بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

ضرورة ادراج نظام الاعسار في القانون المدني الجزائري

مـــقدمـــة:
بدراستنا القانون المدني الجزائري ، نجد أن المشرع أسقط سهوا مجموعة من الأنظمة القانونية بالرغم من وجودها في القانون المدني المصري والفرنسي ، المصدر الأساسي للقانون الجزائري.
ومن بين هذه الأنظمة : الإعسار المدني ، وهو نظام يتعلق بالمدينين غير التجار ، فالإعسار المدني حالة كما سنتعرف عليه لاحقا إما حالة قانونية أو حالة فعلية ، وعلى العموم هو زيادة ديون المدين على ذمته المالية ، أي أن ديونه أكثر مما يملكه من مال.
ونظرا لأهمية هذا الموضوع فإننا نحاول دراسته دراسة دقيقة، معتمدين في ذلك على أسباب علمية وأخرى عملية :
فالأسباب العلمية تتمثل في سد الفراغ القانوني الذي خلفه المشرع الجزائري سهوا، ومن ذلك نثري القانون المدني بنظام جديد يهدف إلى حماية حقوق الدائنين و المدينين والمعاملات المدنية بصفة عامة ، وفي المقابل نجد أن المشرع أعطى الباع الكبير للتاجر المفلس في القانون التجاري وأقر له نظاما خاصا به ، والمتمثل في الإفلاس التجاري والتسوية القضائية ، وذلك لحكم العلاقات التجارية بوجه دقيق و السيطرة على أسسها القانونية.
أما الأسباب العملية تتمثل في إيجاد مجموعة من الحلول الواقعية للمنازعات القضائية وإرساء المعاملات المدنية على قاعدة صلبة تتمثل في الحماية القانونية للمدين المعسر والدائن على حد السواء ، في ظل غياب الإكراه البدني كوسيلة لضمان الحقوق من الضياع و منع التلاعب بأموال الدائنين ، وانتشار الفوضى والابتعاد عن القاعدة القانونية الآمرة الناهية .
إرساء المعاملات بين الناس وإرجاع المصداقية القضائية لجهاز العدالة وذلك بعد أن تخلى المشرع الجزائري عن وسيلة من وسائل ضمان حقوق الدائنين ألا وهي الإكراه البدني ، بعد إنظمام الجزائر إلى اتفاقية العهد الدولي لحقوق الإنسان بموجب المرسوم الرئاسي رقم 89/67 المؤرخ في 16/05/1989 وكذلك ملحق المرسوم الرئاسي رقم 89/67 المؤرخ في 16/05/1989 المتضمن الإنظمام إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبروتوكول الاختياري المتعلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الموافق عليها من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم :
16/12/1986 ،حيث ورد في نص المادة 11 " لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي ."
وبما أن الاتفاقيات الدولية تسمو على القانون ، وجب التقيد بما ورد فيها من مواد ملزمة ، الأمر الذي دعا إلى تجميد الإكراه البدني كوسيلة من وسائل التنفيذ الجبري في المواد المدنية وما تعلق بها من المواد 407 إلى 412 من قانون الإجراءات المدنية ، وهو ما أدى إلى ضرورة إيجاد وسيلة جديدة للتنفيذ على أموال المدين ، حفاظا على حقوق الدائنين .
ولما إقترحنا موضوع إدراج نظام الإعسار المدني في القانون المدني الجزائري ، كضمانة من ضمانات حفظ حقوق الدائن والمدين على حد السواء ، فلأنه بديل معقول ومقبول من الناحية العملية ، وذلك لأمرين :
1/ إنشاء وسيلة قانونية كبديل عن الإكراه البدني كفيل بحماية الحقوق من الضياع واستقرارا للمعاملات المدنية.
2/ الحفاظ على مصداقية العدالة والقضاء من الاستهزاء والتلاعب من طرف المدينين وحماية للدائنين الحائزين على أحكام ممهورة بالصيغة التنفيذية ، دون جدوى منها .
ونستثني من المواد المذكورة أعلاه من قانون الإجراءات المدنية المادة 411 التي تنص على نظرة الميسرة ، وهي من أهم الركائز التي يقوم عليها الإعسار المدني
لم تكن في هذا الموضوع أي دراسة سابقة ، إذ أنه جديد وهذا ما شجعنا لتناوله من أجل إعطاء نفس جديد للقانون المدني لمواكبته التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي و السياسي الحاصل في البلاد نظرا لاتساع المعاملات بين الناس في الميدان التجاري والمدني .
الأمر الذي طرح مجموعة من الصعوبات المتمثلة في قلة المراجع وندرتها خاصة المحلية منها ، وعدم التطرق إلى هذا الموضوع من جانب فقهاء القانون بإسهاب .
تتمحور إشكالية هذه المذكرة حول : ضرورة إدراج نظام الإعسار المدني في القانون المدني الجزائري؟
وهي إشكالية رئيسية تتفرع عنها مجموعة من التساؤلات الثانوية لابد من الإجابة عليها لتفتح المجال أمام المناقشة لإثراء الموضوع :
ـ ما هو أثر تخلف نظام الإعسار في القانون المدني الجزائري ؟
ـ ما مصير الدائن الذي حل أجل وفاء دينه ولم يستف حقه ؟
ـ ما هو البديل الذي وضعه المشرع الجزائري كوسيلة لحماية الدائنين غير التجار من تلاعب مدينيهم بتخليه عن الإكراه البدني ؟
نظرا لصعوبة الموضوع وتشعبه وصعوبة الالتزام بمنهج واحد فقد اعتمدنا على منهج مركب تحليلي استدلالي مقارن مستخدمين مختلف الأدوات.

الفصل الأول
ماهية نظام الإعسار وتطوره
تقضي المبادئ العامة في القانون المدني ، أنه متى عجز المدين عن دفع ديونه فما على الدائنين إلا الحجر على أمواله بناءا على سند تنفيذي ، وبيعها بالمزاد العلني وإستفاء حقوقهم من حصيلة البيع ، وهذه الإجراءات التي يتخذها الدائنون تتسم بالفردية ، حيث أن لكل منهما حرية إتخاذ هذه الإجراءات وإختيار أي من أموال المدين ينفذ عليها ، وهذا ما خلصت إليه التشريعات الحديثة في نظام مستقل قائم بذاته ألا وهو نظام الإعسار المدني .
المبحث الثاني
تطور نظام الإعسار
سنتطرق في هذا المبحث إلى نظام الإعسار وكيفية تنظيمه في الفقه الإسلامي بإعتباره المصدر الرئيسي لجميع المعاملات كمطلب أول ، وتطور الإعسار المدني ومحاولات إقامة وإرساء معالم هذا النظام من قبل التشريعات المقارنة كمطلب ثاني .
المطلب الأول: الإعسار في الفقه الإسلامي
شارك الفقه الإسلامي الفقه المقارن في وجوب حماية الدائن المدني ، من تصرفات مدينه الضاربة ، لكنه إقتصر على فكرة هذه الحماية ، أما التشريعات العربية فقد أضافت لها فكرة كفالة المساواة بين الدائنين المدنيين ، مما أدى إلى جعل أثر الدعوى البولصية والإعسار عاما بالنسبة إلى كل الدائنين المدنيين ، ولم يرفعوا دعوى .
كما أن الفقه الإسلامي سبق الفقه الأجنبي بمدة طويلة جدا ، من حيث أنه جعل الحجر سابقا على التصرف ، ممتدا إلى جميع تصرفات المدين الضارة ، ولكننا نلاحظ أن الفقه الأجنبي قد فاق الفقه الإسلامي من ناحية التنظيم و التفصيل، وهو ليس عيب في ذات الفقه الإسلامي ، وإنما هو نتيجة جمود العلماء والفقهاء المسلمين ، وإنعزالهم عن الحياة العلمية و العملية ، ولكن هذا لم يمنع من تأثير الإسلام الكبير في الفقه المقارن ، من ذلك فكرة الحجروالتي سدت فراغا كبيرا في التشريعات العربية والأجنبية، إذ رأت فيها بأنها صالحة وقابلة للتنظيم بما يلائم الحياة(1).
من ذلك القانون العراقي الذي هو مزاج وتوفيق بين الفقه الإسلامي من ناحية ، والفقه العربي والأجنبي من ناحية أخرى، والظاهر لنا أن القانون العراقي رأى أن فكرة الحجر في الفقه الإسلامي ، هي فكرة الإعسار في التشريعات الأجنبية .
لذلك وجب التطرق إلى فكرة الحجر وكيفية تنظيمها في التشريع الإسلامية .
الفرع الأول : الحجر وأقسامه
أولا : تعريف الحجر :
الحجر في الإسلام هو منع الإنسان من التصرف في ماله . وهو مشروع من الكتاب قوله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وأرزقهم فيها و أكسوهم " .ومن السنة : عمل الرسول صلى الله عليه وسلم :(إذا حجر صلى الله عليه وسلم على معاذ ماله لما إستغرقه الدين فباعه و سدد عنه ديونه حتى لم يبقى لمعاذ شيء). (2)
ثانيا : أقسام الحجر : ينقسم الحجر إلى قسمين :
*/ الحجر لحق النفس :
و يسمى أيضا الحجر لحفظ النفس ،وهو منع الإنسان من التصرف في ماله ، لصغر أو جنون أو سفه أو مرض .
أحكام من يحجر عليهم :
الصغير : وهو الطفل الذي لم يبلغ الحلم ، وحكمه أن تصرفاته المالية غير جائزة إلا برضا والديه أو وصيه إن كان يتيما ، ويستمر الحجر عليه إلى البلوغ ، ما لم يظهر منه سفه ويستمر الحجر إلى صلاحه ، وإن كان يتيما موصى عليه فحجره يبقى إلى ترشيده بعد بلوغه ، لقوله تعالى : ( وإبتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن أنستم منهم رشدا فأدفعوا إليهم أموالهم ).
السفيه : وهو المبذر لماله ، بإنفاقه في شهواته أو بسوء تصرفه لقلة معرفته بمصالحه ، فيحجر عليه بطلب من ورثته ، فيمنع من التصرف في ماله بهبة أو بيع أو شراء حتى يرشد ، فإن تصرف بعد الحجر عليه فتصرفاته باطلة لا ينفذ منها شيئ ، وما كان قبل الحجر عليه فنافذ لايرد منه شيئ .
المجنون : وهو من إختل عقله فضعف إدراكه فيحجر عليه ، فلا تنفذ تصرفاته المالية إلى أن يبرأ ويعود إليه كمال عقله لقوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ ،وعن النائم حتى يستيقض، وعن الصبي حتى يحتلم" .
المريض : وهو من مرض مرضا يخاف منه الهلاك عادة ، فإن لورثته المطالبة بالحجر عليه ، فيمنع من التصرف فيه بما يزيد عن قدر حاجته من أكل وشرب وملبس ومسكن ودواء حتى يبرأ أو يهلك .
*/ الحجر لحق الغير :
مثل الحجر على المفلس، وهو زيادة ديونه عن ماله فلا يستطيع الوفاء بتلك الديون، ويمنع من التصرف في ماله محافظة على حقوق الغرماء، و من أحكامه:
* الحجر عليه إذا طالب بذلك الغرماء، أي أصحاب الدين.
* بيع جميع ما يملك، ما عدا لباسه وما لابد له منه، كطعامه وشرابه ومسكنه ، ويترك له من المال ما يستأجر به خدما يصلح لخدمة مثله ، وإن كان تاجرا يترك له ما يتاجر به ، وإن كان محترفا يترك له آلة الحرفة، ويجب له ولمن تلزمه نفقتهم ونفقته(1).
* من ثبت إعساره عند الحاكم أو القاضي، بمعنى أنه لم يكن لديه مال أو متاع يباع فيسدد به دينه ، فلا يجوز مطالبته ولا ملازمته ، لقوله تعالى :"وإن كان ذو عسرة ، فنظرة إلى ميسرة ."
ولقوله صلى الله عليه وسلم :(خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ).
* إذا قسم المال وظهر غريم ولم يكن قد علم بالحجر ، وبيع المال المحجور عليه ، يحق له الرجوع على الغرماء من المال المقسم بينهم .
* من علم بالحجر على المدين ، ثم تعامل معه ، فليس له أن يحاصص الغرماء الذي وقع الحجر لهم ، ويبقى دينه في ذمة المفلس إلى ميسرة .
* إذا كان المدين قادر على الوفاء وماطل ، ولم يف بدينه الذي حل أجله يعتبر ظالما ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مطل الغني ظلم ) .
إذ يجب على القاضي أن يأمره بالوفاء بدينه ، فإن أبى حبسه متى طلب الدائن ذلك .
* إذا وجد الرجل ماله عند المفلس فله عدة صور نذكر منها :
أ/ من وجد ماله عند المفلس بعينه ، فإنه أحق به من سائر الغرماء ، لقوله صلى الله عليه وسلم :(من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره ) .
ب/ إذا تغير المال بالزيادة أو النقصان ، فلا يكون صاحبه أولى به بل يكون أسوة غرماء أي يقسم بينهم .
ج/ إذا مات المشتري ولم يكن البائع قد قبض الثمن ،ووجد البائع ما باعه فهو أولى به .
ومن هنا نستنتج أن الحجر يكون على المفلس في حالة ما إذا لم يتبين إعساره ، فإذا تبين إعساره لا يحبس ولا يحجر عليه ولا يلازمه الغرماء ، بل ينظر إلى ميسرة .
وحتى يكون الحجر شرعيا يجب أن يكون المدين معسرا عاجزا عن الوفاء بما عليه من ديون ، ويجب أن يثبت الدائنين مبلغ ما لديهم من ديون في ذمة المدين المعسر ، ويكون ذلك بسندات صحيحة ، مؤشرا عليها من طرف المدين ، مع إستحلاف كل منهم ، أي تأدية اليمين على ما يدعوا (1) .
الفرع الثاني : كيفية كتابة الحجر على المعسر
حتى يكون الحجر شرعيا وقانونيا يجب أن يكتب كالآتي :
بعد البسملة والحمد لله تعالى :
هذا ما أشهد به على نفسه قاضي المحكمة : أنه حجر على فلان حجرا صحيحا شرعيا ، ومنعه من التصرف في ماله الحاصل بيده يومئذ ، و الحادث بعده ، منعا تاما بحكم ما ثبت عليه من الديون الشرعية ، والواجبة في ذمته لأربابها الزائدة على قدر ماله ، ومبلغ ما عليه من ديون هو كذا ، وبيان ذلك هو مال الدائن المقرر بمقتضى سند ثابت التاريخ ، وقد أثبت كل من الغرماء دينه لدى المحكمة ، بموجب سندات صحيحة معتبرة شرعا وإستحلف كل منهم على ذلك ، وكان ذلك بعد أن ثبت لدى المحكمة بالبينة الشرعية ، أن المدين المذكور معسرا عاجزا عن الوفاء بما عليه من الديون المذكورة، وأن موجوده الا تفي قيمته بما عليه من الديون ألا على المحاصصة ،و الثبوت الشرعي ، و منه حكم بفلس المذكور و صحة الحجر عليه حكما شرعيا مسؤولا فيه ، و فرض له في ماله نفقته و نفقة من تلزمه نفقتهم من زوجته وولده ، من أكل و شرب وما لابد له منه إلى حين الفراغ من بيع أمتعته و أملاكه ، و قسم ما يتحصل بين بنسبة ديونهم على الوجه الشرعي (1) .

