جريمة الإبادة الجماعية في القضاء الجنائي الدولي
د. محمد خليل مرسي•
المقدمة:
توصف جريمة "الإبادة الجماعية" Le Crime de genocide بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة وبأنها "جريمة الجرائم". وقد تضمن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) في مادته السادسة نصا يتعلق بجريمة الإبادة الجماعية. ولم يأت هذا النظام شاذا عن سابقيه: النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، اللذين تضمنا نصا مشابها لنص المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يتعلق بتعريف جريمة الإبادة الجماعية .
من الملفت للنظر في هذا المجال أن تعريف الإبادة الجماعية المدرج في الأسناد الدولية الثلاثة المشار اليها أعلاه جاء مطابقا تماما لتعريف هذه الجريمة المقرر في المادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي اعتمدتها الجمعية العامة للامم المتحدة في 9/12/1948. فتعريف الإبادة الجماعية بأنها: "أي من الأفعال الآتية: المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه:
أ- قتل أفراد الجماعة.
ب- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة.
ت- إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها كليا أو جزئيا.
ث- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة.
ج- نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.
يعد تعريفا مستقرا لها منذ عقود خمسة أو يزيد؛ أي منذ إعتماد إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948).
ظهر مصطلح "الإبادة الجماعية" Le genocide رسميا لأول مرة في التوصية رقم 96/1 الصادرة عن الجمعية العامة للامم المتحدة في 11/12/1946، حيث أدانت الجمعية العامة هذه الجريمة بعد أن وسمتها بأنها من جرائم القانون الدولي وبأنها محل إدانة العالم المتمدن.
أما أول ظهور لمصطلح "الإبادة الجماعية" في أدبيات القانون الدولي وفي الفكر الإنساني فكان عام 1944 من خلال Rephael Lemkin الذي كان مستشارا لوزارة الحرب التابعة للولايات المتحدة، من أجل توضيح خصوصية الجرائم المرتكبة من النازيين. وقد كان Lemkin ذاته قد اقترح وصف الأفعال الهادفة لتدمير الجماعات العرقية أو الإجتماعية أو الدينية بأنها "جريمة من جرائم قانون الشعوب" "Delicto juris gentium" . وقد قام Lemkin آنذاك بتصنيف هذه الأفعال إلى أفعال موجهة للقضاء على الوجود المادي للجماعات، وإلى أفعال موجهة ضد القيم الثقافية للجماعات. وإقترح وضع إتفاقية دولية للقضاء على هذه الجريمة والمعاقبة عليها .
وجرى التأكيد على وضع الإتفاقية المقترحة بعد عامين من إقتراح Lemkin في بوخارست من قبل الأستاذ Pella، الذي أضاف إلى الإقتراح السابق فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية لحماية حقوق الإنسان .
وفي دراسة معنونة بـ "في إحتلال دول المحور للدول المحتلة" نشرها Lemkin عام 1944، أشار إلى فضاعة الممارسات الهتلرية والنازية وعدم إنسانيتها، خاصة الممارسات والأفعال الهادفة لتدمير شعوب دول أوروبا الواقعة تحت الإحتلال النازي، وإلى "جرمنة" Germanisation هذه الدول . وقد ابتدع Lemkin نفسه في هذه الدراسة مصطلح "الإبادة الجماعية". وهو مشتق من الكلمة اللاتينية Genus ومعناها "الجماعة"، ومن كلمة Cedere ومعناها "يقتل"، وأوضح Lemkin أن مصطلح "الإبادة الجماعية" يشير إلى "تدمير أمة أو جماعية إثنية.... ولا يعني بالضرورة التدمير الفوري لهذه الأمة أو الإثنية، بل يعني في الغالب وجود خطة منظمة للقيام بأفعال مختلفة تهدف إلى القضاء على الأسس والركائز الحيوية التي تقوم عليها حياة الجماعة القومية والإثنية، وتؤدي في النهاية إلى تدمير الجماعة ذاتها. فالغرض من هذه الخطة هو إقصاء أو إفناء المؤسسات والبني السياسية والإجتماعية للجماعة، وكذلك الأمر بالنسبة للغتها وديانتها وثقافتها ووجدودها الإقتصادي. كما تهدف الخطة أيضا إلى الإعتداء على السلامة البدنية والشخصية للأفراد المنتمين للجماعة محل الإبادة. فالإبادة الجماعية ترتكب ضد الجماعة القومية أو الإثنية بصفتها كائنا مستقلا له ذاتية خاصة به" .
غدا مصطلح "الإبادة الجماعية اليوم مصطلحا مألوفا وذا دلالة مستقرة في القانون الدولي. وقد جرى وضع تعريف لهذا المصطلح، ويبدو أن هذا التعريف – كما أوضحنا سابقا – محل إجماع واتفاق دولي، فتكرار التعريف الوارد في المادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948) في العديد من الصكوك والمواثيق الدولية يؤكد هذا الإجماع، خاصة عند مقارنة مسألة تعريف جريمة الإبادة الجماعية بغيره من التعاريف المعطاه لجرائم دولية أخرى، فتعريف الجرائم ضد الإنسانية Les crimes contre l'humanite ما زال تعريفا قلقا، وثمة تردد واضح في وضع تعريف عام ومستقر لهذا المصطلح.
ثمة سمات اخرى تميز تعريف جريمة الإبادة الجماعية، أهمها العدد الكبير من التساؤلات والإشكاليات التي أثيرت بصدده، والتي ما زال جزء لا يستهان منها بحاجة إلى إجابات واضحة لغايات الآن، فرغم التفسيرات والإضاءات التي قدمتها المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بالنسبة لعدد من هذه التساؤلات، ومع ان محكمة العدل الدولية قد تسنى لها النظر في نزاعات تتعلق بتطبيق وتفسير إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليهافي عدة مناسبات ، إلا أن عددا من المسائل الخلافية بشأن مفهوم هذه الجريمة وأركانها ما زال بحاجة إلى بيان وإيضاح.
يستطاع القول إن الإجتهادات والأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الجنائية الدولية قد حملت في ثناياها تطويرا لا يستهان به بالنسبة لجوانب عديدة ذات صلة بأركان جريمة الإبادة الجماعية وبتمييزها عن سواها من الجرائم الدولية. ولهذا، سيصار إلى دراسة وتحليل مفهوم جريمة الإبادة الجماعية وأركانها من خلال الممارسة الدولية ذات الصلة ومن خلال الأحكام والإجتهادات القضائية الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، وفي ضوء الأعمال التحضيرية للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والصيغة النهائية لمشروع نص أركان الجرائم المقدم من اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية. ولعل أهم ما حملته الممارسة الدولية المعاصرة بخصوص جريمة الإبادة الجماعية من تطوير لمفهوم الجريمة وأركانها هو بيان لمفهوم الجماعات المشمولة بنطاقها وتحديد الإنتماء إليها (أولا)، ولصور السلوك، الجرمي المكون للركن المادي للجريمة (ثانيا) وطبيعة القصد الجنائي الواجب توافره لقيام الجريمة (ثالثا).
أولا: الجماعات المشمولة بجريمة الإبادة الجماعية:
من المسلم به أن السلوك الجرمي في جريمة الإبادة الجماعية يتسم بصفة تمييزية لجهة محل الجريمة، فالهوية الإثنية أو القومية أو العرقية أو الدينية للضحية تمثل ركنا أساسيا من أركان جريمة الإبادة الجماعية. ففي التوصية رقم 96/1 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/12/1946، أعلنت الجمعية العامة أن الإبادة الجماعية تمثل إنكارا لحق الجماعات الإنسانية في العيش والوجود، شأنها شأن "القتل العمد" L'homicide الذي يتضمن إنكارا لحق الكائن الإنساني في الحياة. فالفرد في هذه الجريمة يعد هدفا أوليا أو قنطرة لا مناص من عبورها بغية تحقيق الغاية النهائية المرجو تحقيقها من جريمة الإبادة الجماعية، ألا وهي تدبر الجماعة المستهدفة كليا أو جزئيا . فعضوية الفرد الموجه ضده الفعل الجرمي لها أهمية كبيرة جدا في تحديد الضحايا المباشرين لمرتكب جريمة الإبادة الجماعية، وهي أهم بكثير من الضحية نفسه .
