المقدّمة
إن الإثبات نظرية من أكثر النظريات القانونية تطبيقا في الحياة العملية، بل هي محور العمل المنوط بالقاضي فيما يعرض عليه من نزاعات، وكما هو معلوم فإن الدعوى القضائية التي يكون مصيرها عدم التأسيس، يعود السبب في ذلك إلى افتقار صاحبها إلى الأدلة والأسانيد التي تثبتها؛ ومن ثمة الحصول على الحق محل النزاع الذي يثبته. ولما كان موضوع بحثنا متعلقا بطرق الإثبات، وبالتدقيق البينة والقرائن في الإثبات من حيث قوتهما وحجيتهما في ذلك، وهذا تحت عنوان: "قوة البينة والقرائن في الإثبات" فيتضح من خلال العنوان أن موضوع البحث يقتصر على دراسة هذين الطريقين من طرق الإثبات على المادة المدنية "LA MATIERE CIVILE "رفعا لكل لبس، بدليل أن اصطلاح البينة مستعمل من طرف المشرع المدني فقط ومن ثم فإن إطار موضوعنا محدد، وإن كان المشرع الجزائري بموجب التعديل ما قبل الأخير الذي ألحقه بالقانون المدني بموجب القانون رقم 05– 10 المؤرخ في 20 جوان2005، قد تخلى عن اصطلاح "البينة واستبدله بشهادة الشهود" لأنهما بنفس المعني الاصطلاحي، غير أن اصطلاح " شهادة الشهود" يؤدي المعنى مباشرة.
والأصل في البينة (شهادة الشهود) والقرائن في الإثبات المدني أنها طرق إثبات ذات قوة أو حجية محدودة، كما أنهما طريقا إثبات متعادلين من حيث حجيتهما وقوتهما، ومن المعلوم أن كليهما أضعف من الكتابة ذات الحجية والقوة المطلقة في الإثبات، وتوضيحا أو إجابة عن سؤال كيف أن البينة (شهادة الشهود) والقرائن القضائية ليست طرقا أصلية في الإثبات المدني إلا في نطاق محدود هو أنهما طريقان مكملان للإثبات عند وجود بداية ثبوت بالكتابة، وهما طريقان بديلان عند وجود مانع يحول دون الحصول على دليل كتابي، أو يحول دون الحصول على تقديمه بعد الحصول عليه.
لنصل إلى طرح الإشكال القانوني، فإذا كنا نعلم أن مناط الإثبات القانوني هو الوقائع القانونية، وكان من المعلوم أن الوقائع القانونية تتفرع إلى تصرفات قانونية ووقائع مادية، وكان الأصل في شهادة الشهود (البينة) والقرائن القضائية هو محدودية الحجة والقوة، كما كان من المعلوم أن التصرفات القانونية تتفرع إلى نوعين، مدنية وتجارية، فالسؤال المطروح: هل حجية أو قوة شهادة الشهود والقرائن القضائية محدودة بالنسبة لجميع التصرفات سواء كانت مدنية أو تجارية؟ وهل حجية أو قوة البينة (شهادة الشهود) والقرائن القضائية محدودة بالنسبة لجميع حالات الإثبات سواء كانت تتطلب الكتابة أو حلف اليمين، وبعبارة أخرى ما هي مجالات الإثبات التي يكون فيها لشهادة الشهود (البينة) والقرائن القضائية حجية مطلقة؟ وما هي المجالات التي يكون فيها لهذين الطريقين حجية محدودة؟.
والحقيقة أن مسألة القوة أو الحجية المطلقة لشهادة الشهود و القرائن القضائية، والقوة أو الحجية المحدودة لهذين الطريقين مسألة ثابتة بنصوص القانون، ومن ثم فإن المشرع هو من جعل هذا الطريق من طرق الإثبات ذو حجية محدودة، و جعل طريقا آخر ذا حجية مطلقة عليه فإن محور البحث أو هو معرفة الأسباب حول قوة وسيلة إثبات ما، بصفة مطلقة في مجال ما، ومحدود يتها في مجال آخر.
ويعود سبب اختيارنا لهذا الموضوع لأهميته، باعتبار أن الإثبات هو العمل الذي يقوم عليه عمل القاضي ولا ينقطع عنه طوال مساره المهني، ومن ثم فإن معرفة هذه النظرية وبحثها في شق منها تعد من الأهمية بمكان بالنسبة إلى القاضي، وبسبب هذه الأهمية فإن البحوث والدراسات والرسائل الجامعية لم تنقطع عن دراسته، باعتبار أن الإثبات نظرية من أكثر النظريات تطبيقا في الحياة العملية ولا تنقطع المحاكم عنه يوما واحدا، وهو موضوع مهم للقاضي كما هو موضوع مهم لجميع دارسي القانون والمتقاضين، لأنه عن طريق الإثبات يتم الحصول على الحق المتنازع حوله.
والمشرع الجزائري نص على نظام الإثبات في الباب السادس من الكتاب الأول من التقنين المدني الصادر بموجب الأمر رقم 75– 58 المؤرخ في 20 رمضان 1395 الموافق لـ 26 سبتمبر1975 المتضمن القانون المدني المعدل والمتمم، وقد نص المشرع بموجب هذا القانون على طرق الإثبات المختلفة فخصص لكل طريق فصلا ورتبها على التوالي كما يلي: 1) الكتابة، 2) الإثبات بشهادة الشهود، 3) القرائن، 4) الإقرار، 5)اليمين.
ونحن بحثنا – كما سبق الإشارة إلى ذلك – مقصور على شهادة الشهود و القرائن القضائية في الإثبات.
ولعل أحسن منهج بحث يتطابق مع هذا الموضوع المختار هو المنهج التحليلي: تحليل المضمون، والمنهج الاستدلالي الذي يقوم على الاستدلال من خلال معطيات معلومة للوصول إلى فهم عناصر غامضة أو مبهمة.
وقد اتبعنا في دراسة الموضوع الخطة التالية:
الخطـــــــــــــــة
قوة البينة والقرائن في الإثبات
1) المقدمة
2) الموضوع:
- مبحث تمهيدي : نظرة عامة في الإثبات.
أولا : تعريف الإثبات وموقعه في القانون.
ثانيا : المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها الإثبات.
ثالثا : مسائل الإثبات .
رابعا : حصر طرق الإثبات في القانون المدني الجزائري
- المبحث الأول : ماهية البينة و القرائن كطريقين من طرف الإثبات
المطلب الأول : البينة
المطلب الثاني : القرائن .
الفرع 1 : القرائن القضائية .
الفرع 2 : القرائن القانونية.
- المبحث الثاني : قوة البينة و القرائن في الإثبات.
المطلب الأول : قوة البينة و القرائن في الإثبات .
المطلب الثاني : قوة الإثبات المحدودة للبينة والقرائن.
الفرع الأول : القاعدة أو الأصل العام .
الفرع الثاني : الاستثناءات .
3) الخاتمة
مبحث تمهيدي
نظرة عامة في الإثبات
نتناول في هذا المبحث التمهيدي تعريف الإثبات باعتباره المحور الذي تقوم عليه هذه الدراسة، كما نتناول أهميته ومكانته في القانون كعنصر أول، ثم نتطرق إلي المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها الإثبات في عنصر ثان، ومنها مبدأ النظام القانوني الذي يحكمه، ومبدأ حياد القاضي، ثم مبدأ دور الخصوم أو المتقاضين في الإثبات، وفي عنصر ثالث نتناول المسائل الأساسية التي يتمحور حولها الإثبات وهي محل الإثبات، والخصم الذي يقع عليه هذا العبء، ثم نتطرق في عنصر رابع إلي حصر طرق الإثبات المختلفة.
أولا: تعريف الإثبات وأهميته وموقعه في القانون.
1) تعريف الإثبات وأهميته:
"الإثبات هو إقامة الدليل أمام القضاء، بالطرق التي حددها القانون، على وجود واقعة قانونية ترتبت آثارها"[1].
و"الإثبات في لغة القضاء هو تأكيد مزاعم الخصم أو دفاعه بالدليل الذي يبيحه القانون بهدف إقناع القاضي بوجاهتها وصحتها حتى يقضى له بها"[2] .
وعلى هذا يمكن الاستنباط من هذين التعريفين أن الإثبات المقصود فيهما هو الإثبات القانوني وليس أي نوع آخر من الإثبات كالإثبات التاريخي -علي سبيل المثال وليس الحصر-لأن الإثبات القانوني لا يكون إلا أمام القضاء، كما لا يكون إلا بالطرق التي رسمها المشرع في القانون.
فالإثبات بالمعني القانوني هو غير الإثبات بالمعنى العام، فالإثبات بالمعني العام لا يتخصص بأن يكون أمام القضاء ولا بأن يكون بطرق محددة، بل هو طليق من هذه القيود فالباحث في التاريخ يستجمع أدلته على صحة الوقائع التاريخية التي يقررها من المستندات التي تحت يده أو من أية طريقة أخرى يراها كافيه للإثبات، وهذا هو شأن الباحث في أي علم[3].
إذن فالإثبات بهذه المقارنة هو إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق المحددة قانونا على واقعة قانونية ينازع في عدم صحتها أحد المتقاضي، وإن كان الإثبات القضائي و العلمي يشتركان معا في هدف واحد هو الوصول إلى الحقيقة، إلا أن الإثبات العلمي وسائله كثيرة ومتعددة على خلاف الإثبات القضائي، غير أن الحقيقة العلمية تبقي دائما محل دراسة وتجديد، بينما الحقيقة القضائية تنتهي عند اكتشافها من طرف إلى غاية أن يحوز الحكم القضائي الصادر بشأنها قوة الشيء المقضي فيه باستنفاده لطرق الطعن.
ويستخلص من كل هذا، هو اتفاق فقهاء القانون على خصوصية الإثبات القضائي بكونه لا يكون إلا أمام القضاء وبالطرق المرسومة من قبل المشرع حول عدم صحة واقعة قانونية سواء كانت تصرنا قانونيا أو واقعة مادية.
وإذا كان الغرض المتوخى من الإثبات هو التواصل إلى الحصول على الحق المفقود أو الحق الذي نشأ حوله نزاع فإن ذلك لا يكون إلا وفق ما رسمه المشرع في نصوص القانون، بحيث يكون أمام القضاء، طبقا لما ينص عليه القانون، ولا يستجيب له القاضي إلا إذا أقام الدليل على وجود هذا الحق.
وهنا تتضح أهمية الإثبات، فهو الباب الذي يفتح عن طريق الدليل للحصول على الحق، فالمتقاضي الذي يرفع دعواه دون أن يسلك في ذلك طريق الإثبات المرسوم من طرف المشرع، ويقيم الدليل على صحة دعواه بموجب هذا الدليل لا يمكنه الحصول على حقه المفقود أو المتنازع حوله.
فالحق يتجرد من قيمته ما لم يقم الدليل على الحادث المبدئي له، قانونيا كان الحادث أو ماديا، والواقع أن الدليل هو قوام حياة الحق ومعقد النفع منه.
2) مكان الطرق المدنية في الإثبات من فروع القانون:
تختلف التشريعات في وضع طرق الإثبات، فمنها من وضعتها في قانون المرافعات (الإجراءات المدنية في الجزائر) كالتشريع الألماني والتشريع السويسري، وهناك من التشريعات من وضعتها في قانون خاص مستقل عن القوانين الأخرى وأسمتها قانون الإثبات كالقانون الإنجليزي، والقانون المصري في تشريعه المؤرخ في 30/05/1985 تحت رقم25/68 والذي أسماه قانون الإثبات.
وهناك بعض التشريعات من قسم الطرق المدنية في الإثبات إلي قسمين: قسم شكلي ووضعه في قانون الإجراءات المدنية، وقسم موضوع وضعه في القانون المدني.
وهو ما سلكه المشرع الفرنسي واقتفى أثره فيه المشرع الجزائري.
وقد نص المشرع الجزائري على القسم الموضوعي المتضمن طرف الإثبات في الباب السادس من الكتاب الثاني ابتداء من المادة 323 إلى المادة 350 من القانون المدني، أما الجانب الإجرائي أو الشكلي فقد نص عليه في قانون الإجراءات المدنية في الباب الثالث من المادة43 إلى المادة80، لكن تجدر الإشارة إلي أن هذا التقسيم ليس صارما من طرف المشرع إذ أنه لم يقم بحصر القواعد الموضوعية في القانون المدني والقواعد الإجرائية في قانون الإجراءات، بل أحيانا نجده ينص علي قواعد موضوعية في صلب قانون الإجراءات المدنية وعلى سبيل المثال نص المادة 61 من قانون الإجراءات المدنية التي ينص بموجبها المشرع علي جواز إثبات الوقائع التي تكون قابلة للإثبات بشهادة الشهود، فنص هذه المادة لا يتعلق بإجراء من إجراءات الإثبات بل بموضوع الإثبات بشهادة الشهود حول الوقائع القابلة للإثبات بهذا الطريق والمادة 35 من قانون الإجراءات المدنية التي تنص على أنه يحكم في غيبة الخصم المتخلف عن الحضور بدون عذر مقبول" فهي قاعدة موضوعية ومفادها أنه يحكم ضد الخصم المتخلف على الحضور تأسيسا على البينة و القرائن في الأحوال التي ما كان يجوز فيها ذلك[4].
