التحكيم في منازعات عقود الاستثمار
* نشر هذا البحث في مجلة نقابة المحامين العددان التاسع والعاشر أيلول وتشرين أول 2002
بسم االله الرحمن الرحيم
" التحكيم في منازعات عقود الاستثمار "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمر مشهور حديثة الجازي *
مقدمة:
إن الحديـث عـن الاسـتثمار يتطلب بالضرورة فهم معانيه وأبعاده في ظل ما يسمى بعصر
العولمـة ) ( Globalisationفغالـباً مـا تكون نشاطـات الإستثمار الدولية متعلقة بحركة
البضـائع والخدمات ورؤوس الأموال والأشخاص عبر الحدود الوطنية لدول مختلفة ، وعلى
عكـس الإسـتثمار الوطنـي حيـث يكـون المستثمر الوطني على معرفة وإطلاع بالقوانين
والتعلـيمات فـإن المستثمر الأجنبي لا يكون مطلعاً بشكل كامل على هذه القوانين ، وعادةً ما
يـتخذ الإسـتثمار الأجنبـي شـكل الإستثمار الأجنبي المباشر ) (FDIوالذي يشكل العصب
الأساسي للعولمة أو يتخذ شكل الإستثمار غيرالمباشر).(Portfolio
وكثـيراً مـا يتم الإلتجاء إلى التحكيم بوصفه وسيله ودية لفض منازعات الإستثمار بين الدول
المضيفة وبين المستثمرين الأجانب ، وبصفه خاصة عندما تفشل المفاوضات بين الطرفين .
وعلـيه فـإن إدراج شـرط التحكيم في مجال عقود الاستثمار لـيس بالـمنـهج المستحدث
ففـي بداية القرن المنصرم وفـي غياب تشـريعات وطنـية خاصـة بالاستثمار و باستغلال
المـوارد الطبيعـية ، درج أطراف عقود الامتياز البترولية وعقود الأشغال العامة على قبول
شـرط التحكـيم وخير مثال على ذلك معظم الاتفاقات البترولية التي أبرمتها المملكة العربية
السـعودية مـع شـركات الـنفط الأجنبية في القرن الماضي، ونـجد شرط التحكيم موجود
في أغلب إتفاقيات الإستثمار الـثنائـية ) (BIT`sالتي تبــرم بيـن الدول المضيفة ودولة
* دكتور في الحقوق ، محاضر جامعي غير متفرغ ومحامٍ مزاول في الأردن
المسـتثمر الأجنبي وغالباً مـا تمنح هذه الإتفاقيات الحماية الكافية لرعايـا الدول الأخـرى
الطـرف في هذه الإتفاقية بما في ذلك الحماية من إجراءات الدولة المضيفة الإستثنائية وما قد
يلحق ذلك من إجراءات تمس أموال المستثمر وتعيق من حركة أمواله . والهدف الرئيسي من
هذه الإتفاقيات هو وضع نظام شامل لجميع الموضوعات الخاصة بالإستثمار وتتضمن شروط
هـذه الإتفاقـيات على سبيل المثال، عدم التمييز في المعاملة ومبدأ عدم التدخل في العلاقات
الـتعاقدية والسماح بإعادة الدخل إلى دولة المستثمر بالعملة المّحوله، وكذلك الحق في الحماية
والضمان الكاملين والسماح بالتعويض السريع والكافي في حالة صدور قرارات بتأميم أو نزع
الملكـية للمـنفعة العامـة مـن الدولة المضيفة ، كل هذا تمت الإشارة إليه في قانون تشجيع
الاستثمار الأردني.وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن الأردن يرتبط مع دول شقيقة وأخرى
صـديقة باتفاقـيات التشـجيع والحمايـة المتبادلة للإستثمارات الثنائية والتي يبلغ عددها سبع
وعشرون اتفاقية .
