بحث هذه المدونة الإلكترونية

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المعاهدات في الشريعة الاسلامية

 المعاهدات في الشريعة الاسلامية 


حمد فهمي طبيب 
تمهيد 

الامة الاسلامية امة حية ، تحمل ُمبدأً حياً ، تريد ايجاده في واقع الحياة . ونشره بين الشعوب والأمم .
لذلك فانها تقوم من أجل هذه الغاية الجليلة بأعمال عظيمة داخل حدود الدولة ، تتمثل بتطبيق الاسلام في الدولة والمجتمع بجميع احكامه العملية ، في الحكم والسياسة ، والاجتماع ، والاقتصاد ، وتقوم بأعمال جليلة عظيمة خارج حدود هذه الدولة ، تتمثل بحمل هذا الدين إلى الأمم والشعوب عن طريق الجهاد . 
وأثناء هذه المهمات الجليلة في حمل الإسلام ، رسالة خير وهدىً الى البشر ، تقوم هذه الدولة بعقد المعاهدات التي تساعدها ، وتخدم مصالحها في طريق هذا الهدف السامي ، ( هدف حمل الدعوة ) .
وهذا الموضوع ، من المواضيع المهمة التي يجب على الأمة ان تفهمه وتعي أحكامه ، وخاصةً أن الأمة تتهيأ اليوم لاستلام زمام الأمر من أهل الكفر ، ولترجع الى سابق عهدها ، امةً مجاهدةً ، حاملةَ لواء المجدِ ، والعزة والمنعة ، وحاملةَ رسالة النور والخير الى البشر جميعاً ، وهذا يستلزم فهم احكام المعاهدات من قبل الامة وخاصةً حملة الدعوة منهم .
اما الشيء الثاني الذي يدعو لفهم هذا الموضوع فهو : معرفة الحرام والحلال . 
فاُلأمةُ مرتبطةٌ بالخالق جلّ وعلا ، وتقيم جميع علاقاتها في الحياة على اساس هذه العلاقة ، فيجب عليها ان تعرف الحلال لتفعله ، وتعرف الحرام لتجتنبه ، وخاصة أنها غُزيت من قبل الكفر واستعمرت اقتصادياً وسياسياً ، وفكرياً .
وهناك امرٌ مهم يدعو لفهم هذا البحث وهو التدليس والكذب من قبل البعض على احكام هذا الدين ، خدمة للكفار او لاولياء الكفار ممن يحكمون بالكفر الصراح .
حيث أخذوا يجّوزون الحرام في المعاهدات ، ويقيسون الامور قياساتٍ خاطئة على افعال الرسول ، وافعال الخلفاء ، وافعال بعض القادة المخلصين الأبطال ممن فتحوا هذه البلاد .
لهذا كله كان الدافع وراء كتابة هذا البحث ، وبيان احكامـه للمسلمين .

والله نسأل ان يوفقنا الى ما فيه الخير والصلاح لنا وللمسلمين جميعاً .


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة :

لم ينته الحاقدون على الاسلام الجاهلون باحكامه الشرعية ، من اتهامه بالقصور والتخلف والرجعية ، الى غير ذلك من مسميات ما أنزل الله بها من سلطان .
ونسي هؤلاء ، او تناسوْا أن هذا الدين – دين الاسلام – هو المبدأ السماويّ الوحيد على وجه الارض ، وغيره من مباديء وما انبثق عنها من نظم ومعالجات ، انما هي من صنع عقول بشرية قاصرة .
ونسوا كذلك ان هذا الدين ، - عقيدةً ونظاماً - قد عالج شؤون الانسان في الحياة الدنيا معالجة منقطعة النظير ، لم تترك صغيرةً ولا كبيرة من شؤون حياته وعلاقاته ، سواءٌ كانت مع نفسه مثل المطعومات ، والملبوسات ، او مع غيره ، مثل المعاملات بشتى احكامها وانواعها ، من بيع وشراء وهبة ، ووديعة ، وشركة … في شـؤون السياسة ، او الاقتصاد ، او الاجتماع ، او الحكم في الجماعة ، او المجتمع ، او الدولة .
او كانت هذه العـلاقات مع ربه عز وجل في العبادات المادية والبدنية .
هذا بالنسبة للأعمال والتصرفات التي تصدر عن جوارح الانسان وتنظم شؤون نفسه وحياته ومجتمعه . والناظر كذلك بعمق واستناره الى عقيدة هذا الديـن التي انبثقت عنها هذه الاحكام العملية في الحياه ، يجد ان هذه العقيده قد انارت عقل الانسان ، وقلبه ، واخرجته من الحيره والقلق ، والتساؤلات الكثيره ، التي لا يجد لها أية اجابة .
فقد ارشدت العقيدة الاسلامية بني الانسان الى الحق والصواب ، وأجابت عن تساؤلاتهم عـن هذا الكون من اين جاء والى اين سينتهي ؟؟؟ ومن وراءه ؟؟؟ وعن انفسهم من اين جاءوا ، والى اين سينتهوا ، ومن الذي اوجدهـم من عدم ؟؟ وعن الحياة ما هي طبيعتها ، ومن الذي اوجدها والى اين ستنتهي كذلك ؟؟؟
فارشدت الانسان الى الاجابات الشافية ، التي تقطع ما في نفسه من قلق ، وحيرة . فاخبرته ان الله عزّ وجلّ هو وراء كل هذه الاسئلة المحيرة . فالكونُ والانسان والحياة كلّها خلقٌ من عظيم خلق هذا المبدع العظيم ، وان الانسان كذلك خلقٌ من خلق الله عز وجل ، خلقه لغاية عظيمة ورفعه وكرّمه فوق المخلوقات جميعا قال تعالى : ( ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالقُ كلّ شيءٍ فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل ) ( ) . وقال : ( ولقد كرّمنا بني ادم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهُم على كثيرٍ ممّن خَلقنا تفْضيلا ) ( ) . 
وقال : ( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ما أريد منهم من رزقٍ وما اريد ان يطعمون ان الله هو الرزّاق ذو القوة المتين )()
وان هذه الحياة الدنيا وما فيها ، والكون والحياة كلها ستعود كما بدأها الحق تبارك وتعالى اول مرة 0 قال تعالى : ( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيدُه وعداً علينا إنّا كنا فاعلين ) . ( )
وأن هذا الانسان سيحاسب على عمله في هذه الحيـاة ، ان خيراً فخير ، وان شراً فشر .
قال تعالى : ( لله ما في السماوات وما في الأرض ليجزيَ الذين أساءوا بما عملوا ويجزيَ الذين أحسنوا بالحسنى ) . ( )
…. نعم ، ان هذا الدين - دين الاسلام -هو المبدأ الحق على وجه هذه الأرض ، وهو الذي نظم شؤون الانسان على أفضل وأكمل وجه ، قال تعالى : ( ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين ) (  ) ، وقال تعالى : ( ما فرّطنا في الكتاب من شيءٍ ثم الى ربهم يحشرون ) ( ) .
فهو بحق كما وصفه الحق تبارك وتعالى : ( قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ ، يهدي به الله من اتّبعَ رضوانَه سُبل السلامِ ويُخرجهم من الظلّماتِ الى النّورِ باذنه ويهديهمْ الى صراطٍ مستقيم) ( ) . وقال :( الر ، كتاب انزلناه اليك لتخرجَ الناس من الظلماتِ الى النور باذن ربّهم الى صراطِ العزيز الحميد ) ( ) .
وهو الهداية ، التي ارشدت الناس من الضلال الى الحق والصواب ، قال تعالى : ( وكذلك اوحينا اليك روحاً من أمرنا ما كنتَ تدري ما الكتابُ ولا الايمانُ ولكن جعلناهُ نوراً نهدي به من نشاءُ من عبادنا وإنّك لتهدي الى صراطٍ مستقيم ) ( ) .
وهو الصدقُ والعدل ، قال تعالى : ( وتمّتْ كلمةُ ربّك صِدْقاً وعدلا لا مبدّل لكلماتِه وهو السميعُ العليم ) ( ) .
وان غيره من مبادىء وأنظمة وافكارٍ ، إنما هي ضلالاتٌ وخرافاتٌ وانحرافات ما زادت البشرية إلاّ ضنكاً فوق ضنك ، وظلاماً فوق ظلام ، وعطشاً فوق عطش ، وخوفاً وجزعاً وأمراضاً …. الى غير ذلك من شرورٍ وانحرافات وضلالاتْ .
قال تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فان له معيشةً ضنكا ونحشره يوم القيامه أعمى ) ( )
وقال تعالى : ( ام حسب الذين إجترحوا السيئاتِ أن نجعلهم كالذين آمنوا وعَملوا الصالحاتِ سواءً محياهُم ومماتهم ساء ما يحكمون ) ( ) .
وقال تعالى : ( ظهر الفسادُ في البرّ والبحر بما كسبت ايدي الناسِ ليذيقهم بعضَ الذي عملوا لعلّهم يرجعون ) ( ) أي يرجعون الى العدل والاستقامه والحق ،…. الى دين الله . 
لقد شبّه الحق تعالى الكفار وافكارهم وما يحملون من ضلالات وخرافات بالانعام بل هم اضل سبيلا . فقال تعالى : ( ام تحسبُ ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا ) ( ) ، وقال تعالى : ( الذين كفروا يتمتّعون ويأكلونَ كما تاكلُ الأنعام والنار مثوىً لهم ) ( ) .
واخبر ان جميع اعمالهم وتصوراتهم ما هي إلاّ سرابٌ خادعٌ واكاذيب وضلالات ، ليس لها أساس من الحق ولا تزيد البشرية الا ضلالاً وضياعاً .
قال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسُبه الظمآن ماءً حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابهُ والله سريعُ الحساب ) ( ) .
لقد نظم هذا الدين حياه الانسان واعماله في المجتمع ، والدولة تنظيماً صحيحاً ، يجلبُ الخير والاستقامة والرفاه ، والأمن ، والعدل لبني البشر جميعا ، ومن هذه النظم علاقة المسلمين مع غيرهم من شعوب في المعاهدات ، التـي نحن بصدد تناولها بمزيد من الايضاح ، والتفصيل في هذا البحث .
فالاسلام لا تقف حدوده عند داخل الدولة – أي عند المسلمين فحسب – بل تتعدى الى جميع بني الانسان فتنظم علاقه المسلمين مع غيرهم من شعـوب وامم ، وذلك ان الدولة هي القائمة بأمر هذا الدين ، الراعية له داخليّاً بتطبيق احكامه في الداخل على المسلمين وغير المسلمين من رعايا هذه الدوله ، وخارجياً بحمله رسالة خيرٍ وهدىً ورحمة الى الامم والشعوب .
والجهاد كما نعلم هو الطريقة الوحيدة لحمل الاسلام ونشره في الارض ، وينتج عن ذلك معاهدات ومواثيق هدنه ، وغير ذلك من علاقة المجاهدين مع الكفار المحاربين . 
فالمعاهدات من هذا المنطلق هي تبع لاحكام الجهاد لانه لا علاقة بين المسلمين وغيرهم من كفار الاّ علاقة الجهاد وحمل الاسلام .
فلا مودّة ولا إخاء ولا تعاون ولا غير ذلك ، وكل علاقة تنشأ انما تنشأ من هذا المنطلق أي : من منطلق اننا حملة رسالة نحملها الى الامم والشعوب بالجهاد ، وفي هذا البحث ان شاء الله سنتناول احكام هذا الموضـوع الفقهي التابع لباب الجهاد بشيء من التفصيل ما امكن .
آملين من الله تعالى ان يوفقنا في ابراز عظمة هذا الدين وعدله واستقامته ورفعته وعلوّه فوق مبادىء الأرض جميعاً .


