الجدل إلى كون الرعاية الصحية هي أحد أساليب المعاملة العقابية والتي يلتزم المحكوم عليه بالخضوع لها دون أن يكون له دور في تحديد مضمونها أو كيفية أدائها. ومن هنا ذهب رأي إلى أن المحكوم عليه يخضع للعلاج جبراً عنه دون أن يكون له الحق في الرفض. حتى لو استخدمت وسائل طبية حديثة غير مستقرة في الوسط الطبي ، وحتى لو كانت تؤدي إلى المساس بالبدن أو الإهدار للكرامة الآدمية طالما أنها تؤدي إلى تأهيل المكوم عليهم في نهاية الأمر.
ونري أن هذا الرأي يتعارض مع المبادئ المستقرة في النظم العقابية الحديثة. ذلك لأن المحكوم عليه – شانه شأن أي شخص من الأشخاص العاديين - له جميع الحقوق المتصلة به كإنسان. فسلب الحرية لا يعني إهدار آدميته وكرامته وحقه أيضاً في العلاج بالوسائل المتعارف عليها طبياً.
وللتوفيق بين الرعاية الصحية كأسلوب للمعاملة العقابية وبين حق المحكوم عليه في رفض العلاج كحق إنساني نرى التمييز بين العلاج كصورة من صور الجزاء الجنائي والعلاج كوسيلة من وسائل المعاملة العقابية. ففي الحالة الأولى نرى أن يخضع النزيل للعلاج جبراً عنه دون انتظار لموافقته. ويكون ذلك في حالة كون المرض كان أحد العوامل الإجرامية ، كما هو الحال بالنسبة لمدمني الخمر والمخدرات. فالخضوع لبرنامج علاجي يعتبر جزاءً جنائياُ في صورة تدبير احترازي. أما عندما يكون العلاج وسيلة من وسائل المعاملة العقابية فإن رضاء المحكوم عليه أمر ضروري سواء كان المرض بدنياً أو عقلياً أو نفسياً بشرط ألا يؤدي العلاج إلى إهدار كرامته وإنسانيته ، وأن يكون وسيلة العلاج مستقر عليها في مجال الطب .
وفي جميع الأحوال لا يجب أن يكون المحكوم عليهم "حقل تجارب" ، حتى ولو ثبت نجاح وسيلة العلاج في استئصال العوامل الإجرامية المرضية عندهم. لذا فإننا لا نوافق مثلاً على الأساليب العلاجية المتمثلة في تعقيم الشواذ جنسياً أو استئصال أعضائهم التناسلية لأن في ذلك إهدار لكرامتهم وانتقاص من آدميتهم على الرغم من إمكانية نجاح مثل هذه الوسائل في إصلاحهم وتأهيلهم .
وتستوجب الرعاية الصحية العلاجية أن يكون هناك مكان لاستقبال المرضى من النزلاء فضلاً عن الأجهزة الطبية اللازمة للكشف على المرضى وإجراء العمليات الجراحية إذا لزم الأمر . فإذا استوجبت حالة المحكوم عليه علاجاً خاصاً وجب نقله إلى مستشفى تخصصي .
وتوجب في النهاية المادة 35 من اللائحة الداخلية للسجون أن يقوم الطبيب المعالج بإعداد تقرير طبي عن حالة أي مسجون سواء عرض عليه عن طريق إدارة السجن أو شاهد حالته بنفسه في العيادة أو أثناء مروره على المسجونين. وإذا ثبت له أن المحكوم عليه مصاب بمرض يهدد حياته بالخطر ويعجزه عجزاً كلياً ، يعرض أمره على مدير القسم الطبي للنظر في الإفراج عنه .
المطلب الرابع

الرعــــــــــاية الاجتماعية

281- أولاً : مضمون الرعاية الاجتماعية :

تمثل الرعاية الاجتماعية La protection sociologique أهم أساليب المعاملة داخل المؤسسات العقابية. فعن طريقها يمكن معرفة المشاكل التي يمر بها المحكوم عليه ومحاولة حلها لكي يستطيع المحكوم عليه الاستجابة لأساليب التأهيل وهو مطمئن النفس هادئ البال. وعن طريقها يمكن أيضاً الإبقاء على الصلة بين المحكوم عليه والمجتمع ؛ بما يسهم في تحقيق الغرض التأهيلي للجزاء الجنائي . لأجل هذا اهتمت النظم العقابية المختلفة بالإشراف الاجتماعي في السجون سواء تمثل في صورة إدارة للخدمة الاجتماعية العقابية كما في النظام الفرنسي ، أم في صورة أخصائي كما هو الحال في النظام المصري . فقد نصت المادة 32 من قانون تنظيم السجون على أن "يعين في كل ليمان أو سجن عمومي أخصائي أو أكثر في العلوم الاجتماعية والنفسية" .

282- ثانياً : وسائل الرعاية الاجتماعية :

للرعاية الاجتماعية وسائل متنوعة يمكن أن نذكر منها على الأخص : دراسة مشاكل النزيل ، وإعداد برامج لشغل أوقات الفراغ داخل المؤسسة ، وأخيراً تنظيم الصلة بين المحكوم عليه والعالم الخارجي.

283- أ : دراسة مشاكل المحكوم عليه :

إن أول وسائل الرعاية الاجتماعية هي محاولة حل المشاكل المتنوعة التي يعاني منها المحكوم عليه ، والتي منها ما يتعلق بأسرة المحكوم عليه ، ومنها ما يتعلق بحياة المحكوم عليه داخل المؤسسة العقابية. ففي ظل هذه المشاكل فإن المحكوم عليه يجد نفسه مكتوف الأيدي وعاجز عن التوصل لحل المشاكل فتتسم نفسيته بالقلق والاضطراب وبالتالي لا تحقق برامج التأهيل دورها المنشود. فقد يخلف المحكوم عليه وراءه زوجة مريضة تفتقر إلى الدواء أو محل عمل لا يوجد من يديره. وقد يكون المحكوم عليه في حالة نفسية سيئة نتيجة لسلب حريته داخل السجن .
وعلى ذلك تبدو أهمية دور الأخصائي الاجتماعي الذي يساعد المحكوم عليه على مواجهة مشاكله سواء تلك التي تطرأ بعد إيداعه المؤسسة العقابية أم تلك التي كان يعاني منها قبل إيداعه بالسجن.
ويجب على الأخصائي الاجتماعي أن يكسب ثقة المحكوم عليه حتى يستطيع الإلمام بالمشاكل التي يعاني منها ، وأن يحاول أن يخفف عنه مرحلة سلب الحرية خاصة في مراحلها الأولى. وأن يعاونه على تفهم دور الإدارة العقابية المتمثل في محاولة إعداده لمواجهة ظروف الحياة بعد انقضاء فترة العقوبة وحتى لا ينزلق مرة أخرى في تيار الجريمة . وقد يستوجب الأمر من الأخصائي النزول إلى الوسط الذي كان يعمل فيه المحكوم عليه أو يعيش فيه من أجل جمع المعلومات الكافية عن حالة النزيل ، كي يتم اختيار أسلوب المعاملة المناسب له.
كما يجب على الأخصائي الاجتماعي أن يقوم بالاتصال بأسرة المحكوم عليه وأن يعاونها في حل مشاكلها وأن يطمئن النزيل بعد ذلك بحلها حتى تهدأ نفسه وتثمر معه أساليب المعاملة المختلفة في تأهيله وتهذيبه .

284- ب : برامج شغل أوقات الفراغ :

يهدف هذا الأسلوب من أساليب الرعاية الاجتماعية إلى تهذيب وإصلاح المحكوم عليه. فمن الضروري تنظيم شغل أوقات الفراغ بما يعود على النزيل بالنفع ويساعده على تنمية شخصيته وقدراته وعلى كيفية التوافق مع غيره من الأفراد. ولتنظيم أوقات فراغ المحكوم عليهم صور متعددة منها إعداد أنشطة ثقافية ورياضية وفنية وترويحية داخل المؤسسة العقابية. وجدير بالذكر أن للأخصائي الاجتماعي دور أساسي في توجيه النزلاء إلى حسن استغلال وقت فراغهم واختيار النشاط المناسب لكل نزيل والذي يتفق مع رغباته حتى يتحقق الغرض التأهيلي للجزاء الجنائي .

285- ج : تنظيم اتصالات السجين بالعالم الخارجي :

أصبح من بين المبادئ المستقرة في السياسة العقابية الحديثة وجوب العمل على توفير صلات للسجين بالعالم الخارجي ، وذلك حتى لا يبقى في عزلة جامدة عن المجتمع الذي سيعود إليه يوماً ما من جديد بعد الإفراج عنه. من هنا تبرز أهمية الاتصال باعتباره أسلوب من أساليب الرعاية الاجتماعية التي تخفف من صدمة الإفراج التي تصيب النزلاء الذين يفقدون كل اتصال بالعالم الخارجي خلال فترة العقوبة. كما تبرز أهميته باعتباره أحد السبل التي تساعد المحكوم عليه على الاستجابة لبرامج التأهيل والأداة الفعالة في التخفيف من قسوة الضغوط النفسية التي يعاني منها المحكوم عليه داخل السجن .
ولتنظيم الصلة بين المحكوم عليه والعالم الخارجي يمكن اللجوء إلى عدة طرق : فقد يتم ذلك عن طريق التراسل مع الغير خارج أسوار السجن ، وقد يتم ذلك عن طريق السماح بأن يتلقى المحكوم عليه زيارات داخل السجن ، فضلاً عن الإبقاء على الصلة الأسرية للمحكوم عليه أو التصريح للنزيل بالخروج المؤقت من المؤسسة العقابية.

286- المراسلات Les correspondances:

لقد أصبح حق المحكوم عليه في التراسل أحد الحقوق المستقرة في النظم العقابية الحديثة، وإن خضع هذا الحق لقيود معينة. ولقد تطورت النظرة إلى هذا الحق في السياسة العقابية الحديثة عنه في السياسة العقابية القديمة ، فقد كان هذا الحق مقيداً بعدد معين من الرسائل وقاصر على أفراد أسرة المحكوم عليه والمدافع عنه فحسب. أما في السياسة العقابية الحديثة فإن هذا الحق بدأ يقترب من حد الإطلاق ولا يقيده قيد سواء من حيث عدد المراسلات أو من حيث الأشخاص . وأصبح يكتفي فقط بالرقابة على هذه الرسائل من قبل إدارة السجن في الأحوال التي يخشى فيها أن تكون هذه المراسلات سبباً لمعاونة السجين على الهرب أو إخلاله بالنظام داخل المؤسسة ، أو حينما يساهم الإطلاع على مراسلات المحكوم عليه في تأهيله ، كأن يمكن الإطلاع من كشف المشاكل الشخصية أو الأسرية للنزيل فيحاول رجال الإدارة العقابية حلها كي يتسنى الإسراع بتأهيل المحكوم عليه .
وقد أكد قانون تنظيم السجون المصري حق المحكوم عليه في التراسل (م38). وأجازت المادة 60 من اللائحة الداخلية للسجون للمحبوسين احتياطياً و للمحكوم عليهم بالحبس البسيط التراسل في أي وقت ، ولباقي المحكوم عليهم بمعدل خطابين كل شهر وتلقي ما يرد إليهم من خطابات . وفى سبيل تيسير حق المراسلة للسجناء والمعتقلين نصت المادة 67 من اللائحة التنفيذية لقانون السجون على أن تصرف إدارة السجن للمسجونين الورق والأدوات اللازمة لكتابة خطاباتهم.

287- الزيارات :

تتيح غالبية الأنظمة العقابية الفرصة أمام المحكوم عليه لتلقي الزيارات Les visites داخل المؤسسة العقابية ، سواء من أفراد أسرته ، أو من أفراد آخرين ، إذا كان ذلك يفيد في تأهيله. وتكون الزيارات في مواعيد دورية ولفترة محدودة ، على أن تتم الزيارات بحضور أحد العاملين في المؤسسة العقابية ليراقب الحديث ويمنع تسليم أي شئ غير مسموح به للمحكوم عليه. ولرجال الإدارة أن تنهي الزيارة في أي وقت إذا وجدت أن الحديث الذي يدور بين الزائر والمحكوم عليه فيه ما يهدد نظام المؤسسة.
وغالباً ما يتم الفصل بين المحكوم عليهم والزوار سواء عن طريق حاجز من الأسلاك الحديدية المتشابكة التي تمنع تصافحهم أو بجلوس المحكوم عليه وزائريه متقابلين على منضدة مستطيلة يفصل بينهم حاجز مثبت في منتصف المائدة. وفي المؤسسات المفتوحة تتخذ الزيارة صورة الجلسة العائلية. وعادة ما يخضع المحكوم عليه وزواره للتفتيش الذاتي قبل وبعد الزيارة .
ونظمت اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956 موضوع الزيارة في المواد من 60 حتى المادة 80. فتنص المادة 60 على انه "للمحكوم عليه بالسجن البسيط والمحبوسين احتياطيا الحق في التراسل في أي وقت ولذويهم أن يزروهم مرة واحدة كل أسبوع في أي يوما من أيام الأسبوع عدا أيام الجمع والعطلات الرسمية ما لم تمنع النيابة أو قاضي التحقيق ذلك بالنسبة إلي المحبوسين احتياطيا طبقا للمادة 141 من قانون الإجراءات الجنائية. كما نصت المادة 64 على أن يكون للمحكوم عليه بالسجن المؤبد أو المشدد أو السجن والحبس مع الشغل الحق في التراسل ولذويهم أن يزروهم بعد مضي شهر من تاريخ تنفيذ العقوبة ثم تكون زيارتهم وتراسلهم ما دام سلوكهم حسنا علي الوجه الأتي :
*- تكون الزيارة مرة واحدة شهريا للمحكوم عليه بالسجن المؤبد أو المشدد المنفذ عليهم باليمانات.
*- تكون الزيارة مرة كل ثلاثة أسابيع للمحكوم عليهم بالسجن أو الحبس مع الشغل أو المحكوم عليهم بالسجن المؤبد أو المشدد المنقولين من الليمانات للسجون العمومية .
كما نصت المادة 66 على أن للمسجون عند نقله إلى سجن في بلد أخر الحق في التراسل ولذويه أن يزوروه مرة واحدة قبل أو بعد نقله ولو لم يحل ميعاد المراسلة أو الزيارة العادية المستحق له ولا تحسب هذه الزيارة والمراسلة من الزيارات أو المراسلات المقررة للمسجون. ويستثني من ذلك المسجون المنقول إلى سجن أخر لصالح الضبط أو المسجون المجازي بالنقل إلى اليمان.
أما عن مدة الزيارة العامة فقد أوضحتها المادة 71 من اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم السجون بقولها "تكون مدة الزيارة العادية ربع ساعة ، ويجوز لمدير السجن أو المأمور إطالة المدة إذا دعت لذلك ضرورة. وأجازت المادة 40 من قانون السجون للنائب العام أو لمدير عام السجون أو من ينيبه أن يأذنوا لذوي المسجون بزيارته في غير مواعيد الزيارة العادية إذا دعت الضرورة ذلك. ومدة تلك الزيارة الخاصة – وفقاً للمادة 71 من اللائحة التنفيذية - يجوز أن تزيد على هذه الربع ساعة على ألا تجاوز نصف ساعة".

288- الصلة الأسرية للمحكوم عليه :

لا شك أن إبعاد المحكوم عليه عن أسرته يؤثر كثيراً على حالته النفسية مما يؤدي إلى عرقلة البرامج التي تهدف إلى تأهيله. لأجل ذلك يجب المحافظة على الصلات الأسرية Les relations familiales بين النزيل وأفراد أسرته. ويتحقق هذا الاتصال - فضلاً عما تقدم - بالسماح للنزيل بتلقي الإعانات المالية ذات الطابع الغذائي وتمكين النزيل من الإطلاع على ما يهمه من أخبار في نطاق عائلته وجعل عائلته على دراية مستمرة بأحواله .
وقد نص البند رقم 79 من قواعد الحد الأدنى على هذا الأسلوب من أساليب الرعاية الاجتماعية بقوله "يجب أن يوجه اهتمام خاص نحو المحافظة على صلات المسجون بأسرته ، وتحسين هذه الصلات وفق ما تقتضيه مصلحة الطرفين".

