التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية

 بسم الله الرحمن الرحيم

التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية

التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية


     الحمد لله رب العالمين و الصلاة على خاتم النبيين نبينا محمد صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا و بعد ... على الصفحات التالية من هذه الورقة البحثية سوف أقوم بدراسة موضوع التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية حيث سأعرض لنشأة و أسباب و مبررات هذا التوجه و مدى حاجتنا للتأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية .


نشأة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية والخدمة الاجتماعية و أسبابه و مبرراته:

على الرغم من أن اتجاه التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية قد يبدو لنا أحيانا وكأنه قد كان يعيش معنا و نعيش معه منذ أمد بعيد -حتى إن الكثيرين قد أصبحوا اليوم يستبطئون ظهور نتائجه أو يستعجلون بلوغه غاية منتهاه- إلا أن عمر هذا الاتجاه لا يزيد على خمس عشرة سنة في صورته المؤسسية الناضجة، أو خمس وعشرين سنة منذ بدء ظهور إرهاصاته الأولى على أكبر تقدير، وهي فترة تعد في حساب العمر الزمني للإصلاحات الفكرية قصيرة جدا.

ولعل السبب في ذلك الشعور الذي يساورنا يرجع إلى أن معايشة القضية ومعاناة همومنا لم تكن في حقيقة الأمر بالشيء الجديد على الكثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أو المعنيين بهموم الأمة، كما أن بعض إرهاصات الإصلاح الفكري المبكرة كانت قد سبقت بوقت طويل ظهور أي كتابات محددة تحت مسمى "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" أو غيره "كأسلمة العلوم"، أو "إعادة صياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية". غير أن روافد هذه الإرهاصات لم يكتب لها أن يتجمع بعضها مع بعض لتكون ما يشبه هذا التيار المحدد الذي نعايشه اليوم إلا منذ وقت قريب.

والحق أن الكثيرين من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية -من ذوي التبصر والنظر- قد تولد لديهم منذ وقت طويل شعور واضح بالتناقض الكبير بين الأسس والمسلمات التي يقوم عليها بناء العلوم الاجتماعية الحديثة التي درسوها والتي يقومون بتدريسها من جانب، والتصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وما يترتب على ذلك التصور من فهم للعلاقة والنظم الاجتماعية من جانب آخر.

ولكن الواقع الأليم لعجز الأمة وتخلفها مقارنا بأحوال الأمم الأخرى المتقدمة صناعيا، وما خلفته تلك الفجوة الحضارية بيننا وبين غيرنا من تصدع في وجدان الأمة، ومن شعور عام بالهزيمة بالنظر إلى الذات، وانبهار بالانتصارات العلمية والتكنولوجية "الحديثة" بالنظر إلى الآخر، كل هذا قد نتج عنه اضطرار المشتغلين بالعلوم الاجتماعية إلى التسليم بالأمر الواقع في تلك العلوم على مضض، كما أن ضغط الواقع على أنفسهم قد حال دون تحديدهم لموقف واضح ومحدد وأصيل من ذلك التناقض الصارخ بين التوجه العام لتلك العلوم الاجتماعية الحديثة (المتأثر بالظروف التاريخية للمجتمعات الغربية) وما يشير إليه التصور الإسلامي لمحتوى تلك العلوم من طريق ينبغي أن تسير فيه. 

إلا أن عوامل عديدة قد تجمعت وتقاربت منذ منتصف القرن العشرين الميلادي ، فتضافرت - بتقدير الله- على تغيير هذا الموقف تغييرا جذريا، وكان من بين هذه العوالم ما يتصل بتطورات الأوضاع في الدول الإسلامية ذاتها (كالتخلص من الاستعمار، والحصول على الاستقلال السياسي؛ وظهور الفشل الذريع للنظم السياسية والاقتصادية"الحديثة" المستوردة، والشعور بوطأة التبعية للدول المسماة بالعظمى وآثارها، ومحاولات البحث عن الذات والشعور بالهوية الإسلامية)، كما كان منها ما يتصل بأوضاع الحياة في الدول المتقدمة صناعيا (كالتقلبات الاقتصادية والسياسية العنيفة، وظهور الآثار المدمرة للتصنيع على البيئة والإنسان، والتنمية الاقتصادية الانتهازية وما ترتب عليها من سوء التوزيع ومشكلات الفقر المزمن، وانتشار الجريمة والعنف، والتفكك الأسري، والاضطرابات النفسية)؛ وكان منها ما يتصل بالاكتشافات العلمية الرائعة (نظرية النسبية، نظرية الكم، مبدأ عدم التيقن، تطورات علوم الأعصاب الحديثة، فلسفة العلم الجديدة) التي أظهرت خطأ -بل خطيئة- النـزعات المادية المجدبة التي سادت العلوم وفلسفتها منذ القرن التاسع عشر، تلك الاكتشافات التي اقتضت إعادة نظر جذرية في الطريقة التي يرى بها العالِم العالَم، كما اقتضت إعادة نظر جذرية في مناهج البحث التي يصطنعها العلماء للبحث عن الحقيقة.