مركز تسوية منازعات الاستثمار )(ICSID
فـي كثـير مـن الحـالات قد يتطلب شرط التحكيم من الطرف صاحب المطالبة الدخول في
مفاوضات ونقاشات مع الطرف الآخر قبل اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاع و بربط ذلك بمدة
زمنـية معينة) . (Pre-Arbitral Processوكثيراً ما تحيل بنود التحكيم هذه النزاعات الـى
الـمركــز الـدولي لتسـوية منازعـات الإسـتثمار ) ( ICSIDفي واشنطن حيث أن
هـناك ما يزيد عن سبعمائة اتفاقية استثمار ثنائية من أصل ألفي اتـفاقية تحـيل النـزاعات
إلـيه . ومن الجدير بالذكر أن هناك ثلاث عشر دولة عربية قد صادقت على اتفاقية واشنطن
لتسوية منازعات الإستثمار لعام 1965ومن بيـنها الأردن الـذي وقـع علـى الإتـفاقـية
فــي 1972/7/14ودخلت حيّز التنفيذ في 1972/11/29وهذه الدول العربية بالإضافة إلى
الأردن هـي : الجزائـر ، البحريـن، مصر ، الكويت ، المغرب ، عُمان ، المملكة العربية
السـعودية ، السـودان ، تونس والإمارات العربية المتحدة ، أما الجمهورية اليمنية فقد قامت
بالتوقيع على الاتفاقية ولكنها لم تصادق عليها حتى الآن ومن هذه الدول كالسعودية والإمارات
من تشترط موافقة مجلس الوزراء المسبقة للدخول في أي إتفاقيات تحكيم .
وقـد تكـون احـالة النـزاعات الـى الـمركز الـدولي لتسوية منازعـات الإسـتثمـار
) (ICSIDواردة فـي نـص تشريعي ، وغالباً ما يكون هذا النص موجود في قوانين تشجيع
الإسـتثمار كما هي الحال في المادة ) (33من قانون تشجيع الإستثمار الأردني رقم ) (16لعام
1995حيـث أعطت هذه المادة الخيار للحكومة وللمستثمر الأجنبي بإحالة النزاع إلى القضاء
أو المركـز إذا لـم تـتم تسويته ودياً خلال مدة لا تزيد على ستة اشهر. ومن خلال مطالعة
القضايا المفصولة عن طريق المركز يتبين أن هناك أربع قضايا بأطراف عربية هي المغرب
ومصـر وتونـس قـد فصلت بعد عرضها على المركز ، أما بالنسبة للقضايا المنظورة أمام
المركـز حالياً فإن هناك سبع قضايا بأطراف عربية ما زال المركز ينظر فيها وهذه الأطراف
هي : المغرب والإمارات ومصر .
وفـي ظل اعتقاد سائد بأن الأجهزة القضائية في الدول النامية ليست على الدرجة الكافية من
الاستقلال في مواجهة السلطة السياسية ، وفي ظل غياب المحاكم الوطنية لدى هذه الدول التي
تـتوافر لها الدراية بشؤون الاستثمار فإن التحكيم الدولي بات وسيلة مقنعة ووحيدة من وجهة
نظر المستثمر الأجنبي لتسوية وفض منازعاته مع الدول المضيفة .
إن وضـع التحكيم الدولي وتوظيفه في خدمة العلاقات الاقتصادية الدولية لا يجب أن يقتصر
فحسـب علـى تشـجيع الاسـتثمار الخاص الأجنبي وإنما يجب أن يتم من منظور المصلحة
المتبادلة للطرفين المستثمرالأجنبي والدولة المضيفة وهو ما يقتضي الأخذ في الاعتبار الطبيعة
الخاصة لمنازعات الاستثمار .
اتفاقيات الاستثمار الثنائية )(BIT's
إن أهـم ما يميز التحكيم في المنازعات التي تنشأ بين الدولة المضيفة والمستثمر الأجنبي عن
المفهوم التقليدي للتحكيم التجاري الدولي يتمثل في أن الإختصاص والسند الأساسي لهذا النوع
مـن الـتحكـيم ينـشأ عن معاهدات الإستثمار المختلفة سواء الثنائية ) (BIT`sأم الجماعية
) (MIT`sفي حين أن مصدر التحكيم التجاري الدولي هو اتفاقيات خاصة بحتة .
