بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية

حقوق الفرد في الدولة الإسلامية


11- تمهيد :

شخصية الفرد في الدولة الإسلامية بارزة ، لا تفنى فيها, وإنما تقوم بإزائها ، تعينها وتعمل على بقائها وصلاحها ، كما تعمل هي على بقاء شخصية الفرد وصلاحه ؛ لأن بقاء وصلاح كل منهما ضروري للآخر ، فلا تنافر بين الاثنين ولا تعارض ، ولا مصلحة لأحدهما في مخاصمة الآخر ومعارضته لمحض المخاصمة والمعارضة . وإنما قد يحدث شيء من ذلك عند انحراف أحدهما عن نهج الإسلام الذي يخضع له الاثنان . . . من أجل هذا كله يتمتع الفرد في الدولة الإسلامية بكامل حقوقه التي أقرها له الإسلام ؛ لأن ما أقره الإسلام تقره دولة الإسلام ، ثم إن تمتع الفرد بحقوقه يعتبر أعظم ضمان لبقاء الدولة الإسلامية قوية سليمة البنيان قادرة على تحقيق أهدافها . ومن ثم فإن الدولة تحرص على تمتع الأفراد بحقوقهم حرص هؤلاء على هذه الحقوق , ولا مصلحة مطلقاً للدولة في السطو على هذه الحقوق ؛ لأنها قامت لتمكين الأفراد من أن يحبوا الحياة الإسلامية ، ومن أهم أسباب هذا التمكين تمتعهم بحقوقهم, بل ودفعهم إلى استعمال هذه الحقوق .


12- مهنج البحث :

وتسهيلاً للبحث نقسم الحقوق التي يتمتع بها الأفراد في الدولة إلى قسمين : حقوق سياسية ، وحقوق عامة ، ونتكلم عن كل منهما في مبحث على حدة .


المبحث الأول:الحقوق السياسية للأفراد

13- المقصود بالحقوق السياسية :

الحقوق السياسية عند القانونيين هي : الحقوق التي يكتسبها الشخص باعتباره عضواً في هيئة سياسية ، مثل حق الانتخاب والترشيح وتولي الوظائف العامة في الدولة [1] ، أو هي الحقوق التي يساهم الفرد بواسطتها في إدارة شؤون الدولة أو في حكمها [2] .

ونحن في هذا المبحث سنتكلم عن الحقوق السياسية في الشريعة الإسلامية ، بمعناها الذي بيناه عند القانونيين لكي يتبين لنا مدى ما اعترفت الشريعة به من هذه الحقوق للأفراد .

أولاً : حق الانتخاب 


14- انتخاب رئيس الدولة :

للأفراد حق انتخاب رئيس الدولة ، فمن اختاروه لهذا المنصب فهو رئيس الدولة الشرعي ، وبهذا صرح الفقهاء , فمن أقوالهم الصريحة في هذه المسألة قولهم : " من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته " [3] .

وقولهم أيضاً : " الإمامة – أي رئاسة الدولة – تثبت بمبايعة الناس – أي لرئيس الدولة – لا بعهد السابق له [4].

فرئيس الدولة رجل تختاره الجماعة وترضى به ؛ وهو يستمد سلطانه من هذا الرضى وذاك الاختيار .

15- أساس هذا الحق :

وإذا كان للأفراد حق انتخاب رئيس الدولة ، فما أساس هذا الحق ؟

الذي نراه أن هذا الحق يقوم على أساس مبدأ الشورى الذي أقرته الشريعة ، ومبدأ مسؤولية الجماعة عن تنفيذ أحكام الشرع وإدارة شؤونها ووفق هذه الأحكام :

16- أولاً : مبدأ الشورى :

وهذا مبدأ نطق به القرآن الكريم قال تعالى : {وأمرهم شورى بينهم} (الشورى:38) فهذا النص صريح في أن أمور المسلمين ، لا سيما المهمة منها ، تدار بطريق الشورى . ولا شك أن منصب رئيس الدولة من الأمور الخطيرة التي يجب أن تجري فيها المشاورة ؛ لأنه أمر يهمهم جميعاً ، ويتعلق بصميم شؤونهم ، فيجب أن يكون لهم رأي فيمن يولى عليهم . والمشاورة تستلزم أن يبدي كل واحد رأيه فيمن يراد انتخابه رئيساً للدولة .


17- ثانياً : مسؤولية الجماعة عن تنفيذ أحكام الشرع :

فالجماعة مسؤولة عن تنفيذ أحكام الشرع وإدارة شؤونها وفق هذه الأحكام ، وهذه المسؤولية تستفاد من مجموع النصوص القرآنية وتؤيدها السوابق الثابتة . فخطابات الشارع في القرآن الكريم موجهة إلى جماعة المسلمين ، مثل قوله تعالى : {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاقربين} ( النساء:135) {ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (المائدة: 1) {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (التوبة : 71) {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكمْ} (الأعراف: 3) {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} (النور:2) ، {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ( المائدة:38) . فهذه النصوص وأمثالها دلالة واضحة على مسؤولية جماعة المسلمين عن تنفيذ أحكام الشرع ومنها ما يتعلق بجميع شؤونهم . 


18- وهذه المسؤولية الضخمة الملقاة على عاتق الجماعة تقتضي أن يكون السلطان من حق الجماعة نفسها لتستعين به على تنفيذ ما هي مسؤولة عنه ، وهو تنفيذ أحكام الشرع وإدارة شؤونها وفق هذه الأحكام .


