بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تلخيص القواعد الفقهية



تمهيدٌ

** تعريف القاعدة الفقهيَّة :

* القاعدة : لغةً : الأساس للشَّيء الماديِّ (البيت) والمعنويِّ (العلم) . وسورة [البقرة: ١٢٧] .
القاعدة الفقهيَّة اصطلاحًا : حكمٌ كلِّيٌّ (يشمل ما تحته من الفروع ، وقد يكون شمولًا نسبيًّا فيكون الحكم للأغلب) فقهيٌّ (قيدٌ يُخرج قواعد الفنون الأخرى)، ينطبق على جزئيَّاتٍ كثيرةٍ ، من أكثر من بابٍ (قيدٌ يُخرج الضَّابط ؛ حيث جزئيَّاتُه من بابٍ واحدٍ).
* وغالبًا ما تشذُّ عن القاعدة فروعٌ تسمَّى « المستثنَيات » ؛ لأنَّ القاعدة تقوم على القياس ، وقد يُعدَل عنه إلى حلولٍ استحسانيَّةٍ لوجود مقتضَياتٍ تجعل الحكم الاستثنائيَّ أقربَ إلى مقاصد الشَّريعة .

* والقواعد الفقهية نوعان :

1) أصليَّةٌ /كليَّةٌ : وهي التي لا تتبع قاعدةً أخرى ، بينما قد تتبعها فروعٌ .
2) تبعيَّةٌ : وهي التي تتبع قاعدةً أخرى أصليَّةً . وتكون التَّبعيَّة من وجهين :
1- أن تكون متفرِّعةً من قاعدةٍ أكبر ، كقاعدة : « مَن شَكَّ في شَيءٍ فَعَلَهُ أوَّلًا فَالأَصلُ أَنَّهُ لَم يَفعَلهُ » فرعٌ على قاعدة : « اليَقِينُ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ » .
2- أن تكون قيدًا لقاعدةٍ أخرى ، كقاعدة : « الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ » قيدٌ لقاعدة : « الضَّرَرُ يُزَالُ » .

** نشأة القواعد الفقهيَّة :

 لم توضع القواعد الفقهيَّة كلُّها مرَّةً واحدةً ، بل تكوَّنت على مدى عصور نهضة الفقه على أيدي كبار فقهاء المذاهب . ولا يُعرف لكلِّ قاعدةٍ صائغٌ معيَّنٌ ، إلَّا ما كان منها حديثًا نبويًّا ، أو كلامًا مأثورًا عن إمامٍ قاله ثم جرى بعده مجرى القاعدة . فمعظم القواعد اكتسبت صياغتها عن طريق التَّداول والصَّقل على أيدي كبار الفقهاء .
أمَّا أوَّل من كتب فيها ، فيظهر أنَّ أئمَّة الحنفيَّة الأوائل هم الذين سَبقوا في ذلك ، وكانوا يسمُّونها « الأصول » . وأوَّل من يؤثَر عنه ذلك هو الإمام أبو طاهرٍ الدَّبَّاس ، فقد ردَّ فقهَ الإمام أبي حنيفةَ إلى سبعة عشر قاعدةً . وتلاه الكَرْخِيُّ وجعلها سبعًا وثلاثين . ثم جاء العلامة ابن نُجَيمٍ فوضع كتابه « الأشباه والنَّظائر » وضمَّنه عدَّة فنون ، احتوى الأوَّل منها على القواعد .
وتبعهم الشَّافعيَّة ، ثم الحنبليَّة ، فالمالكيَّة .
وكان القرن الثَّامنُ أغزرَ القرون بالتَّأليف فيها . ومن المؤلَّفات القديمة المشهورة :
1- « الأشباه والنَّظائر » لمؤلِّفه : زين الدِّين ابن نُجَيْمٍ الحنفيِّ . جعل كتابه سبعة فنون :
1/ فنُّ القواعد . وهي أصول الفقه حقيقةً . وهي عنده خمسٌ وعشرون قاعدةً ، منقسمةٌ إلى قسمين :
1) قواعدُ أساسيَّةٌ كالأركان للمذهب . وهي ستَّةٌ : الأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا . لا ثَوَابَ إِلَّا بِنِيَّةٍ . اليَقِينُ لا يَزُولُ بِالشَّكِّ . المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسِيرَ . الضَّرَرُ يُزَالُ . العَادَةُ مُحَكَّمَةٌ .
2) قواعد أخرى في موضوعاتٍ أقل شمولًا واتِّساعًا . وهي تسع عشرة .
2/ فنُّ الضَّوابط . 3/ فنُّ الجمع والفرق . 4/ فنُّ الألغاز . 5/ فنُّ الحِيَل .
6/فنُّ الأشباه والنَّظائر (أو : فنُّ الأحكام) . 7/ فنُّ الحكايات والمُراسَلات .
2- « قواعد الأحكام في مصالح الأنام » لمؤلِّفه : عزِّ الدِّين ابن عبد السَّلام الشَّافعيِّ . جُزآن ، فيهما مقاصد الشَّريعة .
3- « الفروق » لمؤلِّفه : شهاب الدِّين القَرَافِيِّ المالكيِّ . كانت عنده ثمانٍ وأربعين وخمس مئة قاعدةً . ذكرها ، وعلى كلِّ واحدةٍ منها أمثلةٌ توضيحيَّةٌ من الفقه .
4- « الأشباه والنَّظائر » لمؤلِّفه : جلال الدِّين السِّيُوطِيِّ الشَّافعيِّ . وعَمِلَه في سبعة كتبٍ :
1/ شرح القواعد الخمس التي ذكر الشَّافعيَّة أنَّ جميع مسائل الفقه ترجع إليها .
2/ شرح أربعين قاعدةً كلِّيَّةً تحتها ما لا ينحصر من الجُزئيَّات .
3/ شرح عشرين قاعدةً مختلَفًا فيها ولا يترجَّح أحد الأقوال .
4/ ذكر أحكامٍ يكثر وقوعها ويَقبُح بالفقيه جَهلُها .
5/ نظائر الأبواب . 6/ ما افترقت فيه الأبواب المتشابهة . 7/ نظائر شتَّى .
5- « القواعد » لمؤلِّفه : ابن رجبٍ الحنبليِّ .

** عناصر القاعدة الفقهيَّة : 

وهي الضَّوابط الذاتيَّة للقاعدة الفقهيَّة ، وهي أربعةٌ :
1- الاستيعاب : وهو أن تشتمل القاعدة على حكمٍ جامعٍ لكثيرٍ من الفروع والمسائل الفقهيَّة من أبوابٍ شتَّى .
مثالٌ : قولهم : « ذِكرُ بَعضِ ما لا يَتَجَزَّأُ كَذِكرِ كُلِّهِ » . فهي تستوعب فروعًا كثيرةً ، منها :
1/ إذا طلَّق نصف تطليقةٍ كانت طلقةً كاملةً .
2/ إذا طلَّق نصفها كانت طالقًا كلُّها .
3/ إذا عفا عن بعض القاتل كان عفوًا عن كلِّه .
4/ إذا أحرم بنصف عمرةٍ كان إحرامًا بعمرةٍ كاملةٍ .
2- الاطِّراد (لغةً : التَّتابع . واصطلاحًا : ما يوجب الحكم لوجود العلَّة ، وهو التَّلازم في الثُّبوت) أو الأغلبيَّة : وهو أن تنطبق على كل جزئيَّاتها دون تخلُّف واحدةٍ منها ، فتكون مطَّردةً جاريةً في سريانها (كلَّما جَدَّ حادثٌ نظيرٌ لجزئيَّةٍ منها فإنَّه يندرج تحتها كذلك)، هذا هو الأصل . وقد تتخلَّف بعض جزئيَّاتها («المستثنَيات» كما مرَّ) فتنتقل إلى مرتبة الأغلبيَّة . لكن إذا لم يكن فيها اطِّرادٌ ولا أغلبيَّةٌ فلا تستحقُّ أن تكون قاعدةً بالمعنى العمليِّ .
3- التَّجريد (لغةً : التَّعرية): وهو أن يكون الحكم الذي تقوم عليه القاعدة موضوعيًّا جامعًا مستوعبًا صالحًا للانطباق على كل أو أغلب جزئيَّاته . فتُجرَّد كل الفروع من ذواتها وأعيانها (وهذا يوافق المعنى اللُّغويِّ) ثم يُستخلَص الحكم ، فيكون مجرَّدًا موضوعيًّا غيرَ مرتبطٍ بالذَّوات .
مثالٌ : فروعُ :
1/ من أضاع أو أتلف عاريةً تفريطًا ضمنها .
2/ من أضاع أو أتلف وديعةً تفريطًا ضمنها .
3/ من أضاع أو أتلف عينًا مستأجَرةً تفريطًا ضمنها .
فبالنَّظر إلى ما سبق نجد الأُولى خاصَّةً بضمان العارية ، والثَّانية بضمان الوديعة ، والثَّالثة بضمان العين المستأجَرة . فلما كان الحكم في كل واحدةٍ مرتبطًا بجزئيَّةٍ معيَّنةٍ لم نستطع ضمَّهم تحت قاعدة واحدة . لكن إذا جرَّدناهم مما ارتبطوا به من ذوات الجزئيَّات (العارية ، الوديعة ، العين المستأجَرة) نستطيع أن نستخلص قاعدةً تشملهم جميعًا وهي : « المُفَرِّطُ ضَامِنٌ » . فنحن لمَّا جرَّدنا الجزئيَّات من ذواتها وربطنا الحكم بمواضيعها استخلصنا القاعدة .
4- إحكام الصِّياغة : وهو أن تُصاغ القاعدة في أوجز العبارات وأدقِّها وأقواها دلالةً على الحكم الذي اشتملت عليه ، وتكون مُمْعَنَةً في هذا حتى لا تنزل إلى مرتبة التَّعريف أو الضَّابط أو غيرهما .

** مصادر القواعد الفقهيَّة :

 فقد استندوا في تقعيدهم إلى شيئين :
1- النَّص : وهو عندهم القرآن والسُّنَّة . ويكون التقعيد به على إحدى صورتين :
1/ أن يرد تعبيرًا موجَزًا جامعًا ، فيكون بذلك جاهز الصِّياغة كامل الحَبْك .
2/ أن يرد حاملًا حكمًا عامًّا صالحًا لكثيرٍ من الفروع فيستنبطون منه قاعدةً أو قواعد كلِّيَّةً .
مثالٌ لهما جميعًا :
1) قوله تعالى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: ١٨٥] لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: ٢٨٦] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا  [النِّساء: ٢٨] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [النُّور: ٦١] .
دلَّت الآيات على انبناء الدِّين على اليسر والسُّهولة ومراعاة قدرات المكلَّفين ، ومنها استخلص العلماء عدَّة قواعد ، منها : المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسِيرَ . الحَرَجُ مَرفُوعٌ . لا تَكلِيفَ بِمَا لا يُطَاقُ . الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحذُورَاتِ .
2) قوله  : « إنما الأعمال بالنيَّات » ، من جوامع كلمه ق ويُعتبَر أصلًا من أصول الشَّريعة ، استخلص الفقهاء منه كثيرًا من القواعد ، منها : الأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا . لا ثَوَابَ إِلَّا بِنِيَّةٍ . العِبرَةُ بِالمَقَاصِدِ وَالمَعَانِي لا بِالأَلفَاظِ وَالمَبَانِي .
2- القياس : وهو الجمع بين المتشابه من الفروع والمسائل واستخلاص القاعدة منهم . وهو أصل عمليَّة التَّقعيد ، وأغلب القواعد استُخلصت بطريقه ، حتى أنهم كانوا يرادفون أحيانًا بين التَّقعيد والقياس . ويكون ذلك لمن استوعب نظريَّة القياس واهتدى لمعرفة أركانه وشروطه ومسالك العلَّة فيه ، فيتكوَّن لديه فكرٌ ومنهجٌ قياسيَّان يصوغ على ضوئهما قواعد فقهيَّةً من فروعٍ عديدةٍ .
مثالٌ : قاعدة : « ما حَرُمَ استِعمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ » . وبيان القياس فيها أنَّه : لمَّا حرَّم الله استعمال بعض الأشياء عمد الفقهاء إلى ذوات تلك الأشياء فقاسوا اتِّخاذَها على استعمالِها . والقياس هنا ليس مجرَّد إلحاق جزئيَّةٍ غيرِ منصوصٍ عليها بما نُصَّ عليه ، بل يتعدَّى إلى إلحاق جملةٍ من الجزئيَّات بجملةٍ أخرى في حكمها ، فكان قياس كلِّيَّةٍ على كلِّيَّةٍ . ومن فروع هذه القاعدة :
1/ لا يجوز اتِّخاذ الكلب لمن لا يستخدمه في الصَّيد أو الحراسة .
2/ لا يجوز للرجل اتِّخاذ الذَّهب والحرير .
3/ لا يجوز اتِّخاذ أدوات اللَّهو ، إلَّا ما نُصَّ عليه وهو الدُّفُّ للنِّساء في الأفراح والأعياد .
4/ لا يجوز اتِّخاذ شيءٍ من الفواسق (حيواناتٌ أمر ق بقتلها في الحِلِّ والحَرَم ، وهي : الغراب ، الحدأة ، العقرب ، الفأرة ، الكلب العَقُورُ ، والوَزَغُ) .
** القاعدة الفقهيَّة والنَّظريَّة (لغةً : من النَّظر ، وهو التَّأمُّل بالعين . واصطلاحًا : لم يعرِّفها الأقدمون ، بل [تناولوا كل فكرةٍ على حدةٍ ، وعلى الباحث أن يستخلص النظريَّة العامَّة من بين الأحكام المندرجة في هذه الأفكار والتي تسري على الكثرة الغالبة من هذه الأحكام . أمَّا] في الاصطلاح المعاصر ، فمن تعريفاتها : بناءٌ عامٌّ لقضايا ذات مفهومٍ واسعٍ مشترَكٍ): هناك فروقٌ بينهما :
القاعدة الفقهيَّة

النَّظريَّة

حكمٌ شرعيٌّ

دراسةٌ ، أو بحثٌ ، أو تجميعٌ

مستنبطةٌ من الوحيين ، والقياس

مستنبطةٌ من المصنَّفات الفقهيَّة

عبارةٌ عن حكمٍ فقهيٍّ ذاتيٍّ ينتقل إلى ما تحتها من الفروع

عبارةٌ عن أحكامٍ عامَّةٍ

أعمُّ ؛ لأنها مجموعةٌ من الأسس العامَّة التي تضبط موضوعاتٍ متشابةً في الأركان والشُّروط والأحكام

أخصُّ ، فلا تشتمل أركانًا ولا شروطًا ، وإنما هي ضوابط فقهيَّةٌ تُراعَى عند تخريج الأحكام ضمن حدود النظريَّات


** القاعدة الفقهيَّة والضَّابط 

(لغةً : حكمٌ كلِّيٌّ ينطبق على جزئيَّاته . اصطلاحًا : حكمٌ يجمع فروعًا شتَّى من بابٍ واحدٍ): يتَّفقان ويفترقان . يتَّفقان في أنَّ كليهما شاملٌ لعددٍ من الجزئيَّات . ويفترقان في :
القاعدة الفقهيَّة

الضَّابط

يندرج تحتها فروعٌ كثيرةٌ من أبوابٍ شتَّى

يندرج تحته فروعٌ من بابٍ واحدٍ

أمرٌ كلِّيٌّ مبنيٌّ على دليلٍ

أمرٌ كلِّيٌّ لا يعتمد على دليل

مثالٌ : 1- قوله ق : « أيُّما إهابٍ دُبِغ فقد طَهُر » .
2- قول العلماء : كل ماءٍ مطلَقٍ لم يتغيَّر فهو طهورٌ .

** القاعدة الفقهيَّة والقاعدة الأصوليَّة 

(القاعدة في اصطلاح الأصوليِّين : صورٌ كلِّيَّةٌ تنطبق كلُّ واحدةٍ منها على جزئيَّاتها التي تندرج تحتها): يفترقان في :
القاعدة الفقهيَّة

القاعدة الأصولية

أمرٌ كلِّيٌّ أو أغلبيٌّ في شمولها لما تحتها من الأمور

لا تكون إلا كلِّيَّةً

تتعلَّق بأفعال المكلَّفين

تتعلَّق بالأدلَّة الشَّرعيَّة

ينظر الفقيه فيها إلى الأدلَّة التَّفصيليَّة ليستنبط الحكم الشَّرعيَّ

ينظر الأصوليُّ إلى الأدلَّة الإجماليَّة ، كما الأدلَّة التَّفصيليَّة لا ليستنبط حكمًا وإنَّما ليضم بعضها إلى بعضٍ ليستنبط قاعدةً أصوليَّةً

ضوابط تجمع مجموعةً من الفروع لمجرَّد الحفظ

قواعد مطَّردةٌ لا تتغيَّر

وكون القاعدة الفقهيَّة أغلبيَّةً لا ينفي أهمِّيَّتها ، فلها أهميَّةٌ عظمى في الفقه الإسلاميِّ ، منها :
1- لولاها لبقيت الفروع الفقهيَّة مشتَّتةً قد تتعارض ظواهرها عند النَّاظر فيها .
2- تُبرِز صلاحيَّة الفقه الإسلاميِّ للتَّطبيق في كل زمانٍ ومكانٍ .
3- تساعد المشتغلَ بالفتوى في إصدار فتواه في دقَّةٍ ، والمجتهدَ في إبعاد الخلط بين الآراء .
4- تضبط للفقيه أصول المذهب وتنظِّم له منثور المسائل في سلكٍ واحدٍ .
** حجِّيَّة القواعد الفقهيَّة : هي إما يكون مستندُها نصًّا ، أو قياسًا .
1- فإذا كان نصًّا فإنها تعتبر دليلًا شرعيًّا تُستنبَط منه الأحكام ، ومخالفتها تُوجب الإثم ، كقاعدة : « المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسِيرَ » من قوله تعالى : ﭿ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﭾ [الحجُّ: ٧٨] .
2- أما إذا كان قياسًا فاختلفوا ، فذهب فريقٌ إلى القول بعدم الاعتماد عليها في استخراج الحكم الفقهيِّ ، وإنما يُستأنس بها فقط . وذهب آخَرون إلى القول بجواز الاعتماد عليها في استنباط الأحكام ويُنقَض حكم القاضي إذا حكم بخلافها . ويمكن الجمع بينهما بالقول بأنه إذا لم يكن ثَمَّ نصٌّ فقهيٌّ في المسألة فيجوز حينئذٍ الاستناد إلى القاعدة والاعتماد عليها في استخراج حكم هذه المسألة ، أمَّا إذا وجد هذا مثل هذا النَّصُّ فلا يُعدَل عنه حينها إلى القاعدة وإنما تُتَّخذ -كما قال الأوَّلون- استئناسًا .

