المملكة المغربية
هيئة الإنصاف و المصالحة
تطور مفهوم "المصلحة العليا للدولة" في النظرية السياسية
ندوة عنف الدولة
مراكش، 11 و 12 يونيو 20
د.العلمي الادريسي رشيد
©هيئة الإنصاف و المصالحة
يعد مؤلف فريديك مينيك (F. Meineke) ، أول كتاب سعى إلى دراسة مفهوم "المصلحة العليا للدولة " ( la raison d’Etat) ، من خلال نظريات مختلفة ، ابتداءا من مكيافلي وبوتيرو Botero)) ، وصولا إلى هيجل وفيخته ( Fichte) ورانــك (Rank) وتريتشك( Treitshke) .واستهل كتابه بدراسة مكيافلي، الذي كان من أوائل المفكرين الذين اهتموا بالقضايا السياسية الهامة في عصرهم دون الاعتماد على مرجعية دينية أو أخلاقية . ويـــعرف فريديريك مينيــك مفهـــوم (la raison d’Etat) كمجموعة من الحكم السياسية التي توجه الفعل السياسي في اتجاه الحفاظ على الدولة وتقويتها(1) .
مما يلفت النظر، أن فريديريك مينيك أغفل كثيرا من المفكرين الذين اهتموا بالمفهوم وحددوا معانيه ودلالاته ، سيما منهم لوسينجي ( Lucinge) وكيتشارديني (Guichiardini) ، في عصر النهضة الإيطالية ، وأغفل في العصر الحديث ،منظرين صاغوا مفاهيم قريبة جدا من (la raison d’Etat) ، كمفهوم "قوة الـدولة"( la puissance de l’Etat)، و"الديكتاتورية الشرعية" لكارل سميــــــث (Carl Shmitt) .
ونلمس هدا في كتابات ماكس فيبر (MAX WEBER) ، على سبيل المثال . ففي درسه الإفتتاحي في جامعة فريبورغ (FRIBOURG) ، والذي قام به لما عين أستاذا للاقتصاد السياسي ، قال : "إن علم الاقتصاد السياسي هو علم السياسة. إنه في خدمة السياسة ، ولا اعني هنا بالسياسة العمل اليومي لأفراد أو لطبقات مالكة للحكم ، في لحظة تاريخية معينة، ولكن السياسة التي تروم المصالح القوية والدائمة للأمة ." وكانت المفاهيم التي ترد بكثرة في كتاباته السياسية هي التالية : مصلحة الدولة ، الدولة القومية، إرادة القوة ، السياسة الوطنية الخ... دلك أن ماكس فيبر كان يدعو إلى تقوية الدولة الألمانية ودعم.
* في الأصل ، مداخلة ألقيت في الندوة التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة بمراكش بتاريخ 11-12 يونيو 2004 في موضوع : "عنف الدولة".
سياساتها الصناعية والتجارية ، وتجاوز السياسات الفلاحية التي أعاقت تطور الدولة الألمانية في اتجاه الحداثة .(2)
وذهب كارل سميث(Carl Shmitt) بمفهوم مصلحة الدولة إلى أقصى الحدود، وإن كان، في الواقع، يفضل استعمال مفاهيم أخرى، من ضمنها، المصـلحة الوطــنية (intérêt national ( و قـــوة الـــــــــدولة (la puissance de l ‘Etat) الخ... وكان كارل سميث معاديا للبرالية وللحياة البرلمانية ، فكان مساندا "للروح الوطنية" التي كانت متجسدة بنظره في الحكم النازي، ومناديا متشددا بما أسماه ب "الديكتاتورية الشرعية"، التي ستفضي إلى إحياء "الروح الجماعية"، "والروح الجرمانية" ، "والأصالة المفقودة " في المجتمع الألماني. وستتحقق هذه الأهداف بكل الطرق والوسائل ، وإن كان هذا سيتم على حساب الحقوق والحريات ، حيث أنها أهداف "سامية" تفوق جميع القيم ، إذ أنها ترهن مصير المجتمع الألماني (3)
ولنعود إلى البدايات الأولى .إن مفهوم المصلحة العليا للدولة برز في التداول السياسي بداية، وارتقى إلى مستوى النظر الفلسفي والسياسي. ولعله من المفاهيم النادرة التي عرفت هذا الارتقاء الفكري ،أي من مستوى التداول إلى مستوى النظر.