قـبل إتفاقـية واشنطن وتأسيس مركز تسوية منازعات الإستثمار) ( ICSIDكانت اتفاقيات
الإسـتثمار الثنائية ) ( BIT`sتشتمل على بنود أفقية ) (Horizontalأي لتسوية المنازعات
بين الدول ، ولم تكن البنود قطرية ) (Diagonalأي لتسوية المنازعات بين المستثمر الأجنبي
والدولة المضيفة موجودة إلا في عقود الإستثمار المبرمـة مباشرة بين المستثمر والدولة
المضـيفة ومـثال علـى ذلك اتفاقية الاستثمار الثنائية المبرمة بين سـويسـرا والأردن عام
1976والتـي احـتوت على بـند أفـقي ) (Horizontalوقد حلّت محل هذه الإتفاقية بعد
ذلك، إتفاقية جديدة بين البلدين أبرمت عام 2001واحتوت على بند قطري ) . ( Diagonal
الدولة كطرف في منازعات الاستثمار
إن أهم خصوصية من خصوصيات التحكيم في مجال منازعات الاستثمار تتمثل في وجود
الدولة أو أحد أشخاصها الاعتباريةالعامة طرفاً في هذه المنازعات مما يضفي على هذا التحكيم
طابعاً خاصاً ، هذا الطابع الخاص يستمد أساسه في بعض الحالات من واقعة عدم توافر القدرة
لدى الشخص الاعتباري العام على الدخول طرفاً في اتفاق تحكيمي أو نظراً الى اعتبارات
السيادة التي قد تحيط ببعض التصرفات التي يجريها هذا الشخص الاعتباري .
فقد شهد العالم خلال الأعوام الماضية تطوراً ملحوظاً في دور الدولة تمثل في قيامها وكذلك
الأشخاص الاعتبارية التابعة لها بأنشطة اقتصادية كانت تقتصرمن قبل على المبادرات
الفردية أو أشخاص القانون الخاص الاعتبارية بوجه عام . وقد واكب التدخل المتعاظم للدول
في مجال المعاملات الإقتصادية الدولية انتشار الأخذ بأسلوب التحكيم كوسيلة خاصة لفض
المنازعات المتعلقة بأنشطة التجارة الدولية لتتلائم مع طبيعتها وتتفق مع مقتضياتها وتلبي
احتياجاتها .
وفـي الواقـع ، فـإن هناك إحساساً لدى الكثيرين بأن التحكيم لا يمثل ضمانات حقيقية للدولة
المضـيفة وأنه ليس إلاّ وسيلة لحماية المستثمرين تضمن لهم تطبيق نظم قانونية دولية لا تأخذ
في الاعتبار الظروف الخاصة بالدولة أو قوانينها الداخلية ، فقبول الدول النامية للجوء للتحكيم
أساسـه حاجتها الملحة للحصول على رؤوس الأموال اللازمة لتحقيق خططها التنموية وليس
بالضرورة عن قناعة من جانبها بملائمة التحكيم لفض منازعات الاستثمار .
مـن خـلال العـرض لموضوع هذه المطالعة يصعب علينا الخوض في مشكلة تكييف قدرة
أشخاص القانون العام الاعتبارية على الدخول طرفاً في اتفاق تحكيمي وما قد يترتب على ذلك
من اعتبار لجوء الدول للتحكيم تنازلاً ضمنياً عن الحصانة القضائية . ما يهمنا في هذا الصدد
التأكـيد علـى أن وجـود الدولـة أو أحد أشخاصها الاعتبارية العامة طرفاً في التحكيم في
مـنازعات الاستثمار يضفي على هذا النوع من التحكيم طابعاً خاصاً يستلزم المعالجة المتأنية
حـتى لا يفقد التحكيم فاعليته في هذا المجال وتنهار إحدى الضمانات الهامة التي يعّول عليها
المسـتثمر فتدفعه إما إلى الإحجام عن الاستثمار أو طلب نقل عبء مخاطر هذا الاستثمار إلى
إحدى وكالات أو مؤسسات الضمان المتخصصة كالوكالة العربية لضمان الاستثمار أو غيرها
لـذا فقد كان طبيعياً اعتبار النصوص القانونية المانعة للأشخاص الاعتبارية العامة من اللجوء
للتحكـيم غير مبررة وتسير ضد التيار . وتجدر الاشارة هنا إلى أن مفهوم الحصانة القضائية
التـي أرسـت دعائمهـا مـبادىء القانون الدولي العام أصبح محلاً للجدل عند الحديث عن
مـنازعات الإستثمار خاصة أن الاتجاه الفقهي والقضائي والذي تبنته العديد من أحكام التحكيم
يـرى في اتفاقات التحكيم التي تبرمها الدول في احدى هذه المجالات تنازلاً عن هذه الحصانة
القضائية .