** كيفيَّة إنشاء القاعدة الفقهيَّة : 

بما أن القاعدة الفقهيَّة تشتمل على أمرين : حكمٍ كلِّيٍّ ـ والسَّبيل إلى العلم به هو الاستنباط ـ ، وجملةٍ من الجزئيَّات تندرج تحته ـ وسبيل العلم بها هو الاستقراء ـ ، كانا جميعًا ـ الاستنباط والاستقراء ـ طريقَ تقعيد القاعدة ، ولا يكفي أحدهما لإنشائها .
1- الاستنباط (لغةً : الاستخراج للشيء من مَأْخَذِهِ مادِّيًّا كان (ماءٌ من بئرٍ) أو معنويًّا (معنًى من نصٍّ). اصطلاحًا : استخراج المعاني من النُّصوص بفرط الذِّهن وقوَّة القريحة): وهو بالنِّسبة لعملنا : استخراج الأحكام الشَّرعيَّة من مصادرها ، بواسطة القواعد الأصوليَّة التي تقعِّد عمليَّة تفسير النُّصوص الشَّرعيَّة تفسيرًا فقهيًّا .
2- الاستقراء (لغةً : التَّتبُّع . اصطلاحًا : للغزاليِّ : « تصفُّح أمورٍ جزئيَّةٍ لنحكم بحكمها على أمرٍ يشمل تلك الجزئيَّات » ، وللجِرجَانيِّ : « الحكم على كلِّيٍّ لوجوده في أكثر جزئيَّاته »): ولا يمكن إجراؤه إلا إذا كان عندنا حكمٌ وجزئيَّاتٌ نريد اختبارها من جهة : هل تندرج تحته أو لا . والاستقراء مرتبتان :
1/ استقراءٌ تامٌّ ـ ما يفيده تعريف الغزاليِّ ـ: أن يثبت الحكم في كلِّ جزئيٍّ من جزئيَّات الكلِّيِّ . ولا يكون إلا في العقليَّات ، ويفيد القطع . منه قولهم : « كل جسمٍ متحيِّزٌ » ، فقد استقروا جميع الأجسام فوجدوها متحيِّزةً (محصورةً في حيِّزٍ) لا يخرج عن ذلك واحدٌ منها .
2/ استقراءٌ ناقصٌ ـ ما يفيده تعريف الجِرجانيِّ ـ: أن يثبت الحكم للكلِّيِّ لثبوته في أكثر جزئيَّاته . وهو المقصود عند الفقهاء ، ويفيد الظَّنَّ تفاوتًا في قوَّته بتفاوت الجزئيَّات كثرةً وقلَّةً . ومع إفادته الظَّنَّ إلا أنه حجَّةٌ كافيةٌ للعمل بنتائجه . منه قولهم : « الوتر ليس بفرضٍ » لأنه يؤدَّى على الراحلة ، فقد استقروا أنواع الفروض فلم يجدوا أيَّها تجوز تأديته على الرَّاحلة ، فأثبَتوا سنِّيَّة الوتر لجوازه عليها .


القاعدة الأولى : اليَقِينُ لا يُزالُ بِالشَّكِّ

** معنى اليقين والشَّكِّ :

* اليقين : لغةً : الثَّابت أو المتحقِّق أو الواضح .
اصطلاحًا : جزم القلب مع الاستناد إلى الدَّليل القطعيِّ (يُخرج الاعتقاد ؛ فإنه : جزم القلب من غير استنادٍ إلى الدَّليل القطعيِّ).
* الشَّكُّ : لغةً : شَكَّ الشَّيءَ : لصقه . وشَكَّ عليه الأمرُ : التبس . وشَكَّ في الأمرِ : ارتاب .
اصطلاحًا : تجويز أمرين لا مزيَّة لأحدهما على الآخر . أو : التَّردُّد بين وجود الشَّيء وعدمه . (وفرَّق الأصوليِّين ، فإن كان شقَّي التردُّد سواء فهو الشَّكُّ ، وإن كان أحدهما راجحًا فهو الظَّنُّ ، والمرجوح وهمٌ)

** معنى القاعدة :

 أنَّه إذا ثبت أمرٌ ثبوتًا يقينيًّا [= قطعيًّا] ، ثم شُكَّ في وجود ما يزيله ، فإنَّه يظلٌّ هو المعتبَر ، حتى يَتحقَّق أو يَتيقَّن الأمرُ المزيلُ (إذا ثبت عقدٌ بين اثنين ، ثم وقع الشَّكُّ في فسخه ، فالعقد قائمٌ حتى يتحقق الفسخ).

** دليل القاعدة :

1- القرآن : قوله تعالى :وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونُس: ٣٦] (الحقُّ يعني المتحقِّق أو اليقين) .
2- السُّنَّة : قوله ق لمن شكَّ في الحدث في الصَّلاة : « لا ينصرف ، حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا » .
وقوله ق : « إذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يَدْرِ كَمْ صلَّى ، أثلاثًا أم أربعًا ؟ فليطرح الشَّكَّ وليبن على ما استيقن » .
فلا يباح الخروج من الصَّلاة لمجرد الشَّكِّ في الحدث . والثَّاني صريحٌ في العمل باليقين وترك الشَّكِّ .
3- العقل : فاليقين أقوى من الشَّكِّ ؛ ففيه حكمٌ قطعيٌّ جازمٌ ، فلا ينهدم مثل هذا بالشَّكِّ .

** من فروع القاعدة :

 تدخل هذه القاعدة في الطَّهارات والعبادات والمعامَلات والأحوال الشَّخصيَّة . وفيما يلي أمثلةٌ في كل قسمٍ .
1- الطَّهارات : وفيها فروعٌ :
1/ إذا وقعت في الماء نجاسةٌ ، وشُكَّ في بلوغه القُلَّتين : فلهم فيه وجهان : الأوَّل نجسٌ ، والثَّاني طاهرٌ وهو الأظهر ؛ لأن الماء الموجود في الأرض أصله الطَّهارة ، ولا يَنجُس إلا بنجاسةٍ تقع فيه ، فلا يُحكم بنجاسته إلا بيقينٍ .
ومقدار هذا الماء مختلَفٌ فيه . فالمالكيَّة لا حدَّ للكثرة أو للقلَّة عندهم ، فحيث غيَّرت النَّجاسة أحد أوصافه فإنه يتنجَّس مهما بلغ كثرةً . والحنفيَّة يرون الكثيرَ : الذي إذا حُرِّك الإناء من أحد طرفيه لم يصل أثر الحركة إلى الطَّرف الآخر ، والقليلَ : ما دون عشرةٍ في عشرة أذرعٍ من أذرعة العامَّة . والشَّافعيَّة والحنبليَّة عندهم الكثير : ما جاوز القُلَّتين من قلال هَجَرَ (500 رطلٍ عراقيٍّ) ، والقليل: ما دون ذلك . وحيثُ وقعت النَّجاسة في الكثير فلا ينجُس ، وإن في القليل فينجُس وإن لم يُغيِّر وصفًا .
2/ إذا شُكَّ في طهوريَّة الماء بسبب شرب حمارٍ أو بغلٍ منه (إذ تعارضت الأدلَّة وفتاوى الصَّحابة في نجاسته وطهارته ، فقد جاء أنه ق قال لغالب بن أبجر في الحُمُر : « كُلْ مِن سَمِينِ مالِك » ، بينما حرَّم لحمها في خيبر . أمَّا الصَّحابة ، فجاء عن ابن عمر كراهية التَّوضُّإِ بسؤرها ، بينما جاء عن ابن عباس إجازته . لذلك جميعًا أوجب الشَّكَّ في طهارته): فحكمه عند الحنفيَّة أنه طاهرٌ في نفسه ، مشكوكٌ في رفع الحدث به ، فإن لم يجد غيره توضَّأ به وتيمَّم .
3/ إذا أدخل الكلب رأسه في إناءٍ وشُكَّ هل ولغ أو لا وفمه رطبٌ : فوجهان : الأوَّل الماء طاهرٌ ؛ لأنه الأصل ولا يُزال بالشَّكِّ . والثَّاني نجسٌ ؛ لظاهر ولوغه .
4/ إذا وُجد منيٌّ في ثوبٍ ينامان فيه أو سُمع ريحٌ ولم يُعلم من أيِّهما : فلهم فيه وجهان : الأوَّل لا يلزم أيَّهما غسلٌ ولا وضوءٌ ؛ لأن كليهما متيقِّنٌ للطهارة شاكٌّ في الحدث . والثَّاني يلزمهما جميعًا الغسل والوضوء ؛ لأن الحدث متيقَّن الحدوث فزالت طهارة أحدهما يقينًا ، فتعيَّن عليهما جميعًا الاحتياط وهو الغسل والوضوء .
5/ إذا وقعت في الماء روثةٌ وشُكَّ هل هي من مأكولٍ لحمُه أو غيره : فوجهان : الأوَّل للجمهور أنه طاهرٌ ؛ لأنه الأصل ، والواقع فيه مشكوكٌ فيه ، فلا يُزيلُ اليقين وهو الطهارة . والثَّاني وجهٌ للحنبليَّة أنه نجسٌ ؛ لأن الأصل في الأرواث النَّجاسة .
6/ من تيقَّن الحدث وشَكَّ في الطَّهارة : فهو مُحْدِثٌ . ومن تيقَّن الطَّهارة (كاملةً [= وضوءٌ أو غسلٌ] أو ناقصةً [= تيمُّمٌ]) وشَكَّ في الحدث : فهو على طهارته ، لا فرق بين ما إذا كان داخل الصَّلاة (ما نصَّ عليه الحديث) أو خارجها ، إلا روايةً عن مالكٍ بأنه مُحْدِثٌ إن خارج الصَّلاة ، وإن دَاخِلَها فهو على طهارته .
7/ إذا اجتمع يقينان : كأن تيقَّن الطهارة وتيقَّن الحدث وشكَّ في السَّابق منهما ، يُؤمر بالتذكر . فإن كان الأوَّلُ الحدثَ فهو الآن متطهِّرٌ ؛ لأنه متيقِّنٌ منها وإنما الشَّكُّ في انتقاضها . وإن كان الطَّهارةَ فهو الآن مُحْدِثٌ ؛ لأنه متيقِّنٌ منه وإنما الشَّكُّ في رفعه . واليقين لا يُزال في الحالتين بالشَّكِّ .
2- العبادات :
1/ الصَّلاة : وفيها مسائل :
1) إذا شَكَّ كم صلَّى من الرَّكْعات : اختلَفوا :
1. الحنفيَّة فرَّقوا بين من لم يقع منه السَّهو قبلُ ، وبين من ابتُلي به . فالأوَّل يُعيد ؛ لما ورد أنه ق سُئل عن رجل سها فلم يدر كم صلَّى ، فقال : « ليعد صلاته ، وليسجد سجدتين قاعدًا » . أمَّا الثَّاني فإنه يتَّحرِّي ويعَمَلَ بما أدَّاه إليه تحرِّيه ، فإن لم يصل لغلبة ظنٍّ فإنه يبني على الأقلِّ ؛ لقوله ق : « إذا شكَّ أحدُكم في صلاته فليتحرَّ الصَّواب فليُتمَّ عليه ، ثم ليُسلِّم ، ثم ليسجد سجدتين » .
2. والجمهور على أنه يأخذ بالأقل ويبني عليه ؛ لقوله ق : « إذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلَّى : ثلاثًا أم أربعًا ؟ فليطرح الشَّكَّ وليبن على ما استيقن (وهو الأقلُّ)، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم ؛ فإن كان صلَّى خمسًا شفعن له صلاتَه ، وإن كان صلَّى تمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشَّيطان » .
والذي يترجَّح قولُ الحنفيَّة ؛ لأن التَّحرِّي أمرُ النَّبيِّ ق ، وإن أمكن الخروج به من دائرة الشَّكِّ فلا شكَّ أنه مقدَّمٌ على البناء على الأقلِّ ؛ لأنه ق علق البناء على عدم الدِّراية ، وبالتَّحرِّي تحصل هذه الدِّراية .
2) إذا شكَّ الإمام والقوم كم صلَّوا ، وتيقَّن مأمومٌ أنه صلَّى ثلاثًا ، وتيقَّن آخر أربعًا : فلا إعادة على الأوَّلين والأخير ؛ لمعارَضة المتيقِّن بالنُّقصان بالمتيقِّن بالتَّمام ، والإعادة فقط على المتيقِّن بالنُّقصان ؛ لأن يقينه لا يُزيله يقين غيره أو شكُّه . وإن كان المتيقِّنَ بالنُّقصان هو الإمام أعاد بهم جميعًا . ولو تيقَّن واحدٌ بالنُّقصان وشكَّ الباقون فيُعيدوا احتياطًا إن كانوا في الوقت ، وإن لم يعيدوا فلا شيء ، إلا إذا تيقَّن به عَدلان .
3) إذا شكَّ أيُّ صلاة فاتته من يومه : فإنه يعيد صلواتِ هذا اليوم جميعًا ؛ لأنها واجبةٌ عليه جميعًا ، فلا يخرج من عُهدة الواجب بالشَّكِّ ، ولأن التَّعيين شرطٌ في صحَّة المفروضة ولا يمكن هنا إلا بإعادتها جميعًا ، حتى يخرج من الشَّكِّ إلى اليقين .
4) إذا شكَّ هل صلَّى مفروضةً أو لا ، أو شكَّ هل ركع أو سجد : فإن كان في الوقت أعاد ، وإن بعده فلا ؛ لأن الأصل في عبادته التَّمام ، فيُرجَّح هذا على شكِّه .
5) إذا شكَّ المسبوق هل رفع الإمام قبل ركوعه أو بعده : فإنه يعيد تلك الرَّكعة ؛ لأن الأصل عدم الإدراك وهو يقينٌ ، والشَّكُّ في الإدراك ، ولا يُزال يقينٌ بشكٍّ . وفي وجهٍ للحنبليَّة أنه لا يعيد ؛ لأن الأصل بقاء الإمام راكعًا .
2/ الصَّوم : وفيه ما إذا أكل أو شرب شاكًّا في طلوع الفجر غير متبيِّنٍ ، فَهُم فيه على رأيين :
1) الجمهور على أن ليس عليه قضاءٌ ؛ لأنه تعالى ربط بدء الصَّوم بتبيُّنِ الفجر في قوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[البقرة: ١٨٧] ، كما ربطه ق بتيقُّن دخوله عن طريق سماع الأذان في قوله ق : « إنَّ بلالًا يؤذِّن بليلٍ ، فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أمِّ مكتومٍ » ، كما أن الأصل بقاء اللَّيل وهو اليقين ، فلا يزول مثل هذا اليقين بالشَّكِّ في دخول الفجر .
2) أمَّا المالكيَّة فيُلزمونه القضاء قياسًا على من أكل شاكًّا في دخول المغرب ، والأصل ثبوت الصَّوم في ذمته ، فلا يُزال بالشَّكِّ في الفجر .
والمختار قول الجمهور . والاحتياط يقضي بترك الأكل والشرب في وقت الشَّكِّ حتى يخرج من الخلاف ولا يضع صومه موضع شبهةٍ .
3/ الزَّكاة : وفيها ما :
1) إذا شكَّ هل أخرجها أو لا : فيلزمه إخراجها ، ناويًا التَّقرُّب بها إلى الله .
2) إذا خرج في وقت عادته في إعطائها وشكَّ هل أعطاها أو لا : فلا يشتغل بالشّكِّ .
3) إذا شكَّ في سلامة مالٍ غائبٍ له : جاز له الإخراج ؛ فإن الأصل السَّلامة .
4/ الحجُّ : وفيه ما إذا شكَّ الطَّائف كم طاف : فإنه يبني على اليقين ، وهو الأقلُّ ، إجماعًا .
3- المعامَلات : وفيها ما إذا اشترى ماءً ، ثم أراد ردَّه مدَّعيًا نجاسته ، فالقول قول البائع ؛ لأن الأصل الطَّهارة ، والنَّجاسة شكٌّ طارئٌ فلا يزيله .
4- الأحوال الشَّخصيَّة : وفيها فروع :
1/ إذا شُكَّ هل رضع الصَّغير أو لا ، أو شُكَّ كم رضع الصَّغير : فلهم في ذلك رأيان :
1) الجمهور على ثبوت التَّحريم احتياطًا ؛ لنفي الرِّيبة في الأبضاع المختصَّة بمزيد احتياطٍ بقوله ق : « من اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه » .
2) أما الحنفيَّة فقالوا بعدم ثبوت تحريمٍ ؛ لأن الأصل الحِلُّ ، والتَّحريم بالرَّضاع شكٌّ ، ولا يُزال شكٌّ بيقينٍ .
وعلى القاعدة يُرجَّح مذهب الحنفيَّة .
2/ إذا شُكَّ في التَّمكين من الوطء ، فقالت : « مكَّنتُ نفسي » ، وأنكر هو : فالقول قوله ؛ لأن الأصل عدم التمكين ، والوطء مشكوكٌ فيه .
3/ إذا شُكَّ في وصول النَّفقة والكسوة لها بعد معاشرةٍ مديدةٍ ، فقالت : « لم تصل » ، وأنكر هو : فالقول قولها بيمينٍ ؛ لأن اليقينَ عدمُ الأداء ، والأداء مشكوكٌ فيه .
4/ إذا شُكَّ في طلاق الوالدة ، فقالت : « قبل الولادة ، فلا رجعةَ » ، وقال هو : « بعدها ، فلي » : فالقول قوله ؛ لأن الأصل بقاء سلطة النِّكاح .
5/ إذا شَكَّ في وقوع الطَّلاق : فلا تَطلُق ؛ لأن نكاحها ثابت بيقينٍ ، والطَّلاق المزيل له مشكوكٌ فيه .
6/ إذا شَكَّ في صفة الطَّلاق رجعيَّةً أو بائنةً : فهي رجعيَّةٌ ؛ لأنها أضعف الاثنين ، وهي المتيقَّن من وقوعها .
7/ إذا شَكَّ في عدد الطَّلْقات : فيبني على اليقين وهو الأقلُّ (إذا شكَّ في ثلاثٍ ، فطلقةٌ)؛ لأن الزِّيادة مشكوكٌ فيها ، فلا تلزمه ، وتبقى أحكام المطلِّق دون الثَّلاث ، وذلك للجمهور . أما المالكيَّة فقالوا أنه إذا تيقَّن الطَّلاق وشكَّ في العدد لم تحلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره ؛ لوجود احتمال التطليق البائن .
8/ إذا شَكَّ هل وُجد ما عَلَّق عليه طلاقُه أو لا : فلا تطلُق ؛ لأن النكاح ثابت بيقين ، ومُزيله مشكوكٌ فيه .
9/ إذا طلَّق امرأةً من نسائه ولم يعيِّن : فيتعيَّن عليه التَّعيين عند الشَّافعيَّة . وعند الحنبليَّة يُخرِج إحداهن بالقرعة ، ولا يصحُّ إخراجها بتعيينه بغير القُرعة ، ويجوز وطء الباقي بعدها ، ولا يجوز قبلها إن كان الطَّلاق بائنًا ، وإن رجعيًّا جاز ؛ لبقائهنَّ جميعًا تحته .

** فروع القاعدة من القواعد :

1- « الأَصلُ بَقَاءُ ما كان عَلَى ما كان » ، أو الاستصحاب . وهو : اعتبار الحالة الثَّابتة في وقتٍ ما مستمرَّةً في سائر الأوقات حتى يثبت انقطاعُها أو تبدُّلُها .
مثالٌ : إذا ادَّعى المدين ردَّ الدَّين ، وأنكر الدَّائن ، فالقول قوله بيمينٍ ؛ لأن الأصلَ بقاءُ الدَّين في ذمَّته واستحقاقُه عليهم .

2- « الأَصلُ العَدَمُ » ، أي : ما لم يعارضه دليلٌ آخر . وذلك في الصِّفات العارضة (الحادثة ، أو المكتَسَبة)، أما الأصليَّة فالعكس (الأصل الوجود) (كمن اشترى عبدًا على أنه كاتبٌ ، فأنكر وجود ذلك به ، فالقول قوله ؛ لأن الأصل عدم الكتابة ؛ لكونها من العوارض . أما إن اشترى أمةً على أنها بِكْرٌ ، فأنكر وجود ذلك ، وادَّعاه البائع ، فالقول قول البائع ؛ لكون البكارة من الصِّفات الأصليَّة).
مثالٌ : إذا اختلفا في الوطء ، فالقول قول المنكِر منهما ؛ لأن الأصل عدمه . وإذا قال الشَّريك : « لم أربح » ، فالقول قوله ؛ لأن الأصل عدم الزَّائد .

3- « الأَصلُ إِضَافَةُ الحَادِثِ إلى أَقرَبِ أَوقَاتِهِ » . أي : عند التَّنازع في تاريخ الحادث ، يُحمل على الوقت الأقرب إلى الحال حتى يثبت الأبعد ؛ لأن الوقت الأقرب متَّفَقٌ عليه بيقينٍ ، والأبعد مشكوكٌ فيه . وهي مقيَّدةٌ بحالة ما إذا لم تؤدِّ إلى نقض أمرٍ ثابتٍ .
مثالٌ : من رأى في ثوبه منيًّا لا يدري متى أصابه ، فإنه يعيد كلَّ صلاةٍ صلَّاها من آخر رقدةٍ له (ونصُّ الشَّافعيِّ : من آخر نومةٍ)، ويلزمه الغُسل .