فثمة تفرقة إذا في إطار جريمة الإبادة الجماعية بين حقوق الجماعة بصفتها هذه وبين حق الأفراد المنتمين لهذه الجماعة في الحفاظ على ثقافتهم وعلى هويتهم القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية، وفي إنمائها وتطويرها، ولعل مكمن الطرافة والأهمية في الوظيفة التي تؤديها المعاقبة على جريمة الإبادة الجماعية ومكافحتها تكمن في التفرقة بين "حق الجماعة" و"حقوق الأشخاص المنتمين للجماعة"، فهذه التفرقة تشكل مدخلا أساسيا لفهم الوظيفة التي تتمتع بها مجمل النصوص الناظمة لجريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي.
تساهم الصفة التمييزية للسلوك الجرمي في جريمة الإبادة الجماعية في التمييز بين "الإبادة الجماعية" والجرائم ضد الإنسانية. ويجب أن لا يفهم في هذا المجال أن احتواء المادة الثالثة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا على "الصفة التمييزية" للفعل المكون للسلوك الجرمي في الجرائم ضد الإنسانية أن هذه الصفة مطلوبة بالنسبة للجراسم ضد الإنسانية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أو في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. وما احتواء النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا على هذا مثل هذا الشرط بالنسبة للجرائم ضد الإنسانية إلا تعبيرا عن خصوصية الظروف التي أحاطت بوضع الناظم الأساسي لهذه المحكمة، فهذا النظام قد وضع للمعاقبة على الجرائم المرتكبة في رواندا عام 1994 على وجه التحديد، والتي كان الدافع الأساسي وراء ارتكابها الأصل الإثني لجماعة "التوتسي". فجاء النظام متضمنا لهذا الشرط حتى لا يفلت أي شخص من دائرة العقاب عن جرائم كان قد اقترفها ضد "التوتسي" في رواندا .
بالرغم من وجود إتجاه فقهي يعد تعريف جريمة الإبادة الجماعية شاملا للجماعات السياسية والإجتماعية – التي استبعدتها إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها من نطاقها – إستنادا إلى أن تعريف جريمة الإبادة الجماعية بموجب القانون الدولي العرفي أوسع منه في القانون الدولي الإتفاقي ، إلا أن المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة adhoc قد قصرت نطاق الحماية على الجماعات الإثنية والقومية والعرقية والدينية فقط.
وتثار أسئلة عديدة حول تعريف كل جماعة من الجماعات المحمية بمقتضى إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، من ضمنها: هل تتمتع كل جماعة من هذه الجماعات بمعنى ومفهوم مستقل خاص بها، أم أنها تكمل بعضها بعض وتتكامل فيها بينها؟ وكيف يمكن تحديد إنتماء الأشخاص لأي منها؟
للإجابة عن التساؤلات السابقة، يمكن القول بوجود أسلوبين لتحديد دلالة كل جماعة من هذه الجماعات، وبالنتيجة يتحدد إنتماء الأشخاص، رأى منها، وهما: المعيار الموضوعي المستند إلى وقائع مادية خارج إرادة الأشخاص، والمعيار الشخصي الذي يعتمد على فكرة "التحديد الذاتي" L'auto-identification أو على فكرة التمديد من خلال الغير.
أ- المعيار الموضوعي في تحديد صفة الجماعة:
تبدو أهمية التفرقة بين معيار موضوعي وآخر شخصي في هذا المجال ذات منافع علمية لا مجال لإنكارها. فعلى سبيل المثال، لو تم تطبيق المعيار الموضوعي في حالة جرائم الإبادة الجماعية المرتكبة في رواندا، فلن تكون الجريمة قائمة إلا في الحالة التي يكون فيها الضحية من التوتسي فقط. وبمعنى آخر، لا يعد الأشخاص الذين قتلوا – على سبيل المثال – لأن القاتل كان يتوقع أنهم من التوتستي، وهم ليسوا كذلك، ضحايا لجريمة إبادة جماعية، وذلك لا يمنع من قيام جريمة ضد الإنسانية أو جريمة حرب إذا ما تحققت أركان وشروط أي منهما.
لا يخلو المعيار الموضوعي في حقيقة الأمر من صعوبات ومشكلات، أهمها أن القواعد والضوابط المستخدمة لتحديد الجماعة والإنتماء إليها قد تكون محلا للخلاف . ففي حالة رواندا، لم يكن يسيرا التمييز بين الهوتو والتوتسي في حالات عديدة. فقد كان عسيرا وصف هاتين الجماعتين بجماعات إثنية، ولعل القراءة الأوروبية للهويات في رواندا قد وقعت في خطأ اساسه أن الأوروبيين قد اعتمدوا على تحليلهم الخالص للانتماء الإثني في رواندا ، وهو خطأ كشفت عنه المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في أحكامها وهو ما سيتم تحليله لاحقا.
تسمح القراءة المتأنية لأحكام المحاكم الجنائية الخاصة في رواندا وفي يوغسلافيا السابقة بالوقوف على حقيقة فحواها أن هناك تطورا ملحوظا في تحديد هذه الجماعات وفي تحديد الإنتماء إليها، حيث إنتقلت هذه المحاكم رويدا رويدا من تطبيق المعيار الموضوعي إلى تطبيق معيار شخصي، وذلك لأن المعيار الموضوعي قد يؤدي إلى نتائج غير مقبولة وغير مقنعة من الناحية العملية أحيانا.
ب- المعيار الشخصي في تحديد الجماعة:
يقوم هذا المعيار على أساس تحديد الجماعة وتحديد الإنتماء اليها من خلال إرادة الضحية نفسه وهو ما يطلق عليه بالتحديد الذاتي، أو من خلال إرادة الآخرين، فهذا المعيار لا يحفل بالحقائق العلمية أو بالمظاهر الموجودة في الواقع لتمييز الجماعات والأشخاص المنتمين إليها، بل يعتمد على ما يعتمل في ذهن الأشخاص أنفسهم، مثل الضحية أو مرتكب الجريمة.
لقد أخذت المحاكم الجنائية الدولية الخاصة في رواندا وفي يوغسلافيا السابقة بالمعيار الشخصي لتفادي حصول نتائج مشوهة أو غير صحيحة من الناحية العملية . وقد كان انتقال هذا المحاكم إلى المعيار الشخصي انتقالا وئيدا وبطئيا. فقد أخذت في بداية الأمر بالمعيار الموضوعي بغية تحديد هذه الجماعات.
في قضية Akayesu، قامت المحكمة الجنائية الدولية في رواندا بتعريف الجماعة القومية Legroup national. ولم يكن مستغربا البتة أن تستند المحكمة في تعريفها لهذه الجماعة إلى حكم محكمة العدل الدولية في قضية نوتيبوم . حيث عرفت الجماعة القومية بأنها: "مجموعة من أفراد الشعب يشعرون بالإشتراك في علاقات قانونية قائمة على مواطنة مشتركة، ومقترنة بتبادل الحقوق والواجبات" . أما الجماعة الإثنية، فقد عدت المحكمة أن السمة الأساسية المميزة لها هي "إشتراك أعضائها في لغة أو في ثقافة مشتركة" . وأكدت المحكمة نزعتها الموضوعية في تعريف هذه الجماعات بتعريفها للجماعة العرقية بأنها تقوم على جملة من الخصائص الطبيعية الموروثة، التي تحدد عادة حسب المناطق الجغرافية المختلفة، بغض النظر عن العوامل اللغوية أو الثقافية أو القومية أو الدينية . وكذلك في تعريفها للجماعة الدينية بأنها تلك التي "يشترك أعضاؤها معا بالدين أو بالإعتقاد ذاته" .