أسباب اختيار البحث :

تكمن اهمية هذا البحث – المعاهدات - في انه يبرز شمولية هذا الدين ، وذلك ببيانه للاحكام الشرعية في تنظيم علاقة المسلمين مع غيرهم . 
فقد كثر اتهام هذا الدين بالقصور ، وعدم الإحاطة ، وعدم القدرة على مواكبة الاحداث ، والتطورات السريعة في العالم الناهض صناعياً وتكنلوجياً ، وكثر الكلام في نفس الوقت من قبل المغرضين والمدفوعين من الاستعمار ، لإتخاذ الرأسمالية العلمانية ، بديلاً عن هذا الدين في حياة المسلمين ، وفي بلادهم .
وهذا البحث ، يبرز هذا الجانب ، وهو دفع هذا الإتهام وإبطاله ، وإثبات قدرة هذا الديـن ، على تنظيم علاقة المسلمين مع جميع البشر . 
ثانياً : إبراز عظمة هذا الدين في كيفية تعامله مع الغير ، وفي صدق التزام أتباعه به مهما كانت الظروف . 
وهذه المسالة ، لم يتّصف بها مبـدأٌ على وجه الارض ، لا شيوعيون ، ولا رأسماليون ، وذلك انها مبادئ لا تلتزم التزاماً صادقاً بما قالت ، او بما نصت عليه من احكام . فلو نظرنا الى الشيوعية ، نراها انها في أوج عظمتها ، وقوتها قد تنازلت عن مبدئها عندما عقدت اتفاقات مع الولايات المتحدة لسياسة العالم ، وتقسيم مناطق النفوذ ، مع ان مبدأها يقول بمحاربة الرأسمالية حرباً لا هوادة فيها ، ويقول كذلك بالوقوف في جانب الشعوب الضعيفة امام خطر الرأسمالية .
اما الرأسماليون ، فنرى انهم يسخّرون الافكار الداعين لها فقط لخدمة الفكرة الاستعمارية لمصّ دماء الشعوب واستعبادها . 
اما الاسلام – وخاصةً في مسألة المعاهدات – فقد رأينا انه كان يتعامل بصدق المبدأ ، وصدق الانتماء لأفكاره ، لا يحيد ولا يتنازل عنها . 
والسبب في ذلك كله ان الاسلام هو الوحيد الذي يتصل فكره بعقيدته اتصالاً مباشراً ، ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً .
ثالثاً : ابراز بعض الاحكام الشرعية المتعلقة بالمعاهدات ، وخاصة تلك التي جرى تحريفها ، وتزويرها بما يناسب مصلحة من ابتعدوا عن هذا الدين ، كالمعاهدات المحرمة مثلاً .
لهذه الاسباب وقع اختياري على هذا البحث ، آملاً ان يوفقنا الله لحسن عرضه وابرازه بحلّتة الجميلة .


دراسات سابقة لهذا البحث

الدراسات التي سبقت هـذا البحث كثيرة ، وذلك ان هذه الامة كما قلنا ، أمة جهاد وفتوحات ، وقد حرص العلماء على خدمة هذا الجانب من حياة الامة ، فبيّنوا كل ما يلزم هذه الناحية العملية . الا ان هذا الموضوع لم يبوّب له موضـوع منفرد في كتب الفقه القديمة ، وانما كان دائماً يتبع احكام الجهاد ، وكيفية التعامل مع العدو .
فلو نظرنا مثلا الى كتاب مثل المغني لابن قدامى ، او المجموع للنووي ، او بدائع الصنائع للكاساني ، فإنا نجد ان هولاء العلماء – اكرمهم الله – قد بحثوا هذا الموضوع في باب الجهاد دون افراد باب منفصل له ، وهذه كانت طريقة العلماء في البحث ( جزاهم الله خيراً ) .
وفي العصر الحديث برزت مشاكل جديدة ، ووقائع ، واختراعات تتعلق بالناحية العسكرية ، كان لابد من استنباط احكام شرعية تتعلق بها ، فبرزت ابحاث مفردة في هذا الموضوع ، وسمّيت المعاهدات الدولية ، او المعاهدات في الشريعة . مثل المعاهدات الدولية للدكتور محمد علي حسن ، او المعاهدات في الشريعة الاسلامية للشيخ محمد ابو زهره … او غيرهم من كتاب .
ولكن الحقيقة ، ومن خلال اطلاعي على هذه الكتب ، رأيت انها لم تفصّل بشكل كامل في هذا البحث ، وعسى ان يكرم الله أحد الباحثين بالتفصيل الكامل في هذا البحث من جميع جوانبه .