19- ولكن مباشرة الجماعة سلطانها هذا لا يمكن أن يتم بصفتها الجماعة ، فإن هذا غير ممكن ؛ ولهذا ظهرت نظرية النيابة في مباشرة ما للجماعة من سلطان ، فالجماعة تختار من ينوب عنها في مباشرة سلطانها لتنفيذ ما هي مكلفة به شرعاً . وهذه الإنابة من خالص حقها ؛ لأن المالك يحق له أن يوكل غيره فيما يملكه ، والأمة – جماعة المسلمين – تملك السلطان فتملك التوكيل فيه . فهي وحدها تختار رئيس الدولة.


20- المركز القانوني لرئيس الدولة : 

وبناء على ما قدمنا بجلاء المركز القانوني لرئيس الدولة ، فهو مركز النائب والوكيل ، الوكيل عن الأمة ، فهي التي انتخبته نائباً عنها ليدير شؤونها وفق منهاج الشرع الإسلامي ولتطبيق سائر أحكامه ، وهذا ما صرح به الفقهاء . فمن أقوالهم ما ذكره الفقيه المشهور الماوردي وهو يتكلم عن أثر موت الخليفة أو الوزير في سلطة الأمير ، ما نصه : " وإذا كان تقليد الأمير من قبل الخليفة, لم ينعزل – أي الأمير – بموت الخليفة ، وإن كان من قبل الوزير انعزل بموت الوزير ؛ لأن تقليد الخليفة نيابة عن المسلمين ، وتقليد الوزير نيابة عن نفسه " [5] . 


21- الأمة مصدر السلطات :

وإذا كان مركز رئيس الدولة مركز الوكيل ، فمن البديهي أنه يستمد سلطاته من موكله ، أي من الأمة ، فالأمة هي مصدر السلطات كما تقول في الاصطلاح القانوني الحديث ، وهو يباشر هذه السلطات باسم الأمة وبهذا الاعتبار .

ويلاحظ هنا أن الأمة وإن كانت هي مصدر السلطات ، إلا أن سلطانها محدود غير مطلق ، محدود بسلطان الله المطلق وبإرادته المتمثلة فيما شرعه من أحكام للأفراد ونظام للجماعة ، ومن ثم فإن سلطان الأمة سلطان تنفيذ لهذا النظام, وليس بسلطان خلق وإنشاء له . ويترتب على هذه الطبيعة لسلطانها أنها لا تملك تغيير هذا النظام ولا استعمال سلطانها فيما يناقضه أو يؤدي إلى تغييره . وإذا كانت الأمة لا تملك تغيير شرع الله ولا استعمال سلطانها فيما يناقضه ، فرئيس الدولة – وهو وكيلها – لا يملك أيضاً هذا الأمر ؛ لأن الوكيل لا يملك فيما وكل فيه أكثر مما يملكه الموكل. 

ويترتب على ما قلناه ، أن الأمة إذا شرعت ما يخالف شرع الله أو نفذت ما يناقض شرع الله ، أو قام رئيس الدولة وهو وكيلها – بشيء من ذلك ، كان هذا العمل منهما أو من أحدهما بلا سند شرعي؛ لتجاوزه حدود سلطانهما, فيكون باطلاً ؛ لأن سلطان الأمة كما قلت سلطان تنفيذي ، ينفذ شرعاً إلهياً قائماً وليس بسلطان إنشائي يخلق شرعاً جديداً وينفذه. 


22- الانتخاب المباشر والانتخاب غير المباشر :

وإذا كانت الأمة تملك حق انتخاب رئيس الدولة ، كما ذكرنا ، فكيف هذا الحق فعلاً ؟ أيقوم أفراد الأمة به مباشرة ؟ أم يقوم بهذا الحق طائفة منهم بتخويل من الأمة ؟ الواقع أننا لا نجد في الشريعة نظاماً محدداً صريحاً في كيفية قيام الأمة بحقها في انتخاب رئيس الدولة ، مما يدل على أن تنظيمه متروك لتقدير الأمة حسب الظروف الزمانية والمكانية ، فيمكن أن يكون بأسلوب الانتخاب المباشر أو غير المباشر . فكلا الأسلوبين في نظرنا ، مما تتسع له قواعد الشريعة .

فالانتخاب المباشر يجد له سنداً في قوله تعالى : {وأمرهم شورى بينهم} ( الشورى : 38) فهذا النص بظاهره يقتضي أن يتشاور أفراد الأمة في شؤونهم. ومنها انتخاب رئيس الدولة ، فيباشرون جميعاً هذا الحق إلا من استثني منهم بدليل شرعي كالصغار والمجانين وغير المسلمين ، ويؤيد رأينا هذا في اشتراك الأمة في هذا الانتخاب ما قاله الإمام الرازي في تفسير هذه الآية ، قال : " إذا وقعت واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم ، أي لا يتفردون برأي ، بل ما لم يجتمعوا عليه لا يعزمون عليه " [6] .