ثانيا : المبادئ الرئيسية التي يقوم عليها الإثبات
الإثبات يقوم على مبادىء أساسية ثلاثة، فهو عبارة على نظام ينص عليه القانون وينظمه القانون، ومن ثمة فهو نظام قانوني وعلى أساس أنه يتم أمام سلطة قضائية فإن قواعد العدالة والإنصاف تقتضي أن يكون القاضي الذي ينظر الخصومة ويفصل فيها ملتزما بمبدأ يسمى مبدأ حياد القاضي عن الخصوم، وقد تكرس هذا المبدأ في نصوص القانون فيما يعرف بحق رد القاضي وحق مخاصمة القاضي في حالة إخلاله بهذا المبدأ، وعلى هذا فإن لأطراف الدعوى دورا إيجابيا في إثبات دعاواهم وهما يعرف بحق الخصم في الإثبات.
إن هناك تعاونا وثيقا في الإثبات بين القانون والقاضي والخصوم، فالقانون يبين طرق الإثبات ويحدد قيمة كل منها، والقاضي يطبق القواعد التي يقررها القانون في ذلك، والذي يتمتع بشيء غير قليل من حرية التقدير، والخصوم هم الذين عليهم وفق هذا المبدأ أن يقدموا الأدلة على صحة دعاواهم، وذلك على الوجه الذي رسمه القانون، ولكل خصم الحق في مناقشة الأدلة التي يقدمها خصمه وفي تفنيدها وإثبات عكسها[5]، وستتناول هذه المبادئ في ثلاثة عناصر:
1) مبدأ النظام القانوني للإثبات:
إذا كان المشرع من خلال التقنين الذي يضعه فينص من خلاله على القواعد العامة للإثبات، فإن هدفه من وضع هذه القواعد هو الوصول إلى الحقيقة التي يصدر بشأنها حكم قضائي وهي الحقيقة التي يصطلح عليها الفقه بالحقيقة القضائية، فالحكم القضائي عندما يصدر يكتسب الحجية-حجية الشيء المقضي فيه- فهو يعبر عن حقيقة قضائية تم التوصل إليها بطرق إثبات نص عليها القانون، والقاضي في تطبيقه للقانون لا تهمه الحقيقة الواقعة إلا إذا تم إثباتها بالطرق التي رسمها المشرع في القانون، ولذا فإن الحقيقة القضائية قد تكون بعيدة عن الواقع ومتعارضة معه ولكن تم التوصل إليها بطريق قانوني نص عليه المشرع فتكون هي الحقيقة وتكتسب الحجية رغم مخالفتها للواقع. وفي هذا الإطار اختلفت التشريعات في مدى إطلاق يد القاضي من تقييدها في إثبات الوقائع والتصرفات وهنا نجد ثلاثة مذاهب:
أ)- المذهب الحر في الإثبات:
في المذهب الحر أو المطلق لا يرسم القانون طرقا محددة للإثبات يقيد بها القاضي بل يترك الخصوم أحرارا يقدمون الأدلة التي يستطيعون إقناع القاضي بها، ويترك القاضي حرا في تكوين اعتقاده من أي دليل يقدم إليه، وهذا المذهب يقرب كثيرا ما بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعة لمصلحة العدالة[6] وقد ساد هذا المذهب في المجتمعات القديمة، فكان الخصوم المتقاضون يتمتعون بالحرية في تقديم الدليل القاطع على أحقيتهم في الشيء أو الحق محل النزاع من أجل إقناع القاضي بصحة إدعاءاتهم، كما أن القاضي يقوم بدوره في تحري الحقيقة ومن ثم كان له أن يقضي في شأنها استنادا إلى علمه الشخصي، وقد أخذ بهذا المذهب القانون الإنجليزي والقانون الأمريكي والقانون السويسري والقانون الألماني، و قدا انتقد هذا المذهب لإطلاقه يد القاضي في الوصول إلى الحقيقة بحيث قد تدخل الاعتبارات الشخصية والذاتية في عمل القاضي مما ينعكس على ثقة الخصوم في العدالة.
ب) المذهب المقيد:
من الناحية التاريخية ظهر هذا المذهب لاحقا على المذهب الحر بغرض تفادي النقد الموجه لهذا الأخير ومقتضاه أن تحدد فيه طرق الإثبات كما تحدد قيمة كل منها، بحيث لا يمكن للخصوم أن يثبتوا صحة دعاواهم إلا وفق هذه الطرق، كما أن القاضي– وفق هذا المبدأ– لا يستند في حكمه على علمه الشخصي بالحقيقة، بحيث يكون موقفه سلبيا ودوره مقصور على الموازنة بين الأدلة المعروضة عليه، ووفق هذا المذهب فإنه يساهم في الحفاظ على الثقة في القضاء ويضمن استقرار المعاملات. ولم يسلم هذا المذهب من النقد حيث أعيب عليه أنه يعيق دور القاضي ويسلبه كل الوسائل التي توصله إلى حقيقة إدعاءات الخصوم .
ج ) المذهب المختلط:
إن هذا المذهب يجمع بين مبادئ المذهبين السابقين؛ المذهب الحر والمذهب المقيد فهو يأخذ بالإثبات المطلق في المنازعات التجارية لم تقتضيه من سرعة في التعامل وذلك كأصل عام، ويأخذ بالإثبات المقيد في المنازعات الأخرى كأصل عام "أي أن الأصل في المعاملات التجارية هو حرية الإثبات أما في المسائل المدنية فالأصل هو تقيد الإثبات"[7].
وهكذا فإن هذا المذهب حاول الاستفادة من مزايا المذهب الحر والمذهب المقيد وتجنب العيوب التي انتقدت لأجلها فيعطي للقاضي سلطة تقدير الأدلة التي لم يحدد لها القانون قوة معينة في سماع البينة - شهادة الشهود- والقرائن القضائية ، التي تجعله يستدل على صحة واقعة غير ثابتة من واقعة أخرى ثابتة، كما أعطى له سلطة تقديرية في توجيه اليمن المتممة لاستعمال اقتناعه بدليل غير كاف (المادة 348 قانون المدني)، كما أعطى للقاضي سلطة اللجوء إلى إجراء تحقيق من تلقاء نفسه دون أي يطلبه الخصوم (المادة 43) من قانون الإجراءات المدنية، كما أعطاه بموجب المادة 23 من قانون الإجراءات المدنية سلطة الأمر بالحضور الشخصي للخصوم وفي المقابل ألزمه وفق عناصر هذا المبدأ باحترام الوزن الذي أعطاه – بموجب القانون – لكل طريق من طرق الإثبات، ولهذا سمي هذا المبدأ بالمذهب المختلط في الإثبات، وقد أخذ به المشرع الجزائري مقتفيا أثر المشرع الفرنسي والتشريعات اللاتينية.
2) مبدأ حياد القاضي:
والمقصود بحياد القاضي أن دوره ينحصر في فحص ما يقدمه الخصوم من أدلة ويقدرها حسب ما رسمه المشرع في القانون وعلى هذين الأساسين يكوّن اقتناعه، ويترتب على ذلك احترام مبدأ الوجاهية أو المواجهة بين الخصوم من جانب تقديم الأدلة ومناقشتها ومنحهم الوقت الكافي لفحصها بغرض الرد عليها، كما أنه لا يجوز للقاضي جمع الأدلة بنفسه وأي إخلال من طرف القاضي في هذه المسائل هو مساس بحياده ، ومن ثم فإن المشرع الجزائري أخذ بالمذهب المختلط الذي يجعل القاضي يتحرر من دوره السلبي الموجود عليه في المذهب المقيد، ويتجلى هذا بموجب المادة 33 / ف2 من قانون الإجراءات المدنية التي تخول له سلطة أمر الخصوم بالحضور الشخصي واستجوابهم من طرفه كما خول له سلطة الأمر بانتقال المحكمة لمعاينة مكان النزاع بموجب المادة 56 من قانون الإجراءات المدنية و الاستماع إلى الشهود في الأحوال التي يجوز فيها سماع شهادة الشهود طبقا لنص المادة 61 من قانون الإجراءات المدنية وانتداب الخبراء بموجب المادة 43 من نفس القانون.
3) مبدأ دور الخصوم في الإثبات:
ويترتب على ما سبق أن للخصوم دورا إيجابيا في الإثبات فالمشرع كفل لكل خصم من الخصوم في الدعوى حقه في إثبات إدعائه، على أنه مهما يكن من قدر الحرية التي تطلق للقاضي في الإثبات فلا جدال في أن أي دليل يقدمه الخصم في الدعوى يجب أن يعرض على باقي الخصوم لمناقشته ويدلي كل برأيه فيه، والدليل الذي لا يعرض على الخصوم لمناقشته لا يجوز الأخذ به، ولا يجوز للمحكمة أن تأخذ بدليل نوقش في قضية أخرى ما لم يناقش في القضية القائمة[8].
فلكل خصم الحق في الإثبات وللخصم الآخر الحق في إثبات العكس كما لا يجوز لأي خصم أن يصطنع دليلا لنفسه لا يجوز إجبار الخصم على تقديم دليل ضد نفسه إلا في حالات محددة، ومن ثم فإن كل هذه العناصر تشكل الدور الإيجابي للخصوم في الإثبات.
ثالثا: مسائل الإثبات
1) محل الإثبات والشروط الواجب توافرها فيه:
محل الإثبات ليس هو الحق المدعى به – شخصيا كان أو عينيا- بل هو المصدر الذي ينشئ هذا الحق، والمصادر التي تنشئ الحقوق أيا كانت لا تعدو أن تكون إما تصرفا قانونيا وإما واقعة مادية.[9]
بمعنى آخر أن المدعي حينما يرفع دعواه مطالبا بحق يكون ملزم بإثبات سبب نشوء هذا الحق سواء كان واقعة مادة صادرة من فعل الإنسان كارتكاب فعل الحق به ضررا أو إثراء بلا سبب، أو واقعة مادية بفعل طبيعة (فيضان) أو تصرف قانوني (بيع). والتصرفات القانونية تختلف عن الوقائع المادية فيكون التصرف القانوني كالتحديد أثاره و بإرادة الإنسان بينما الوقائع المادة فتتحدد آثارها بنص القانون. ولما كانت التصرفات القانونية مناطها إرادة الإنسان، فالمشرع الكتابة لإثباتها إذا تجاوزت قيمة التصرف 100.000 دج طبقا للمادة 333 من القانون المدني، وعليه فإن محل الإثبات هو الواقعة القانونية أو التصرف القانوني.
أما الواقعة القانونية فإثباتها منوط بالقاضي الذي يفترض فيه العلم بجميع القواعد القانونية، ويقوم بتطبيقها دون أن يكلف المتقاضين بإثباتها، وهذا هو الأصل والقاعدة،
أما عن الشروط الواجب توافرها في محل الإثبات: فيشترط في الواقع المراد إثباتها خمسة شروط:
1) أن تكون الواقعة المراد إثباتها بطبيعتها قابلة للإثبات بصرف النظر عن اقتناع القاضي بها من عدمه وهذا لأن الواقعة غير المحددة تأبي بطبيعتها الإثبات فالخصم الذي يرفع دعوى ملكية شيء بناء على عقد يجب أن يحد في دعواه طبيعة هذا العقد هل هو عقد بيع أمام عقد هبة.
2) أن تكون الواقعة محل نزاع؛ أي واقعة لا يعترف بها الخصم وينكرها لأنه إذا كان الخصم يعترف بها فلا محل لإثباتها فهو مقر بها والإقرار كطريق من طرق الإثبات هو إعفاء للخصم الآخر من الإثبات.
3) أن تكون متعلقة بالحق المطالب به؛ أي وجود علاقة بين الحق والواقعة المراد إثباتها فالخصم مطالب بإثبات الواقعة المتعلقة بالحق المطالب به و ليس بواقعة أخرى.
4) أن تكون الواقعة منتجة في الدعوى؛ أي أن الواقعة المراد إثباتها يستلزم أن تكون ذات أثر على الحكم الصادر، فإذا لم يكن لها أثر فلا جدوى من إثباتها حتى ولو كانت متعلقة بالدعوى.
5) أن تكون جائزة القبول؛ بمعنى أن إثبات هذه الواقعة لا يكون مستحيلا، كالخصم الذي يطالب خصمه بأجر عمل بتاريخ 31 فيفري حيث أنه لا يتصور أن شهر فبراير فيه 31 يوم.
2) عبء الإثبات:
الثابت أن أي شخص يلجأ إلى القضاء رافعا دعواه يكون مستوجبا عليه تأسيسها وتأسيس أي دعوى لا يقوم إلا على أدلة يقدمها هذا الشخص للجهة القضائية فإذا عجز عن ذلك يكون مصير دعواه الرفض، ولهذا السبب تعود أهمية معرفة عبئ الإثبات وعلى من يقع.
والقاعدة المعروفة في هذا الصدد هي: أنّ البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". لتجدر الإشارة إلى أن المدعي في الإثبات ليس هو رافع الدعوى بالضرورة، بل هو من يدعي خلاف الظاهر أصلا أو عرضا أو ظاهرا، فالدائن الذي يدعي دينا في ذمة شخص آخر، فهو يدع خلاف الأصل الذي هو براءة الذمة (براءة ذمة المدين). لذا فيكون عبء الإثبات يقع على الدائن وعليه أن يثبت دينه الذي في ذمة المدين، وفي المقابل فإن المدين الذي يدعي وفاءه بدينه تجاه الدائن، يكون مدعيا بشيء مخالف عرضا لأن مديونيته تثبت عرضا بإقامة الدائن الدليل عليها.