منهج البحث 

لقد سرت في كتابة هذا البحث على المنهج التالي :
اولاً : ما يتعلق بترتيب الموضوعات الفقهية ، سرت بالتدرج في التعريف اولا :- بالموضوع ، ثم بيان احكامه الشرعية ، وبيان الانوع المتعلقة بالمعاهدات ، ثم بيان ما هو صحيح ، وما هو خاطئ في هذه المعاهدات ، ومناقشة بعض الانواع وبيان زيفها .
ثانيـاً : ما يتعلق بالتوثيق ، قمت بتوثيق الآيات من المعجم المفهرس ، وكذلك من المصحف الشريف ،. اما الأحاديث فقمت بتوثيقها من مصادرها لمرجع واحد ، واحياناً من اثنين وذلك بذكر المرجع والباب ، والجزء والصفحة ورقم الحديث ان وجد له رقم في الكتاب ، اما الاحاديث الضعيفة فلم اذكرها في البحث .
ثالثاً : عند تكرار اسم المرجع قمت باختصار المرجع دون ذكر المؤلف الا في حالة التشابه مثل كتاب فتح القدير ، ففي الفقه ذكرت اسم المؤلف وفي التفسير ذكرت كلمة ( تفسير ) دون ذكر المؤلف .
وعند التكرار في نـفس الصفـحة اكتفيـت بالاشارة بذكـر كلمـة ( المرجع السابق ) او وضع خطوط تشير الى المرجع . 
رابعاً : عند تكرار موضوع فقهي من المبحث ، اشرت الى الصفحة التي ذكر فيها سابقاً بكلمة ( انظر كذا ….. ) .
خامساً : قمت بمناقشة بعض الآراء الفقهية ، والرد عليها ، وترجيح رأي واحد فيها غلب على ظني انه الصواب ، إمّا من خلال النظر والتدقيق وتتبع الدليل ، وإمّا من خلال ترجيح رأي احد العلماء .
سادساً : كنت أَخلصُ في نهاية كل موضوع الى الثمرة المرجوّة من الموضوع بابراز احد النقاط ، او بيان خطئها ، او التوصية بلزوم دراستها أو مناقشتها . 


خطة البحث 

لقد سرت في كتابة هذا البحث على العملية التالية :
أولاً : التمهيد . بينت أهمية المعاهدات في الحياة السياسية للأمة الاسلامية ، في الدولة والمجتمع . وذلك لمعرفة عظمة هذا الدين ، وبيان شموليته ، وإبراز قدرته على اقامة العلاقات مع جميع الدول حسبما تنص احكامه الشرعية .
ثانياً : المقدمة : وضحت في المقدمة مسألتين ، الاولى :- دلالة المعـاهدات دلالة عملية على علو مرتبة هذا الدين فوق جميع المبادئ ، من حيث الشمولية ، . أما المسألة الثانية : كانت الرد على افتراءات الحاقدين على هذا الدين ، ووصفه بالعجز والضعف والقصور .
وأدرجت بعد ذلك أسباب اختياري لهذا البحث ، وأهميته في العصر الحديث وخاصّة في ظل الإنحطاط الفكري البشري من ناحية تنظيم علاقة الانسان بالانسان .
وذكرت الدراسات التي سبقت هذا البحث قديماً ( في كتب الفقه القديمة ) وحديثاً في الكتب التي أفردت لهذا البحث كتباً مستقلة ، وعلّقت على ذلك .
ثم ذكرت بعد ذلك منهجي في كتابة البحث في الناحية العملية ، من حيث التعامل مع موضوعات البحث ، والتعامل مع الكتب العلمية والمراجع ، وثبيت ذلك في هذا البحث .
ثالثاً : موضوع البحث : وقد سرت في ترتيبه الى أبواب ، وكل باب قسمته الى فصول ، وكل فصل الى مباحث حسب الآتي :

الباب الاول 
تعريف المعاهدة ، وحكمهما ، وطريقة انعقادها .
الفصل الاول : تعريف المعاهدة وحكم مشروعيتها . 
المبحث الاول : تعريف المعاهدة لغة وشرعاً ( اصطلاحاً ) .
المبحث الثاني : حكم مشروعيتها من الأدلة الشرعية .
المبحث الثالث : حكم الوفاء والالتزام بعد انعقادها .
الفصل الثاني : انعقاد المعاهدات .
المبحث الاول : بيان تعريف الركن والشرط حسب اصطلاح الأصوليين .
المبحث الثاني : بيان الاركان الواجب توفرها في المعاهدة حتى تصبح شرعية .
المبحث الثالث : بيان فساد الركن او الشرط في صحّة المعاهدة .
الباب الثاني 
الاسباب التي تدعو لعقد المعاهدات 
الفصل الاول : اصل العلاقة بين الكفر والايمان .
المبحث الاول : تعريف الجهاد .
المبحث الثاني : تعريف الدار وانواعها .
المبحث الثالث : من يمثل الاسلام في عقد المعاهدات .
الفصل الثاني : الأسباب الداعية لعقد المعاهدات .
المبحث الاول : أسباب تتعلق بالحرب والقتال مع دول محاربة فعلاً 
المبحث الثاني : أسباب تتعلق بدول ليست محاربة فعلاً .
المبحث الثالث : أسباب تتعلق بالافراد او الجاليات .
الباب الثالث 
أنواع المعاهدات
الفصل الاول : معاهدات محرمة .
المبحث الاول : معاهدات محرمة تتعلق بالقتال والجهاد . 
المبحث الثاني : معاهدات محرمة لا تتعلق بالقتال والجهاد .
المبحث الثالث : نموذج من المعاهدات المحرمة في العصر الحديث 
الباب الرابع
تنفيذ المعاهدات
الفصل الاول : المرجعية في تفسير المعاهدات .
المبحث الاول : المرجعية قبل التنفيذ اثناء عقد المعاهدات .
المبحث الثاني : المرجعية اثناء التنفيذ .
المبحث الثالث : التحكيم وقت الخلاف في تفسير المعاهدة .
الباب الخامس
إنهاء (انحلال) المعاهدات وما يترتب على ذلك
الفصل الاول : انحلالها قبل التنفيذ .
المبحث الاول : أسباب تدعو لحل المعاهدة قبل تنفيذها .
المبحث الثاني : كيفية انهاء المعاهدة قبل التنفيذ .
المبحث الثالث : ما يترتب على انهائها قبل التنفيذ .
الفصل الثاني : انحلالها اثناء التنفيذ . 
المبحث الاول : اسباب تدعو لحل المعاهدة اثناء التنفيذ .
المبحث الثاني : كيفية انهاء المعاهدة اثناء التنفيذ .
المبحث الثالث : ما يترتب على انهائها بشكل عام .
الخاتمة : بعد نهاية البحث بأبوابه الخـمسة ، خرجنا منه بنتائج منها :
اولاً : عظمة هذا الدين ، وعظمة احكامه .
ثانياً : المعاهدات هي شاهد على عظمة هذا الدين .
ثالثاً : المعاهدات طريقة لخدمة مصالح المسلمين في الجهاد ، وطريقة للمحافظة على مصالح الامة ، ولحفظ دمائها ، واعراضها ، واموالها .
رابعاً : حاجة الامة اليوم لمن يبرز نظامها السياسي ومنها –المعاهدات - لتحقيق العدالة ، ولتعم الرحمة ، وليرى الناس عظمة هذا الدين .
خامساً : ( توصية ) :- ان يكون هذا البحث دافعاً للأمة العمل للتغيير في المجتمع لإقامة كيان سياسي للأمة الاسلامية ، ودافعاً كذلك لاكمال هذا البحث .