أما الانتخاب غير المباشر فيجد له سنداً في السوابق التاريخية الثابتة في عصر الخلفاء الراشدين ، وهو خير العصور فهماً للإسلام وتطبيقاً له ، فقد تم انتخاب أولئك الخلفاء الكرام من قبل طائفة من الأمة ، هم الذين يسمون بأهل الحل والعقد ، وتابعهم الناس الموجودون في المدينة فبايعوا من اختاروا لرئاسة الدولة ، ولم ينتخبهم جميع المسلمين في جميع المدن الإسلامية ، ولم ينقل لنا اعتراض على هذه الكيفية ، لا من الخلفاء الراشدين أنفسهم ولا من غيرهم ، فيكون ذلك إجماعاً منهم على صحة أسلوب الانتخاب غير المباشر في انتخاب رئيس الدولة ، كما أننا نجد سنداً للانتخاب غير المباشر في حق الأمة باختيار رئيسها . فما دام لها هذا الحق فلها أن تباشره رأساً أو بالواسطة بأن تنيب عنها من يباشر حقها هذا ، إذ ليس من اللازم على صاحب الحق أن يباشره بنفسه, بل أن يوكل فيه غيره ، وقد أقر الفقهاء الانتخاب غير المباشر ؛ لأنهم صرحوا بأن رئيس الدولة ينتخبه أهل الحل والعقد ، فلا حاجة لاشتراك جميع الأمة في اختياره . قال ابن خلدون في مقدمته : " وإذا تقرر أن هذا المنصب – أي منصب الخليفة – واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية ، وراجعٌ إلى اختيار أهل العقد والحل ، فيتعين عليهم نصبه, ويجب على الخلق طاعته " [7]. ويقول الماوردي : " والإمامة – أي رئاسة الدولة الإسلامية – تنعقد بوجهين : أحدهما باختيار أهل الحل والعقد ، والثاني بعهد الإمام من قبله " [8] .

23-أهل الحل والعقد : 

وإذا كان انتخاب رئيس الدولة بالانتخاب غير المباشر أسلوباً سائغاً في الشرع الإسلامي ، وأن الذين يباشرونه هم من يسميهم الفقهاء بأهل الحل والعقد ، فمن هم أهل الحل والعقد ؟ وما علاقتهم بالأمة ؟ وكيف يحوزون هذه المنزلة ؟

أما عن السؤال الأول ، فإن الفقهاء يذكرون أوصافاً عامة لأهل الحل والعقد ، فالماوردي مثلاً يجعل لهم ثلاثة أوصاف : " أحدها : العدالة الجامعة لشروطها ، والثاني : العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها . 

والثالث : الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم " [9] . ويذهب بعض المحدثين إلى تحديد أوضح في أوصاف أهل الحل والعقد ، فيقول رشيد رضا صاحب " تفسير المنار " ما نصه : " أولو الأمر جماعة أهل الحل والعقد من المسلمين ، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند ، وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة " [10] . فيفهم من هذا القول ، ومما ذكره الفقهاء ، أن أهل الحل والعقد هم المتبوعون في الأمة الذين تثق بهم ، وترضى برأيهم؛ لِما عُرفوا من الإخلاص والاستقامة والتقوى والعدالة وحسن الرأي والمعرفة بالأمور والحرص على مصالح الأمة .

أما عن السؤال الثاني : أي علاقتهم بالأمة ، فهي علاقة النائب والوكيل ، فهم يباشرون انتخاب رئيس الدولة نيابة عن الأمة ، فهم وكلاء عنها في مباشرة حق الانتخاب هذا ، ومن ثم يعتبر اختيارهم رئيس الدولة اختيار الأمة نفسها .

أما عن السؤال الثالث ، أي كيف يحوزون منزلة الحل والعقد في شؤون الأمة ، فإن المتبادر إلى الذهن أن الأمة هي التي ترفعهم إلى هذه المنزلة باختيارها لهم . ولكننا لا نجد في السوابق التاريخية القديمة ما يشير إلى أن الأمة اجتمعت وانتخبت طائفة منها وأعطتها صفة أهل الحل والعقد . ومع هذا فإن خلو السوابق التاريخية مما ذكرنا لا يدل على أن من كانوا يسمون بأهل الحل والعقد ، ما كانوا يمثلون الأمة ولا يعتبرون وكلاء عنها ؛ لأن الوكالة – كما هو معروف – تنعقد صراحة أو ضمناً ، وقد كانت وكالة أهل الحل والعقد عن الأمة في عصر الإسلام الأول – عصر الخلفاء الراشدين – وكالة ضمنية ؛ لأنهم معروفون بكفاءتهم وإخلاصهم وعدالتهم وسابقتهم في الإسلام ، ومن ثم فقد كانوا حائزين رضا الأمة وثقتها ، فما كانت هناك من حاجة لقيام الأمة بانتخابهم صراحة ، وحتى لو قامت بهذا الانتخاب لَما فاز فيه إلا أولئك ، ولما ظهر لهم منازع ينازعهم في كونهم أهل الحل والعقد ، ومن ثم كان انتخابهم رئيس الدولة بتوكيل ضمني من الامة وبرضا منها .


24- معرفة أهل الحل والعقد في الوقت الحاضر :

وإذا أخذنا في الوقت الحاضر بالانتخاب غير المباشر لرئيس الدولة ، وفقاً للأحكام الشرعية ، فلا مناص من قيام الأمة بانتخاب من يمثلونها وينوبون عنها في مباشرة هذا الانتخاب . ومن تنتخبهم الأمة لهذه المهمة يمكن أن يوصفوا بأنهم أهل الحل والعقد، لمشايعة الأمة لهم ومتابعتها لهم ورضاها بنيابتهم. 