هذا فيما يتعلق بالحقوق الشخصية، أما في الحقوق العينية فتطبق قاعدة أخرى تقضي بأن المدعي هو من يدعي خلاف الظاهر الثابت، فمن يدعي ملكيته عقارا يوجد في حيازة شخص آخر هو مدّع خلاف الظاهر الثابت، و كل هذا يتم في إطار انتقال عبء الإثبات من خصم إلى آخر في إطار دعوى واحدة.
لذا نخرج بنتيجة هي أن المدعي في إثبات الوقائع القانونية سواء كانت تصرفات قانونية أو وقائع مادية ليس هو بالضرورة رافع الدعوى إلى القضاء، ففي الحقوق الشخصية يقع عبئ الإثبات على الشخص أو الخصم الذي يدعي خلاف الظاهر، أصلا أو عرضا أو ظاهرا، وفي الحقوق العينية هو المدعي خلاف الظاهر الثابت.
رابعا: حصر طرق الإثبات في القانون الجزائري
كما سبق القول فطرق الإثبات في المواد المدنية لا زالت مشتته بين التقنين المدني وتقنين الإجراءات المدنية، فالقانون المدني الصادر بموجب الأمر رقم 75-58 المؤرخ في 26/09/1975 نص على خمس طرق للإثبات، أتى بها في الباب السادس بعنوان: إثبات الالتزام من المادة 323 إلى المادة 350 وهي :
1) الكتابة: وهي أهم طريقة في الإثبات كما أنها تصلح لإثبات جميع الوقائع سواء كانت وقائع مادية أو تصرفات قانونية وقد نص عليها المشرع في المواد 323 إلى 332 من القانون المدني أما القواعد الإجرائية المتعلقة بها فقد نص عليها المشرع في قانون الإجراءات المدنية في المواد من 61 إلى المادة 760.
2) البينة أي شهادة الشهود: (وهي شق من موضوع بحثنا) .
فهي طريقة لإثبات التصرفات القانونية التي تتجاوز قيمتها 100.000 دج طبقا للتعديل الملحق بأحكام القانون المدني بموجب القانون رقم 05-10 المؤرخ في 20/06/2005 ومنها المادة 333 ، حيث قبل هذا التعديل كان المشرع نص على مبلغ 1000 دج، ثم رفع من قيمة هذا المبلغ إلى القيمة المذكورة بسبب تراجع قيمة العملة.
3) القرائن : فهي طريقة غير مباشرة للإثبات تنصب على واقعة معلومة متصلة بالواقعة محل النزاع فيستنبط القاضي من الواقعة المعلومة الحكم الوارد فيها ويطبقه على الواقعة محل النزاع، وقد نص عليها المشرع في المواد 337 إلى 341 من القانون المدني، ولم يوردها بموجب قانون الإجراءات المدنية لأن أحكامها ليست ذات طابع إجرائي وإنما ذات طابع موضوعي.
4) الإقرار: هو اعتراف الخصم بالواقعة محل النزاع، وبموجب هذا الاعتراف ومن أثره هو إعفاء الخصم الآخر من إثبات الواقعة المعترف بها.
وهو" اعتراف شخص بحق عليه لآخر، سواء قصد ترتيب هذا الحق في ذمة أو لم يقصد".1
وقد أورد المشرع أحكام الإقرار في القانون المدني في المادتين 341 و 342، كما أورد في قانون الإجراءات بموجب المادتين 33 و43 الطرق التي يتم التوصل بها إليه .
5) اليمين : قول يتخذ فيه الحالف- الله - شاهدا على صدق ما يقول، أو على إنجاز ما يعد، ويستنزل عقابه إذا ما حنث. فحينما يعجز المدعى عن إثبات الواقعة المتعلقة بحقه، أباح له المشرع الاحتكام إلى ذمة خصمه بتوجيه اليمين له، فإذا حلفها هذا الأخير برئت ذمته ورفض إدعاء خصمه الآخر، وإن نكل عن حلفها اعتبر منه إقرارا بالواقعة محل النزاع. وقد أورد المشرع أحكام اليمين في القانون المدني في المواد من 343 إلى 350، وأوردها في قانون الإجراءات المدنية في المادتين 433 و 434 منه.
وهناك طريقان آخران لم ينص عليهما المشرع في القانون المدني ولكن أوردهما في القانون الإجراءات المدنية وهما:
1) المعاينة: ونظم أحكامها في قانون الإجراءات المدنية في المواد من 56 إلى 60.
2) الخبرة: وهي المائل التقنية التي تعرض للقاضي فيلجأ بشأنها إلى الخبراء و المختصين لإعطاء رأيهم بشأنها وقد نظم المشرع أحكامها في قانون الإجراءات المدنية في المواد 47 إلى 55.
المبحث الأول: ماهية البينة والقرائن كطريقين من طرق الإثبات
بعدما عرفنا في المبحث التمهيدي مفهوم الإثبات بصفة عامة، من حيث تعريفه وموقعه في القانون وأهم المبادئ التي يقوم عليها، ثم عرفنا مسائل الإثبات المتمثلة في محل الإثبات والشروط الواجب توافرها فيه، وعرفنا على من يقع عبء الإثبات وانتقاله من خصم إلى آخر، ثم قمنا بحصر طرق الإثبات كما أوردها المشرع المدني سواء في التقنين المدني أو تقنين الإجراءات المدنية، وعرفنا ما هي هذه الطرق، نأتي إلى تناول اثنين من هذه الطرق، ألا وهي البينة أي شهادة الشهود والقرائن، فندرس من خلال هذا المبحث ماهية البينة والقرائن ونعالج في مطلب أول البينة فنتناول أنواعها في فرع أول ثم سلطة القاضي في تقدير البينة ثم القواعد التي تتبع في سماعها، ثم في مطلب ثان ندرس فيه القرائن فنتناول في فرع أول القرائن القضائية ونعالج فيها عناصر القرينة القضائية وسلطة القاضي في تقديرها ثم نتطرق إلى خاصية أو ميزة تتعلق بتحول القرينة القضائية إلى قرينة قانونية، ثم في فرع ثان القرائن القانونية ونعالج فيها وظيفة القرينة القانونية أو دورها في الإثبات ونتطرق إلى القرينة القانونية القاطعة والقرينة القانونية البسيطة.
المطلب الأول: البينة (أو شهادة الشهود)
البينة لها معنيان: معني عام، وهو الدليل أيا كان، كتابة أو شهادة أو قرائن، فإذا قلنا: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"فإنما نقصد هنا البينة بهذا المعني العام والمعني الخاص هو شهادة الشهود دون غيرها من الأدلة.
والبينة أو شهادة الشهود كما وردت بنص المادة 333 من القانون المدني، وقد كان المشرع الجزائري قبل تعديله للقانون المدني في سنة 2005 يسميها البينة، وبعد التعديل سماها شهادة الشهود، فنص بموجبها على أنه في "غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قمته على 100.000 دج أو كان غير محدد القيمة فلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك ...
ويمكن أن نستنبط من خلال هذا النص أن البينة أو شهادة الشهود هي التصريح الذي يدلي به الشخص الذي وقعت تحت بصره أو تحت سمعه الواقعة محل النزاع فيدلي بها أمام القضاء، وتكون هذه الواقعة صدرت من غيره وترتب علها حق لهذا الغير.
فالإثبات شهادة الشهود هو الدليل المستفاد من شهادة هؤلاء الشهود، والشهود هم الأشخاص الذين يؤيدون صحة الحادث أو العمل القانوني المدعى بهما باعتبار أنهم على علم بوقوعهما[10].
وقد كانت الشهادة في الماضي هي الدليل الغالب وكانت الأدلة الأخرى من الندرة إلى حد أنها لا تذكر إلى جانب الشهادة، فانصرف "اللفظ – البينة" إلى الشهادة دون غيرها، ونقصد هنا المعنى الخاص عندما نقول، ما لا تزيد قيمته على عشرة جنيهات(100.000 دج في القانون الجزائري) يجوز إثباته بالبينة والقرائن[11].
وسنتطرق في هذا المطلب إلى ثلاثة عناصر، أولا: أنواع البينة، ثانيا: سلطة القاضي الواسعة في تقدير البينة، ثالثا: القواعد التي تتبع في سماع البينة.
الفرع الأول : أنواع البينة
أ) الشهادة المباشرة:
في البينة أو الشهادة يدلى الشاهد بما وقع تحت بصره أو سمعه، فالشاهد يشهد على وقائع مادية أو تصرفات قانونية تمت تحت بصره أو سمعه، ومصدر شهادته معرفته الشخصية للواقعة، بحيث يكون على سبيل المثال قد شهد بنفسه تمام واقعة الزواج بمجلس العقد وهذا في حالة تنازع أحد الزوجين حول واقعة زواج عرفي، فيطلب إلى المحكمة حضوره ليشهد بما رأى وسمع، أو يكون قد سمع بأذنه كما إذا حضر مجلس العقد وسمع البائع يتعاقد مع المشتري، فجاء إلى المحكمة يشهد بما سمع، وإما لأنه رأى وسمع، كما إذا سمع المقرض يتعاقد مع المقترض، ورآه يعطيه مبلغ القرض. فما يراه الشاهد بعينه ويسمعه بأذنه ويأتي إلى المحكمة ليشهد به تسمى شهادته شهادة مباشرة، وهذا هو الأصل في الشهادة أي تكون مباشرة.
ب) الشهادة غير المباشرة :
وتسمى الشهادة السماعية أي أن الشاهد هنا يشهد لي بما وقع تحت بصره أو تحت سمعه بل يشهد بما سمع من غيره حول الواقعة محل النزاع بما يفيد أن هذا الغير هو الذي روى للشاهد ما وقع تحت بصره إذا كانت الواقعة محل النزاع مما يرى، أو يخبر هذا الغير الشاهد بأنه سمح حول هذه الواقعة مما يسمع فقط. والشهادة السماعية جائزة حيث تجوز الشهادة الأصلية، ويقدر القاضي قيمتها كما تقدر الشهادة الأصلية، وقد يراها تعدل الشهادة الأصلية في القيمة، ولكن الغالب أن تكون الشهادة السماعية دون الشهادة الأصلية من حيث اقتناع القاضي بها[12].
ج) الشهادة بالتسامع والشهادة بالشهرة العامة:
هي الشهادة بما يتسامعه الناس حول الواقعة محل النزاع، أي ما هو شائع بني الناس على الواقعة المراد إثباتها، والفرق بين الشهادة السماعية والشهادة بالتسامع أن الأولى يشهد بها الشاهد بما رواه له شخص بعينه، حضر الواقعة ووقعت تحت بصره أو سمعها بأذنه، أما الشهادة بالتسامع فيستشهد بها الشاهد بما يتسامعه الناس حول الواقعة المراد إثباتها، ومن حيث الأثر فإن الشاهد في الشهادة السماعية يكون مسئولا شهادته في ثبوت عدم صحتها، لأنه ف صلب شهادته يشهد حول الواقعة قائلا حكي لي فلان، بما رأى أو بما سمع، على خلاف الأثر المترتب على الشهادة بالتسامع فهي غير قابلة للبحث عن صحتها، ومن ثم فإن الشاهد بموجبها لا يكون مسئولا شخصيا فيما شهد به.
أما الشهادة بالشهرة العامة ليست شهادة بالمعني الصحيح في ورقة مكتوبة تحرر أمام موظف رسمي تدون فيها وقائع معنية يشهد بها شهود معينون يعرفون هذه الوقائع عن طريق الشهرة العامة، وهذا النوع كثير الاستعمال في النكاح عندما لا يتمكن الزوجان من تسجيل عقد زواجهما في الوقت المناسب فيتقدمان إلى موثق صحبة الشهود يعرفون ذلك عن طريق الشهرة العامة، ويدلون شهادتهم أمامه.[13]
وعلى العموم فإن المشرع الجزائري لم يحدد ولم يعط قيمة خاصة للشهادات بالتسامع المتداولة حاليا، وعليه فإن قيمتها متروكة للسلطة التقديرية للقاضي في نطاق الإثبات طبقا للقواعد العامة.
الفرع الثاني: سلطة القاضي في تقدير البينة
أعطى المشرع للقاضي حرية تامة في إعطاء البينات أية قيمة يراها مناسبة، وسلطة في هذا المجال مطلقة، وقد استقرت على ذلك أحكام القضاء[14].
ومن بين النتائج المترتبة على ذلك.
1) لا عبرة يتعدد الشهادات التي يدلى بها أم القاضي فكما يقال: "الدليل يوزن ولا يعد"، فالقاضي – بما له من سلطة تقديرية – يمكن له أن يؤسس حكمه على شهادة واحدة يطمئن إليها بالرغم من وجود عدد أكبر من الشهادات المتعارضة.
2) لا يلزم القاضي بكون الشهادات متطابقة فيما بينها لقبولها والاعتماد عليها فهو يستطيع مع ذلك اللجوء إلى طريقة أخرى من طرق الإثبات لتأسيس حكمه كالخبرة، أو المعاينة.
3) لا يجبر القاضي على تفسير موقفه عندما يفضل شهادة على أخرى، فهو حر في أن يسند قناعه على ما يستخلصه من محتوى الشهادة المفضلة.
4) أن سلطة القاضي في اختيار الشهادة التي تقنعه لا يخضع فيها لرقابة المحكمة العليا وهذه السلطة الواسعة في التقدير الممنوحة للقضاة مردها إلى أن القانون جعل منزلة شهادة الشهود أقل من منزلة الكتابة في الإثبات.