ولقد نشأ عن تفاعل هذه العوامل جميعها، وعن بدء تشربها في الوجدان المسلم، شعور بضرورة المراجعة الجذرية للمواقف الانهزامية والدفاعية التي أملتها معايشة واقع الهزيمة والخذلان المر الذي عاشه المسلمون على مدى قرنين من الركود والتخلف والقهر، كما ترتب عليها التخفف من وطأة الشعور بانعدام الحيلة التي سادت ردحا من الزمن، فشّلت القدرات الابتكارية لدى أبناء الأمة وقادتها المثقفين. ولعل من الأمور ذات الدلالة الخاصة في هذا الصدد أن ذلك الشعور المتجدد بالهوية الإسلامية، وتلك الرغبة العارمة، في إزاحة كابوس التخلف من خلال التركيز على إصلاح الفكر والمنهج فيما أصبح يعرف بإسلامية المعرفة، قد كان أكثر لدى طلائع من أبناء الأمة المثقفين الذين كانوا يدرسون أو يدرّسون في الدول المتقدمة صناعيا، فجعلهم ذلك في موقع التماس أو الاحتكاك بين الحضارتين، فأعطاهم بصرا واضحا ومتوازن بواقع الحال دونما انهزامية لا مسوِّغ لها أو انبهار لا معنى له. وقد انبثق من هذا كله تيار فكري محدد المعالم، ظهر في عدد من الكتابات والمؤتمرات والمؤسسات التي أعطت القضية بعدا جديدا وانطلاقة جديدة على الوجه الذي نراه ونعايشه اليوم في إطار حركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية.

وعلى الرغم من الأمة لم تعدم في أي وقت من الأوقات -بفضل الله- أن تجد من بين أبنائها مفكرين ذوي بصر ثاقب ورؤية واضحة مستقيمة، يدركون الحاجة إلى تصحيح المنهج و إصلاح الفكر من أمثال سيد قطب ومحمد قطب، ومالك بن نبي، ومحمد الغزالي، وغيرهم، إلا أن معظم هؤلاء قد جاءوا أفذاذا غير مجتمعين على تيار واحد في أغلب الأحوال، كما أنهم لم يعنوا بإنشاء مؤسسات محددة، تستطيع أن تستوعب رؤاهم، وأن تخرجها إلى حيز الواقع من خلال جهود جماعية قابلة للتراكم. وحتى أولئك الذين تمكنوا من إقامة تلك البناءات كان توجههم إلى العامة -بدلا من التوجه المحدد إلى المتخصصين للعمل معا على إصلاح الفكر والمنهج- قد اضطرهم إلى خوض المطالبات السياسية القريبة التي استنفذت طاقات كان يمكن أن توجه بشكل أكثر فاعلية إلى بناء القواعد العلمية والفكرية والمنهجية التي لا يتم بدونها إصلاح. .( رجب , 1416هـ , ص19-21)

فإذا رجعنا إلى قضية تحديد نقطة البدء لحركة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بوصفها أحد أوجه حركة أسلمة المعرفة أو أسلمة العلوم بصفة عامة، فإن بوسعنا أن نشير هنا إلى عدد من التطورات المهمة التي يمكن أن نعدَّ أية واحدة منها بمنـزلة نقطة الانطلاق في التأريخ لهذه الحركة وهي:

1. تأسيس جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين من قبل اتحاد الطلبة المسلمين بالولايات المتحدة وكندا بناء على اقتراح من عبد الحميد أبو سليمان في عام 1392ﻫ/1972م، تلك الجمعية التي جدَّت في البحث عن سبل الإصلاح من منطلقات فكرية وتخصصية وعلمية أصيلة، كما قادت الجهود الرائدة التي بذلت في هذا الاتجاه، تلك التي ظهرت ثمارها في التطورات التالية. 