4- « لا يُنسَبُ إلى سَاكِتٍ قَولٌ . ولكنَّ السُّكُوتَ في مَعرِضِ الحَاجَةِ إلى البَيَانِ بَيَانٌ » .
مثالٌ للشِّقِّ الأوَّل : إذا رأى شخصٌ بعض ماله بيد غيره يبيعه ، وسكت ، كان له أن يدَّعي ماله بعدُ ، ولا يُعتبر سكوته اعترافًا بملكية الآخر له ، أو تصديقًا على البيع .
ومثالٌ للثاني : إذا سُئلت البكرُ رأيَها في خاطبٍ ، فسكتت ، اعتُبر سكوتُها إذنًا .

5- « من شَكَّ هَل فَعَلَ شَيئًا أَوْ لَا ، فَالأَصلُ أَنَّهُ لم يَفعَلْهُ » ، وشبيهٌ بها : « مَن تَيَقَّنَ الفِعلَ ، وشَكَّ في القَلِيلِ والكَثِيرِ ، فإِنَّهُ يُحمَلُ على القَلِيلِ ؛ لأنَّهُ المُتَيَقَّنُ » ، إلَّا إذا اشتَغَلت الذِّمَّةُ بالأصل ، فلا تَبرَأُ إلا بيقينٍ .
مثالٌ : من شكَّ في ترك مأمورٍ به في الصَّلاة ، فإنه يسجد للسَّهو . ومن شكَّ هل طلَّق واحدةً أو أكثر ، بَنَى على الأقلِّ .

6- « الأَصلُ في الأَشيَاءِ الإِبَاحَةُ حتى يَرِدَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّحرِيمِ » عند الشَّافعيَّة ـ وهو الصَّحيح ـ ، وأصله قوله ق : « ما أحلَّ الله فهو حلالٌ ، وما حرَّم فهو حرامٌ ، وما سكت عنه فهو عفوٌ ، فاقبلوا من الله عافيته ؛ فإن الله لم يكن لينسى شيئًا » .
« الأَصلُ في الأَشيَاءِ التَّحرِيمُ حتى يَرِدَ الدَّلِيلُ عَلَى الإِبَاحَةِ » عند الحنفيَّة .
مثالٌ : الحيوانُ والنَّباتُ المُشكَلُ أمرُهما : وجهان ، أصحُّهما الحِلُّ .

** مُستَثنَياتُ القاعدة :

1- المستحاضة المتحيِّرة (التي نسيت أو لا تعلم عادَتَها في الحيض قدرًا ووقتًا . وهي أيضًا : المُحَيِّرَةُ ؛ لأنها حيَّرت الفقه)، فيجب عليها الاغتسال لكلِّ صلاةٍ إن لم تكن تعلم وقت انقطاعه ، فإن علتمه من أيِّ أجزاء اليوم هو (بعد المغرب مثلًا) وجب عليها كلَّ يومٍ من بعد هذا الوقت .
2- إذا وجد بللًا ولم يعرف أمنيٌّ هو أو مذيٌ ، وجب عليه الاغتسال .
3- إذا وجد فأرًا ميتًا في وَضوئه ولم يدر متى وقع ، فإنه يعيد .
4- إذا شكَّ هل كبَّر للافتتاح أو لا ، أو أحدث أو لا ، أو مسح رأسه أو لا ، فإنه يعيد إن كان أوَّل مرَّةٍ .
5- إذا أصابت ثوبه نجاسةٌ ولم يدر أي بقعةٍ منه ، فإنه يغسله كلَّه .
6- إذا رمى صيدًا فجرحه ، فوقع بعيدًا عنه ، فلمَّا بلغه وجده ميتًا ولم يدر السَّبب ، فإنه يحرم عليه أكلُه .
7- إذا أكلت الهرَّة (وسؤرها طاهرٌ) فأرًا ، فإن شربت بعده مباشرةً فالماء متنجِّسٌ ، وإن بعد فترةٍ فعن أبي حنيفة لا يتنجَّس ؛ لاحتمال غسلِها فَمَها بلُعابِها . وعند محمَّدٍ ينجُس ؛ بناءً على أصلٍ عنده أنها لا تزول إلا بالماء المطلَق .


القاعدة الثَّانية : الضَّرَرُ يُزَالُ

** معنى القاعدة :

 أن الضَّرر الذي قد يجده المكلَّف في التَّكليفات قد رفعه الله تعالى ، فلا نجد أمرًا في أدائه مشقَّةٌ لأيِّ عذرٍ إلا ونجده تيسَّر وأصبح سهلًا ، فالتَّكليف بحسب الوسع والطَّاقة .
وأيضًا تحريم أن يوقع شخصٌ بآخر ضررًا ، وإذا حصل ووقع فإنه يُزال .

** دليل القاعدة : 

قوله ق : « لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ » . وهو نصٌّ في تحريم كلِّ نوعِ ضررٍ ؛ لأن النَّفي بـ « لا » الاستغراقيَّة يفيد تحريم جميع أنواع الضَّرر .

** تعريف الضَّرورة :

لغةً : الشِّدَّة والمشقَّة والمَضرَّة التي لا مَدفع لها .
اصطلاحًا : 1- حنفيًّا : خوف الضَّرر أو الهلاك على النَّفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل .
2- مالكيًّا : الخوف على النَّفس من الهلاك علمًا أو ظنًّا .
3- شافعيًّا :بلوغ الإنسان حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب الهلاك .
4- حنبليًّا : خوف الإنسان التَّلف إن لم يأكل المحرَّمَ غيرَ السُّمِّ .
5- آخر : الحالة المُلجِئَةُ لتناول الممنوع شرعًا (وهو المختار ؛ لأنَّه يجمع أنواعَ الضَّرورة وأنواعَ المحرَّم).
فالخلاصة إذًا أن الضَّرورة هي : تعرُّض الإنسان لظروفٍ تحيله إلى حدٍّ يعلم أو يظنُّ أو يخاف أنه إن لم يتناول أو يفعل المحرَّم ـ غير السُّمِّ ـ هلك أو قارب الهلاك بهلاك بعضه أو كلِّه .
والمَرجع في تقدير هذه الضَّرورة هو الإنسان نفسه ، لا غيره وإن كان قريبًا .

** شروط الضَّرورة :

1- أن تكون الضَّرورة مُلجِئةً : أن تكون الحالة التي وصل إليها يخشى معها من هلاكٍ أو مقاربته (استُفيد ذلك من لفظ « ضرورة » فهي : الحاجة الشَّديدة).
2- أن تكون الضَّرورة قائمةً : أي حالَّةً (توشك أن تقع إن لم يتناول الحرام) غير متوقَّعةٍ (لا يأكل الجائعُ ميتةً قبل أن يصل إلى المخمصة ؛ لأنها إنما أبيحت لحالة الضَّرورة فلا تجوز حال السَّعة)، وإلا حرُم عليه الاقتراب من المحرَّم . ومثلها إن وجد الدَّاعي لتناول المحرَّم لكنَّه زال قبل تناوله فيحرُم حينئذٍ أيضًا (العلَّة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا).
3- أن يتعيَّن على المضطر ارتكاب المحظور : فلا يجد وسيلةً لدفع اضطراره غير المحظور ، فإن وجد فيحرُم تناوله حينئذٍ .
4- ألا يزيد المضطر في المحظور عمَّا يدفع به اضطراره : فإذا تجاوزه كان آثمًا .
5- ألا يكون للمضطر دخلٌ في حلول الاضطرار : وألا يتسبَّب فيه وألا يتَّخذه ذريعةً للوصول إلى المحرَّم وألا يقع في حالة الاضطرار بسبب محرَّمٍ آخر (واختلف الفقهاء في ذلك : هل العاصي بسفره تباح له الرُّخص الشَّرعيَّة أم لا ؟ فالجمهور أن لا ؛ لأنه تعالى أباحها عونًا وتيسيرًا وهو لا يستحقُّهما ، ولأنه تعالى أحلَّها لغير الباغي والعادي ، وهو باغٍ وعادٍ . بينما الحنفيَّة ذهبوا إلى أنه والمطيعَ سواءٌ في إباحة الرُّخص ؛ لإطلاق النُّصوص ، منها :أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۚ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٨٤]وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام: ١١٩] ، وما جاء عنه ق : « فرض المسافر ركعتان » ، والباغي والعادي يمكن أن يراد بهما : في الأكل . هذا ، وإن لم يتناول العاصي للمحرَّم فمات كان عاصيًا وتلك معصيةٌ أشدُّ مما كان فيه . وقالوا : إن تناول المحرَّم عند الاضطرار عزيمةٌ لا رخصةٌ).

** من فروع القاعدة :

1- الرد بالعيب : الأصل في البيوع سلامة المبيع ، فإذا أخذ المشتري سلعةً ثم وجد بها عيبًا ففي بقائها معه على عيبها ضررٌ عليه ، فيُزال هذا الضَّرر (بشروطٍ ، هي : أن يكون العيب قديمًا . وعدم رضاء المشتري به . وأن يجري العرف بالسلامة منه . وألا يتمكَّن من إزالته إلا بمشقَّةٍ . وألا يكون البائعُ الحاكمَ)، وذلك بأن يردَّه للبائع بحالتها التي أخذها بها مقابل ما دفعه (وإن حدث عيبٌ آخر عنده ردَّه بشرط رضى البائع)، أو إن شاء أمسكه .
2- أنواع الخيار من اختلاف الوصف المشروط : فخيار الشَّرط شُرع على خلاف الأصل (من أن العقد تامٌّ بعد تمام الصِّيغة) وذلك رفعًا للضَّرر عن المتعاقدين ، فحيث رأى العاقد مصلحته فعلها ، سواء إمضاء العقد أو إبطاله .
3- التَّغرير (لغةً : الخداع . اصطلاحًا : استعمال الطُّرق الاحتياليَّة لحمل الشَّخص على التعاقد ظانًّا أن فيه مصلحته ، والواقع خلاف ذلك): فالمغرور مخيَّرٌ بين إمضاءِ العقدِ بَعْدُ أو فسخِه رفعًا للضَّرر عنه ، ويضمن الغارُّ الضَّرر الذي حدث بسبب تغريره ، في ثلاث مسائل :
1/ أن يقع التَّغرير ضمن عقد معاوضةٍ ، ولو فاسدًا ولو غيرَ ماليٍّ (نكاحٌ) (باع الأوَّلُ مال الثاني فضولًا للثَّالث وقبض ثمنه ، فهلك الثَّمن في يده ، ولم يُجز المالكُ [الثَّاني] البيعَ [بمعنى أنَّ السِّلعة تُردُّ إليه] وكان المشتري [الثَّالث] حين دفع لا يعلم أنه فضوليٌّ ، فإنه [الأوَّل] يضمن له [الثَّالث] الثَّمن).
2/ أن يكون التَّغرير في ضمن قبضٍ يرجع نفعه إلى الدَّافع (لو هلكت الوديعة ، ثم استُحقَّت ، وضمن المستحِقُّ الوديعُ ، رجع بما ضمنه على المودع).
3/ إذا ضمن الغارُّ للمغرور صفة السَّلامة نصًّا (لو قال له : هذا طريق آمن فاسلكه ، وإن أُخِذ مالُك فأنا ضامنٌ).
4- الحَجر (لغةً : المنع مطلقًا . اصطلاحًا : حنفيًّا : منعٌ من نفاذ تصرُّفٍ قوليٍّ لا فعليٍّ / مالكيًّا : صفةٌ حُكميَّةٌ توجب منع موصوفها من نفوذ تصرُّفه فيما زاد على قوَّته ، وتوجب منعه من نفوذ تصرُّفه في التَّبرُّع بما زاد عن ثلث ماله / شافعيًّا : المنع من التَّصرُّفات الماليَّة / حنبليًّا : منع الإنسان من التَّصرُّف في ماله . وأسبابه : الصِّغر والرِّق والجُنون): فقد شُرع الحَجر ـ رغم ما فيه من الضَّرر الظَّاهر بالمحجور عليهم ـ رفعًا للضَّرر المتوقَّع وقوعه لو تُرك لهم التَّصرُّف . فالمجنون يُمنع من ماله ما دام مجنونًا (هذه قاعدةٌ . وهو ما دام مجنونًا فلا يُؤاخَذ بأقواله ، أما أفعاله التي تعلَّقت بإتلاف مالٍ للغير فهو مؤاخَذٌ بها لأن « الخطأ والعمد في أموال النَّاس سواءٌ »)، والصَّبيُّ ما دام لم يَرشُد (والرَّشَد عن الحنفيَّة : الاستقامة والاهتداء في حفظ المال ، فيُدفع إليهم المال إذا رشدوا وإن لم يبلغوا . وعند الشَّافعيَّة : بشرط البلوغ مع الرَّشاد . فإن بلغ غير راشدٍ انتظر حتى بلوغه خمسًا وعشرين فيدفع إليه ماله إجماعًا إن رشد ، وإلا فأبو حنيفة يدفعه إليه ، والصَّاحبان يمسكانه حتى يرشد)، والرَّقيق ما دام تحت سيِّده . فيُمنع الأوَّلان من المال لأن وضعه في أيديهما إتلاف له وهو منهيٌّ عنه ، والأخير لأنه وما ملكت يداه لسيِّده .
5- الشُّفعة (تملُّك البقعة جبرًا على المشتري بما قام عليه): وشُرعت رفعا لضرر القسمة ودفعا للأذى عن الجار القديم .
6- القصاص (أن يُفعل بالجاني مثلما فَعل عامدًا): مع ما في ظاهره من الضَّرر بالجاني ، إلا أن فيه رفعًا للضَّرر الجسيم المتوقَّع حلوله بالمجتمع بأَسْرِهِ إن تُرك مثلُ هذا طليقًا دون قصاصٍ .
7- الحدود (الحدُّ لغةً : المنع والحاجز. اصطلاحًا : عقوبةٌ مقدَّرَةٌ وجبت حقًّا لله ﻷ): فيها مثل ما في القصاص .
8- فسخ النِّكاح بالعيب : فإذا وجد أحدهما بالآخر عيبًا يمنع مقصود النِّكاح من الاستمتاع به ، فيحقُّ له فسخ العقد ؛ رفعًا للضَّرر الواقع عليه بسبب عدم تمكُّنه من الاستمتاع .
9- دفع الصَّائل (الصِّيال : التَّعدِّي . اصطلاحًا : الاستطالة والوثوب على الغير بغير حقٍّ): وهو مشروعٌ بآياتٍ ، منها : الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة: ١٩٤] . فرغم ما فيه من إلحاقٍ بالضَّرر بالصَّائل قد يصل إلى قتله إلا أن فيه رفعًا لضررٍ أكبر عن المعتدَى عليه نفسِه أو مالِه أو عرضِه ، بل عن المجتمع كلِّه بعد ذلك .
10- ضمان المُتلَفات : فيضمن المتلِف ، إن كبيرًا فبنفسه ، أو صغيرًا فعنه وليُّه ، وإن بهيمةً فصاحبُها ؛ لأن في عدم الضَّمان ضررٌ بالمالك ، والضَّرر يزال هنا بالضَّمان ، ولو لم يُشرَع لأَخَذَ النَّاس في إتلاف أموال غيرهم دون اهتمامٍ فتكون الأموال معرَّضةً دائمًا للتَّلف والضَّياع .

** فروع القاعدة من القواعد :

1- « الضَّرورات تبيح المحظورات ، بشرط عدم نُقصانِها عنها (زيادةٌ شافعيَّةٌ)» .