لنقول في البداية أن هذا المفهوم ظهر في عصر النهضة الأوربية في المدن الإيطالية تحديدا، لما كانت هذه المدن تعرف صراعات دامية حول السلطة، وتقلبات سياسية متتالية، وصراعات بين أجنحة متنافسة من الأرستقراطية، وبين الأرستقراطية والفئات البورجوازية الصاعدة. وقاد كل هذا إلى فوضى في القيم والمبادئ إلى حد إنكار حقيقتها، إلى حد العدمية أحيانا. فكان السؤال الذي يراود ذهن كل مثقف ملتزم آنذاك هو التالي:كيف يمكن الخروج من الأزمة السياسية والأخلاقية ؟ كيف يمكن تحقيق الاستقرار والانسجام ؟ هل يجب الاتحاد مع الدول العظمى، فرنسا أو إسبانيا؟ أو بالأحرى يجب العمل على توحيد المدن الإيطالية وبالتالي، العمل على إذكاء الروح القومية فيها؟
وكان سؤال آخر، مرتبط بالأول، مثار جدال وخلاف:ماهي علاقة السياسة بالأخلاق؟
هل السياسة هي في خدمة الأخلاق كما كان يقول القدامى، أم أن الأخلاق هي في خدمة السياسة، كما كان يقول بعض المحدثين؟
يمكن القول أن السياسة ، كفكر وكعمل، تبوأت مكانة الصدارة في الأوساط الثقافية في المدن الإيطالية.
إن المستوى السياسي أصبح بمثابة المحدد الرئيسي لكل المستويات الأخرى.
فبالسياسة يمكن تطويق الأزمات ، وتوحيد البلاد، وتهذيب الأخلاق والنهوض بالاقتصاد. إن الدولة بحكم أنها فضاء السياسة بامتياز، يجب أن تتمتع بالقوة الضرورية بغية الوصول إلى الأهداف المنشودة.
ولما أصبحت للسياسة ومن ثم للدولة أدوار تاريخية في غاية من الأهمية، هل تبقى مع ذلك، مقيدة بالقانون والقيم الدينية والأخلاقية، أم سيجوز لها، أي للسياسة، أن تتجاوز وتتخطى القوانين والقيم؟
هنا يتحتم طرح هذا السؤال: كيف يمكن تحديد "التجاوز" المقبول على أساس الضرورة؟ من سيتحقق بالتطابق الكلي بين الوسائل والغايات؟ وهل الغايات المعلنة هي الغايات الحقيقية؟
ورد مفهوم "الضرورة" في الآداب السلطانية في الفكر العربي الإسلامي، وكان له حضور قوي في كتابات مكيافلي، لذا أعتبر كثير من النقاد أن مكيافلي هو مبتكر "المصلحة العليا للدولة".
في الواقع ، لم يذكر مكيافلي "المصلحة العليا للدولة" بل تحدث عن الضرورة التاريخية، و عن الضرورة السياسية، ولعله تجنب استعمال المفهوم حيث كان يحمل عادة معنا قدحيا في التداول السياسي آنذاك. إذ كان يحيل إلى أعمال العنف الذي كان يلجأ إليها الأمير لتثبيت سلطته، ومع ذلك ارتبط المفهوم بنظرية مكيافلي إذ بدا وكأنه يستحضره دون أن يسميه.