فالبينة تقوم على أمانة الشهود، والشهود حتى إذا هم لم يكذبوا معرضون للنسيان، ثم إن الدقة تنقصهم، هذا إلى أنه إذا افسح المجال للإثبات بالبينة وأصبح اعتماد القضاء عليها، كثرت القضايا الكيدية لسهولة الحصول على شهود زور يشهدون بالباطل، أما الكتابة فكفتها راجحة، ومتى كانت بعيدة عن التزوير، فهي أدق أداء وأكثر ضبطا للوقائع، ثم هي لا يرد عليها النسيان فهي دليل هيئ مقدما ليحيط بالواقعة المراد إثباتها إحاطة شاملة، لأنها إنما أعدت لهذا الغرض[15].
الفرع الثالث: القواعد التي تتبع في سماع البينة (شهادة الشهود):
والمقصود بهذه الإجراءات، الأوضاع التي يجب احترامها في إتباع الإثبات بشهادة الشهود، فإذا أراد أحد الخصوم إثبات واقعة متنازع بشأنها، قدم طلبه إلى القاضي، مع تحديده للواقعة المراد إثباتها بدقة، حتى يتسنى للقاضي تقدير مدى جدية هذا الطلب وجدواه في الدعوى، وهل هي واقعة تقبل الإثبات بشهادة الشهود أم لا، فإذا توافر في هذه الواقعة الشروط المذكورة آنفا وهي:
1) كون الواقعة متعلقة بالدعوى أي تتصل بموضوع النزاع اتصالا وثيقا.
2) كون الواقعة منتجة في الدعوى، أي في حالة إثباتها يكون لها أثر في تكون اقتناع القاضي.
3) كون الواقعة جائزة القبول، أي أن القانون يجد إثباتها أو تحضيريا.
فإذا قدر القاضي توافر هذه الشروط قبل الطلب وحكم حكما تمهيديا بالإثبات بشهادة الشهود، وعمليا يحكم بإجراء تحقيق، كما يعني في الحكم الواقعة المراد التحقيق فيها، تعيينا واضحا ليعلم الخصوم هذه الواقعة، بما يفيد أن الحكم القضائي بإجراء تحقيق إذا لم يحدد الواقعة المراد التحقيق فيها تحديد واضحا ودقيقا فإنه يكون مبهما، ويجعله عرضه للنقض (المادة 62 من قانون الإجراءات المدنية)، كما أن القاضي في حكمه بإجراء تحقيق يبين تاريخ وساعة الجلسة المخصصة لإجرائه، وطالما أن القانون أباح للخصم المطالبة بإثبات واقعة بشهادة الشهود، أباح لخصمه نفيها تطبيق لنص المادة (323) من القانون المدني التي تقضي بأن على الدائن إثبات الالتزام، وعلى المدين إثبات التخلص منه)، وتجدر الإشارة إلى أن القاضي عند قبوله إجراء تحقيق بسماع شهادة الشهود، فإنه غير ملزم بنتائج هذا التحقيق فالمشرع جعل له السلطة التقديرية في قبوله من عدمه.
أ) حضور الشهود:
يحضر الشهود في اليوم المحدد من طرق القاضي بناءا على استدعائهم من طرف أمانة الضبط، التي تقوم باستدعائهم ثمانية أيام على الأقل قبل ميعاد التحقيق، باستثناء حالات الاستعجال تطبيق للمادة 62 من قانون الإجراءات المدنية. وتطبيقا لنص المادة 67 من قانون الإجراءات المدنية يتعين إمهال الشاهد 05 أيام كاملة تفصل بين استلامه الإعلان ويوم حضور التحقيق باستثناء حالة الاستعجال التي لا تشرط فيها المدة المذكورة، كما أجازت المادة (63) من القانون الإجراءات للخصوم إحضار شهودهم مباشرة أمام المحكمة أو القاضي من غير تكليف بالحضور مسبق من طرف رئيس أمناء الضبط والخصم الذي يحضر أكثر خمسة شهود على واقعة يتحمل مصاريف الشهود الآخرين.
وإذا تم استدعاء الشاهد – بصفة قانونية – وبلغ تبليغا صحيحا طبقا للمواد 22 إلى 26 اجراءات مدنية، ولم يحضر جاز الحكم بغرامة مدنية مع النفاد المعجل، كما يجوز استدعاؤه من جديد مع تحميله مصاريف الاستدعاء فإن تخلف مرة ثانية حكم عليه بغرامة مدنية لتتجاوز المائة 100 دج) دينار. المادة 67 الفقرة 02 و03، فإن حضر وأبدى عذرا مقبولا عن عدم حضوره، جاز للمحكمة سماع شهادته وإعفائه من الغرامات المحكوم بها عليه طبقا للمادة 67 في فقرتها الرابعة.
وإذا كان للشاهد عذر يمنعه من الحضور كأن يكون معاقا حركيا أو مقعدا أو مريضا جاز للمحكمة أن تحدد له ميعادا آخر بغرض الانتقال على سماعه، كما إذا كان الشاهد مقيما خارج دائرة اختصاص المحكمة فلهذه الأخيرة أن تلتجئ إلى الإنابة القضائية لأحد القضاة الموجودين في دائرة الإختصاص التي يقيم بها الشهادة ( طبقا لأحكام المادة 68 من قانون الإجراءات المدنية).
ومن الناحية العملية، فغالبا ما يتم اللجوء إلى إجراء تحقيق في الفروع المدنية للمحكمة سواء في القسم المدني أو شؤون الأسرة أو القسم الاجتماعي أو القسم التجاري أو العقاري، ولكن فيما يتعلق باستدعاء أي الشهود، فإن القاضي يخطرهم شفاهيا بالجلسة ويطلب من الخصوم إحضار شهودهم في الوقت الذي يحدده، وغالبا ما يكون بعد انقضاء الجلسة إذا أحضروا شهودهم أو في جلسة مقبلة.
ب) كيفية أداء الشهود لشهادتهم:
بحضور الشاهد إلى جلسة التحقيق، يحقق القاضي من هويته كاملة (اسمه ولقبه ومهنته وسنه ومتر إقامته، ومدى قرابته أو مصاهرته لأحد الخصوم، وما إذا كان يعمل عند أحدهم أم طبقا للمادة (65 في فقرتها الأولى من قانون الإجراءات المدنية) ويجب عليه أن يؤدي اليميني القانونية بـ ( أن يقول الحق، ولا شيء إلا الحق) فإن لم يحلف لا يعتد بشهادته وتكون باطلة (طبقا لأحكام المادة 65 من قانون الإجراءات المدنية). كما أن الشاهد يؤدي شهادته مفردا وشفهيا بدون حضور باقي الشهود، بحضور الخصوم أو غيابهم طبقا لأحكام المادة 65 من قانون الإجراءات المدنية)، كما لا يجوز للشاهد أن يستغني بمذكرة مكتوبة، كما أنه يجيب على الأسئلة التي تطرح عليه من طرف القاضي مباشرة أو من الخصوم عن طريق القاضي كما لا يجوز للخصوم مقاطعة الشاهد وهو يؤدي شهادته أو يوجهون إليه سؤالا مباشرا (طبق لأحكام المادة 72 من قانون الإجراءات المدنية) ويلاحظ أن المادة 65 من قانون الإجراءات المدنية أوجبت على الشاهد أن يبين درجة قرابته أو مصاهرته أو تبعيته لأحد الخصوم ليعلم القاضي هل هو من الأشخاص المذكورين في المادة 64 من قانون الإجراءات المدنية.
وطبقا للمادة 69 في فقرتها الثانية يجوز تجريح الشاهد بسبب عدم تمييزه لصغر أو كبر سنه، أو أي مرض او سبب جدي آخر يؤثر على تمييزه لكن يشرط لقبول تجريح الشهادة أن يتم قبل إدلائه بشهادته، باستثناء ظهور سبب يدعو إلى تجريحه بعد أدائه لشهادته طبقا لأحكام المادة 70 من قانون الإجراءات المدنية، فإذا قدر القاضي جدية سبب التجريح استبعد هذه الشهادة، (طبقا لأحكام المادة 69 من قانون الإجراءات المدنية).
ج) محضر التحقيق أو محضر سماع الشهود:
تجدر الإشارة إلى أن هذا المحضر – من الناحية العملية – يسمى محضر سماع الشهود في دعاوى إثبات الزواج في أقسام شؤون الأسرة على خلاف باقي الأقسام أين يسمى محضر التحقيق.
وفي هذا المحضر تدون شهادة الشهود، ليتم التوقيع عليها من طرف كل شاهد أدلى بشهادته ومن طرف القاضي وأمين الضبط، فإن امتنع أحد الأطراف عن التوقيع أو كان لا يحسن التوقيع، يشير القاضي إلى ذلك في محضر التحقيق.
وقد بينت المادة 74 من قانون الإجراءات المدنية البيانات الواجب توافرها في محضر التحقيق وهي: تاريخ التحقيق باليوم والساعة والشهر، وحضور الخصوم أو غيابهم، واسم كل شاهد أو لقبه ومهنته وموطنه وأداؤه لليمين أو إعفاؤه من اليمين في حالة قرابته أو مصاهرته لأحد الخصوم أو كونه في خدمته، كما ينوه في المحضر إذا كان هناك تجريح ضد شاهد.
وبعد انتهاء التحقيق على الكيفية المذكورة جاز للقاضي إصدار حكمه عقب انتهاء التحقيق مباشرة أو تؤجل القضية إلى الجلسة اللاحقة، وفي هذه الحالة يجوز للأطراف أن يطلعوا على محضر التحقيق ليعقبوا على ما جاء فيه (طبقا لأحكام المادة 75 من قانون الإجراءات المدنية) .
وفي كل الحالات فإن المحكمة لا تتقيد بهذا التحقيق وتبقي وفي كل الحالات فإن القاضي لا يتقيد في حكمه بهذا التحقيق ويبقى هو صاحب السلطة التقديرية في تقييم نتيجته وفقا لاقتناعه مادام ملزما بتسبيب حكمه، فله ترجيح شهادة على أخرى كما له الأخذ بشهادة واحد على شهادة اثنين، ولا رقابة عليه في ذلك من المحكمة العليا لأن هذه المسألة تتعلق بالموضوع أكثر مما تتعلق بالقانون.
د) موانع الشهادة:
هناك أشخاص حظر عليهم المشروع الشهادة فيما وصل إلى علمهم بسبب المهنة التي يمتهنوها، وأشخاص آخرون نص القانون على عدم جواز سماع شهادتهم إذا كانت تربطهم رابطة الدم أو القرابة مع أحد الخصوم إلا على سبيل الاستدلال.
ويمكن إيجاز أو تلخيص هذه الموانع كما يلي في فئتين:
الفئة الأولى (أ) أسباب مهنية: وتتعلق بنيئة الموظفين والمحامين والأطباء والقابلات ورجال الدين ومفتشي الشرطة ومحلفي المحاكم الجنائية، فإن هؤلاء يمتعهم القانون من الإدلاء بشهادتهم فيما وصل إلى علمهم بسبب مهنتهم
الفئة الثانية: وجاءت بها المادة 64 من قانون الإجراءات المدنية وهي تنقسم إلى قسمين:
(أ) القسم الأول:
وهو قسم يجوز رد شهادته ويشمل أقارب الخصم / أصهاره على عمود النسب / إخوته / إخوانه /أبناء عمومته / زوج أحد الخصوم، وقد جاءت المادة 64 بعدم جواز شهادتهم، لكن بموجب الفقرة الثالثة من المادة 64 يستثنى الأبناء بحيث يجوز استدعاؤهم للشهادة في الدعاوى الخاصة بمسائل الحالة المدنية والطلاق".
(ب) القسم الثاني: ويشمل القصر الذي لم يتموا خمسة عشرة سنة من عمرهم، فيسمعون على سبيل الاستدلال.
المطلب الثاني: القرائن
"القرينة هي ما يستنبطه المشرع أو القاضي من أمر معلوم الدلالة على أمر مجهول"[16].
والقرائن تنقسم إلى قسمين، قرائن قضائية وقرائن قانونية، وستتناول كل نوع على حدى، ويمكن إيجاز تعريف القرائن القضائية بأنها ما يستنبطه ويستنتجه القاضي من ظروف الدعوى وملابساتها. أما القرائن القانونية فهي ما يستنبطه المشرع من حالات يغلب وقوعها في نص عليها في شكل قاعدة مجردة. وسنتناول في فرع أول: القرائن القضائية وتتكلم فيه عن عناصر القرينة القضائية وسلطة القاضي في تقديرها، وفي عنصر ثان نتحدث عن تحول القرينة القضائية إلى قرينة قانونية. وفي فرع ثان نعالج فيه القرائن القانونية فنتحدث أولا عن وظيفة القرينة القانونية، ونتطرق إلى القرينة القانونية البسيطة والقرينة القانونية القاطعة.
الفرع الأول: القرائن القضائية .
نص المشرع الجزائري بموجب المادة 340 من القانون المدني على أنه: "يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة أي بشهادة الشهود".
ومفاد هذا النص هو أن القاضي فحول له استنباط من واقعة معلومة في الدعوى المرفوعة أمامه، ليستدل على واقعة أخرى عجز المدعي أي الطرف الواقع عليه عبئ الإثبات عن إثباتها بطرق أخرى، فيستدل القاضي بالمعلوم على المجهول، ومثاله : استنباط القاضي بأن العقد المبرم بين أب وابنه عقد صوري يخفي تصرفا مستترا من واقعة الأبوة، والقاضي في استدلاله من واقعة الأبوة على صورية التصرف له سلطة تقديرية واسعة لا تخضع لرقابة المحكمة العليا، وهو المستفاد من نص المادة 340، ومعنى "كل قرينة" الواردة في النص أن القاضي غير مقيد بقرينة معينة، فقد يأخذ بقرينة معينة يأخذها ولا يقتنع بمجموعة أخرى من القرائن فيستبعدها على أساس السلطة التقديرية التي يتمتع بها وهو ما سنتناول في العنصر الأول بعنوان عناصر القرينة القضائية وسلطة القاضي في تقديرها .