289- تصاريح الخروج المؤقت :

يقصد بتصاريح الخروج المؤقت Permissions de sortir السماح للمحكوم عليه بالخروج من المؤسسة العقابية لمدة قصيرة تستدعيها ظروف طارئة. وتمنح هذه التصاريح في الغالب لاعتبارات إنسانية كالسماح للمحكوم عليه برؤية عزيز لديه مريض أو مشرف على الموت أو الاشتراك في جنازته . و لا شك أن هذا النظام يساعد على تأهيل المحكوم عليه وحفظ صلاته بالعالم الخارجي. 
وقد نصت المادة 85 من اللائحة الداخلية للسجون على جواز السماح للمحكوم عليه في فترة الانتقال – أي الفترة التي تسبق الإفراج عنه – بأجازة لا تجاوز ثمانية وأربعين ساعة خلاف مواعيد المسافة إذا دعت إلى ذلك ضرورة قصوى أو ظروف قهرية. ويبين من تلك المادة أن النظام المصري لا يعرف نظام التصاريح المؤقتة للخروج من المؤسسة العقابية في غير فترة الانتقال ، وهو أمر لا بد من مراجعته تأسياً بالنظم العقابية الحديثة التي بدأت توسع من حالات منح هذه التصاريح فأجازتها في حالات البحث عن عمل أو لحضور اختبار معين .
المطلب الخامس

تعــليم المحكوم عليه

290- أولاً : مضمون تعليم المحكوم عليه :

لقد أصبح لتعليم المحكوم عليه La pédagogie du détenu في النظام العقابي الحديث دوراً أساسياً لا يقل بحال من الأحوال عن دوره في المجتمع الحر. فهو وسيلة لمحو الأمية والجهل وهما عاملان إجراميان دون شك. وبالتالي فهو وسيلة لاستئصال عوامل الجريمة وإزالة أسباب العودة إلى الإجرام في المستقبل. كما أن التعليم يساهم في تأهيل المحكوم عليه. فالمفرج عنه المتعلم يستطيع أن يحصل على فرصة للكسب الشريف. وهو وسيلة لتنمية الإمكانيات الذهنية والملكات الفكرية للمحكوم عليه مما يودي بدوره إلى تغيير في أسلوب تفكيره وطريقة حكمه على الأشياء ومنهجه في التصرف. وبالتالي يمكن التعليم المحكوم عليه من الانتقال من فئة تفتقر إلى التفكير السليم وتقف على حافة الجريمة إلى فئة أخرى من ذوي التفكير المستنكر للإجرام والسلوك المنحرف .
وقد اعترفت غالبية التشريعات بأهمية تعليم المسجونين وجعلته جزءً من خطتها العقابية الهادفة إلى التأهيل . وقد أكد على ذلك البند رقم 77/1 ، 2 من قواعد الحد الأدنى بقوله تتخذ إجراءات لمواصلة تعليم جميع السجناء القادرين علي الاستفادة منه بما في ذلك التعليم الديني في البلدان التي يمكن فيها ذلك ، ويجب أن يكون تعليم الأميين والأحداث إلزاميا ، وأن توجه إليه الإدارة عناية خاصة . ويجعل تعليم السجناء في حدود المستطاع عمليا متناسقا مع نظام التعليم العام في البلد ، بحيث يكون في مقدورهم بعد إطلاق سراحهم أن يواصلوا الدراسة دون عناء.
وقبل صدور قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنه 1956 لم يكن للتعليم دور في عملية الإصلاح والتأهيل إلا في حالات قليلة جداً. وكان تقرير التعليم للسجون أول الأمر بالقانون الصادر رقم 128 لسنة 1946 الذي أدخل بعض التعديلات على القانون رقم 110 لسنة 1944 والخاص بمكافحة الأمية ونشر الثقافة الشعبية في الدولة والذي نص في مادته الحادية عشر على وجوب تعليم المسجونين. وتبع ذلك صدور المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1949 بلائحة السجون التي نصت على ضرورة تعليم المحكوم عليهم نظرا لأهمية التعليم في الإصلاح والتأهيل. كما نص على ضرورة تيسير مواصلة السجناء لتعليمهم وأداء الامتحانات.
وبالرغم من ذلك ظلت الإدارة العقابية في مصر تتخذ السجن كأداة للعقاب وسلب الحرية واقتصر تعليم السجناء علي محو أميتهم في بعض الحالات.
وبصدور المرسوم بقانون رقم 396 لسنة 1956 الخاص بتنظيم السجون أصبح للتعليم في السجون بعض الجدية. وقد أبرزت المذكرة الإيضاحية لهذا القانون دور التعليم في الإصلاح والتأهيل بقولها " لوحظ أن المسجون لو ترك وشأنه داخل السجن دون إشراف أو توجيه لأتجه بكليته إلى التفكير في الجريمة وتقليد غيره من المجرمين ؛ ومنعاً لذلك رؤى أن تقوم إدارة السجن بتعليم المسجونين وتهيئة سبل الثقافة لهم حتى يشغلوا وقت فراغهم بما يعود عليهم بالفائدة الذهنية ويباعد بينهم وبين استيعاب عوامل الإجرام"
وعلى هذا تنص المادة 28 من قانون تنظيم السجون على أن "تقوم إدارة السجن بتعليم المسجونين مع مراعاة السن ومدى الاستعداد ومدة العقوبة". وأناطت المادة 29 من ذات القانون بوزير الداخلية بالاتفاق مع وزير التربية والتعليم بوضع منهج الدراسة للرجال والنساء وذلك بعد أخذ رأي مدير عام السجون .

291- ثانياً : تنظيم تعليم المحكوم عليهم :

يثير تنظيم التعليم تحديد الكيفية التي تقدم بها إلى المحكوم عليهم. ولا شك أن هذه الكيفية تتمثل في الدروس والمحاضرات وهي المستخدمة في التعليم الأولي. بيد أنه لا يجب أن يقتصر أسلوب التعليم على هذه الطريقة ، بل يجب أن يمتد ليشمل طريقة المناقشات الجماعية بحيث يجتمع المدرسين بالمحكوم عليهم لمناقشة موضوع معين ويستمعون لأرائهم في هذا الموضوع و يرشدونهم إلى الخطأ والصواب بشأنه. ولا شك أن هذه الطريقة من شأنها أن تشعر المحكوم عليهم بكيانهم واحترام شخصياتهم.
ويوجب التنظيم الجيد للتعليم في السجون إعداد هيئة تدريس تتولى القيام بالعملية التعليمية داخل المؤسسة العقابية . وتقرر المادتان 1131 و 1132 من دليل العمل بالسجون أن يستعان في القيام بأعمال التدريس بأقسام محو الأمية بالمؤسسات العقابية عدد من المدرسين يندبون لذلك من بين مدرسي مديريات التربية والتعليم أو من العاملين المدنيين والعسكريين بمصلحة السجون الذين تتوافر فيهم شروط القيام بهذا العمل الفني من حيث المؤهل الدراسي والكفاءة الفنية. ويجوز الاستعانة بالمتطوعين من المحكوم عليهم إذا كانوا على درجة من التعليم إذا كانت إمكانيات الإدارة العقابية لا تسمح بتعيين أعداد كافية من المدرسين. أما القائمين على التدريس بالقسم الثاني للتعليم العام فلابد أن يكونوا مدرسون فنيون معينون لذلك يعاونهم عدد من المحكوم عليهم الذين يحملون مؤهلات داخل المؤسسة العقابية.

292- ثالثاً : مستوى تعليم المحكوم عليهم :

يثور التساؤل حول مستوى التعليم الذي يجب أن يتلقاه المحكوم عليه. هل يجب أن يتقيد التعليم في السجون بمستوى معين لا يجوز أن يرتفع المحكوم عليه فوقه ؟ في هذا الصدد ذهب البعض إلى أن مستوى تعليم المحكوم عليه يجب أن يقف عند الحد الذي هو عليه في بيئته الطبيعية قبل دخوله المؤسسة العقابية ؛ كي لا يشعر المحكوم عليه أنه أصبح أعلى تعليماً وثقافةً من مستوى أبناء بيئته فيصبح من العسير اندماجه فيهم حين الإفراج عنه. والواقع أن هذا الرأي تعوزه الدقة ذلك لأن المحكوم عليه إذا ارتفع مستوى تعليمه فإن ذلك يعزز من مكانته في البيئة التي كان يعيش فيها ويحظى باحترام لم يكن يحظى به من قبل. وحتى لو لم يستطع الاندماج في بيئته فإنه يستطيع الاندماج في بيئة أرفع مستوى وأكثر استقامة. وعلى ذلك فلا يجوز الوقوف عند حد معين من التعليم في المؤسسة العقابية ، وذلك في حدود الإمكانيات المتاحة للمؤسسة العقابية. فقد تسمح قدرات المؤسسة بتيسير التعليم الجامعي والدراسات العليا للمحكوم عليهم عن طريق المراسلة أو الانتساب . وإلى هذا ألمح المشرع المصري حينما أوجب في المادة 31 من قانون تنظيم السجون على إدارة السجن أن تشجع المسجونين على الإطلاع والتعليم وأن تيسر الاستذكار للمسجونين الذين على درجة من الثقافة ولديهم الرغبة في مواصلة الدراسة وأن تسمح لهم بتأدية الامتحانات الخاصة بهم في مقار اللجان . على أنه لا يجب أن يقل مستوى التعليم في السجون عن الحد الذي يستلزمه محو أمية المحكوم عليه ، أو ما يسمى بالتعليم الأولي. ويجب أن يكون هذا التعليم إلزامياً (البند 77 من قواعد الحد الأدنى). وتنفيذا لهذا صدر القرار الوزاري رقم 1026 لسنة 1972 بشأن منهج تعليم وتثقيف المسجونين والذي جاء وفقاً لما جاء بمناهج وزارة التربية والتعليم تنفيذاً للقانون رقم 67 لسنة 1970 في شأن تعليم الكبار ومحو الأمية. ووفقاً لهذا قسم المشرع المصري التعليم العام في السجون المصرية إلى مستويين هما المستوى الأساسي الإجباري والمستوى الاختياري. ويجري الامتحان لمنهج المستوي بمعرفة إدارة التعليم والوعظ بمصلحة السجون وتقوم إدارة المؤسسة العقابية بتنفيذ منهج التعليم بمستوييه. وتشترط المادة 58 من قانون تنظيم السجون والمادة 1137 من دليل العمل بالسجون فيمن يلحق بمدرسة السجن وهي :
*- ألا يزيد سن المحكوم عليه على 45 سنه.
*- ألا تقل المدة الباقية من حكمه عن ستة أشهر.
*- ألا يكون مصاباً بعاهة عقلية أو جسمية تمنعه من التعليم.
كما يجب على الإدارة العقابية أن تيسر سبل التعليم الفني Formation technique ou professionnelle للمحكوم عليهم من أجل المعاونة على تأهيلهم مهنياً ومن أجل مساعدتهم على الكسب الحلال بعد انقضاء مدة العقوبة. وعلى هذا أكدت المادة 71/5 من قواعد الحد الأدنى بقولها "يوفر تدريب مهني نافع للسجناء القادرين على الانتفاع به".
وينظم التعليم الفني بالمؤسسات العقابية المصرية القانون رقم 75 لسنة 1970 في شأن التعليم الفني. وينقسم هذا التعليم إلى تعليم فني صناعي وزراعي وتجاري. ويشترط لالتحاق المحكوم عليه بهذا النوع من التعليم عدة شروط منها:
*- أن يكون الطالب حاصل على الإعدادية أو ما يعادلها.
*- ألا يزيد سن الطالب على ثماني عشر سنه .

293- رابعاً : وسائل تعليم المحكوم عليهم :

294- أ: المكتبة :

تعد المكتبة La librairie من أهم وسائل التعليم داخل المؤسسة العقابية ؛ ففيها يجد المحكوم عليه السبيل لاستكمال ثقافته ورفع الملل المصاحب لسلب الحرية. ويجب أن تعد المكتبة وتنتقي كتبها حتى يكون لها التأثير الذي تقتضيه اعتبارات التأهيل. ومن الملائم تخصيص أوقات للقراء في المكتبة تحت إشراف الإدارة العقابية ، مع إتاحة الفرصة للنزلاء باستعارة الكتب لقراءتها في محبسهم .
وقد اعترف النظام العقابي المصري بأهمية مكتبه السجن ، فأوجب بالمادة 30 من قانون تنظيم السجون أن تنشأ في كل سجن مكتبة للمسجونين تحوي كتباً دينية وعلمية وأخلاقية تشجع المسجونين على الانتفاع بها في أوقات فراغهم. وتردد ذات الأمر المادة 40 من قواعد الحد الأدنى بقولها "يزود كل سجن بمكتبة مخصصة لمختلف فئات السجناء تضم قدراً وافياً من الكتب الترفيهية والتثقيفية على السواء ، ويشجع السجناء على الإفادة منها إلى أبعد حد ممكن".

295- ب : الصحف :

تعد الصحف Les journaux من وسائل التعليم غير المباشر. ويتجه الرأي الغالب في الفقه إلى إجازة دخول الصحف العامة إلى المؤسسة العقابية. والحجة في ذلك هي الإبقاء على الصلة بين المحكوم عليه والمجتمع الخارجي. فضلاً عن ذلك فإن الحق في العلم هو حق لكل شخص باعتباره إنساناً ، ومن ثم ينبغي أن يظل للمحكوم عليه هذا الحق لا تجرده العقوبة منه. وإلى هذا أشارت المادة 30 من قانون تنظيم السجون بقولها " يجوز للمسجونين أن يستحضروا على نفقتهم الكتب والصحف من جرائد ومجلات وذلك وفق ما تقرره اللائحة الداخلية" .
كما يتجه الرأي الراجح في الفقه إلى تحبيذ إصدار صحيفة خاصة بالمؤسسة العقابية ، يتولى تحريرها السجناء بأنفسهم تحت إشراف الإدارة العقابية ، باعتبار أن ذلك يمثل نافذة لهذه الأخيرة على مشاكل وميول المحكوم عليهم .
المطلب السادس

تهذيب المحكوم عليه

296- تقسيم :
لا يكتمل للتعليم - كأحد أساليب المعاملة العقابية الداخلية - دوره في التأهيل إلا بالاهتمام بتهذيب المحكوم عليهم L'éducation des détenus. فالتعليم والتهذيب وجهان لعملة واحدة ولا يقوم أحدهما بدون الأخر. والتهذيب نوعان : إما تهذيب ديني وإما تهذيب خلقي. 

297- أولاً : التهذيب الديني :

لقد عرف التهذيب الديني L'éducation religieuse أول ما عرف مع النشأة الأولى للسجون. فقد كان رجال الدين المسيحي يقومون بزيارة السجون لحض النزلاء على الندم والتوبة والتقرب إلى الله. فالقائمين على الإدارة العقابية في ذاك الوقت كانوا من رجال الدين . ورغم إسناد مهمة الإدارة العقابية حالياً في غالبية التشريعات إلى المدنيين إلا أنه يظل رغم ذلك لرجال الدين دور كبير في تهذيب وتأهيل المحكوم عليهم. إذ تستعين بهم المؤسسات العقابية في تنمية الوازع الديني لدى المذنبين ، الذين يكون أكثر تضرعاً إلى الله وهم في مرحلة سلب الحرية أكثر مما كانوا عليه قبلها ؛ مما يسهل عملية التأهيل وكبح جماح عوامل الجريمة المتأصلة في النفس. وقد أكدت على هذه الأهمية المادة 42 من قواعد الحد الأدنى بقولها "يجب أن يسمح لكل مسجون بإشباع متطلبات حياته الدينية على قدر المستطاع عملياً وذلك عن طريق حضور الخدمات الدنية التي تنظم في المؤسسة وحيازته لكتب التعليم والإرشاد الديني الخاصة بمذهبه".
ولحسن أداء الوظيفة التهذيبية يتعين اختيار رجل الدين بعناية فائقة. فيجب أن يكون على علم بقواعد دينه ، ويقتضي ذلك حصوله على مؤهل دراسي يثبت ذلك. ويفضل أن يلحق رجل الدين قبل أداءه لمهامه داخل المؤسسة العقابية بدورات تدريبية للتعرف على مجتمع السجن وطبيعة المشاكل التي تواجه المسجون داخلة وعلى الدوافع المختلفة للجريمة. يضاف إلى ذلك ضرورة اختيار رجل الدين ممن يعرف عنه صلاح السلوك ونزوعه للاهتمام بمشاكل الآخرين والرغبة في المساعدة على حلها (م21 من اللائحة الداخلية) .
ويناط برجال الدين العاملين بالمؤسسات العقابية إدارة الشعائر الدينية وإلقاء المحاضرات والوعظ والإفتاء. ويمكن لرجل الدين – بعد موافقة الإدارة العقابية - أن يقوم بتنظيم مناقشات جماعية لإتاحة الفرصة أمام المحكوم عليهم لعرض استفساراتهم وبيان حكم الدين فيها. وعليه أن يجتمع بالمحكوم عليه الذي يطلب ذلك أو يقدر رجل الدين أنه في حاجة إلى هذا الاجتماع . وتوجب المادة 32 من قانون السجون أن يكون لكل ليمان أو سجن عمومي واعظ أو أكثر لترغيب المسجونين في الفضيلة وحثهم على أداء الفرائض الدينية . وتلزم المادة 21 من اللائحة الداخلية للسجون الواعظ بأن "يزور كل مسجون يغلب عليه الشذوذ وعدم الاستقامة باذلاً جهده في إصلاحه".

298- ثانياً : التهذيب الخلقي :

يقصد بالتهذيب الخلقي L'éducation moralisatrice بث الفضيلة الأخلاقية والقيم السامية في نفس المحكوم عليه. وتبرز أهمية التهذيب الخلقي في محاولة التغلب على القيم الفاسدة التي دفعت النزيل إلى السلوك الإجرامي ، وإبدالها بقيم ومثل أخلاقية قويمة. ولكي يؤدي التهذيب الخلقي دوره المنشود يجب أن يكون القائمون عليه ممن تتوافر لديهم معرفة خاصة بقواعد علم النفس والاجتماع والأخلاق والقانون والعلوم الاجتماعية بصفة عامة ، حتى يمكنهم فهم شخصية المحكوم عليه واكتساب ثقته وتوجيهه في تصرفاته بما يتفق ومعايير السلوك العام في المجتمع . ولا شك أن أيسر السبل لتحقيق أغراض التهذيب الخلقي هي اللقاء الفردي بين الأخصائي الاجتماعي والمحكوم عليه ؛ حيث يتاح للأخصائي التعرف على شخصية النزيل الذي يتقابل معه ، ويسهل عليه مناقشته وإقناعه بعدم سلامة أفكاره ومسار معتقداته وقيمه التي دفعته إلى سلوك الجريمة. ويمكن من أجل بلوغ هذا التهذيب أن تعقد مناقشات جماعية يحضرها الأخصائي ويقوم بمناقشة موضوع معين مع النزلاء وسماع وجهة نظرهم فيه .
المطلب السابع

الجزاءات التأديبية والمكافأت

299- تمهيد :
يستمد نظام الجزاءات التأديبية والمكافآت Sanctions disciplinaires et récompenses أهميته من وجوب سيادة النظام في المؤسسة العقابية كوسط تتعاظم فيه احتمالات التمرد بالنظر إلى طبيعة الأشخاص الذين يجمعهم هذا المكان. وإذا عدت الجزاءات التأديبية هي الوسيلة الأصلية لتدعيم النظام في المؤسسات العقابية ، فإن ثمة وسيلة أخرى أثبتت فعاليتها هي وسيلة المكافأة التي تمنح للمحكوم عليه عن حسن سلوكه. وكلاً من الوسيلتين السابقتين تعتمدان على شعورين إنسانيين هما الخوف والأمل. فالجزاءات التأديبية تستغل الخوف من الإيلام وفقد المزايا ، أما المكافآت فتستغل الطموح والأمل في الحصول على المزايا والتطلع إلى أسلوب أفضل للمعيشة داخل المؤسسة العقابية .