الفهارس : * فهرست للآيات القرآنية / حسب الترتيب المعجمي .
     * فهرست للاحاديث النبوية / حسب الترتيب المعجمي .
     * فهرست المراجع النبوية / حسب الترتيب المعجمي .
* فهرست الموضوعات . 



الباب الاول 
تعريف المعاهدة ، وحكمها ، وطريقة انعقادها .
الفصل الاول : تعريف المعاهدة ، وحكم مشروعيتها ، 
المبحث الاول : تعريف المعاهدة ، لغة ، وشرعاً .
المبحث الثاني : حكم مشروعيتها من الأدلة الشرعية . 
المبحث الثالث : حكم الوفاء بها بعد انعقادها .
الفصل الثاني : انعقاد المعاهدات . 
* المبحث الاول : بيان تعريف الركن والشرط حسب اصطلاح الاصوليين .
* المبحث الثاني : بيان الأركان الواجب توفرها في المعاهدة حتى تصبح شرعية .
* المبحث الثالث : بيان فساد الركن او الشرط في صحة المعاهدات 



الفصل الاول

تعريف المعاهدة ، وحكم مشروعيتها : 

المبحث الاول :

 تعريف المعاهدة لغة ، وشرعاً ( اصطلاحاً ) .

تعريف المعاهدة لغة : 