من أجل استقرار المعاملات فإنه يجب على الدولة المضيفة أن تفي بما قطعته على نفسها من
الـتزامات ومـا وعـدت به المستثمر من ضمانات ، فالمسألة لا تتعلق باستدراج المستثمر
للإسـتثمار وإنما يجب أن ينصب اهتمام الدول على توفير الثقة لدى هذا المستثمر ، فما الذي
يضير الدولة من اللجوء الى التحكيم اذا كانت حقوقها واضحة وحجج خصمها داحضة، أما
اذا كانت غايــة الدولة الإلتفاف حول تعهداتها فقد تكسب دعواها الاّ أن مردود مواقفها تلك
على مناخ الاستثمار يجعلها هي الخاسرة في النهاية وفاقدة لمصداقيتها .
إن روابـط الاسـتثمار بطبيعـتها ذات آجال طويلة ، كما أنها ذات صلة وثيقة بكيان الدولة
المضـيفة سـواء بطـريق مباشر ، عندما يتعلق الأمر باستغلال الثروات الطبيعية للبلاد أو
بطـريق غير مباشر ، من ناحية تأثيرها في خطط التنمية الاقتصادية للبلاد ، مما جعل للدولة
كطـرف فـي هـذه الروابط امتيازات وصلاحيات تضفي على المنازعات التي تثور بمناسبة
استخدامها طابعاً خاصاً .
لذا كان من الطبيعي أن تدور منازعات الاستثمار حول تغّير الظروف السياسية والاجتماعية
والاقتصادية التي صاحبت نشأة عقد الاستثمار مما قد يدعو الى ضرورة مراجعة أو إعادة
التفاوض بشأن إلتزامات أطرافه ، وقد تدفع مثل هذه المتغيرات بالدولة الى اتخاذ بعض
الاجراءات أو اللجوء لبعض الأعمال النابعة من سلطاتها السيادية .
إن الـتوازن الاقتصادي يعد من العناصر الهامة في العقود بصفة عامة وخصوصاً في مجال
الاستثمار. هذا التوازن الاقتصادي يتأثر بلا شك بفعل التغّير في الظروف التي عاصرت إبرام
العقد ، تلك الظروف قد تعرض هذا التوازن للإنهيار التام كما في حالات القوة القاهرة ، وقد
تصـيب هـذا الـتوازن بالخلل مما يدعو الأطراف الى مراجعة العقد وإعادة التفاوض بشأن
شروطه ، ولهذا فقد جرى العمل على إدراج شرط القوة القاهرة في عقود الاستثمار . إلا أن
ذلـك لم يحل دون حدوث كثير من المنازعات الناتجة عن اعمال هذا الشرط والتي أكدت في
الوقت نفسه على أن التحكيم هو الوسيلة المثلى لفض منازعات الإستثمار بصفة عامة.
القوة القاهرة كسبب من أسباب منازعات الاستثمار
إن المنازعات التي تدور حول حالة القوة القاهرة يغلب عليها الطابع الفني ومن ثم فإن الفصل
فـيها يحتاج إلى آلية خاصة يتوافر للقائمين عليها الخبرة والدراية العلمية الكافية . هنا تبرز
أهمـية التحكـيم لفـض مثل هذه المنازعات وذلك لأن الأطراف لا يودون في الغالب إنهاء
رابطـتهم العقديـة بسبب هذا الحدث الذي أوجد حالة من القوة القاهرة ، وإنما قد يجدون من
المناسـب أكـثر مـن ذلك أن يعيدوا النظر في هذه الرابطة لتصبح أكثر توافقاً مع الظروف
الجديـدة ولينطلق تعاونهم من جديد على أساسها في مثل هذا المناخ الذي لا يتسم بالنّدية التي
تسود الخصومات عادةً ، وذلك على عكس القواعد العامة المستقرة في معظم الأنظمة القانونية
حيث قد يفضل الأطراف انهاء الروابط فيما بينهم .
فـي الواقع إن الغرض من إدراج شرط القوة القاهرة في مجال العقود بصفة عامة هو تحديد
المقصـود بهـا ، وذلـك إما بالإحالة في مثل هذا الصدد لنظام قانوني معين وغالباً ما يكون
القـانون الواجـب التطبـيق على العقد نفسه ، أو إجراء تحديد حصري يتضمن بياناً جامعاً
بـالأحداث التي تندرج تحت هذا المصطلح ، وهنا تكون لعقود الاستثمار خصوصيتها لارتباط
هـذه الأحـداث عـادة بالحـياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية أو لصلتها بطبيعة النشاط
الإقتصادي نفسه .