هناك إشكالية رئيسية، نريد طرحها في هذه المداخلة، ومحاولة الإجابة عنها:
هل مفهوم المصلحة العليا للدولة يسعفنا لفهم جميع أفعال السلطة؟
بمعنى آخر ، هل يمكننا أن نجد تفسيرا لجميع أفعال السلطة، وإن كانت محفوفة بالغموض وبالالتباس على ضوء مفهوم المصلحة العليا للدولة؟
I) مكيافلي، هل هو خطاب القطيعة؟
إن فكر مكيافلي شكل،ظاهريا، قطيعة مع الكتابات السياسية التي رافقت الملكيات المطلقة، وهي كتابات ذات طابع ثيوقراطي، ككتابات روبير فيلمر Robert Filmer)) وبوسيهBossuet ))، أوكتابات تندرج ضمن ما يسمى بمرايا الملوك.
إن الكتابات الثيوقراطية تبرر الاستبداد باسم الدين، تتحدث عن الملك بصفته خليفة الله في أرضه، وتتحدث عن الغايات المقدسة.
ومرايا الملوك تقدم النصائح للأمير المسيحي، قصد تثبيت حكمه.أما مكيافلي فكان يتوخى عقلنة الدهاء السياسي وذلك بهدف الوصول إلى غايتين أساسيتين: أ- الاستقرار السياسي.ب: توحيد إيطاليا .
فأهداف مكيافلي أهداف زمنية ، دنيوية ، لاعلاقة لها بالدين ولا بالقداسة.وهي أهداف تكفي في نظره لإضفاء الشرعية على أعمال العنف.
وهذا ما أثار غضب كثير من الملوك والأمراء وكثير من المثقفين في عصره.وسوف لا نطيل في هذا الموضوع.
أريد فقط أن استحضر سؤال ميشال فوكو حول حقيقة القطيعة المكيافلية. ففي مقال له يحمل هذا العنوان « La gouvernementalite »(4). اعتبر فوكو أن مكيافلي ظل متمحورا حول إشكالية السيادة ، إذ أن فن الحكم عند مكيافلي يقترن بالدهاء والحيلة قصد تمتين السيادة. في حين، نجد في الاتجاهات الفكرية المعارضة لمكيافلي فهما آخرا للسياسة.
فالسياسة برزت عند بعض المفكرين كفن تدبير الحياة الجماعية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فهل يمكن بالفعل تخطي الماكيافلية وقراءة السياسة بطرق مغايرة؟
II الأخلاق السياسية بين معاداة المكيافيلة والواقعية التاريخية
1) لوسينجي، بوتيورو،و المفهوم الجديد للدولة.
صدر للمفكر لوسينجي (Lucinge ) كتابان هامان :
- "طريقة في قراءة التاريخ"
- " نشأة و تطورو سقوط الدول"
في الكتاب الأول دعا لوسينجي إلى منهجية جديدة لقراءة الأعمال التاريخية. أما الكتاب الثاني، فهو في الواقع دراسة تاريخية للإمبراطورية العثمانية. والملفت للنظر أننا نصادف أول استعمال لمفهوم المصلحة العليا للدولة في هذا الكتاب.
ويرى لوسينجي إن نظرية مكيافلي معادية للأخلاق، ومنافية للدين.
فالمبادئ الأخلاقية والدينية تبقى في نهاية المطاف، من أسمى الغايات التي يتوخاها الأمير الحكيم والمقتدر، على أن ما يدعو إلى الاستغراب أن لوسينجي لا يتردد في القول بصريح العبارة، أنه لا يدعو إلى تأسيس السياسة على مبادئ وقيم أخلاقية، إنه يعلم أن التدبير المحكم يقتضي أحيانا تجاوز القوانين ويستدل على قوله هذا بمثال الامبراطورية العثمانية، ، فالسلطة العثمانية كثيرا ما كانت تلجأ إلى القساوة والعنف ، إلى حد قتل الأقرباء.هذه القساوة هي بالطبع معادية للدين، لكن يقول لوسينجي إن ما يثير الانتباه أن الشعب لم يثور ضد هذه الأفعال.