ورد في لسان العرب لابن منظور ، في مادة عهد ، قال : قال الله تعالى : ( وأوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولاً) (  ) ، وقال الزجاج : قال بعضهم : العهد كل ما عوهد عليه ، وكل ما بين العباد من المواثيق فهو عهد ، وكذلك كل ما امر الله به في هذه الآية ونهى عنه . ( ) 
وفي حديث الدعاء : اللهم اني انشدك عهدك ووعدك . ( ) أي انا مقيم على عهدك ، وعلى ما عاهدتك عليه من الايمان بك والإقرار بوحدانيتك ، لا أزول عنها . 
والعهد يأتي بمعنى الوصية كذلك ، يقال : عهد الى في كذا ، أي أواصاني ، ومنه حديث علي كرم الله وجهه : (عهد الي النبي الأميّ … ) أي أوصاني ، ومنه قوله تعالى : ( الم اعهد اليكم يا بني آدم …) ( ) أي أوصيكم ، ويأتي كذلك بمعنى الكتب للولاة ، يقال : عهد الخليفة الى واليه بكذا … ، والعهد يأتي بمعنى اليمين . تقول : علي عهد الله وميثاقه ، أي كانك تقسم بالله عز وجل ، وعلي عهد الله لأ فعلنّ كذا ، ايضاً بمعنى القسم ( ) .
ويأتي العهـد بمعنى عقد الامان والذمة ، والعهدة : هي اسم ما يكتب ، او يتعاهد عليه ، والعهيد ، هو المعاهد لك بهذه العهدة ، ويعاهدك ، وتعاهده ، وقد عاهده ، والمعهد ، الموضع الذي كنت تعهد به شيئاً ، والعُهدة بضم العين ، كتاب الحلف وكتاب الشراء ، واستعهد من صاحبه ، اشرط عليه ، وكتب عليه عهده ( ) .
وبالتدقيق في مادة عهد ومشتقاتها في معاجم اللغة العربية ، نرى انها في الغالب تستخدم بمعنى المواثيق التي توثق بين الناس ، من اتفاقات او عقود ، او عهود او غيرها او ما يعهد به من طرف الى الطرف الآخر ، أي : بمعنى ما يوصي به طرف الى طرف آخر ، سواء وثّقة كتابةً ، او كان مشافهة ، وهي كذلك الأمان الذي يعطى للغير ، فتقول اعطى فلان عهداً لفلان أي أمنّه على نفسه واهله وماله . 
ولكن الغالب في اطلاق الكلمـة دون قرينةٍ لغوية اخرى تحدد المعنى ، فانه ينصرف الى ما يتفق عليه الطرفان من ميثاق . 
معنى العهد في الشرع ( اصطلاحاً ) :
ان معنى العهد في اصطلاح الفقهاء قد جاء بنفس المعنى اللغوي تقريباً ، وقبل ان نذكر نصوصاً من كتب الفقه ، نقف عند معناها ، في كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام . 
في كتاب الله : 
القرآن الكريم كما نعلم نزل بلغة العرب ، وهو افصح لغة العرب ، قال تعالى : ( وكذلك أوحينا اليك قرآناً عربياً لتنذر أمّ القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنّة وفريق في السعير) ( ) .
وقد وردت كلمة العهد ومشتقاتها في كتاب الله في آيات كثيرة ، كلها تؤدي المعنى اللغوي الذي وضعت له ، قال تعالى : ( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون) ( ) .
( وعاهـدت منهـم ) هنا : أي اخذت منهـم عهداً ، أي عاهدتم ، ( وينقضون عهدهم ) : أي الذي واثقتهم به وعاهدتهم عليه . ( ) 
وقال ايضاً : ( الا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ان الله يحب المتقين ) ( ) ومعنى الا الذين عاهدتم : أي الا الذين لم ينقضوا العهد منهم ( ) والمعنى ان من نقض ما وثق من عهد بينكم وبينه فلا امان له . 
في حديث الرسول عليه السلام : 
الرسول عليه افضل الصلاة والسـلام أُوتي جوامع الكلم ، كما وصف نفسه في الحديث ، فقال : ( أوتيت جوامع الكلم ) ، وفي روايه : أوتيت مفاتح الكلم ( ) أي أُوتي الفصاحة ، فكان افصح العرب لساناً ، وكان كلامه بعد كتاب الله عز وجل في البلاغة وحسن الدلالة والاداء اللغوي . وقد وردت كلمة العهد في كلام المصطفى عليه السلام الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحيٌ يوحى . فقال : ( العهـد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) ( ) .
ففي هذا الحديث جاء العهد بمعنى العمل الذي اخذ الله تعالى عليه العهد ، والميثاق من المسلمين ، كيف وان النبي صلى الله عليه وسلم قد بايعهم على الصلوات ، وذلك من عهد الله تعالى : ( الذي بيننا وبينهم ) : أي الذي يفرق بين المسلمين والكافرين . فالعهد هنا هو الصلوات الخمس . 
وفي حديث طاعة الامراء ، عن عاصم بن عبد الله ان النبي صلى الله عليه سلم قال : ( انها ستكون من بعدي امراء يصلون الصلاة لوقتها ، ويؤخرونها عن وقتها ، فصلوها معهم …. ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ، ومن نكث العهد ، جاء يوم القيامة لا حجة له …( ) والعهد هنا هو البيعـة التي عاهدت بها الأمة إمامها ، واما النكث : فقد ورد في لسان العرب نكثة او نقضه ، وأصله : من قطع النسيج ، أي قطع خيوطة المنسوجة ، لذلك سمي نقض العهد نكثاً لانه موثق ومحكم . ( ) 