أولا : عناصر القرينة القضائية و سلطة القاضي في تقديرها .
تقوم القرائن القضائية على عنصرين:
1) واقعة ثابتة يختارها القاضي من بين وقائع الدعوى وتسمى هذه الواقعة بالدلائل والأمارات وهذا هو العنصر المادي للقرينة.
2) عملية استنباط يقوم بها القاضي، ليصل من هذه الواقعة الثابتة إلى الواقعة المراد إثباتها، وهذا هو العنصر المعنوي للقرينة[17].
وللقاضي السلطة المطلقة في استنباط القرائن التي يعتمد عليها و تكوين عقيدته، ولا شأن للمحكمة العليا فيما يستخلصه منها متى كان استنباطه منها مقبولا. ولكن رغم السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي في تقدير القرائن إلا أنه مقيد بشأنها من حيث أنه لا يجوز له قبول الإثبات بالقرائن القضائية إلا ما يجوز الإثبات بشأنه بشهادة الشهود، وهذا وارد بنص المادة 333 من القانون المدني التي تجعل الإثبات بالبينة أي شهادة الشهود في نفس المنزلة مع طريق الإثبات بالقرائن القضائية. والقرائن القضائية مثل البينة ليست ذات حجية قاطعة، بحيث هي تقبل إثبات العكس وهي تشبه إلى حد بعيد القرينة القانونية البسيطة.[18]
ثانيا : تحول القرينة القضائية إلى قرينة قانونية
لما كانت القرينة القضائية تفيد الانتقال بالإثبات من واقعة معلومة للوصول إلى ثبوت الواقعة المجهولة من عدمه، ولما كان القاضي هو صاحب الدور في اختيار الواقعة المعلومة للتوصل إلى ثبوت الواقعة الظنية، فإن تواتر العمل القضائي باستنباط القرائن القضائية يجعل المشروع يأخذ بعني الاعتبار هذا التواتر، فتتوصل القرائن القضائية إلى قرائن قانونية، لأن القرينة القانونية في أصلها هي قرينة قضائية استقر العمل القضائي على استنبطها، وعلى سبيل المثال الوفاء بقسط من الأجرة قرينة قضائية على الوفاء بالأقساط، وبقي العمل بهذه القرينة القضائية مستقرا إلى غاية اعتبار هذا الوفاء قرينة قانونية كما ورد في القانون المدني على أن: (الوفاء بقسط من الأجرة قرينة على الوفاء بالأقساط السابقة على هذا القسط، حتى يقوم الدليل على عكس ذلك)، كما قد يحدث خلاف ذلك، فتنزل القرينة القانونية إلى قرينة قضائية، مثل القرينة القانونية التي تنص على أن وجود سند الدين في يد المدين دليل على الوفاء بمبلغ الدين حتى يقيم الدائن الدليل على عكس ذلك، فنزلت هذه القرينة القانونية إلى مرتبة القرينة القضائية.
وبالرغم من أن القرينة القضائية والقرينة القانونية من طبيعة واحدة، من حيث التكييف والتأصيل إلا أنهما تختلفان من حيث مهمة كل منهما فالقرينة القضائية طريق ايجابي من طرق الإثبات، أما القرينة القانونية فهي إعفاء من الإثبات، مؤقت أو دائم وفقا لما إذا كانت القرينة تقبل إثبات العكس أو لتقبل ذلك[19].
الفرع الثاني: القرائن القانونية
تنص المادة 337 من القانون المدني على: أن القرينة القانونية تعفي من تقررت لمصلحة عن أية طريقة أخرى من طرق الإثبات، على أنه يجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضى بغير ذلك.
والمستفاد من هذا النص أن القرينة القانونية ما يستقر عليه العمل القضائي، فيقوم المشرع بالنص عليه في التقني فمن تقرر لصالحة من الخصوم المتقاضى أعفاه المشرع من الإثبات. أولا: وظيفة القرينة القانونية:
القرينة القانونية لا عمل فيها للقاضي بل أن العمل كله للقانون، فركن القرينة القانونية هو نص القانون وحده فهو الذي يختار العنصر الأول أي الواقعة الثابتة، وهو الذي يجري عملية الاستنباط فيقول: أما دامت هذه الواقعة قد ثبتت، فإن واقعة أخرى تثبت بثبوتها[20].
إذن فمصدر القرينة القانونية إذن هو نص القانون ولا شيء غير ذلك ولا يمكن أن تقوم قرينة قانونية بغير نص من القانون، ولكن بالرجوع لنص337 قانون مدني يتضح أن القرينة القانونية ليست دليل للإثبات، بل هي إذا تقررت لصالح خصم متقاض فإنها تعفيه وتسقط عنه عبئ الإثبات.
والحكمة من نص المشرع على القرائن القانونية في باب الإثبات هو تحقيق مصلحة عامة، وأحيانا مصلحة خاصة، فنص المادة 338 مدني على أن الأحكام الحائزة لحجية الأمر المقضي فيه قرينة على أن ما هو وارد فيها صحيح، وهذه مصلحة عامة كان على المشرع رعايتها وحمايتها حتى تكون الأحكام القضائية تتوفر على الثقة وتضع حدا للخصومات والمنازعات القضائية.
وفي مجال المصلحة الخاصة فإن المشرع افترض الخطأ في جانب متولي الرقابة وحارس الأشياء المنصوص عليها على التوالي بموجب المواد 134، 138 من القانون المدني الجزائري، لأن الطرف المضرور في حالة قيام التابع لفعل ضار للغير تكون من الصعب عليه إثبات الخطأ في جانب متولي الرقابة، ونفس الأمر ينطبق على مسؤولية حارس الأشياء فالخطأ في جانبه مفترض، وكلاهما قرينتان قانونيتان، ونفس الشيء ينطبق على التبرع في مرض الموت، اعتبر هذا المشرع هذا التصرف في حكم الوصية، ولو سماه المتصرف باسم آخر فالتصرف الصادر في مرض الموت قرينة على أنه تبرع بدون عوض، وسماه المتصرف باسم آخر بغرض التحايل على القانون.
ولما كانت القرائن القانونية تبنى على الغالب من الأحوال فينتج عن هذا أن هناك حالات تتأرجح بين الصحة والخطأ، فأجاز القانون قبولها لإثبات العكس وسماه الفقه قرائن قانونية بسيطة طالما هي تقبل إثبات العكس، وحالات يكون فيها احتمال الخطأ ضعيفا فلم يجز القانون إثبات عكسها، وسماه الفقه قرائن قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس وستتناول كل نوع من هذه القرائن على حدى.
1) القرينة القانونية البسيطة:
ورد النص على القرائن القانونية البسيطة بنص المادة 337 بنصها: "القرائن القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أي طريقة أخرى من طرق الإثبات على أنه يجوز إثبات عكس هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك".
ومفاد هذا النص أن القاعدة أو الأصل في القرائن القانونية أن تكون قرائن قانونية بسيطة وبساطتها تفيد قابليتها لإثبات العكس باستثناء حالة إذا وجد نص ينص على عدم قابليتها لذلك، ومثلا على ذلك ما هو منصوص عليه بنص المادة 61 من القانون المدني التي تقضي بأن وصول التعبير عن الإرادة إلى الشخص الموجه إليه هو قرينة على علم هذا الغير بهذا التعبير، غير أنها قرينة بسيطة طالما أن الشخص الموجه إليه التعبير عن هذه الإرادة، يستطيع أن يثبت عكس ذلك وأنه لا يعلم به لأنه لم يصل إليه، أما الشخص المرسل فيكفي أن يثبت وصول هذا التعبير إلى المرسل إليه ولا يلزم بإثبات علم هذا الأخير به فالوصول هو القرينة على العلم .
ومثالا آخر على ذلك ما جاء به المشرع بنص المادة 98 من القانون المدني من أن كل الالتزام يفترض أنه له سببا مشروعا إلى غاية إثبات عكس ذلك، فعلاقة مديونية بين (أ) و(ب) فيطلب (أ) من (ب) الوفاء بدينه العالق في ذمته، فالقانون أعفى (أ) من إثبات سبب الدين القائم بينه وبين (ب)، وافترض أن سبب هذا مشروع إلا إذا أثبت المدين (ب) أن سبب التزامه كان غير مشروع.
2) القرينة القاطعة:
القاعدة في القرائن القانونية القاطعة أنها لا يمكن إثبات عكسها كقرينة الحكم القضائي، فالحكم القضائي قرينة قانونية قاطعة على صحة الوقائع الواردة فيه والمحكوم بشأنها بموجبه، ولا يمكن للمحكوم عليه أو المحكوم ضده بموجبه السعي إلى إثبات ما يخالف ما هو وارد فيه، وهذا ثابت بنص المادة 338 من القانون المدني.
والمشرع الجزائري حذى المشرع الفرنسي والمصري في اعتبار الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي قرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس. وهنا يجب التفرقة بين القواعد الموضوعية والقرائن القانونية.
في هذا العصر يقول الأستاذ السنهوري :
فإذا قلنا أن القرينة القانونية القاطعة لا تقبل إثبات العكس، فليس معنى ذلك لا تدحض أبدا – و ذلك أن عدم القابلية للدحض لا يكون إلا للقواعد الموضوعية، أما القرائن القانونية ولو كانت قاطعة فهي قواعد إثبات، أيا كانت المرتبة التي أرادها المشرع لها في القطع أو الحسم، فهي لا تستعص على أن تدحض بالإقرار واليمين، ما دام المشرع قد شاء أن يبقيها في حظيرة قواعد الإثبات، ولم يرق بها إلى منزله القواعد الموضوعية. ومن أمثلة القواعد الموضوعية تحديد سن الرشد بـ 19 سنة كاملة بنص المادة 40 من القانون المدني، فالمشرع بين على هذا التحديد لسن الرشد على الغالب الراجح، فكل شخص بلغ 19 سنة كاملة فقد بلغ سن الرشد، فهذه قاعدة موضوعية مبنية على قرينة تمام الأهلية.
المبحث الثاني: قوة البينة و القرائن في الإثبات .
إذا كان من الثابت بموجب نصوص القانون المدني والفقه القانوني أن البينة أو الشهادة والقرائن القضائية هي طرق إثبات ذات قوة محدودة أصلا، ولما كان المشرع قد جعل البينة والقرائن القضائية طريقين متعادلين من حيث قوتهما القانونية في الإثبات، فالواقعة التي يمكن إثباتها بأحد الطريقين يستطاع إثباتها بالطريق الآخر.
ولما كانت البينة والقرائن لا يمكن أن تكون طرقا أصلية في الإثبات إلا في نطاق محدود وتكون طرق تكميلية عند وجود مبدأ ثبوت بالكتابة، و طرقا بديلة عند وجود مانع يحول دون الحصول على دليل كتابي، أو يحول دون تقديمية بعد الحصول عليه".
وبالرجوع إلى نص المادة 333 من القانون المدني الجزائري نجدها تنص "في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على 100.000 دج، أو كان غير محدد القيمة، فلا يجوز الإثبات بشهادة الشهود في وجوده أو انقاضه ما لم وجد نص يقضي يقر ذلك".
وعلى هذا يتضح من خلال هذا النص أن لشهادة الشهود القرائن القضائية قوة مطلقة في الإثبات، وقوة محدودة، ودون الخروج عن إطار هذا النص يتضح أيضا أن القوة المحدودة لشهادة الشهود والقرائن القضائية إنما تكون في ميدان التصرفات المدنية، وبمفهوم المخالفة المعمول به في تفسير النصوص فإن القوة المطلقة لشهادة الشهود والقرائن القضائية تكون في غير المواد المدنية أي في التصرفات التجارية. وعلى هذا فإن الإشكال المطروح تتمثل في ماذا تتمثل القوة المطلقة للبينة والقرائن ولماذا جاءت فقط مقصورة على الوقائع المادية والتصرفات التجارية، وفي ماذا تتمثل القوة المحدودة لهذين الطريقين واقتصرت فقط على المواد المدنية.
هذا ما سنعالجه في هذا المبحث الذي قسمناه إلى مطلبين: فنتناول في المبحث الأول القوة المطلقة للبينة أي لشهادة الشهود والقرائن ولما نتكلم عن القرائن فنحن نقصد القرائن القضائية باعتبار أن القرائن هي إعفاء من الإثبات فنعالج مجال القوة أو الحجية المطلقة لهما فنتناول في الفرع الأول الوقائع المادية وفي الفرع الثاني التصرفات التجارية ثم في مطلب ثان نتناول القوة المحدودة لهما ومجالهما حيث نتطرق إلى القاعدة أو الأصل العام فنعالج أولا ما هو وارد بنص المادة 333 من القانون المدني ومسألة عدم قبول البينة أي شهادة الشهود والقرائن في التصرفات المدنية التي تزيد قيمتها على 100.000 دج ويحدد ما هو التصرف القانوني، وما هي قيمة الالتزام، ثم نتطرق إلى الحكم الثاني الذي أورده المشرع بنص المادة 333 من القانوني المدني وهو عدم قبول البينة فيما يخالف الكتابة أو يجاوزها.