المطلب الثاني: نظام الإعسار في التشريعات المقارنة :
الفرع الأول : الإعسار في التشريعات السابقة
نظمت التشريعات المقارنة السابقة الإفلاس التجاري تنظيما دقيقا ومفصلا ، بخلاف الإعسار المدني الذي ليس بحاجة إلى تنظيم ، إذ أن التجارة تقوم على الإئتمان فلا بد من ضمانات قوية يطمئن إليها الدائنون ، وعلى رأس هذه الضمانات تنظيم إفلاس التاجر تنظيما يحفظ حقوق الدائنين ، ويكفل المساواة بينهم ، ولكن هذه الإعتبارات ليست قائمة في المعاملات المدنية بالقوة التي تقوم عليها في التعامل التجاري ، ولكن المدين المعسر في أشد الحاجة إلى تنظيم إعساره حماية له ولدائنيه على حد السواء .
وقد سار التقنين المدني المصري على نهج التقنين المدني الفرنسي ، وأطلق يد المدين المعسرللتصرف في أمواله، ولم يقيد هذا الإطلاق إلا بالقدر الذي تسمح به الدعوى البولصية ، ولم يواجه المدين المعسر إلا عن طريق الدعاوى الثلاث ،وهي الدعوى الغير المباشرة ، والدعوى البولصية ، والدعوى الصورية .
فالدعوى غير المباشرة يوجه الدائن فيها همه إلى مال المدين ليحميه من الضياع ، من جراء سوء نيته أو إهماله تمهيدا للتنفيذ على هذا المال ، والدائن لاينفرد دون سواه بالإستئثار بالمال ، بل يشاركه فيه سائر الدائنين مشاركة غرماء ، ولا تغل يد المدين في التصرف بأمواله بل له كامل الحرية في ذلك .
أما الدعوى البولصية ، فيوجه الدائن فيها همه إلى مال المدين ، إذا كان التصرف الذي قام به فيه إظرار بحقوقه ، وعن طريق هذه الدعوى يجعل هذا التصرف غير سار في حقه.
والدعوى الصورية ، يوجه الدائن فيها همه إلى مال المدين بعد أن تصرف هذا الأخير فيه تصرفا صوريا ، فيكشف الدائن عن صورية هذا التصرف تمهيدا للتنفيذ على هذا المال ، الذي يشاركه فيه سائر الدائنين مشاركة غرماء (1)
وقد حاولت بعض المحاكم في فرنسا أن تنظم الإعسار المدني ، عن طريق تعيين حارس قضائي على أموال المدين ، يديرها ويصفيها كما يفعل السنديك(2)، ثم عن طريق جعل الدعوى البولصية تقيد جميع الدائنين السابقين على هذا التصرف .
لكن محكمة النقض الفرنسية قضت على هذه المحاولات ، لأنها لاتتفق مع التشريع القائم .
وعلى غرار بعض التشريعات ، مثل ألمانيا ، أنجلترا ، هولندا ، السويد ، الدنمارك ، النرويج ، التي لاتميز بين الإفلاس التجاري والإعسار المدني ، فتجعل المدين المعسر والتاجر المفلس خضعان لنظام واحد ، وهو نظام الإفلاس التجاري .
وفي سويسرا ، نظم الإفلاس التجاري وترك الإعسار المدني دون تنظيم ، وذلك بالإعتماد على إجراءات الحجر المعتادة، التي تناولناها سابقا ، ولكن بعض طوائف المدينين المعسرين أخضعت لنظام الإفلاس على أساس الإجبار، وجعل للآخرين أن يختاروا ممن يشاء منهم ، وذلك بقيد أسمائهم في سجل خاص .
وعيب هذا النظام ، أنه لا يزال يترك الإعسار المدني دون تنظيم ، ويقتصر على نقل بعض المدينين المعسرين إلى نظام الإفلاس التجاري ، فرسم طريقين للتنفيذ: أحدهما طريق الإفلاس والآخر طريق الحجر ، فإذا كان المدين مقيدا في السجل التجاري وجب إتباع طريق الإفلاس التجاري ، وإذا لم يكن مقيدا وجب إتباع طريق الحجر .
وقسم السجل التجاري إلى قسمين :
قسم أ : وهو قسم خاص بالقيود الإجبارية أي القيود المتعلقة بالتجار والمؤسسات ، التي تتخذ الشكل التجاري ، ولا يعفى من هذا القيد إلا صغار التجار .
قسم ب: وهو قسم خاص بالقيود الإختيارية ، إذ أجاز المشرع لغير التجار إجراء القيد في هذا السجل .
أما الإعسار في القانون المدني المصري ، فقد عرض في شكل مشروع تمهيدي تتضمن مجموعة من النصوص ، تنشئ نظاما إستثنائيا ، بحيث تصفى أموال المدين تصفية جماعية وتتلخص أسس هذا النظام في مايلي :
1/ يجوز للمحكمة عند الحكم بشهر الإعسار ، أو في أي وقت بعد صدور هذا الحكم ، أن تعين عند الإقتضاء ، بناء على طلب أحد الدائنين أو بناء على طلب المدين نفسه ، حارسا مصفيا يوفي الدائنين حقهم ، إما ببيع أموال المدين أو بتسوية ودية مع الدائنين ، وتنتدب المحكمة قاضيا للإشراف على أعمال التصفية .
2/ يترتب على تعيين الحارس المصفي ، أن يتخلى المدين عن إدارة أمواله ، وأن تصبح أمواله محجوزة حجزا تحفظيا ، فلا يجوز إتخاذ أي إجراء إلا بواسطة الحارس المصفي أو في مواجهته .
3/ يعد الحارس المصفي بيانا عن حالة المدين، يعرضه على الدائنين في إجتماع يدعوهم إليه ، ثم يأخذ في هذا الإجتماع وفي ما يليه من إجتماعات في تحقيق الديون وفقا للإجراءات التي تتبع في تحقيق الديون في حالة الإفلاس .
4/ عند الإنتهاء من فحص الديون ، ينظر الدائنون فيما يكون قد عرضه المدين عليهم من مقترحات لتسوية ديونه تسوية ودية ، ولا تتم التسوية الودية إلا إذا أقرتها الإغلبية المطلقة للدائنين ، وكانت هذه الأغلبية تملك ثلاثة أرباع الديون التي فحصت وأعتمدت ، وتصادق المحكمة على هذه التسوية .
5/ إذا لم يتفق على التسوية ، إتخذ الحارس المصفي المعين من طرف الدائن أو المدين كما سبق ذكره، الإجراءات اللازمة لبيع أموال المدين المعسر بالمزاد العلني ، وفقا للأوضاع المقررة في تقنين الإجراءات المدنية ، ما لم ترخص المحكمة للحارس المصفي في أن يبيع كل أموال المدين أو بعضها بطريق الممارسة وبشروط معينة .
6/ يودع الحارس المصفي المبالغ الناتجة عن بيع أموال المدين المعسر خزانة المحكمة ، ويتولى القاضي المنتدب توزيع هذه المبالغ وفقا للقواعد المقررة في تقنين الإجراءات المدنية لقسمة المال قسمة غرماء ، وقسمة ترتيب .
7/ متى تمت التصفية الجماعية بغير طريق التسوية الودية ، يعود للدائنين حقهم في إتخاذ إجراءات فردية على ما يستجد من مال للمدين ، ويجوز في هذه الحالة تعيين حارس مصفي من جديد،إذا كان المستجد من المال قدرا كافيا يبرر ذلك(1).
ولما عرضت هذه النصوص للإستفتاء ، مال الرأي العام في مصر إلى عدم الأخذ بهذا النظام الإستثنائي ، فحذفت النصوص المتعلقة به في لجنة المراجعة .
الفرع الثاني : الإعسار في التشريعات الحديثة
أما التشريعات الحديثة فقد فصلت نظام الإعسار المدني عن نظام الإفلاس التجاري ، وأخذت منه ما يلائم المعاملات المدنية ، ومنه يتفق الإعسار المدني والإفلاس التجاري في أمرين :
ـ في عدم إنفراد أحد الدائنين دون الباقين بالإستئثار بمال المدين ، إلا إذا كان له على هذا المال حق خاص ، كرهن أو إمتياز أو إختصاص ، وهذا يعني أن جميع أموال المدين المعسر ضامنة للوفاء بإلتزامه ، إذ لا فرق في ذلك بين دائن و آخر .
ـ وأن تغل يد المدين المعسر من التصرف في أمواله ، بمجرد صدور حكم بشهر إعساره فمن غير المرغوب فيه أن يظل المدين المعسر على الرغم من إعساره قادرا على التصرف في أمواله ، والعبث بمصالح وحقوق دائنيه ، إذ يبقى حصول الدائنين على أموالهم ثمرة تزاحم وتسابق (2).
ويرى الأستاذ محسن شفيق ضرورة فصل نظام الإعسار المدني عن نظام الإفلاس التجاري ، إذ ينتهي إلى مايلي :
" هذه هي الأسباب التي تدعونا إلى نبذ نظرية الإفلاس المدني على الأخص في بلاد زراعية كمصر، حيث لا سبيل إلى تنشيط الإئتمان الزراعي إلا بإنشاء بنوك السليف و العمل على تيسير الحصول على القروض منها .
غير أن هذا لايعني أننا نقصد القائلين بترك نظام الإعسار بغير تنظيم ، فمن غير المرغوب فيه حقا أن يظل المدين على الرغم من إعساره قادرا على التصرف في أمواله والعبث بحقوق دائنيه ، أو أن يبقى حصول الدائنين على حقوقهم ثمرة التسابق والتزاحم بينهم .
غير أننا نرى أن سبيل الإصلاح ، لا يكون بتطبيق نظام الإفلاس برمته على غير التجار ، وإنما يجب التمحيص والتدقيق في أحكام هذا النظام ، والإستعانة بما يلائم منها المعاملت المدنية ، بمعنى أنه يجب وضع نظامين للتنفيذ على أموال المدين الذي يعجز عن آداء ديونه ، أحدهما نظام الإفلاس، ويقتصر تطبيقه على غير التجار ، ويكون محله القانون التجاري ، والآخر نظام الإعسار ، ويتبع في شأن غير التجار ، ويكون موضوعه القانون المدني(1).
وقد سارت بعض التشريعات على هذا الوضع في مقدمتها التشريع الإسباني ، حيث ينظم الإعسار المدني تنظيما مستقلا عن الإفلاس التجاري ، فالتاجر المفلس غير المزارع المعسر ، فالأول يتقيد بإعتبارات جوهرية في الإئتمان التجاري ، تدعوه إلى تنظيم إفلاسه تنظيما دقيقا يكفل الطمأنينة لدائنيه ، ويقرر المساواة فيما بينهم ، فتصفى أمواله تصفية جماعية .
أما المزارع المعسر، فليس في حاجة إلى كل ذلك ، بل أن إقحام نظام الإفلاس التجاري وتطبيقه في شأنه ، وما ينطوي عليه من رفع يده عن التصرف في أمواله ن وتعيين سنديك يصفيها ، يؤدي إلى إرباك أعماله ، إذ من غير الضروري أن تتخذ إجراءات جماعية كثير النفقة وشديدة التعقيد ، وإن كانت تتطلبها مقتضيات الإئتمان التجاري ، فليست ملابسات الإئتمان المدني في حاجة إليها .
فهذه هي الأسباب في مجملها التي دعت إلى إنشاء نظام يخدم مصالح الجميع ، مصلحة المدين ومصالح الدائنين ، فمتى تم إعلان حالة إعسار المدين ، كان مركزه في تصفية ديونه أفضل بلا شك من مركزه وفقا للإفلاس التجاري ، فللقاضي كامل الحرية ، فله أن ينظر المدين إلى ميسرة للديون المستحقة الآداء ، وبهذا تتاح له فرصة تصفية ديونه في أكثر الظروف ملائمة .
كما أن نظام الإعسار أباح للمدين من التصرف في أمواله ولو بغير رضاء دائنيه ، على أن يكون ذلك بثمن المثل وأن يودع الثمن خزينة المحكمة للوفاء بحقوقهم ، كما بسط له أيضا أسباب الحماية ولا سيما منها ما كان إنساني الصبغة ، كحصوله على نفقة تقتطع من إيراده إن كان هذا الإيرد محجوزا .
أما الدائنين فقد كفل لهم نظام الإعسار قسطا من الحماية ، فليس لأحدهم أن يتقدم على الآخرين من غير حق ، ذلك أن مجرد تسجيل صحيفة دعوى الإعسار، يكون من أثره عدم نفاذ أي إختصاص يقع بعد ذلك على عقارات المدين ، في حق الدائنين السابقة ديونهم على هذا التسجيل .
ومتى أشهر إعسار المدين ، أصبح من أهون الأمور على الدائنين ، أن يأمنوا جانبه في ما يصدر عنه من تصرفات قد تضر بهم ، و أصبح إعمال أحكام الدعوى البولصية فريدا في بساطته ، فكل تصرف قانوني يصدر من المدين العسر ، يكون من ورائه إنتقاص حقوقه أوزيادة إلتزاماته ، وكل وفاء يقع منه، لا ينفذ في حق الدائنين دون حاجة إلى تحميلهم عبء إقامة الدليل على الغش ، وهو عبء في أغلب الأحيان غير يسير .
ولتعزيز حماية الدائنين ، أقر نظام الإعسار المدني توقيع عقوبة التبديد على المدين، إذا إرتكب عملا من أعمال الغش البين قصد الإضرار بدائنيه .
وعلى هذا النحو ، كفل نظام الإعسار حماية وافية للمدين ودائنيه ، وجعل من المساوات الواجبة بينهم حقيقة واقعة (1) .