كان واضحا للمحكمة في قضية Akayesu أن جماعة التوتسي في رواندا لا ينطبق بشأنها أي من التعريفات السابقة. فقد عدت المحكمة أنه بخصوص الهوتو والتوتسي يصعب تماما وصف التوتسي بجماعة إثنية مختلفة عن الهوتو، لأن كليهما تشتركان في الثقافة واللغة . وإزاء هذا الوضع، لم يكن أمام المحكمة سوى اللجوء إلى أحد هذين الأسلوبين بغية تكييف الجرائم المرتكبة ضد التوتسي إبادة جماعية. الإعتماد على إدراك وشعور مرتكبي الجرائم القائم على تقسيم إثني في تحديد ضحاياهم. أما الأسلوب الثاني فيتمثل في تفسير المحكمة للجماعات المحددة في إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 تفسيرا موسعا يسمح بإدخال التوتسي في نطاقها.
لقد ترددت المحكمة في اخذ أي من هذين الأسلوبين، وقد ظهر هذا التردد في تحليلها للتفرقة بين التوتسي والهوتو، فقد ذهبت المحكة إلى أنه من الناحية التاريخية لم يكن ثمة تمييز بين الهوتو والتوتسي، وأنه كان تمييزا بين أفراد لا جماعات؛ ولم يكن قائما على أسس إثنية أو جينالوجية (وراثية). وقد كان وصف الشخص بأنه من الهوتو أو التوتسي مرنا ويعتمد على غنى الشخص أو فقره .
وخلصت المحكمة إلى أن الإستعمار البلجيكي هو الذي أقر في بداية الثلاثينات من القرن الماضي تقسيما دائما في رواندا قائما على تصنيف السكان إلى مجموعات إثنية ثلاث هي الهوتو والتوتسي والتاواسي . وقد منحت كل شخص بطاقة شخصية محددا فيها الإنتماء الإثني له. وإنتهت المحكمة بالنتيجة إلى أن "تحديد الإنتماء الإثني للاشخاص" في السنوات السابقة للإبادة" الجماعية قد اصبح "مكونا داخلا في الثقافة الرواندية" .
وأدركت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا في حكمها المشار إليه صعوبة إعمال المعيار الموضوعي في هذه الحالة، وخطورة النتائج التي قد تترتب على تطبيقه، مما دفعها إلى إعمال معيار شخصي بقولها أن : "التوتسي كانوا يشكلون جماعة إثنية مختلفة في أذهان مرتكبي الجريمة" .
صفوة القول هي أن المحكمة المشار إليها أقرت بأن التمييز بين الجماعات يستند بصورة كاملة على مشاعر عرضية أو مؤقتة وليس على وقائع إجتماعية أو طبيعية موجودة وجودا موضوعيا. وبمعنى آخر، تبنت المحكمة فكرة مؤداها أن الهويات الجماعية، خاصة الإثنوية منها، هي "هويات متخيلة" des identities imaginaries أساسها جملة الأفكار السائدة في "المخيال الإجتماعي" L'imaginaire sociale المهيمن في بيئة إجتماعية معينة .
وقد تأكد إجتهاد المحكمة السابق في أحكام عديدة أصدرتها لاحقا، ففي قضية Kayishema، عمدت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا إلى تحليل فكرة "الجماعة الإثنية"، تحليلا مبنيا على معيار شخصي محض، واتخذت من اجتهاد المحكمة الدائمة للعدل الدولي في قضية مدارس الأقليات في سيليزيا العليا منطلقا لتحليلها . فلم تعرف "الجماعة الإثنية" بأنها "جماعة يشترك أعضاؤها في لغة أو ثقافة واحدة" فقط، بل أضافت إلى ذلك بأنها جماعة تميز ذاتها بصفتها تلك" (التحديد الذاتي)، أو أنها "تعرف بصفتها تلك من خلال الآخرين، بما في ذلك الذين يرتكبون الجرائم" (التحديد من خلال الآخرين) .
وعززت المحكمة ذاتها نزعتها الشخصية في تحديد الجماعات المحمية في حكمها الصادر في قضية Rutaganda، فقد أوضحت صراحة أن مفاهيم مثل الجماعات القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية كانت عرضة لدراسات وتحليلات متعددة، ولكن ليس هناك أي تعريفات دقيقة ومقبولة لها دوليا أو بصورة عامة، ومن الأجدر أن يصار إلى فهم كل مفهوم منها من خلال سياق اجتماعي وسياسي وثقافي معين، وإنتهت المحكمة انه "لأغراض تطبيق التعريف الوارد في المادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، تكون عضوية الجماعات المحددة بمقتضاها شخصية أكثر من موضوعية" .
وإتجهت المحكمة الجنائية الدولية في يوغسلافيا السابقة هي الأخرى من تطبيق المعيار الموضوعي إلى المعيار الشخصي في تعريفها للجماعات المحمية وفي تحديدها للانتماء إليها، فأعلنت المحكمة في حكمها الصادر في قضية Jelisic أنه بالرغم من أن التحديد الموضوعي للجماعة الدينية ما زال ممكنا لغاية الآن، فإن محاولة تعريف الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية اليوم إستنادا إلى المعايير والمعطيات الموضوعية والعلمية قد تؤدي إلى نتائج لا تتفق بالضرورة مع شعور الأشخاص المعنيين بهذا التحديد. لذلك قد يكون من الأنسب تقييم وضع الجماعات القومية أو الأثنية أو العرقية من وجهة نظر الأشخاص الذين يرغبون في إهلاك إحدى هذه الجماعات أو تدميرها. وقررت المحكمة – إنطلاقا من الإعتبارات السابقة – تحديد إنتماء الأشخاص للجماعات القومية أو العرقية أو الإثنية بالإعتماد على معيار شخصي، فوصف أي جماعة بأنها قومية أو إثنية أو عرقية في تصور وإدراك مرتكبي الجرائم .
قصارى القول إذن أن المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة adhoc غدت تأخذ بالتصورات السائدة في "المخيال الإجتماعي" لتحديد مفهوم الجماعات المشمولة بنطاق جريمة الإبادة الجماعية والتي تصلح أن تكون محلا للجريمة، ولم تعد تركن إلى عوامل موضوعية خارج التصورات الذهنية وإدراك المجتمع الذي توجد الجماعة المعنية في كنفه . وهكذا فإنها لم تعد تحفل أيضا بصحة الإنتماء إلى الجماعة وفقا للمعايير والمعطيات العلمية، فإدراك مرتكب الجريمة the perception of the perpetrator أصبح – من الآن فصاعدا – العنصر الأهم والأكثر حيوية في إقامة المسؤولية الجزائية الفردية عن جرائم الإبادة الجماعية، وهو بالتأكيد أهم من فعلية إثنية الضحية ومطابقتها للواقع وللحقائق العلمية .
يتوجب لقيام جريمة الإبادة الجماعية أن يكون لسلوك الجرمي موجها إلى إحدى الجماعات المشمولة بالتعريف، فليست أي جماعة هي التي تصلح محلا لهذه الجريمة, فالفعل المكون للركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية يتصف بأنه ذو صفة تمييزية. وهذه الصفة تسمح بالتمييز بين الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، فصور السلوك الجرمي في جريمة الإبادة الجماعية ذات صلة بتدمير الجماعة وبالغاية المرجوة من إتيانها.
ثانيا: الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية:
يتمثل الركن المادي Actus rues لجريمة الإبادة الجماعية في إتيان أحد الأفعال المكونة للسلوك أو اكثر، وهذه الأفعال محددة على سبيل الحصر في تعريف جريمة الإبادة الجماعية في الصكوك الدولية المختلفة المتعلقة بهذه الجريمة، ولا يشترط لقيام هذه الجريمة أن يؤدي الفعل المرتكب إلى التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة فعلا، فيكفي أن تتوافر النية الجرمية عند مرتكب الفعل للحصول على هذه النتيجة.