2. انعقاد أول مؤتمر عالمي للاقتصاد الإسلامي -بناء على توصيات المؤتمر الثاني للندوة العالمية للشباب الإسلامي– في جامعة الملك عبد العزيز عام 1384ﻫ/1974م. 

3. انعقاد المؤتمر العالمي الأول للتربية الإسلامية في مكة المكرمة (بدعوة من جامعة الملك عبد العزيز بجدة) عام 1397ﻫ/1977م. 

4. انعقاد الندوة العالمية الأولى للفكر الإسلامي في لوجانو بسويسرا عام 1397ﻫ/1977م، حيث انتهت إلى الدعوة إلى إنشاء "المعهد العالمي للفكر الإسلامي" لقيادة جهود "إسلامية المعرفة" 

5. إنشاء المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1401ﻫ/1981م، 

6. سلسلة اللقاءات العالمية لمؤتمرات إسلامية المعرفة .

7. نشر كتاب "إسلامية المعرفة: المبادئ العامة -خطة العمل- الإنجازات" 

8. كان عام 1402ﻫ/ 1982م يبدو كواسطة العقد بين هذه المعالم البارزة على طريق جهود أسلمة المعرفة بصفة عامة وأسلمة العلوم الاجتماعية بصفة خاصة، وذلك يسمح باعتبار بداية القرن الهجري الخامس عشر (بداية العقد التاسع من القرن العشرين الميلادي) بالنسبة لجمهور المثقفين بوجه عام بدء هذه الحركة في صورتها المؤسسية الناضجة من حيث وضوح أبعادها وبدء انتشارها على نطاق واسع.

ولقد توازى مع هذه التطورات في الوقت ذاته، وفي مختلف أرجاء العالم الإسلامي، شعور الجامعات الإسلامية -التي تضم كليات للعلوم الاجتماعية أقساما لفروعها- بأنه ليس من المقبول أن يتم في إطار تلك الكليات والأقسام نقل نظريات العلوم الاجتماعية -المنطلقة في جملتها من تصورات مادية أو إلحادية صارخة- وتدريسها لطلابها، بدون إخضاعها للتمحيص والنقد الصارم، خصوصا أن الهدف من إنشاء تلك الكليات والأقسام في جامعات إسلامية كان إصلاح توجهات تلك التخصصات. فبدأت تلك الجامعات في ذلك الوقت بجهود نشطة لتنقية المواد والمراجع التي تدرَّس فيها مما يخالف التصور الإسلامي مخالفة واضحة، ثم انتهت إلى تبني سياسات واضحة تستهدف بذل جهود مؤسسية منظمة لتحقيق "التأصيل الإسلامي" للعلوم الاجتماعية، وهو اصطلاح تم صوغه في تلك الجامعات-وخصوصا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالمملكة العربية السعودية- والتي شارك في وضع خطة كلياتها للعلوم الاجتماعية ممثلون لكل من جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين والمعهد العالمي للفكر الإسلامي بطلب من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وقد اعتبر مصطلح تأصيل المعرفة تأصيلا إسلاميا بديلا أو مرادفا لمصطلح إسلامية أو أسلمة المعرفة، عودا إلى الأصول وتخفيفا لما قد يتوهم من اهتمام زائد وغير مسوغ بالمصادر الغربية.

ثم إن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واتحاد الجامعات الإسلامية والجامعات الأعضاء فيه، وخصوصا جامعة الأزهر وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كل أولئك نظموا عددا من المؤتمرات والندوات، وقاموا بطباعة عدد من الكتب والبحوث والمقالات التي أسهمت في إيصال الفكرة إلى أعداد كبيرة من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية. 

أما مجلة المسلم المعاصر فقد قامت أيضا بعمل رائد في نشر المقالات والبحوث التي تخدم قضية التأصيل الإسلامي للعلوم، خاصة الاجتماعية منها باللغة العربية. كما قامت المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية American Journal of Islamic Social Sciences (AJISS) الصادرة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل ذاته باللغة الإنجليزية. وهذا أدى في النهاية إلى تبني القضية من جانب أعداد لا حصر لها من الأفراد المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في كل الجامعات العربية وغيرها من جامعات الدول الإسلامية تقريبا، حتى تلك الجامعات التي لم تتبنَّ الفكرة بشكل مؤسسي بعد. ( رجب , 1416هـ , ص21-24)

ولعل أحدث الجهود في هذا المجال هو إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي مجلة عربية متخصصة في قضايا إسلامية المعرفة وتحمل الاسم نفسه.

التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية :

لعل من المناسب أن نبدأ بتعريف أسلمة العلوم حتى نصل لمفهوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية و نستعين في هذا الصدد بإيراد التعريف الكلاسيكي "لأسلمة العلوم" الذي قدمه الدكتور إسماعيل الفاروقي يرحمه الله في عام 1982 ، والذي لقي قبولا واسعا لدى المتخصصين في مختلف العلوم والمهن ، حيث عرف أسلمة العلوم ببساطة بأنها "إعادة صياغة العلوم في ضوء الإسلام " ... (الفاروقي ، 1982م , ص 14) وقد فصّل المقصود بذلك بقوله أن ذلك يتضمن "إعادة تحديد وترتيب المعلومات ، وإعادة تقويم النتائج ، وإعادة تصور الأهداف ، وأن يتم ذلك بطريقة تمكّن .. من إثراء وخدمة قضية الإسلام" (الفاروقي ، 1986 م , ص 54).

و في ضوء ذلك يمكن تعريف التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية بأنه:

"عملية بلورة أبعاد التصور الإسلامي للطبيعة البشرية والسنن النفسية والاجتماعية التي تحكم السلوك البشرى والتنظيمات المجتمعية، وكذلك لأسباب المشكلات الفردية والاجتماعية، واستخدام هذا التصور لتفسير الحقائق العلمية الجزئية التي تعتمد عليها المهنة من جهة، ولتوجيه القيم المهنية التي تبنى عليها نظرية الممارسة وأساليب التدخل المهني من جهة أخرى".

ومن هذا التعريف يتبين لنا ما يلي:

1- أن التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية "عملية" مستمرة تتطلب القيام بإجراءات منهجية منظمة للوصول إلى نتائج معينة ، حيث تتراكم تلك النتائج باضطراد بشكل يقربنا من الهدف المتمثل في إعادة صياغة معارف ومبادئ المهنة وطرقها في التدخل بشكل لا يجوز القول فقط بأنه "يتمشى" مع التصور الإسلامي ، ولكن نقول أنه "ينطلق" من هذا التصور ويهتدي بهداه بشكل أساسي .

2- أن عملية التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية ستتطلب في البداية بذل جهود نشطة ومكثفة وواسعة النطاق نتمكن من خلالها من بلورة ذلك التصور الإسلامي واستكشاف أبعاده والتعرف على حدوده ، لكي نقوم في ضوء ذلك من إسقاط هذا التصور على نظرية الممارسة الحالية واستبعاد ما لا يتوافق معه ، ثم البناء على قواعد هذا التصور وعلى ما يصمد من الأطر التصورية التفصيلية المستمدة من المشاهدات المحققة ومن خبرات الممارسة ، حتى يبلغ الأمر غايته بظهور نظرية الممارسة المنطلقة من التصور الإسلامي ( المواكب لمستوى المعرفة العلمية المتاحة عند تلك النقطة من الزمن)، حتى إذا انتهينا إلى مرحلة الاستواء - التي يصبح فيها هذا التوجه هو التوجه السائد The paradigm - فإن إيقاع النشاط العلمي يعود إلى معدله الطبيعي المعتاد الذي لا تحده إلا حدود الإمكانات البشرية والمادية والتكنولوجية ، والذي يحدوه فضل الله سبحانه وتعالي وما قدره الناس من رزق "معرفي" ببالغ حكمته ورحمته.

3- إن من الطبيعي أن يقدم التعريف مهمة " بلورة التصور الإسلامي" على غيرها من المهام ، باعتبارها تمثل " البعد الغائب " في التصورات التقليدية للخدمة الاجتماعية (وغيرها من المهن والعلوم الاجتماعية) على الوجه الذي وصلتنا به من الغرب ، فمراجع الخدمة الاجتماعية وممارساتها غاصة بالمعارف المستمدة من إسهامات العلم الحديث - أيا كانت قيمتها الحقيقية ، وأيا كانت درجة رضائنا عن وصف تلك الإسهامات بالعلمية أصلا - كما أنها غاصة بنظريات الممارسة وطرق التدخل المنطلقة من المنطلقات الغربية ، وليست قضية التوجيه الإسلامي اليوم - كما يظن بعض المتعجلين للنتائج - هي قضية ترجيح أي من هذه المنطلقات النظرية على الآخر بزعم أنها أقرب للتصور الإسلامي ، ولكن قضيتنا الأساسية هي أولا وقبل كل شىء هي قضية تحديد أبعاد "التصور الإسلامي" الذي يمكننا في ضوئه الحكم على تلك المنطلقات أو الإضافة إليها.