· معناها : أنَّ الضَّرورة تجعل المحظور مُباحًا ، بشرط عدم نُقصان الضَّرورة في نظر الشَّرع عن المحظور ، وإلَّا فلا تُعتَبَر ضرورةً مُلجِئَةً إلى المُحرَّم . فهي إذًا كالضابط للقاعدة الأصليَّة .
· دليلها : قوله تعالى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ  [المائدة: ٣] ، وغيرها .
· من فروعها :
1/ جواز أكل الميْتة عند المخمصة : فمن وصل به الجوع إلى درجةٍ تهلكُ نفسه معه إن لم يأكل ولم يجد إلَّا المَيْتَة أو غيرَها ممَّا حرَّم الله ، فلهم فيه رأيان :
1) الجمهور على أنَّه يجب عليه تناول المحرَّم . واستدَلُّوا بـ :
قولِهِ تعالى : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: ١٧٣] ، مع قوله : وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: ١٩٥] . فدلَّت الآيات وغيرها على حُرمة هذه الأصناف ، لكنَّها في الوقت نفسه أباحَتهَا للمضطر وأوجَبَت ذلك الآيةُ الثَّانيةُ وشبيهاتُها حيث حرَّمت إلقاء النَّفس إلى التَّهلُكة ، فبالتَّالي أوجَبَت الأكل .
وما جاء من أنَّهم سألوا النَّبيَّ ق عمَّا يحلُّ لهم من الميتة وهم في مَخمَصةٍ ، فرُوي أنَّه أجاب : « إذا لم تَصطَحِبُوا ولم تَغتَبِقُوا بَقلًا فشأنُكُم بها » .
هذا ، والمُضطرُّ في حالةٍ لو لم يأكل معها المُحرَّم لَـمَات ، وحفظ النَّفس من الضَّرورات الخمسة التي جاءت الشَّريعة بحفظها ، فلو لم يأكل ومات ماتَ عاصيًا لله .
2) آخَرون على أنه يُباح فقط ، فيجوز الأكل ويجوز التَّرك . واستدلُّوا بـ :
قصَّة عبد الله بن حُذافَة السَّهميِّ ط ، لمَّا أَسَرَه الرُّومانُ ولم يَجعَلوا معه إلَّا ماءً ممزوجًا بخمرٍ ولحمَ خِنزيرٍ مشويًّا ، فلم يأكل حتَّى كاد أن يموت ، فأخرجوه خوفًا عليه ، فقال : « ما منعني منها ـ وهي حلالٌ ـ إلَّا لئلَّا أُشمِتَكُم بدين الإسلام » . [رُدَّ عليهم : بأنَّ ذلك منه زيادة وَرَعٍ ، ونظرٌ لمصلحةٍ أُخرى أكبر من إنقاذ نفسه]
والقِياسِ على باقي الرُّخَص . [رُدَّ عليهم : بالفارق ، فليست إباحة الميْتة للمضطرِّ كإباحة التَّيمُّم للعاجز عن الماء ؛ فترك الأكل يؤدِّي للموت ، بينما ترك التَّيمُّم ليس كذلك]
والرَّاجح هو الأوَّل وهو إيجاب المحرَّم للمضطرِّ ؛ لموافَقَته أصول الشَّريعة والنُّصوص .
* وينبغي أن يُعلَم ! أنَّ وُجودَ الإنسان في بلاد الكُفر وعدمَ توافر اللُّحوم المُحلَّلة بالطَّريقة الشَّرعيَّة (الذَّبح)، ليس ضرورةً تُحِلُّ له أكل هذه اللُّحوم أو الخِنزير ، ولا يصحُّ التَّذرُّع بحُجَّة « خشية الهُزال » أو « نقص الموادِّ البُروتينيَّة » فإنَّ كليهما مدفوعٌ بوجود ذلك في أطعمةٍ أخرى من الحلال ، ومَن بَحَثَ وَجَدَ .
* إذًا ، فالمَحظور : تناول المَيتة أو غيرَها من الحرام . والضَّرورة : الحفاظ على الحياة . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، بل أعلى منه بكثيرٍ . فسَلِمَ الفَرعُ لنا ، وطابق القاعدة .
2/ إساغة اللُّقمة بالخمر : فإذا لم يَجد شيئًا يُسيغُ به لُقمةً في بُلعومه إلَّا خمرًا فله حينئذٍ إساغتُها بها . ولهم في وجوب ذلك أو عدمه القولان كما مرَّ ، واستدلُّوا بما مرَّ من الأدلَّة . والرَّاجح الوُجوب . وفيه ما في قبله .
3/ التَّلفُّظ بكلمة الكفر للإكراه : مَن أُكره إكراهًا مُلجِئًا على النُّطق بكلمة الكُفر بحيث يَخشَى معه هَلَكَةَ نفسٍ أو تَلَفَ عُضوٍ ، فلهُ حينئذٍ ـ إجماعًا ـ أن ينطق بالكُفر ، ما دام قلبُهُ مطمئنًّا بالإيمان .
والأصل في ذلك قوله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النَّحل: ١٠٦] ، حيثُ بيَّن الله أنَّ قَول الكُفر مَغَبَّتُهُ عظيمةٌ ويُوجِبُ غَضَب الله وعِقابَه العظيمَ وذلك لِمَن اختاره على الإيمان ، أمَّا ذلك الذي قاله مُكرَهًا عليه إكراهًا حقيقيًّا فلا يُصيبُه شيءٌ من ذلك وهو مَعذورٌ عند الله .
وسبب نزول هذه الآية كما قال المُفسِّرون قصَّة عمار بن ياسرٍ . وهي مشهُورَةٌ معروفةٌ .
* فقال الفُقهاء : مَن قال كلمة الكُفر مُكرَهًا فلا تنطبق عليه أحكامُ المُرتَدِّ (لا يُقتَل ، ولا تَطلُق امرأتُهُ ، ولا يُحرَم من ولدِهِ ، ولا يُوضَع مالُهُ في بيت المال ، وغيرها)، لقوله ق : « رُفع عن أُمَّتي الخطأُ والنِّسيانُ وما استُكرِهُوا عليه » . وله أن يُوالِي (يقولُها مرَّاتٍ أُخرى) كلَّما اضطُرَّ .
* وَهُمْ ـ مع إباحة التَّلفُّظ بالكُفر للمُكرَه ـ مُجمِعُون على أنَّ العزيمَةَ في ذلك الموقف أفضلُ من التَّرخُّص ؛ إعزازًا للدين وإعلاءً لقدره ، كما فعل أَبَوَا عمَّارٍ ياسرٌ وسُميَّةُ ن ، ولقوله ق في رجُلَين أخذ أحدُهما بالرُّخصة ونَجَا والآخر أخذ بالعَزيمة فقُتِل : « أمَّا أنتَ فأخَذتَ بالرُّخصة ، وأمَّا صاحبُكَ فمَضَى على إيمانِهِ وهو رفيقي في الجَنَّة » .
* إذًا ، فالمَحظور : التَّلفُّظ بالكُفر. والضَّرورة : الحفاظ على الحياة . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، إنَّما مساوِيةٌ له ؛ فإنَّ الحَفاظ على الدِّين من الضَّرورات الخَمسة ، كما الحِفاظ على النَّفس .
4/ إِتلاف المال : كما إذا كانوا على سفينةٍ ، وأوشَكَت على الغَرَق ، ولم يُمكن حِفظُها إلَّا بإلقاء بعض ما على ظهرها من مالٍ . فيُلقى المال القليل المُراد لِحفظ المال الكثير الباقي . ولا ضَمان في المُلقَى مطلقًا عند الحنفيَّة ، وعند الشَّافعيَّة لا ضمان إذا كان المُلقِي صاحبَهُ أو بإذنه وإلَّا فالضَّمان على المُلقِي ، وعند المالكيَّة الضَّمان على جميع من بالسَّفينة ؛ لأنَّ المال إنَّما أُلقِي لحفظ مالِـهِم جميعًا . وذلك العَدلُ ، وأولى الأقوال بالصِّحَّة .
* إذًا ، فالمَحظور : إتلاف المال قليلِه وكثيرِه . والضَّرورة : الحفاظ على الأغلب . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، بل أعلى منه .
5/ أخذ مال المُمتَنِع من أداء الدَّيْن بغير إذنه (تُعرف عندهم بمسألة الظَّفر بالحقِّ): إذا ظفر الدَّائن بشيءٍ من حقِّه يجوزُ له أخذُهُ عند الجُمهور . أمَّا إذا كان الذي ظفر به شيئًا من غير جِنس حقِّه ، فاختَلَفوا :
1) فالحنفيَّةُ ، والمالكيَّة والشَّافعيَّة والحنبليَّة في قول عندهم : قالوا بأنه لا يأخُذُه . واستَدَلُّوا بـ :
قوله ق : « لا يَحِلُّ مال امرئٍ مُسلمٍ إلَّا عن طيب نفسٍ منه » ، وما يُروَى عنه : « أدِّ الأمانة إلى من ائتَمَنَك ، ولا تَخُن مَن خانَك » . وهو إذا أخذ من غير جِنس حقِّه كان مُعاوَضةً من غير تراضٍ ، فلم تصحّ . وكلُّ ما لا يجوز للشَّخص تملُّكُه من غير دينٍ ، لا يجوز أخذُهُ إذا كان دَينًا .
2) والمالكيَّة والشَّافعيَّة والحنبليَّة في الأقوال الثَّانية : قالوا بجواز أخذِهِ . واستَدَلُّوا بـ :
قوله تعالَى : الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة: ١٩٤] ، وقوله ق : « لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ » . فَدَلَّا على جواز أخذ ما وقعت عليه يدُهُ من مال المُمتنِع ؛ إذ هو الذي بدأ بالاعتداء ، كما أنَّه بامتناعه يسبِّب ضَررًا للدَّائن ، فأباحت له هذه الضَّرورة أخذ ما استطاع منه دفعًا لها .
* إذًا ، فالمَحظور : أخذ مال الغَير بدون إذنه . والضَّرورة : حصول الإنسان على ماله . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، بل مساويةٌ لها ؛ لاستواء الحقَّين .
6/ دفع الصَّائل ولو أدَّى لقتله : فلو اعتدى إنسانٌ على آخر في نفسه أو عِرضِه أو مالِهِ ، أو اعتَدى رجل على امرأة يريد بها الفاحشةَ ، أو اعتَدَت عليه بهيمةٌ ، فللمُعتدَى عليه ولغيرِهِ دفعُ كلِّ ذلك عنه ، لكن بقدره ، فإذا استطاع الدَّفع بمُجرَّد الصِّياح حَرُم الضَّربُ ، وإن بالسَّوط حرُم مثل العصا ، وإن بجَرحٍ حرُم القطع ، وإن لم يُمكن إلَّا بالقتل جاز .
والدَّليل على ذلك قوله ق : « مَن قُتل دون مالِه فهو شهيدٌ ... الحديث » .
* إذًا ، فالمَحظور : إيذاء الآخَر وقتله . والضَّرورة : حمايةُ الشَّخص ما هو لَهُ . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، بل أكبر ، والآخَر هو البادئ .
7/ الأكل من الحرام إذا عَمَّ قُطرًا : فإذا عمَّ الحرامُ قُطرًا من الأقطار بحيثُ انعدم وُجود الحلال أو قلَّ جدًّا بحيث لم يعد يكفي لسدِّ الرَّمَق ولم يُمكن التَّحوُّل عن هذا المكان ، فيجوز عندئذٍ للمُسلم أن يتناول من هذا المُحرَّم دون حَرَجٍ ، لكن يكون تناوُله له بقدر حاجته ولا يتعدَّاه إلى الرَّفاهية .
* إذًا ، فالمَحظور : أكلُ الحرام . والضَّرورة : الحفاظ على الحياة . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، بل أكبر .
8/ نبش (لغةً : الإبراز) الميِّت : فإذا دُفن الميِّتُ بغير غُسلٍ (عند غير الحنفيَّة) أو كَفَنٍ (عند غير أصحِّ الشَّافعيَّة) أو توجيهٍ للقبلة ، أو في أرضٍ أو ثوب مغصوبٍ ، وَجَبَ تخليصُه من هذه المحرَّمات ، فيُنبَشُ القبر ويُخرَج ، لكن هذا إذا لم تتحلَّل الجُثَّة ، وإلَّا امتَنَعَ .
* إذًا ، فالمَحظور : نبش الميِّت . والضَّرورة : تخليصُه من المحرَّمات . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، بل مساويةٌ لها .
9/ إتلاف شجر الكفَّار وحَجَرهم وحيوانهم لحاجة القتال : مُحرَّمٌ على المسلم في حربه أن يَقتُل أو يُتلِف ما لا يُقاتِله ، كالشَّجَر والحيوان والمباني ، لكن إن اقتضت ضرورة القتال ذلك لكسر شوكتهم وإضعافِهِم فيُسمَح به بقدره .
والدَّليل إحراقُهُ ق للبُوَيرة (نخلٌ لبني النَّضير)، وقوله تعالى : مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر: ٥] .
* إذًا ، فالمَحظور : إتلاف غير المُحارِب . والضَّرورة : إنجاءُ المسلمين وإذلال عدوِّهم . وليست هذه الضَّرورة بأقلَّ من المحظور ، بل أكبر .
· مستَثنياتُها (المحظورُ فيها أقلُّ من الضَّرورة ، فلم تتبع القاعدة):
1/ إذا كان الميِّتُ نبيًّا : قبل ذلك ، اختلَفوا في ميْتةُ الآدمِيِّ هل هي كميْتة غيرِهِ في جواز الأكل منها للمُضطرِّ ، على أربعة مذاهب :
1) الحنفيَّة وبعض المالكيَّة : لا يجوزُ مطلَقاً أكلُ المضطرِّ من ميْتةِ الآدَميِّ ؛ لأنَّ حُرمَتَه أعظم ، حيًّا أو ميِّتًا .
2) بعض المالكيَّة : يجوُزُ مُطلَقًا ، مسلمًا كان أو كافرًا .
3) الشَّافعيَّة : يجوزُ بشرائط :
1. عدم وُجود ميْتةِ غيره .
2. كون الآكِل مَعصُومَ الدَّمِّ (غيرَ مهدَرِهِ كالقاتل عمدًا ، والزَّاني المُحصَنِ ، والمُرتدِّ ، والحَربِيِّ ، وتاركِ الصَّلاة).
3. كون المأكول مُهدَرَ الدَّمِّ (غيرَ معصُومِهِ كالمُسلم (غير أوَّل اثنين فوق) ، والذِّمِّيِّ ، والمُستأمَنِ ، والمعاهَدِ).
4. عدم كون المأكول نبيًّا .
وقالُوا : لا يأكل وهو حيٌّ ، فإن فعل وكان يقدر على قتله كان مُسيئًا ؛ لما فيه من تعذيبٍ ، وإلَّا فهو مُضطرٌّ ، ونفسُهُ أعظمُ حُرمةً منه .
4) الحنبليَّة (كالشَّافعيَّة تقريبًا): لا يجُوزُ أن يأكُلَ ، أو يقتُلَ ليأكلَ ، آدميًّا معصومَ الدَّمِّ . فإن كان مُستَباح الدَّمِّ أَكَلَ منه ، أو قتلَهُ ليأكُلَ منه .
وتعقيبًا على ما سبق .. فكلُّ مَن أباح أكل الآدميِّ ـ بالتَّفصيل السَّابق ـ استَثنَى منه إذا كان المأكُولُ نبيًّا ؛ لأنَّنا إنَّما أبحنا للمُضطرِّ الأكل حفاظًا وتكريمًا لحياته ، أمَّا النَّبيُّ فهو أعظمُ حُرمةً إطلاقًا ، والأرضُ لا تأكل أجسادَهم تكريمًا لهم ، فلا يُباحُ لأحدٍ إنقاذُ نفسه بأكل لحمه .
2/ الإكراه على القتل : إذا تحقَّقت شروطُ الإكراه ، وأُكرِه المرءُ على قتل آخَر ، فإنَّهم أجمَعُوا على أنَّه لا يحلُّ له القتلُ استبقاءً لنفسه ؛ لأنَّه يدفع ضررًا مُتوقَّعًا بضررٍ واقعٍ ، وليست نفسُه بأولَى من نفسِه ، ولقوله تعالى : ﭿ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭾ [الأنعام: ١٥١] ، وقوله ق : « لا يحلُّ قتل امرئٍ مسلمٍ إلَّا بإحدى ثلاثٍ : النَّفسُ بالنَّفس (القاتل عمدًا)، والثَّيِّب الزَّاني ، والتَّارك لدينه المفارِق للجماعة » .
لكنَّهم اختلَفُوا في العُقوبة إذا حدث القتل فعلًا :
1) أبو حنيفة ومحمَّد : القصاص من المُكرِه ؛ لأنَّه المتسبِّبُ حقيقةً وإن لم يُباشِر بنفسه . وتعزيرُ المُكرَه ؛ للشُّبهة في القتل ، ولقوله ق : « رُفع عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان وما استُكرِهوا عليه » ، ولأنَّه كالأداة .
2) أبو يوسف : لا قصاص من أيِّهما ، والدِّيةُ على المُكرِه ؛ لأنَّه المتسبِّبُ حقيقةً .
3) المالكيَّة والحنبليَّة : القصاص منهما جميعًا ؛ لأنَّ المُكرَهَ باشَرَ القتل ظُلمًا استبقاءً لنفسه ، والمُكرِهَ تسبَّب فيه .
4) الشَّافعيَّة : ثلاثة آراء :
1. (الرَّاجح . وهو لزُفَرَ أيضًا وابن حزمٍ) القصاص من المُكرَه ؛ لأنَّه المباشِرُ للقتل ، وقد وُجد منه حقيقةً ومشاهَدةً ، ولا يجوز العدول عن الحقيقة لغيرها إلَّا بدليلٍ . ولا شيء على المُكرِه ؛ وقد يمكن التَّعزير .
2. الدِّيةُ على المكرَه ؛ للشُّبهة في أنَّه قتله درءًا للقتل عن نفسه ، كالدِّفاع .
3. القصاص منهما جميعًا ؛ لنفس تعليل المالكيَّة والحنبليَّة .
3/ الإكراه على الزنا : إذا تحقَّقت شروطُ الإكراه ، وأُكرِه الرجلُ أو المرأةُ على الزِّنا ، فاختَلَفُوا في حُكمه الأُخرويِّ :
1) الحنفيَّة : لا إكراه في الزِّنا للرَّجُل ، ويستمرُّ إثمُهُ إلى أن ينزع ؛ فإنَّه محرَّمٌ تحريمًا جازمًا ، ولم يرد ما يبيحه للضَّرورة أو الإكراه ، بل العكس ، قال الله : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: ٣٢] . أمَّا المرأة ، فقال بعضهم بأنَّها لا تأثَم ؛ لأنَّه لم يقع منها إلَّا التَّمكين . وفي هذا نظرٌ ؛ لأنَّ الزِّنا كما يُتصوَّر من الرَّجل كذلك من المرأة ، فزناه بالإيلاج وزناها بالتَّمكين ، وقد سمَّاها الله زانيةً .
2) المالكيَّة : لا إكراه في الزِّنا ، ويأثَمُ إن كان لها زوجٌ أو سيِّدٌ ، مُكرَهةً كانت أو طائعةً . فإن لم يكُن لها زوجٌ ولا سيِّدٌ جاز .
3) الشَّافعيَّة : لا يبيح الإكراهُ الزِّنا ، والرَّجل والمرأة في ذلك سواءٌ .
أمَّا حُكمه الدُّنيويُّ ، فاتَّفَقوا على أنَّه لا يُحَدُّ الرَّجُل ؛ للشُّبهة ، لقوله ق : « رُفع عن أمَّتي ... » ، وأنَّ الحدود تُدرأ بالشُّبهات . أمَّا المرأةُ فلا خلاف في عدم الحدِّ عليها إذا أُكرَهَت ؛ لقوله تعالى : وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ  [النُّور: ٣٣] ، ولقضاء عُمر ط بذلك . كلُّ ذلك إذا استمرَّ الإكراه حتى الإيلاج ، وإلَّا فلو زال الإكراه قبل الإيلاج ثمَّ مكَّنَت كانت مُطاوِعةً .
وكلُّ ما سبق كان في الإكراه التَّامِّ . أمَّا النَّاقص ففرقٌ بين الرَّجُل والمرأة .. فالرَّجُل يُحَدُّ ؛ لأنَّه ارتَكَبَ محظُورًا بليغًا ورضي بالضَّرر الأقلِّ منه . أمَّا المرأة فالنَّاقص في حقِّها كالتَّامِّ ؛ لأنَّه لا يُوجَد منها إلَّا التَّمكينُ .
4/ دفن الميِّت من غير تكفينٍ : سبق جوازُ نَبشِه إذا خالط دفنَهُ محرَّمٌ . لكن على ما نحن عليه من مذهب الشَّافعيَّة فإنَّ الميِّت لا يُنبشُ إذا دُفن بغير تكفينٍ ؛ لأنَّ التَّكفين ضرورةٌ لا تستدعي هَتكَ حُرمةِ الميِّت ، فإنَّ التُّراب قام مقام الكَفَن في سَترِه ، فيكفي .

2- « ما أبيح للضَّرورة يُقدَّر بقدْرِها » .