ويتساْءل لوسينجي حول الظروف التي قد تقود إلى انهيار الامبراطورية العثمانية ، فيوحي بالتحريض على الفتن، ودعم الانتفاضات الشعبية وإرشاء بعض الأعيان في النظام، وحث بعض الوزراء إلى التمرد ضد الحكم.ويرى لوسينجي أن هذه الأعمال غير منافية للتعاليم الدينية، لأن النتيجة المنشودة هي الإطاحة بنظام فاسد، غير مسيحي، يومن بديانة زائفة.(5)
وصدر عن المفكر بوتيرو(BOTERO) كتاب نال شهرة كبيرة يحمل هذا العنوان :"Ragio di stato"، ويرى بوتيرو هو الآخر أن الماكيافيلية هي منافية للدين وللأخلاق، ويتعين البحث عن الأسس الأخلاقية للحكم القويم.
على أنه بدا في الواقع شديد الاهتمام بحفظ النظام وباستقرار الدول، فالحكم القويم يعتمد على الصبر والتريث وإخفاء الرأي وانتظار الفرص المواتية, و هي من المسالك التي نادى بها في كتاب آخر يحمل عنـــــوان : « Les Grandes maximes de la prudence » .وفي هذا الكتاب نلمس مدى تأثر بوثيرو بفكر اريسطو.
ويعرف الدولة كالتالي: إنها سيطرة حازمة على الشعوب. وماهي المصلحة العليا للدولة؟ إنها معرفة الوسائل الكفيلة بتأسيس و الحفاظ وتقوية هذه السيطرة.
ثم يبحث في ما يميز "المصلحة العليا" عن المصلحة العادية. وهنا نلمس تدبدب وتأرجح بوتيرو بين مسالك تقنية محضة ومسالك متشبتة بمــبادئ العدل ولعل بوتيروا تمكن من تجاوز دائرة السيادة، ودلك خلافا لمكيافلي الذي ميز بين الدول على أساس النظام السياسي:ملكي أو جمهوري، وخلافا لجان بودان (Jean Bodin) الذي ميز بين أشكال ثلاثة للحكم: الملكي، الأرستقراطي، والشعبي، فبوتيرو يستبعد الاعتبارات التاريخية والقانونية، لتحديد طبيعة النظام السياسي، ويركز اهتمامه حول الامتداد المجالي:
هناك الدول الصغيرة، والمتوسطة، والكبيرة.
إن المسالك السياسية التي تحفاظ على النظام تختلف باختلاف الامتداد الإقليمي للدول ثم ، ولعل هذا هو الأهم إذ يسوقنا إلى توضيح الإشكالية التي طرحناها في البداية، إن الدولة عند بوتيرو لا تقتصر على مستواها السياسي، ولا تقترن بالمسالك الكفيلة بتدبير الحكم، إن الدولة تحيل إلى فضاء شديد التعقيد، يتضمن عناصر متعددة: الأمير ، الشعب، الإقليم، الموارد، القوى الخ...(6) وتتضمن علاقات من نوع خاص: السيطرة، التعارض، التوازن، التبادل، التنقل الخ...، وتتضمن غايات معينة: القوة، الأمن، التقدم، الرقي، السعادة الخ.
وكان بوتيرو أمام معادلة صعبة: يجب أن تتمتع الدولة بأعلى درجة من القوة، حتى تبقى في منأى عن مطامح القوى الخارجية، الكنيسة على سبيل المثال، وفي ذات الوقت، هذه القوة الضرورية للدولة يجب أن لا تتحول إلى قوة قاهرة، متغلبة بين يدي الأمير.
و يقول بوتيرو أن القوة التي يجب أن تتمتع بها الدولة هي ناتجة عن الاقتصاد و الصناعة.
إن الصناعة تقوي الدول وتحقق المنفعة العامة. ونراه يميل أحيانا إلى استعمال مفهوم المصلحة، في معناه الاقتصادي.
فالقوانين الطبيعية تتحكم في المصالح توفق بينها، وتحقق الانسجام. وهي أفكار تعلن عن بدايات تحول الفكر وانتقاله من المستوى السياسي إلى المستوى الاقتصادي. لذا، يعد كتاب آدام سميت" ثروة الأمم"، افضل رد على المكيافلية، حيث أن القوانين الطبيعة المتحكمة في السوق، تقود إلى اختفاء السياسة واختفاء المصلحة العليا للدولة.