و في الفرع الثاني نتناول الاستثناءات الواردة على القاعدة ونقسمه إلى ثلاثة عناصر، فنتناول مبدأ الثبوت بالكتابة، ثم قيام المانع من الحصول على الكتابة ثم قيام المانع من تقديم الكتابة لفقدها بسبب أجنبي.
المطلب الأول: قوة الإثبات المطلقة للبينة والقرائن
بالرجوع إلى نص المادة 333 من القانون المدني، نجد أن هذا النص يقضي بأن التصرف القانوني خارج المجال التجاري، أي التصرف القانوني المدني، إذا تجاوزت قيمته 100.000 دج أو كان غير محدد القيمة، لا يجوز إثباته بشهادة الشهود، مما يستفاد من هذا النص أن لشهادة الشهود والقرائن قوة مطلقة في الإثبات خارج ميدان التصرفات القانونية المدنية، وبمفهوم المخالفة فلشهادة الشهود والقرائن القضائية في مجال التصرفات القانونية المدنية قوة محدودة، ومن ثم فإن القوة المطلقة لشهادة الشهود والقرائن تكون في الوقائع المادية وفي التصرفات القانونية التجارية مع العلم أن نص المادة 333 ليست من النظام العام وفي هذا الصدد صدر قرار المحكمة العليا عن غرفتها المدنية في 11/05/1983 جاء فيه أن قاعدة المادة 333 مدني التي تفرض الإثبات بالكتابة إذا زادت قيمة التصرف على 1000 دج ليست من النظام المدني فيجوز للأطراف أن يتنازلوا عنها صراحة أو ضمنا ومن ثم لا يجوز أن يثيروها تلقائيا[21]. فما المقصود بالوقائع المادية وما المقصود بالتصرفات القانونية التجارية ؟.
الفرع الأول: الوقائع المادية
ومثال الوقائع المادية كواقعة الميلاد أو واقعة الموت وهي من أخطر الوقائع المادية لذا أوجب المشرع تدوينها كتابة، أما غير ذلك من الوقائع المادية فمن العسير القيام بإثباتها بالكتابة، لذا فإن المشرع الجزائري جعل باب إثباتها مفتوحا عن طريق شهادة الشهود والقرائن، والوقائع المادية كثيرة ومتنوعة منها ما يكون مصدرا للالتزام كالعمل غير المشروع، والبناء، والغراس في الإثراء على حساب الغير، القيام بأعمال مادية في الفضالة، والجوار والقرابة في الالتزامات القانونية.
ومنها ما يكون سبب للكسب حقوق عينية كالموت والميلاد في الميراث، والحيازة والاستيلاء والبناء والغراس في الالتصاق، ومضي الزمن في التقادم، الجوار في الشفعة[22].
إذن: فجميع ما ذكرناه من أمثلة يجد صداه في ظل نص المادة 333 من القانون المدني من حيث جواز إثباته بالبينة أي شهادة الشهود والقرائن، ويكون فيه لشهادة الشهود وللقرائن قوة مطلقة في الإثبات .
وهناك وقائع ذات طابع مختلط يقوم فيها العمل المادي إلى جانب التصرف القانوني "علينا في هذه الحالة أن نميز بين هذين العنصرين فتسري قاعدة الإثبات بالكتابة على الأول منهما، ويجوز إثبات الثاني بجميع الطرق ومنها الشهادة[23]. وعلى سبيل المثال تتجسد هذه المسألة في جريمة خيانة الأمانة المنصوص عليها بنص المادة 376 من قانون العقوبات، فبموجبها لا يمكن إدانة المتهم بهذا الجرم، إذا لم يتم إثبات قيام رابطة تعاقدية بين المتهم والضحية، الواردة على سبيل الحصر بموجب هذا النص، وبالرجوع إلى القواعد العامة، والمتمثلة في نص المادة 333 من القانون المدني، فإن قيمة التصرف إذا تجاوزت مبلغ 100.000 دج فيجب إثبات ذلك كتابة أمام القاضي الجزائي، أما واقعة الاختلاس في واقعة مادية، و طالما كانت كذلك فيجوز إثباتها بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن.
ومن أسباب كسب الملكية نجد الحيازة، والحيازة واقعة مادية وطالما كانت واقعة مادية، فيجوز إثباتها بجميع الطرق، ويختلف الأمر إذا كان الحائز مستأجرا، فالحيازة كواقعة تثبت بجميع الطرق بينما العلاقة الايجارية تخضع للإثبات بالكتابة وفي هذا الصدد صدر قرار المحكمة العليا عن غرفتها المدنية في 02/01/1984 مفاده أنه متى كان القانون مفاده متى كان القانون يحمي شاغل الأمكنة بموجب أحكام المادتين 514- 515 من القانون المدني وعلى وجه الخصوص الشاغل للأمكنة بناءا على سند إيجار رسمي ممنوح له شخصيا ومن ثم فإن الحجة المقدمة لإثبات عقد إيجار متنازع في صحة وجوده لا تكون مقبولة إذا كانت المؤسسة على شهادة الشهود وإذا كان ثابتا في قضية الحال أن النزاع يتعلق بعقد إيجار شفوي متنازع في صحة وجوده وأن قضاة الاستئناف رفضوا دعوى الطاعن الرامية إلى طرد المطعون ضدها من السكن المتنازع في صحة إيجاره بناء على مجرد شهادة الشهود ومع ذلك أقروا حق البقاء في الأمكنة طبقا لاحكام المادة 515 من القانون المدني مما عرض قرارهم للنقض.[24]
الفرع الثاني: المواد التجارية
الثابت والمتعارف عليه أنه في المواد التجارية الإثبات يتحرر من القيود المفروضة في المواد المدنية، على أساس المبادئ التي يقوم عليها العمل التجاري والشروط التي يقتضيها وهي السرعة والائتمان، لذا فإن المشرع وبموجب نفس النص وهو 333 من القانون المدني استثنى المواد التجارية بصرف نظر الأطراف عن قيمة التصرف أو الالتزام.
إذن وطبقا لنص المادة 333 من القانون المدني، التصرف التجاري يجوز إثباته بشهادة الشهود وبالقرائن حتى ولو تجاوزت قيمته 100.000 دج، أو كان غير محدد القيمة.
والسبب في إباحة الإثبات بشهادة الشهود وبالقرائن في المسائل التجارية أيا كانت قيمة التصرف القانوني هو ما يقتضيه التعامل التجاري من السرعة وما يسلتزمه من البساطة وما يستغرقه من وقت قصير على أن هناك من المسائل التجارية ما لا يستقيم إلا بالكتابة مثل ذلك الأوراق التجارية، لم يقتصر القانون فيها على اشتراط الكتابة، بل اشترط في الكتابة أن تستوفي شروطا معينة، كذالك فعل في المسائل التجارية التي ستغرق وقتا طويلا وتنطوي على أهمية خاصة كما هو الأمر في عقود الشركات التجارية وعقود بيع السفن وفي إيجارها وفي التأمين عليها أو على البضائع وفي القروض البحرية[25] .
والعبرة في جواز الإثبات بالشهود بنوع التعامل وصفة الخصوم، وبطبيعة الحال فإن الذي يحكم الإثبات في المواد التجارية – أصلا – هو القانون التجاري، لأن القانون التجاري هو الذي يبين من هو التاجر، ويبين ما هي الأعمال التجارية، فإذا كان الالتزام بين تجارين، مهما بلغت قيمة التصرف بينهما جاز إثباته بجميع الطرق. ويختلف الأمر إذا كان التصرف القانوني بين شخصين أحدهما تاجرا، فهو كما يصطلح عليه فقها بالعمل المختلط الذي يجمع بين الطابع المدني والطابع التجاري، فالإثبات في هذه الحالة يكون بالنسبة للتاجر طبقا لقواعد القانون التجاري أي جائزا إثبات الالتزام بالبينة والقرائن وبالنسبة للطر غير التاجر إذا تجاوزت قيمة التصرف والالتزام مبلغ 100.000دج فلا تجوز في إثباته شهادة الشهود والقرائن، ولإيضاح هذه الصورة نضرب مثالا بالتصرف الذي يتم بين المستهلك وتاجر التجزئة، وكعقد النشر بين المؤلف والناشر وكعقد النقل بين المسافر وصاحب وسيلة النقل، فهنا لا يجوز الإثبات بشهادة الشهود والقرائن بالنسبة لتسليم البضاعة إلى المشتري، وتسليم الأرباح إلى المؤلف ولا تسليم متاع المسافر إلى أمين النقل، بينما يجوز للطرف غير التاجر الإثبات بشهادة الشهود والقرائن بأنه سلم الثمن لتاجر التجزئة مقابل البضاعة، وقيمة الأرباح التي تعود للمؤلف ضد الناشر، وتسليم متاع المسافر إلى صاحب وسيلة النقل، مهما كانت قيمة الالتزام.
ويشير الأستاذ السنهوري إلى أن:
الإثبات بالبينة والقرائن في المسائل التجارية أمر جوازي للقاضي كما هو شأن الإثبات بالبينة وبالقرائن في أية مسألة أخرى، فقد رأينا أن القاضي يقدر ما إذا كان الإثبات بالبينة وبالقرائن مستساغا، ثم يقدر بعد ذلك ما إذا كانت البينة أو القرائن المقدمة للإثبات كافية لاقتناعه بصحة الواقعة المراد إثباتها أو غير كافية، فله إذن في المسائل التجارية أن يرفض الإثبات بالبينة وبالقرائن إذا رأى أن الإثبات بهما غير مستصاغ، و له أن يقدر أن هذا الإثبات لا بد من تعزيزه بالكتابة، وبخاصة ما هو مدون في الدفاتر التجارية، لا سيما إذا كانت التصرفات المراد إثباتها ذات قيمة كبيرة أو كانت مما يصعب ضبطه بغير الكتابة[26] .
وفي الأخير، فإن مما تجدر الإشارة إليه أن العبرة في الإثبات في المواد التجارية بطبيعة التصرف القانوني وصفات الخصوم المتقاضين لا بنوع المحكمة المفروض عليها النزاع، فقد يطرح نزاع تجاري أمام القاضي المدني فتطبق قواعد الإثبات التجارية، كما قد يطرح نزاع مختلط أمام القاضي التجاري، فيكون الإثبات مزدوجا تجاريا طبقا لقواعد الإثبات التجاري ومدني طبقا لقواعد الإثبات المدني.
المطلب الثاني: قوة الإثبات المحدودة للبينة والقرائن
كما سبق وأن رأينا في المطلب الأول أن للبينة والقرائن قوة مطلقة في إثبات الواقع المادية والتصرفات القانونية في المواد التجارية، مما يفيد أن قوة شهادة الشهود والقرائن القضائية في مجال إثبات التصرفات المدنية هي قوة محدودة، فأورد المشرع الجزائري في هذه المسألة قاعدة عامة أو أصلا عامة، وأورد على هذه القاعدة أو الأصل العام استثناءات، ومرجعنا دائما في معالجة هذه المسألة هو نص المادة 333 من القانون المدني. ويمكن تلخيص القاعدة العامة المعقودة بإيجاز بالقول أنها تتكون من عنصرين: العنصر الأول متعلق بأنه لا يجوز إثبات التصرفات المدنية إذا زادت قيمتها عن قيمة 100.000 دج إلا بالكتابة. والعنصر الثاني أنه إذا كان التصرف المدني لا تزيد قيمته عن 100.000 دج؛ فإذا كان ثابتا بالكتابة، فإن المشرع يحظر إثبات ما يخالف هذه الكتابة أو ما يزيد عليها إلا بالكتابة. ومن ثم يتضح لنا أن مجال الإثبات بشهادة الشهود والقرائن يضيق في ميدان التصرفات المدنية، وهذا الاشتراط الكتابة كوسيلة إثبات، لذا فإن قوة البينة والقرائن كطريقين من طرق الإثبات في التصرفات المدنية هي قوة محدودة وهذه هي القاعدة. وكما هو معروف فإن لكل قاعدة استثناء، و الاستثناء الوارد على هذه القاعدة جاءت به المواد 335 و 336 من القانون المدني الجزائري.
1) وجود مبدأ ثبوت بالكتابة (نص المادة 335 من القانون المدني).
2) وجود مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي ( نص المادة 336/ فقرة أولى) .
3) فقدان الدليل الكتابي بسبب أجنبي (نص المادة 336/ فقرة 2) ومفاد هذه الاستثناءات الواردة على القاعدة العامة أو الأصل العام هو عودة القوة المطلقة للبينية والقرائن في الإثبات فيما يزيد عن قيمة التصرف المدني عن قيمة 100.000 دج أو فيما يخالف الدليل الكتابي أو يجاوزه إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة طبقا للمادة 335 من القانون المدني. كما يجوز أيضا الإثبات بشهادة الشهود والقرائن في نفس الحالة إذا وجد مانع مادي أو أدبي حال دون الحصول على دليل كتابي أو حال دون تقديمه بعد الحصول عليه طبقا لنص المادة 336 في فقرتها الثانية إذا فقد الدليل الكتابي بسبب أجنبي عن الدائن أجاز المشرع وفق هذا النص الإثبات بشهادة الشهود والقرائن.
وسنعالج هذه المسائل في فرعين، الفرع الأول نخصصه للقاعدة العامة أو الأصل العام والفرع الثاني نخصصه للاستثناءات الواردة على القاعدة العامة أو الأصل العام.
الفرع الأول: القاعدة العامة أو الأصل العام .