المبحث الأول
ماهية الإعسار المدني
يعالج هذا المبحث ماهية الإعسار المدني و المسائل الخاصة به في مطلب ، والأضرار التي تلحق الدائن من جراء تخلف مدينه عن دفع ما عليه ، سواء كانت هذه الأضرار مادية أو معنوية ، وحكم التعويض عنها في مطلب آخر .

المطلب الأول : تعريف الإعسار وحالاته
الفرع الأول : تعريف الإعسار لغة وإصطلاحا
أولا : تعريف الإعسار لغة :
عسر الأمر والزمان عسرا : صعب وإشتد ، فهو عسر ، وعسر فلان : أي كان لا يعمل إلا بيده اليسرى ، فهو أعسر وهي عسراء .
عسرـ عسرا ، الأمر عسرا وعسارة : صعب وإشتد ، ويقال عسر الزمان فهو عسير .
وفي القرآن الكريم :( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) .
أعسر فلان : إفتقر وضاق حاله ، والمرأة عسرت ولادتها عسرا ، الأمر جعله عسيرا .
تعاسر الزوجان والبيعان : لم يتفقا.
وفي القرآن الكريم :( وإن تعاسرتم فتسترضع لهم أخرى ) ،وتعسر الأمر : صعب وإشتد .
الأعسر : من يعمل بيسراه . ويقال : هو أعسر يسر أي يعمل بكلتا يديه ، وهي عسراء يسرة .
العسرة : ضيق ذات اليد ، والعجز عن الوفاء بالدين .
وفي القرآن الكريم : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ).
وجيش العسرة : جيش المسلمين في غزوة تبوك .
وساعة العسرة : ساعة الشدة .
المعسرة : الفقر وضيق ذات اليد (1) .
ثانيا : تعريف الإعسار إصطلاحا :
إستحدث الفقه المقارن نظام الإعسار المدني ، وهو نظام جماعي لشهر إعسار المدين غير التاجر، ليعلم الدائنون جميعا حالة مدينهم ، ومنه الإعسار المدني هو : زيادة ديون المدين التي عليه،على ذمته المالية التي له ، سواء كانت هذه الديون مستحقة الآداء فكان الإعسار قانوني ، أو مؤجلة الآداء فكان الإعسار فعلي.
ويشترط لإعتبار المدين معسرا :
أن تكون الديون المستحقة الآداء أكثر من حقوقه ، فلا يكفي مجرد زيادة ديونه على حقوقه مطلقا بل يشترط أن تكون هذه الديون مستحقة الآداء ، من ذلك الديون المؤجلة والديون المعلقة على شرط واقف .أن يصدر حكم شهر إعسار المدين من القاضي ، وهو أمر جوازي له يحكم به بناءا على الظروف العامة والخاصة التي تحيط بالمدين .
كما يشترط أن يكون الدين الذي إمتنع المدين عن دفعه مدنيا ، حالا ، محققا ، خاليا من النزاع ، فإذا إمتنع المدين عن الدفع بسبب بطلان الدين أو إنقضائه بالوفاء أو بالتقادم أو بالمقاصة ، أو إذا نازع في وجود الدين أو في مقداره أو في معاد إستحقاقه ، وجب على المحكمة أن ترفض دعوى الإعسار متى ثبتت لها جدية الأسباب التي يستند إليها المدين(1).
ثالثا : عبء إثبات الإعسار :
يقع عبء إثبات الإعسارعلى من يطلب شهر إعسار المدين ، وهو في الغالب أحد الدائنين ويمكن إثبات الإعسار الذي عرفناه بأنه عدم كفاية أموال المدين للوفاء بديونه المستحقة الآداء ، بجميع طرق الإثبات لأنه يعتبر واقعة مادية ، كما أنه يمكن الإنتفاع بالقرينة القانونية التي وردت في القانون المصري ، بموجب المادة 239 من القانون المدني ، وهي قرينة قضائية ، حيث أنه إذا إدعى الدائن إعسار المدين يجب عليه أن يثبت قيمة الديون التي في ذمته ، وللمدين أيضا أن يثبت ملكه لمال يساوي أو يفوق قيمة الديون التي هي عليه .
فإذا تقدم الدائن للقضاء ، وأثبت ان له دين مستحق الآداء في ذمة المدين ،إستخلص القاضي من ذلك قرينة قضائية تتمثل في إعسار المدين ، وهذه القرينة تقبل إثبات العكس ككل القرائن القضائية ، فيمكن للمدين دحضها : إذ يبين أنه يملك مالا يفوق الديون، يمكن به إستيفاء الدين المستحق .
لقد برر الدكتور محسن شفيق في كتابه " الإفلاس التجاري" (1)، بأن توقف المدين عن دفع أحد ديونه المستحقة الآداء ، قرينة دالة على إعساره ، وبالتالي إذا أراد هذا الأخير تجنب حكم الإعسار أو إعدامه ، لابد له أن يثبت حيازته لمال يكفي سداد هذه الديون المستحقة(2).
كما أن الإعسار هو حالة قانونية تستفاد من أن أموال الشخص ليست كافية للوفاء بالديون التي عليه ، وهو بهذا المعنى لا يقوم علىنفي مطلق يتعذر إثباته ، بل يقوم على أمر واقع له علاماته التي تشهد عليه ، فإذا إدعى الدائن إعسار مدينه وجب عليه إثبات ذلك ، فإن لم يستطع أعتبر عاجزا عن إثبات دعواه (3) .
وإن كان المدين هو من طلب شهر إعساره ، يعد إقراره هذا حجية مطلقة عليه ، إلا إذا أثبت للقاضي أنه قصد من وراء هذا الإقرار التحايل .
رابعا : نظرة الميسرة :
وهي مهلة أو أجل يمنحه القاضي للمدين لإستفاء الدين الذي عليه ، وهي من النظام العام خاضعة للسلطة التقديرية للقاضي ، إذ لا يجوز الإتفاق على سلبها إياه .
فإذا ما توافرت بعض الشروط جاز للقاضي أن يحكم بها ، ومن بين هذه الشروط :
1/ أن تكون حالة المدين تستدعي أن يمنحه القاضي نظرة ميسرة ، فيجب أن يكون حسن النية في تأخره للوفاء بالإلتزامات التي عليه ، بأن يكون غير متعمد عدم الوفاء ولا مقصرا في ذلك ، ولا يجوز أن يكون معسرا وإلا فلا جدوى من منحه هذه المهلة ، بل يجب أن يكون عنده من المال ما يكفي للوفاء بديونه ، وليس في مقدوره أن يبيع هذا المال ، كأن يكون هذا المال عقار أو منقول ، يتعذر بيعه في الحال الأمر الذي لا يمكنه من تسديد الدين الذي عليه ، فيطلب المدين مهلة ، حتى يتسع له الوقت اللازم لذلك ، أو يكون للمدين موارد يقتضيها في مواعيد لاحقة ومتعاقبة ، كأجر عمله أو ريع ملكه ، بشرط أن تكون هذه الموارد كافية لإستيسفاء الدين .
2/ أن لا يصيب الدائن من جراء منح القاضي للمدين نظرة ميسرة ضرر جسيم : فإذا كان في هذه النظرة ما يصيب الدائن بضرر جسيم ، كأن يكون قد إعتمد على إستفاء الدين ليفي هو دين عليه ، فلا يستطيع التأخر في الوفاء به ، أو كان في منح نظرة الميسرة تفويت فرصة ، تعود على المدين بضرر جسيم من جراء فواتها ، فليس من العدل إغاثة المدين عن طريق الإضرار بالدائن .
3/ أن لا يقوم مانع قانوني من نظرة الميسرة ، كأن يتفق المتعاقدان على إعتبار العقد مفسوخا من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى حكم قضائي ، عند عدم الوفاء بالإلتزامات الناشئة عنه ، ففي هذه الحالة لا يجوز للقاضي أن يمنح هذه النظرة .
كذلك لايجوز للقاضي أن يمنحها ، إذا إتفق البائع والمشتري على ميعاد دفع الثمن وتسلم المبيع ، إذ يعتبر العقد مفسوخا بفوات الميعاد دون الحاجة إلى إعذار .
4/ أن يكون الأجل الذي يمنحه القاضي للمدين في نظرة الميسرة معقولا : فلا يجوز للقاضي أن يمنح المدين أجلا طويلا يعطل فيه على الدائن حقه ، بل يقاس الأجل بقدر ماهو ضروري ليتمكن المدين من الوفاء ، وهذا ما نص عليه المشرع الجزائري في المادة 411 من قانون الإجراءات المدنية بقوله :" يجوز لرئيس الجهة القضائية أن يمنح المدين البائس وحسن النية مهلة للوفاء بإستثناء قضايا السفاتج ، ولا يجوز أن تزيد هذه المهلة عن سنة ".
كما يجوز للقاضي أن يمنح للمدين آجالا متعاقبة لأجل واحد ، بأن يقسط الدين على أقساط، ويراعى في مواعيدها ومقاديرها قدرة المدين على الوفاء (1)
فإذا ما توفرت هذه الشروط الأربعة السالفة الذكر، جاز للقاضي أن يمنح المدين هذا الأجل أو هذه الآجال المعقولة ، والأمر في النهاية يرجع إلى تقديره ، فهو الذي ينظر حتى بعد توافر هذه الشروط ، إن كان هناك ما يستدعي منح المدين نظرة ميسرة أم لا .
كما يجوز للمدين أن يطلب نظرة الميسرة من القاضي ، ويشترط أن يكون ذلك أثناء النظر في الدعوى و قبل صدور الحكم .
و أيضا لايجوزللطرفين الإتفاق على أن لا يكون للقاضي حق إعطاء نظرة الميسرة ، فإذا إتفقا على ذلك كان باطلا، ويجوز للمدين أن يتقدم للقاضي بطلب منح نظرة الميسرة ، في أي حالة كانت عليها الدعوى ولو لأول مرة أمام محكمة الإستئناف ، كحالة إستثنائية .

الفرع الثاني : حالات خاصة بالإعسار
أولا : إعسارالمدين في حوالة الحق :
ويكون هذا الإعسار في حوالة الحق بعوض ، إذ يضمن المحيل للمحال له يسار المدين ، وهذا الإتفاق الغرض منه ، التشديد في أحكام الضمان .
فإذا اشترط المحال له(2)على المحيل (3)ضمان يسار المدين ، ولم يبين صراحة أي يسار ، فإن هذا الأخير ينصرف إلى وقت انعقاد الحوالة ، أي تفسير الشرط بما هو في مصلحة الملتزم ، فإذا كان المدين موسرا وقت انعقاد الحوالة فإن ذمة المحيل تبرأ من الضمان ، حتى لو أعسر المدين بعد ذلك .
أما إذا كان الاتفاق بين المحيل والمحال له لا يضمن إلا وجود الحق ، ففي هذه الحالة يسار المدين لا يضمن أصلا ولو وقت إنعقاد الحوالة ، حتى وإن كان المحيل عالما بإعساره ، وعلى المحال له قبل أن يقدم على قبول الحوالة ، أن يتحرى حالة المدين ، فإذا لم يفعل أعتبر مقصرا ولا يلومنّ إلا نفسه ، على أنه إذا أخفى المحيل إعسار المدين غشا ، كان مسؤولا، ل بموجب عقد الحوالة بل بسبب الغش الذي بدر منه .