· معناها : أنَّ الضرورة التي تلحق المكلَّفَ إنَّما تُبيح المَحظورَ بقدر ما يدفعُ الضَّررَ ، فلا يجوز الاسترسالُ ، وإذا اندفعت عاد الحظرُ .
 فبيَّنت أنَّ المُضطرَّ يتناولُ من المُحرَّم بقدر ما يدفع اضطراره ، ولا يكونُ باغٍ ولا عادٍ بأن يتناول زائدًا عن حاجته .
· من فروعها :
1/ المضطرُّ لا يأكل من الميْتة إلَّا قدر سدِّ الرَّمَق : بعدما اتَّفَقوا على أنَّه لا يأكل إلَّا بمقدار ضرورته ، اختلفوا في قدر هذه الضَّرورة ، أي مقدار ما يأكل من الميْتة :
1) فالحنفيَّة ، وفي رواية لكلٍّ من الشَّافعيَّة والحنبليَّة : أنَّه لا يأكُل إلَّا ما يُقيم صُلبَه ويدفع به الهلاك عن نفسه . واستدلُّوا بـ :
1. قوله تعالى : وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ[الأنعام: ١١٩] .
2. ما سبق من أنَّهم سألوا النَّبيَّ ق عمَّا يحلُّ لهم من الميتة وهم في مَخمَصةٍ ، فرُوي أنَّه أجاب : « إذا لم تَصطَحِبُوا (شراب الغداء) ولم تَغتَبِقُوا (شراب العشاء) ولم تَحتَفِؤُوا (تجدوا) بَقلًا فشأنُكُم بها » .
2) والمالكيَّة ، وفي الرِّواية الثَّانية لمن سبقوا : أنَّه يأكُل حتى الشِّبَع ويتزوَّدُ منها . واستدُّلوا بـ :
1. قوله تعالى : ﭿ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭾ ، حيثُ أطلَقَت الآيةُ ولم تُقيِّد بالقليل ، فجاز الشِّبَع .
2. وما جاء من أنَّ رجُلًا وجد ناقةً ضالَّةً وانتظر صاحبَهَا ، فمرضت فقالت امرأتُهُ : « انحَرها » ، فأبَى ، فنَفَقَت ، فقالت : « اسلُخها نُقَدِّدُ لحمَها ونأكله » ، فأبَى حتى يسأل النَّبيَّ ق ، فأتاه فقال له : « هل عندك غنًى يُغنيك ؟ » ، فقال : « لا » ، قال : « فكُلُوها » ، فأتى صاحبُها بعدُ ، فلمَّا أخبره الخبرَ قال : « هلَّا كُنتَ نحرتَها ؟ » ، فقال : « استحييتُ منكَ » . حيثُ أطلَقَ النَّبيُّ ق أمره بالأكل ولم يقيِّد بالقليل .
3. وأنَّ ما جاز قليلُه جاز كثيرُه .
4. وأنَّه إذا اقتصر على ما يسد رمقه فرُبَّما تعود إليه مخمصتُهُ قريبًا فيهلك .
3) وفصَّل بعضُ الشَّافعيَّة : فإن لم يَخَف على نفسه مَهلَكةً قريبةً من تلفٍ أو مرضٍ أو غيرهما قبل أن يصل إلى الحلال ، فليس له إلَّا أن يأكل ما يقيم صُلبَه . أمَّا إن خشي هلاكًا أو توقَّعَه جاز أن يشبع ويتزوَّد .
وقول الحنفيَّة مع التفصيل الشَّافعيِّ الأخير هو الأرجح ؛ لأنَّها ضرورةٌ أُبيحت للحاجة ، وتندفع بانقضائها ، فليس له زيادةٌ عليها . والرَّأي الثَّاني يصلُح في حالات المجاعة ، أو الجُيُوش التي تحتاج التَّقوِّي لمواجهة عدوِّها . وعليه إن اضطُرَّ فليتحرَّ الأجزاء الأقلَّ تفسُّخًا ، والأقلَّ عُرضةً للهواء ، وإن استطاع أن يشويها فليفعل ؛ تقليلًا للأضرار وقضاءً على الجراثيم قدر الإمكان .
2/ من استُشير في خاطبٍ واكتفَى بالتَّعريض لم يَعدِل إلى التَّصريح : فإن كان الخاطبُ صالحًا وجب عليه ذِكرُ ذلك ؛ لأنَّ « الدِّينَ النَّصيحةُ » كما قال ق . أمَّا إن كان غير صالحٍ ، فإن كان المُستشيرُ يفهم بالتَّعريض (كقوله : غيره أفضل منه) لم يَجُزْ للمُستشار أن يقول تصريحًا ؛ لأنَّ فيه ذِكرٌ لسوءات الآخَرين بغير عُذرٍ . وإن لم يفهم إلَّا بالتَّصريح فيُباحُ ذِكرُ ما فيه عند ذلك ؛ للحاجة . وهي تُقدَّر بقدرها أيضًا ، فمتى فهم أنَّه لا يصلح لم يجُز له الاسترسال في ذِكر معايبه .
3/ ولو فصد أجنبيٌّ امرأةً فلا تكشف إلَّا ما لابدَّ منه للفصد ووجب ستر الباقي : فنَظَرُ الرَّجُل إلى المرأة حرامٌ ، والعَكسُ أيضًا ؛  [النُّور: ٣٠ – ٣١] ، وتحريم الكلام واللمس يكون بالأولَى (والمرأةُ كلُّها عورةٌ ، إلَّا الوجه والكفَّين على خلافٍ فيهما . وليس صوتُها بعورةٍ) . إلَّا أنَّ هذا التَّحريم يندفع بالضَّرورة . فإذا مرضت ولم تجد الطَّبيبة الماهرة وجب عليها قصدُ الطَّبيب المُؤتمَن الماهر ؛ حفاظًا على نفسها من الهلكة . فإذا احتاج إلى النَّظر إلى شيءٍ من جسمها أظهَرَته له ولو موضعَ عِفَّتِها ، لكن بما تندفع به حاجةُ فحصه فقط ، فإذا رمدت مثلًا كشفت له عينَها ، لا ساقَهَا أو غيرَها . وهكذا . فإن نظر إلى غيره أَثِمَ ، وأثِمَت هي إن علمت أنَّه زائدٌ عن حاجته .
4/ والجبيرة (عند الحنفيَّة : العيدان التي تُجبَر بها العظام . والشَّافعيَّة : خشبٌ أو قصبٌ يسوَّى ويُشَدُّ على موضع الكسر أو الخلع لينجَبِر . والمالكيَّة : ما يُشَدُّ على الجُروح والقُروح والفصاد) يجب ألَّا تَستُر من الصَّحيح إلَّا ما لابدَّ منه للاستمساك (وفي معناها : الجِبس . وفي حكمها : عصابة (القماش الذي يغطِّي) الجراحة ، ومواضع الفَصد والكيِّ والخياطة ، ونحو ذلك): فإذا وُضعت على عضوٍ فيجبُ ألَّا تستُر منه إلَّا بقدر ما يستمسك به العظم ويشتدُّ ؛ لأنَّ الأصل في الطَّهارة غسلُ الأعضاء ، والجبيرة يُمسَح عليها ، فإذا زِدنا نكون قد مسحنا على ما حقُّه الغَسلُ بلا داعٍ .
5/ وإذا اضطُرَّ للتَعدُّد الجمعة لم يجُزْ إلَّا بقدر ما تندفع به الحاجة : فلا يجوز عند الشَّافعيَّة إقامة أكثر من جمعةٍ في بلدٍ واحدٍ ، وإذا حدث كانت الصَّحيحةَ السَّابقةُ ، والثَّانيةُ ظُهرًا ، إلَّا إذا كان السُّلطان مع الثَّانية فتكون الصَّحيحةَ عندئذٍ ؛ منعًا من التَّقدُّم على الإمام . أمَّا إذا احتِيج إلى ثانيةٍ لتعسُّر جمعهم في مكانٍ واحدٍ فيصحُّ لكن بقدره ، فإذا جُمعوا في اثنتين لم تصحَّ الثَّالثةُ ، أو في ثلاثةٍ لم تصح الرَّابعة ، وهكذا .
6/ والطَّعام في دار الحرب يؤخَذ من الغنيمة على سبيل الحاجة : فأجمَعُوا على أنَّه يجوز للمُجاهدين الأكلُ من غنائِمِهم واستعمال ما فيها من دوابٍّ ولباسٍ ، بإذن الإمام وبغيره ، ماداموا في دار الحرب ، فإذا انتقلوا عنها لَزِمَ ردُّ ذلك إلى المغانم فلا يصطحبوا منها شيئًا معهم ، ولا يبيعُوا منها شيئًا لا في دار الحرب ولا غيرها ؛ لقول عبد الله بن مُغفَّلٍ ط : « أصبتُ جرابًا من شحمٍ يوم خيبر ، فقلت : لا أُعطِي اليوم أحدًا من هذا ، فالتفتُّ فإذا رسول الله مبتسمًا » .
7/ ويُعفَى عن الطُّحلب في الماء ومِثلِهِ : فالماء الطَّهور إذا خالطه شيءٌ من أجزاء الأرض (طينٌ وورق شجرٍ) أو شيءٌ منه (طحلبٌ وثلجٌ وملحٌ) أو ما لا دم له سائلٌ (نملٌ ونحلٌ) حتَّى وإن غيَّر صفةً من صفاته (كان الثَّلجُ متغيِّرَ الرائحة)، وهذا إذا سقط وحده ؛ لأنَّه يتعذَّرُ الاحترازُ منه . أمَّا إذا أُسقِط فيه بفعل فاعلٍ فيفقد الطَّهوريَّة ؛ لخروجه حينئذٍ عن حدِّ الضرورة ، والضرورات تُقدَّر بقدرها .
8/ والمجنونُ لا يجوز تزويجه أكثرَ من واحدةٍ لاندفاع الحاجة بها : فالأصل أنَّه لا يُزوَّج ؛ لعدم عقله ، لكن أُبيح لضرورة حفظه عن الزنا . فمتى اندفعت هذه الضرورة بالواحدة فلا يجوز تزويجه غيرَها ؛ لأنَّه يكون زائدًا عن قدر حاجته . ومتى وقع الزَّواج الثَّاني صحَّ ، لكن يثبُتُ لكلٍّ منهما حقُّ فسخِ عقدِها بالجنون .
· مستَثنياتُها :
1/ العرايا (جمع عَرِيَّةٍ . لغةً : عطيَّةُ ثَمَر النَّخل دون الرَّقبة . اصطلاحًا : بيعُ الثَّمر على شجرة العنب أو النَّخل خَرْصًا وتَخمينًا بمثله على الأرض كيلًا أو وزنًا من الزَّبيب أو التَّمر): هي حسب الأصُول ممنوعةٌ ؛ لما فيها من التَّفاضل الرِّبوِيِّ ، وهو حرامٌ . لكنها اُجيزَت للفُقراء ؛ لأنَّهم لا يجدُون مالًا يشتَرون به ؛ توسعةً عليهم . ثُمَّ أُبيحَت لكافَّة النَّاس في الأصحِّ ؛ لعموم ما جاء في خبر زيدٍ : « إلَّا أنَّه ق قد أذن لأهل العَرايا أن يبيعُوها بمثل خَرصِها » .
فكان الفرعُ من القاعدة (لأنَّه صورة ربًا أُبيح للضَّرورة)، لكنَّه خَرجَ منها في الأصحِّ (لأنَّها تعدَّت من أُبيحت لهم للضَّرورة [= الفقراء] إلى غيرهم [= الأغنياء] فلم تُقدَّر بقدرها)؛ للإذن العامِّ . ومُقابِلُهُ لم يخرج ؛ للقاعدة ، ولأن لهم مالًا يستطيعون به الشِّراء بخلاف الفَقراء .
2/ الخُلع (لغةً : النَّزع . اصطلاحًا : فُرقةٌ بين الزَّوجين بعوضٍ بلفظ طلاقٍ أو خلعٍ): أُبيح للمرأة أصلًا أن تختلع من زوجها مقابل مالٍ يتَّفقان عليه . ثُمَّ عُدِّي هذا الحُكم للأجنبيِّ عنهُما بأن يقول له : طلِّق امرأتَك ولك كذا ؛ لما رآه من عدم الخير في اجتماعهما . فخرج الفرع من القاعدة (لأنَّ الجواز إنما كانت لحاجة المرأة ، ثُمَّ لم يُقدَّر بقدره وعُدِّي إلى غيرها).
3/ اللِّعان (لغةً : الطَّرد . اصطلاحًا : كلماتٌ مخصوصةٌ جُعِلَت حُجَّةً للمُضطرِّ إلى قذف مَن لطَّخ فراشه وألحق به الأذَى): كان الفرعُ من القاعدة (لأنَّ اللِّعانَ إنَّما أُبيح بدل الشُّهود للخصوصيَّة بينهما)، لكنَّه خرج منها في الأصحِّ (فجاز إذا وُجدُوا أيضًا ، فلم تُقدَّر بقدرها). ومقابِلُهُ ، لم يخرج ؛ لأنَّ الأصل الشُّهود ، ولا يُعدَل إلى الفرع إلَّا إذا عُدم الأصل .
والحقُّ أنَّ كلَّ ما سبق ليس فيه ضرورةٌ فليس من القاعدة ، فضلًا عن كونه مستثنًى ؛ فالأوَّل إذا لم يأكُلُوا رُطَبًا لم يلحق بهم ضرَرٌ ، والثَّاني لا ضرورة تُجبر الأجنبيَّ على طلب الخُلع ، والثَّالث إنَّما أُبيح لعدم البيِّنة ، فإذا وُجدت فلا ضرورة إليه .
· إلحاقٌ أو تذنيبٌ :
1/ ما جاز لعُذرٍ بَطَلَ بزواله . أي : ما أباحه الشَّرع للعُذر فإنَّ الإباحة تزول عنه ويرجع إلى أصله من المنع عند زوال هذا العُذر . ومثاله التَّيمُّم أُبيح للعدم القدرة على استعمال الماء ، فإذا وُجد الماء بطل التَّيمُّمُ . والإفطار أُبيح لأعذارٍ منها السَّفَر وكذلك القَصرُ ، فإذا أنهَى سَفَره أو انتهى عُذرُه تعيَّن الصَّوم والإتمامُ .
2/ أداء الشَّهادة وتحمُّلُها فرضٌ يلزم الشُّهود ؛  [البقرة: ٢٨٣] . فإذا عَجَز الشَّاهد عن الحُضور لزمه أن يُشهِد آخَرَ على شهادَتِهِ (يقول له : اشهد أنِّي أشهدُ أنَّه وقع كذا) فيقومُ مقامه في مجلس الحُكم ، ويلزمُ الشَّاهدَ الفرعيَّ أداؤُها . فإذا استطاع الحُضُور إلى المَجلس قبل أن ينطق الفرعيُّ بالشَّهادة بطلت شهادة الفرعيِّ ولزمت الأصليَّ .

3- « الضرر لا يزال بالضرر » .