ومقتضى هذه القاعدة العامة أو الأصل العام أن التصرفات المدنية طبقا لنص المادة 333 التي تزيد قيمتها على 100.000 دج أو تكون غير محددة القيمة لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود والقرائن بما يفيد بمفهوم المخالفة أن التصرفات المدنية التي تقل عن 100.000 دج يجوز إثباتها بشهادة الشهود وبالقرائن.
لكن الإرادة التشريعية الجزائرية قد تتطلب الكتابة لإثبات بعض التصرفات المدنية ولو لم تزد قيمتها عن 100.000 دج كما هو الشأن في عقد الكفالة، وعقد الصلح، وكذلك ما ذكرناه بشأن القاعدة التي توجب الكتابة في إثبات ما يخالف أو يجاوز الثابت بالكتابة حتى ولو لم تزد قيمة التصرف على مئة ألف دينار جزائري[27] وسنعالج الحالتين كل على حدى.
أولا: عدم قبول البينة (شهادة الشهود) والقرائن في تصرفات تزيد قيمتها عن 100.000 دج
بالرجوع إلى نص المادة 333 من القانون المدني نصل إلى نتيجة هي أن التصرف القانوني إذا كانت قيمة الإلتزام بشأنه لا تزيد عن 100.000 دج، فإنه لا يجوز إثباته شهادة الشهود أو بالقرائن، وبمفهوم المخالفة – فإن الالتزام الناجم عن التصرف القانوني إذا تجاوزت قيمة مبلغ 100.000 دج فإنه لا يجوز إثباته إلا بالكتابة باستثناء حالة وجود اتفاق بين الدائن والمدني خلاف ذلك، أو وجد نص في القانون يجيز خلاف ذلك وفي هذا الصدد صدر قرار المحكمة العليا المؤرخ في 07/07/1992 جاء فيه من المقرر القانوني في غير المواد التجارية إذا كان التصرف القانوني تزيد قيمته على 1000 دج أو كان غير محدد القيمة فلا تجوز البينة في إثبات وجوده أو انقضائه ما لم يوجد نص يقضي بغير ذلك فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون، ولما كان من الثابت في قضية الحال أن قضاة الموضوع بحكمهم بإثبات الدين اعتمادا على أن المدين لم يجب على الإنذار الموجه له فقد خرقوا القانون.[28]
ونص المشرع على وجود اتفاق بعيد أن هذه القاعدة في الإثبات ليست من النظام العام، لأن القواعد القانونية المتعلقة بالنظام العام لا يجوز للأطراف الاتفاق على خلافها.
أما بالنسبة لوجود قانون، فهناك نصوص قانونية تجيز الإثبات بشهادة الشهود والقرائن فيما يزيد عن 100.000 دج، كما إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة أو وجد مانع من الحصول على الكتابة أو من تقديمها بعد الحصول عليها كما نرى[29].
لكن الإشكال المطروح في هذا الصدد، كيف يتم تحديد التصرف القانوني المدني الذي تسري عليه هذه القاعدة، وكيف نحدد قيمة الالتزام الناشئ عن هذا التصرف؟.
1) تحديد التصرف المدني:
تشمل التصرفات المدنية جميع العقود مثل عقد البيع (المواد 351-412 من قانون مدني جزائري) وعقد القرض (المواد 450-458)، وعقد الإيجار (المواد 467-537 قانون مدني) وعقد المقاولة (المواد 549-570)، وعقد الوكالة (المواد 571-589 )، وعقد العارية (المواد 538-548)، وعقد الوديعة (المواد 590-601)، وهي من العقود التي ترتب الالتزام أو كما سماها المشرع الجزائري بالعقود المتعلقة بالملكية، وبصفة عامة فإن التصرفات المدنية تشمل جميع العقود والاتفاقات التي تقضي الالتزامات أو تنقلها أو التي يشترط القانون فيها الكتابة لا لإثبات العقد فقط بل أيضا لانعقاده مثل عقد الشركة، وقد تكون الكتابة لازمة لإثبات العقد أيا كانت قيمته مثل (عقد الصلح) و (عقد التحكيم). والخلاصة إلى أن جميع التصرفات المدنية إذا تجاوزت قيمتها 100.000 دج فيجب إثباتها كتابة، ويجدر التذكير أن هذه القاعدة ليست من النظام العام، طالما أجاز المشرع للأطراف الاتفاق مسبقا على طريق الإثبات.
2) تحديد قيمة الالتزام:
إذن، وكما سبق القول، حتى يفتح الباب للإثبات بشهادة الشهود وبالقرائن القضائية يجب أن لا يزيد قيمة الالتزام عن 100.000 دج، وقد كانت هذه القيمة قبل تعديل القانون المدني سنة 2005 بموجب القانون رقم 05-10 المؤرخ في(20/06/2005) هي 1000 دج، وهذا الانخفاض قيمة العملة.
ويشير المشرع بموجب الفقرة الثانية من نص المادة 333 من القانون المدني إلى أن الالتزام يقدر وقت صدور التصرف القانوني كما أجاز المشرع الإثبات بشهادة الشهود وبالقرائن إذا زادت قيمة الالتزام عن 100.000 دج وكانت هذه القيمة لم تنتج أو لم تأت إلا من ضم الملحقات التي قد تتمثل أساسا في الفوائد المترتبة عن أصل الدين.
وقد يكون محل الالتزام مبلغا من النقود فيكون من السهل تحديد قيمته.
وإذا كان النقد أجنبيا حول إلى نقد جزائري بسعره وقت صدور التصرف القانوني لا وقت المطالبة. و إذا كان محل الالتزام شيئا غير النقود، قدر القاضي قيمته صدور التصرف لا وقت صدور المطالبة[30].
أما في حالة اشتمال الدعوى على طلبات متعددة فإن الفقرة الثالثة من المادة المذكورة فأجاز المشرع بموجبها الإثبات بشهادة الشهود في كل طلب لا تزيد قيمته عن 100.000 دج، ولو كانت هذه الطلبات في مجموعها تزيد على هذه القيمة ولو كان منشؤها علاقات بين الخصوم أنفسهم، أو تصرفات قانونية من طبيعة واحدة، ونفس الشيء ينطبق على الوفاء: كل وفاء لا تزيد قيمته عن 100.000 دج.
ثانيا: عدم قبول شهادة الشهود فيما يخالف الكتابة أو يجاوزها
جاء نص المادة 334 من القانون المدني صريحا في هذه المسألة، حيث تقضي المادة 334 بأنه: لا يجوز الإثبات بشهادة الشهود، ولو لم تزد القيمة؛ قيمة الالتزام عن 100.000 دج، وتورد ثلاث حالات:
1) فيما يخالف الكتابة أو يجاوز أي فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون عقد رسمين وفي هذا الصدد صدر قرار المحكمة العليا المؤرخ في 16/06/1986 جاء فيه أنه من المقرر القانوني لا يجوز الإثبات بالبينة (شهادة الشهود) ولم تزد القيمة عن 1000 دج فيما يخالف أو يجاوز ما اشتمل عليه مضمون عقد رسمي ومن ثمة فإن القضاء بخلاف هذا المبدأ يعد مخالفا للقانون، ولما كان من الثابت – في قضية الحال- أن الطاعن يملك قطعة الأرض التي اشتراها بعقد رسمي وشيد عليها الدار المتنازع عليها، فإن قضاة الموضوع بإدخالهم الدار ضمن تركة مورث الأطراف اعتمادا على شهادة الشهود أن قطعة الأرض تم شراؤها بمال المورث، خالفوا القانون ومتى كان ذلك استوجب نقض القرار المطعون فيه.[31]
2) إذا كان المطلوب هو الباقي أو هو جزء من حق لا يجوز إثباته إلا الكتابة.
3) إذا طلب أحد الخصوم في الدعوى بما تزيد قيمته على 100.000 دج ثم عدل طلبه إلى ما يزيد على هذه القيمة.
يمكن حصر شروط تطبيق هذا الشق الثاني من القاعدة في أربعة:
1) أن تكون هناك كتابة أعدت الإثبات.
2) أن يراد إثبات ما يخالف هذه الكتابة أو يجاوزها.
3) أن يكون الإثبات مقصورا على العلاقة فيما بين المتعاقدين يتعدى إلى الغير.
4) ألا يكون هناك احتيال على القانون[32].
الفرع الثاني: الاستثناءات على القاعدة
والفكرة العامة التي تسيطر على هذه الاستثناءات تنقسم إلى طائفتين: الطائفة الأولى تضم حالات يوجد فيها دليل كتابي أو ما في حكمه يجعل الحق المدعى به قريب الاحتمال فهنا يوجد دليل ناقص يجوز إكمال دلالته بالشهادة فهي ليست الدليل الوحيد في الدعوى وإنما تأتي لإكمال اقتناع القاضي، والطائفة الثانية تشمل حالات معنية يمتنع على المدعى الحصول على كتابة للإثبات فنجد أن المانع يقوم من أول الأمر ويحول دون توفير الدليل بسبب فقد المدعي لسنده بعد الحصول عليه فتحل الشهادة محل الدليل الكتابي في هذه الحالات[33].
فإذن: إلى جانب الحالات التي أجاز فيها المشرع الإثبات بشهادة الشهود أصلا، أجاز في حالات أخرى الإثبات بشهادة الشهود على سبيل الانثناء وهي وجود مبدأ الثبوت بالكتابة، وجود مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي، وفقدان الدائن لسنده الكتابي بسبب أجنبي.
أولا: مبدأ الثبوت بالكتابة
فإذن حينما نقول أن المشرع نص على حالات يجوز الإثبات بشأنها بشهادة الشهود استثناءا نفهم بالضرورة أن الأصل في الإثبات بشأنها يكون بالكتابة وعلى أساس جملة من الاعتبارات استثنى المشرع هذه الحالات من الإثبات بالكتابة، وهي الحالات المذكورة بموجب المادتين 335 و336 من القانون المدني.
فتنص المادة 335 من القانون المدني: "يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بالكتابة إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة، وكل كتابة تصدر من الخصم ويكون من شأنها أن تجعل وجود التصرف المدعى به قريب الاحتمال تعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة".
ويستفاد من هذا النص انه لكي تكون بصدد مبدأ ثبوت بالكتابة".
يشترط توافر ثلاثة شروط:
1/ وجود الكتابة.
2/ أن تكون هذه الكتابة الصادرة من الخصم.
3/ أن يكون الحق المدعى به قريب الاحتمال.
1) وجود الكتابة:
كل كتابة تصلح أن تكون مبدأ ثبوت بالكتابة أيا كان شكلها وأيا كان الغرض منها، فسند غير موقع ودفاتر تجارية وسجلات وأوراق منزلية ومراسلات موقعة كانت أو غير موقعة ومؤرخة أو غير مؤرخة، وموجهة إلى من يحتج بها أو موجهة على الغير ما دام يمكن عرضها على القضاء[34].
هذه الكتابات المذكورة كلها إذن تعتبر مبدأ ثبوت بالكتابة أو بعبارة أوضح بداية ثبوت بالكتابة، فهي إذا وجدت وكانت تدل على تصرف قانوني مما يجب في الأصل إثباته بالكتابة فإنه يجوز أن يثبت بشهادة الشهود طالما وجدت معه بداية الإثبات بالكتابة.
وقد اعتبرت المحكمة العليا وجود بعض فاتورات المصوغ في حيازة الزوجة - وهو دليل غير كامل على ملكيتها له- بأنه يمكن إكماله بشهادة الشهود طبقا للمادة 334 المذكورة إذ قضت أن (النزاع القائم بين الزوج والزوجة حول المصوغ الذي عجزت عن إثبات ملكيته لها بالكتابة سوى حيازتها، دون تشكيل دليل كامل لملكياتها له كله، فإنه يجوز حسمه بوسيلة إثبات أخرى كاليمين المتممة ما دامت الفاتورات المذكورة تشكل -لصالح الزوجة- قرينة جديرة التعزيز بهذه الوسيلة إلى جانب المصوغات التي تنسب عادة بالنظر إلى طبيعتها إلى المرأة).
والقضاة الذي استبعدوا طلب الزوجة الرامي إلى تثبيت ادعائها بالشهود يكونوا قد خالفوا أحكام المادة 335 من القانون المدني الجزائري التي تجيز في مقتضياتها حسم النزاع بوسائل إثبات غير الكتابة مما ينعني معه نقض القرار[35].
2)- صدور الكتابة من المدعي عليه:
وطبقا لنفس النص أنه يجب لاعتبار الكتابة أو الورقة المكتوبة بداية ثبوت بالكتابة أن تكون صادرة من المدعي عليه سواء صدرت منه شخصيا أو من نائبه القانوني كالولي أو الوصي، أو من نائبه الإتفاقي (الوكيل).
والقاعدة أن الورقة تعتبر صادرة من الخصم إذا كانت مكتوبة بخط يده، أو كانت ممضاة من طرفه إذ لم تكتب بيده، أو كانت مكتوبة بخط نائبه سواء القانوني أو القاضي، أو كانت محضر رسمي سجل فيه تصريح له؛ فهذه الورقة تعتبر صادرة منه رغم أنها لم تكتب من طرف، ولم توقع منه ولا من نائبه لمحاضر التحقيق.
والورقة الصادرة من الزوج لا يحتج بها على زوجته، ولا يحتج بالورقة الصادرة من الزوجة على زوجها، وكذلك لا يحتج بالورقة الصادرة من الابن على أبيه ولا من الابن على أبيه، ولا يحتج بالورقة الصادرة من أحد الشركاء في الشيوع على باقي الشركاء[36].