أما إذا أراد المحال له أن يضمن له المحيل يسار المدين عند حلول ميعاد الوفاء بالحق المحال به ، وجب عليه أن يبين ذلك صراحة في الضمان ، وعنده يكون المحيل مسؤولا ، إذا طالب المحال له المدين بالحق فوجده معسرا ، وليست بالضرورة أن تكون المطالبة في اليوم نفسه الذي يحال فيه الحق، بل تجوز أن تكون في خلال المدة المعقولة ، فإن المحيل يكون مسؤولا عن إعسار المدين ، بموجب شرط الضمان .
أما إذا تأخر المحال له مدة طويلة، بعد حلول أجل الوفاء في مطالبة المدين ، وكان هذا الأخير موسرا خلال المدة المعقولة ، ثم أعسر بعد ذلك ، ففي هذه الحالة لا يكون المحيل مسؤولا ، لأن المحال له قد قصر بتأخره في مطالبة المدين، في وقت كان فيه موسرا .
وحتى يستطيع المحال له الرجوع على المحيل بضمان اليسار، يجب عليه أولا أن يثبت أن المدين معسرا ، ولا يتسنى له ذلك إلا إذا كان قد رجع فعلا على المدين وعلى جميع الضمانات التي تكفل الدين ، فلم يتهيأ له أن يستوفي حقه ، ومن ثم يكون للمحيل أن يطالب المحال له بتجريد المدين قبل أن يرجع عليه بضمان اليسار، وعلى المحال له أثناء هذه المرحلة أي :( مرحلة التجريد ) أن يتخذ ما يلزم من إجراءات تحفظية ضد المحيل ، حتى يتيسر له الرجوع عليه عندما يثبت بوجه قاطع إعسار المدين.
وبعد أن يتم شهر إعسار المدين ، أي تصرف يصدر منه منذ تاريخ تسجيل صحيفة دعوى الإعسار، يكون من شأنه أن ينقص من حقوقه ، كبيع أو هبة أو رهن ويدخل في ذلك حوالة الحق ، أو يزيد من إلتزاماته ، كالقرض أو أي وفاء يقوم به ولو لدين حال ، يكون غير سار في حق الدائنين ، دون حاجة إلى إثبات إعسار المدين ، فهو ثابت بحكم شهر الإعسار، ودون حاجة إلى إثبات سوء نية المدين ، أوسوء نية التصرف إليه ولو كان التصرف معاوضة .
كما أن الحوالة التي صدرت بعد تسجيل صحيفة دعوى الإعسار لا تسري في حق دائني المعسر، إذ يعتبرون من الغير بالنسبة إليها ، كذلك إذا لم تتم الإجراءات اللازمة لجعل الحوالة نافذة في حق الغير قبل تسجيل صحيفة دعوى الإعسار، فإنها لا تسري في حق دائني المعسر.
أما إذا صدرت الحوالة من المحيل ولو قبل تسجيل صحيفة دعوى الإعسار لكن التاريخ الثابت لإعلانها أو لقبولها لاحق للتسجيل ، فإن الحوالة لا تنفذ في حق دائني المعسر، ويبقى الحق المحال له داخل في الضمان العام لجميع الدائنين ، ومنهم المحال بما له من حق الرجوع بالضمان على المحيل ، فيكون أسوة الدائنين الآخرين في التنفيذ على أموال المدين المعسر(1) .
ثانيا : تحمل الموسرين من المدينين المتضامنين لحصص المعسرين منهم :
إذا أعسر أحد المدينين المتضامنين ، تحمل تبعة هذا الإعسار المدين الذي وفى بالدين ، وسائر المدينين الموسرين كل بقدر حصته ، ومن تبرز فكرة التضامن ما بين الدائنين في تحمل حصة المعسر منهم، التي تقسم بينهم بنسبة الحصة الأصلية ، فلا يرجع المدين الذي وفى بالدين على أي من المدينين الموسرين إلابقدر نصيبه من حق المدين المعسر .
فلو أن المدينين المتضامنين كانوا ثلاثة ، حصصهم في الدين متساوية ، وكان الدين ثلاث مئة ، ودفعه واحد منهم ، فإنه يرجع على كل من الدئنين الآخرين بمئة ،إذ لا يجوز أن يتحمل المدين الذي وفى بالدين وحده حصة المعسر كلها .
ويتبين مما سبق أنه إذا أعسر أحد المدينين ، تحمل تبعة هذا الإعسار سائر الدائنين ، حتى من قام منهم بالوفاء بالدين .
ويذهب الفقه في فرنسا ، إلى أن العبرة في قيام الإعسار، تكون بالوقت الذي وفى فيه المدين المتضامن بالدين ، ومن هنا ينشأ حقه في الرجوع على المدينين المتضامنين ، بما في ذلك تقسيم حصة المعسر على الموسرين .
فإذا كان المدينون متضامنون موسرين جميعا وقت الوفاء بالدين ، وتأخر المدين الذي وفى بالدين في الرجوع عليهم ، حتى أعسر واحد منهم ، فالمدين الذي وفى بالدين هو الذي يتحمل وحده حصة هذا المعسر، جراء تأخره في الرجوع عليهم في تاريخ الإستحقاق .
فقد يطالب الدائن أحد المدينين المتضامنين بالدين ، فيبادر هذا المدين إلى إدخال باقي المدينين المتضامنين معه في الدعوى ، ليحكم على كل بحصته في الدين ، وكانوا جميعا موسرين ، وأثناء التنفيذ أعسر أحدهم ، فهنا لا يمكن أن ينسب أي تقصير إلى المدين الذي وفى بالدين ، وليس من العدل أن يتحمل وحده حصة المدين المعسر .
ومنه يكون الأصل في الإعسار ، أن يقوم وقت الوفاء بالدين ، فإذا وقع بعد هذا الوقت تحمل المدين الذي وفى بالدين وحده حصة المعسر ، إلا إذا أثبت أنه لم يقصر إطلاقا في المحافظة على حقه ضد المدين المعسر(1) .
ثالثا : إعسار الكفيل أو المدين في عقد الكفالة :
تنص المادة 644 من القانون المدني الجزائري على أنه " الكفالة عقد يكفل بمقتضاه شخص تنفيذ إلتزام بأن يتعهد للدائن بأن يف هذا الإلتزام إذا لم يف به المدين نفسه ".
ويفهم من هذا التعريف : أن الكفالة عقد بين الكفيل الذي يتعهد للدائن بأن يف بالإلتزام الملقى على عاتق المدين الأصلي، إذا لم يف به هذا الأخير، وتصح كفالة المدين بغير علمه ، وتجوز أيضا رغم معارضته .
ويشترط لصحة الكفالة حسب ما نصت عليه المادة 646 من القانون المدني الجزائري : " إذا إلتزم المدين بتقديم كفيل وجب أن يقدم شخصا موسرا ومقيم بالجزائر ".


يسار الكفيل :
أي يجب أن يكون الكفيل موسرا،قادرا على الوفاء بالدين الذي كفله إذا إقتضت الحالة ذلك والمدين الذي قدم الكفيل هو الذي يتحمل عبء إثبات يساره ، فيثبت أن للكفيل مالا ولو شائعا ، عقارا أو منقولا أو كليهما ، يستطيع أن يستوفي الدائن منه حقه .
فإذا تخلف هذا الشرط ، أي أن الكفيل أصبح معسرا ، وجب على المدين تقديم كفيل آخر يحل محله ، إلا إذا إشترط الدائن شخص معين لكفالة الدين .
إذا أعسر الكفيل إعسارا جزئيا ، جاز للدائن أن يطالب بكفالة أخرى تكمل كفالة الكفيل الأول .
تبرأ ذمة الكفيل ، إذا لم يقم الدائن (1)باتخاذ الإجراءات اللازمة ضد المدين ، خلال ستة أشهر من إنذار الكفيل للدائن .
أما إذا أعسر المدين ، فيجب على الدائن أن يتقدم للحصول على ما يمكن الحصول عليه من مال المدين لاستيفاء حقه ، ثم يرجع بالباقي على الكفيل (2) .