ومن السمات المميزة للسلوك الجرمي في جريمة الإبادة الجماعية اتساع نطاقه والإنتشار الواسع للانتهاكات المترتبة على إتيانه. وهي سمة لا تقتصر فقط على جريمة الإبادة الجماعية، بل تشاطرها إياها الجرائم ضد الإنسانية. ستنصب دراسة الركن المادي عموما على بيان صور السلوك الجرمي المكون للجريمة وعلى إتساع نطاق هذا السلوك الجرمي.
أ- السلوك الجرمي:
لا يقتصر السلوك الجرمي المكون للركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية على إتيان أحد الأفعال المحددة حصرا في تعريف الإبادة الجماعية، فقد يتحقق هذا السلوك الجرمي جراء سلوك سلبي قائم على الإمتناع عن القيام بعمل ما للحيلولة دون إرتكاب صور السلوك الجرمي الإيجابي لهذه الجريمة أو لمنع إستمرار إرتكابها، متى كان مثل هذا العمل واجبا مفروضا على عاتق الممتنع عن القيام به.
1. صور السلوك الجرمي الإيجابي:
وفقا للصكوك الدولية الناظمة لجريمة الإبادة الجماعية والمتضمنة تعريفا لها، وإستنادا للجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية في مشروعها الخاص بنص أركان الجرائم، يشمل السلوك الجرمي المكون لجرمية الإبادة الجماعية إتيان أحد الأفعال المحددة في هذه الصكوك أو أكثر. ومن المعروف أن هذه الصكوك كافة قد جاءت بتعريف واحد لهذه الجريمة، مما يعني أنها جميعا تضمنت الصور ذاتها المكونة للسلوك الجرمي. أما الصور المحددة في هذا الخصوص في:
أ- الإبادة الجماعية بالقتل: قد يتحقق السلوك الجرمي المكون للإبادة بقتل شخص أو أكثر من إحدى الجماعات المدرجة في تعريف الجريمة، والقتل المقصود هنا هو القتل المنصب على أحد أشخاص الجماعة المعرضة للإبادة بقصد إماتته. وبمعنى آخر فإن القتل كأحد صور السلوك الجرمي في هذه الجريمة يجب أن يكون مقصودا ومقترنا أيضا بقصد الإبادة للجماعة ، فالقتل غير المقصود لا يمكن أن يشكل سلوكا جرميا في إطار جريمة الإبادة الجماعية .
ب- الإبادة بالحاق أذى بدني أو عقلي جسيم: يتم تحديد "الأذى البدني الجسيم" في كل قضية على حدة، فليس هناك ضابط أو معيار واحد يمكن تطبيقه بشأن الحالات كافة، ويمكن تفسير المقصود بهذه الصورة من صور السلوك الجرمي بأنه الأذى الذي يسبب إضرارا جسيما بالصحة، أو إتيان أفعال من شأنها إحداث أذى جسيم لأعضاء الإنسان الداخلية أو الخارجية أو لحواسه. فهي قد تشمل إذا التعذيب أو المعاملة غير الإنسانية، وقد أدخلت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أفعالا مثل الإغتصاب والعنف الجنسي تحت مظلة هذه الصورة من صور السلوك الجرمي .
لقد عد الإغتصاب والعنف الجنسي من أسوأ الأفعال الجرمية المسببة لأذى جسيم بدني ومعنوي في آن معا. وقد أقرت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن الإغتصاب أو العنف الجنسي قد يشكل سلوكا جرميا في جريمة إبادة جماعية عندما تتوافر شروط وظروف معينة، وعندما يرتكب أيهما بقصد التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة التي ينتمي إليها ضحايا الإغتصاب أو العنف الجنسي .
ويثار التساؤل عن حجة المحكمة التي استند إليها في توصيفها للإغتصاب والعنف الجنسي كأفعال مكونة لإبادة جماعية، خاصة وأن صور السلوك الجرمي المبينة في تعريف الجريمة لا تنطوي على هذه الصورة. ولقد استنتجت المحكمة أن مثل هذه الأفعال تنتج أذى جسديا ومعنويا جسيما، وهذا الأذى يترتب جراء ما تحمله هذه الأفعال من تدمير جسدي ونفسي للنساء اللواتي تتعرضن لهذه الأفعال. وقد حددت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا بدقة أن ضحايا هذه الإعتداءات جرى إختيارهم بسبب إنتمائهم إلى جماعة التوتسي، كما تم إستبعاد الأشخاص المنتمين لجماعة أخرى. وإذا أضيف لهذا العنصر- وفقا للمحكمة – حقيقة أن الإبادة الجماعية إرتكبت في رواندا وفي المقاطعة التي كان المتهم عمدة لها، فإن ذلك يثبت أن عمليات الإغتصاب المرتكبة كانت تتصف بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة التوتسي. وهكذا يتبدى بوضوح أن هذه المحكمة وصفت الإغتصاب الجنسي المرتكب في ظل ظروف معينة بأنه "فعل إبادة" إذا إقترن بقصد التدمير . ومن الملاحظ أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عد الإغتصاب والعنف الجنسي ضمن الجرائم ضد الإنسانية وضمن جرائم الحرب .
عمدت المحكمة الجنائية الدولية لوراندا إلى تعريف الإغتصاب والعنف الجنسي وذلك بالتوازي مع التعريف المقرر للتعذيب في القانون الدولي . فبعد أن وصفت المحكمة هذه الأفعال بأنها كالتعذيب تنطوي على إعتداء على الكرامة الإنسانية، وتمثل تعذيبا عندما تصدر عن موظف رسمي يتصرف بمقتضى سلطته الرسمية، عرفت الإغتصاب والعنف الجنسي كالآتي: "الإغتصاب هو إعتداء جسدي ذو طبيعة جنسية يرتكب ضد شخص قسريا ورغما عن إرادته. أما العنف الجنسي – الذي يشمل الإغتصاب بالطبع – فلا يقتصر على الإعتداء الجنسي على الجسد، بل قد يشمل تصرفات أخرى لا تتعلق بالإيلاج أو حتى بالإتصال بجسد الضحية .
ولا يشترط أن يكون الأذى البدني أو المعنوي الجسيم ذا صفة دائمة أو غير قابلة للعلاج. كما لا يشترط أن يؤدي إلى التدمير الفوري أو المباشر للأشخاص المنتمين للجماعة محل الإعتداء في جريمة الإبادة الجماعية.
ج- الإبادة الجماعية بفرض أحوال معيشة يقصد بها التسبب عمدا في تدمير الجماعة ماديا: تتضمن هذه الصورة من صور السلوك الجرمي عددا من الأفعال التدميرية التي لا تؤدي فورا أو مباشرة إلى موت أعضاء الجماعة المعرضة لهذه التدابير، لكنها تهدف في النهاية إلى التدمير المادي لهذه الجماعة. ومن أمثلة على هذه التدابير الإبعاد المنظم للأشخاص المنتمين للجماعة عن مساكنهم ومواطنهم، حرمانهم من المعونات والخدمات الطبية لمدد طويلة، أو حرمانهم من الغذاء .
ولا يشترط لقيام الجريمة في هذه الحالة ان يتحقق الأثر المرجو من القيام بالسلوك الجرمي فورا، فالمسؤولية الجزائية عن جريمة الإبادة الجماعية تنهض في مواجهة مرتكبها بمجرد فرض هذه الأحوال المعيشية على شخص أو أكثر من الأشخاص المنتمين إلى الجماعة بقصد تدمير الجماعة كليا أو جزئيا .
وقد بدا هذا الإتجاه واضحا في محاكمة "إيخمان" فقد خلصت المحكمة إلى أن المتهم مسؤول جزائيا عن فعله المتعلق بإرسال ضحاياه من اليهود إلى مخيمات الأعمال الشاقة والمرهقة بهدف التسبب في وفاتهم جراء تعرضهم لهذه الظروف المعيشية، وبغض النظر عن بقاء عدد منهم على قيد الحياة .