300- أولاً : الجزاءات التأديبية:

يستوجب الخروج على النظام الداخلي للمؤسسة العقابية فرض عدد من الجزارات التأديبية Sanctions disciplinaires تمثل في جوهرها إيلام إضافي يكمل الإيلام الناشئ عن سلب الحرية. وهذا الإيلام يستهدف بصفة أساسية المساهمة في تهذيب وتأهيل المحكوم عليه. لذا فقد بدأت تتجرد هذه الجزاءات حديثاً من طابع الانتقام وتتصف بالاعتدال . ويعلل هذا التطور بالحرص على صيانة قدرات المحكوم عليه البدنية والنفسية وصيانة كرامته وكون المغالاة في الجزاء التأديبي قد يعرقل جهود التأهيل بما يتركه من عداوة بين المحكوم عليه والإدارة العقابية. ويتجه النظام العقابي المصري إلى حصر المخالفات التأديبية في السجن. وهذه تبدأ من عدم الطاعة إلى إحداث حريق عمداً بالسجن أو إثبات أمراً مخالف لنظام السجن أو مخل بأمنه. وإذا شكل الفعل الواحد الذي يرتكبه النزيل جريمة تأديبية وجريمة جنائية في ذات الوقت كالتعدي على أ حد حراس أو أحد الزملاء أو سرقة كمال مملوك للغير فإن المادة 78 من قانون تنظيم السجون ألزمت مدير السجن أو مأموره بإبلاغ النيابة العامة عن كل جناية تقع من المسجونين أو عليهم وعن الجنح التي تقع منهم أو عليهم إذا كانت خطيرة أو كانت ظروف المهنة من شأنها أن تجعل الجزاء لتأديبي غير كاف.
وقد حددت المادة 43 من قانون تنظيم السجون الجزاءات التأديبية التي يمكن أن توقع على النزيل عند ارتكابه لمخالفة تأديبية في : الإنذار ، أو الحرمان من كل أو بعض الامتيازات المقررة لدرجة المسجون أو فئته لمدة لا تقل عن ثلاثين يوماً ، أو تأخير نقل المسجون إلى درجة أعلى من درجته ، أو تنزيل المسجون إلى درجة أقل من درجته ، أو الحبس الانفرادي لمدة لا تزيد عن خمسة عشر يوماً ، أو وضع المحكوم عليه بغرفة التأديب المخصوصة التي تعنيها اللائحة الداخلية لمدة لا تزيد عن ستة أشهر. وللمحكوم عليه – شأنه شأن الإنسان العادي – الحق في محاكمة عادلة عند مسائلته تأديبياً وفق المتعارف عليه في المحاكمات الجنائية. فله الحق في العلم بالتهمة (م44/4 من قانون السجون) والحق في الدفاع (م30/2 من قواعد الحد الأدنى) وما يتفرع عنه كحقه في الاستعانة بمحام ومناقشة الشهود . ونرى استكمالاً لأوجه المحاكمة العادلة في المجال التأديبي داخل السجون أن يجري التأديب بمعرفة قضاة متخصصين وليس من قبل مجالس تأديب خاصة مشكلة من ضباط السجن إعمالاً للمادة 68 من الدستور التي تقضي "بأن لكل مواطن الحق في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي" ؛ دون أن تفرق في ذلك بين مسجون وشخص عادي أو بين محاكمة جنائية وغيرها من المحاكمات.

301- ثانياً : المكافآت :

تعد المكافآت Récompenses أحد الوسائل الهامة في المحافظة على النظام الداخلي للمؤسسة العقابية ؛ فضلاً عن كونها وسيلة لتشجيع المحكوم عليه على انتهاج السلوك القويم. ومن ثم يمكن اعتبارها في ذاتها نظاماً تهذيبياً يفوق الدور النوط بالجزاءات لتأديبية في هذا الصدد . وتتخذ المكافآت صور متعددة من أهمها السماح بزيادة المراسلات والزيارات العائلية وزيادة الوجبات الغذائية ، وتغيير نظام الزيارة بحيث لا توجد فواصل بين النزيل وزواره. ومنها أيضاً السماح للمحكوم عليه بالاشتراك في الأنشطة الترفيهية على نحو مكثف أو إطالة مدة النزهة اليومية ، أو التخفيف في العمل وتغييره. وقد تأخذ المكافأة صورة المنح المالية التي يكون لها قيمة معنوية كبيرة وتبث الثقة في نفس المحكوم عليه وتدفع أقرانه بالمؤسسة للإقتداء به. ومن أمثلة المكافآت في النظام العقابي المصري السماح بنقل المحكوم عليه من درجة إلى أخرى داخل السجن أو منحه – وفق شروط معينة - إفراجاً شرطياً قبل انتهاء مدة العقوبة.
المبحث الثاني

أساليب المعاملة العقابية الخارجية

302- تمهيد وتقسيم :
لا تقتصر المعاملة العقابية على ما تطبقه الإدارة العقابية من أساليب داخل السجون ، وإنما تمتد هذه المعاملة إلى ما تأخذ به التشريعات المعاصرة من نظم تطبق في الوسط الحرMilieu libre خارج المؤسسة العقابية. ولقد سبق لنا من قبل استعراض بعض هذه النظم في معرض الحديث عن بدائل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة ، كنظام الوضع تحت الاختبار وإيقاف التنفيذ مع الوضع تحت الاختبار والإعفاء من العقوبة وتأجيل النطق بها ونظام شبه الحرية. لأجل هذا سوف يقتصر حديثنا في هذا المبحث على بعض أساليب المعاملة العقابية الخارجية الأخرى ، كنظام الإفراج تحت شرط (الإفراج الشرطي) ، الذي لا يتطلب سلب الحرية وإنما مجرد تقيدها ، ونظام الرعاية اللاحقة للمفرج عنهم.
المطلب الأول

الإفراج تحت شرط

303- أولاً : مضمون الإفراج تحت شرط وحكمته :

الإفراج تحت شرط - أو الإفراج الشرطي La libération conditionnelle - أحد أساليب المعاملة العقابية بمقتضاه يفرج عن المحكوم عليه بعقوبة سالبة للحرية قبل انقضاء مدتها وذلك لفترة معينة للتأكد من حسن سلوكه واستقامته. فإذا انقضت تلك المدة دون أن يخل المفرج عنه بشروط الإفراج صار هذا الإفراج نهائياً ، أما إذا ثبت خروجه على تلك الشروط أعيد من أفرج عنه مرة أخري للمؤسسة العقابية لاستكمال مدة العقوبة السالبة للحرية .
وقد ظهرت الدعوة لهذا النظام على يد القاضي دي مارساني De Marsangy في منتصف القرن التاسع عشر ، وأخذ به المشرع الفرنسي لأول مرة بالقانون الصادر في 4 أغسطس 1885 ، ومنه انتقل النظام إلى دول أخرى في أوروبا وخارجها. ولا شك أن الأخذ بهذا الطريق من طرق المعاملة العقابية قد جاء على أثر التطور الذي شهدته العقوبة وغلبة دورها في التأهيل على وظيفتها في تحقيق العدالة والردع العام. فإذا كانت اعتبارات العدالة والردع العام توجب أن تحدد مدة العقوبة السالبة للحرية بحيث تتناسب مع الجسامة الموضوعية والشخصية للجريمة ، فإن اعتبارات التأهيل توجب ألا تطول هذه المدة إلى ما يجاوز المدى المتطلب لتحقيق هذا التأهيل. فإن جاوزت العقوبة تلك المدة وجب اختصارها عن طريق الإفراج المؤقت عن المحكوم عليه، على أن يخضع هذا الأخير خلال فترة الإفراج إلى عدد من الشروط والالتزامات تمهد – إن التزم بها – للإفراج النهائي عنه . فالسياسة العقابية الحديثة – التي تعلي من الوظيفة التأهيلية للعقوبة – تسلم بوجوب أن يسبق كل إفراج نهائي إفراج مؤقت حتى يمكن التأكد من اندماج المحكوم عليه من جديد في مجتمعة وأنه صار يسلك طريقاً سوياً في الحياة.
وتبدو الحكمة من هذا النظام جلية واضحة والتي تتمثل في تشجيع المحكوم عليه على سلوك مسكاً قويماً خلال مدة تنفيذ العقوبة كي يتسنى له الاستفادة من نظام الإفراج تحت شرط. كما يهدف هذا النظام إلى التدرج بمعاملة المحكوم عليه من مرحلة سلب الحرية الكاملة إلى مرحلة تقيد الحرية بالإفراج المؤقت عنه تمهيداً للإفراج النهائي عنه فيتجنب بذلك مساوئ الإفراج المفاجئ عنه.

304- ثانياً : شروط الإفراج تحت شرط :

يبين من مطالعة المواد من 52 إلى 64 التي يضمها الفصل الحادي عشر من قانون تنظيم السجون أن المشرع المصري قد وضع عدة شروط لتقرير الإفراج الشرطي عن المحكوم عليه . وبعض تلك الشروط يتعلق إما بالمحكوم عليه ، وإما بمدة العقوبة ، وإما بالالتزامات المالية في ذمة المحكوم عليه ، وإما بمقتضيات الأمن العام. ولا يتطلب المشرع شروطاً متعلقة بالجريمة أو بالعقوبة. فكل محكوم عليه من أجل جريمة أياً كانت – جناية أو جنحة - ، وبأية عقوبة سالبة للحرية – سجن مؤبد أو سجن مشدد أو سجن أو حبس - يمكن أن يمنح الإفراج الشرطي.
فتوجب المادة 52 من قانون السجون أن يكون سلوك المحكوم عليه خلال مدة وجودة في السجن يدعو إلى الثقة لتقويم نفسه. وهكذا يكون الإفراج الشرطي مكافأة للمحكوم علية على سلوكه القويم أثناء مدة تنفيذ العقوبة السالبة للحرية. ويقصد بحسن السلوك هنا أن ينبئ وضع المحكوم عليه في المؤسسة عن احتمالية استمراره هكذا أثناء الإفراج المؤقت عنه. فتقدير سلوك المحكوم عليه يجب أن يكون متجهاً نحو المستقبل .
ومن حيث مدة العقوبة توجب المادة سالفة الذكر أن يمضي المحكوم عليه ثلاثة أرباع مدة العقوبة المحكوم بها بما لا يقل عن تسعة أشهر. كما يجب أن لا تقل المدة اللازمة للإفراج الشرطي عن عقوبة السجن المؤبد عن عشرين سنة. والحكمة من اشتراط حد أدنى للعقوبة مقداره تسعة أشهر لتقرير الإفراج الشرطي هو استبعاد هذا النظام في حالة الحكم بعقوبة قصيرة المدة ؛ لأن ابتسار العقوبة أقل من ذلك يصعب معه تحقيق أغراضها ويصعب معه كذلك تقدير الجدارة بالإفراج. أما علة اشتراط مرور عشرين سنة من بدء تنفيذ عقوبة السجن المؤبد لتقرير الاستفادة من الإفراج الشرطي فيعود إلى كونها في الأصل غير محددة المدة وتستغرق حياة المحكوم عليه فوجب أن يحدد لها المشرع قدراً جزافياً يرتبط غالباً بالمدة التي ينتظر أن تمتد خلالها حياة الشخص متوسط العمر .
ولا مشكلة في حساب المدة إذا كانت العقوبة واحدة. أما إذا تعددت العقوبات ، فإن المادة 54 من قانون تنظيم السجون تنص على أنه إذا تعددت العقوبات المحكوم بها لجرائم وقعت قبل دخول المحكوم عليه السجن يكون الإفراج على أساس مجموع مدد هذه العقوبات. فإذا كانت العقوبات من نوع واحد ضمت مددها وتعين أن يمضي المحكوم عليه ثلاثة أرباع المدد مجتمعة. أما إذا كانت العقوبات من أنواع مختلفة ضمت مددها وتعين البدء في استفاء ثلاثة أرباعها من أشد العقوبات المحكوم بها ثم من العقوبة التي تليها شدة. ويترتب على هذا الضم أنه إذا كانت مدة إحدى العقوبات أقل من تسعة أشهر بحيث لا يجوز تقرير الإفراج الشرطي بشأنها ، فإنه بضم مدة هذه العقوبة إلى مدد عقوبات أخرى قد تزيد مدتها على تسعة أشهر ويكون الإفراج الشرطي حينئذ ممكناً ، شريطة أن تكون تلك العقوبات قد حكم بها قبل دخول المؤسسة العقابيةً .
وتنص المادة 54 من قانون تنظيم السجون في فقرتها الثانية على أنه "إذا ارتكب المحكوم عليه أثناء وجوده في السجن جريمة فيكون الإفراج على أساس المدة الباقية عليه وقت ارتكاب هذه الجريمة مضافاً إليها مدة العقوبة المحكوم بها عليه من أجل ارتكابها".
وتقضي المادة 55 من قانون تنظيم السجون في فقرتها الأولى على أنه "إذا كان المحكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية قد قضى في الحبس الاحتياطي مدة واجباً خصمها من مدة العقوبة فيكون الإفراج عنه تحت شرط على أساس كل المدة المحكوم بها".
وتتطلب المادة 52 أيضاً ألا يكون في الإفراج عن المحكوم عليه خطورة على الأمن العام. ونرى أنه ليس هناك ارتباط بين حسن سلوك الشخص المزمع الإفراج عنه وبين تأثيره على الأمن العام. فقد يكون سلوك المحكوم عليه حسناً داخل المؤسسة العقابية إلا أن خروجه يشكل خطورة معينة على الوسط الخارجي ، كأن يترتب على خروج النزيل تجديد النزاع بين أسرته وأسرة المجني عليه. ويترك للسلطة العامة أمر تقدير تلك الخطورة بلا معقب عليها ، الأمر الذي قد يكشف عن بعض صور التعسف في منح الإفراج الشرطي بحجة المساس بالأمن.
وأخيراً تستوجب المادة 56 من قانون تنظيم السجون لمنح الإفراج الشرطي أن يكون المحكوم عليه قد أوفى بالالتزامات المالية المحكوم بها عليه من المحكمة الجنائية في الجريمة وذلك ما لم يكن من المستحيل الوفاء بها. وعلة تطلب ذلك أن عدم وفاء المحكوم عليه بتلك الالتزامات – رغم استطاعته - يكشف عن عدم ندمه على جريمته وعدم جدارته بالإفراج ، والعكس إن هو أوفى. كما أن عدم الوفاء قد يعزز من المخاطر التي تهدد الأمن العام إذا ما أفرج عن المحكوم عليه فيسقط بذلك أحد الشروط المتطلبة لتقرير الإفراج.
والالتزامات التي يتعين الوفاء بها هي الغرامة والتعويضات والمصاريف المقضي بها فقط من المحكمة الجنائية دون المحكمة الجنائية. ونرى أن الوفاء بتلك المبالغ واجب حتى ولو كانت ناشئة عن جريمة غير التي دخل بسببها المؤسسة العقابية.

305- ثالثاً : طبيعة الإفراج تحت شرط :

تتعدد طبيعة الإفراج لشرطي وفقاً للغرض المرجو منه : فيمكن اعتباره منحة ومكافأة للمحكوم عليه على حسن سلوكه داخل المؤسسة العقابية ، كما يمكن اعتباره مرحلة من مراحل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية حين يكون من الملائم إخضاع المفرج عنه لعدد من الالتزامات في الوسط الحر للتحقق من التأهيل الذي بدت بوادره داخل المؤسسة العقابية. وأخيراً يمكن اعتبار الإفراج الشرطي تدبيراً مستقلاً للتأهيل الاجتماعي .