المطلب الثاني : الضرر الذي يلحق الدائن الناتج عن المماطلة في الديون
الفرع الأول : الضرر المادي
أولا : صور الضررالمادي
إذا تأخر المدين بالوفاء لما عليه للدائن ، أو ماطل في تسديد هذا الدين ، الأمر الذي رتب ضرر مالي فعلي ، وذلك بفوات ربح محقق على المدين ، أو كأن تكون هناك غرامات سببها شروط جزائية مقابل إخلاله بتنفيذ إلتزامات ، كان قد عقدها مع أفراد آخرين أو مؤسسات ، أو بنقص سعر النقد ولذلك :
هل يستحق الدائن أن يعوض عن هذه الأضرار الحقيقية أم لا ؟
ومثال الضرر الفعلي مايلي :
ـ دائن ماطل وإمتنع عن دفع المال لصاحبه ، ثم قام بتجارة وربح فيها مالا كثيرا ، فمن هو صاحب الربح الحقيقي : هل هو الدائن أم صاحب المال ؟
ـ إتفق دائن مع عملائه بموجب عقود ، على أن المدينين سيدفعون الديون في الأجل المتفق عليه ، الأمر الذي جعله يتحمل شروط جزائية في حالة تأخره ، وماطل المدينين في إرجاع ما عليهم من ديون، الأمر الذي جعل الدائن لم يفي بإلتزاماته تجاه العملاء ، فلحقت به خسائر مادية بمقتضى الشروط الجزائية ، فهل يستحق صاحب الدين من مدينيه المماطلين تعويضا مقابل الضررالحقيقي الذي لحقه أم لا ؟
ـ مدين ماطل دائنه في تسديد مبلغ ألف دينار لمدة عشر سنوات ، فنقص سعر الدنانير في المدة المماطل فيها ، فهل المدين المماطل يضمن نقص السعر أم لا ؟
ـ دائن لديه ديون مماطل فيها من طرف مدينيه لإمتناعهم عن الوفاء ، فخسر لأجل متابعتهم قضائيا أموالا كثيرة ، فهل يعوض عن ضرر خسارة هذه الأموال ؟
مما سبق يمكن تقسيم الأضرار الحقيقية الفعلية إلى قسمين :
1/ ضرر يلحق الدائن بسبب فعل المماطل نفسه ، كخسارة المال للمخصمة ودفع أجور المحصلين .
2/ ضرر ينتج بسبب خارج عن المماطل ، كفوات ربح محقق أو خسارة مالية نتيجة إلتزامات تترتب عليها شروط جزائية عند عدم التنفيذ ، أو يكون ضرر عام كنقص السعر.
ثانيا : حكم التعويض عن الضررالمادي
ويختلف هذا الحكم بإختلاف التقسيم السابق ، ويمكن بيان حكمه من خلال :
1/ التعويض عن الضرر المادي الحقيقي الواقع بسبب تعد من المدين المماطل :
كنفقات الشكاوى والمطالبة ، والمحاماة وأجور التحصيل والتعقيب التي يدفعها الدائن للحصول على ماله الذي هو في حوزة المدين المماطل ، فهذه الأضرار المادية تستحق التعويض عنها ، إذا كانت غرامة الدائن على الوجه المعروف :
" لاوكس و لا شطط " وقد نص العلماء على هذا الحكم في المماطلة حيث :
قال ابن تيمية :" إذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء ، ومطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه على الشكاية ، فما غرمه بسبب ذلك ، فهو على الظالم المبطل ، إذا كان غرمه على الوجه المعتاد " .
وقال إبن فرحون : " إذا تبين أن المطلوب ألد بالمدعي ، ودعاه الطالب إلى الإرتفاع إلى القاضي فأبى ، فيكون على المطلوب أجرة الرسول إليه ، ولا يكون على الطالب من ذلك بشيئ ".
وقال في شرح المنتهى : " وما غرم رب دين بسببه ، أي بسبب مطل مدين أحوج رب الدين إلى شكواه، فعلى مماطل لتسسبه في غرمه ، أشبه ما لو تعدى أي بالغضب على مال لحمله أجرة ، وحمله إلى بلد آخر وغاب ، ثم غرم مالكه أجرة لعودته إلى محله الأول ، فإنه يرجع به على من تعدى بنقله(1) .
وهكذا فإن العلماء يلزمون كل ظالم معتدي ممن يباشر إتلاف مال غيره ، أو يتسبب فيه بضمان المتلف، وقد نصوا على ذلك في مواضع في الغصب وغيره ، ومن نصوصهم مايلي :
قال في بدائع الصناع :" ومؤنة الرد على الغاصب ، لأنها من ضرورات الرد ، فإذا وجب عليه الرد وجب عليه ماهو من ضروراته ".
وقال في مغني المحتاج :" وعلى الغاصب الرد للمغصوب على الفور عند التمكن ، وإن عظمت المؤونة في رده ".
وقال في المقنع :" ويلزم رد المغصوب إن قدر على رده ، وإن غرم أضعاف قيمته ".
وقال في الشرح الكبير:" وجملة ذلك : أن المغصوب متى كان باقيا وجب رده ، لقوله صلى الله عليه وسلم :( على اليد ما أخذت حتى تؤديه)(1) فإن غصب شيء فبعده لزم رده ، وإن غرم عليه أضعاف قيمته ، لأنه جنى بتبعيده ، فكان ضرر ذلك عليه ".
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم :" وذلك أن العلماء نصوا على أن كل من غرم غرامة بسبب عدوان شخص آخر عليه ، أن ذلك الشخص هو الذي يتحمل تلك الغرامة ".
ومما تقدم نلاحظ أن العلماء يلزمون المدين المماطل ، المتسبب في الضرر الحقيقي المادي الذي يلحق بالدائن بمايلي :
ـ لجوء الدائن إلى التقاضي ، وخسارته المال للحصول على حقه ، ظلم وضرر يجب إزالته ، وهذا الضرر لا يمكن إزالته إلا عن طريق تعويض الدائن لما خسره من مصاريف التقاضي(2) .
ـ هذه الأموال والنفقات لتحصيل الحق ، سببها إمتناع المدين ومماطلته في التسديد ، وهو المسؤول عليها .
ـ عدم إلزام المدين المماطل بالتعويض عن المصاريف القضائية ، يفتح المجال أمام تماطل المدينين وأكل أموال الناس بالباطل ، فتنتشر الدعاوى وتكثر الخصومات ، الأمر الذي يشغل جهاز القضاء ويتعب جيهات التنفيذ بغير حق ، ويؤخر الوفاء بالدين لمدة أطول بين مماطلة المدين وإجراءات التقاضي ، ومن غير اللائق أن يجتمع على الدائن ظلمان ، ظلم تأخير حقه وظام نفقات التقاضي لتحصيل حقه الثابت ، ومنه يجب تحميل هذا العبئ على المماطل .
ـ عدم تحميل المدين المماطل نفقات التقاضي ، يدفع بأصحاب الحقوق إلى ترك حقوقهم وعدم المطالبة بها .
لقد صدر من المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية ، فيما يخص المدين المماطل مايلي :
يتحمل المدين المماطل مصروفات الدعوى وغيرها من المصروفات التي غرمها الدائن من أجل تحصيل أصل دينه .
2/ التعويض عن الضرر الحقيقي المادي الواقع بسبب خارج عن المدين المماطل :
يرى الدكتور سلمان بن صالح الدخيل : أن الإهتمام بالتقاضي والتعويض عن الضرر، فيه فوات الربح المفترض ، حيث أن القائلون بالتعويض في هذه المسألة ، يقصرونه على فوات الربح المحقق أو حصول الضرر الحقيقي ، ويمنعون التعويض عن الربح المفترض ومنه يرى بعض العلماء تعويض الدائن عن الضرر المحقق فقط دون الضرر المفترض ، ويرى البعض الآخر عدم تعويض الدائن عن ضرر المماطلة مطلقا .
ولقد إختلف العلماء المعاصرون في حكم تعويض الدائن عن الضرر الحقيقي الذي أصابه ، كفوات الربح المحقق أوحصول ضرر مادي بسبب خارج عن المدين المماطل ، وهناك رأيين :
الرأي الأول : عدم جواز إلزام المدين المماطل بدفع تعويض للدائن عن فوات ربحه المحقق أو حصول ضرر مادي ، إذا كان السبب خارج عن المدين المماطل .
وهذا الرأي أخذ به مجموعة من المعاصرين(1) ، لأن المنع من التعويض داخل في عموم قرارات المجامع الفقهية المانعة للتعويض مطلقا ، وهذا ما ورد في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشر عام 1409 هجرية :" إن الدائن إذا اشترط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغا من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة ، إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما ، فهو شرط أو فرض باطل ، ولا يجب الوفاء به ، بل ولاتحل سواء كان الشارط هو المصرف أو غيره ، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه ".
وورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، في دورته السادسة المتعلقة ببيع التقسيط ونصه :
" إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد ، فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين، بشرط سابق أو بدون شرط ، لأن ذلك ربا محرم .
يحرم على المدين الملئ أن يماطل في آداء ما حل من أقساط ومع ذلك لا يجوز شرعا إشتراط التعويض في حالة التأخر عن الآداء ".
وجاء في معيار المدين المماطل المعتمد في المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة المالية والمراجعة للمؤسسات الإسلامية :
" لايجوز إشتراط التعويض المالي ، سواء كان التعويض عن الكسب الفائت أي الفرصة الضائعة ، أم عن تغيير قيمة العملة ، ولا يجوز المطالبة القضائية للمدين المماطل بالتعويض المالي نقدا أو عينا عن تأخر الدين ".
الرأي الثاني : جواز إلزام المدين المماطل بدفع التعويض للدائن ، عن فوات ربحه المحقق أو حصول ضرر مادي عليه إذا كان بسبب خارج عن المدين المماطل .
وهذا الرأي أخذ به مجموعة من المعاصرين(1)من بينهم الدكتور الصديق الضرير ، جواب عن إستفتاء وجه إليه من أحد البنوك :" يجوز أن يتفق البنك مع العميل المدين علىأن يدفع له تعويضا عن الضرر الذي يصيبه بسبب تأخره عن الوفاء شريطة : أن يكون الضرر الذي أصاب البنك ضررا ماديا وفعليا ، وأن يكون العميل موسرا ومماطلا ، وخير وسيلة لتقدير هذا التعويض ، هو أن يحسب على أساس الربح الفعلي الذي حققه البنك أي الدائن ، في المدة التي تأخر فيها المدين عن الوفاء ".
و بالنسبة للأدلة التي إعتمدها الرأيين ، لتدعيم حججهم في حكم تعويض الدائن عن فوات الربح المفترض ، مع توجيه أن الضرر فعلي حقيقي وليس محتملا ، وهي الأدلة السالفة الذكر .
ولقد رجح الدكتور سلمان بن صالح الدخيل القول الأول ، ومفاده : عدم جواز المدين المماطل بدفع تعويض للدائن عن فوات ربحه المحقق ، أو حصول ضرر مادي إذا كان السبب خارج عن المدين المماطل ، مبررا ذلك بمايلي :