وعلى الدولة أن تضع النظام اللازم لإجراء هذا الانتخاب وضمان سلامته. وأن تعين في هذا النظام الشروط الواجب توافرها على ضوء ما ذكره الفقهاء فيمن تنتخبهم الأمة لتكوين جماعة " أهل الحل والعقد " ، ومثل هذا الانتخاب ضروري ولازم لإيجاد أهل الحل والعقد، وإثبات وكالتهم عن الأمة بالتوكيل الصريح؛ لأن التوكيل الضمني يتعذر حصوله في الوقت الحاضر؛ لكثرة أفراد الأمة، ولأن إجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتح بابا خطراً على الأمة ويؤذن بفوضى وشر مستطير؛ إذ يستطيع كل عاطل عن شروط أهل الحل والعقد أن يجعل نفسه منهم, وينصِّب نفسه ممثلاً عن الأمة ، بحجة أنها ترضى بنيابته عنها ضمناً، وهذا ما لا تجوِّزه الشريعة, ولا يستسيغه عقل. 


25- ولاية العهد: 

وقد يعترض البعض على ما قلناه من أن الأمة هي التي تختار رئيس الدولة بأن الفقهاء قالوا: إن تولي رئاسة الدولة يتم بعهد من الخليفة السابق إلى الخليفة اللاحق. فالماوردي مثلاً يقول [11]: " والإمامة ـ رئاسة الدولة ـ تنعقد من وجهين: أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد، والثاني: بعهد الإمام من قبله " والجواب على هذا الاعتراض أن التكييف القانوني لولاية العهد أنه ترشيح من الخليفة السابق لمن يتولى رئاسة الدولة وليس بتعيين، بدليل أن أهل الحل والعقد يبايعون المرشح، فلو كان مجرد العهد له يكفي لتولية رئاسة الدولة لما احتاج إلى مبايعتهم. ولو قدر أنهم أو الأمة لم يقبلوا هذا الترشيح لما صار المرشح رئيساً للدولة ، وهذا ما صرح به بعض الفقهاء، فقالوا: " الإمامة ـ أي رئاسة الدولة ـ تثبت بمبايعة الناس له ـ أي لرئيس الدولة ـ لا بعهد السابق له " [12] .


ثانياً حق المشورة


26- والحق الثاني للأفراد هو حق المشاورة، وهو في الحقيقة امتداد لحق الأمة في انتخاب رئيس الدولة, فما دامت هي التي تختاره ، وهو وكيلها في إدارة شؤونها، فمن حقها عليه أن يشاورها فيما يريد تنفيذه مما يتعلق بشؤونها.




27- اعتراض ودفعه: 

وقد يُعترض علينا بأن الأمة مادامت هي التي اختارته وهو محل ثقتها، فلا معنى لإلزامه بمشاورتها. والجواب على هذا الاعتراض من وجهين: 

الوجه الأول: أن رئيس الدولة، وإن كان محل ثقة الأمة، وهي اختارته, فقد يقدم على أمور تضر الأمة بقصد أو بدون قصد، ولا سبيل إلى إصلاح هذا الضرر بعد وقوعه، فمن حق الأمة أن تحتاط لنفسها فتلزمه بالمشاورة، دفعاً للضرر عنها.

الوجه الثاني: أن وكالة رئيس الدولة عن الأمة وكالة مقيدة. ومن قيودها أن يشاور الأمة؛ لأن المشاورة ورد بها النص الشرعي، فلا تملك الأمة التنازل عنها؛ لأن سلطانها، كما قلنا سلطان محدود بحدود الشرع، فلا تستطيع أن تفوض وكيلها ـ رئيس الدولة ـ استعمال سلطانها إلا بهذا القيد ـ قيد المشاورة ـ سواء صرحت بهذا عند انتخابه أو لم تصرح. أما النص الشرعي الوارد في المشاورة فهو قوله تعالى : (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)/159/آل عمران.

فهذا النص صريح في وجوب المشاورة على رئيس الدولة الأعلى؛ لأن ظاهر الأمر للوجوب إلا إذا صرفتْه قرينةٌ عن ذلك [13]. وإذا كان الخطاب في الآية الكريمة ـ وفيه الأمر بالمشاورة ـ موجهاً إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره وعظيم منزلته، فوجوب المشاورة على غيره من حكام الدولة الإسلامية أوجب وألزم. وعلى ما قلناه تدل أقوال الفقهاء والمفسرين, من ذلك ما جاء في " السياسة الشرعية " لابن تيمية. " لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر به نبيه " [14] وفي " تفسير الطبري " في تفسير هذه الآية : " إنما أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مما أمره بمشاورتهم فيه تعريفاً منه أمته ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم " [15] .

وفي " تفسير الرازي " : " قال الحسن وسفيان بن عيينة : إنما أمر بذلك ـ أي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمشاورة ـ ليقتدي به غيرُه في المشاورة ويصير سنة في أمته " [16] . 


28- من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة مشاورته للأمة: 

ومما يؤكد حق المشاورة للأمة على حكامها أن النبي صلى الله عليه وسلم على عظيم قدره ومنزلته وتأييده بوحي السماء، كان كثير المشاورة لأصحابه، شاورهم يوم بدر في الخروج للقتال، وشاورهم في أحد أيبقى في المدينة أم يخرج للعدو, وأشار عليه الحباب بن المنذر يوم بدر بالنزول على الماء فقبل منه، وأشار عليه السعدان [ سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة ] يوم الخندق بترك مصالحة العدو على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما [17]. 