4- ويلاحظ أن "التصور الإسلامي" للإنسان والكون والحياة ، وللسنن النفسية والاجتماعية ، ولأسباب المشكلات الفردية ، لم تتم خدمته حتى الآن بطريقة منظمة تصلح للاستفادة منه بشكل مباشر في صياغة نظريات الممارسة في الخدمة الاجتماعية ، والمهنة أحوج ما تكون اليوم إلى بلورة ذلك التصور وصياغته في شكل قضايا تضمها أنساق استنباطية يمكن أن تستمد منها الفروض لاختبارها في الواقع ، كما يمكن ضمها في جوانبها "القيمية" إلى المشاهدات"المحققة واقعيا" لتكوين نظرية الممارسة.

5- وبهذا تتحدد وظائف " التصور الإسلامي" المستمد من فهمنا للكتاب والسنة الصحيحة في مقابل المصادر الاجتهادية التفصيلية "البشرية" للوصول إلى المعرفة ( والتي تتمثل في الملاحظات الجزئية التي يتم التوصل إليها باستخدام المنهج العلمي الصحيح، كما تتمثل في المبادئ التي تم التوصل إليها من خلال خبرات الممارسة ) على الوجه التالي:

أ- التصور الإسلامي للطبيعة البشرية ، وللسنن النفسية والاجتماعية ، ولأسباب المشكلات الفردية والاجتماعية ، يعتبر بمثابة "الإطار النظري" الذي يفسر ويربط بين المشاهدات أو الملاحظات الجزئية المحققة ، كما يقدم الفروض التي توجه إلى مزيد من البحوث بما يخدم القاعدة المعرفية للمهنة.

ب- يوجه هذا التصور الإسلامي جهود المهنيين في الممارسة - حتى في الجوانب التي لم يتم التحقق من صدقها بعد بطريقة علمية منظمة - ويصبح هذا التصور بالتالي جزءا لا يتجزأ من عناصر الإطار الفكري الذي يتم في ضوئه التوصل إلى "خبرات" الممارسة التي يمكن تعميمها (والتي تسمى في الكتابات المهنية "حكمة الممارسة").

ج- يعتبر "التصور الإسلامي" المشار إليه حجر الزاوية في تحديد القيم الأهداف النهائية التي تتم الممارسة في ضوئها ، وذلك على اعتبار أن هذا التصور يتضمن توصيف الأهداف النهائية والشاملة لحياة البشر ( العملاء منهم والأخصائيين الاجتماعيين) كما يتضمن التوجيهات الإلهية لصلاح حياتهم في الدنيا ولحسن عاقبتهم في الآخرة ، وبطبيعة الحال فإن هذا التصور الشامل يترك مجالا لقيم تفصيلية ومبادئ محددة تلائم مختلف المواقف التي تواجه الأخصائي الاجتماعي خلال عمله اليومي ، وهذه لابد فيها من اجتهادنا البشرى في ضوء التصور الشامل وفي إطاره.

6- وهذا يقودنا إلى ما جاء في نهاية التعريف مما يشير إلى مكان الاجتهاد البشرى في التوصل إلى ، والاستفادة من ، الدراسة العلمية المنظمة للظواهر ، والي استنباط المبادئ الجزئية التفصيلية الموجِّهة للمواقف العملية المحددة ، وإلى ابتكار أساليب التدخل الإجرائية الملائمة ، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام الاستفادة بنتائج البحوث العلمية الحديثة سواء في العلوم التأسيسية أو في بحوث الخدمة الاجتماعية ذاتها ، والاستفادة من ما يتبلور لدى غيرنا من مبادئ جزئية أو من طرق حديثة للتدخل ، على أن يتم ذلك كله في نطاق التصور الإسلامي الشامل على الوجه المشار إليه.

وإذا ما حاولنا تقدير موقفنا الراهن في ضوء هذا التعريف يتبين لنا أننا لازلنا في بداية الطريق نحو التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية ، فبالرغم من أن المكتبة الإسلامية زاخرة والحمد لله بالمراجع والكتب القيمة في مختلف فروع المعرفة الشرعية ، إلا أننا لازلنا بحاجة إلى جهود كبيرة تبذل لاستخلاص ما نحتاجه في محيط الخدمة الاجتماعية من صياغة "التصور الإسلامي" للإنسان والمجتمع والكون في شكل قضايا مترابطة تمثل نسقا استنباطيا يمكن استخدامه بشكل مباشر في توجيه نظريات الممارسة المهنية ، وبطريقة يمكن أن نستمد منها فروضنا العلمية لاختبارها في بحوث الخدمة الاجتماعية.