إذا كانت القواعد العامة تقضي بأن القوة القاهرة من شأنها انقضاء الالتزام وعدم تحمل المدين
تـبعة عدم تنفيذه خصوصاً في العقود ذات الإلتزامات المتقابلة ، فإن الأمر يختلف في عقود
الاسـتثمار حيـث أن هـناك حـرص على مواجهة الأحداث المستقبلية عند وقوعها لضمان
استمرار هذه العلاقة الاستثمارية بين الأطراف المعنية .
كمـا سـبق أن أوضحت ، فإنه لا شك أن مهمة الفصل في المنازعات التي تدور حول تحقق
شـرط القوة القاهرة والنتائج المترتبة على ثبوته ، هي مهمة فنية في المقام الأول . فالمنازعة
قـد تـتعلق بتنفيذ غير مطابق للمواصفات في ظل القوة القاهرة التي حالت دون التنفيذ الأمثل
المـتفق علـيه في العقد ، وقد تتعلق المنازعة بتحديد درجة الخطر الذي لحق بالمتعاقد الآخر
ومـا اذا كان مبرراً كافياً لايقاف العقـد أو أنـه قـد وصـل الى درجة يتعين معها إنهاؤه ،
كما قد تدور المنازعة حول اقرار مبدأ التعويض ، إن كان له محل طبقاً لشروط العقد ومداه .
هذه المسائل ذات الطبيعة الفنية تضاعف من صعوبة المهام الملقاة على عاتق هيئات التحكيم ،
فحـتى على فرض تعيين هذه الهيئات التحكيمية لخبراء على مستوى عالٍ من التخصص في
هـذا المجـــال فإن مرور الوقت بين وقوع أحداث القوة القاهرة واحالة النزاع للتحكيم ثم
تعييـن خبراء يجعل من المتعذر الوصول الى نتائج تتفق وظروف النزاع خاصةً اذا ما أخذنا
بعيـن الإعتـبار مـن أن اللجوء للتحكيم غالباً ما لا يحدث الاّ بعد مناقشات ومفاوضات بين
أطرافه محاولة للوصول الى تسوية سلمية للنزاع .
بشـكل عام فإنه في حالة غياب شرط صريح خاص بالقوة القاهرة يحدد نتائجها، أو في حالة
عدم وجود اتفاق أصلاً بين الأطراف حول هـذه النتائج فإن تحديد أثر هذه القوة القاهرة على
اسـتمرارية العقـد يدخل في الاختصاص الأصـيل لهيئة التحكيم فتختص هذه الهيئة بإعادة
ضبط العلاقة القانونية بين أطرافها وإعادة التوازن للعقد مرة ثانية .
محاذير الشركات الأجنبية المستثمرة
إن معظـم الـنزاعات التي تقوم بين حكومات الدول المضيفة ، والنامية منها بصفة خاصة ،
والشـركات الأجنبـية ، مبعـثها تمسّك هذه الحكومات بضرورة توفر المزيد من المرونة في
النظام العقدي الذي يربطهما حتى يتسنى له استيعاب المتغيرات الجذرية في الظروف السياسية
أو الإقتصـادية أو الإجتماعية للبلاد في حين أن الشركات تتمسك عادة باستقرار هذه العلاقات
العقدية واستمرارها دونما تعديل أو تبديل في نصوصها .
فهذه الشركات تحرص قبل دخولها في اتفاقات ذات آجال طويلة كعقود الامتياز والمشروعات
المشـتركة وعقـود الخدمـات ، أن تجـري دراسات مستفيـضة تتعلق بالتخطيط المـالي
للـمشروع واحـتمالاتـه ) (Financial Projectionوتحليلات للتدفقات النقدية ) Cash
( Flowوتحديد الـمخاطـر المتوقعة ) (Risk Analysisبغرض تحديد المردود المتوقع
لاسـتثماراتها . ولكـي تتمكن هذه الشركات من إقامة دراساتها وتحليلاتها على أسس علمية
وعملية سليمة فإنها تطلب من حكومات الدول المضيفة بياناً بكل الأعباء الضريبية التي يتعين
علـيها أداؤهـا طـوال فـترة العقـد ، وبيان بالاعفاءات التي ستحصل عليها هذه الشركات
وحدودهـا، و موافاتهـا أيضـاً بمزيد من التفاصيل حول قوانين العمل والضمان الاجتماعي
....الخ .