ـ قوة أدلة القول الأول ، وعدم صمود أدلة القول الثاني أمام المناقشة الواردة عليها .
ـ في هذه الحالة التعويض زيادة في مقابل تأخر الأجل ، وهو بذلك ربا محرم وممنوع حتى و إن كان المماطل ظالما .
ـ إذا لم يكن المدين يد في وقوع الضرر الحقيقي للدائن ، فإنه لا توجد علاقة بين المماطلة ووقوع الضرر .
ـ لا يمكن تحميل المدين المماطل فوق طاقة ذمته المالية ، وإلا كان ذلك ظلما له ، فكيف يعوض عن ضرر ليس له فيه مصلحة .
كما أن العلماء أقروا أن المماطل يضمن ما تسبب به من أضرار مالية تلحق بالدائن ، كالمصاريف القضائية وتحصيل الدين .
وحسب الدكتورسلمان بن صالح الدخيل : يعود سبب الخلاف في مسألة التعويض إلى ثلاثة أمور هي :
أ/ هل الزيادة المفروضة على المدين المماطل ربا أم لا ؟
ب/ هل المدين التأخرعن الوفاء ظلما ، يشبه المعسر المتأخر عن الوفاء بعذر ، أو الذي لم يجد مالا حاضرا ليسد به دينه ؟
ج/ ما هو حكم الأرباح والأموال المماطل فيها ؟
ـ فالأمر الأول : يرى أن الزيادة المفروضة على المدين جراء التأخير هي ربا ، فهو بذلك يمنع التعويض نهائيا ، حتى ولو لحق الدائن ضرر ، لأنه يجوز أن تلحق هذه الأضرار بالشخص وإن لم يكن دائن ، والمطل لا يوجب زيادة في الدين ، لأن المدين إتفق على أن يرد للدائن حقه لا غير.
أما من منع أن تكون الزيادة المفروضة على المدين جراء التأأخير ربا ، فقد أجاز التعويض لأنه مقابل ضرر واقع .
ويرى الدكتور سلمان بن صالح الدخيل ، أن هذه الزيادة من صور ربا الجاهلية ، لأن هذا الأخير كان يؤخذ تعويضا عن ضرر سببه تأخر المدين عن دفع المال في الوقت المحدد .
ـ الأمر الثاني :الذي يلحق المدين المماطل بغيره من المدينين ،وهو المعسر أو الملئ الذي غاب ماله ، فلا يجوز أن تفرض عليه غرامة أو تعويض ، لأنه لا يمكن فرض الزيادة على المعسر بالإجماع .
أما من إعتبر المدين المماطل هو الممتنع بالغصب عن تأدية إلتزامه المالي بحلول أجل الوفاء بلا عذر.
ـ الأمر الثالث : بخصوص الأرباح المماطل فيها ، وإختلف الفقهاء حول تصنيفها : هل هي للمالك المغصوب منه أم للغاصب ، وعليه هناك حالتين :
1/ أن يتأخر بها الغاصب فيربح : وهم خمسة آراء :
ـ ربح الدراهم المغصوبة للغاصب وقالوا :أن الخراج بالضمان والغنم بالغرم ، والغاصب ضامن لما غصب ، فيكون ربح الدراهم له مقابل ضمانه لها سواء أنفقها أو تاجر بها .
وأنتقد هذا الرأي بأنه ليس مطلق ، لأن العين المغصوبة إذا لم يتغير إرجاعها للدائن ، برأ من ضمانها، كما أن العين تضمن إلا إذا هلكت أو تغيرت .
ـ ربح الدراهم المغصوبة للمالك(1)وقالوا : بأن الربح تنمية لملك صاحب الدراهم ، وهو الذي يستحقها وليس الغاصب لأنه ظالم وهو بذلك إهدار لعمله .
وتم نقد هذ الرأي بأنه إذا كان الغاصب ظالما بغصبه العين ، الأمر الذي يقتضي ضمان ما غصب بلا زيادة لقوله صاى الله عليه وسلم :" على اليد ما أخذت حتى تؤديه ".
والربح الذي حصل عليه الغاصب بجهده المبذول لا يحرم ولا يستفيد منه وحده ، وإنما يشترك الغاصب والمغصوب فب ربح المال كالمضاربة .
ـ ربح المال يتصدق به : وهم يرون بأن الربح كسب خبيث ، لأنه ربح لمال مغصوب وهو بذلك لايطيب للغاصب ، ومنه وجب التخلص منه بالتصدق به .
لكن الصدقة تفوت الربح على الطرفين ، وأثر الإمتناع هو في ضمان العين لصاحبها إذا كانت موجودة، أو مثلها إذا كانت مثلية أو قيمتها ، والعدل هو أن يشترك صاحب المال وصاحب العمل في الربح .
ـ وهو القول الذي يقسم الربح مناصفة بين الطرفين ، وأعتمدوا في حججهم على :
ماجاء عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال : " خرج عبد الله وعبيد الله إبنا عمرا بن الخطاب في جيش إلى العراق ، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري ، وهو أمير البصرة ، فرحبا بهما وسهل ، ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال : بلى ههنا مال من مال الله ، أريد أن أبعث إلى أمير المؤمنين ، فأسلفكماه فتبتاعان به من متاع العراق ، ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ، ويكون لكما ، فقالا : وددنا ذلك ، ففعل ، وكتب إلى عمر بن الخطاب ، أن يأخذ منهما المال ، فلما قدما باعا فأربحا ، فلما دفعا ذلك إلى عمر ، قال : أكل الجيش أسلفه كما أسلفكما ؟
قالا: لا ، فقال عمر بن الخطاب : إبنا أمير المؤمنين فأسلفكما ، أديا المال وربحه ، فأما عبد الله فسكت، أما عبيد الله فقال:
ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا ، لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه ، فقال عمر : أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله ، فقال رجل من جلساء عمر : يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا ، فقال عمر: فقد جعلته قراضا ، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه ، وأخذ عبد الله وعبيد الله إبنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال ".
ـ من قال أن الربح للغاصب إن كان موسرا ، وللمالك إن كان معسرا ، معتمدين في ذلك قياسهم على مال اليتيم ، حيث إذا أتجر بمال اليتيم لنفسه ، فإن كان موسرا فهي له لقبول ذمته الضمان ، وإن كان معسرا فهي لليتيم لعدم قببول ذمته الضمان .
ويعاب على هذا القول الإختلاف بين اليتيم والغاصب ، إذ يرون أن ولي اليتيم أمين ، والمال في يده أمانة ، أما الغاصب فهو معتدي ويده يد ضمان .
من خلال الأقوال السابقة وإختلاف حججهم ، نجد أن الدكتور سلمان بن صالح الدخيل رجح القول الرابع ، الذي يدعوا لقسمة ربح المال مناصفة بين مالك المال والغاصب ، وهو قول ابن تيمية ، لقوة دليله وتحقيقه للعدل ، لأن الربح تحقق من وجود المال وحصول العمل فيقسم بينهما .
2/ ألا يتاجر بها الغاصب : إذا حبس الغاصب المال ولم يتاجر به ، فإنه لا يضمن الربح المفترض عند جمهور العلماء ، وبيان ذلك : هناك من العلماء من أشاروا إلى أن الأرباح المحققة من مال المغصوب، هي للغاصب والمالك لا يستحق شيئا .
والحنابلة الذين يقولون بأن الربح المحقق للمالك ، ونصوا على عدم ضمان الربح الفائت إذا لم يتاجر الغاصب بالمال .
وقالوا في مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد : " لا يضمن الغاصب ما فوته على المالك من الربح بحبسه مال التجارة .
والراجح حسب الدكتور سلمان بن صالح الدخيل : عدم تضمين الغاصب أرباح المال المفترضة وذلك لثلاثة أمور :
أولا : قوله صلى الله عليه وسلم : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه ".
ثانيا : أنه لو إستحق التعويض عن ربحه المفترض ، لنقل خصوصا مع كثرة حوادث الغصب .
ثالثا : أن القول بتضمين الأرباح المفترضة قول مخالف لما عليه عامة أهل العلم ، فلا يصح إعتباره أصلا يعتمد عليه في التعويض عن ضرر المطل بسبب فوات الربح ، ولو كان محققا .
الفرع الثاني : الضررالمعنوي
الضرر الأدبي ، مصطلح قانوني يطلق على ما يقابل الضرر المادي ، ويسمى أيضا الضرر المعنوي ، وهو يعني :
الإعتداء الذي يصيب الإنسان في شعوره أو عاطفته أو كرامته أو شرفه ، إذ يجعله يظهر بمظهر غير لائق ، وما يصيبه من ألم نتيجة الإعتداء على حق من حقوقه المالية وغير المالية .
وقد يكون الضرر الأدبي ، ضرر أدبي محضا أي لا يقترن به ضرر مادي ، ومثاله الضرر الذي يصيب الشخص في عاطفته من حنان ومحبة أو الحزن الذي يصيب المرء ، بسبب سوء الخلق ونحوه
كما قد يكون الضرر الأدبي ضررا غير محض أي قد يترتب عليه ضرر مادي ، ومثاله الضرر الذي يشوه الجسم أو يؤثر في آداء العامل وإنتاجه وقدرته على الكسب .
وقد تقرر في الشريعة الإسلامية ، تحريم الإعتداء على الناس وإيذائهم بغير حق ، سواء كان هذا الإعتداء في أنفسهم أو في أموالهم أو في مشاعرهم ، لقوله تعالى : ( و الذين يؤذون المؤمنين والمؤنات بغير ما إكتسبوا فقد إحتملوا بهتاناوإثما مبينا)(1)
وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم عليكم دماءكم و أموالكم و أعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ".(2)
أولا : صور الضرر المعنوي:
قد يتأخر المدين في وفاء دينه ، ويطالبه الدائن فيماطل في الوفاء ، فيلحق بالدائن أضرار معنوية بسبب ذلك ، ومن صورها مايلي :
1/ أن يكون الدائن من أشرف الناس الذين يغض من قدرهم وينقص من مكانتهم التردد على المحاكم ومراكز الشرطة وجهات التنفيذ الأخرى .
2/ ضرر الدائن في كثرة الإتصالات على المدين والذهاب إليه وملاحقته وإنتضاره وما ينتج عن ذلك من هم وحزن ، وخوف من ضياع الحق ، مما قد يعود بالضرر الصحي على بدنه .
3/ ضرر ما يلحق سمعة الدائن عند الناس ، إذا علموا بمطالبته للمدين ، لأنهم يضنون أنه ظالم بالمطالبة وذو قسوة غلظة على مدينه الذي يدعوا الإعسار .
4/ ضرر عدم طمأنينة العملاء الجدد للدائن أو للشركة الدائنة ، إذا كانت تعاني من ديون متعثرة لدى عملاء آخرين مدينين ، فيحمل هذا على نقدها عبر وسائل إعلامية ، مما يعود على إسثماراتها وإقبال الناس عليها بالضعف .
فهل يستحق المتضرر بمثل هذه الأضرار الأدبية المعنوية ، تعويضا ماليا عن ضرره أم لا؟