· معناها : أنَّه لا يُزالُ ضَرَرُ (المكروه . ضدُّ النَّفع) شخصٍ بإلحاق ضررٍ بآخَر ؛ لأنَّ المسلمين ومن شارَكَهم الحُقوقَ مِن غيرِهم متساوين ، فلا يُزال ضررُ واحدٍ بضررِ آخَر . فإن كان في إزالة الضَّرر إضرارٌ بآخر مساوٍ مُنعت إزالتُه (مضطرٌّ لا يجد إلَّا طعام مضطرٍّ آخَر ، فلا يأكله دفعًا لضرره بجلب الضَّرر للآخَر).
· من فروعها :
1/ عدم وجوب العِمارة على الشَّريك : إذا اشتَرك اثنان في بيتٍ ، وتصدَّعت أجزاءٌ فيه ، ففي الجديد (وهو الرَّاجح) لا يُجبَر شريكٌ على الاشتراك في عمارة [= إصلاح] الجزء المُتصَدِّع ؛ لأنَّا نكون قد أزلنا ضرر الأوَّل بإضرار الثَّاني بدفع جُزءٍ من ماله ، وقد قال ق : « لا يحلُّ مال امرئٍ مُسلمٍ إلَّا عن طيب نفسٍ منه » . وفي القديم يُجبَر ؛ لأنَّا نُزيلُ به ضَرَرًا أكبر وهو تصدُّع البيت كُلِّه .
والذي يترجَّحُ هو التَّوفيقُ بين الرَّأيَين ، فنُفرِّقُ بين ما إذا كان المُتضرِّرُ من التَّصدُّع في الطَّابق الأعلَى أو الأسفل . فإن كان في الأعلى (لا يعتمد البناء عليه) فلا نُوجب العمارة على الآخَر . أمَّا إن كان في الأسفل (يعتمد الباقي عليه) فنُلزِمُ الآخَر حينئذٍ بالعمارةَ ؛ لأنَّه سيتضرَّرُ مُستقبَلًا بذلك . ونكون بذلك قد دفعنا ضررًا بضررٍ أقلَّ (وهو مُقتضى القاعدة التَّالية).
2/ عدم إجبار الجار على وضع الجذوع : إذا كان الجِدارُ ملكًا خالصًا له فلا يحقُّ إجبارُهُ على وضع جذوع جاره عليه ، حتى وإن كان الوضع سيزيل ضررًا عن الثَّاني ؛ لأنَّ في وضعه إزالة ضررٍ بضررٍ . إلَّا إذا رضي صاحبُ الجدار ، أو كان أصلًا مُشتَرَكًا بينهما .
3/ لا يأكل المضطرُّ طعامَ مضطرٍّ آخَر إلَّا أن يكون نبيًّا : إذا وقع شخصٌ في الاضطرار ، وَجَبَ على من له مالٌ دفعُهُ إليه ، بحيثُ لو لم يدفعه فمات كان مُشاركًا في قتله وليس هذا من التَّعاون على البِرِّ المأمور به . وإذا رفض المالكُ أن يدفع للمضطرِّ ما يُذهِب به اضطرارَهُ كان له أن يقاتله عليه ، وقد وضعوا شروطًا لذلك : ا) أن يمتنع المالكُ من إعطائه المال عفوًا أو بيعًا . ب) أن يكون المال ممَّا تندفع به الضرورة حالًا (فلا يأخذ متاعًا يبيعه ثم يشتري به طعامًا ، فهو يُعدُّ في هذه الحالة سارقًا). ج) أن يأخذ المضطرُّ قدر ما تندفع به معه ضرورته . د) ألَّا يكون المالك مضطرًّا إليه كمثل اضطراره أو أكثر (فإذا كان فالمالكُ أولَى منه ؛ لأنهما اشتركا في الاضطرار ، وانفرد هو بالملك . لكن لو آثَرَهُ على نفسه لكان حَسَنًا)، لكن لو كان نبيًّا جاز له أخذُهُ حتَّى مع اضطرار المالك ؛ لأنَّ إنقاذ نفس النَّبيِّ مُقدَّمٌ على كلِّ نفسٍ غيره .
4/ لا يقطع شيئا من جسد مضطرٍّ آخر ولا يقتل ولدَه أو عبدَهُ (المملوكَ له أو غيره) (لأنَّه يكون قد أزال ضَررًا عن نفسه بضرر غيره المساوي أو الأعظم)، ولا يقطع شيئًا من جسده هو إن كان الخوف من القطع كالخوف من ترك الأكل (مساوٍ) أو أكثر ، (أمَّا إن كان أقلَّ فيجوز ؛ دفعًا للضَّرر الأكبر). وكذلك السَّلعة المَخُوفَةُ (قطعة اللَّحم الزَّائدة . فإن كان الخوفُ من قطعها أكبرَ من الخوف من تركها ، لم يجُزْ له القطع . وإن كان أقلَّ جاز . أمَّا إن كان مساوٍ فلهم رأيان : 1) لا يجوز القطع ؛ لأنَّه يكون قد رجح القطع بلا مرجِّحٍ ، ولا يصحُّ . 2) يجوز ؛ لأنَّه إذا تردَّد الأمر بين القطع مع الحياة ، وبين التَّرك مع الموت ، لاختارَ القطع).
5/ لا يجبَرُ السَّيِّدُ على تزويج عبده (لأنَّه سيذهب إلى امرأته وتنقص خدمته لسيِّده) ولا أَمَتِهِ التي لا تحلُّ له (أحد محارِمه غير أصُوله أو فُروعه ؛ لأنَّها تُعتَقُ عليه [= أختٌ ، خالةٌ ، ببت أخٍ أو أختٍ]) (لأنَّها بخدمة زوجها تنقص خدمة سيِّدها)، فلا نكون قد أزلنا ضررهما (عدم الاستمتاع) بتسبيب الضَّرر للمالك .
6/ لو مال جدارٌ يملكه على الشَّارع أو ملكِ غيرِهِ لم يجب عليه إصلاحه ؛ لأنَّه سيكلِّفه مالًا ، فيكون فيه رفعٌ لضرر الغير بضرره هو (والحقُّ أنَّه يُجبَرُ على الإصلاح ؛ لأنَّ فيه رفعًا لضررٍ عامٍّ بارتكاب ضررٍ خاصٍّ أو أقلَّ منه).
7/ لو سقطت جَرَّةٌ (بالفتح : إناءٌ من خزف . وبالكسر : ما تُخرجه البهيمةُ من بطنها لتجترَّه) ولم تندفع إلَّا بكسرها ضَمِنَها (في الأصحِّ لأنَّ في عدم ضمانها إضرارٌ بمالكها بإزالة الضَّرر عن نفسه . ومقابله لا يضمن ؛ لأنَّها كالصَّائل تُدفَعُ بكلِّ مستطاعٍ ولا ضمانَ)، وذلك إذا كُسرت وكانت موضوعةً في مكانها المعتاد ، أمَّا إذا كانت في مكانٍ غيرِ مألوفٍ لا يُؤمَن كسرها فيه وكُسرت فلا ضمانَ .
8/ لو أدخلت بهيمةٌ رأسَها في قِدرٍ ولم يخرج إلَّا بكسرها ، فإن كان صاحبها معها فهو مفَرِّطٌ ومقصِّرٌ في ترك حفظها لذا يتحمَّلُ أرشَ كسر القِدر إن كانت موضوعةً في مكانها المُعتاد . فإن كانت غير مأكولةٍ (حمارٌ) فتُكسر ، وعليه أرشها . وإن مأكولةً (بقرةٌ) ففيها وجهان : 1) إن أمكن قطع الحُلقوم والمِرِّيء وإخراجه بالتَّقطيع منها ؛ فنكون قد أزلنا ضررًا بضررٍ أخفَّ . 2) لا تُذبح ، وتُكسر ، ونكون أيضًا قد أزلنا ضررًا بآخَر أخفَّ . وإن لم يكن صاحبُها معها وكانت موضوعةً في مكانٍ غير معتادٍ وكسرَتها فالأرش ؛ لتقصير صاحبها . وإن لم يكن معها فلا أرشَ ؛ لتقصير صاحب القِدر .
9/ لو التقت دابَّتان (كلُّ ما يدبُّ على الأرض) متساويتان قيمةً قَدَرًا (صدفةً) على شاهقٍ (مكانٍ عالٍ) ولم يمكن تخليص واحدةٍ إلَّا بإتلاف الأخرى فليست واحدةٌ أولى من الأخرى ، ومن ألقى دابَّة صاحبه وخلَّص دابَّته ضَمِنَها (لأنَّه يكون قد أزال ضرَرَهُ بضرر الآخَر). أمَّا إذا تفاوَتَا قيمةً فتُخلَّصُ الأقلُّ ويضمنها صاحب الأعظم (ارتكابًا للضَّرر الأخفِّ).
10/ لو كانت ضيِّقةَ الفَرْج لا يُمكِن وطؤها إلَّا بإفضائها (خلط القُبُل بالدُّبُر) فليس له الوطءُ (لأنَّه يكون قد أزال ضرر نفسه [حبس مَائِهِ] بإضرارها [فتح قُبُلها في دُبَرها])، ولها منعه ، وإذا أجبَرَها رفعت أمرها إلى الحاكم يفسخُ النِّكاح . وإذا اختَلَفا يحكم أهل الخبرة من القوابل ، أو أربع طبيباتٌ ، أو طبيبان عند عدمهنَّ .
11/ لو تصرَّف المفلسُ (لغةً : عدم المال بعد وجوده . اصطلاحًا : من لا يفي مالُهُ بدَينه) في المبيع برهنٍ (لغةً : الثُّبوت والدَّوام . اصطلاحًا : جعلُ الشَّيء محبوسًا بحقٍّ يمكن استيفاؤُهُ منه كالدَّين) أو غَرسٍ أو بناءٍ فيه فليس للبائع الرُّجوع في الرَّهن ولا الغرس ، ويبقى الغرسُ والبناءُ للمُفلس ؛ لأنَّه يُنقِص القيمة ويضرُّ بالمفلس والغرماء : إذا باع الأوَّل أرضًا للثاني ولم يقبض الثَّمن ، وتصرَّف الثَّاني فيها بأنْ رَهَنَها رهنًا صحيحًا (قَبَضَ المُرتهِنُ المرهونَ) لثالثٍ أو غَرَس أو بنى فيها ، ثمَّ أفلَسَ ، فلا يحقُّ للثَّاني أخذُ الرَّهن من الثَّالث (لتعلُّق حقِّه به)، ولا يحقُّ كذلك للأوَّل أخذُ العين من الثَّاني (لأنَّ في أخذها ضررٌ لتعلُّق حقِّ الثَّالثِ به من الرَّهن ، أو الثَّاني من الغرس والبناء ، كما أنَّه يكون قد أضرَّ ببقيَّة الغُرماء)، فلا يُزالُ ضررُ واحدٍ بضرر الآخَر .
· مستَثنياتُها :
1/ القصاص : فمع أنَّ قتل القاتل ضررٌ ، إلَّا أنَّه أقلُّ ضررًا من تركه ، حيث سيشيع القتل ، فيُقتَلُ ، ونكون قد أزلنا ضررًا بضررٍ ، لكن أقلَّ وأخفَّ منه بمراحل .
2/ الحدود (لغةً : المنع . اصطلاحًا : عقوبةٌ مُقدَّرَةٌ حقًّا لله): كذلك الحدود ، فيها ضررٌ على الجاني ، لكنه أخفُّ من ضرر تركه دون عقابٍ ، حيث سيشيع فُحشُه .
3/ قتال البُغاة (من يخرج على الإمام بتأويلٍ سائغٍ ولهم شوكةٌ): يبعثُ إليهم الإمامُ رجلًا أمينًا فطنًا فيُحاورُهم ويُقنعُهم ويَسترضيهم ، فإن رضوا ، وإلَّا قاتَلَهُم الإمامُ حتَّى يرجعوا . فقتالُهُم فيه ضررٌ عليهم كبيرٌ ، لكنَّه أقلَّ من الضَّرر الذي يُحدثونه في بناء الأمَّة وأمنها .
4/ دفع الصَّائل : من قَصَدَ غيرَهُ ممن لا تحلُّ أذيَّتُهُم بسوءٍ ، فله دفعُهُ ـ كما مرَّ ـ حتَّى وإن أدَّى إلى قتله ، وفي ذلك ضررٌ بالغٌ على الصَّائل ؛ إذ قد يُؤذَى وربَّما قُتل ، لكنَّه ضررٌ يسيرٌ بالمُقارنة بالضَّرر الواقع على المعتدَى عليه ، ثمَّ على المجتمع من بعده .
5/ شقُّ بطن الميِّت إذا بَلَعَ مالًا : أجمَعُوا على أنَّ حُرمَة الإنسان لا تتغيَّر حيًّا أوميِّتًا . ثُمَّ اختَلَفوا فيما إذا ابتلع مالًا ثمَّ مات وهو في بطنه : هل يُشقُّ أم لا ؟ على رأيين : 1) لا يجوز شقُّ بطنه ؛ لـ« كسر عظم الميِّت ككسره حيًّا » ، فكما لا يجوز شقُّ بطنه في حياته لاستخراج مالٍ ، كذلك بعد موته . كما أنَّ حُرمَةَ النَّفس أعظمُ من حُرمة المال . 2) والجمهور على الجواز ؛ لنهيه ق عن إضاعة المال . و« إنَّ دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ » . كما أنَّ كلَّ ذي حقٍّ أولى بعين حقِّه من غيره ، فإذا وُجدت عينُهُ كان له أخذُها . ووضعُوا لذلك شروطًا : ا) أن يكون المال المُبتَلَع مملوكًا للغير (عند غير المالكيَّة). ب) ألَّا يضمنه أحد الورثة . ج) أن يكون كثيرًا غيرَ متسامَحٍ فيه عادةً (عند المالكيَّة). د) أن يكون الميِّتُ متعدِّيًا ببلعه إيَّاه حيًّا . وهو الرَّاجحُ (وشقُّ بطنه وإضاعة المال ضرران ، فيُزال الثَّاني وإن كان فيه ضررُ الأوَّل لأنَّه أعظم منه).
6/ شقُّ بطن الحامل رجاءَ حياة الجَنِين : وكذلك إذا ماتت وفي بطنها جنينٌ يضرب ، فهم على رأيين : 1) لا يجوز شقُّ بطنها لاستخراجه ؛ لـ« كسر عظم الميِّت ككسر حيًّا » ، فكما لا يجوز شقُّ بطنها حال حياتها ، فكذلك بعد موتها . ونهيه ق عن النُّهبَى والمُثلَة . كما أنَّ حياته مشكوكٌ فيها ، والمساسُ بجسدها متيقَّنٌ حُرمتُهُ ، فلا تُنتهك الحُرمةُ لأمرٍ مشكوكٍ فيه . 2) والجمهور على الجواز ؛ لـﭿ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭾ [المائدة: ٣٢] . وأنَّ إنقاذ النَّفس المعصومة واجبٌ ، فإذا ماتت وهو في بطنها يَضرب وجب شقُّ بطنها تدارُكًا للواجب . وأنَّ عدم الشَّقِّ إتلافٌ للجنين من كلِّ وجهٍ ، بينما لا يضرُّ الشَّقُّ الميِّتةَ ـ وإن كان فيه مساسٌ بحُرمتها ـ بل فيه تخليصٌ للحيِّ ، فوجب دفعًا للمَفسدة الأعظم . وهو الرَّاجح (فشقُّ بطنها وترك الجنين فيها ضرران ، فيُزال الثَّاني بارتكاب الأوَّل وإن كان ضررًا لأنَّه أعظم منه).
7/ الإجبار على قضاء الدِّيون والنَّفقة : فيُجبِر القاضي المدينَ المُماطلَ على قضاء دينه ، والمُمتنعَ عن أداء نفقة واجبةٍ لأصوله أو فروعه على أداء النَّفقة . وفي ذلك ضررٌ على المدين والممتنع عن الإنفاق ، لكنه ضررٌ قليلٌ بالمُقارَنة بالضَّرر الواقع على الآخَرين من عدم إعطائهم حقوقَهم وظلمهم (فيُزال هذا الضَّرر ، وإن كان بالإضرار بالمُمتنعين لأنَّه ضررٌ أعظم).
8/ الشُّفعة : وهي حقٌّ للشَّريك القديم على الحادث ، ومع أنَّ فيها ضررًا للمشتري بفسخ العقد واسترجاع ماله ، لكنَّه أخفُّ من الواقع على الشَّريك القديم (فيُرتَكبُ الأخفُّ دفعًا للأعظم).
9/ الفسخ بالعيب في المبيع : فإذا وجد المشتري عيبًا لم يخبره به البائع ولم يره هو أثناء العقد ، فله فسخ العقد وردُّ المبيع . وهذا ، وإن كان فيه ضررٌ على البائع الذي أراد الخلاص من السِّلعة ، إلَّا أنَّه أخفُّ مقارَنةً بالضَّرر الذي على المشتري من إبقائه السِّلعة بحوزته .
10/ فسخ النِّكاح بالعيب : وكذلك إذا وَجد أحدُ الزَّوجين عيبًا بزوجه لم يُبيَّن عند العقد ، فله حينئذٍ الفسخُ ـ وإن كان مُضِرًّا بالزَّوج الآخَر ـ دفعًا لضرره (لأنَّ بقاءه معه على العيب دون رضاه ضررٌ أكبرُ من فسخ العقد).
11/ أخذ المضطرِّ طعامَ غيره وقتاله عليه : فأخذُ المضطرِّ طعامَ غيرِهِ ـ غيرِ المضطرِّ ـ ومقاتلتُهُ عليه ضررٌ على المالك ، لكنَّه يسيرٌ بالمُقارَنة بالضَّرر الواقع على المضطرِّ إن لم يأخذه ، فيُدفع هذا بذاك . ويَضمن ما أخذه .
12/ رمي الكفَّار إذا تترَّسوا بمن حرُم علينا قتلُهُم من أطفالٍ ونساءٍ وأُسارَى مسلمين : فإنَّهم إذا تترَّسوا بهم يتعارضُ ضرران : الأوَّل قتل هؤلاء المُسلمين المتترَّس بهم ، والثَّاني علوُّ الكفَّار واستيلاؤهم على أرض الإسلام . فاتَّفقوا على جواز رميهم جميعًا ـ إن لم توجد وسيلةٌ غيرها للنَّصر ـ بالمنجنيق أو ما شابهه ، بما فيهم من تترَّسُوا بهم ـ وإن كان فيه ضررٌ على هؤلاء المسلمين بقتلهم ـ ؛ دفعًا للضرَّر الأعظم والأخطر وهو استيلاءُ الكفَّار على بلدان المسلمين وذِلَّةُ الإسلام وأهله . فارتُكب الضَّررُ الأخفُّ دفعًا للأعظم .
13/ لو وجد مضطرٌّ ميتةً وطعامًا لغيره : فاختلَفوا في ترتيب المُحرَّمات عند الضَّرورة :
1) فالمالكيَّة : قالوا بتقديم الطَّعام ، إلَّا إذا كان صاحبُهُ مضطرًّا إليه ، أو خشي أن يضربه أو يقطعه بسببه ، فيُقدِّم حينئذٍ الميتة .
2) والشَّافعيَّة فرَّقوا : فإذا وُجد صاحبه ولم يكن مُضطرًّا إليه ففيه ثلاثة أوجهٍ : 1. تقديم الميتة 2. تقديم الطَّعام 3. التَّخيُّر . والمُختار أنْ يُقدَّم الطَّعام ؛ لأنَّ صاحبه مأمورٌ ببذله للمضطرِّ عفوًا أو على مالٍ ، وإذا امتنع أو طلب أكثر من ثمن المثل أَثِمَ ؛ لأنَّه أعان على قتل مسلمٍ ، وللمضطرِّ أن يقاتله عليه . فلا يتوجَّهُ إلى الميتة من هذه حالُهُ ؛ لأنَّه غير مضطرٍّ إليها . وإن غاب فوجهان : 1. تقديم الطَّعام ؛ لأنَّه الطَّاهر 2. تقديم الميتة ؛ لأنَّ تحليلها للمضطرِّ ثبت نصًّا ، والمنع منها حقٌّ لله ، بينما تحليل مال الغير ثبت اجتهادًا ، والمنع منه حقٌّ للعبد ، وحقوق الله مبنيَّةٌ على التَّسهيل ، والعباد على التَّشديد .
3) أمَّا الحنبليَّة : فقالوا بما قاله الشَّافعيَّة في الوجه الأخير عندهم ، وزادوا أنَّ حقَّ الآدَميِّ تلزمه غرامتُهُ ، بينما حقُّ الله لا عِوَضَ له .
والراجح ما ذهب إليه الشَّافعيَّة في ترتيب المحرَّمات ، وتبعهم الحنبليَّة .
14/ لو وجد المُحرِمُ ميتةً وصيدًا فيقدِّم الميتةَ في الأصحِّ : فإنَّه بتناوله للصَّيد يرتكب محظورين : الصَّيد والأكل ، أمَّا الميتة فمحظورٌ واحد وهو الأكل . ومقابله أنَّه يقدِّم الصَّيد ؛ لأنَّه حلالٌ عادةً وإنَّما حُرِّم لعارضٍ وهو الإحرام ، أمَّا الميتة فحرامٌ لذاتها ، فيُرتكب المحرَّم لعارضٍ على المحرَّم لذاته ارتكابًا للأخفِّ .

4- « إذا تعارضت مفسدتان رُوعِي أعظمُهما ضررًا بارتكاب أخفِّهما » أو : يُرتكَب أخفُّ الضَّرَرين .

· معناها : أنَّه إذا تعارضت مَفسَدتان إحداهما أكبر من الأخرى ، وكان لابدَّ من فعل إحداهما ، فإنَّه تُدرأُ الأكبرُ منهما بارتكاب الأصغر ، ويكون الشَّخصُ مُحسنًا بذلك ؛ لأنَّه دفع أَشَرَّ الشَّرَّين بأدناهما .
· مثالها : لو وجد المُضطرُّ الذي أوشك على الموت جوعًا من أُهدر دمه (كالحربيِّ) فإنَّه يحلُّ له قتله والأكل منه ؛ إذ لا حُرمة لحياتهم لأنَّها مستحِقَّةٌ للإزالة ، في مقابلة حياته الواجب حفظُها . فارتُكب بذلك أخفُّ الضَّررين .

5- « درءُ المفاسد أولَى من جَلبِ المَصالِح » .

· معناها : أنَّه إذا تعارضت مفسَدةٌ ومصلحةٌ قُدِّم دفعُ المفسَدة غالبًا ؛ لأنَّ اعتناء الشَّرع بالمنهيَّات أشدُّ من اعتنائه بالمأمورات ، لذا قال ق في جانب الأمر : « إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم » ، لكن في جانب النَّهي : « وإذا نهيتُكُم عن شيءٍ فانتَهوا » ، ومِن ثَمَّ سُومِح في ترك بعض الواجبات لأدنى مشقَّةٍ ، ولم يُسامَح في الإقدام على أدنى المَنهيَّات .
· من فروعها :
1/ المبالَغة في المضمضة والاستنشاق سنَّةٌ ؛ لقوله ق : « وبالغ في المضمضة والاستنشاق » ، لكنها تُكره للصَّائم ؛ لـ« إلَّا أن تكون صائمًا » ، تَحَرُّزًا من وقوع شيءٍ في جوفه فيفطر به . فالمفسَدة المَخُوفَة من المبالَغة للصائم قُدِّم دَرْؤُها على المصلحة منها بفعل السُّنَّة .
2/ تخليل الشَّعر سنَّةٌ في الوضوء ؛ إسباغًا وتنقيةً ، لكنَّه يُكره للمُحرِم ؛ خوفًا من سقوط بعض شعره ، وذلك ـ أي قلع الشَّعر ـ منهيٌّ عنه حال الإحرام . فقُدِّم درءُ مفسدة سقوط شعر المُحرِم على مصلحة فعل السُّنَّة .
· مستَثنياتُها : وقد تُراعَى المصلحة لغلبتها على المفسَدة ، ومن ذلك :
1/ الصَّلاة مع اختلال شرطٍ من شروطها : فقد شُرِطَت الطَّهارة والسَّتر واستقبال القبلة تنزيهًا لجلال الله عن أن يُقابَل إلَّا على أكمل وجهٍ ، وهذه مصلحةٌ . لكن إذا فُقد واحدٌ منها لعذرٍ فلا نقول : لا يُصلِّي للمفسدة في مقابلة الله تعالى على وجه لا يليق ، ولكن يُقال : يصلِّي ولو من غيرها ؛ تقديمًا لمصلحة الصَّلاة الرَّاجحة على مفسدة فَقْدِ الشَّرط .
2/ الكذب للمصلحة المنصوص عليها : فالكذب من الكبائر ، ومن صفات المنافقين ، ومفسدتُهُ عظيمةٌ ، لكنَّ الشَّرع أباحه في ثلاثة مواضع ؛ لغلبة المصلحة المرجُوَّة من وراء تلك المواضع على المفسدة في الكذب . وهذه المواضع هي : في الإصلاح بين المُتخاصِمَين ، وعلى الزَّوجة والزَّوج ، وفي الحرب . فلو لم يُشرع الكذب فيها لتعطَّلت مصالحُ وترتَّبت مفاسد على ذلك ، من الشِّقاق بين المسلمين ، وتعكير صفو الحياة بين الزَّوجين ، وإيقاع المُسلمين في أَزَماتٍ في وقت الحرب .


القاعدة الثَّالثة : المَشَقَّةُ تَجلِبُ التَّيسِيرَ

** معنى القاعدة : إذا وُجد تكليفٌ فيه مشقَّةٌ (الجهد والتَّعب)، فإن الشَّريعة قد أزالته ويَسَّرَتهُ (السُّهولة)؛ لأنَّ الحَرَج ممنوعٌ بنصوص الشَّريعة . وتُعتبر هذه القاعدة من الخمس الأُسُس التي تحدِّد إطار الإسلام وتشريعاته .

** دليل القاعدة : كثيرٌ جدًّا :

1- القرآن :
2- السُّنَّة : « إنَّ الدِّين يُسرٌ ، ولن يُشادَّ الدينَّ أحدٌ إلَّا غلبه » .
3- وقد انعقد إجماع الأمَّة على أنَّه لم يوجد تكليفٌ فيه مشقَّةٌ بالغةٌ على المكلَّف ، ولو وقع لحصل التَّناقض بين نصوص الشَّريعة ، وذلك منفيٌّ عنها ، فأحكام الشَّريعة مبنيَّةٌ على التَّيسير ، وهي أيسرُ ما شرعه الله لبني آدم مطلقًا .

** شروط المشقَّة التي تجلب التَّيسير :

1- ألَّا تكون مصادِمةً لنصٍّ ، وإلَّا رُوعي دونها .
2- أن تكون زائدةً عن الحدود المعتادة المُطاقة .
3- ألَّا تكون مما لا تنفكُّ عنه العبادةُ غالبًا (كالبَرْدِ يُوجَد مع الفجر ، والحَرِّ مع الظُّهر ، والعطش مع الصَّوم).
4- ألَّا تكون مما لا تنفكُّ عنه التَّكاليف الشَّرعيَّة (كمشقَّة الجهاد ، وألم الحدود).
فإذا كانت واحدةً منهنَّ فلا يكون لها أثرٌ في جلب التَّيسير ولا التَّخفيف ؛ إن التَّخفيف يكون عندها إهمالٌ وتضييعٌ .