ومن ناحية أخرى ، فالمستثمر غالباً لا يملك كل الأموال المستثمرة في المشروع ومن ثم فإن
البـنوك والمؤسسـات المالية الأخرى التي تسانده في تمويل المشروع تتطلب مراجعة العقود
النهائية المتوقع ابرامها حـيث تبني قرارها النهائـــي على المضمون الفعلي للأعباء التي
يـتحملها المستثمر وعائدات المشروع والضمانات القوية التي يكون قد حصل عليها من الدولة
المضـيفة. وعليه فإننا نجد أن بعـض اتـفـاقات الاستثمار ، بـناءً على رغبة المستثمـر
وطـلبه تتضمن ما يعرف بشروط الثبات والإستقرار ) ، (Stability Clausesومن ثم فإنها
تحظر على الحكومة إجراء أي تعديل أو مخالفة لشروط الاتفاق أو اتخاذ أي تدابير ادارية أو
تشريعية من شأنها مخالفة هذه الشروط .
أما من وجهة نظر حكومات الدول المضيفة فإن عقود الاستثمار في طبيعتها الخاصة هي أشبه
بوثـيقة دستورية مرنة قابلة للتطوير تبعاً للتغير في الظروف . فعقود الاستثمار تمتد لآجال
طويلـة ، الشيء الوحيد المؤكد هنا أنه خلال سنوات التنفيذ فإن المناخ السياسي والاقتصادي
والاجتماعـي قد تصادفه تغيّرات جذرية تستلزم في المقابل تغييرات في نصوص هذه العقود
واشتراطاتها .
ومـن هـذا المنطلق وأمام تردد المستثمر عادةً في تقبله لإعادة النظر مرة أخرى في شروط
العقـد ، خاصـة اذا كانـت لصـالحه بصفة مطـلقـة ، فإن بـعض الـدول تحرص على
تضـمين العقد ما يعرف بشروط المراقبة أو إعادة التفـاوض التي تقوم على ضرورة الأخذ
في الإعتبار بالسمة المتغيرة لظروف التعاقد في الاتفاقيات ذات الآجال الطويلة .
و نستطيع القول إن وجود هذه الدول النامية كطرف في غالبية عـقود الاستثمار ، وما يرتبط
بـه هـذا الوجود من عوامل سياسية واقتصادية تعزز الحاجة الى إعادة النظر والتفاوض في
شروط هذه العقود . فهناك العديد من اتفاقات الاستثمار السارية المفعول الآن ولفترات زمنية
طويلة مقبلة ، قد أبرمت مع شركات أجنبية إبان احتلال الدولة التابعة لها للدولة النامية ، هذه
الاتفاقـات نجدهـا مثقلة بالامتيازات والاعفاءات والضمانات التي تتحملها الدولة النامية .إن
الظـروف التي أبـرمـت فيـها هـذه الاتـفـاقـيات لا يمكن مــعها حـتـى الإدعاء
بأنهـا كانـت وليدة الارادة الحرة لأطرافها ، وإنما هي في الحقيقة وليدة رغبات طرف مملاة
علـى الطـرف الآخر مثلها مثل عقود الإذعان ، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ألاّ يعتبر
التغّـير في الظروف السياسية للبلاد بعد أن نالت استقلالها ظرفاً جوهرياً يدعو لمراجعة هذه
الإتفاقيات ؟
حـتى اتفاقيات الاستثمار التي أبرمت بعد أن نالت هذه الدول استقلالها حديثاً لم تكن ظروف
ابـرامها بأحسـن حـال من سابقتها ، فالإقتصاديات المنهارة لتلك الدول لم تكن لتجعل منها
الطـرف القوي المفاوض أمام شركات عملاقة مسيطرة تفوق وسائلها وامكاناتها لما هو متاح
لكثـير مـن الدول النامية. ألا يقتضي ذلك عدالة أن يعاد النظر في هذه الاتفاقيات بعد مرور
فترات زمنية طويلة على إبرامها ؟.