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لأصحابه حتى ذكر العلماء أنه: " لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم " [18] .


29- ترك المشاورة موجب لعزل رئيس الدولة:

ونظراً لثبوت حق الأمة في المشاورة ولزومه على رئيس الدولة صرح الفقهاء بأن ترك هذا الحق من قبل رئيس الدولة موجب لعزله. فقد جاء في " تفسير القرطبي " : " قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب " [19] . فلا بقاء لحاكم مستبد في دولة تقام على أساس الإسلام.


30- في أي شيء تجري الشورى: 

المشاورة مع الأمة تجري في شؤون الدولة المختلفة، وفي الأمور الشرعية الاجتهادية التي لا نص فيها؛ أي أن رئيس الدولة يستشير في أمور الدين والدنيا كما يعبر الفقهاء، فقد جاء في تفسير الجصاص: "والاستشارة تكون في أمور الدنيا وفي أمور الدين التي لا وحي فيها ... " [20]، والمشاورة في أمور الدنيا إنما تكون في المسائل المهمة منها، مثل : سياسة الدولة العامة ، وتسيير الجيوش ، وإعلان الحرب، وعقد المعاهدات ونحو ذلك، ولا تكون الاستشارة في كل شيء حتى في صغائر الأمور وجزئياتها؛ لأن هذا غير ممكن ولا معقول ولا حاجة إليه ولا منفعة فيه ولا دليل عليه ... 


31- أهل الشورى : 

ولكن كيف تتم المشاورة ؟ هل يجب على رئيس الدولة أن يشاور الأمة كلها أو طائفة منها أو أفراداً منها ؟ المستفاد من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في الشورى أنه كان يشاور جمهور المسلمين في الأمور التي تهمهم مباشرة كما حصل في مسألة الخروج إلى قتال المشركين في أحد، فقد استشار جمهورهم الموجودين في المدينة وكان يقول لهم : " أشيروا علي " [21] . وكذلك في مسألة غنائم هوازن، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعرف جميع آراء المسلمين المشتركين في حرب هوازن في مسألة الغنائم التي صارت اليهم , فقد جاء في أخبارهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر لهم ما يراه بعدد الغنائم. قال الحاضرون : يا رسول الله ، رضينا وسلمنا. قال: " فمروا عرفاءكم أن يرفعوا ذلك إلينا حتى نعلم ... " فكان زيد بن ثابت على الأنصار يسألهم: هل سلموا ورضوا ؟ فأخبروه أنهم سلموا ورضوا ولم يتخلف عنهم رجل واحد ... الخ [22] . 

فهذه الواقعة تدل على أن أهل الشورى كانوا جميع المسلمين الذين يتعلق بهم موضوع المشاورة . وأحياناً كان يستشير بعض أصحابه لا كلهم ، كما حصل في مسألة أسرى بدر، فقد استشار بعض أصحابه في هؤلاء الأسرى ماذا يفعل بهم؟ وهل يأخذ الفداء عنهم أم لا ؟ 

واستشار السعدَين: سعدَ بن معاذ وسعد بن عبادة في مسألة مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعوا عن قتال المسلمين في معركة الخندق، فقالا له : إن كان هذا أمراً من السماء فامض له ، وإن كان أمراً لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأيهما، وترك موضوع المصالحة مع غطفان [23] .

فهذه السوابق الثابتة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن أهل الشورى تارة يكونون جمهور الأمة ، كما في مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين في مسألة الخروج إلى أحد. وطوراً يكون أهل الشورى جميع المسلمين الموجودين وقت المشاورة ويهمهم موضوعها، كمسألة غنائم هوازن، وأحياناً يكون أهل الشورى المتبوعين في قومهم كما في مسألة غطفان، فإن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة من سادات الأنصار والمتبوعين فيهم، وأحياناً أخرى يكون أهل الشورى بعض المسلمين كما في مسألة أسرى بدر. وفي ضوء هذه السوابق يمكن أن نقول: إن من يشاورهم رئيس الدولة يختلفون باختلاف موضوع المشاورة ، فإن كان من الأمور العامة المهمة التي تهم الجميع، وجب عليه أن يستشير الأمة كلها إذا أمكن ذلك، أو يستشير فيها أهل الحل والعقد، أي المتبوعين من قبل الأمة، وإن كان من المسائل التي تحتاج إلى نوع معرفة وحسن رأي فإنه يستشير أهل الاختصاص, وهذا ما أشار إليه القرطبي في تفسيره, فقال: " واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها " إلى أن قال: " قال العلماء: صفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالماً وديناً, وصفة المستشار إن كان في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً " [24] . 


32- تنظيم الشورى في الوقت الحاضر: 

بينا في الفقرة السابقة السوابق الثابتة في السنة النبوية في موضوع الشورى ، ومجموعها يدل على أن الشريعة الإسلامية لم تضع نظاماً خاصاً محدداً للشورى، وهذا من حسناتها واحتياطها للمستقبل؛ لأن تحقيق الشورى عملاً مما يختلف باختلاف الزمان والمكان، فتركه للأمة تنظمه حسب الظروف والأحوال هو السبيل الأقوم للشورى . وعلى هذا نرى أن ما يوافق أحوال العصر أن تقوم الأمة بانتخاب أهل الشورى الذين يشاورهم رئيس الدولة في المسائل العامة، ويخولون أيضاً سلطة انتخاب رئيس الدولة إذا شغر منصبه, على أن يكون لرئيس الدولة الحق في مشاورة أهل الاختصاص في موضوع اختصاصهم، سواء كانوا من أهل الشورى المنتخبين أو من غيرهم. وأن يكون له استفتاء الأمة في المسائل الخطيرة، ويوضع نظام لكل هذه المسائل وغيرها، مما له علاقة في موضوع الشورى مثل كيفية انتخاب مجلس الشورى وصلاحياته في ضوء قواعد الشريعة العامة. 