3)- تجعل الحق المدعي به قريب الاحتمال:
ومعني قرب الاحتمال أنه لا يكفي أن تكون الورقة المقدمة كمبدأ ثبوت بالكتابة من شأنها أن تجعل الواقعة المراد إثباتها محتملة بل يجب أن تجعل هذه الواقعة مرجحة الحصول، لا ممكنه الحصول فحسب[37].
وحتى تكون الورقة المكتوبة بداية ثبوت بالكتابة يجب أن يكون محتواها قريب الاحتمال في نسبته إلى الخصم، وعلى سبيل المثال إذا راسل مدين دائرته برسالة وذكر فيها دينه العالق في ذمته فإن هذه الورقة تعتبر بداية ثبوت بالكتابة ويجوز للدائن الاحتجاج بها ولو لم يذكر المدين بموجب هذه الرسالة مقدار الدين ولا تاريخ الوفاء به، فيجوز إثبات مقدار الدين بشهادة الشهود، ولو تجاوز هذا الدين المبلغ المنصوص عليه بنص المادة 333 وهو 100.000 دج .
فإذا توافرت هذه الشروط الثالثة استكمل مبدأ بداية الثبوت بالكتابة جواز الدفع به بالنسبة للدائن فيجوز حينئذ الإثبات بشهادة الشهود القرائن، ما كان أصلا إثباته بالكتابة التي هي الدليل الكامل ولكن ليس هذا واجبا على القاضي بل له السلطة التقديرية في الاستجابة لطلب الدائن سواء بالترخيص له باستحضار الشهود أو رفض طلبه.
كما أنه – كما سبق القول – فإن هذه النص ليس من النظام العام، بما يفيد أن القاضي لا يثيره من تلقاء نفسه إذا ما ظهر له بداية ثبوت بالكتابة.
ثانيا: قيام المانع من الحصول على الكتابة
تنص المادة 336 من القانون المدني على أنه (يجوز الإثبات بالشهود أيضا فيما كان إثباته بالكتابة إذا وجد مانع في مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي) ويستفاد من هذا النص أنه إذا كانت هناك ظروف تحول دون حصول الشخصي على دليل كتابي فإن الإثبات بالشهود يكون جائزا، والمشرع – في هذه الحالة – أجاز الإثبات بشهادة الشهود إذا كانت قيمة التصرف تتجاوز 100.000 دج. أو ما يخالف أو يجاوز الدليل الكتابي.
ويلاحظ أن هذا الاستثناء لا يسري بالنسبة للتصرفات الشكلية إذ كما هو معروف أن الكتابة في هذا التصرفات ركن من أركان التصرف فإن تخلفت انعدم التصرف[38].
والمانع سواء كان ماديا كان أو معنويا هو واقعة مادية يكلف بإثباتها الخصم الذي يدعيها، وله أن يثبتها بالبينة والقرائن، فيجب على الخصم أولا أن يثبت قيام المانع ثم يثبت بعد ذلك التصرف القانوني المدعي به، ويثبت هذا وذلك بجميع الطرق. وأيا كان المانع، - ماديا أو أدبيا- فإن تقديره موكول إلى قاضي الموضوع وهو لا يخضع في ذلك إلى رقابة محكمة النقض[39].
والسؤال المطروح: ما المقصود بالمانع المادي، وما المقصود بالمانع الأدبي، وستعالج كل عنصر على حدى.
1)- المانع المادي:
المانع المادي هو انعدام الوسائل المادية أو حيلولة ظروف مادية للدائن تحول دون تمكنه من تهيئة الدليل الكتابي على تصرف قانوني أبرمه كالتصرفات القانونية التي تبرم أثناء حوادث طارئة مثل الزلازل والفيضانات[40].
ويورد الفقه عموما أمثلة عن المادي بالوديعة التي يودعها صاحبها مضطرا الذي شخص آخرا لم تسمح له ظروفه بأخذ دليل على إيداعه لها من المودع لديه، فيرى الفقه جواز إثبات هذه الوديعة من المودع بشهادة الشهود ولو تجاوزت قيمة نصاب 100.000 دج، كما يورد الفقه مثلا عن ذلك بالنزيل في الفندق الذي يودع متاعه لدى إدارة الفندق أو ميسره لأن ظروف استقباله حالت دون قيام إدارة الفندق بجرد المتاع فإذا نشب نزاع بين النزيل وإدارة الفندق، فيكون لهذا النزيل الإثبات بشهادة الشهود ولو تجاوزت قيمة المتاع النصاب المحدد بنص المادة 333 من القانون المدني والمقدر بـ 100.000 دج.
2)- المانع الأدبي:
والمقصود بالمانع الأدبي الحالة النفسية التي تمنع المتعاقد من طلب دليل كتابي من الطرف المتعاقد معه، والسلطة التقديرية للقاضي في قبول هذا المانع الذي يدفع به الخصم من عدمه، وهو مسألة موضوعية تخضع في تقديرها لقاضي الموضوع دون رقابة عليه من المحكمة العليا.
وأكثر ما ترجع الموانع الأدبية – وفقا لأحكام القضاء – إلى أمور ثلاثة:
1) الزوجية و القرابة، 2) علاقة الخدمة، 3) العرف المتبع في بعض المهن[41]، وفي هذا الصدد صدر قرار المحكمة العليا المؤرخ في 15/07/1990، جاء فيه أنه من المقرر القانوني أنه يجوز الإثبات بالبينة (شهادة الشهود) لمن وجد له مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي، ومن ثم فإن النعي على القرار بمخالفة القانون في غير محله.
ولما كان من الثابت في قضية الحال أن علاقة الطرفين هي علاقة الأبوة والبنوة وتمثل مانعا أدبيا ومن ثم فإن قضاة الموضوع عند أخذهم بالبينة (شهادة الشهود) كانوا مطبقين القانون التطبيق السليم ومتى كان كذلك استوجب رفض الطعن.[42]
ثالثا: قيام المانع من تقديم الكتابة لفقدها بسبب أجنبي:
ونص المشرع الجزائري على هذه الحالة بموجب نص المادة 336 من القانون المدني وهذا الاستثناء في جواز إثبات التصرف القانوني بشأنه يفترض أنه كان هناك دليل كتابي مثبت للتصرف، لكنه ضاع بسبب أجنبي عن إرادة الدائن.
ولما كان لا يمكن أن ينسب إلى المدعي أي تقصير لأن فقد السند لم يكن بخطأ منه فقد أجاز النص للمدعي أن يثبت بالشهود ما كان يجب عليه إثباته بالكتابة، ويشترط لكي يستفيد المدعي من الحكم المذكور للمادة أن يقيم الدليل على سبق وجود السند وفقدان هذا السند بسبب أجنبي عنه.[43]
ويمكن استنباط مدلول السبب الأجنبي من نصوص القانون المدني ذاته، بنص المادة 127 منه التي أورد فيها المشرع السبب الذي لا يد (لمرتكب الخطأ في باب الفعل المستحق للتعويض) له فيه بالحادث أو القوة القاهرة أو بسبب المتعاقد الأخر.
ويمكن تلخيص هذا العنصر بالقول أن هذه الصورة؛ صورة فقدان الدائن لسنده الكتابي بسبب أجنبي في كون الدائن سبق له الحصول على دليل كتابي وقت إنشاء التصرف المبرم مع خصمه ولكنه فقده -كما سبق القول- نتيجة قوة قاهرة غير متوقعة ولم يكن له قوة لردها كالحريق مثلا، ولذلك أباح المشرع لهذا المتعاقد أن يثبت بشهادة الشهود ما كان يجب إثباته بالكتابة، حتى ولو كانت الكتابة شرطا للانعقاد لا للإثبات كفقدان عقد البيع مثلا، فحتي يفتح للدائن باب الإثبات بشهادة الشهود لتصرف تتجاوز قمته 100.000 دج عليه أن يثبت أنه كان يحوز على دليل كتابي مستوف شروطه القانونية، وطالما أن فقده لهذا الدليل هو واقعة مادية، فله إثباتها بجمع الطرق. كما يجب على الدائن لكي يستفيد من حكم المادة المذكورة أن يثبت فقدان السند أو الدليل الكتابي بسبب أجنبي كما سبق القول، كما تجدر الإشارة في الأخير إلى أن هذا الإثبات مفتوح للدائن بجميع الطرق باعتباره واقعة مادية.
الخاتمة:
إن أهم ما يمكن استخلاصه من خلال بحثنا من نتائج أن البينة (شهادة الشهود) كما كان المشرع الجزائري يصطلح عليها قبل التعديل الذي ألحقه القانون المدني في 2005، والقرائن القضائية؛ هي طرق إثبات ذات قوة محدودة.
كما أنهما طريقان متعادلان من حيث حجيتهما القانونية في الإثبات، باعتبار أن ما يمكن إثباته بشهادة الشهود يستطاع إثباته بالقرائن القضائية.
كما أن كلى الطريقين أضعف من الكتابة ذات القوة المطلقة في الإثبات، كما أنهما ليس الأصل في الإثبات إلا في مجال محدود ويأخذان وصف طرق إثبات تكميلية عند وجود مبدأ ثبوت بالكتابة كما أنهما يكونان بديلين عند وجود مانع يحول دون الحصول على دليل كتابي، أو وجود حائل دون تقديم هذا الدليل الكتابي بعد الحصول عليه.
فإذا عرفنا أن شهادة الشهود والقرائن القضائية هي ذات قوة مطلقة في مجال إثبات الوقائع المادية والتصرفات التجارية فإن هذا لا يشكل إلا استثناءا من الأصل الذي هو أن هذين الطريقين هما ذات قوة محدودة.
ورجاؤنا أن يكون التوفيق قد حالفنا في الإلمام بجميع عناصر الموضوع آملين أن يكون خطوة أولى في مجال البحث العلمي.
________________________________
[1] - الدكتور عبد الرزاق السنهوري-الوسيط في شرح القانون المدني-ج2ص13
[2] - الدكتور عبد الوهاب العشماوي: إجراءات الإثبات في المواد المدنية و التجارية -دار الفكر طبعة2، ص 25.
[3] - السنهوري- نفس المرجع- ص16
[4] - الدكتور عبد المنعم فرج الصدة :الإثبات في المواد المدنية-مطبعة الحلبي 1955 ص 10.
[5] - السنهوري : المرجع السابق – ص 26.
[6] - السنهوري : المرجع السابق – ص – 28 .
[7] - الدكتور عبد المنعم فرج الصدة : المرجع السابق، ص 9 .
[8] - السنهوري : المرجع السابق – ص 32 .
[9] - السنهوري :نفس المرجع – ص 46 -47
[10] - دكتور عبد الوهاب لعشماوي- إجراءات الإثبات في المواد المدنية والتجارية- دار الفكر العربي- ص 207.
[11] - السنهوري- المرجع السابق-ص 311.
[12] - السنهوري-المرجع السابق، ص 312.
[13] - بكوش يحي- أدلة الإثبات في القانون المدني الجزائري والفقه الإسلامي، 1981 ص 192-ص193
[14] - السنهوري- المرجع السابق-ص 312
[15] - السنهوري، المرجع السابق، ص 321.
[16] - عبد المنعم فرج الصدة، المرجع السابق، ص 283.
[17] - السنهوري – المرجع السابق – ص 330.
[18] - محمد صيري السعدي- الواضح في شرح القانون المدني (4) الإثبات في المواد المدنية و التي ريه – طقا لاحدث التبديلات المزيد من أحكام القضاء الطبعة الأولى – دار هرمة-2008.
[19] - السنهوري : المرجع السابق – ص 339 .
[20] - الدكتور محمد صبري السوري : الواضح في شرح القانون المدني الجزائري (4) الإثبات – دار هومة 2008 .
[21] - نشرة القضاة، العدد 43 ، ص 65.
[22] - السنهوري : المرجع السابق – ص 342 .
[23] - د. محمد صبري السعدي : المرجع السابق ص 123 .
[24] - المجلة القضائية، 1990، العدد الاول، ص 139.
[25] -السنهوري : المرجع السابق ص 349
[26] - السنهوري : المرجع السابق – ص 350 .
[27] - د . محمد صبري السعدي – المرجع السابق – ص 128 .
[28] - المجلة القضائية، 1993، العدد الثالث ، ص 164.
[29] - السنهوري : المرجع السابق – ص 373 .
[30] - السنهوري : المرجع السابق – ص 397 .
[31] - المجلة القضائية ، 1992، العدد الثالث، ص 61.
[32] - السنهوري، المرجع السابق، ص 397.
[33] - محمد صبري : السعدى – المرجع السابق – ص 129 .
[34] - د. توفيق فرج، قواعد الإثبات في المواد المدنية والتجارية، مؤسسة الثقافة الجامعية، 1985، ص 195.
[35] - المجلة القضائية، 1989، العدد الأول ، ص 29.
[36] - السنهوري – المرجع السابق –ص 434
[37] - السنهوري –المرجع السابق -435
[38] - محمد صبري السعدي – المرجع السابق – ص 138.
[39] - إدوار عيد، قواعد الإثبات في القضايا المدنية والتجارية، الجزء الأول، مطبعة النثر، بيروت، 1961، ص 346.
[40] - رمضان أبو السعود، أصول الإثبات في المواد المدنية والتجارية، النظرية العامة للإثبات، مطبعة بيروت، 1993، ص 209.
[41]- السنهوري، المرجع السابق، ص 460.
[42] - المجلة القضائية، 1991، العدد الثالث، ص 106.
[43]- د. محمد صبري السعدي، المرجع السابق، ص 143.