يبدو أن إثبات قيام جريمة الإبادة الجماعية عبر إخضاع الأشخاص المنتمين لجماعة عرقية أو إثنية أو مومية أو دينية لأحوال معيشية بهدف تدميرهم ليس أمرا هينا أو يسيرا، وقد بدت هذه الصعوبة واضحة تماما في الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية عام 1999 في قضية قانونية إستخدام القوة .
د- الإبادة الجماعية بفرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة: من الأمثلة على هذه التدابير التعقيم الجنسي، الفصل القسري بين الجنسين، منع الزواج داخل المجموعة، أو جعل الولادة خارج الجماعة وذلك بولادة طفل لا يكون منتميا لجماعته بل للجماعة التي تمت الولادة داخلها.
واشترطت اللجنة التحضيرية أن يقوم مرتكب الجريمة في هذه الحالة بفرض تدابير معينة على شخص أو أكثر بهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، فالمشروع الخاص بنص أركان الجرائم المقدم من اللجنة التحضيرية يتعلق "بتدابير تتخذ بقصد منع الإنجاب". "measures intended" وليس بتدابير ذات أثر في منع الإنجاب "measures having the effect" .
هـ- الإبادة الجماعية بنقل الأطفال عنوة إلى جماعة أخرى: من المعلوم أن المادة الثانية من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 لم تتضمن تجريما للإبادة الثقافية Lethnocide، وإقتصرت نطاقها على الإبادة الجماعية المادية لعدد من الجماعات، لكنها وفرت حماية للهوية الثقافية للجماعات المشمولة بها في الحالة التي يتم فيها إنكار حق أي من هذه الجماعات في الوجود مستقبلا من خلال النقل القسري لأطفالها إلى جماعة أخرى. فهذه الحالة تتضمن في ثناياها تذويبا للهوية الثقافية والشخصية الإثنية للأطفال المنتمين لجماعة ما، مما يعني مستقبلا تدميرا لوجود الجماعة أو لبقائها بصفتها تلك.
أوضحت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا أن غاية تجريم نقل الأطفال عنوة من جماعة إلى أخرى ليس مجرد المعاقبة على التصرفات القائمة على النقل القسري المستند للقوة البدنية، ولكن أيضا – وفقا للصيغة النهائية لمشروع نص أركان الجرائم المقدم من اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية – النقل القسري المستند إلى التهديد بإستخدام القوة البدنية أو "القسر الناشئ عن الخوف من العنف أو الإكراه والإحتجاز والقمع النفسي وإساءة إستخدام السلطة ضد الشخص المعني أو الأشخاص أو أي شخص آخر أو إستغلال بيئة قسرية" .
إضافة إلى ذلك، فمن المتصور أن يسبب النقل القسري للأطفال أذى معنويا جسيما للطفل المعني ولوالدية وأقاربه، مما يعني أن مرتكب هذا النقل قد يعاقب بإبادة جماعية جراء التسبب بإحداث أذى بدني أو معنوي لأعضاء الجماعة المعنية .
ولا يتطلب القانون الدولي العرفي أو الإتفاقي المعمول به أن تكون إقامة الأطفال المنقولين عنوة قانونية كي يتحقق السلوك الجرمي في هذه الحالة . ومن جهة أخرى، اشترط مشروع نص أركان الجرائم في هذه الصورة من صور الإبادة الجماعية أن يكون الشخص أو الأشخاص المنقولين عنوة أقل من ثمانية عشر عاما. وهو شرط يتفق مع التعريف المستقر للطفل في أحكام القانون الدولي . إذا كانت الصورة السابقة للسلوك الجرمي في الإبادة الجماعية تقوم في أغلب الحالات على أساس إتيان مرتكب الجريمة لفعل إيجابي، فإن هذا السلوك الجرمي قد يترتب عن فعل سلبي قائم على الإمتناع عن القيام بعمل ما لمنع إستمرار إرتكاب الجريمة أو لمنع وقوعها إبتداء، متى كان مثل هذا العمل بمثابة واجب يقع
على عاتق الممتنع.
2. الإبادة الجماعية بالإمتناع عن القيام بعمل:
من المتصور وقوع جريمة الإبادة الجماعية نتيجة الإمتناع عن القيام بعمل، وقد أتجهت المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة adhoc في عدد من أحكامها هذا الإتجاه.
ففي قضية Kambanda، وجدت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا أن المتهم مسؤول جزئيا عن جريمة إبادة جماعية لعدة أسباب، من ضمنها امتناعة عن القيام بواجبه الملقى على كاهله بصفته رئيسا للوزراء في رواندا "المتضمن وجوب قيامه بالأعمال اللازمة لوقف المذابح المرتكبة ولحماية الأطفال والسكان من مذابح أخرى يحتمل إرتكابها ضدهم .
لا يصلح السلوك السلبي أو الإمتناع إذا لتحقيق الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية إلا إذا كان هذا الإمتناع مخالفا لواجب قانوني مفروض على الممتنع. وإستنادا إلى ذلك، تنهض المسؤولية الجزائية في مواجهة الرئيس الأعلى عن جريمة الإبادة الجماعية عند إمتناعه عن القيام بالتصرفات اللازمة للحيلولة دون إرتكاب الإبادة من قبل المرؤوسين الخاضعين لسلطته أو لوضع حد لجرائم شرع المرؤوسون بإقترافها . وليس خافيا ما يحمله الإقرار بمسؤولية الرئيس الأعلى عن جريمة إبادة في هذه الحالة من مظاهر تطوير للقانون الدولي المعاصر بشكل عام، ومن تكريس لحماية حقوق الإنسان الأساسية حماية مباشرة من قبل النظام القانوني الدولي.
ويثار التساؤل حول مصدر الواجب الملقى على كاهل الرئيس الأعلى، والذي يعد الإمتناع عنه منتجا للمسؤولية الجنائية في النظام القانوني الدولي. لا غرو أن مصدر هذه الواجبات يتمثل في القانون الدولي ذاته ، سواء أكان عرفيا أم اتفاقيا .
إذا كان الرئيس مسؤولا عن أفعال مرؤوسيه المكونة لجريمة إبادة جماعية عند إمتناعه عن وقف أفعالهم أو عن منع وقوعها، فهل يشترط لقيام مسؤولية الرئيس الأعلى وجود قصد الإبادة "لديه والعلم بأفعال مرؤوسيه الجرمية"؟
ليس هناك إجابة واضحة في هذا الخصوص . فالفقرة الثالثة من المادة السادسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا التي تقرر مسؤولية الرئيس الأعلى بشأن جرائم إبادة جماعية يرتكبها مرؤوسيه، ويمتنع عن إتخاذ التدابير اللازمة لمنعهم من الإستمرار بها أو للحيلولة دون وقوعها إبتداء، لا تتضمن أي إشارة إزاء مسألة إشتراط توافر نية تدمير الجماعة لدى الرئيس الأعلى، لكنها تشترط – من جهة أخرى – أن يكون الرئيس الأعلى على علم بهذه الأفعال أو أنه في وضع يوجب عليه العلم بأفعال مرؤوسيه الصادرة عنهم أو التي سيقترفونها فعلا. وفي أحكام صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، أقامت المحكمة المسؤولية الجزائية الدولية عن جرائم إبادة جماعية في مواجهة عدد من الرؤساء عن إمتناعهم القيام بإتخاذ التدابير الواجبة لوضع حد للمذابح المرتكبة من قبل مرؤوسيهم. وقد أوضحت في هذا الصدد أن المسؤولية عن جريمة إبادة جماعية في مواجهة الرئيس حال ثبوت أن الإمتناع عن القيام بعمل من جانبه كان ناتجا عن سوء نية، أو على الأقل عندما يثبت أن الإمتناع كان جسيما جدا إلى درجة تسمح بالإستدلال بأنه ينطوي على قبول ورضا بأفعال مرؤوسيه أو على سوء نية .
يستنتج مما سبق أن مسؤولية الرئيس الأعلى يتوجب أن تستند إلى وجود نية الإبادة لدى الرئيس الأعلى، وأن تكون هذه النية مصحوبة بعلمه بتصرفات وأفعال مرؤوسيه وبنكوصه عن منع وقوع الأفعال أو عن وضع حد لها أو عن المعاقبة عليها في حالة إرتكابها. فالرئيس الأعلى يكون مسؤولا عن جريمة إبادة جماعية في حالة إمتناعة المقصود عن القيام بعمل مفروض عليه القيام به .