ومعنى الحديث انه لا يجوز للامة ان تخلع يداً من طاعة لأمير المؤمنين الذي اخذ عليها العهد والبيعة بالسمع والطاعة ، الا بمخالفة حكم الله تعالى ، كأن يرى المسلمون من حاكمهم الكفر البواح ( الصريح ) . 
هذا ما ورد من معنى لكلمة العهد في كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام ، أما اقوال الفقهاء فانها مستنبطة من كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام .
معنى المعاهدة في اقوال الفقهاء :
اما المعاهدة في اصطلاح الفقهاء فقد جاءت بمعناها اللغوي ، وبما وردت له من معنى في كتاب الله وسنة نبيه عليه افضل الصلاة السلام .
فجاءت بمعنى المصالحة ، أي : ( مصالحة اهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض او غيره) ( ) .
وذكرها فريق من الفقهاء بمعنى الموداعة ، جاء في فتح القدير : واذا رأى الامام ان يصالح اهل الحرب او فريقاً منهم ، وكان ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس ، لقوله تعالى : ( وان جَنحوا للسَلْم فأجنحْ لها وتوكّل على الله …)( ) .
ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم اهل مكة عام الحديبية – أي عاهد او كتب عهداً - على ان يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنوات …. وذكر في موضوع آخر : وان صالحهم مدة ثم رأى نقض الصلح انفع نبذ اليهم ( ) وقاتلهم ، لانه عليه السلام نبذ الموداعة التي كانت بينه وبين اهل مكة ( ) .
ووردت بمعنى الذمّة والامان ، التي يعطيها المسلون لغيرهم ، ورد في كتاب ( المغني ) : ومن كان له مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا ، وقتل رجالهم ، ولم تسلب ذراريهم ، ولم يُسترقّوا إلاّ منْ وُلد بعد نقضه . وقال : وجملة ذلك ان اهل الذمة اذا نقضوا العهد او أخذ رجل الأمان لنفسه ، وذريته ثم نقض العهد ، فانه يُقتل رجالهم ، وتُسبى ذراريهم الموجودون قبل النقض لان العهد شملهم جميعاً .( )
ووردت بمعنى الهدنة المؤقتة التي تعقد في حالة الحرب والجوار ، أتبع المغنى يقول : " واما أهل الهدنة إذا نقضوا العهد حلت دماؤهم واموالهم ، وسبْي ذراريهم ، لان النبي عليه السلام قتل رجال بني قريضة وسبى ذراريهم ، وأخذ أموالهم حين نقضوا عهده ، ولما حاربته قريش فنقضت عهده ، حلّ له منهم ما كان حرم عليه منهم ، ولأن الهدنة عهدٌ مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه ، وفسخه كعقد الاجارة ، بخلاف " عقد الذمة " .
وفي فصل آخـر قال : " معنى الهدنة : ان يُعقد لاهل الحرب عقدٌ على ترك القتال مدة بعوض ، وبغير عوض ، وتسمى مهادنة ، وموادعه ، ومعاهدة وذلك جائز ( ) بدليل قوله تعالى : ( براءة من الله ورسوله الى الذين عاهدتم من المشركين …) ( ) .
ووردت العهود عند الفقهاء كذلك بمعنى الاتفاقات ، والعهود التي تُعطى للكفار الحربيين اذا نزلوا في بلاد المسلمين ، سواء أكانوا رسلاً او مستأمنين ، او مستجيرين ، قال ابن حـزم : " لو نزل أهل الحرب عندنا تجاراً بأمان ، او رسلاً او مستأمنين مستجيرين ، او ملتزمين لأن يكونوا ذمة ، عبيداً او إماءً للمسلمين ، أو مالاً لمسلم او لذمي فإنه يُنتزع كل ذلك منهم بلا عوض أحبوا ام كرهوا ، ويُردّ المال الى أصحابه ، ولا يحل لنا الوفاء بكل عهد أُعطوه على خلاف هذا ، لقول الرسول عليه السلام ( ) : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وان اشترط مائة شرط ) : " أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " ( ) .
وبالنظر والتدقيق في معنى العهد في لغة العرب ، وما جاء لها من معنى في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه السلام ، واقوال الفقهاء من سلف هذه الامة ، ومن الفقهاء المُحْدثين ، نجد ان معنى العهود هو قريب من بعضه ، وهي محصورةٌ في المواثيق والمهادنة والموادعة والأمان الذي يُعطى لأهل الذمّة ، او الكفار المسالمين غير المحاربين .
والشيء الثانـي الملاحظ ان معاني العهد كلّها تدور مع احكام الجهاد ، وهي تابعة لها عند جميع الفقهاء السابقين ، وهذا ما سنبينه في الحالات التي تُعقد فيها المعاهدات ودواعيها .