306- أ : الإفراج تحت شرط كمنحة :

لقد نظر إلى الإفراج الشرطي في بداية تطبيقه على أنه منحة تهذيبية الهدف منه مكافأة المحكوم عليه على حسن مسلكه أثناء تنفيذ العقوبة. وبالتالي كان قضاء المحكوم عليه فترة معينة داخل المؤسسة العقابية كافياً للإفراج عنه قبل انقضاء كل مدة العقوبة بصرف النظر عن التحقق من إصلاحه بالفعل ، ومدى توافر إمكانية التأهيل الاجتماعي .
وقد ترتب على هذه النظرة عدة نتائج منها :
*- أن حسن سلوك المحكوم عليه داخل المؤسسة العقابية يعد شرطاً جوهرياً لإمكان الإفراج عنه قبل انتهاء مدة العقوبة التي حددها الحكم. فلم يكن المزمع الإفراج عنه يخضع لأي شروط أو التزامات. وكانت الحجة التي تقال لتبرير ذلك أن التهديد بإلغاء الإفراج الشرطي إذا خالف المفرج عنه القانون بارتكابه جريمة لاحقة كافي لأن يدفعه إلى تقويم نفسه.
*- أنه لا محل لتطلب رضاء المحكوم عليه لمنح الإفراج الشرطي ، والحجة في ذلك أن الإفراج الشرطي نظام عقابي تطبقه السلطة التي يخولها القانون ذلك ، ولا محل لتدخل المحكوم عليه في تطبيق هذا النظام ، فضلاً عن أن المحكوم عليه قد يجهل الطريق الصحيح إلى تأهيله.
*- أنه لا تأثير للإفراج الشرطي على الحكم القضائي الصادر بالعقوبة ، فالمفرج عنه يعد قي الواقع في مرحلة من مراحل التنفيذ العقابي. ويستتبع ذلك أن حظر الإقامة لا يبدأ في السريان إلا بعد أن تنقضي المدة المتبقية من العقوبة المحكوم بها. كما أن الفترة التي يجوز اعتبار المتهم خلالها عائداً إذا ارتكب جريمة تالية (م49/2عقوبات) لا تبدأ من تاريخ الإفراج الشرطي ولكن من تاريخ انتهاء تنفيذ العقوبة. وكذلك فإن الحرمان من أداء الشهادة أمام المحاكم إلا على سبيل الاستدلال (م25/3عقوبات) تلحق بالمفرج عنه شرطياُ ولا تنقضي إلا إذا انتهت المدة المتبقية من العقوبة. وأخيراً فإن المدة المطلوب سريانها من أجل رد الاعتبار القضائي أو القانوني لا تبدأ إلا من يوم الانقضاء التام للعقوبة.
ولا يداخلنا الشك في أن اعتبار الإفراج تحت شرط بمثابة مكافأة للمحكوم عليه على حسن سلوكه داخل المؤسسة العقابية يعد انعكاس للأفكار الكلاسيكية في السياسة العقابية ، التي كانت تقدر العقوبة بقدر الجسامة الموضوعية للواقعة الإجرامية لا وفقاً لشخصيته مرتكبها وظروفه ؛ ولم تكن ترى في العقوبة إلا وسيلة للردع العام وإرضاء العدالة لا وسيلة للتأهيل والإصلاح. وبالجملة كانت النظرة إلى العقوبة على أنها سداد لدين أخلاقي يدين به المجرم نحو المجتمع بارتكاب جريمته. تلك النظرة التي نأسف لاستمرارها في التشريع المصري إلى الآن.

307- ب : الإفراج تحت شرط كمرحلة للتنفيذ العقابي :

لقد تطور الإفراج الشرطي في ظل السياسة العقابية الحديثة إلى أن أصبح وسيلة تفريد للمعاملة التهذيبية للمحكوم عليهم. ولقد كان المشرع الفرنسي سباقاً في ذلك بإصداره مرسوماً في أول إبريل من عام 1952 حدد فيه الشروط الخاصة التي يمكن أن يخضع لها المفرج عنه شرطياًُ ونص لأول مرة على لجان مساعدة المفرج عنه شرطياًُ. وبذلك أقر هذا المرسوم الدور التهذيبي لنظام الإفراج الشرطي.
وقد ترتب على هذه النظرة عدة نتائج منها :
*- وجوب ارتباط الإفراج الشرطي برضاء المحكوم عليه. وعلة ذلك أن هذا النظام أصبح يهدف إلى التأهيل والتقويم ، الأمر الذي لا يتحقق إلا إذا توافرت بالفعل لدى المحكوم عليه الإرادة الكاملة للاستفادة من المعاملة العقابية التي ينطوي عليها هذا النظام.
*- وجوب خضوع المفرج عنه لتدابير رقابة وإشراف ومساعدة التي تكفل تحقيق التأهيل الاجتماعي للمفرج عنه. وينبغي أن تكون مدة الإفراج الشرطي مناسبة بحيث تسمح بمتابعة جهود إعادة التأهيل والإصلاح عن طريق تلك التدابير.
وبالرغم من أن الإفراج لشرطي أصبح ذا مضمون تربوي وتهذيبي إلا أنه لم يقم بما كان مرجواً منه في تأهيل وإصلاح المحكوم عليهم ، وذلك يعود بصفة أساسية إلى استمرار ارتباط الإفراج الشرطي بالعقوبة المحكوم بها. والدليل على ذلك أن مدة الإفراج الشرطي والالتزامات الخاصة التي يمكن أن يخضع لها المفرج عنه كانت تستمد تحديدها من حكم الإدانة ، وكذلك فإن تدابير الرقابة والإشراف كانت تنتهي بانقضاء مدة العقوبة المحكوم بها ، حتى ولم يكن قد تحقق تأهيل وإصلاح المفرج عنه ، وهو ما يحدث في الغالب عندما تكون مدة الإفراج الشرطي قصيرة جداً. وكذلك فإن الجزاء الذي كان يوقع على المفرج عنه عند مخالفته للالتزامات والقيود التي تفرض عليه كان مستمد أيضاً من حكم الإدانة. فهذا الجزاء لم يكن إلا إلغاء الإفراج الشرطي وعودة المفرج عنه إلى المؤسسة العقابية ليستوفي المدة المتبقية من العقوبة.

308- ج : الإفراج تحت شرط كتدبير مستقل للتأهيل الاجتماعي :

كانت لأفكار مدرسة الدفاع الاجتماعي الفضل في التنبيه إلى ضرورة فصم الصلة التي تربط الإفراج الشرطي بالعقوبة ، بحيث ينظر إلى الإفراج الشرطي كتدبير مستقل لتأهيل والإصلاح الاجتماعي ، ولم يعد ينظر إليه كأسلوب لتنفيذ العقوبة.
ولقد قطع المشرع الفرنسي في هذا السبيل شوطاً كبيراً بعد التعديلات التي أدخلها في قانون الإجراءات الجنائية سنة 1958 على نظام الإفراج الشرطي. فقد سمح المشرع الفرنسي بأن تتجاوز مدة الإفراج الشرطي مدة العقوبة المحددة في الحكم ، حيث أجازت المادة 732 من قانون الإجراءات الفرنسي للوزير المختص إطالة تدابير المساعدة والرقابة إلى ما بعد انقضاء العقوبة المحكوم بها ، لمدة لا تزيد عن سنة. وتظهر فائدة هذا النص عندما لا تكون مدة الإفراج الشرطي كافية لاستفادة المفرج عنهم من برامج التأهيل والإصلاح .
كما جعل المشرع الفرنسي تدبير حظر الإقامة يسري من تاريخ الإفراج الشرطي وليس عقب انقضاء تنفيذ العقوبة الملحق بها. كما تبدأ المدة التي يتعين انقضائها لرد الاعتبار من تاريخ الإفراج الشرطي إلا إذا كان المفرج عنه عائد فإن المدة تسري من تاريخ تمام تنفيذ .
وقد أوجب المشرع الفرنسي خضوع المفرج عنهم إفراجاً شرطياً لعدد من تدابير الرقابة والمساعدة يحددها قاضي تطبيق العقوبات ويشرف على تنفيذها. ومثال ذلك الإلزام بالإقامة في مركز إيواء أو استقبال يعد للمفرج عنهم ، أو حظر التردد على بعض الأشخاص أوالأماكن ، أو الامتناع عن ممارسة بعض المهن التي تسهل للمفرج عنه ارتكاب الجريمة ، أو الإلزام بالخضوع لعلاج طبي معين.

309- رابعاً : السلطة المختصة بالإفراج تحت شرط :

لا تنهج التشريعات نهجاً واحداً في تحديد السلطة المختصة بتقرير الإفراج الشرطي. فهناك من التشريعات من أوكل هذا الأمر إلى السلطة التنفيذية ممثلة في القائمين على التنفيذ العقابي. وبهذا أخذ المشرع المصري الذي أناط الاختصاص بالإفراج الشرطي لمدير عام السجون (م53 من قانون تنظيم السجون). وأعطت المادة 63/3 من القانون الأخير للنائب العام سلطة النظر في الشكاوى التي تقدم بشأن الإفراج تحت شرط واتخاذ ما يراه كفيلاً برفع أسبابها. فللإفراج الشرطي في القانون المصري طابع إداري.
بينما ذهبت تشريعات أخرى إلى تخويل جهة قضائية الاختصاص بمنح وإلغاء الإفراج الشرطي ، سواء كانت تلك الجهة القضائية قضاء تنفيذ أو كانت قضاء حكم.
فبعض الدول ذهبت إلى تخويل قاضي متخصص بالتنفيذ سلطة إصدار قرار الإفراج الشرطي. مثال ذلك قانون الإجراءات الجنائية البرازيلي الذي أعطى هذا الاختصاص إلى قاضي تنفيذ العقوبات بناء على اقتراح المجلس العقابي أو طلب المحكوم عليه ، وبعد أخذ رأي النيابة العامة . وفي ألمانيا نص قانون محاكم الأحداث على اختصاص القاضي الذي يقع عليه عبء الإشراف على تنفيذ العقوبات بإصدار قرار منح الإفراج الشرطي بالنسبة للمحكوم عليهم الأحداث (المادتان 88 ، 89 من قانون محاكم الأحداث) .
وهناك من التشريعات من لم يخول قاضي التنفيذ سوى سلطة إبداء الرأي بمنح الإفراج الشرطي مع جعل سلطة إصدار القرار في يد الإدارة العقابية. وهذا ما ذهب إليه المشرع الإيطالي بالنسبة لقاضي الإشراف (م.176 عقوبات إيطالي – م.144 إجراءات جنائية. وأخذ به أيضاً المشرع الجزائري (م180 وما بعدها من قانون تنظيم السجون) .
وكان التشريع الفرنسي يخول في السابق قاضي تنفيذ العقوبات حق تقرير الإفراج الشرطي إذا لم تتجاوز مدة العقوبة السالبة للحرية المحكوم بها ثلاث سنوات (م. 730 إجراءات جنائية المعدلة بالقانون رقم 72-1226 الصادر في 29 ديسمبر 1972) ، فإذا ذادت المدة المحكوم بها عن ذلك فكان يرفع الأمر إلى وزير العدل ، الذي له سلطة إصدار الأمر بالإفراج الشرطي بعد أخذ رأي اللجنة الاستشارية للإفراج الشرطي في وزارة العدل .
وبصدور القانون رقم 516-2000 الصادر في 15 يونيو 2000 ، والمسمى قانون تدعيم قرينة البراءة La loi renforçant la présomption d'innocence المعدل للكثير من النصوص الواردة في قانون الإجراءات الجنائية ، حرص المشرع الفرنسي على تأكيد الطبيعة القضائية للإفراج الشرطي. فقد جعل تقرير الإفراج الشرطي أو إلغاءه من اختصاص قاضي تطبيق العقوبات إذا كانت العقوبة السالبة للحرية المنطوق بها أقل من عشر سنوات ، أو إذا كانت المدة المتبقية منها أقل من ثلاث سنوات (م. 722-1 مضافة بقانون الإجراءات الجنائية) ؛ وفي غير هاتين الحالتين تختص المحكمة الإقليمية للإفراج الشرطي Juridiction régionale - كجهة قضائية بديلة عما كان مخولاً في السابق من سلطة لوزير العدل - بطلبات منح أو إلغاء الإفراج الشرطي.
وتلك المحكمة الإقليمية تنشأ في دائرة كل محكمة استئناف ، برئاسة أحد قضاة الاستئناف وعضوية اثنين من قضاة تطبيق العقوبة. وتختص بفحص طلبات منح أو إلغاء الإفراج الشرطي المقدمة سواء من المدعي العام أو المحكوم عليه ، وتصدر حكمها مسبباً بعد مرافعة في جلسة حضورية (م. 730 فقرة 1 ، 2 معدلة إجراءات جنائية). وتقبل أحكام تلك المحكمة الطعن عليها بالاستئناف خلال عشرة أيام من تاريخ الإعلان بالحكم أمام المحكمة الوطنية للإفراج الشرطي Juridiction nationale ، المشكلة برئاسة رئيس محكمة النقض أو أحد مستشاري النقض وعضوية اثنين من قضاة النقض ، وممثل عن الجمعيات الوطنية لاندماج المحكوم عليهم وممثل عن الجمعيات الوطنية لمساعدة المجني عليهم. وهكذا يكون المشرع الفرنسي في حقيقة الأمر قد أنشأ بالقانون الجديد سالف الذكر قضاءً من درجتين متخصصاً في الإفراج الشرطي Juridiction spécialisée en matière de libération conditionnelle .
والحق أن بعض الدول وإن جعلت الاختصاص بمنح وإلغاء الإفراج الشرطي لجهة قضائية إلا أنها لم تفرد لذلك قضاءً متخصصاً ؛ بل جعلت الأمر منوط بقضاء الحكم فيها. هذا الاتجاه نجد له صدى في قانون العقوبات اليوناني حيث تختص بمنح الإفراج الشرطي محكمة الجنح التي تقع في دائرة اختصاصها المؤسسة العقابية منعقدة في غرفة المشورة (م. 10/2عقوبات). وفي بولونيا خول القانون الصادر في 29 مايو 1975 محكمة الدرجة الأولى منعقدة في غرفة المشورة الاختصاص بمنح الإفراج الشرطي . وتنفرد المجر بحكم خاص في هذا الشأن. فوفقاً لقانون عقوباتها الصادر سنة 1961 والمعمول به في أول يونيو 1962 فإن المحكمة المختصة بنظر الدعوى هي التي تقرر – بحكم نهائي غير قابل للطعن عليه إلا للخطأ في تطبيق القانون - مدى إمكانية منح الإفراج الشرطي في المستقبل من عدمه (م.39 عقوبات) .

310- خامساً : آثار الإفراج تحت شرط :

يترتب على الإفراج الشرطي تقرير الإعفاء المؤقت من تنفيذ العقوبة مدة معينة. وتلك المدة تسمى مدة الاختبار أو التجربة وتتفاوت التشريعات في تحديدها. ففي التشريع المصري فإن تلك المدة هي خمس سنوات في حالة السجن المؤبد محسوبة من تاريخ الإفراج المؤقت أو بقية مدة العقوبة في حالة العقوبات السالبة للحرية الأخرى. أما في التشريع الفرنسي فإنه وفقاً للمادة 732/2 ، 3 فإن فترة التجربة تكون هى المدة المتبقية من العقوبة إذا كانت هذه الأخيرة مؤقتة ، ويمكن زيادة تلك المدة بحد أقصى سنة. أما إن كانت العقوبة مؤبدة فإن فترة التجربة تتراوح بين خمس إلى عشر سنوات.
ولعل أهم الآثار التي يمكن أن تترتب على منح الإفراج الشرطي إمكانية إخضاع المفرج عنه لعدد من تدابير المساعدة والرقابة ولعدد من الالتزامات التي تعين على تأهيل المفرج عنه.
غير أن التشريعات قد تباينت في هذا نتيجة اختلاف كل منها في النظرة إلى الإفراج الشرطي. فالبعض من التشريعات يرى عدم فرض التزامات على المفرج عنه على اعتبار أن حسن سلوك المحكوم عليه داخل المؤسسة العقابية كافي لتوقع استمرار المحكوم عليه في احترام القانون بعد الإفراج عنه ، فضلاً على أن التهديد بإلغاء الإفراج الشرطي إذا وقعت من المفرج عنه جريمة في المستقبل كافي لأن سلوك الطريق القويم. وهذا الاتجاه يتفق مع النظرة التقليدية للإفراج الشرطي باعتباره منحة تهذيبية الهدف منه مكافأة المحكوم عليه على حسن سلوكه أثناء تنفيذ العقوبة المحكوم بها. وبهذا أخذ القانون الروماني الذي لم يفرض أي التزامات على المفرج عنه شرطياً ، سوى عدم ارتكاب جريمة جديدة قبل انتهاء المدة المتبقية من العقوبة المحكوم بها .
بيد أن المفهوم الحديث للإفراج الشرطي ، باعتباره أسلوباً للمعاملة التهذيبية في الوسط الحر يهدف إلى تأهيل المحكوم عليه اجتماعياً ، يوجب إخضاع المفرج عنه لمجموعة من الالتزامات يتعين عليه احترامها حتى لا يتعرض للإلغاء الإفراج الشرطي. وفي ظل هذا المفهوم فإن كثير من التشريعات تذهب إلى فرض التزامات على المفرج عنه شرطياً لمساعدته على التقويم والتأهيل. وداخل هذا الاتجاه تذهب بعض التشريعات - كالقانون الألماني والسويسري - إلى إخضاع المفرج عنه لذات الالتزامات التي يجوز فرضها على من يحكم عليه بالعقوبة مع إيقاف التنفيذ والوضع تحت الاختبار. بينما يفرق البعض الآخر - كالتشريع الفرنسي - بين التزامات عامة يخضع لها كل مفرج عنهم ، لا يجوز تعديلها وتشبه إلى حد كبير الالتزامات العامة التي تفرض على الخاضع للاختبار القضائي ، وبين التزامات أخرى خاصة يحددها القرار الصادر بمنح الإفراج الشرطي بالنظر إلى شخصية المفرج عنه ويكون من الجائز التعديل فيها (م 731 من قانون الإجراءات الفرنسي) .
أما بالنسبة للتشريع المصري ، فقد نصت المادة 57 من قانون تنظيم السجون على أنه "يصدر بالشروط التي يرى إلزام المفرج عنهم تحت شرط بمراعاتها قرار من وزير العدل...". وتنفيذاً لذلك صدر قرار وزير العدل في 11 يناير عام 1958 والذي فرض على المفرج عنه عدد من الالتزامات التي تهدف إلى إخضاعه لرقابة الدولة والتزامه سلوكاً يباعد بينه وبين ارتكاب الجرائم. وتتحصل تلك الالتزامات في وجوب أن يسعى المفرج عنه بصفة جدية للتعيش من عمل مشروع ، وأن يكون حسن السير والسلوك وألا يتصل بذوي السيرة السيئة ، وأن يقيم في الجهة التي يختارها ما لم تعترض جهة الإدارة وألا يغير محل إقامته بغير إخطار جهة الإدارة ، وأن يقدم نفسه مرة واحدة كل شهر لجهة الإدارة التابع لها محل إقامته .
ويعاب على خطة المشرع في تنظيمه لالتزامات الإفراج الشرطي أنها لم تقرن ذلك بتنظيم تدابير مساعدة تضمن للمحكوم عليه إمكانيات التأهيل والإصلاح وأنها وضعت بصورة مجردة بحيث لا يمكن تفريد الإفراج الشرطي بحسب شخصية المفرج عنه. بمعنى أنها جعلت كل الالتزامات من قبيل الالتزامات العامة التي تفرض على كافة المحكوم عليهم المزمع الإفراج عنهم. يضاف إلى ذلك أن المشرع المصري لم يسمح بتعديل هذه الالتزامات بما يجعلها تتفق مع التطور الذي يطرأ على شخصية المفرج عنه ومقتضيات تأهيله.