لا يقتصر السلوك السلبي في جريمة الإبادة الجماعية على إمتناع الرئيس الأعلى عن الحيلولة دون وقوع الجريمة أو عن منع استمرارها، فقيام هذه الجريمة بالإمتناع قد يتحقق بالنسبة لصور السلوك الجرمي الإيجابي التي سبق الإشارة اليها. فالإبادة الجماعية بإخضاع الجماعة عمدا لظروف معيشية بغية تدميرها قد تتحقق من خلال سلوك سلبي، مثل حرمان الجماعة من الأغذية أو من المعونات والخدمات الطبية الضرورية للبقاء على الحياة.
ب- سعة نطاق السلوك الجرمي:
يستخلص من تحليل مختلف الإجتهاد والأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة adhoc بشأن جريمة الإبادة الجماعية أن هذه الجريمة تنطوي على نشاط جرمي واسع الإنتشار وجسيم الأثر بالنسبة للأشخاص المنتمين للجماعة المستهدفة من هذا السلوك الجرمي، وانها يجب أن ترتكب في "سياق نمط سلوك مماثل".
وقد عبرت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا عن هذه الفكرة في حكمها الصادر 2/9/1998 في قضية Askayesu بقولها إنه: "لإعتبار أي فعل من الأفعال المجرمة في الفقرة (2) من المادة (2) من النظام الأساسي للمحكمة مكونا لجريمة إبادة جماعية، فلا بد أن يرتكب ضد شخص أو أكثر من الأشخاص المنتمين لجماعة معينة بسبب إنتمائهم لهذه الجماعة....." فإرتكاب الفعل الجرمي في جريمة الإبادة الجماعية يتجاوز – وفقا لحكم المحكمة – مجرد تحقيقه المادي وإخراجه إلى الوجود، فهو مخصص في الأصل لتدمير الجماعة تدميرا كليا أو جزئيا لا لقتل الشخص الضحية بصفته الفردية .
الفعل المكون للإبادة الجماعية لا يوجه ضد الشخص بصفته الفردية، فهو يتعدى تلك الغاية إلى غاية أخرى هي تدمير إحدى الجماعات المحددة في تعريف الإبادة الجماعية. ومن الملاحظ أن شرط وجوب أن يكون الفعل المكون للإبادة قد إرتكب "في سياق نمط سلوك مماثل" هو شرط أوردته اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية في تقريرها الخاص بالصيغة النهائية لمشروع نص أركان الجرائم ضمن الأركان الخاصة يصور إرتكاب الإبادة الجماعية كلها . وهو الشرط الوحيد الذي لم يكن مقررا في تعريف الإبادة الجماعية الواردة في المادة 2 من إتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.
ومن الجدير بالذكر في هذا الخصوص أن هناك صلة واضحة بين الطبيعة العامة للأفعال المكونة للجريمة أو سعة وإنتشار المذابح المرتكبة وبين قيام القصد الخاص في هذه الجريمة. ففي قضية Akayesu، أستخلصت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا أن إنتشار حالات القتل المرتكبة في رواندا واتساعها لتشمل الدولة كلها تساعد على القول بوجود جرائم إبادة جماعية وقد إستندت المحكمة إلى وجود خطة لإبادة جماعة التوتسي، وإلى تنظيم المذابح وتوجيهها ضد أشخاص سيؤدي هلاكهم إلى تدمير الجماعة، وأن المذابح التي إرتكبت في رواندا عام 1994 لم تكن عشوائية بل جاءت في سياق نمط كامل هدفة إبادة جماعة التوتسي .
أما المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة فقد أوضحت في قضية Jelisic 14/12/1999 أن إثبات توافر قصد الإبادة لدى المتهم في هذه القضية لم يكن ميسورا، لعدم وجود خطة لتدمير الجماعة المسلمة في المنطقة التي وقعت فيها الأفعال المنسوبة للمتهم ولا يتوجب ان يفهم من رأي المحكمة السابق استحالة قيام جريمة الإبادة الجماعية دون وجود خطة لإرتكابها، إلا أنها تبقى مسألة نادرة الحدوث، وقد عبرت المحكمة في الحكم ذاته عن ذلك بقولها: "قد يكون عسيرا أو صعب المنال من الناحية العملية إثبات قصد الإبادة لدى شخص ما، إذا لم تكن أفعاله الصادرة عنه متصفة بالجسامة وإذا لم يكن السلوك الجرمي المنسوب إليه قد جاء في إطار عمل منظم" .
ويبدو أن ثمة إستقرار في أحكام المحاكم الجنائية الدولية إزاء "العنصر السياقي" Lelement contextual، حيث أكدت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا مجددا في حكمها الصادر في قضية Kayishema et Ruzindana في 21/5/1999 أنه من الصعب إرتكاب جريمة الإبادة الجماعية دون خطة أو تنظيم مسبقين .
يتضح مما سبق أن الركن المادي لجريمة الإبادة الجماعية يتحقق في الواقع عند إتصاف الأفعال المكونة لها بالإتساع وبالإنتشار الواسع. ومن هذه الناحية، فإن جريمة الإبادة الجماعية لا تختلف عن الجرائم ضد الإنسانية، فكلاهما يجب أن يكون الفعل المكون لها جزءا من هجوم واسع النطاق أو منهجيا أما العنصر الذي يميزهما فعلا فهو الصفة التمييزية أو الإنتقائية للجريمة، حيث يعمد الفاعل إلى توجيه فعله ضد ضحايا ينتمون إلى إحدى الجماعات المحمية بمقتضى جريمة الإبادة الجماعية. أما في الجرأئم ضد الإنسانية، فيكون الهجوم موجها ضد السكان المدنيين على وجه العموم دونما تمييز بينهم على أساس العرق أو الإثنية أو القومية أو الدين. وهذه الصفة التمييزية للفعل لا تكفي وحدها في هذا المجال، فلا بد من توافر نية التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة المستهدفة، وهو ما يعبر عنه بقصد الإبادة أو بالقصد الخاص لجريمة الإبادة الجماعية.
ثالثا: الركن المعنوي للجريمة:
يتمثل الركن المعنوي في جريمة الإبادة الجماعية بإتجاه إرادة الفاعل لارتكاب أحد الأفعال المكونة للسلوك الجرمي في الجريمة مع علمه بأن هذا الفعل محظور ومعاقب عليه. وذلك بغية تدمير جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية تدميرا كليا أو جزئيا، فلا يكتفي في جريمة الإبادة الجماعية بالقصد العام، بل لا بد من قصد خاص يتمثل في "نية الإبادة" genocidal intent أو في نية التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة. وقد وصفت جريمة الإبادة الجماعية "بجريمة الجرائم" Le crime des crimes على أساس القصد الخاص الواجب توافره لقيامها، فهو ضابط أساسي يميزها عما خلاها من الجرائم الدولية .
يجب لقيام جريمة الإبادة الجماعية أيضا أن يتزامن الركن المعنوي mens rea مع الركن المادي للجريمة . وبمعنى آخر يجب أن يتآزر الركن المادي والركن المعنوي معا ليكونا وحدة واحدة، وليظهران سويا في هيئة سلوك جرمي ينطبق عليه الوصف المقرر قانونا للإبادة الجماعية .
قد تظهر إزاء اشتراط المعاصرة بين الركن المادي والركن المعنوي في جريمة الإبادة الجماعية صعوبة كبيرة، فمن المألوف أن ترتكب هذه الجريمة من خلال هرمية وظيفية معينة وعبر سلسلة من الأوامر، فعلى رأس هذه السلسلة هناك الأشخاص المخططون والموجهون لإرتكاب هذه الجريمة، ومن الطبيعي أن تتوافر "نية تدمير الجماعة المستهدفة" لدى هؤلاء الأشخاص. وفي نهاية السلسلة يوجد الأشخاص الذين يقومون بتنفيذ الخطة أو بتنفيذ الأوامر الصادرة لهم من الأعلى بإتيان جملة من الأفعال الجرمية، وليس شرطا أن يتوافر القصد الخاص أو "نية الإبادة" لدى هؤلاء الأشخاص جميعا .