ثانيا : حكم التعويض عن الضرر المعنوي
من المتفق عليه أن الضرر الأدبي الذي ينطوي عليه ضرر مادي ، كمن كذب على الدائن ظلما فساء ت سمعته ، ومن ثم فصل عن عمله أو حرم من ترقية لسوء سمعته ، وبناءا على ذلك فهذ النوع من الأضرار يستحق التعويض .
أما فيما يخص الضرر الأدبي الذي لا يؤدي إلى ضرر مادي ، فقد إختلف الفقهاء في حكم التعويض عليها وإنقسموا بذلك إلى رأيين :
الرأي الأول : عدم ضرورة التعويض عن الضرر الأدبي الذي لا يؤدي إلى ضررمادي : وهو قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 109 / 3 / 12 / " الضرر الذي يجوز التعويض عليه يشمل الضرر المالي الفعلي ، ولا يشمل الضرر الأدبي والمعنوي ".ومن أدلة هذا الرأي :
ـ الضرر الأدبي المعنوي ليس فيه خسارة مالية ، فلا يمكن تقديره بالمال ، إذ أن التعويض المالي لا يكون إلا عن ضرر مالي واقع فعلا يمكن تقديره بالمثل أو بالقيمة .وقال الشيخ علي الخفيف : " ليس فيهما أي الضرر الأدبي والمعنوي تعويض مالي على ما تقضي به قواعد الفقه الإسلامي ، وذلك محل إتفاق بين المذاهب ، وأساس ذلك فيهما أن التعويض بالمال يقوم على الجبر بالتعويض ، وذلك بإحلال مال محل مال فاقد مكافئ لرد الحال لما كانت عليه ، إزالة للضرر وجبرا للنقص ، وذلك لايتحقق إلا بإحلال مال محل مال مكافئ له ليقوم مقامه ويسد مسده ، وكأنه لم يضع على صاحب المال الفاقد شيئ ، وليس ذلك بمتحقق فيهما ".ـ الضرر الأدبي المعنوي لا يجبره التعويض المالي ، فهو يجحف في حق الفقير ، ولا يردع الغني ، أما العقوبة البدنية فهي جازرة للمعتدي فقيرا كان أم غنيا ، لذا شرع لهذ الضرر ما يناسبه من الحد .ـ عمل أهل العلم على عدم تعويض المتضرر ضررا أدبيا معنويا غير مادي ، وأن الضمان لا يجب إلا في ما كان مثليا أو قيميا ، ومن أقوالهم في ذلك :
قول السيوطي : " الأصل أن ضمان المثل بالمثلي ، والمتقوم بالقيمة ".
وقول ابن نجيم في تبصرة الحكام : " من قام بشكية بغير حق أو إدعى باطلا ، فينبغي أن يؤدب ، وأقل ذلك بالحبس ليندفع بذلك أهل الباطل واللدد ".
الرأي الثاني : جواز التعويض المالي عن الضرر الأدبي المعنوي :
وقال بهذا الرأي بعض المعاصرين (1)وهو ما عليه العمل في القوانين الوضعية المعاصرة، وأدلتهم في ذلك :
ـ ما جاء عن أبي يوسف الذي قرر التعويض المالي مقابل الألم ، والألم ضرر أدبي ، وعليه فيقاس على الألم غيره من الأضرار الأدبية المحضة ، ومنه يجوز التعويض المالي عن الضرر الأدبي .
ـ الواجب في الضرر المعنوي الأدبي هو التعزير ، ومن أنواعه : التعزير بالمال : وهو مقرر شرعا ، والتعويض بالمال عن الضرر الأدبي لا يخرج عن التعزير بالمال المقرر شرعا .
والراجح حسب الدكتور سلمان بن صالح الدخيل ، الرأي الأول وهو عدم جواز التعويض المالي عن الضرر المعنوي الأدبي ، وذلك للأسباب التالية :
1/ عدم تقوم هذا الضرر ، وقد سبق أن من شروط التعويض عن الضرر أن يكون متقوما أي يمكن تقويمه بما يعادل الضرر ، إذ لا يمكن تقويم ضرر المطل الأدبي .
2/ أن الديون يتشدد فيها ما لا يتشدد في غيرها ، ومنعا للوقوع في المحضور ، هو عدم التعويض عن الضرر الأدبي الناتج عن المماطلة في الديون ، سدا للذريعة .
3/ إن صاحب الحق داخل في عقد المداينة على بصيرة من أمره ، وهو يدرك إحتمال وقوع مطل أو إفلاس أو إعسار ، إذ يمكنه أن يحتاط لنفسه بما شاء من التوثيقات التي تحفظ له حقه ، فإن فرط ، فما لحقه من ضرر فبسبب تقصيره .
إستحدث الفقه المقارن نظام شهر الإعسار ، وهو نظام جماعي لشهر إعسار المدين المدني غير التاجر ، ليعلم الدائنون حالة مدينهم ، ويشترط لإعتبار المدين معسرا مايلي :

أ ـ أن تكون الديون المستحقة الآداء أكثر من حقوقه ، فلا يكفي مجرد زيادة ديونه على حقوقه مطلقا ، بل يشترط أن تكون الديون مستحقة الآداء زائدة على حقوقه ، من ذلك الديون المؤجلة والديون المعلقة على شرط واقف .
ب ـ أن يصدر حكم شهر إعسار المدين من القاضي ، وهو أمر جوازي له يحكم به بناءا على الظروف العامة والخاصة التي تحيط بالمدين أو ظروفه الخاصة الطارئة والمؤقتة (1).