311- سادساً : إلغاء الإفراج تحت شرط :

تنتهج التشريعات فيما يتعلق بإلغاء الإفراج الشرطي أحد مذهبين ، إما تقرير الإلغاء كجزاء على مخالفة المفرج عنه شرطياً للالتزامات المفروضة عليه ، وإما تقرير الإلغاء في حالة فشل المعاملة التأهيلية التي ينطوي عليها الإفراج الشرطي في تأهيل وإصلاح المفرج عنه.
والاتجاه الأول يتطابق مع المفهوم الكلاسيكي للإفراج الشرطي كمنحة معلقة على شرط هو عدم إخلال المفرج عنه بالالتزامات المفروضة عليه في قرار الإفراج ، بحيث إذا ما تحقق الشرط ألغيت هذه المنحة (الإفراج الشرطي). وبهذا أخذ التشريع المصري إذ صرحت المادة 59 من قانون تنظيم السجون بأنه "إذا خالف المفرج عنه الشروط التي وضعت للإفراج ولم يقم بالواجبات المفروضة عليه ألغي الإفراج وأعيد إلى السجن ليستوفي المدة المتبقية من العقوبة المحكوم بها عليه. ويكون إلغاء الإفراج في هذه الحالة بأمر مدير عام السجون بناء على طلب رئيس النيابة في الجهة التي بها المفرج عنه ويجب أن يبين في الطلب الأسباب المبررة له".
وقد نصت المادة 60 من قانون تنظيم السجون على أنه "لرئيس النيابة العامة من تلقاء نفسه أو بناء على طلب المدير أو المحافظ إذا رؤي إلغاء الإفراج أن يأمر بالقبض على المفرج عنه وحبسه إلى أن يصدر مدير عام السجون قراره بشأنه ، ولا يجوز أن تزيد مدة الحبس على خمسة عشر يوماً إلا بإذن من النائب العام".
أما الاتجاه الآخر فينظر إلى إخلال المفرج عنه للالتزامات المفروضة عليه باعتباره يكشف عن أن المعاملة التأهيلية التي أنطوى عليها الإفراج الشرطي لم تنجح في تأهيل وإصلاح المفرج عنه ، مما يقتضي أن تحدد أسباب الإلغاء على نحو يسمح بتقدير شخصية المفرج عنه، وتبين مدى صلاحيته لنظام الإفراج الشرطي. وقد أخذ بهذا الاتجاه المشرع الفرنسي فأجاز إلغاء الإفراج الشرطي في حالتي سوء السلوك أو عدم الخضوع لإجراءات المساعدة والرقابة أو عدم مراعاة الالتزامات الخاصة ، أو صدور حكم جديدة بالإدانة (م733 إجراءات فرنسي) .
وتختلف إجراءات الإلغاء بحسب ما إذا كان قرار الإفراج الشرطي قد صدر من وزير العدل أم من قاضي تطبيق العقوبات. ففي الحالة الأولى يتقرر الإلغاء بمعرفة وزير العدل بناء على اقتراح قاضي تطبيق العقوبات ، وبعد أخذ رأي اللجنة الاستشارية للإفراج الشرطي. أما في الحالة الثانية فيمكن لقاضي تطبيق العقوبات إلغاء الإفراج الشرطي بعد أخذ رأي لجنة الاختبار (م733 إجراءات جنائية) . ويترتب على إلغاء الإفراج الشرطي سلب حرية المفرح عنه ، وخضوعه لذات المعاملة العقابية التي كان يخضع لها قبل الإفراج الشرطي أو معاملة عقابية أخرى وفقاً لمدى ما طرأ على سلوكه في الفترة التي أمضاها خارج المؤسسة العقابية.
ووفقاً للمادة 59 من قانون تنظيم السجون يترتب على إلغاء الإفراج الشرطي أن يمضي المحكوم عليه في المؤسسة العقابية كل الفترة المتبقية من العقوبة. ويتطابق هذا الحكم مع المفهوم التقليدي للإفراج الشرطي باعتباره منحة معلقة على شرط فاسخ هو الإخلال بالالتزامات المفروضة على المفرج عنه. أما بالنسبة للتشريع الفرنسي فقد منح السلطة صاحبة الاختصاص بإلغاء الإفراج الشرطي (وزير العدل أو قاضي تنفيذ العقوبة) حق تقدير التنفيذ الكلي أو جزء من المدة الباقية من عقوبة المحكوم عليه (م733/3 من قانون الإجراءات الجنائية).

312- سابعاً : تحول الإفراج تحت شرط إلى إفراج نهائي :

يترتب على انقضاء المدة المتبقية من العقوبة دون أن يلغى الإفراج الشرطي أن يتحول هذا الأخير إلى إفراج نهائي. فإذا ما كانت العقوبة هي السجن المؤبد فإن الإفراج يصبح نهائياً بمرور خمس سنوات من تاريخ الإفراج المؤقت (م61 من قانون تنظيم السجون). ويترتب على هذا التحول أنه لا يجوز إلغاء الإفراج وأن تنقضي الالتزامات التي كانت مفروضة على المفرج عنه. واستثناء من ذلك أجازت المادة 61 من قانون السجون في فقرتها الثانية إلغاء الإفراج رغم صيرورته نهائياً ، أي ولو انقضت المدة المتبقية من العقوبة أو مدة الخمس سنوات في حالة المحكوم عليه بعقوبة السجن المؤبد ، "إذا حكم في أي وقت على المفرج عنه في جناية ، أو جنحة من نوع الجريمة السابق الحكم عليه من أجلها يكون قد ارتكبها في خلال المدة المتبقية من العقوبة أو خلال خمس سنوات إذا كانت العقوبة بالسجن المؤبد...". وعلة هذا الاستثناء أن ارتكاب المفرج عنه لجناية أو جنحة خلال مدة الإفراج يدل على عدو جدارته به. فإذا كان أمر تلك الجناية أو الجنحة ظل خفياً لحين أن أصبح الإفراج نهائياً فيكون المفرج عنه قد تحصل على الإفراج بطريق الغش مما يجيز إلغاءه.
والواضح من المادة 61 أن المشرع يتطلب أن يرتكب المفرج عنه جناية أياً كان نوعها ولو لم تكن هذه الجناية من نوع الجريمة الأولى. فإذا كان ما ارتكبه المفرج عنه مجرد جنحة وجب أن تتماثل تماثلاً حقيقياً مع الجريمة الأولى جناية كانت أم جنحة. ومثال ذلك أن يرتكب المفرج عنه جنحة سرقة صيرورة الإفراج نهائياً وكان قد سبق الحكم عليه من أجل جناية أو جنحة سرقة. على أنه يشترط أن تكون هذه الجريمة قد وقعت خلال مدة الإفراج ولو لم يصدر فيها حكم إلا بعد صيرورة الإفراج نهائياً. فإذا وقعت الجريمة بعد تلك المدة فلا يجوز إلغاء الإفراج.
ويشترط في جميع الأحوال أن يصدر الأمر بالإلغاء خلال خمس سنوات من تاريخ الحكم الصادر في الجريمة الثانية ولو كان ذلك بعد صيرورة الإفراج نهائياً.
ومن الجدير بالذكر أن إلغاء الإفراج الشرطي لا يمنع من إمكان تقريره مرة أو مرات أخرى إذا تبين أن سلوك المحكوم عنه قد تحسن سلوكه إلى حد لم يعد معه محتاجاً إلى المعاملة العقابية التي تطبق في داخل المؤسسة العقابية. ويقتضي الإفراج التالي توافر الشروط العامة للإفراج الشرطي. وبهذا أخذ المشرع المصري في المادة 62 من قانون تنظيم السجون .
المطلب الثاني

الرعــــاية اللاحقــــة

313- أولاً : مضمون الرعاية اللاحقة :

عادة ما يواجه المفرج عنهم عند خروجهم من المؤسسة العقابية ما يسمى "بأزمة الإفراج" التي تنشأ عن الاختلاف بين ظروف الحياة التي اعتاد عليها داخل المؤسسة العقابية وبين الحياة خارجها ، حيث يصادف حرية قد ينحرف في استعمالها ومسئولية قد يعجز عن تحملها ومطالب مادية قد يفشل في توفيرها. وقد يلقى صدوداً من أفراد المجتمع المحيط نظراً لماضيه الإجرامي فيعيش معزولاً دون مأوى أو عمل ، مما قد يقتل داخله جرعة التأهيل التي تشربها خلال فترة قضاء العقوبة فيعود مسرعاً إلى سلوك سبيل الجريمة مرة أخرى.
لأجل هذا اتجهت السياسة العقابية الحديثة إلى الاعتراف للمفرج عنه بحقه في الرعاية اللاحقة L'assistance poste pénitentiaire ou post-pénale بقصد مساعدته مادياً ومعنوياً على استعادة مكانته في المجتمع بعد انقضاء فترة سلب الحرية. فالرعاية اللاحقة تعتبر أسلوباً تكميلياً للتنفيذ العقابي تهدف إلى استكمال ما تم تطبيقه من أساليب معاملة وبرامج تأهيل داخل المؤسسة العقابية ، وحتى لا تذهب المشاكل التي تعترض المفرج عنه بكل ما حققته له هذه الأخيرة من إصلاح وتهذيب .
ولم تعد الرعاية اللاحقة في ظل السياسة العقابية الحديثة رعاية فردية تقوم على اعتبارات الشفقة والعطف وبدافع ديني أو إنساني. بل هي التزام على الدولة قبل المحكوم عليه تفرضه وظيفتها في رسم السياسة الجنائية المتعلقة بمكافحة الجريمة وكذلك وظيفتها في تطبيق سبل المعاملة العقابية. فالرعاية اللاحقة جزء من المعاملة العقابية التي تطبقها الدولة على المحكوم عليه وتستهدف بها إتمام التأهيل - إذا لم تكن مدة العقوبة كافية لتحقيق هذا الغرض - أو لمساندة المفرج عنه حتى يظل التأهيل الذي حققته أساليب المعاملة داخل المؤسسة العقابية قائماً ومؤثراً بداخله. فهي على هذا النحو الجزء الأخير من المعاملة العقابية .
ولا يعني بأي حال من الأحوال التزام الدولة بالرعاية اللاحقة للمفرج عنهم أن تغل يد الأفراد والهيئات الخاصة عن المساهمة في جهود الرعاية اللاحقة. فالمجتمع في ذلك يمثل وحدة عضوية واحدة. وإلى هذا أشارت المادة 64 من قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين بقولها "أن واجب المجتمع لا ينتهي بالإفراج عن المسجون ، لذلك يجب أن توجد هيئات حكومية أو خاصة قادرة على مد المسجون المفرج عنه برعاية لاحقة فعالة تهدف إلى تقليل التحامل عليه وإلى إعادة تأهيله الاجتماعي. كما توصى المادة 80 من ذات القواعد بأن توجه العناية اعتباراً من بدء تنفيذ العقوبة إلى مستقبل المسجون عقب الإفراج عنه. كما يجب العناية ومساعدته على المحافظة على صلاته بالأشخاص أو الهيئات الخارجية التي يمكنها رعاية مصالح أسرته وإعادة تأهيله الاجتماعي ، أو إنشاء صلات من هذا القبيل".
وإذا كان الأصل أن تمتد الرعاية اللاحقة أن إلى جميع المفرج عنهم ، إلا أن بعض التشريعات قد ميزت بين الرعاية الإجبارية والرعاية الاختيارية . مثال ذلك التشريع الفرنسي الذي قرر أن يخضع للرعاية الإجبارية المفرج عنهم شرطياً وأن تقدم المساعدة بصورة اختيارية إرادية للمفرج عنه نهائياً. وتخطر الإدارة العقابية المسجون المفرج عنه – شرطياً أو نهائياً - بالمساعدة التي ستقدم له محل إقامة من لجنة رعاية المفرج عنهم.
وفيما يتعلق على الأخص بحالات الإفراج النهائي يقوم المساعد الاجتماعي L'assistant social بإجراء مقابلات من المسجون لبحث المساعدات التي يحتاجها واتخاذ ما يلزم من اتصالات في هذا الشأن مع لجنة رعاية المفرج عنهم Le comité de probation et d'assistance aux libres. وإذا قبل المفرج عنه نهائياً أن يكون تحت إشراف لجنة رعاية المفرج عنهم تقوم اللجنة بتعيين مندوب يختص بتقديم المساعدة له.
ومن بين صور المساعدة العمل على حل مشاكل المفرج عنه العائلية أوالشخصية ، أو تدبير سكن مؤقت أو عمل ملائم له. ويمكن أن تقدم اللجنة مساعدات مادية كالملابس وتذاكر السفر والمبالغ النقدية والمعاونة في استخراج أوراق الهوية الشخصية . ويمكن أن تمتد الرعاية اللاحقة إلى تقديم وسائل علاجية للمفرج عنهم المرضى بدنياً أو عقلياً أو نفسياً. ومثال ذلك أيضاً علاج الشواذ ومدمني الخمور والمخدرات بحسبان أن ذلك يساهم في استئصال عوامل الإجرام التي قد تدفع إلى سلوك سبيل الجريمة مرة أخرى.

314- ثانياً : الرعاية اللاحقة في التشريع المصري :