بالـرغم من أن مفهوم إعادة التفاوض في شأن عقود التنمية الإقتصادية أصبح مبرراً ومقبولاً
فـإن مشكلة مراجعة عقود الإستثمار وإعادة التفاوض بشأنها تمثل جانباً كبيراً من المنازعات
التـي تنشأ بين المستثمر والدولة المضيفة الأمر الذي يدعونا لبحث مدى ملائمة حل مثل هذه
المنازعات عن طريق التحكيم .
ومـن ناحية أخرى يرى جانب من الفقه أن التوفيق ) (Conciliationيعد أكثر ملائمة لتسوية
مـنازعات الإستثمار بصفة عامة وفي مجال تسوية المنازعات المتعلقة بإعادة التفاوض بصفة
خاصـة حيث أن معظم هذه المنازعـات هــي منازعات غير قانونـية ولا تتعلق بالغالب
بتفسير الشروط التعاقدية وإنـمـا تقوم على ضرورة العمل على تعديلها . ولكن هذا لا ينفي
أن تكون هذه المنازعات محلاً للتسوية بطريق التحكيم مع مراعاة مبادىء العدل والانصاف .
إجراءات الدولة المضيفة الانفرادية
يفرق الفقه عادةً بين نوعين من الإجراءات الإنفرادية التي تقدم عليها الدولة في عقد الإستثمار
وتؤثـر بطـريق غير مباشر على تسوية المنازعــات بـطريق التحكيم . النوع الأول من
هـذه الإجـراءات يتمثل في قيام الدولة بإحداث تغييرات جوهرية في تشريعها الوطني مما قد
يؤثـر على مدى سلطتها في اللجوء إلى التحكيم أو الإلتزام بأحكامه أو قد يكون من شأن هذه
التغييرات التعديل في القواعد القانونية التي تحكم تسوية النزاع . أما النوع الثاني ، فيقصد به
الإجـراءات التي تتخذها الدولة لإبطال أو فسخ عقد الإستثمار الذي يتضمن الإتفاق التحكيمي
ذاته .
قـد لا يتضمن النظام القانوني للدولة عند توقيع اتفاق التحكيم أي نص مانع يحظر على الدولة
اللجـوء إلـى التحكـيم ، إلاّ أنه خلال سريان هذا الإتفاق أو خلال إجراءات التحكيم ذاتها قد
يصدر تشريع جديد يتضمن هذا الحظر . السؤال الذي يطرح نفسه هو ما مدى تأثير ذلك على
اتفاقـيات التحكـيم القائمـة ومدى اخلاله بالضمانات التي يكون المستثمر قد عّول عليها عند
إبـرامه العقـد المتنازع في شأنه؟) قضية هيئة التنمية الصناعية لباكستان الشرقية ""EPIDC
وشـركة SGIMالفرنسـية( والتي يمكن تسميتها بأنها كانت قضية مرعبة في مجال التحكيم
الدولـي، مـثال آخر أن تقوم الدولة بإصدار قانون جديد ينص على أنه لا يجوز رفع دعوى
على الدولة إلاّ أمام محاكمها الوطنية للتهرب من شرط التحكيم .
أقـرت معظـم تشـريعات التحكيم الحديثة ومنها قانون التحكيم الأردني مبدأ استقلالية شرط
التحكـيم بصفة عامة ) ( Severabilityوذلك في المادة ) (22من القانون فيما ذهبت بعض
الـدول إلـى الإعتراف بهذا المبدأ في مجال التحكيم الدولي فقط . ويعتبر هذا المبدأ الأساس
القانوني والواقعي لمبدأ آخرهو الإختصاص بالإختصاص)( Competence- Competence
الـذي نصـت عليه المادة ) (21من قانون التحكيم الأردنـي والـذي يـمنـح هيئة التحكيم
صـلاحية الـنظر في كافـة الطعون والدفوع في اختصاص هيئة التحكيم ذاتها وهذا يسري
أيضاً على شروط التحكيم الواردة في عقود الإستثمار.