إذا كانت الفقرة الثالثة من المادة الخامسة والعشرين من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية قد عالجت هذه المسألة معالجة عامة من خلال تأكيدها على أن الشخص يكون مسؤولا جزائيا "إذا إرتكب الجريمة بصفته الفردية أو بالإشتراك مع آخر أو عن طريق شخص أخر، كما قد يكون مسؤولا عنها إذا امر بإرتكابها أو حث على إرتكابها أو قدم عونا أو حرض أو ساعد باي شكل آخر لتيسير إرتكابها"، فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا بخصوص جريمة الإبادة الجماعية. فما هي العلاقة بين "نية تدمير الجماعة" وبين العلم بالجريمة؟ وهل ثمة صلة بين "القصد الخاص" وحجم الجماعة المستهدفة؟ وكيف يمكن إثبات "نية التدمير" لدى مرتكبي الأفعال الجريمة؟
أ- العلاقة بين القصد الخاص والعلم في جريمة الإبادة الجماعية:
يثار التساؤل حول إمكانية إدانة شخص ما بإرتكاب جريمة إبادة جماعية في الحالة التي يشارك فيها في إتيان فعل من الأفعال الجرمية المكونة للركن المادي للجريمة وكان عالما أو كان يتوجب عليه العلم بأنه يساهم في سلوك جرمي سيفضي إلى تدمير كلي أو جزئي للجامعة الواقع عليها السلوك الجرمي والتي تصلح أن تكون محلا لإبادة جماعية.
ثمة إتجاه فقهي يتجه نحو إعتبار القصد الخاص أو "نية الإبادة" متحققة عندما يرتكب الفاعل فعله وهو عالم بأن الأثر الظاهر لفعله سيكون التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه . لكن هذه النزعة الفقهية لا تخلو من عيب فحواه أن تطبيقها قد يجعل الضابط المعول عليه لقيام الجريمة متمثلا في النتيجة المترتبة على السلوك الجرمي، وهي تدمير الجماعة. وستؤدي بالنتيجة إلى أن تحل النتيجة الجرمية المتوخى تحقيقها محل إدراك مرتكب الجريمة . وكما هو معلوم فإن قيام جريمة الإبادة الجماعية ليس مرتبطا بتحقق النتيجة المرجوة فعلا، فيكفي توافر "نية الإبادة" لدى الفاعل لقيامها.
وقد قضت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أن أي شخص متهم بالإبادة الجماعية أو بالمساهمة الجرمية في الإبادة الجماعية يجب أن تتوافر لديه "نية الإبادة" . فلا يكفي أن يكون المتهم إذا عالما بأنه يساهم في التدمير فقط.
ومن الملاحظ في هذا المجال أن اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية أشارت في مشروع نص أركان الجرائم إلى أن الإبادة الجماعية بالقتل – على سبيل المثال – تتحقق عند توافر الأركان الآتية:
1. أن يقتل مرتكب الجريمة شخصا أو أكثر.
2. أن يكون الشخص أو الأشخاص منتمين لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة.
3. أن ينوي مرتكب الجريمة إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية كليا أو جزئيا بصفتها تلك.
4. أن يصدر التصرف في سياق نمط سلوك مماثل واضح موجه ضد تلك الجماعة أو أن من شأن ذلك التصرف أن يحدث بحد ذاته إهلاك الجماعة .
وليس واضحا من النص السابق إشتراط أن يكون مرتكب الجريمة عالما أن فعله يصدر في سياق نمط سلوك مماثل. وقد أصبح شائعا أن عمد المحاكم إلى التحقق من وجود سياق خاص بالإبادة الجماعية من خلال معيار موضوعي يقوم على اتساع حجم ونطاق الجرائم المرتكبة وجسامتها .
ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية كانت قد اقترحت في الصيغة الأولية لمشروع نص أركان الجرائم وجوب أن يكون مرتكب الجريمة "عالما أو قادرا على العلم بأن فعله سيهلك الجماعة كليا أو جزئيا"، لكنها عدلت عن هذا الإقتراح في الصيغة النهائية للمشروع .
يستنتج مما سبق ان الإبادة الجماعية تكون متحققة عند توافر القصد الخاص بهذه الجريمة ولا يشترط أن يكون الفاعل عالما أو قادرا على العلم بأن سلوكه سيفضي إلى تدمير الجماعة كليا أو جزئيا. ويلاحظ في هذا الشأن أن مقدمة المادة (6) من الصيغة النهائية لمشروع نص أركان الجرائم المقدم من اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية قد أوضحت أنه: "على الرغم من الشرط المعتاد الخاص بالركن المعنوي المنصوص عليه في المادة 30 ( من نظام روما الأساسي) ومع التسليم بأن العلم بالظروف تجري معالجته عادة لدى إثبات القصد بإرتكاب الإبادة الجماعية، فإن المحكمة هي التي تقدر على أساس كل حالة على حدة الشرط المناسب – إن وجد – للركن المعنوي المتعلق بهذا الظرف".
وتنص المادة 30 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) على أنه لا يكون الشخص مسؤولا جنائيا عن جريمة تدخل ضمن الإختصاص النوعي للمحكمة إلا إذا تحققت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم، ولأغراض تطبيق المادة 30 فإن القصد يكون متحققا لدى الشخص عندما:
أ- يقصد هذا الشخص – فيما يتعلق بسلوكه – إرتكاب هذا السلوك.
ب- يقصد هذا الشخص – فيما يتعلق بالنتيجة – التسبب في تلك النتيجة أو يدرك أنها ستحدث في إطار المسار العادي للاحداث". وقد حددت المادة ذاتها في الفقرة الثالثة منها المقصود بالعلم، فنصت على أن "العلم" هو "أن يكون الشخص مدركا أنه توجد ظروف أو ستحدث نتائج في المسار العادي للأحداث".
يظهر من النصوص السابقة جميعها أن المحكمة الجنائية الدولية تتمتع بسلطة التقرير في كل قضية على حدة وجوب توافر العلم بوجود الظروف والسياق المتعلقين بإرتكاب الجريمة، بالإضافة إلى القصد الخاص المشترط توافره في هذه الجريمة وهو نية تدمير الجماعة محل الجريمة.
ت- العلاقة بين "نية الإبادة" وحجم الجماعة المستهدف تدميرها:
أثارت العلاقة بين عبارة "نية التدمير" وعبارة "الكلي أو الجزئي" جدلا واسعا وكبيرا وقد بدأ هذا الجدل منذ الأعمال التحضيرية المتعلقة بإتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فإذا كانت عبارة "الكلي أو الجزئي" قد أضيفت بناء على إقتراح المندوب النرويجي في اللجنة السادسة التابعة للأمم المتحدة، فإن الغرض الأساسي من هذا الإقتراح كان التأكيد على فكرة مؤداها أنه لا يشترط لقيام هذه الجريمة هلاك أعضاء الجماعة كافة، وقد أبدى عدد من المندوبين آنذاك وجهات نظر متباينة إزاء هذا الإقتراح ، ورغم ذلك إعتمد الإقتراح بنسبة عالية من الأصوات.