لقد أقر المشرع المصري نظام الرعاية اللاحقة حينما أوجب في المادة 64 من قانون تنظيم السجون أن تخطر إدارة السجن وزارة الشئون الاجتماعية والعمل بأسماء المحكوم عليهم قبل الإفراج عنهم بمدة كافية لا تقل عن شهرين لكي يتسنى في هذه المدة تأهيلهم اجتماعياً ، وإعدادهم للبيئة الخارجية مع بذل كل أسباب الرعاية والتوجيه لهم. وتقضي المادة 46 من اللائحة الداخلية لقانون تنظيم السجون بأن يعطى المسجون عند الإفراج عنه مكافأة مالية مناسبة عن عمله تحددها اللائحة الداخلية. ويراعى في تحديدها والتصرف فيها أن تكون دون الأجر العادي لمثله ، مع عدم جواز تصرف المسجون في المكافأة مادام في السجن.
ومن صور الرعاية اللاحقة في النظام العقابي المصري ما تنص عليه المادة 88 من اللائحة الداخلية للسجون من وجوب تقديم الملابس اللائقة للمفرج عنه للظهور بها في المجتمع. ومن ذلك أيضاً ما تنص عليه المادة 14 من نفس اللائحة حينما أوجبت صرف نصف الأجر المستحق للمفرج عنه والذي يعتبر رصيداً له يمنح عند الإفراج.
وتقوم الدولة – ممثلة في وزارة الشئون الاجتماعية وقسم الرعاية اللاحقة بمصلحة الأمن العام بوزارة الداخلية - بالشق الأكبر من واجب الرعاية اللاحقة للمفرج عنهم. فلا تألوا هذه الأجهزة جهداً في تقديم المساعدات للمفرج عنهم سواء في صور إلحاقهم بعمل شريف أو تيسير حصولهم على مأوى أو تقديم بعض المساعدات النقدية.
ولا بد من الاعتراف بأن دور الدولة في الرعاية اللاحقة يظل قاصراً نظراً لضعف الإمكانيات المادية لأجهزتها. ولا يتسنى تعويض هذا النقص إلا بتدخل الجمعيات الخاصة والمجتمع المدني ، ممثلاً في رجال الأعمال وأصحاب المشروعات الصناعية والتجارية ، فتصبح مكافحة الظاهرة الإجرامية رسالة المجتمع كافة.
(اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم) والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل
الملاحق
أولاً : قواعد الحد الأدنى لمعاملة المذنبين
الموصى باعتمادها من قبل مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين الذي انعقد في جنيف عام 1955 وأقرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي بقراريه 663 ج (د-24) في 31 يوليو 1957 و 2076 (د-62) في 13مايو 1977
ملاحظات تمهيدية
1. ليس الغرض من القواعد التالية تقديم وصف تفصيلي لنظام نموذجي للسجون ، بل إن كل ما تحاوله هو أن تحدد ، على أساس التصورات المتواضع على قبولها عموما في أيامنا هذه والعناصر الأساسية في الأنظمة المعاصرة الأكثر صلاحا ، ما يعتبر عموما خير المبادئ والقواعد العملية في معاملة المسجونين وإدارة السجون.
2. ومن الجلي ، نظرا لما تتصف به الظروف القانونية والاجتماعية والجغرافية في مختلف أنحاء العالم من تنوع بالغ ، أن من غير الممكن تطبيق جميع القواعد في كل مكان وفى أي حين. ومع ذلك يرجى أن يكون فيها ما يحفز على بذل الجهد باستمرار للتغلب على المصاعب العملية التي تعترض تطبيقها ، انطلاقا من كونها تمثل ، في جملتها ، الشروط الدنيا التي تعترف بصلاحها الأمم المتحدة.
3. ثم أن هذه القواعد ، من جهة أخرى ، تتناول ميدانا يظل الرأي فيه في تطور مستمر. وهى بالتالي لا تستبعد إمكانية التجربة والممارسة ما دامت متفقتين مع المبادئ التي تستشف من مجموعة القواعد في جملتها ومع السعي لتحقيق مقاصدها. وبهذه الروح يظل دائما من حق الإدارة المركزية للسجون أن تسمح بالخروج الاستثنائي على هذه القواعد.
4. (1) والجزء الأول من هذه المجموعة يتناول القواعد المتعلقة بالإدارة العامة للمؤسسات الجزائية ، وهو ينطبق على جميع فئات المسجونين ، سواء كان سبب حبسهم جنائيا أو مدنيا ، وسواء كانوا متهمين أو مدانين ، وبما في ذلك أولئك الذين تطبق بحقهم "تدابير أمنية" أو تدابير إصلاحية أمر بها القاضي.
(2) أما الجزء الثاني فيتضمن قواعد لا تنطبق إلا على فئات المسجونين الذين يتناولهم كل فرع فيه. ومع ذلك فإن القواعد الواردة في الفرع (ألف) منه بشأن السجناء المدانين تنطبق أيضا على فئات السجناء الذين تتناولهم الفروع (باء) و (جيم) و (دال) في حدود عدم تعارضها مع القواعد الخاصة بهذه الفئات وكونها في صالح هؤلاء السجناء.
5. (1) ولا تحاول القواعد تنظيم إدارة المؤسسات المخصصة للأحداث الجانحين (مثل الإصلاحيات أو معاهد التهذيب وما إليها) ، ومع ذلك فإن الجزء الأول منها يصلح أيضا ، على وجه العموم ، للتطبيق في هذه المؤسسات.
(2) ويجب اعتبار فئة الأحداث المعتقلين شاملة على الأقل لجميع القاصرين الذين يخضعون لصلاحية محاكم الأحداث. ويجب أن تكون القاعدة العامة ألا يحكم على هؤلاء الجانحين الصغار بعقوبة السجن.
الجزء الأول: قواعد عامة التطبيق
المبدأ الأساسي
6. (1) تطبق القواعد التالية بصورة حيادية. ولا يجوز أن يكون هنالك تمييز في المعاملة بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين ، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي ، أو المنشأ القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر.
(2) وفى الوقت نفسه ، من الضروري احترام المعتقدات الدينية والمبادئ الأخلاقية للفئة التي ينتسب إليها السجين.
السجل
7. (1) في أي مكان يوجد فيه مسجونين ، يتوجب مسك سجل مجلد ومرقم الصفحات ، تورد فيه المعلومات التالية بشأن كل معتقل:
(أ) تفاصيل هويته ،
(ب) أسباب سجنه والسلطة المختصة التي قررته ،
(ج) يوم وساعة دخوله وإطلاق سراحه.
(2) لا يقبل أي شخص في أية مؤسسة جزائية دون أمر حبس مشروع تكون تفاصيله قد دونت سلفا في السجل.
الفصل بين الفئات
8. توضع فئات السجناء المختلفة في مؤسسات مختلفة أو أجزاء مختلفة من المؤسسات مع مراعاة جنسهم وعمرهم وسجل سوابقهم
وأسباب احتجازهم ومتطلبات معاملتهم. وعلى ذلك:
(أ) يسجن الرجال والنساء ، بقدر الإمكان ، في مؤسسات مختلفة. وحين تكون هناك مؤسسة تستقبل الجنسين على السواء يتحتم أن يكون مجموع الأماكن المخصصة للنساء منفصلا كليا ،
(ب) يفصل المحبوسون احتياطيا عن المسجونين المحكوم عليهم ،
(ج) يفصل المحبوسون لأسباب مدنية ، بما في ذلك الديون ، عن المسجونين بسبب جريمة جزائية ،
(د) يفصل الأحداث عن البالغين.
أماكن الاحتجاز
9. (1) حيثما وجدت زنزانات أو غرف فردية للنوم لا يجوز أن يوضع في الواحدة منها أكثر من سجين واحد ليلا. فإذا حدث لأسباب استثنائية ، كالاكتظاظ المؤقت ، أن اضطرت الإدارة المركزية للسجون إلى الخروج عن هذه القاعدة ، يتفادى وضع مسجونين اثنين في زنزانة أو غرفة فردية.
(2) وحيثما تستخدم المهاجع ، يجب أن يشغلها مسجونون يعتني باختيارهم من حيث قدرتهم على التعاشر في هذه الظروف. ويجب أن يظل هؤلاء ليلا تحت رقابة مستمرة ، موائمة لطبيعة المؤسسة.
10. توفر لجميع الغرف المعدة لاستخدام المسجونين ، ولا سيما حجرات النوم ليلا ، جميع المتطلبات الصحية ، مع الحرص على مراعاة الظروف المناخية ، وخصوصا من حيث حجم الهواء والمساحة الدنيا المخصصة لكل سجين والإضاءة والتدفئة والتهوية.
11. في أي مكان يكون على السجناء فيه أن يعيشوا أو يعملوا:
(أ) يجب أن تكون النوافذ من الاتساع بحيث تمكن السجناء من استخدام الضوء الطبيعي في القراءة والعمل ، وأن تكون مركبة على نحو يتيح دخول الهواء النقي سواء وجدت أم لم توجد تهوية صناعية ،
(ب) يجب أن تكون الإضاءة الصناعية كافية لتمكين السجناء من القراءة والعمل دون إرهاق نظرهم.
12. يجب أن تكون المراحيض كافية لتمكين كل سجين من تلبية احتياجاته الطبيعية في حين ضرورتها وبصورة نظيفة ولائقة.
13. يجب أن تتوفر منشآت الاستحمام والاغتسال بالدش بحيث يكون في مقدور كل سجين ومفروضا عليه أن يستحم أو يغتسل ، بدرجة حرارة متكيفة مع الطقس ، بالقدر الذي تتطلبه الصحة العامة تبعا للفصل والموقع الجغرافي للمنطقة ، على ألا يقل ذلك عن مرة في الأسبوع في مناخ معتدل.
14. يجب أن تكون جميع الأماكن التي يتردد عليها السجناء بانتظام في المؤسسة مستوفاة الصيانة والنظافة في كل حين.
النظافة الشخصية
15. يجب أن تفرض على السجناء العناية بنظافتهم الشخصية ، ومن أجل ذلك يجب أن يوفر لهم الماء وما تتطلبه الصحة والنظافة من أدوات.
16. بغية تمكين السجناء من الحفاظ على مظهر مناسب يساعدهم على احترام ذواتهم ، يزود السجن بالتسهيلات اللازمة للعناية بالشعر والذقن. ويجب تمكين الذكور من الحلاقة بانتظام.
17. (1) كل سجين لا يسمح له بارتداء ملابسه الخاصة يجب أن يزود بمجموعة ثياب مناسبة للمناخ وكافية للحفاظ على عافيته. ولا يجوز في أية حال أن تكون هذه الثياب مهينة أو حاطة بالكرامة.
(2) يجب أن تكون جميع الثياب نظيفة وأن يحافظ عليها في حالة جيدة. ويجب تبديل الثياب الداخلية وغسلها بالوتيرة الضرورية للحفاظ على الصحة.
(3) في حالات استثنائية ، حين يسمح للسجين ، بالخروج من السجن لغرض مرخص به ، يسمح له بارتداء ثيابه الخاصة أو بارتداء ملابس أخرى لا تسترعى الأنظار.
18. حين يسمح للسجناء بارتداء ثيابهم الخاصة ، تتخذ لدى دخولهم السجن ترتيبات لضمان كونها نظيفة وصالحة للارتداء.
19. يزود كل سجين ، وفقا للعادات المحلية أو الوطنية ، بسرير فردى ولوازم لهذا السرير مخصصة له وكافية ، تكون نظيفة لدى تسليمه إياها ، ويحافظ على لياقتها ، وتستبدل في مواعيد متقاربة بالقدر الذي يحفظ نظافتها.
الطعام
20. (1) توفر الإدارة لكل سجين ، في الساعات المعتادة ، وجبة طعام ذات قيمة غذائية كافية للحفاظ على صحته وقواه ، جيدة النوعية وحسنة الإعداد والتقديم.
(2) توفر لكل سجين إمكانية الحصول على ماء صالح للشرب كلما احتاج إليه.
التمارين الرياضية
21. (1) لكل سجين غير مستخدم في عمل في الهواء الطلق حق في ساعة على الأقل في كل يوم يمارس فيها التمارين الرياضية المناسبة في الهواء الطلق ، إذا سمح الطقس بذلك.
(2) توفر تربية رياضية وترفيهية ، خلال الفترة المخصصة للتمارين ، للسجناء الأحداث وغيرهم ممن يسمح لهم بذلك عمرهم ووضعهم الصحي. ويجب أن توفر لهم ، على هذا القصد ، الأرض والمنشآت والمعدات اللازمة.
الخدمات الطبية
22. يجب أن توفر في كل سجن خدمات طبيب مؤهل واحد على الأقل ، يكون على بعض الإلمام بالطب النفسي. وينبغي أن يتم تنظيم الخدمات الطبية على نحو وثيق الصلة بإدارة الصحة العامة المحلية أو الوطنية. كما يجب أن تشتمل على فرع للطب النفسي تشخيص بغية حالات الشذوذ العقلي وعلاجها عند الضرورة.
(2) أما السجناء الذين يتطلبون عناية متخصصة فينقلون إلى سجون متخصصة أو إلى مستشفيات مدنية. ومن الواجب ، حين تتوفر في السجن خدمات العلاج التي تقدمها المستشفيات ، أن تكون معداتها وأدواتها والمنتجات الصيدلانية التي تزود بها وافية بغرض توفير الرعاية والمعالجة الطبية اللازمة للسجناء المرضي ، وأن تضم جهازا من الموظفين ذوى التأهيل المهني المناسب.
(3) يجب أن يكون في وسع كل سجين أن يستعين بخدمات طبيب أسنان مؤهل.
23. (1) في سجون النساء ، يجب أن تتوفر المنشآت الخاصة الضرورية لتوفير الرعاية والعلاج قبل الولادة وبعدها. ويجب ، حيثما كان ذلك في الإمكان ، اتخاذ ترتيبات لجعل الأطفال يولدون في مستشفى مدني. وإذا ولد الطفل في السجن ، لا ينبغي أن يذكر ذلك في شهادة ميلاده.
(2) حين يكون من المسموح به بقاء الأطفال الرضع إلى جانب أمهاتهم في السجن ، تتخذ التدابير اللازمة لتوفير دار حضانة مجهزة بموظفين مؤهلين ، يوضع فيها الرضع خلال الفترات التي لا يكونون أثناءها في رعاية أمهاتهم.
24. يقوم الطبيب بفحص كل سجين في أقرب وقت ممكن بعد دخوله السجن ، ثم بفحصه بعد ذلك كلما اقتضت الضرورة ، وخصوصا بغية اكتشاف أي مرض جسدي أو عقلي يمكن أن يكون مصابا به واتخاذ جميع التدابير الضرورية لعلاجه ، وعزل السجناء الذين يشك في كونهم مصابين بأمراض معدية أو سارية ، واستبانه جوانب القصور الجسدية أو العقلية التي يمكن أن تشكل عائقا دون إعادة التأهيل ، والبت في الطاقة البدنية على العمل لدى كل سجين.
25. (1) يكلف الطبيب بمراقبة الصحة البدنية والعقلية للمرضي ، وعليه أن يقابل يوميا جميع السجناء المرضي. وجميع أولئك الذين يشكون من اعتلال ، وأي سجين استرعى انتباهه إليه على وجه خاص.
(2) على الطبيب أن يقدم تقريرا إلى المدير كلما بدا له أن الصحة الجسدية أو العقلية لسجين ما قد تضررت أو ستتضرر من جراء استمرار سجنه أو من جراء أي ظرف من ظروف هذا السجن.
26. (1) على الطبيب أن يقوم بصورة منتظمة بمعاينة الجوانب التالية وأن يقدم النصح إلى المدير بشأنها:
(أ) كمية الغذاء ونوعيته وإعداده ،
(ب) مدى إتباع القواعد الصحية والنظافة في السجن ولدى السجناء ،
(ج) حالة المرافق الصحية والتدفئة والإضاءة والتهوية في السجن ،
(د) نوعية ونظافة ملابس السجناء ولوازم أسرتهم ،
(هـ) مدى التقيد بالقواعد المتعلقة بالتربية البدنية والرياضية ، حين يكون منظمو هذه الأنظمة غير متخصصين.
(3) يضع المدير في اعتباره التقارير والنصائح التي يقدمها له الطبيب عملا بأحكام المادتين 25 (2) و 26 ، فإذا التقى معه في الرأي عمد فورا إلى اتخاذ التدابير اللازمة لوضع هذه التوصيات موضع التنفيذ. أما إذا لم يوافقه على رأيه أو كانت التوصيات المقترحة خارج نطاق اختصاصه فعليه أن يقدم فورا تقريرا برأيه الشخصي ، مرفقا بآراء الطبيب ، إلى سلطة أعلى.
الانضباط والعقاب
27. يؤخذ بالحزم في المحافظة على الانضباط والنظام ، ولكن دون أن يفرض من القيود أكثر مما هو ضروري لكفالة الأمن وحسن انتظام الحياة المجتمعية.
28. (1) لا يجوز أن يستخدم أي سجين ، في خدمة المؤسسة ، في عمل ينطوي على صفة تأديبية.
(2) إلا أنه لا يجوز تطبيق هذه القاعدة على نحو يعيق نجاح أنظمة قائمة على الحكم الذاتي ، تتمثل في أن تناط أنشطة أو مسؤوليات اجتماعية أو تثقيفية أو رياضية محددة ، تحت إشراف الإدارة ، بسجناء منظمين في مجموعات لأغراض العلاج.
29. تحدد النقاط التالية ، دائما ، إما بالقانون وإما بنظام تضعه السلطة الإدارية المختصة:
(أ) السلوك الذي يشكل مخالفة تأديبية ،
(ب) أنواع ومدة العقوبات التأديبية التي يمكن فرضها ،
(ج) السلطة المختصة بتقرير إنزال هذه العقوبات.
30. (1) لا يعاقب أي سجين إلا وفقا لأحكام القانون أو النظام المذكورين ، ولا يجوز أبدا أن يعاقب مرتين على المخالفة الواحدة.
(2) لا يعاقب أي سجين إلا بعد إعلامه بالمخالفة وإعطائه فرصة فعلية لعرض دفاعه. وعلى السلطة المختصة أن تقوم بدارسة مستفيضة للحالة.
(3) يسمح للسجين ، حين يكون ذلك ضروريا وممكنا ، بعرض دفاعه عن طريق مترجم.
31. العقوبة الجسدية والعقوبة بالوضع في زنزانة مظلمة ، وأية عقوبة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة ، محظورة كليا كعقوبات تأديبية.