2) كامبانيلا(CAMPANELLA) بين البوتويا والواقعية
إن آراء كامبانيلا تثير الفضول الفكري، حيث أنه شارك في المخاض الفكري الذي عرفته المدن الإيطالية، وحيث أنه كتب في الأخلاق، وفي الواقعية السياسية وألف كتابا يوتوبيا "مدينة الشمس".
ميز كامبانيلا في البدء بين المصلحة القويمة أو الفاضلة والمصلحة السيئة أوالرديئة (La Bonne et Mauvaise Raison d’ Etat)
فالمصلحة الرديئة، كما أوصى بها مكيافلي بنظره ليست قدرا محتوما على الدول، إن الأمير له الاختيار بين المسالك القويمة والمسالك المنحلة، الفاسدة.
وهذا الاختيار هو ناتج عن طبعه ونفسيته وعن طبيعة نظامه.
إن نظرية مكيافلي ترتكز على نظرة متشائمة تجاه الإنسان، و تحمل فهما اختزاليا للتاريخ.
مكيافلي بنظر كامنيلا، يجهل معارف متعددة : الفلسفة الطبيعية، طبيعة المناخات، ثقافة الشعوب ومعتقداتها.
فمعرفة مكيافلي للواقع المتعين، معرفة برغماتية، إمبريقية ليس إلا.
وهناك أشياء تأثر في الوقائع والأحداث، وفي تطور السياسات، تعود إلى "العلوم الالهية" كعلم الفلك، وعلم التنجيم، والنبوة.وتاليا، فلا يمكن حصر الحدث في ماديته الظاهرة.
إن الحيلة التي أوصى بها مكيافلي هي دليل على العجز السياسي، لا على الكفاءة السياسية.
إن سياسة الأمير المقتدر، لاتحتاج إلى المكر والدهاء، إنها حكمة وحسن التدبير، وهي بالمفهوم الارسطي "la prudence".
ثم، إن أمير مكيافلي يبدو محبا لذاته إلى حد الجنون، وحب الذات هو أساس الطغيان.
إن الإنسان الفاضل، يماثل سقراط، يموت من أجل المبادئ ولا يتخلى عن قناعاته ولو تعرض إلى التعذيب في السجون. وكمبانيلا لما يقول هذا يستحضر حياته ومعاناته، حيت حكم عليه بالسجن لمدة تفوق العشرين سنة.
وكتب "مدينة الشمس" وهو في السجن. مدينة الشمس ، مدينة يوتوبية، خيالية تمتاز في نظامها الاجتماعي، بمشاعية الأملاك والنساء وهي مدينة المعرفة و العرفان، تسودها المثل الأخلاقية العليا.
ومما يلفت النظر، نرى كمبانيلا يتحدث عن الأمير الحاكم الفيلسوف، وعن الأمراء الآخرين وعن المجالس الشعبية، لكنه لا يتحدت عن السياسة، بل أكثر من ذلك، فهو لا يذكر ولو مرة واحدة كلمة السياسة. لعل هذا يعود إلى تدبدب السياسة بين الخير والشر، بين المصالح القويمة والمصالح الرديئة فمدينة الشمس تجهل كليا المصلحة العليا للدولة.
ومما يثير الانتباه، أن كمبانيلا في كتاب آخر، حول الأخلاق، يرى أن الديانة هي ضرورية للحفاظ على الدولة ولضمان الطاعة السياسية. إن الدين بنظره، يعوض للناس عنف الدولة وظلمها. لذا يتعين على الحاكم الحفاظ على العقيدة الدينية لأنها ترهن مصير الدولة.