** أسباب التَّخفيف في العبادات :

1- السَّفر (لغةً : قطع المسافة . اصطلاحًا : قطع مسافةٍ خاصَّةٍ يتغيَّر به أحكامٌ):
* المسافة التي تسمَّى سفرًا : قدَّروها زَمَنًا ومسافةً ، واختَلَفوا فيها :
1/ فالحنفيَّةُ : قدَّروها زمنًا بسير الإبل ومشي الأقدام ثلاثة أيَّامٍ بلياليهنَّ يشملن الاستراحات والصَّلوات وما يلزم السَّفر ، وسواءٌ قُطِعنَ مرَّةً واحدةً أم على مرَّاتٍ . وقدَّروها مسافةً بثلاث مراحلَ [=96 كم].
واستدلُّوا بالقياس على مدَّة المسح للمسافر ، حيث : وقَّت ق للمسافر في المسح ثلاثة أيَّام ولياليها .
2/ والجمهور : قدَّروها زمنًا بسير الإبل المُثقَلَة بالأحمال يومين يشملان الاستراحات والصَّلوات وما يلزم السَّفر ، وسواءٌ قُطعن مرَّةً واحدةً أم على مرَّاتٍ . وقدَّروها مسافةً بأربعة بُرُدٍ [=89 كم] (أو 16 فَرسَخًا . أو 48 ميلًا [الميل = 4000 خطوة بعيرٍ (خطوة البعير=3 أقدام آدميَّة) = 6000 ذراع(عند الشَّافعيَّة) = 3500 ذراع(عند المالكيَّة) (الذِّراع = 24 أصبع)]).
واستدلُّوا بما جاء عنه ق : « يا أهل مكَّة ! لا تقصروا في أقلَّ من أربعة بُرُدٍ » . وأنَّ ابن عُمر وابن عبَّاسٍ ن كانا يترخَّصان في أربعة بُرُدٍ فما فوق ، وما كانا ليَفعَلا ذلك إلَّا بتوقيفٍ .
3/ والظَّاهريَّة : قدَّروها مسافةً بميلٍ واحدٍ .
والأيَّام المقصودة هي الأيَّامُ المعتدلةُ الطُّولِ من السَّنَة .
والمعتبَرُ عند الكلِّ المسافةُ ، فمتى قُطِعَت جاز التَّرخُّصُ ، سواءٌ قُطعت في ساعاتٍ (كما الآن) أو في أيَّامٍ (كما مضى).
* أثر السَّفر في التَّخفيف :
1/ ما يختصُّ بالطَّويل منه :
1) القصر : اختلَفوا :
1. الحنفيَّة : قالوا بأنَّ قصر الرُّباعيَّة عزيمةٌ للمسافر ، بحيثُ لو قام للثَّالثة عمدًا بطلت صلاتُهُ ، أو سهوًا سجد للسَّهو ، أو قعد بين الثَّانية والثَّالثة مقدار التَّشهُّد ثمَّ قام للثَّالثة أجزأته ، والأخيرتان له نافلةٌ وهو مسيءٌ .
2. الجمهور : قالوا بأنَّه سنَّةٌ مؤكَّدةٌ ، فيجوز القصر والإتمام . واختَلفَت أنظارُهُم في الأفضل ، والمشهور أنَّ القصر للمسافر أفضل .
والقصر يكون في الرُّباعيَّة ، لا الثُّلاثيَّة أو الثُّنائيَّة .
فالسَّفر مشقَّته كبيرةٌ وهو « قطعةٌ من العذاب » ، وأداء العبادة بكاملها فيه مشقَّةٌ على المسافر ، فوضع الله هذا الإِصرَ بإباحته القصرَ .
2) الفطر : فقد يجد المسافر مشقَّةً ونَصَبًا إذا صام حال سفره ، وقد لا يقوى على السَّفر ورُبَّما عباداتٍ أُخرى كالصَّلاة والحجِّ ، فأُبيح الفطر رفعًا لهذا الحرج . إلَّا أنَّ الصِّيام أفضل عند الحنفيَّة ؛ لـﭿ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭾ [البقرة: ١٨٤] . والفطر أفضل عند الشَّافعيَّة ؛ لـ« ليس من البِرِّ الصِّيام في السَّفر » .
3) المسح (إصابة اليد المُبتلَّة بالماء لخفٍّ مخصوصٍ [= السَّاتر لمعظم محلِّ الفرض المانعِ للماء] في موضعٍ مخصوصٍ [= ظاهر الخُفِّ] في زمنٍ مخصوصٍ [= يومٌ وليلةٌ للمقيم ، وثلاثة أيَّامٍ بلياليهنَّ للمسافر]) على الخُفَّين (لغةً : ما يُلبس في الرِّجل . اصطلاحًا : السَّاتر للكعبين فأكثر من جلدٍ ونحوه) أكثر من يومٍ وليلة : فلمَّا كان السَّفر يصعب معه غسلُ الرِّجل مع كلِّ وضوءٍ ويشقُّ ، فوضع الله هذه المشقَّة بسماحه للمسافر في المسح هذه المُدَّة .
4) سقوط الأضحية (حَنَفِيٌّ): فالتَّضحية يستلزمها أشياءُ ، من تحصيل الشَّاة وذبحها وتجهيزها قبل وقتٍ معيَّنٍ وغير ذلك مما يشقُّ على المسافر تحصيلها مع سفره ، فوضع الله هذا العناء عنه بعدم إيجابها عليه .
2/ ما لا يختصُّ به (بمجرَّد الخروج من البلد):
1) ترك الجُمعة ، والعيدين(حَنَفِيٌّ): فالإقامة شرطٌ لوجوبهما (عند من يقول بوجوب صلاة العيد)، ذلك أنَّ شهودها يلزم منه انتظار الإمام واستماع الخُطبة وفي ذلك ما فيه من تأخيرٍ للمسافر ، لذا وضع عنه هذا الحرج فلم تجب عليه .
2) ترك الجماعة (حَنَفِيٌّ). 3) أكل الميتة (شَافِعِيٌّ).
3/ ما اختُلف فيه والأصحُّ اختصاصُه به :
1) الجَمع بين الصَّلاتين (ويكون بالظُّهر مع العصر ، والمغرب مع العشاء) (شَافِعِيٌّ): واختلَفوا في دواعيه :
1. فالشَّافعيَّة : أجازوا الجمع في السَّفر مطلَقًا ، وفي عرفة ومُزدَلِفة ، وفي الإقامة في المرض والمطر . وأجازوا في كُلٍّ جمعَ التَّقديم (أداء الصَّلاتَين في وقت الأولى) والتَّأخير (أداؤُهما في وقت الثَّانية)، غير أنَّهم اشتَرَطوا لكليهما شروطًا . فاشترَطوا لجمع التَّقديم : ا) نيَّة الجمع في أوَّل أداء الأُولى . ب) التَّرتيب بأن يبدأ بالأولى قبل الثَّانية . ج) الموالاة بينهما وعدم الفصل طويلًا ولو سهوًا أو بعذرٍ . د) دوام السَّفر إلى وقت الإحرام بالثَّانية . هـ) بقاء وقت الأولى إلى الإحرام بالثَّانية . واشترطوا للتأخير : ا) أن ينويه قبل انتهاء وقت الأولى . ب) دوام السَّفر إلى إتمام الثَّانية ، وإلَّا صارت الأولى منهما قضاءً . لما جاء عن مُعاذٍ أنَّه ق كان في تبوك إذا ارتَحَلَ بعد المغرب عجَّلَ العشاء فصلَّاها معها . وخبر أنسٍ قال : « كان ق إذا رحل قبل أن تزيغ الشَّمس أخَّر الظُّهر إلى وقت العصر ، ثمَّ نزل فجمع بينهما ، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلَّى الظُّهر ثمَّ ركب » .
2. أمَّا الحنفيَّة فلم يعتبروا الجمع إلَّا للمُحرِم بالحَجِّ يومَ عرفة جمع تقديمٍ بين الظُّهر والعصر (بأذانٍ وإقامتين لأنَّ العصر يُصلَّى في غير وقته فوجب الإعلام به)، وليلةَ مزدلفة جمع تأخيرٍ بين المغرب والعشاء (بأذانٍ وإقامةٍ لأنَّ العشاء في وقتها فلم تحتج لإعلامٍ). لما جاء عن ابن مسعودٍ : « والذي لا إله غيرُهُ ! ما صلَّى رسول الله ق صلاةً قطُّ إلَّا لوقتها ، إلَّا صلاتين : جَمَعَ بين الظُّهر والعصر بعرفة ، وبين المغرب والعشاء بجَمْعٍ [= مزدلفة]» .
ففي الحفاظ على الصَّلاة في وقتها مشقَّةٌ على المسافر ، فوضع الله عنه هذا الحرج بأن أباح له الجمع .
4/ ما اختُلف فيه والأصحُّ عدم اختصاصُه به :
1) التَّنفُّل على الدَّابة . 2) التَّيمُّم . 3) القرعة بين نساءه .
2- المرض (حالةٌ تلحق بالإنسان تُخرجه عن حدِّ الصِّحَّة):
* العبادات المخفَّفةُ بالمرض :
1/ التَّيمُّم : عند عدم القدرة على استعمال الماء ، سواء كان ذلك بسبب الخوف من استعماله من زيادة مرضٍ أو تأخُّر شفاءٍ (جاء أنَّ صحابيًّا مرض في سفر وأجنب ، فاستفتى أصحابه في عدم الغسل ، فلم يرخِّصوا له ، فاغتسل فمات فجاء أنه ق قال : « إنَّما كان يكفيه التَّيمُّم »)، أو بسبب أنَّه لا يستطيع الوضوء بنفسه وليس له خادمٌ ولا يستطيع تأجير أحدٍ ، أو بسبب أنَّ بينه وبين الماء مَهلَكَةٌ لا يستطيع الوصول إليه ، أو بسبب أنَّ الوقت باردٌ يخاف الهلاك إذا استعمله (جاء أنَّ عمرَو بن العاص كان أميرًا في غزوةٍ مع أصحابه ، فأجنب في ليلةٍ باردةٍ ، فتيمَّم وصلَّى بهم ، فذكروا ذلك له ق ، فتبسَّم). وسورة  [النِّساء: ٤٣] .
فاستعمال الماء قد يشقُّ على المريض ويؤخِّر شفاءه ، فأتت الشَّريعة بالتَّخفيف عليه ورفع حرجه بالتَّيمُّم .
2/ الصَّلاة قاعدًا ومضطجعًا بالإيماء : فإن شَقَّ عليه القيام ـ وهو ركنٌ في الفريضة تبطل بدونه ـ بنفسه أو بالاعتماد على غيره وأحسَّ بألَمٍ غير مُطاقٍ أو خاف زيادة مرضٍ أو تأخُّر شفاءٍ جاز له أداء الصَّلاة قاعدًا حسب استطاعته . فإن لم يستطع لما ذُكر صلَّى مستلقيًا على ظهره ووضع وسادةً تحت رأسه حتَّى يكون شبه القاعد ويُومِئُ برأسه للرُّكوع والسُّجود . فإن لم يستطع لما ذُكر أُخِّرت عنه الصَّلاة ؛ لأنَّه ق لما ذكر ذلك لم يُجاوز الإيماء بالرأس ولو كان غيرُهُ لصرَّح به . وقيل : بل يصلِّي بتحريك جُفونه ، فإن لم يستطع فيُمِرُّ القرآن على قلبه ؛ لقوله تعالى : [التَّغابُن: ١٦] . قال ق : « صلِّ قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ » .
فرفع الله مشقَّة القيام في الصَّلاة عن المريض تخفيفًا وتيسيرًا ، وجعل له القعود وغيره .
3/ التَّخُّلف عن الجماعة : فهي ، وإن لم تكن من شروط صحَّة الصَّلاة ، إلَّا أنَّها واجبةٌ يأثَمُ من تَرَكها . لكنَّ الله وضَعَ إصر شُهُودها عن المريض ورخَّص له في الصَّلاة وحده ، وتَحصُل له فضيلتها إن كان ممن يشهدونها .
4/ فطر رمضان مع القضاء بعده (لمن يُرجَى بُرؤُه) أو الفدية (للكبير ومن لا يُرجَى بُرؤُه): ذلك لأنَّ الصَّوم يضرُّ بهم ويشقُّ ، فرُخِّص لهم في الفطر رفعًا للمشقَّة .
5/ إساغة اللقمة بالمحرَّم : إذا لم يجد ماءً يُسيغُها به ، فمشقَّة الغُصَّة أباحت له أن يُسيغُها بما أمامه وإن مُحرَّمًا .
6/ إباحة النَّظر للطبيب ولو للعورة : فالنَّظر في الأصل إلى العورة مُحرَّمٌ ، إلَّا أنَّه أُبيح رفعًا للمشقَّة الحاصلة من المرض وخلافه ، فينظر الرَّجل إلى عورة الرَّجل للختان والمداواة وغيرها ، وكذلك المرأة إن لم تُوجد الطَّبيبة ولو الكافرة ، وكذلك المرأة إلى عورة المرأة لضرورة الخفض (الختان) والمداواة وغيرها .
7/ الجمعة : وهي واجبٌ حضورُها ، لكنَّها رُفعت عن المريض دفعًا للمشقَّة ورفعًا للحَرَج عنه .
3- الجهل (تصوُّر الشَّيء على خلاف ما هو عليه)..
4- والنِّسيان (عدم استحضار الشَّيء وقت الحاجة): وهما مُسقِطان للإثم مطلَقًا ؛ قال ق : « رُفع عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان » ، والحُكم فيختلف . فإذا :
1/ ترك مأمورًا : فيجب تدارُكُه عند العلم والتَّذكُّر ، فـ :
1) من العبادات : كأن ترك صلاةً أو صومًا أو غيرهما ، وجب تدارُكُه حالًا وقضاؤُهُ بلا خلافٍ . أو صلَّى بنجاسةٍ أو دفع الزَّكاة لمن يظنُّه فقيرًا فبان غنيًّا ، أو تيمَّم مع الماء ، فيعيدُ في الكُلِّ في الصَّحيح . وخلافُهُ لا يعيد ؛ لأنَّه مرفوعٌ عنه المؤاخَذة . أو نسي غسل بعض الأعضاء ، أو صلَّى قاعدًا ناسيًا قدرته على القيام ، فإنَّه يعيد في الحالتين . أو حكم القاضي بالقياس ناسيًا النصَّ أو جاهلًا به ، فيعيد حكمَه .
2) من المعامَلات : كأن فاضَلَ بين الرِّبويَّات أو عَقَد على غير ما يملكه ، فيبطُلُ العقد بلا خلافٍ .
2/ فعل منهيًّا ليس فيه إتلافٌ : كأن شرب خمرًا ، فلا حدَّ ولا تعزير . أو أكل في الصَّلاة ، أو جامع في الصَّوم أو الاعتكاف ، أو أخذ من شعره وهو مُحرمٌ ، فلا كفَّارة ولا شيء عليه . إلَّا الفعل الكثير عادةً في الصَّلاة ، فإنَّه يبطلها .
3/ فعل منهيًّا فيه إتلافٌ وليس فيه عقوبةٌ : كأن أتلف مالًا لغيره ، فلا شيء عليه ، ويضمنُ .
واستُثني من ذلك صورٌ ، منها : ما لو تصرَّف في الوديعة ظانًّا أنَّها ملكه فتلفت ، فلا يضمن . أو أباح له ثمرًا ثمَّ رجع عن ذلك ولم يُعلمه ، فلا ضمان فيما أكله بعد الرُّجوع وقبل العلم .
4/ فعل منهيًّا فيه إتلافٌ وعقوبةٌ : كأن وَطِئَ بشُبهةٍ ، فلا عقوبة ، وعليه مهر المثل ؛ لإتلاف المنفعة . أو قتل جاهلًا بالتَّحريم ، فلا قصاص ، ويَدِي .
واستُثني من ذلك صورٌ ، منها : إذا قتله ظانًّا رِدَّته ، فعليه القصاص في المذهب ؛ لأنَّ ظنَّ الرِّدة ليس مبيحًا للقتل ، كما أنَّ ذلك للإمام ليس الأَفراد . أو قتل أحدُ أولياء الدَّمِّ جاهلًا بعفو الباقين ، فالقصاصُ في الأظهر ؛ لأنَّه متعدٍّ فالقتل ليس إليه وحده . أو قتله ظانًّا أنه قاتل أبيه ، فالأظهر القصاص ؛ لأنَّ عليه التَّثبُّت .
* وكلُّ من جهل تحريم شيءٍ يشترك فيه النَّاس جميعًا فلا يُقبل منه ، إلَّا أن يكون حديث عهدٍ بإسلامٍ ، أو نشأ في باديةٍ يخفى فيها مثل هذا (كمن جهل تحريم الكلام في الصَّلاة ، كما حدث مع بعض الصَّحابة).
* ومن علم الحُكم وجهل العاقبة لم ينفعه ذلك في درء العقاب عنه (كمن علم تحريم الزِّنا وجهل أن فيه حدًّا)؛ لأنَّه يجب عليه الامتناع حالًا ، سواء كانت عقوبةٌ أو لا .
5- الإكراه (إجبار الإنسان على إتيان ما يكره):
· ما يحصُل به الإكراه :
· ما يُباح بالإكراه وما لا يباح :
1/ التَّلفُّظ بكلمة الكفر : فإذا هدَّد المُكرِه بقتله أو قطع عضوه وكان قادرًا على تنفيذه ، ولم يستطع المكرَه الخَلَاص ، كان له النُّطق بالكفر ؛ حفظًا لنفسه ، وقصَّة عمَّار بن ياسرٍ مشهورةٌ . لكنَّه إذا صَابَرَ وارتضى القتل ولا ينطق كان خيرًا له وأعلى درجةً ؛ إذ إنَّه بذل مُهجَتَه في سبيل الله ، وهو أفضل ممَّا إذا قال النُّطق ـ وهو في الحالين غير مأزُورٍ ـ ، وقصَّة خبيب بن عَدِيٍّ مشهورةٌ أيضًا . لكن لابُدَّ من أن يكون قلبه مطمئنًّا بالإيمان مع نطقه ، فلو اعتقد كُفرًا ، ارتدَّ ، أو لم يجر على قلبه كفرٌ ولا إيمان ، فوجهان ، والآية تدلُّ على أنَّه مرتدٌّ .
2/ الزِّنا : لا يُباح باتِّفاقٍ ـ إلَّا خلافًا قد ذكرناه قبلُ ـ ويصبر على القتل ؛ لأنَّه أعظم مَفسَدةً من القتل .
3/ اللُّواط : لا يباح كذلك اتِّفاقًا ؛ لأنَّه من الفواحش والكبائر ، ويترتَّب عليه ما يترتَّب على الزِّنا .
4/ القذف : يُباح ، وقد يُلحَق بالتَّلفُّظ بالكفر ، ولا نَظَر إلى تعلُّقه بالمقذوف ؛ لأنَّه لم يتضرَّر به .
5/ السَّرقة : تُباح ، وتلتحق بإتلاف المال ، فهي دونه .
6/ شرب الخمر : يُباح قطعًا لكن لا يجب ؛ استبقاءً لروحه ، كما أُبيح لمن غُصَّ بلقمةٍ .
7/ شرب البول وأكل المَيتة : يُباحان ، وأصحُّ الوجهين الوجوب .
8/ إتلاف مال الغير : يُباح بل يجب ، كما يجب على المضطرِّ أكل طعام غيره غير المضطرِّ .
9/ الفطر في رمضان : يُباح ، ويجب على الصَّحيح .
10/ الخروج من الصَّلاة : يُباح ، ويجب أيضًا على الصَّحيح .
6- العُسر وعموم البَلوَى : أي تخفيف العبادات بسبب وجود عُسرٍ أو عموم البلوَى بها . مثل : الصَّلاة مع النَّجاسة المعفوِّ عنها . وإباحة الأربع نسوةٍ . وترك الجماعة في المطر . إسقاط الحجِّ والجمعة عن الأعمى . إسقاط أبي حنيفة عن المأموم القراءة مطلقًا . وعدم إلزامه المُصلِّي قراءةَ الفاتحة . وعدم اشتراطه النِّيَّة ولا الدَّلك في الطَّهارة . وغيرها .
7- النَّقص : فهو نوعٌ من المشقَّة . مثل : عدم تكليف الصَّبيِّ والمجنون . وعدم إيجاب الحضانة على النِّساء . وعدم تكليفهن بكثيرٍ ممَّا كلَّف به الرِّجال كالجُمعة والجماعة .