ولضمان سلامة انتخاب مجلس الشورى، وانتخاب الأكفاء المخلصين لعضويته لا يكفي وضع نظام لهذا الانتخاب, بل لا بد من إشاعة المفاهيم الإسلامية, ورفع المستوى الأخلاقي في الأمة، وتربية الأفراد على مخافة الله وتقواه حتى لا ينتخبوا إلا الأصلح، وليقوم من تنتخبه الأمة بواجبه كما يأمر الإسلام.


33- الخلاف بين رئيس الدولة ومجلس الشورى: 

وقد يختلف رئيس الدولة مع مجلس الشورى ، فما الحل في هذه الحالة ؟ الحل هو ما أشارت إليه الآية الكريمة : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)/59/ النساء.  

فيرد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبهذا قال المفسرون [25] ، فإذا وجد الحكم صريحاً في الكتاب أو في السنة وجب اتباعه. ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك. وإن لم يوجد الحكم صريحاً فأي الآراء أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به [26].

ولكن ما العمل إذا لم يظهر الرأي الذي هو أشبه بكتاب الله وسنة رسوله؟ هناك ثلاثة حلول: 

الحل الأول: طريقة التحكيم : 

وهذا يستلزم اختيار هيئة خاصة من أهل الفقه والرأي الجيد والمعرفة بشؤون الدولة، وتعطي الضمانات الكافية لاستقلالها في العمل وعدم التأثير عليها، وهذه هي التي تفصل في أمر الخلاف بين رئيس الدولة ومجلس الشورى, ويكون رأيها ملزماً.  وقد يستأنس لهذا الحل بما روي عن الإمام عمر بن الخطاب أنه توجه إلى الشام، فأخبر في الطريق بوقوع وباء في الشام، فاستشار من معه من المهاجرين في أمر الرجوع أو المضي في السير فاختلفوا، فاستشار الأنصار الذين كانوا معه فاختلفوا، فدعا من كان موجوداً من مشيخة قريش من المهاجرين الأولين واستشارهم، فأشاروا بالرجوع فأخذ برأيهم، ورجع بمن معه [27]. 

الحل الثاني: الأخذ برأي الأكثرية: 

ويقضي هذا الحل أن يأخذ رئيس الدولة برأي الأكثرية وإن خالف رأيه، ويعضد هذا الرأي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ برأي الأكثرية في مسألة الخروج لمقاتلة المشركين في معركة أحد، وكان ميله صلى الله عليه وسلم إلى عدم الخروج [28] . ثم إن الكثرة معدن الجودة ومظنة الصواب، وإن كانت ليست دليلاً قاطعا على الصواب، فقد يكون الخطأ إلى جانبها والصواب إلى جانب القلة. 

الحل الثالث: الأخذ برأي رئيس الدولة مطلقاً: 

ومقتضى هذا الحل أن رئيس الدولة بعد أن يشاور أهل الشورى يأخذ بما يراه دون تقيد برأي الكثرة أو القلة، ويستأنس لهذا الحل بما قاله البعض في تفسير قوله تعالى : (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)/159/ آل عمران. قال قتادة: " أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله لا على مشاورتهم " [29] . ويقوي هذا الحل أن رئيس الدولة مسؤول ومحاسب عن عمله ، فيقتضي إعطاؤه حرية العمل بما يراه مادام أمراً اجتهادياً لا يخالف نصاً قطعياً من نصوص الشريعة. يوضحه أن كون الإنسان مسئولاً عن عمله أن يعمله باختياره ورأيه, لا أن يعمله تنفيذاً لرأي غيره، ويكون رأي الغير ملزماً له . فليس من المستساغ أن يلزم المرء برأي غيره ويحاسب هو على هذا الرأي.


34- الحل الذي نختاره: 

الرأي الثالث قوي سديد من الناحية النظرية ، ولكن نظراً لضرورات الواقع، وتغير النفوس، ورقة الدين، وضعف الإيمان، وندرة الأكفاء الملهمين، كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثاني فنلزم رئيس الدولة برأي الأكثرية بشروط: الأول: إذا لم يقتنع رئيس الدولة برأي الأكثرية، فله أن يحيل الخلاف على هيئة التحكيم. الثاني: إذا لم يقتنع برأي هيئة التحكيم، فله إجراء استفتاء عام حول موضوع الخلاف، فإن أيدت الأمة رأي رئيس الدولة أخذ برأيه، وإن لم تؤيده فعليه أن يأخذ برأي الأمة أو يستقيل. الثالث: أن يعطي حرية اتباع الرأي الذي يراه في الأحوال الاستثنائية كحالة الحرب أو حدوث خطر داهم يهدد سلامة البلاد دون تقيد برأي سوى ما يراه هو.