32. (1) لا يجوز في أي حين أن يعاقب السجين بالحبس المنفرد أو بتخفيض الطعام الذي يعطى له إلا بعد أن يكون الطبيب قد فحصه وشهد خطيا بأنه قادر على تحمل مثل هذه العقوبة.
(2) ينطبق الأمر نفسه على أية عقوبة أخرى يحتمل أن تلحق الأذى بصحة السجين الجسدية أو العقلية. ولا يجوز في أي حال أن تتعارض هذه العقوبات مع المبدأ المقرر في القاعدة 31 أو أن تخرج عنه.
(3) على الطبيب أن يقوم يوميا بزيارة السجناء الخاضعين لمثل هذه العقوبات ، وأن يشير على المدير بوقف العقوبة أو تغييرها إذا رأى ذلك ضروريا لأسباب تتعلق بالصحة الجسدية أو العقلية.
أدوات تقييد الحرية
33. لا يجوز أبدا أن تستخدم أدوات تقييد الحرية ، كالأغلال والسلاسل والأصفاد وثياب التكبيل كوسائل للعقاب. وبالإضافة إلى ذلك لا يجوز استخدام السلاسل أو الأصفاد كأدوات لتقييد الحرية. أما غير ذلك من أدوات تقييد الحرية فلا تستخدم إلا في الظروف التالية:
(أ) كتدبير للاحتراز من هرب السجين خلال نقله ، شريطة أن تفك بمجرد مثوله أمام سلطة قضائية أو إدارية ،
(ب) لأسباب طبية ، بناء على توجيه الطبيب ،
(ج) بأمر من المدير ، إذا أخفقت الوسائل الأخرى في كبح جماح السجين لمنعه من إلحاق الأذى بنفسه أو بغيره أو من تسبيب خسائر مادية. وعلى المدير في مثل هذه الحالة أن يتشاور فورا مع الطبيب وأن يبلغ الأمر إلى السلطة الإدارية الأعلى ،
34. الإدارة المركزية للسجون هي التي يجب أن تحدد نماذج أدوات تقييد الحرية وطريقة استخدمها. ولا يجوز استخدامها أبدا لمدة أطول من المدة الضرورية كل الضرورة.
تزويد السجناء بالمعلومات وحقهم في الشكوى
35. (1) يزود كل سجين ، لدى دخوله السجن ، بمعلومات مكتوبة حول الأنظمة المطبقة على فئته من السجناء ، وحول قواعد الانضباط في السجن ، والطرق المرخص بها لطلب المعلومات وتقديم الشكاوى ، وحول أية مسائل أخرى تكون ضرورية لتمكينه من معرفة حقوقه وواجباته على السواء ومن تكييف نفسه وفقا لحياة السجن.
(2) إذا كان السجين أميا وجب أن تقدم له هذه المعلومات بصورة شفوية.
36. (1) يجب أن تتاح لكل سجين إمكانية التقدم ، في كل يوم عمل من أيام الأسبوع ، بطلبات أو شكاوى إلى مدير السجن أو إلى الموظف المفوض بتمثيله.
(2) يجب أن يستطيع السجناء التقدم بطلبات أو شكاوى إلى مفتش السجون خلال جولته التفتيشية في السجن. ويجب أن تتاح للسجين فرصة للتحدث مع المفتش أو مع أي موظف آخر مكلف بالتفتيش دون أن يحضر حديثه مدير السجن أو غيره من موظفيه.
(3) يجب أن يسمح لكل سجين بتقديم طلب أو شكوى إلى الإدارة المركزية للسجون أو السلطة القضائية أو إلى غيرهما من السلطات ، دون أن يخضع الطلب أو الشكوى للرقابة من حيث الجوهر ولكن على أن يتم وفقا للأصول وعبر الطرق المقررة.
(4) ما لم يكن الطلب أو الشكوى جلي التفاهة أو بلا أساس ، يتوجب أن يعالج دون إبطاء ، وأن يجاب عليه في الوقت المناسب.
الاتصال بالعالم الخارجي
37. يسمح للسجين في ظل الرقابة الضرورية ، بالاتصال بأسرته وبذوي السمعة الحسنة من أصدقائه ، على فترات منتظمة ، بالمراسلة وبتلقي الزيارات على السواء.
38. (1) يمنح السجين الأجنبي قدرا معقولا من التسهيلات للاتصال بالممثلين الدبلوماسيين والقنصليين للدولة التي ينتمي إليها.
(2) يمنح السجناء المنتمون إلى دول ليس لها ممثلون دبلوماسيون أو قنصليون في البلد واللاجئون وعديمو الجنسية ، تسهيلات مماثلة للاتصال بالممثل الدبلوماسي للدولة المكلفة برعاية مصالحهم أو بأية سلطة وطنية أو دولية تكون مهمتها حماية مثل هؤلاء الأشخاص.
39. يجب أن تتاح للسجناء مواصلة الإطلاع بانتظام على مجرى الأحداث ذات الأهمية عن طريق الصحف اليومية أو الدورية أو أية منشورات خاصة تصدرها إدارة السجون أو بالاستماع إلى محطات الإذاعة أو إلى المحاضرات ، أو بأية وسيلة مماثلة تسمح بها الإدارة أو تكون خاضعة لإشرافها.
الكتب
40. يزود كل سجن بمكتبة مخصصة لمختلف فئات السجناء تضم قدرا وافيا من الكتب الترفيهية والتثقيفية على السواء. ويشجع السجناء على الإفادة منها إلى أبعد حد ممكن.
الدين
41. (1) إذا كان السجن يضم عدد كافيا من السجناء الذين يعتنقون نفس الدين ، يعين أو يقر تعيين ممثل لهذا الدين مؤهل لهذه المهمة. وينبغي أن يكون هذا التعيين للعمل كل الوقت إذا كان عدد السجناء يبرر ذلك وكانت الظروف تسمح به.
(2) يسمح للمثل المعين أو الذي تم إقرار تعيينه وفقا للفقرة 1 أن يقيم الصلوات بانتظام وأن يقوم ، كلما كان ذلك مناسبا ، بزيارات خاصة للمسجونين من أهل دينه رعاية لهم.
(3) لا يحرم أي سجين من الاتصال بالممثل المؤهل لأي دين. وفى مقابل ذلك ، يحترم رأى السجين كليا إذا هو اعترض على قيام أي ممثل ديني بزيارة له.
42. يسمح لكل سجين ، بقدر ما يكون ذلك في الإمكان ، بأداء فروض حياته الدينية بحضور الصلوات المقامة في السجن ، وبحيازة كتب الشعائر والتربية الدينية التي تأخذ بها طائفته.
حفظ متاع السجناء
43. (1) حين لا يسمح نظام السجن للسجين بالاحتفاظ بما يحمل من نقود أو أشياء ثمينة أو ثياب أو غير ذلك من متاعه ، يوضع ذلك كله في حرز أمين لدى دخوله السجن. ويوضع كشف بهذا المتاع يوقعه السجين ، وتتخذ التدابير اللازمة للإبقاء على هذه الأشياء في حالة جيدة.
(2) لدى إطلاق سراح السجين تعاد إليه هذه النقود والحوائج ، باستثناء ما سمح له بإنفاقه من مال أو ما أرسله إلى الخارج من متاع أو ما دعت المقتضيات الصحية إلى إتلافه من ثياب. ويوقع السجين على إيصال بالنقود والحوائج التي أعيدت إليه.
(3) تطبق هذه المعاملة ذاتها على أية نقود أو حوائج ترسل إلى السجين من خارج السجن.
(4) إذا كان السجين ، لدى دخوله السجن ، يحمل أية عقاقير أو أدوية ، يقرر مصيرها طبيب السجن.
الإخطار بحالات الوفاة أو المرض أو النقل ، الخ
44. (1) إذا توفى السجين أو أصيب بمرض خطير أو بحادث خطير أو نقل إلى مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية ، يقوم المدير فورا ، إذا كان السجين متزوجـا ، بإخطار زوجه ، وإلا فأقرب أنسبائه إليه ، وفى أية حال أي شخص آخر يكون السجين قد طلب إخطاره.
(2) يخطر السجين فورا بأي حادث وفاة أو مرض خطير لنسيب قريب له. وإذ كان مرض هذا النسيب بالغ الخطورة يرخص للسجين ، إذا كانت الظروف تسمح بذلك ، بالذهاب لعيادته إما برفقة حرس وإما بمفرده.
(3) يكون لكل سجين حق إعلام أسرته فورا باعتقاله أو بنقله إلى سجن آخر.
انتقال السجناء
45. (1) حين ينقل السجين إلى السجن أو منه ، يجب عدم تعريضه لأنظار الجمهور إلا بأدنى قدر ممكن ، ويجب اتخاذ تدابير لحمايته من شتائم الجمهور وفضوله ومن العلنية بأي شكل من أشكالها.
(2) يجب أن يحظر نقل السجناء في ظروف سيئة من حيث التهوية والإضاءة ، أو بأية وسيلة تفرض عليهم عناء جسديـا لا ضرورة له.
(3) يجب أن يتم نقل السجناء على نفقة الإدارة ، وأن تسود المساواة بينهم جميعـا.
موظفو السجن
46. (1) على إدارة السجون أن تنتقى موظفيها على اختلاف درجاتهم بكل عناية ، إذ على نزاهتهم وإنسانيتهم وكفاءتهم المهنية وقدراتهم الشخصية للعمل يتوقف حسن إدارة المؤسسات الجزائية.
(2) على إدارة السجون أن تسهر باستمرار على إيقاظ وترسيخ القناعة ، لدى موظفيها ولدى الرأي العام ، بأن هذه المهمة هي خدمة اجتماعية بالغة الأهمية ، وعليها ، طلبا لهذا الهدف ، أن تستخدم جميع الوسائل المناسبة لتنوير الجمهور.
(3) بغية تحقيق الأهداف السابقة الذكر ، يعين موظفو السجون على أساس العمل طوال ساعات العمل المعتادة ، بوصفهم موظفي سجون محترفين ، ويعتبرون موظفين مدنيين يضمن لهم بالتالي أمن العمل دون أن يكون مرهونا إلا بحسن السلوك والكفاءة واللياقة البدنية. ويجب أن تكون الأجور من الكفاية بحيث تجتذب الأكفاء من الرجال والنساء ، كما يجب أن تحدد مزايا احترافهم وظروف خدمتهم على نحو يراعى طبيعة عملهم المرهقة.
47. (1) يجب أن يكون الموظفون على مستوى كاف من الثقافة والذكاء.
(2) قبل الدخول في الخدمة ، يعطى الموظفون دورة تدريبية على مهامهم العامة والخاصة ، وعليهم أن يجتازوا اختبارات نظرية وعملية.
(3) على الموظفون ، بعد مباشرتهم العمل وطوال احترافهم المهنة ، أن يرسخوا ويحسنوا معارفهم وكفاءتهم المهنية بحضور دورات تدريبية أثناء الخدمة تنظم على فترات مناسبة.
48. على جميع الموظفين أن يجعلوا سلوكهم وأن يضطلعوا بمهامهم على نحو يجعل منهم قدوة طيبة للسجناء ويبتعث احترامهم لهم.
49. (1) يجب أن يضم جهاز الموظفين ، بقدر الإمكان ، عددا كافيا من الأخصائيين كأطباء الأمراض العقلية وعلماء النفس والمساعدين الاجتماعيين والمعلمين ومدرسي الحرف.
(2) يكفل جعل خدمات المساعدين الاجتماعيين والمعلمين ومدرسي المهن الحرة على أساس دائم ، ولكن دون استبعاد العاملين لبعض الوقت أو العاملين المتطوعين.
50. (1) يجب أن يكون مدير السجن على حظ واف من الأهلية لمهمته ، من حيث طباعه وكفاءته الإدارية وتدريبه المناسب وخبرته. 
(2) وعليه أن يكرس كامل وقته لمهامه الرسمية ، فلا يعين على أساس العمل بعض الوقت فحسب.
(3) وعليه أن يجعل إقامته داخل السجن أو على مقربة مباشرة منه.
(4) حين يوضع سجنان أو أكثر تحت سلطة مدير واحد ، يكون عليه أن يزور كلا منهما أو منها في مواعيد متقاربة ، كما يجب أن يرأس كلا من هذه السجون بالنيابة موظف مقيم مسؤول.
51. (1) يجب أن يكون المدير ومعاونه وأكثرية موظفي السجن الآخرين قادرين على تكلم لغة معظم السجناء ، أو لغة يفهمها معظم هؤلاء.
(2) يستعان ، كلما اقتضت الضرورة ذلك ، بخدمات مترجم.
52. (1) في السجون التي تبلغ من الاتساع بحيث تقتضي خدمات طبيب أو أكثر كامل الوقت ، يجب أن تكون إقامة واحد منهم على الأقل داخل السجن أو على مقربة مباشرة منه.
(2) أما في السجون الأخرى فعلى الطبيب أن يقوم بزيارات يومية ، وأن يجعل إقامته على مقربة كافية من السجن بحيث يستطيع الحضور دون إبطاء في حالات الطوارئ.
53. (1) في السجون المختلطة ، المستخدمة للذكور والإناث معا ، يوضع القسم المخصص للنساء من مبنى السجن تحت رئاسة موظفة مسؤولة تكون في عهدتها مفاتيح جميع أبواب هذا القسم.
(2) لا يجوز لأي من موظفي السجن الذكور أن يدخل قسم النساء ما لم يكن مصحوبا بموظفة أنثى.
(3) تكون مهمة رعاية السجينات والإشراف عليهن من اختصاص موظفات السجن النساء حصرا. على أن هذا لا يمنع الموظفين الذكور ، ولاسيما الأطباء والمعلمين ، من ممارسة مهامهم المهنية في السجون أو أقسام السجون المخصصة للنساء.
54. (1) لا يجوز لموظفي السجون أن يلجأوا إلى القوة ، في علاقاتهم مع المسجونين ، إلا دفاعا عن أنفسهم أو في حالات الفرار أو المقاومة الجسدية بالقوة أو بالامتناع السلبي لأمر يستند إلى القانون أو الأنظمة. وعلى الموظفين الذين يلجأوا إلى القوة ألا يستخدموها إلا في أدنى الحدود الضرورية وأن يقدموا فورا تقريرا عن الحادث إلى مدير السجن.
(2) يوفر لموظفي السجون تدريب جسدي خاص لتمكينهم من كبح جماح السجناء ذوى التصرف العدواني.
(3) لا ينبغي للموظفين الذين يقومون بمهمة تجعلهم في تماس مباشر مع السجناء أن يكونوا مسلحين ، إلا في ظروف استثنائية.
وبالإضافة إلى ذلك لا يجوز ، أيـا كانت الظروف ، تسليم سلاح لأي موظف ما لم يكن قد تم تدريبه على استعماله.
التفتيش
55. يجب أن يكون هناك تفتيش منتظم لمؤسسات السجون وخدماتها ، يكلف به مفتشون مؤهلون ذو خبرة تعينهم سلطة مختصة. وعلى هؤلاء المفتشين بوجه خاص واجب الاستيقان من كون هذه المؤسسات تدار طبقا للقوانين والأنظمة وعلى قصد تحقيق أهداف الخدمات التأديبية والإصلاحية.
الجزء الثاني: قواعد تنطبق على فئات خاصة
(ألف) السجناء المدانون
مبادئ توجيهية
56. تهدف المبادئ التوجيهية التالية إلى تبيان الروح التي ينبغي أن يؤخذ بها في إدارة السجون والأهداف التي يجب أن تسعى إليها ، طبقـا للبيان الوارد في الملاحظة التمهيدية رقم 1 من هذا النص.
57. إن الحبس وغيره من التدابير الآيلة إلى عزل المجرم عن العالم الخارجي تدابير مؤسسية بذات كونها تسلب الفرد حق التصرف بشخصه بحرمانه من حريته. ولذلك لا ينبغي لنظام السجون ، إلا في حدود مبررات العزل أو الحفاظ على الانضباط ، أن يفاقم من الآلام الملازمة لمثل هذه الحال.
58. والهدف الذي يبرر عقوبة الحبس وغيرها من تدابير الحرمان من الحرية هو في نهاية المطاف حماية المجتمع من الجريمة. ولا سبيل إلى بلوغ مثل هذا الهدف إلا إذا استخدمت فترة الحبس للوصول ، حتى أقصى مدى مستطاع ، إلى جعل المجرم وهو يعود إلى المجتمع لا راغبا في العيش في ظل احترام القانون وتدبر احتياجاته بجهده فحسب ، بل قادرا أيضـا على ذلك.
59. وطلبـا لهذه الغاية ، ينبغي لنظام السجون أن يستعين بجميع الوسائل الإصلاحية والتعليمية والأخلاقية والروحية وغيرها وبجميع طاقات وأشكال المساعدة المناسبة المتاحة له ، ساعيا إلى تطبيقها على هدى مقتضيات العلاج الفردي للسجناء.
60. (1) ينبغي إذن لنظام السجون أن يلتمس السبل إلى تقليص الفوارق التي يمكن أن تقوم بين حياة السجن والحياة الحرة ، والتي من شأنها أن تهبط بحس المسؤولية لدى السجناء أو بالاحترام الواجب لكرامتهم البشرية.
(2) ومن المستحسن أن يعمد ، قبل انتهاء مدة العقوبة ، إلى اتخاذا التدابير الضرورية لكي تضمن للسجين عودة تدريجية إلى الحياة في المجتمع ، وهذا هدف يمكن بلوغه ، تبعـا للحالة ، من خلال مرحلة تمهد لإطلاق سراح السجين تنظم في السجن نفسه أو في مؤسسة أخرى ملائمة ، أو من خلال إطلاق سراح تحت التجربة مع إخضاعه لضرب من الإشراف والرقابة ولا يجوز أن يعهد به إلى الشرطة بل ينبغي أن يشتمل على مساعدة اجتماعية فعالة.
61. ولا ينبغي ، في معالجة السجناء ، أن يكون التركيز على إقصائهم عن المجتمع ، بل -على نقيض ذلك- على كونهم يظلون جزءا منه. وعلى هذا الهدف ينبغي اللجوء ، بقدر المستطاع ، إلى المؤازرة التي يمكن أن توفرها هيئات المجتمع المحلى لمساعدة جهاز موظفي السجن على إعادة التأهيل الاجتماعي للسجناء. ويجب أن يكون هناك مساعدون اجتماعيون يتعاونون مع كل مؤسسة احتجاز وتناط بهم مهمة إدامة وتحسين كل صلات السجين المستصوبة بأسرته وبالمنظمات الاجتماعية الجزيلة الفائدة. كما يجب أن تتخذ ، إلى أقصى الحدود المتفقة مع القانون ومع طبيعة العقوبة ، تدابير لحماية ما للسجين من حقوق تتصل بمصالحه المدنية وبتمتعه بالضمان الاجتماعي وغير ذلك من المزايا الاجتماعية.
62. وعلى الخدمات الطبية في مؤسسة السجن أن تحاول رصد أي علل أو أمراض جسدية أو عقلية لدى السجين ، وأن تعالجها حتى لا تكون عقبة دون إعادة تأهيله. ويجب ، على هذا الهدف ، أن توفر للسجين جميع الخدمات الطبية والجراحية والنفسانية الضرورية.
63. (1) إن الإنفاذ الكامل لهذه المبادئ يتطلب إفرادية المعالجة ، وبالتالي يقتضي الأخذ بنظام مرن لتصنيف السجناء في فئات. وعلى ذلك يستصوب أن توزع هذه الفئات على مؤسسات منفصلة تستطيع كل فئة أن تجد فيها العلاج الذي يناسبها.