خلاصة الفصل الأول :
تتمحور خلاصة هذا الفصل في أن الإعسار المدني هو زيادة ديون المدين على ذمته المالية ، فيصبح غير قادر على سداد دينه ، ومن شروطه أن تكون الديون المستحقة الآداء أكثر من حقوقه ، وأن يصدر حكم بشهر إعسار المدين من القاضي بعد إعطائه نظرة ميسرة ، فإذا ما توافر هذين الشرطين أصبح المدين معسرا ، ويقع عبء إثبات ذلك على الدائن الذي إدعى إعسار مدينه أو من هذا الأخير نفسه إذا أقر بذلك .
ويترتب على إعسار المدين أو تخلفه على دفع ما عليه من ديون أضرار تلحق بدائنيه ، سواء كانت هذه الأضرار مادية ، كفوات ربح محقق على الدائن أو كأن تكون هناك غرمات على التأخر أو إخلال بتنفيذ إلتزام مع أفراد آخرين ، وأضرار معنوية ما يلحق الدائن من حزن وخوف على ضياع المال ، أو كأن يكون الدائن من أشرف الناس ، إذ ينقص من قدرهم التردد على المحاكم ومراكز الشرطة .
ولكن إلى متى يبقى المدين يتلاعب بأموال دائنيه ؟
ومن هنا وجب إقامة نظام كفيل بحفظ الحقوق وجبر الأضرار التي تلحق الدائن خاصة والمعاملات المدنية عامة ، فكانت الإشارة الأولى لهذا النظام في الفقه الإسلامي ، بإعتباره المصدر الرئيسي لجميع المعاملات ، إذ أن فكرة الحجر هي فكرة الإعسار مع تغيير طفيف في بعض الجوانب الإجرائية ، والقاعدة في الشريعة الإسلامية عدم التمييز بين التاجر وغير التاجر ، لأن جميع المعاملات مدنية كانت أم تجارية ، تهدف إلى الحجر على ذمة المدين وبيع ماله وقسمة الثمن الناتج عن ذلك بين الدائنين قسمة غرماء ، وبالتالي لايستطيع المدين التصرف في أمواله إضرارا بدائنيه أو تفضيل بعضهم على حساب بعض، على أنه لا مجال للقتل أو للرق أو توارث الديون في الشريعة الإسلامية .
وتعددت المحاولات لإقامة هذا النظام وإرساء معالمه ، من طرف الكثير من التشريعات على غرار المشرع المصري والفرنسي والإسباني ، التي رأت أن نظام الإفلاس التجاري كفيل بتنظيم المعاملات المدنية والتجارية على حد السواء ، ولكن هذا الفكر لم يستمر طويلا ، إذ أن هذه التشريعات أخذت من نظام الإفلاس التجاري ما يخدم مصالح الدائن والمدين والمعملات المدنية بصفة عامة .
ومن هنا ظهر الإعسار المدني كنظام مستقل قائم بذاته يكفل الضمان العام للدائنين ، وإخضاع المعاملات المدنية للقانون الأمر الذي يؤدي إلى حفظ الحقوق وإستقرار المعاملات .


________________________________

(1) راجع الدعاوى المسماة في القانون المدني في ضوء الفقه وأحكام القضاء- للمستشار أنور العمروسي - ط 2002 . دار الفكر الجامعي الإسكندرية.

(2) راجع مناهج المسلمين ، أبو بكر جابر الجزائري الطبعة الثالثة دار الطباعة الحديثة الدار البيضاء المغرب.

(1) أنظر إجراءات التنفيذ في المواد المدنية والتجارية للدكتور أحمد أبو الوفا ، ص 280 وما بعدها وص 291 وما بعدها .

(1) أنظر فقه السنة ، السيد صادق ، المجلد الثالث، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان.

(1) أنظر المرجع السابق .

(1) أنظر الوسيط في شرح القانون المدني، نظرية الإلتزام بوجه عام ، للدكتور عبد الرزاق السنهوري، ط: ثالثة ، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت لبنان،ص 1200 ـ 1201 .

(2) السنديك : وكيل التفليسة في القانون التجاري الجزائري .

(1) أنظر الوسيط في شرح القانون المدني، للدكتور عبد الرزاق السنهوري ، نظرية الإلتزام بوجه عام ، ص1207 .

(2) راجع نظرية الحق في الحبس ودعوى الإعسار المدني للدكتور قدري عبد الفتاح الشهاوي ، الكتب القانونية ، توزيع منشآت المعارف ، الإسكندرية، ط 2002 .

(1) أنظر الدكتور محسن شفيق ، في إنتقاد توحيد نظام الإفلس التجاري والإعسار المدني ، ص 05 ، فقرة 24 .

(1) انظر الوسيط في شرح القانون المدني ، نظرية الالتزام بوجه عام ، للدكتور عبد الرزاق السنهوري ، ص 1205 ، 1206 ، ط: 2000 .

(1) راجع المعجم الوجيز الصادر عن مجمع اللغة العربية ، طبعة خاصة لوزارة التربية والتعليم ، ص 131 ، ط 1990 .

(1) راجع أحكام الإفلاس والصلح الواقي للدكتور عزيز العكيلي ، مكتبة دار الثقافة النشرو التوزيع .

(1) راجع الدكتور محسن شفيق ـ الإفلاس التجاري ـ فقرة 28 .

(2) راجع مجلة التشريع والقضاء 2 ـ رقم 12 ـ ص 211 ، الأسكندرية ، الكلية الوطنية 2 أبريل 1950 .

(3) نقض مدني : 31ـ01ـ1946 ، مجموعة عمر 5 رقم 33 ،ص 80 .

(1) راجع الوسيط في شرح القانون المدني ، نظرية الالتزام بوجه عام ، الأوصاف ،الحوالة ، الانعقاد ، للدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري ، منشورات الحلبي الحقوقية ، بيروت لبنان ، ط : 1998 ، ص 781 إلى 784 .

(2) المحال له : هو الأجنبي الذي هو دائن جديد لأن الدائن أحاله بحقه .

(3) المحيل : هو الدائن الأصلي، لأنه يحيل الأجنبي بالحق الذي له على المدين .

(1) راجع الوسيط في شرح القانون المدني ، نظرية الالتزام بوجه عام ، الأوصاف، الحوالة ، الإنقضاء ، للدكتور عبد الرزاق السنهوري ، ص 607 .

(1) أنظر المرجع السابق . ص365 .

(1) المدين : هو طرف أصلي في عقد الكفالة ، بحيث يلزم الكفيل بدفع الدين العالق في ذمة مدينه ، الناشئ عن علاقة مديونية بين الدائن والمدين الأصلي .

(2) الكفيل : هو شخص تعهد بتنفيذ التزام المدين الأصلي ، إذا لم يف به هذا الأخير بموجب عقد الكفالة ، أنظر الوسيط في شرح القانون المدني ، التأمينات الشخصية والعينية ، للدكتور عبد الرزاق السنهوري ، الجزء العاشر والأخير ، ط2000 ، ص 31 ـ 32 .



(1) وفيه قياس تحميل المماطل نفقات الشكاية على تحميل الغاصب أجرة رد المغصوب إلى موضعه بحجة التسبب في غرم هذا المال بغير حق .

(1) أخرجه أبو داود في سننه ، كتاب الإيجارة ، باب الرقى ، رقم 3561 ، والترميذي في السنن ، كتاب البيوع ، باب ما جاء أن العارية مؤداه

(2) أنظر التعويض عن أضرار التقاضي للدكتور عبد الكريم اللاحم ، ص 33 .

(1) ونص على هذا القول مجموعة من المعاصرين : الدكتور تقية العثماني ، كما في بيع التقسيط له في كتابه بحوث في قضايا فقهية معاصرة ، ص 40 ، والدكتور نزيه كمال حماد ، كما في بحثه المؤيدات الشرعية لحمل المدين المماطل عن الوفاء ، ص 295 . والدكتور رفيق المصري و تعليقه على بحث الزرقا في مجلة الدراسات الإقتصادية الإسلامية ، ص 75 .



(1) ومن بين المعاصرين الذين قالوا بهذا الرأي إضافة إلى الدكتور الصديق الضرير : الدكتور زكي عبد البر في تعليقه على فتوى الضرير في مجلة جامعة الملك عبد( العزيز ، ص 61 . والشيخ زكي الدين شعبان في تعليقه على بحث الزرقا في مجلة جامعة الملك عبد العزيز ، ص 199 .

(1) وهو قول للشافعية ومذهب الحنابلة ، قال الشيخ سليمان بن عبد الله : " فإذا إتجر بالدراهم فالربح لمالكها ، هذا هو المذهب ، وهو من مفرداته ".

(1) الأحزاب الآية 58 .

(2) أخرجه بهذا اللفظ البخاري في صحيحه ، كتاب الأدب ، باب الحب في الله ( 10 / 478 ) رقم الحديث ( 6043 ) .

(1) ممن قال بهذا الرأي من المعاصرين : الشيخ محمود شلتوت في كتابه المسؤولية المدنية ، ص 35 ، والدكتور محمد فوزي فيض الله في كتابه نظرية الضملن ، ص 92 والدكتور وهبة الزحيلي في كتابه نظرية الضمان ص 54 ، والدكتور ناصر الجوفان في بحثه التعويض عن السجن ، ص 277 .

(1) راجع الدعاوى المسمات في القانون المدني في ضوء الفقه و أحكام القضاء، للمستشار أنور العمروسي ، ط 2002 ، دار الفكر الجامعي ، الإسكندرية .

0 تعليق:

إرسال تعليق