ثالثاً: حق المراقبة وما يترتب عليه


35- وللأمة - والفرد واحد منها - حق مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها، في أعمالهم وتصرفاتهم التي تخص شؤون الدولة، وتستمد الأمة هذا الحق من طبيعة علاقتها مع رئيس الدولة، فعلاقتها معه علاقة وكالة، فهي التي اختارته، ومن حق الموكل أن يراقب وكيله ليطمئن على حسن قيامه فيما وكله فيه. 


36- حق المراقبة لا يراد لذاته بل لغيره: 

وحق المراقبة يراد لتقويم رئيس الدولة إذا انحرف عن النهج القويم ـ نهج الإسلام ـ في الحكم. 

وأول منازل التقويم تقديم النصح الخالص له . جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الدين النصيحة " . قلنا: لمن ؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " [30] . 

فإن لم يفد النصح، فمن حق الأمة استعمال القوة اللازمة لتقويمه، وردعه عن الظلم وعن سائر مظاهر الانحراف والاعوجاج, فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم) [31] . وفي حديث آخر: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب منه) [32].


37- الحكام المسلمون يدعون الأمة مراقبتهم:

وحق الأمة في مراقبة رئيس الدولة وسائر ولاتها وحكامها، كان مرعياً أحسن رعاية في عصر الإسلام الأول، وأكثر من ذلك كان رؤساء الدولة الإسلامية يدعون الأمة لمراقبتهم وتقويمهم إذا رأوا في سيرتهم اعوجاجاً. وقد حفظ لنا التاريخ سوابق خالدة في هذا الباب, من ذلك ما قاله الخليفة أبو بكر الصديق في خطبة له : " ... فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني " [33] . ومن خطبة للخليفة عمر بن الخطاب: "من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه " ، فقال له أحد الحاضرين: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال الإمام عمر بن الخطاب : " الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوِّم عمرَ بسيفه " .


رابعاً: حق العزل


38- حق الأمة في عزل رئيس الدولة: 

قلنا إن المركز القانوني لرئيس الدولة هو مركز الوكيل بالنسبة للأمة ، فمن البديهي أن يكون من حقها عزله إذا خرج عن حدود وكالته، أو لم يقم بمهام الوكالة عجزاً أو تقصيراً ، ولأن من يملك التعيين يملك العزل، والأمة هي التي اختارته؛ فتملك تنحيته. ومباشرة هذا الحق تستلزم المبرر الشرعي وهو ما ذكرناه من خروج على حدود الوكالة, أو عجز عن القيام بمهامها، وهذا ما صرح به الفقهاء, من ذلك قولهم: "وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين, وانتكاس أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها " [34] .

ويقول الفقيه المعروف ابن حزم الأندلسي، وهو يتكلم عن الإمام ـ أي رئيس الدولة ـ ما نصه : "... فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه خُلع وولي غيره " [35] .



39- طرق العزل: 

واذا كان للأمة عزل رئيس الدولة ، فلها أن تباشره بواسطة ممثليها، وهم أهل الحل والعقد، بأن يسحبوا ثقتهم منه ويقرروا عزله . ولكن قد لا يستجيب رئيس الدولة لهذا القرار، وفي هذه الحالة يجوز للأمة استعمال القوة لتنحيته من منصبه إذا وُجد المبرر الشرعي لذلك، مثل خروجه السافر على نهج الإسلام وأحكامه مما يعتبر كفراً في نظر الإسلام، جاء في الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت: " دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا تنازعوا الأمرَ أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " [36] . 

ولكن اللجوء إلى القوة مشروط بتوافر القوة اللازمة ورجحان النجاح، وبدون ذلك لا يجوز العنف، لأن من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يكون العمل على إزالة المنكر مستلزِماً منكراً أعظم، ولا شك أن عدم توافر القوة لإزاحة رئيس الدولة من منصبه، ثم إعلان الخروج عليه بالسيف ـ كما يعبر الفقهاء ـ لا يؤدي إلا إلى سفك الدماء وخراب البلاد وضعف الدولة، وكل هذه الأمور منكرات, فلا يجوز مباشرة أسبابها.


خامساً: حق الترشيح


حق الترشيح أن يرشح الإنسان نفسه لمنصب من مناصب الدولة أو وظيفة من وظائفها العامة، فهل يملك هذا الحقَّ الفردُ في الدولة الإسلامية ؟ الظاهر أنه لا يملك هذا الحق ـ كقاعدة عامة ـ فلقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) [37] .. والترشيح يتضمن طلب المنصب أو الوظيفة ، فلا يجوز.

أما ترشيح الإنسان غيرَه فجائز، لأنه لا يتضمن طلب الإمارة, وإنما دعوة الأمة إلى انتخاب المرشح الكفء، ومثل هذه الدعوة أمر جائز مستساغ.


41- حكم الترشيح في الوقت الحاضر:

وإذا كان ترشيح الشخص نفسه لا يجوز، كقاعدة عامة، ولكن إذا قضت به الضرورة أو المصلحة الشرعية جاز، ولا خلاف أن الأمور تعقدت في وقتنا الحاضر واتسعت, وما عاد بالإمكان معرفة الأمة للأكفاء الصالحين حتى تنتخبهم، ولما كان تولي هؤلاء منصب الدولة في غاية الأهمية حتى يساهموا في إدارة شؤون الدولة وفق الشرع الإسلامي، فإن ترشيح الكفء نفسه يعتبر من قبيل الدلالة على الخير، ومن قبيل إرشاد الأمة وإعانتها على انتخاب الأصلح لتحقيق المطلب المهم فيجوز, وقد نستأنس لرأينا هذا بقول يوسف عليه السلام: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)/55/ يوسف. ولا يظن بيوسف ـ عليه السلام ـ أنه طلب هذا المنصب حرصاً منه على المنصب، ولكن طلبه ليجعله وسيلةً لتحقيق مقاصد مرضية عند الله تعالى .