وقـد تقـدم الدولة الطرف في اتفاقات الإستثمار على تأميم أو نزع ملكية المشروع محل هذا
الاتفـاق. فهـل تحـول اعتـبارات السيادة التي دفعت الدولة لاتخاذ هذه التدابير دون عقد
الاختصـاص لهيـئة التحكيم للنظر في المنازعات الناشئة عنها؟ هل يجوز لهيئة التحكيم أن
تراجع بواعث هذا العمل السيادي وأن تحكم بإلغائه؟
عبرت العديد من الحكومات عن رفضها لاختصاص هيئات التحكيم بالنظر في هذه الاجراءات
الانفـرادية التي تتخذها دولها بهدف تحقيق الصالح العام خصوصاً اذا اتخذت هذه الاجراءات
في إطار تحقيق برنامج اقتصادي ذو نفع عام ، مثال على ذلك ، تأكيد الحكومة الإيرانية أمام
محكمـة العدل الدولية أن تأميم صناعة البترول مرتبط بممارسة إيران لسيادتها وبالتالي تعتبر
هذه الاجراءات من المسائل غير القابلة للتحكيم ). ( non-arbitrable
ومفاد هذا التوجه أنه لا يجوز لهيئة التحكيم أن تتعرض لشرعية اجراءات التأميم أو المصادرة
وإنمـا يتعيـن أن ينحصر اختصاصها في حدود النظر في التعويضات الملائمة. ويلاحظ في
هذا المجال أن التحديد الذي أوردته اتفاقية واشنطن لتسوية منازعات الإستثمار يخلو مـن أي
تحديـد فـي هذا السياق ، فالمادة ) ( 25من هذه الاتفاقية اقتصرت على تحديد اختصـاص
الـمركز الدولي لتسوية منازعـات الاستثمار ) ( ICSIDبالمنازعات ذات الطابع القانونية،
فاختصـاص المركـز هنا يتحدد بالنظر في المنازعة حول التعويض التي هي منازعة ذات
طابع قانوني حيث تتصل بمدى الاصلاح الواجب والمترتب عن نقض إلتزام قانوني معين .
وعلـيه ، فإنـه إذا كانت هذه السلطات السيادية التي تملكها الدولة تمكنها من اتخاذ اجراءات
استثنائية كالتأميم أو المصادرة ، فإن شرط التحكيم يظل له جدواه و فاعليته .
إن هذه الاجراءات الاستثنائية حتى لو غلب عليها الطابع السياسي فإن المنازعات التي تدور
حولهـا هـي ذات طابع قانوني يتعلق بتحديد مدى الضرر الذي لحق بالمستثمر حيال نقض
الدولـة لإلـتزاماتها وتعهداتهـا وهي من المسائل التي تدخل في الاختصاص الأصيل لهيئة
التحكيم .
خاتمــة
يمكن القول أن نجاح أسلوب التحكيم الدولي في إطار منازعات الاستثمار منوطاً بمدى تحقيقه
للـتوازن المنشـود بيـن حقـوق المسـتثمر الأجنبي وضماناته وبين متطلبات خطط التنمية
الاقتصـادية للـبلاد النامية ومن ثم بات مؤكداً ضرورة تطوير التحكيم الدولي بما يتوافق مع
طبيعة روابط الاستثمار وخصوصية ما تفرزه من منازعات . وما زالت الحاجة قائمة لتطوير
التحكـيم الدولي في مجال منازعات الاستثمار وايجاد صيغة دولية قادرة على تقنين كثير من
القواعـد المادية الكفيلة بحماية رأس المال الأجنبي وإقامة العدالة المتوازنة التي تتطلع إليها
الدول النامية.
ويجب التنويه هنا بأن وجود مركز لتسوية منازعات الإستثمار مثل) ( ICSIDكإطار محايد
والـذي صمم خصيصاً كي يتعامل مع منازعات استثمارات ذات خصوصية بين المستثمرين
من القطاع الخاص، والدول المضيفة ساهم في تعزيز وتشجيع الإستثمارات الخاصة ، لاسيّما
في الدول ذات الإقتصاديات النامية .
إن المرونة والتدابير الرقابية التي تقدمها اتفاقية واشنطن تضمن أن الإحتياجات الخاصة لكل
من الدول المضيفة ومستثمري القطاع الخاص يتم الاستجابة لها ، وبلا شك أن المركز سيبقى
آلية ضرورية وفاعله تحقق المصلحة المرتقبة للمجتمع الدولي .
وأنهـي مطالعتـي هـذه بالتأكـيد على أن التحكيم هو الوسيلة المثلى لفض منازعات عقود
الإستثمار خصوصاً في ظل ما نشهده من تغيرات متتابعة في عصرنا هذا وتحديداً في منطقتنا
العربية .
E mail: oaljazy@jcdr.com