ونطرح هذا السؤال: هل لا يمكن التخلص من المكيافيلية، ماعدا في التصورات الخيالية وفي المدائن الفاضلة، وكلما احتك المفكر بالواقع ظهر له شبح مكيافيلي ؟(7)
III- هل يعد مفهوم "المصلحة العليا للدولة" مفهوما علميا،إجرائيا لفهم عنف الدولة؟
صحيح، إذا اعتبرنا أن المصلحة العليا للدولة تقترن، في أغلب الأحيان، بضرورة تجاوز القوانين والقيم الأخلاقية، وإن كانت هناك اتجاهات فكرية معارضة لهذا التعريف السلبي، كما رأينا ذلك سلفا، ،هل يمكننا ولو أخدنا بالمعنى السلبي للمصلحة العليا للبلاد، أي التجاوز المقبول على أساس الضرورة، أن نفهم أعمال عنفية، صادرة عن الدولة، وتبدو لنا محفوفة بالغموض وبالإبهام، وتفوق شراسة وقساوة الجرائم التي اتهمت بها جماعة من الناس.
ويقدم لنـــا المفكرGugliemo Ferrero في كتــــــــابه، Pouvoir et légitimité ، طرحا متميزا يستحق أن نتأمل فيه:
إن الدولة في نظره، تلجأ إلى أعمال عنيفة في غاية من الشراسة لما يبدوا لها أن مشروعيتها مهددة وأنها متهاوية وآيلة إلى الأفول.
لكن هل تسعفنا نظرية المصلحة العليا للدولة، و كذا نظرية المشروعية السياسية، لفهم ما وقع في "تازمامارت"؟
هل تفيدنا الدراسات حول معتقلات الموت في النظام التوتاليتاري لفهم "عالم تازمامارت".
الواقع إن ظروف الاعتقال والتعذيب والأعراض النفسية والجسدية للمعتقلين بتازمامارت ، تذكرنا بما كتب حول ظروف الاعتقال في النظام النازي في عالم معسكرات الاعتقال (L’univers Concentrationnaire ) .(8)
على أن معسكرات الاعتقال في النظام التوتاليتاري مرتبطة ارتباطا عضويا ببنية النظام وبإستراتيجيته وبإديولوجيته .
إن المعتقل في هذه المعسكرات غير متهم بأعمال محددة، إنه في الواقع، إنسان غير مرغوب فيه ، في وجوده . نظرا لانتمائه السياسي (الشيوعي عادة) أو لانتمائه العرقي (اليهودي عادة).
لذا أعتقد أنه من الأفضل أن نستحضر ميشال فوكو وكتابه "المراقبة والعقاب" .(9)
إن ميشال فوكو يأتي لنا بتعريف جديد للحكم وللسياسة.إن الدولة لا تكتفي بالقمع والردع، بل إنها منتجة ، فاعلة، مؤثرة. في زمن الحداثة، تعني الذاتية، الإرادة، الابتكار، الاختيار، وتعني الحرية والمبادرة.
على أن الذاتية، كمفهوم جديد، مركزي، في أوروبا في القرن الثامن عشر، أوحى للسلطة بأشياء لم تكن في الحسبان . إن الذاتية المطلقة قد تقود إلى التمرد والعصيان، والمجتمع البرجوازي هو في حاجة إلى إنسان شديد الإنظباط. إن المجتمع الإنضباطي هو الوجه الآخر للحداثة السياسية. في تعقيب له لكتاب جريمي بنتام (Jeremy Benttam) : « Le Panoptique »، يرى ميشال فوكو أن الهندسة المعمارية للسجون تدل على الطبيعة الحقيقية للنظام السياسي، حيث أنها تتوخى عزل المعتقلين، ومراقبتهم باستمرار، وتطويع أجسامهم وذواتهم.
هذه السلطة التي يسميها" بيو- سياسية" ، تنفذ إلى أعماق النفس قصد إقبار الذوات المتطلعة إلى الحرية.
لكن هذا لا يساعدنا على فهم تازمامارت ؟
وبالتالي، يجب أن نعود إلى العصر الوسيط ونظام الإقطاع، الذي خصه بدراسات متعددة. فالسلطة في الفكر الوسيط، لم تكن" بيو- سياسية"، إنها تبدو مطلقة، لكنها محدودة في أعمالها وأهدافها، حيث لا تسعى إلى النفاد إلى حياة الناس ولا إلى التأثير في نمط عيشهم، وثقافتهم ومعتقداتهم. إن السلطة الحديثة تسعى إلى إذكاء الروح الانظباطية والامتثالية، أما السلطة في العالم الوسيط فلا تروم ذلك.