كما أننا لم ننهي بعد مهمة المراجعة النقدية الجادة للكتابات الحديثة في محيط الخدمة الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي، ولازالت نظريات الممارسة المنطلقة من الأنساق القيمية للمجتمعات التي تقدمت فيها الخدمة الاجتماعية - خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية - توجه الكتابات المهنية للخدمة الاجتماعية في كل أرجاء العالم الإسلامي، باستثناء محاولات محدودة الحجم والأثر على ما يتم تدريسه رسميا في إطار الخطط الدراسية ومحتويات المقررات في كليات ومعاهد وأقسام الخدمة الاجتماعية.

أما عن مهمة إيجاد "التكامل الحقيقي" بين نظريات الممارسة المهنية الحديثة من جانب وبين التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون من جانب آخر فإن من الواضح أن تلك المهمة لا تزال تنتظر تحقيق التقدم على الجبهتين السابقتين حتى يمكن أن تبدأ. ومع ذلك فإن معالم الطريق ولله الحمد قد باتت واضحة، وحاجتنا الحقيقية هي إلى أن نعقد العزم، ونعد العدة، ونجدّ في السير، فالنور واضح في نهاية النفق المظلم - كما يقولون - ومن هنا فقد يكون مما يفيد هذه المسيرة المباركة أن نجتهد هنا لوضع بعض الخطوط والمؤشرات العامة حول أبعاد التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية، قُصد منها أن تكون بمثابة نقاط مبدئية يمكن أن يبدأ حولها الحوار العلمي، الذي نرجو أن يعاون بمشيئة الله على بلوغ الهدف وتحقيق المأمول بفضله وإكرامه. (رجب , 1421هـ)

وقد يتساءل البعض منا هل فعلا نحن بحاجة إلى التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية في المجتمعات المسلمة؟ فأقول نعم بل نحن في أمس الحاجة إلى ذلك خاصة في ايامنا هذه التي تتسم بقفزات هائلة من التغير الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في عصر العولمة الشمولية وتعلى من شأن الماديات لدرجة كبيرة وتغفل باقي الجوانب رغم أهميتها البالغة خاصة الدين الذي تربطه بالخدمة الاجتماعية علاقة وثيقة وتدين له بقسم كبير في نشأتها وظهورها (الدباغ , 1415هـ، ص 12).

فأسلمة الخدمة الاجتماعية باتت عملية مبررة و مطلوبة بصورة أكبر في مثل هذه الأوقات ، حيث التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية في هذا المقام  يقوم على أساس من عدم التفريط في النتائج العلمية التي توصل إليها المتخصصون في الخدمة الاجتماعية ، بشرط ألا نعزو لتلك النتائج أي قدر زائد من الصدق الزائد الذي يخرج عما تستحقه تلك النتائج في ضوء التحليل النقدي  و الموضوعي الرصين ، كما يقوم التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية من جهة أخرى على الاعتقاد بأن العلم - شأنه في ذلك شأن أي نشاط إنساني آخر مما يقوم به المسلم في حياته الدنيا - ينبغي أن يهتدي بنور العقيدة الصحيحة ، وأن ينضبط بضوابط الشريعة ، وبالتالي فإن هذا التوجه يجمع بين الإفادة من : هداية الوحي ومن اجتهاد البشر بطريقة تتمشى بشكل دقيق مع ما قصد لكل منهما من وظيفة في التصور الإسلامي .

والله الموفق ...


المراجع


1- الدباغ ، عفاف إبراهيم (1994) "المنظور الإسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية " مكتبة المؤيد , الرياض .

2- الفاروقى، إسماعيل (1982) " أسلمة المعرفة " ، المسلم المعاصر، العدد 32 ،م - 1402هـ.

3- الفاروقي ، إسماعيل (1986) إسلامية المعرفة ، ترجمة د. عبد الحميد أبو سليمان (واشنطون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي).

4- رجب ، إبراهيم عبد الرحمن  (1421هـ) "الإسلام و الخدمة الاجتماعية  " القاهرة .

5- رجب ، إبراهيم عبد الرحمن  (1416هـ) "التأصيل الإسلامي للعلوم  الاجتماعية  " دار عالم الكتب , الرياض .


ابحث عن موضوع