** أنواع المشاقِّ :

1- مشقَّةٌ لا تنفكُّ عنها العبادةُ غالبًا : كمشقَّة التطهُّر مع البَرْد ، ومشقَّة الصَّوم مع الحرِّ ، ومشقَّة الحجِّ مع السَّفر . وهذه لا أثر لها في إسقاط العبادات في كلِّ الأوقات .
2- مشقَّةٌ تنفكُّ عنها العبادات غالبًا : وهي مراتب :
1/ مشقَّةٌ عظيمةٌ . كمشقَّة الخوف على النَّفس أو العضو أو منفعته . فهذه مُوجِبةٌ للتَّخفيف .
2/ مشقَّةٌ خفيفةٌ . كوجع أصبعٍ أو صداعٍ . فهذه لا التفات إليها ولا أثر لها في التَّخفيف ؛ لأنَّ تحقيق المصلحة من العبادات أولَى من درء هذه المفسدة الخفيفة .

** أنواع التَّخفيفات :

1- تخفيف إسقاط : كإسقاط العبادة مع العذر ، كالجُمعة مع المرض .
2- تخفيف نقصٍ : كالقصر مع السَّفر .
3- تخفيف إبدالٍ : كإبدال الغُسلِ والوُضوءِ التَّيمُّمَ .
4- تخفيف تقديمٍ : كتقديم الزَّكاة على موعد وُجوبها .
5- تخفيف تأخيرٍ : كتأخير صوم رمضان مع السَّفر والمرض .
6- تخفيف ترخيصٍ (من الرُّخصة ، مقابل العزيمة): كشُرب الخمر مع الغُصَّة .
7- تخفيف تغييرٍ : كتغيير كيفيَّة ونَظمِ الصَّلاة مع الخوف .

** قاعدةٌ تلحق بها :

« إذا ضاق الأمرُ اتَّسعَ (شافعيَّةٌ) » ، وضدُّها : « إذا اتَّسع الأمرُ ضاقَ » ، أو بصياغةٍ أُخرى لهما جميعًا : « كلُّ ما تجاوزَ عن حدٍّ ما ، انعَكَس لضدِّه » .
· ومعنى ذلك : أنَّه إذا أصابته ضرورةٌ أصبح معها الحُكم الأصليُّ في حقِّه مشقَّةً ، فإنَّه يُخفَّف عنه حتى يسهل الخروج من هذه الضَّرورة ، وهذا معنى « إذا ضاقَ الأمرُ اتَّسعَ » . فإذا انتهت الضَّرورة عاد الحُكمُ كما كان ، وهذا معنى « إذا اتَّسعَ الأمرُ ضاقَ » .
· ومثالها : إذا فقدت المرأةُ وليَّها في سفرٍ فولَّت أمرَهَا رجلًا آخر . وإذا كان الذُّباب على نجاسةٍ ثُمَّ انتقل للثَّوب فإنَّه معفوٌّ عنه .
ومثالٌ لهما معًا : أنَّ قليل العمل عُرفًا في الصَّلاة لا يُبطلها ، أمَّا كثيرُهُ فغير مسموحٍ به إذا لم يكن لحاجةٍ .


القاعدة الرَّابعة : العَادَةُ مُحَكَّمَةٌ

** معنى القاعدة :
 أنَّ العُرف/العادة مُحكَّمٌة في الشَّريعة ، ويُرجَع إليها ، فهي محكَّمَةٌ في اللفظ تُخصِّصُ عامَّه وتُقيِّد مُطلَقَه ، وهكذا . ومُحكَّمةٌ في الأفعال ، فيُرجع إليها عند تحديد نوع تعاملٍ بين النَّاس . وهذه القاعدة إحدى القواعد الخمس التي يرجع إليها الفقه ، وإليها يرجع الكثير الذي لا يُعدُّ من فروع الفقه .
· العادة : لغةً : الدَّيدَنُ ، وهو : الدَّأَبُ والاستمرار على الشَّيء . واصطلاحًا : ما استمرَّ عليه النَّاس على حُكم العقول وعادوا إليه مرَّةً بعد أُخرى .
· العرف : لغةً : من مادة « ع ر ف » وهي تدلُّ على أصلين : 1) تتابع الشَّيء متَّصلًا ببعضه ، 2) السُّكون والطُّمأنينة . وعُرْف كلِّ شيءٍ أعلاه . والمعروف : المشهور الذي تسكن إليه النُّفوس . واصطلاحًا : ما استقرَّت عليه النُّفوس (لا يحصل مرَّةً أو مرَّتين أو عشرةً فقط) بشهادة العقول وتلقَّته الطِّباع السَّليمة بالقبول (فليس أيُّ عادةٍ مقبولةً هنا ، فقد يتعارف النَّاس على الرِّبا . لكنه المقبول في الشَّرع).
· الفرق بين العرف والعادة : لا فرق في استعمالات الفقهاء بين العادة والعُرف ، إنَّما استقرُّوا على أنَّهُما بمعنًى ، لذا كان عطفُ العادة على العُرف من قبيل عطف المترادفات . لكنَّ منهم من فرَّق ، فقال : العادة هي العُرف العملي ، والعُرف : هو العُرف القولي . لكنَّ هذا التَّفريق غيرُ مُعتبَرٍ ؛ لأنَّ استعمالات الفُقهاء دلَّت على غير ذلك .

** دليل القاعدة :

1- القرآن : [النِّساء: ١٩] .
2- السُّنَّة : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » ، و« الوزن وزن أهل مكَّة ، والمكيال مكيال أهل المدينة » .
3- وقال شُرَيحٌ القاضي : « سُنَّتُكُم بينكم » .

** شروط اعتبار العُرف شرعًا :

1- أن يكون مُطَّرِدًا أو غالبًا . أي يكون مُستمرًّا لا يتخلَّف في واقعةٍ أو مرَّةٍ من المرَّات ، كما إذا كانت عادة البلد تأخير المهور ، ولا يتخلَّف عن ذلك أحدٌ . أو استمرارًا غالبًا ، بحيث تشذُّ عنه بعض الأحوال .
2- أن يكون عامًّا ـ على خلافٍ فيه ـ . فالعُرف عرفان : عامٌّ (يفعله النَّاس جميعًا) وخاصٌّ (لفرقةٍ معيَّنةٍ كالتِّجَّار) . وفرقٌ بين العموم والاطِّراد ، فقد يكون العُرف عامًّا لكن غير مطَّرِدٍ (يعمل به النَّاس لكن من غير مداومةٍ عليه)، وقد يكون مُطَّرِدًا لكن غير عامٍّ (تعمل به فرقةٌ من النَّاس ـ ليس كلُّهم ـ يُديمون عليه). ولكنَّهم اختلفوا في العامِّ والخاصِّ ما الذي يُعمل به منهما . 1) فقال بعض الحنفيَّة : إنَّ الذي يُعتبر في الأحكام العُرف العامِّ دون الخاصِّ . 2) وقال المالكيَّة : إنَّه يُعمَل بالخاصِّ أيضًا ، وذلك مثل « عمل أهل المدينة » ، فقالوا : إنَّ توارُد المدنيِّين من عهد النَّبيِّ ق إلى الوقت على فعلٍ ما جعله بمنزلة العُرف العامِّ وإن كان يُنسَب لطائفةٍ مخصوصةٍ . والرَّاجح أنَّ اشتراط كون العُرف عامًّا ليس بلازمٍ ، فيُؤخَذ بالعامِّ ويلزمُ النَّاس جميعًا ، كما يُؤخذ بالخاصِّ ويلزم الطَّائفةَ التي تعارفت عليه دون النَّاس .
3- ألَّا يخالِف نصًّا . والعُرف قد يخالف واحدًا من اثنين : إمَّا يُخالِف نصًّا تعلَّق به حكمٌ ، أو لم يتعلَّق به حكمٌ . فإن خالف العرفُ نصًّا تعلَّق به حكمٌ قُدِّم استعمال الشَّرع . مثل : لو حلف لا يُصلِّي ، فصلَّى جنازةً لم يحنَث ؛ لأنَّ استعمال الصَّلاة في الشَّرع يُطلق على ذات الرُّكوع والسُّجود ، بينما العُرفُ على أنَّها أيُّ صلاةٍ . ومثل لو حلف لا يصوم ، فأمسك ساعةً لا نيَّةٍ لم يحنث ؛ لأنَّ الصَّوم في الشَّرع إمساكٌ بنيَّةٍ ، وإن كان عُرف اللغة على أنَّه أيُّ إمساكٍ . وهكذا . وإن كان اللفظُ عامًّا يتناول ما تعلَّق به حكمٌ وما لم يتعلَّق به ، فالمُعتَبَرُ حينئذٍ خُصوص الشَّرع . مثل من حلف لا يطأ ، فوطئ في الدُّبُر لم يحنث ؛ لأنَّ الوطء وإن كان عامًّا للقُبُل والدُّبُر ، إلَّا أنَّ الشرع قيَّده بالقُبُل فقط . ومثل من أوصى لأقاربه ، فلا يدخُل فيهم الورثة ؛ لأنَّ الرقابة وإن شملت كلَّ قريبٍ ، إلَّا أنَّ الوصيَّة لهم مُنع منها الوارثون . وهكذا .
أمَّا إن خالَفَ العُرفُ نصًّا لم يتعلَّق به حكمٌ فيُقدَّم العُرف .مثل لو حلف لا يأكل لحمًا ، فأكل سمكًا لم يحنث ، وإن سمَّاه الله لحمًا في[النَّحل: ١٤] ؛ لأنَّه لا يُراد عُرفًا باللحم عند إطلاقه السَّمكُ ، ولم يتعلَّق حكمٌ شرعيٌّ بالنَّصِّ . ومثل من حلف لا ينام تحت سقفٍ ، فنام تحت السَّماء لم يحنث ، وإن سمَّاها الله سقفًا في  [الأنبياء: ٣٢] ؛ لأنَّ السَّماء لا يُطلَق عليها سقفًا عادةً ، ولم يتعلَّق حكمٌ شرعيٌّ بالنَّصِّ . وهكذا .
4- ألَّا يُعارضه تصريحٌ بخلافه . إذا كان عُرفٌ ، فإنَّ النَّاس لا يصرِّحون به اعتمادًا على شُهرته ، فيَثبُتُ لهم ما أرادوه بالعُرف الجاري بينهم . لكن إذا صرَّحوا بما يُخالفه فحينئذٍ لا يُلتفَت للعُرف ؛ لأنَّه « لا عبرة للدِّلالة في مقابلة التَّصريح » . مثل ما إذا كان العُرفُ أن يعمل الأجيرُ ساعاتٍ مُعيَّنةً ، لكنه مع المؤجِّر اتَّفقا على أكثر منها أو أقلَّ ، فحينئذٍ يُعتبَر العُرفُ لاغيًا ، ويثبتُ ما اشترطاه .
5- أن يكون قائمًا عند التَّصرُّف . أن يكون سابقًا ومقارِنًا للتَّصرُّف ؛ لأنَّه إنَّما يُتصرَّف بناءً على ما جرى به العُرف ، فإذا تأخَّر العُرف عن التَّصرُّف لم يُحكَّم .
6- أن يكون مُلزِمًا ، بحيث أن يكون التَّصرُّف موافقًا لما جرى به العُرف . وهذا العُرف الذي يأخذ صفة الإلزام هو الذي يتضمَّن حقًّا من الحقوق على وجه الإلزام أو يترتَّب عليه الإلزام بشيءٍ ، كلفظ الطَّلاق . وهذا هو الذي يُعتبَر في التَّصرُّفات والمُعامَلات . أمَّا الذي لا يترتَّب عليه حقٌّ أو إلزامٌ أو فقد شرطًا ممَّا سبق فهذا الذي لا يصلح مستنَدًا في إثبات حقٍّ أو انبناء حُكمٍ عليه .
وينبني على هذا مسألةٌ : هل العُرف مَصدَرٌ من مصادر التَّشريع ؟ اختلَفوا على رأيين :
1/ فالحنفيَّة والمالكيَّة اعتَبروه مَصدَرًا ؛ مُستدلِّين بما نُسب إليه ق ـ ولم يقُلهُ ق ، إنَّما قاله ابنُ مسعُودٍ ط ـ : « ما رآه المسلمون حَسَنًا فهو عند الله حسنٌ » .
2/ والجُمهور على عدم اعتباره مَصدَرًا ؛ إذ قد يتعارف النَّاس في وقتٍ أو مكانٍ ما على عُرفٍ فاسدٍ كشُرب الخمر ، فلا يجوز أن نقول عندها : الخمر جائزٌ لتصرُّف النَّاس . فالعُرف إذًا عُرفان : عُرفٌ فاسدٌ يُخالف الشَّرع ، فهذا يُردُّ ، وعُرفٌ صحيحٌ لا يُخالف نصًّا ، وهذا يُقبَل ، ويُعتبَر الأخذُ به أخذًا بأصلٍ من أصول الشَّرع .
فالرَّاجح إذًا أنَّ العُرف ليس مَصدَرًا للتَّشريع ؛ إذ إنَّ أذواق النَّاس وأعارفَهُم تختلف ، أو العُرف الذي يكون حُجَّةً في إثبات حُكمٍ هو الذي اصطلح عليه الفقهاء واعتبروه أمارةً كاشفةً عن المصلحة التي دعت النَّاس إلى التَّعامل به .
ويكون مُرادُ الفُقهاء من « العادة مُحكَّمَةٌ » أي تُحكَّم عند النِّزاع فيما لم تقم عليه بيِّنةٌ .

** من فُروع القاعدة :

1- الحيض (لغةً : السَّيَلان . اصطلاحًا :دمٌ يخرجُ من رحم امرأةٍ ليس أثناء مرضٍ أو صِغَرٍ في أوقاتٍ معلومةٍ بقدرٍ معلومٍ ، يُستدَلُّ به على الصِّحةِ والقدرةِ على الإنجاب . وعند الحنفيَّة أقلُّه ثلاثة أيَّامٍ ولياليها . والمالكيَّة لا حدَّ لأقلِّه ، وأكثرُهُ خمسة عشر يومًا . والشَّافعيَّة والحنبليَّة أقلُّه يومٌ وليلةٌ ، وأكثرُهُ خمسة عشر يومًا): وهو علامةٌ على بلوغ المرأة . وأقلُّ سِنٍّ تبلُغُ فيه الجاريةُ اختَلَفُوا فيه ما بين ستِّ أو سبعِ أو تسعِ سنين أو اثني عشرة سنةً . والمختار أنَّه تسعُ سنين ؛ لأنَّه ق بَنَى بعائشة وهي بنت تسعٍ ، وقالت : « إذا بلغت الجاريةُ تسعا فهي امرأةٌ » ، فإذا نزل دمٌ قبل ذلك لم يكن حيضًا .
وقد حُدِّد هذا السِّنُّ بناءً على عادات النِّساء واستقراء أعراف النَّاس في ذلك ، حيثُ لم يرد له تحديدٌ شرعيٌّ أو لُغويٌّ ، فرُجع فيه إلى العُرف والعادة .
2- البلوغ (لغةً : الوصول والإدراك . اصطلاحًا : قوَّةٌ تحدُثُ بالشَّخص يخرج بها عن حدِّ الطُّفولة ، وتصير لديه القُدرة على الاتصال بالجنس الآخَر ، ويصير أهلًا للخطاب بالتَّكاليف الشَّرعيَّة): ولمَّا كان البُلوغ مناطًا من مناطات التَّكليف ، فقد اجتهدوا في ضبط علاماته ، واختَلَفُوا فيها .
1/ فعند الحنفيَّة : يبلُغُ الغُلام بالاحتلام (إنزال المنيِّ في نومٍ أو يقظة)، وينبني عليه إنزاله المنيَّ والقدرة على إحبال المرأة . أمَّا الجاريةُ فبالحيضِ ، كما قدَّمنا ، والحملِ (لأنَّه لا يكون إلَّا بعد بلوغٍ). فإذا لم تحدُث الأَمَارةُ فيكون ببلوغهما الخامسة عشرة من العمر (وقال أبو حنيفة : ببلوغ الغلام ثمان عشرة ، والجارية سبع عشرة).
2/ وعند المالكيَّة : أنَّ له علاماتٍ خمسةً : إنزال المنيِّ مطلَقًا ، وإنبات شعر العانة الخَشِن لا الزَّغب ، ونَتَنُ الإبط ، وفرقُ أرنبة الأنف ، وغِلَظُ الصَّوت . وتزيدُ الأنثى باثنتين : الحيض ، والحبل . فإذا لم يظهر شيءٌ فيبلغان بتمام الثَّامنة عشرة ، وقيل بالدُّخول فيها .
3/ أمَّا الشَّافعيَّة والحنبليَّة : فعلاماتُهُ عندهم : الاحتلام ، وخروج المنيِّ وقت إمكانه (استكمال تسع سنين)، ونبات شعر العانة الخشن . وتزيد الجاريةُ باثنتين : الحيض ، والحبل . فإذا لم يظهر شيءٌ فيبلغان بتمام خمس عشرة سنةً قمريَّةٍ .
وسبب اختلافهم : أنَّه لم يرد له ضابطٌ في الشَّرع أو اللُّغة ، فعُلم أنَّ مردَّ ذلك إلى العادة والعُرف بين النَّاس .
3- ضابط الكثرة والقِلَّة في الضَّبَّة (أنثى الضَّبِّ . والمقصود بها هنا : ما يُلحَمُ به الإناءُ ونحوُهُ ممَّا تشقَّق من نُحاسٍ أو حديدٍ أو غيرهما): وتضبيبُ الإناء المكسور مشروعٌ ؛ لأنَّ في تركه ضياعٌ للمال منهيٌّ عنه . لكنْ الشَّأنُ في استعمال الذَّهب والفضَّة في ذلك ، وقد نَهَى النَّبيُّ ق عن استعمال الذَّهب والفضَّة في الأواني. لكن عُفي عن التَّضبيب بقليل الفِضَّة ـ ليس الذَّهب ـ للحاجة ؛ لأنَّه أرأبُ للصَّدع . ويُرجَع في ذلك إلى عُرف النَّاس ، فما رأوه قليلًا فهو قليلٌ أو كثيرًا فهو كثيرٌ ؛ حيثُ لم يرد نصٌّ في الشَّرع بتحديده ، ولا هو معروفٌ في اللُّغة .
4- الأفعال المنافية للصَّلاة :
5- إحراز المال المسروق :
6- الإهداء إلى القُضاة :
7- النَّجاسات المعفوُّ عن قليلها :
8- طول الزَّمان وقِصَره في موالاة الوضوء :
9- وزن أو كيل ما جُهِل حالُهُ في عهده ق :
10- إرسال المواشي نهارًا وحفظها ليلًا :
11- صوم يوم الشَّكِّ لصاحب العادة :
12- دخول الحمَّام ودور القُضاة والوُلاة :
13- اعتبار عُرف الحالف والمُوصِي والواقف :
14- تناوُل الثِّمار السَّاقطة :
15- إيجاب السَّرج والإكاف في استئجار الدَّابة للرُّكوب :

** بم تثبت العادةُ :

1- الحيض :
2- الكلب المُعلَّم :
3- صوم يوم الشَّكِّ :
4- الإهداء للقاضي قبل الولاية :

** اطِّرادُ العادة :

** فروع القاعدة من القواعد :

1/ ما يُعبِّر من القواعد عن العُرفِ القوليِّ وأثرِهِ في بناء الأحكام :
1) الحقيقة تُترَك بدلالة العادة :
2) الكتاب كالخطاب :
3) الإشارَة المعهودة للأخرس كالبيان باللسان :
2/

**

0 تعليق:

إرسال تعليق