42- الدعاية للمرشح: 

وإذا جاز الترشيح في الوقت الحاضر للضرورة ، فلا يجوز لمن يرشح نفسه أن يقوم بما يسمى الدعاية الانتخابية التي يقوم بها المرشحون من مديح لأشخاصهم وتنقيص بغيرهم ، وإنما يجوز للمرشح أن يعرف نفسه للناخبين ويبين لهم فكرته ومنهاجه في العمل ولا يزيد على ذلك.


سادساً: حق تولي الوظائف العامة 


تولي الوظائف العامة في الشريعة الإسلامية ـ على ما نرى ـ ليس حقاً للفرد على الدولة وإنما هو تكليف على الفرد من الدولة. فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري أنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما : يا رسول الله ، أمِّرنا على بعض ما ولاك الله تعالى . وقال الآخر مثل ذلك. فقال : " إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه" [38].

فهذا الحديث صريح في أن تولي الوظائف العامة ليس حقاً للفرد على الدولة؛ إذ لو كان حقاً له لما كان طلب الوظيفة أو الولاية سبباً لحجبها عن طالبها؛ لأن صاحب الحق لا يمنع من حقه إذا طلبه أو طالب به أو حرص عليه. 


44- كيف تولى وظائف الدولة للأفراد ؟ 

وإذا كان طالب الوظيفة في نظر الشريعة غير مرغوب فيه، فكيف يمكن إسناد وظائف الدولة إلى الأفراد ؟ هنا يبرز واجب رئيس الدولة وسائر ولاتها، فعليهم أن يتحروا عن الأصلح لكل عمل من أعمال الدولة، ولا يجوز لهم أن يعدلوا عن الأصلح إلى غيره، لقرابة أو صداقة أو حزبية أو لأي معنى من المعاني التي لا علاقة لها بصلاح الشخص، لما يراد توليه من أعمال، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله) [39]. وقد لا يجد رئيس الدولة أو غيره من المسؤولين من هو صالح لوظيفة معينة، ففي هذه الحالة عليهم أن يتخيروا الأمثل فالأمثل، أي أصلح الموجودين لكل وظيفة من وظائف الدولة، لا سيما المهمة منها بعد بذل أقصى الجهد ، فهذا هو المستطاع, والله يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم)/16/ التغابن. 

45- ميزان الصلاحية للوظائف العامة : 

وإذا كان على رئيس الدولة وسائر ولاتها التحري عن أصلح الموجودين لإسناد وظيفة ما إليه، فعليهم أن يعرفوا أن ميزان الصلاحية هو القوة والأمانة, قال تعالى : (إن خير من استأجرت القوي الأمين)/26/ القصص. والقوة هي القدرة والكفاءة على القيام بمهام الوظيفة، وهي تختلف باختلاف الوظائف. 

أما الأمانة فترجع إلى إدارة شؤون الوظيفة حسب ما يقضي به الشرع الإسلامي مع خشية الله ومراقبته, لا خشية الناس وطلب مرضاتهم . 


46- تولية الوظائف العامة في الوقت الحاضر: 

وإذا كان طلب الوظيفة غير مرغوب فيه في نظر الشريعة وإن على ولي الأمر التحري عن الأكفاء للوظائف العامة، فكيف يمكن تطبيق هذه القواعد في الوقت الحاضر ؟ والجواب على هذا السؤال هو أن وظائف الدولة المهمة كالوزارة وقيادة الجيش ورئاسة الوحدات الإدارية، هذه الوظائف يجب على رئيس الدولة أن يتحرى الأكفاء لها، ومن ثم تطبق القواعد الشرعية السابقة وميزان الصلاحية. أما الوظائف الأخرى، فلا نرى بالإمكان قيام المسؤولين بأنفسهم بالتحري المباشر عن الأكفاء، وإنما من الممكن أن يوضع نظام تذكر فيه شروط التوظيف، والحد الأدنى من الكفاءة, ويسمح للراغبين في التوظف بالتقدم بطلباتهم، وعلى المسؤولين فحص طلباتهم، وجميع ما يستدل به على كفاءتهم وأمانتهم، بروح متجردة, غير متحيزين ولا متأثرين بوساطة أو قرابة أو حزبية، فمن وجدوه كفؤاً مستكملاً الشروط عيَّنوه وإن كان من خصومهم ، ومن وجدوه غير ذلك لم يجيبوا طلبه وإن كان من أصدقائهم .

إن السلطة بيد رئيس الدولة وسائر ولاتها أمانة بأيديهم, فعليهم أن يخرجوا من عهدة هذه الأمانة بأن يستعملوها فيما يرضي الله، والله يرضيه أن يولي الأصلح حسب الموازين الشرعية، لا أن يولي الأقرب ويبعد الأكفأ والأصلح، فإن هذا الصنيع خيانة للأمانة وتضييع لها . قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة). قيل : وكيف إضاعتها ؟ قال: (إذا وُسد الأمر إلى غير أهله) [40] .

0 تعليق:

إرسال تعليق