إن أنواع التعذيب الذي يتعرض لها السجين، وهي كثيرة ومتعددة في العصر الوسيط، تكاد ترمي به في دهاليز جهنم.
إن السجين، ليس هو المجرم الذي اقترف جريمة من الجرائم، إنه المذنب، العاصي، المتمرد الذي وضع نفسه خارج المجتمع، ولربما خارج العالم الإنساني.
لذا كانت توجد المعتقلات و السجون في مناطق نائية، بعيدة عن المدن، بعيدة عن الحياة، وكأنها تريد تقريب السجين من الموت والفناء.
ويرى مشال فوكو أن أنواع التعذيب، تستبق الآلام التي سيتعرض لها الإنسان في جهنم، إنها تماثل الطقوس الدينية التي يخضع لها الإنسان المذنب، والسجين في العصر الوسيط، والذي لم يقترف جريمة فقط، بل مس بالقداسة، بالألوهية، فالعقاب الذي يتعرض له لاعلاقة له بعالمنا،إنه عقاب إلاهي.
ونخلص إلى هذه النتيجة: إن عنف الدولة، وأنواع التعذيب في السجن، وأماكن المعتقلات وهندستها، كلها ظواهر مليئة بالمعاني والدلالات، إنها تتجاوز مفهوم "المصلحة العليا للدولة" وتبرز طبيعة النظام السياسي والتصور الذي يحمله بصفة مضمرة، تجاه الإنسان والمجتمع وتجاه الأفراد ، ومن خلالها يمكن الكشف عن ثبات النظام واستمرار بنيته والعقلية المرافقة لها ، وعن حقيقة تغيره وتطوره.
المراجع المعتمد عليها
1) F. Meineke : « l’idée de la raison d’Etat dans l’histoire et dans
les temps modernes », éd. Droz , 1973 , p. 70.
2) ) Wolfgang Mommsen : « Max Weber et la politique
allemande », puf, 1985, PP. 59 et s.
3) Carl Shmitt : « Du politique . légalité et légitimité » Ed. Pardes,
1990.
- « la dictature » , cf. en particulier : la dictature dans l’ordre de
l’Etat et du droit existant ; Ed. Seuil ; 2000, P. 17
4) Michel Foucault : « Dits et Ecrits », vol. II, Gallimard , 2001,
P.635
5) Michel Senellart : « la raison d’Etat anti machiavellienne » ; in
« La raison d’Etat : politique et rationalité » , ouvrage collectif
sous la direction de dominique Reynié , ed . puf 1992, P. 15.
6) Germana Ernst : « La mauvaise raison d’Etat : Campanella
contre Machiavel et les politiques » , in « Raison et déraison
D’Etat », ouvrage collectif, sous la direction de yves charles
zarka, puf ,1994 P.101.
- Yves charles zarka , « Raison d’Etat et figure du prince chez
Botero », in Raison et déraison d’Etat, op. ct., P101.
- Enzo Baldini : « Botero et Lucinge : les racines de la raison
d’Etat », in « Raison et déraison… » ,op. ct, P. 67.
7) Dominique Reynié : « De la raison D’Etat à la politique
démocratique : le gouvernement de l’opinion selon Machiavel
et Botero » in « Politiques de l’intérêt » , édité par Christian
lazzéri et Dominique Reynié , presses universitaires Franc-
comtoises, 1998 P.37
- Gaines post : « Ratio publica utilitatis , ratio status et « raison
d’Etat » ,in « Le pouvoir de la raison d’Etat… », op .ct ,P.13
8) Hannah Arendt : « le système totalitaire », seuil, 1992, P.117
- wonfgang sofsky : « l’organisation de la terreur » , calman-
levy, 1995, P.33.
- Enzo traverso : « l’histoire déchirée » , cerf, 1997, P. 93
9) Michel Foucault : « Surveiller et punir » , Gallimard, 1997, P.
P.36 . et s .