فالأعمال التحضيرية الخاصة بإتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لا تساعد في تحديد العلاقة بين "نية التدمير" وحجم الجماعة المستهدف القضاء عليها وإبادتها. فما هو المقصود بالقضاء على الجماعة "كليا أو جزئيا؟ وهل يقصد بذلك تدمير الجماعة في شتى أنحاء العالم بأكملها وأينما وجدت، أم يكفي لقيام الجريمة وتوافر "نية الإبادة" إستهداف جزء من هذه الجماعة جرى تحديده من قبل مرتكبي الجريمة؟ فسرت عبارة "التدمير الكلي أو الجزئي" من خلال الإجتهادات القضائية بأنها تعني إهلاك نسبة معتبرة أو مهمة كما أو كيفا من أعضاء الجماعة المتعرضة للإبادة . وأوضحت هذه الإجتهادات القضائية أن المقصود بالعدد الجوهري أو المعتبر كمياً أو نوعياً يعني اتجاه القصد لإلحاق أذى بأغلبية واسعة من الجماعة المعرضة للإبادة أو اتجاه القصد الجرمي لإلحاق أذى بالأعضاء الذين يؤدي هلاكهم إلى اختفاء الجماعة أو تدميرها .
كما أقرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بإمكانية قيام جريمة الإبادة الجماعية عند إرتكابها في منطقة جغرافية محدودة أو ضيقة، ما دام الفعل الجرمي والقصد الجرمي يتجهان إلى التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة، وما دامت أركان متحققة في هذه الحالة .
يستطاع القول أن مسألة تحديد حجم التدمير الجزئي الواجب حصوله من الناحية العملية، وعلاقة حجم هذا التدمير بقيام القصد الخاص في جريمة الإبادة الجماعية ليست هينة أو يسيرة، فما زالت بحاجة إلى تفصيل وبيان أكثر دقة ووضحوا من قبل المحاكم الجنائية الدولية، حيث يصعب القول إن هناك نسبة عددية محددة أو مقررة بمقتضى الصكوك الدولية في هذا الخصوص . ويبدو أن هذه المسألة من الأفضل أن تبقى متروكة لسلطة المحاكم ذاتها، بحيث تخضع لتحليل وفحص في كل حالة على حدة، وفي ضوء المعطيات المتعلقة بكل حالة منها. ولعل اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية قد أدركت هذه المسألة بدقة، مما دفعها إلى تضمين الصيغة النهائية من مشروع نص أركان الجرائم ركنا خاصا بإرتكاب جريمة الإبادة الجماعية يتعلق بهذا الأمر. فقد تضمن أركان جريمة الإبادة الجماعية وجوب إرتكاب الفعل ضد شخص أو أكثر من الأشخاص المنتمين لإحدى الجماعات المشمولة بتعريف الجريمة . وهذا يعني أن المسؤولية الجزائية عن جريمة الإبادة الجماعية تنهض في مواجهة مرتكبها عندما يقترف هذا الأخير الفعل الجرمي لمرة واحدة، حتى لو لم يكرره ثانية، ويشترط أن يكون هذا الفعل المنفرد جزءا من سياق نمط مماثل يهدف إلى تدمير جزء معتبر وجوهري من الجماعة.
ج- إثبات "نية الإبادة" :
من المستقر في إجتهادات المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة أن
"نية الإبادة" يمكن إستخلاصها وإثباتها بطرق الإثبات كافة ، فقد تستنبط من وقائع مادية معينة أو من نمط معين من السلوك الهادف لتدمير الجماعة المستهدف القضاء عليها.
لقد إستندت المحكمة الجنائية الدولي لرواندا في قضية Akayesu إلى أنه بالنظر للعدد الكبير من المذابح المرتكبة ضد جماعة التوتسي وبالنظر للطبيعة الواسعة لهذه الجرائم، حيث إرتكبت في مناطق عديدة في رواندا، ولأن الضحايا جرى اختيارهم وتحديدهم بصورة عمدية ومنظمة وعلى أساس انتمائهم إلى جماعات أخرى تم إقصاؤها واستبعادها من حياة المجتمع ووجوده، فإن المحكمة تستطيع الإستدلال على وجود قصد خاص لإرتكاب جرائم الإبادة الجماعية .
فالقصد الخاص في جريمة الإبادة الجماعية يستخلص في العادة كلما كان هناك دليل كاف على وجود نمط سلوكي، أو على وجود سلوك مؤثر جدا يكفي لتدمير الجماعة كليا أو جزئيا . ويضاف إلى ذلك أن القصد الخاص في هذه الجريمة يمكن إستنباطه من التحقق بوجود العلم بالنمط الأوسع أو بالسياق القائم على إحداث التدمير الكلي أو الجزئي للجماعة ، وهي مسألة جرى تحليلها في موضع سابق من هذه الدراسة. من المعلوم أنه لا يشترط لقيام جريمة الإبادة الجماعية هلاك الجماعة التي تتعرض لهذه الجريمة كليا، وهذا واضح تماما من الألفاظ المستخدمة في النص الخاص بتعريف جريمة الإبادة.
وبمعنى آخر، فإنه لا يشترط لإثبات "نية الإبادة" أن يكون السلوك الجرمي موجها نحو الجماعة المستهدفة
بأكملها، وهي مسألة متروكة لتقدير المحكمة في كل حالة على حدة.
الخاتمـة
ساهمت المحاكم الجنائية الدولية الخاصة أو المؤقتة بإضاءة المكونات المختلفة لجريمة الإبادة الجماعية وبتطوير مفهوم هذه الجريمة. وقد عمدت هذه الدراسة إلى تفكيك مفهوم جريمة الإبادة الجماعية في ضوء الممارسة الدولية المعاصرة من أجل الكشف عن الدلالات الحديثة لكل ركن من أركان هذه الجريمة.
ومن الخصائص المميزة لمفهوم جريمة الإبادة الجماعية في القانون الدولي المعاصر أن الجماعات المحمية بمقتضى منع جريمة الإبادة الجماعة قد عرفت بصورة واسعة، ولكن هذا التفسير الموسع لم يتضمن البتة سحب آثار الحماية إلى جماعات جديدة غير تلك المحددة بتعريف الإبادة الجماعية. أما الإنتماء إلى هذه الجماعات، فلم يعد يستند إلى معيار موضوعي بل جرى تحديد هذا الإنتماء إستنادا إلى معيار شخصي وذلك لتحقيق أكبر قدر من الفعالية.
ومن المسائل الأخرى التي ميزت الممارسة الدولية المعاصرة المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية، عدم توسيع دائرة العقاب عن هذه الجريمة ليشمل الأشخاص الذين لم يكن يتوافر لديهم سوى العلم بخطة الإبادة، ويستثني من ذلك الأشخاص الذين توافرت بحقهم عناصر المساهمة الجرمية.
ويبدو أنه من المستحسن في هذا المجال جعل العلم كمرحلة اولى لاستنباط توافر "نية الإبادة". فإذا تعذر إثبات وجود هذه النية، يكون المتهم مسؤولا جزائيا عن مساهمته الجرمية في جريمة إبادة جماعية.
أصبح القانون الدولي المعاصر ثريا جدا جراء الأحكام القضائية والصكوك الدولية المختلفة المتعلقة بالمسؤولية الجزائية الفردية عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الأساسية، وقد غدت تلك الإنتهاكات تعد من ضمن العوامل التي تخل بالسلم والأمن الدوليين. فجريمة الإبادة الجماعية – المعتبرة بحق كأشد صورة من صورة انتهاكات الحقوق الاساسية – ذات صلة وثيقة بالسلم والأمن الدوليين. فلم يعد مفهوم السلم والأمن الدولي مقتصرا عن "أمن الدول"، بل إنه إمتد ليشمل "أمن البشر" وغدت حماية الأشخاص في مواجهة جرائم الإبادة الجماعية على وجه الخصوص، وفي مواجهة الجرائم الدولية الأخرى على وجه العموم جزءا من النظام العام الدولي، والتزامات دولية "حجية على الكافة" مقررة لصالح الجماعة الدولية ذاتها.
يمثل تكريس المسؤولية الجزائية الدولية عن الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تطورا جذريا في بنية النظام القانوني الدولي، فهو يصب في خانة النزعات والإتجاهات الفكرية الحديثة الداعية إلى فكرة "الجماعة الدولية"، وإلى إقامة مجتمع دولي مؤسسي بدلا من المجتمع الدولي القائم حاليا والذي يعد مجتمعا علائقيا أو بينيا في المقام الأول.