(2) وليس من الضروري أن يتوفر في كل مؤسسة نفس القدر من متطلبات الأمن بالنسبة لكل فئة ، بل إن من المستصوب أن تتفاوت درجات هذا الأمن تبعا لاحتياجات مختلف الفئات. والسجون المفتوحة الأبواب ، بسب كونها لا تقيم حواجز أمن مادية تحول دون الهرب ، بل تعتمد في ذلك علي انضباط السجين نفسه ، توفر ، في حالة انتقاء السجناء المرشحين لهذه التجربة بعناية ، أفضل الظروف مواتاة لإعادة تأهيلهم.
(3) ويستصوب ، في حالة السجون المغلقة الأبواب ، ألا يكون عدد المسجونين في كل منها من الكثرة بحيث يعرقل افرادية المعالجة. والرأي في بعض البلدان أنه لا ينبغي لهذا العدد في السجون المذكورة أن يتجاوز الخمسمائة أما في السجون المفتوحة الأبواب فيجب أن يكون عدد المسجونين صغيرا بقدر المستطاع.
(4) على أنه ليس من المستصوب إقامة سجون تكون من فرط ضالة الحجم بحيث لا يستطاع أن توفر فيها التسهيلات المناسبة.
64. ولا ينتهي واجب المجتمع بإطلاق سراح السجين. ولذلك ينبغي أن تكون هناك هيئات حكومية أو خاصة قادرة على أن توفر للسجين الذي استرد حريته رعاية ناجعة ، تهدف إلى تخفيف مواقف العداء العفوية ضده وتسمح بتأهيله للعودة إلى مكانه من المجتمع. 
المعالجة
65. إن الهدف من معالجة المحكوم عليهم بالسجن أو بتدبير مماثل يحرمهم من الحرية يجب أن يكون ، بقدر ما تسمح بذلك مدة العقوبة ، إكسابهم العزيمة على أن يعيشوا في ظل القانون وأن يتدبروا احتياجاتهم بجهدهم ، وجعلهم قادرين على إنفاذ هذه العزيمة. ويجب أن يخطط هذا العلاج بحيث يشجع احترامهم لذواتهم وينمى لديهم حس المسؤولية.
66. (1) وطلبا لهذه المقاصد ، يجب أن تستخدم جميع الوسائل المناسبة ، ولاسيما الرعاية الدينية في البلدان التي يستطاع فيها ذلك ، والتعليم ، والتوجيه والتكوين على الصعيد المهني ، وأساليب المساعدة الاجتماعية الإفرادية ، والنصح في مجال العمالة ، والرياضة البدنية وتنمية الشخصية ، تبعا للاحتياجات الفردية لكل سجين ، مع مراعاة تاريخه الاجتماعي والجنائي ، وقدراته ومواهبه الجسدية والذهنية ، ومزاجه الشخصي ، ومدة عقوبته ، ومستقبله بعد إطلاق سراحه.
(2) ويجب أن يتلقى مدير السجن ، بصدد كل وافد على السجن محكوم عليه بعقوبة طويلة بعض الطول ، وفى أقرب موعد ممكن بعد وصوله ، تقارير كاملة حول مختلف الجوانب المشار إليها في الفقرة السابقة ، يتوجب دائمـا أن تشمل تقريرا يضعه طبيب ، متخصص في الأمراض النفسانية إذا أمكن ، حول حالة السجين الجسدية والذهنية.
(3) توضع التقارير وغيرها من الوثائق المناسبة المتعلقة بالسجين في ملف فردى. ويجب أن يستكمل هذا الملف بكل جديد ، وأن يصنف على نحو يجعل الموظفين المسؤولين قادرين علي الرجوع إليه كلما طرأت حاجة إلى ذلك.
التصنيف الفئوي وإفرادية العلاج
67. تكون مقاصد التصنيف الفئوي:
(1) أن يفصل عن الآخرين أولئك المسجونون الذين يرجح ، بسبب ماضيهم الجنائي أو شراسة طباعهم ، أن يكونوا ذوى تأثير سيئ عليهم.
(2) أن يصنف المسجونون في فئات ، بغية تيسير علاجهم على هدف إعادة تأهيلهم الاجتماعي.
68. تستخدم لعلاج مختلف فئات المسجونين ، بقدر الإمكان ، سجون مختلفة أو أقسام مختلفة في السجن الواحد.
69. يوضع من أجل كل سجين محكوم عليه بعقوبة طويلة بعض الطول ، في أقرب وقت ممكن بعد وصوله وبعد دراسة شخصيته ، برنامج علاج يتم إعداده في ضوء المعلومات المكتسبة حول احتياجاته الفردية وقدراته ومزاجه النفسي.
الامتيازات
70. تنشأ في كل سجن أنظمة امتيازات توائم مختلف فئات المسجونين ومختلف مناهج العلاج بغية تشجيع السجناء على حسن السلوك وتنمية حس المسؤولية لديهم وحفزهم على الاهتمام بعلاجهم والمؤازرة فيه.
العمل
71. (1) لا يجوز أن يكون العمل في السجن ذات طبيعة مؤلمة.
(2) يفرض العمل على جميع السجناء المحكوم عليهم ، تبعا للياقتهم البدنية والعقلية كما يحددها الطبيب.
(3) يوفر للسجناء عمل منتج يكفى لتشغليهم طوال يوم العمل العادي.
(4) يكون هذا العمل ، إلى أقصى الحدود المستطاعة ، من نوع يصون أو يزيد قدرة السجين على تأمين عيشه بكسب شريف بعد إطلاق سراحه.
(5) يوفر تدريب مهني نافع للسجناء القادرين على الانتفاع به ، ولاسيما الشباب.
(6) تتاح للسجناء ، في حدود ما يتمشى مع الاختيار المهني السليم ومتطلبات إدارة السجن والانضباط فيه ، إمكانية اختيار نوع العمل الذي يرغبون القيام به.
72. (1) يتم تنظيم العمل وطرائقه في السجن على نحو يقترب به بقدر الإمكان من الأعمال المماثلة خارج السجن ، بغية إعداد السجناء لظروف الحياة العملية الطبيعية.
(2) إلا أن مصلحة السجناء وتدريبهم المهني لا يجوز أن يصيرا خاضعين لمقصد تحقيق ربح مالي من وراء العمل في السجن.
73. (1) يفضل أن تقوم إدارة السجن مباشرة ، لا المقاولون الخاصون ، بتشغيل مصانعه ومزارعه.
(2) حين يستخدم السجناء في أعمال لا تخضع لسلطان الإدارة ، يتوجب أن يكونوا دائما تحت إشراف موظفي السجن. وما لم يكن العمل لحساب إدارات حكومية أخرى ، يتوجب على الأشخاص الذين يقدم لهم أن يدفعوا للإدارة كامل الأجر الذي يتقاضى عادة عنه ، ولكن مع مراعاة إنتاجية السجناء.
74. (1) تتخذ في مؤسسات السجون نفس الاحتياطات المفروضة لحماية سلامة وصحة العمال الأحرار.
(2) تتخذ تدابير لتعويض السجناء عن إصابات العمل والأمراض المهنية ، بشروط لا تكون أقل مواتاة من تلك التي يمنحها القانون للعمال الأحرار.
75. (1) يحدد العدد الأقصى لساعات العمل اليومي والأسبوعي بالقانون أو بنظام إداري ، مع مراعاة الأنظمة أو العادات المحلية المتبعة في مجال استخدام العمال الأحرار.
(2) يشترط في تحديد الساعات المذكورة أن يترك يوما للراحة الأسبوعية ووقتا كافيا للتعليم وغيره من الأنشطة المقتضاه كجزء من علاج السجناء وإعادة تأهيلهم.
76. (1) يكافأ السجناء على عملهم وفقا لنظام أجور منصف.
(2) يجب أن يسمح النظام للسجناء بأن يستخدموا جزءا على الأقل من أجرهم في شراء أشياء مرخص بها لاستعمالهم الشخصي وأن يرسلوا جزءا آخر منه إلى أسرتهم.
(3) ويجب أن ينص النظام أيضـا على احتجاز الإدارة لجزء من الأجر بحيث يشكل كسبا مدخرا يتم تسليمه للسجين لدى إطلاق سراحه.
التعليم والترفيه
77. (1) تتخذ إجراءات لمواصلة تعليم جميع السجناء القادرين على الاستفادة منه ، بما في ذلك التعليم الديني في البلدان التي يمكن فيها ذلك ، ويجب أن يكون تعليم الأميين والأحداث إلزاميا ، وأن توجه إليه الإدارة عناية خاصة.
(2) يجعل تعليم السجناء ، في حدود المستطاع عمليا ، متناسقا مع نظام التعليم العام في البلد ، بحيث يكون في مقدورهم ، بعد إطلاق سراحهم ، أن يواصلوا الدراسة دون عناء.
78. تنظم في جميع السجون ، حرصـا على رفاه السجناء البدني والعقلي ، أنشطة ترويحية وثقافية.
العلاقات الاجتماعية والرعاية بعد السجن
79. تبذل عناية خاصة لصيانة وتحسين علاقات السجين بأسرته ، بقدر ما يكون ذلك في صالح كلا الطرفين.
80. يوضع في الاعتبار ، منذ بداية تنفيذ الحكم ، مستقبل السجين بعد إطلاق سراحه ، ويشجع ويساعد على أن يواصل أو يقيم ، من العلاقات مع الأشخاص أو الهيئات خارج السجن ، كل ما من شأنه خدمة مصالح أسرته وتيسير إعادة تأهيله الاجتماعي.
81. (1) على الإدارات والهيئات الحكومية أو الخاصة ، التي تساعد الخارجين من السجن على العودة إلى احتلال مكانهم في المجتمع ، أن تسعى بقدر الإمكان لجعلهم يحصلون على الوثائق وأوراق الهوية الضرورية ، وعلى المسكن والعمل المناسبين ، وعلى ثياب لائقة تناسب المناخ والفصل ، وأن توفر لهم من الموارد ما يكفى لوصولهم إلى وجهتهم ولتأمين أسباب العيش لهم خلال الفترة التي تلي مباشرة إطلاق سراحهم.
(2) يجب أن تتاح للممثلين الذين تعتمدهم الأجهزة المذكورة إمكانية دخول السجن والالتقاء بالسجناء ، ويجب أن يستشاروا بشأن مستقبل السجين منذ بداية تنفيذ عقوبته .
(3) يستصوب أن تكون أنشطة الهيئات المذكورة ممركزة أو منسقة بقدر الإمكان كيما ينتفع بجهودها على أفضل وجه.
(باء) المصابون بالجنون والشذوذ العقلي
82. (1) لا يجوز احتجاز الشخص في السجن إذا ظهر أنه مختل العقل ، بل يجب اتخاذ ترتيبات لنقله إلى مستشفى للأمراض العقلية بأسرع ما يمكن.
(2) يوضع المصابون بأمراض أو ظواهر شذوذ عقلية أخرى تحت المراقبة والعلاج في مصحات متخصصة تحت إدارة طيبة.
(3) يوضع هؤلاء الأشخاص ، طوال بقائهم في السجن ، تحت إشراف طبي خاص.
(4) على الإدارة الطبية أو النفسانية في السجون أن تكفل علاج جميع السجناء الآخرين الذين يحتاجون إلى مثل هذا العلاج.
83. (1) من المستحسن أن تتخذ ، بالاتفاق مع الأجهزة المختصة ، تدابير لمواصلة العلاج النفساني للسجين ولتقديم مساعدة اجتماعية نفسانية له بعد إطلاق سراح عند الضرورة.
(جيم) الموقوفون والمحتجزون رهن المحاكمة
84. (1) في الفقرات التالية تطلق صفة "متهم" على أي شخص تم توقيفه أو حبسه بسبب مخالفة لقانون العقوبات ووضع في عهدة الشرطة أو السجن ولكنه لم يحاكم ولم يحكم عليه بعد.
(2) يفترض في المتهم أنه برئ ويعامل على هذا الأساس.
(3) دون المساس بالقواعد القانونية المتعلقة بحماية الحرية الفردية أو التي تنص على الإجراءات الواجبة الإتباع إزاء المتهمين ، يجب أن يتمتع هؤلاء بنظام معاملة خاص تحدد القواعد الواردة أدناه عناصر الأساسية.
85. (1) يفصل المتهمون عن السجناء المحكوم عليهم.
(2) يفصل المتهمون الأحداث عن البالغين. ويجب من حيث المبدأ أن يحتجزوا في مؤسسات منفصلة.
86. يوضع المتهمون في غرف نوم فردية ، ولكن رهنا بمراعاة العادات المحلية المختلفة تبعـا للمناخ.
87. للمتهمين إذا رغبوا في ذلك ، في الحدود المتفقة مع حسن سير النظام في المؤسسة ، أن يأكلوا ما يريدون على نفقتهم بأن يحصلوا على طعامهم من الخارج إما بواسطة الإدارة أو بواسطة أسرتهم أو أصدقائهم. فإذا لم يطلبوا ذلك كان على الإدارة أن تتكفل بإطعامهم.
88. (1) يسمح للمتهم بارتداء ثيابه الخاصة إذا كانت نظيفة ولائقة.
(2) أما إذا ارتدى ثياب السجن فيجب أن تكون هذه مختلفة عن اللباس الموحد الذي يرتديه المحكوم عليهم.
89. يجب دائمـا أن يعطى المتهم فرصة للعمل ، ولكن لا يجوز إجباره عليه. فإذا اختار العمل وجب أن يؤجر عليه.
90. يرخص لكل متهم بأن يحصل ، على نفقته أو نفقة آخرين ، وفى الحدود المتفقة مع صالح إقامة العدل ومع أمن السجن وانتظام إدارته ، على ما يشاء من الكتب والصحف وأدوات الكتابة وغيرها من وسائل قضاء الوقت.
91. يرخص للمتهم بأن يزوره ويعالجه طبيبه أو طبيب أسنانه الخاص ، إذا كان لطلبه مبرر معقول وكان قادرا على دفع النفقات المقتضاه.
92. يرخص للمتهم بأن يقوم فورا بإبلاغ أسرته نبأ احتجازه ، ويعطى كل التسهيلات المعقولة للاتصال بأسرته وأصدقائه وباستقبالهم ، دون أن يكون ذلك مرهونـا إلا بالقيود والرقابة الضرورية لصالح إقامة العدل وأمن السجن وانتظام إدارته.
93. يرخص للمتهم ، بغية الدفاع عن نفسه ، بأن يطلب تسمية محام تعينه المحكمة مجانـا حين ينص القانون على هذه الإمكانية ، وبأن يتلقى زيارات محامية إعدادا لدفاعه وأن يسلمه تعليمات سرية. وعلى هذا القصد يحق له أن يعطى أدوات للكتابة إذا طلب ذلك. ويجوز أن تتم المقابلات بين المتهم ومحامية على مرمى نظر الشرطي أو موظف السجن ، ولكن دون أن تكون على مرمى سمعه.
(دال) السجناء المدنيون
94. في البلدان التي يجيز فيها القانون السجن من أجل الديون أو بقرار من المحكمة في أية دعوى أخرى غير جزائية ، لا يجوز إخضاع المسجونين على هذا النحو لأية قيود أو لأية صرامة تتجاوز ما هو ضروري لضمان عدم هربهم وللحفاظ على الأمن. ويجب ألا تكون معاملتهم أقل يسرا من تلك الممنوحة للسجناء غير المحاكمين باستثناء أنه يمكن إجبارهم على العمل.
(هاء) الأشخاص الموقوفون أو المحتجزون دون تهمة
95. دون الإخلال بأحكام المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يتمتع الأشخاص الموقوفون أو المحتجزون دون أن توجه إليهم تهمة بذات الحماية التي يضمنها الجزء الأول والفرع "جيم" من الجزء الثاني كذلك تنطبق عليهم الأحكام المناسبة من الفرع "ألف" من الجزء الثاني حينما كان من الممكن أن يعود تطبيقها بالفائدة على هذه الفئة الخاصة من المحتجزين ، شريطة ألا يتخذ أي تدبير يفترض ضمنا أن إعادة التعليم أو إعادة التأهيل يمكن على أي نحو أن يكونا مناسبين لأشخاص لم يدانوا بأية جريمة جزائي.
ثانياً : المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء
اعتمدت ونشرت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة
رقم 45/111 في 14 ديسمبر 1990
1. يعامل كل السجناء بما يلزم من الاحترام لكرامتهم المتأصلة وقيمتهم كبشر.
2. لا يجوز التمييز بين السجناء على أساس العنصر أو اللون، أو الجنس أو اللغة أو الدين، أو الرأي السياسي أو غير السياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد أو أي وضع آخر.
3. من المستحب، مع هذا، احترام المعتقدات الدينية والمبادئ الثقافية للفئة التي ينتمي إليها السجناء، متى اقتضت الظروف المحلية ذلك.
4. تضطلع السجون بمسؤوليتها عن حبس السجناء وحماية المجتمع من الجريمة بشكل يتوافق مع الأهداف الاجتماعية الأخرى للدولة ومسؤولياتها الأساسية عن تعزيز رفاه ونماء كل أفراد المجتمع.
5. باستثناء القيود التي من الواضح أن عملية السجن تقتضيها، يحتفظ كل السجناء بحقوق الإنسان والحريات الأساسية المبينة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحيث تكون الدولة المعنية طرفا، في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وبروتوكوله الاختياري، وغير ذلك من الحقوق المبينة في عهود أخرى للأمم المتحدة.
6. يحق لكل السجناء أن يشاركوا في الأنشطة الثقافية والتربوية الرامية إلى النمو الكامل للشخصية البشرية.
7. يضطلع بجهود لإلغاء عقوبة الحبس الانفرادي أو للحد من استخدامها وتشجع تلك الجهود.
8. ينبغي تهيئة الظروف التي تمكن السجناء من الاضطلاع بعمل مفيد مأجور ييسر إعادة انخراطهم في سوق العمل في بلدهم ويتيح لهم أن يساهموا في التكفل بأسرهم وبأنفسهم ماليا.
9. ينبغي أن توفر للسجناء سبل الحصول على الخدمات الصحية المتوفرة في البلد دون تمييز على أساس وضعهم القانوني.
10. ينبغي العمل، بمشاركة ومعاونة المجتمع المحلي والمؤسسات الاجتماعية ومع إيلاء الاعتبار الواجب لمصالح الضحايا، على تهيئة الظروف المواتية لإعادة إدماج السجناء المطلق سراحهم في المجتمع في ظل أحسن الظروف الممكنة.
11. تطبق المبادئ المذكورة أعلاه بكل تجرد.
دكتور: أحمد لطفى السـيـد مرعي
كلية الحقوق - جامعة المنصورة
قسم القانون الجنائى

0 تعليق:

إرسال تعليق