المبحث الثاني 

 حكم مشروعية المعاهدة من خلال الادلة الشرعية 

قبل البداية بذكر الادلة التي تبين حكم المعاهدات شرعاً ، نقول : ان أي تصرف ، من قول ، او فعل من افعال الانسان ، لا بد وان يستند الى دليـل شرعي يبين حكمه حتى وان كان مباحاً ، لأن المباح : هو حكم شرعي من الاحكام التكليفية الخمسة ، وهذا الامر – امر الانضباط بالدليل الشرعي – هو صفة للمسلم ، لأنه مرتبط بهذا الدين ، ارتباطاً كاملاً في كل جزئية صغرت ام كبرت .
وهو ابتغاءٌ لمرضاة الله تعالى التي اشترط لها الإتّباع لا الابتداع في الاحكام في جميع الشؤون قال تعالى : ( اتّبعوا ما أُنزل اليكم من ربكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون)( ) وقال عليه السلام : تركت فيكم امرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ، كتاب الله وسنة رسوله ( ) وقال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا هالك ( ) .
والانضباط والالتزام بحكم الشرع نابعٌ كذلك من كوننا نجهل المصلحة أين تكون ، لأن العقل البشري بطبعه الخَلْقي " الذي خلقه الله عليه " ناقص ، عاجز ، محتاج ".
ناقص ، لان الكمال لله وحده ، فهو الكمال صاحب صفة الكمال المنزّه عن أية ناقصه ، وعاجز لانه لا يحيط بكل الامور ، وهذا بشهادة الله تعالى فيه حيث قال :" وما أوتيتم من العلم الا قليلا "( ) فالانسان يجهل علم الغيب ويجهل حتى العلوم المتعلقة بخلقته . ومحتاج ! لأن صفة العجز تقتضي الحاجة لغير العاجز ، فيبقى الانسان مهما سما في فكره ، وفي علمه وفي حضارته ، ورقيه المادي محتاجاً لعلم الله تعالى ، وخاصةً فيما ينظم شؤون نفسه .
فالحق تبارك وتعالى وضع قوانين الاشياء المادية في الكون والانسان والحياة ( فيها ) ، فوضع للماء قانونـاً كيميائيـاً بتركيبة : ( ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الاوكسجين ) ، ولو جاء كل علماء الارض واجتمعوا على تغيير هذا القانون ، لا يستطيعون الى ذلك سبيلا ، ووضع قانوناً فيزيائياً للضوء من حيث السرعة ، والوسط الذي يسير فيه ، ومن حيث الاختراق والارتداد عن الاجسام الصلبة .
ولكن القانون المتعلق بنظام الانسان وبحياته لم يودعه الله تعالى في المادة نفسها ولكن استأثر به الحق تبارك وتعالى عنده ، ثم انزله لهذا الانسان عن طريق الرسل والرسالات ، ليكون محل اختيار وابتلاء وامتحان لهذا الانسان ، تتقرر بناء عليه – أي على التزامه ، او جحوده - السعادة او الشقاء في الدار الآخرة . قال تعالى : ( فأما من اعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسّره لليسرى وأما من بخل واستغْنى وكذّب بالحسنى فسينسّره للعسْرى) ( ) .
فالانسان مهما اوتي من عبقرية ، وفكر ، وابداع لا يمكن ان يضع لنفسه قانوناً ينظم شؤون حياته تنظيماً صحيحاً . والدليل على ذلك مشاهد محسوس في ارض الواقع وهذا مصداقاً لقوله تعالى : ( ومن أعرضَ عن ذكري فانّ له معيشةً ضنْكا ) ( ) .
والمعاهدات هي من الاعمال التي تحتاج الى دليل شرعي يبينها ويضبطها ، ويوضح احكامها والمسلم بدون هذه الادلة . يبقى حائراً متخبّطاً ، لا يهتدي الى حقٍّ ولا صواب .
والدليل الشرعي الذي نقصده هنا هو : الذي يمكن ان يتوصل بصحيحِ النظر فيه الى العلم بمطلوب خبري ، وبعبارة اخرى هو :- الذي يُتخذ حُجةً على ان المبحوث عنه حكم شرعي . بمعنى انه الدال على الحكم الشرعي ( ) ، فالدليل الشرعي إما ان يكون قرآناً او سنة او إجماعاً ، او ما ارشد اليه القرآن ، والسنة ، على خلافٍ بين الفقهاء ، الا انهم في غالبهم – أي رأي الجمهور – يعتبرون الاجماع والقياس من الادلة الشرعية ، تماماً كالقرآن والسنة في دلالتها . 
هذا من حيث الدليل ، اما من حيث الدلالة ، او ما يطلق عليه الاصوليون وجه الدلالة ، فهي الإمارة الموجودة في النص – صراحةً او دلالة – وتدل على وجود الحكم او على تشريع الحكم بالاستناد الى هذا الدليل . ( ) 
اولاً : القرآن الكريم 
لقد وردت آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل ، تدل على شرعية المعاهدات منها قوله تعالى : ( واما تخافنّ من قوم خيانةً فانِبذْ اليهمْ على سواءٍ انّ الله لا يحبّ الخائنين) . ( ) 
قال القرطبي : فاما تخافن من قوم غشّاً ، ونقضاً للعهد ،. وهذه الآية نزلت في بنـي قريضة ، وبني النضير ، قال الازهري : معناه ، اذا عاهدت قوماً فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم ، سابقاً الـى النقض ، حتى تُلقي اليهم انك قد نقضت العهد والوادعة ( ) .
وقال تعالى : ( وان استَنْصروكُم في الدين فعليكمُ النصرُ الاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ والله بما تعملون بصير ). ( ) 
قال القرطبي : يريد : إن دَعوْا هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا من ارض الحرب عونكم بنصرٍ ، او مالٍ ، لاستنقاذكم ، فأعينوهم ، فذلك فرض عليكم ، فلا تخذلوهم الا ان استنصروكم على كفارٍ بينكم وبينهم ميثاق ، فلا تنصروهم عليهم ، ولا تنقضوا العهد معهم حتى تتمّ مدته . ( ) وقال تعالى : ( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ) . ( ) والمعنى : أي اخذت منهم عهدهم ثم هم ينقضون عهدهم الذي عاهدتهم في كل مرة من مرات المعـاهدة والحال انهم لا يتقون ، أي لا يتورعون عن ذلك . ( ) 
ففي هذه الآيات الكريمة وغيرها من آيات في كتاب الله عز وجل قد ذكرت العهد والميثاق ، والمعاهدة والنبذ ، وغيرها من كلمات لها دلالات ترتبط بالميثاق والعهد . والآيات الكريمة كما قلنا هي أدلة شرعية فيها امارة دالة على وجه المشروعيه لعقد هذه المعاهدات . 
فالامارة مثلا في قوله الاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق تدل على جواز وجود ميثاق بين المسلمين والكفار بدليل : انها أمرت بالمحافظة عليه والشرع لا يطلب المحافظة على عمل حرام .
وفي الاية الثانية ( الذين عاهدت منهم ) والخطاب هنا للرسول عليه افضل الصلاة والسلام وفعله وقوله هو تشريع وتعليم لأمته الا ما دل دليل اخر ، او دلت اشارة في نفس الدليل على تخصيصه او استثنائه .
فيفهم من ذلك ان الآيات الكريمة قد أجازت المعاهدة والميثاق بين المسلمين وغيرهم من اقوام
من السنة النبوية :
السنة النبوية ، هي كالكتاب تماماً في كونها مصدراً من مصادر التشريع ، أي : هي من الادلة الشرعية ، والله تعالى يقول : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتّقوا الله…) ( ) .
والسنة كما يعرّفها علماء الاصول : هي ما ورد عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول او فعل ، او تقرير او صفة ( ) 
وقد ورد في اقوال الرسول عليه السلام وافعاله ما يدل على مشروعية المعاهدات ، فمن اقواله : " ان الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة " ( ) .
وقال : " … ومن نكث العهد : ومات ناكثاً للعهد جاء يوم القيامة لا حجّة له …" ( ) .
وقال : " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحِلَنَّ عهداً ، ولا يشدنهم حتى يمضي أَمده ، او ينبِذْ اليهم على سواء " ( ) .
واما من افعاله عليه السلام فقد عقد عدة معاهدات بعد الهجرة الى المدينة المنورة واقامة الدولة فيها ، فقد عقد ميثاقاً بين المسلمين ، وبين المسلمين واليهود ، جاء فيه : " … وان ليهود بني ساعده مثل ما ليهود بني عوف وان ليهود بني ثعلبه مثل ما ليهود بني عوف ، الا من ظلم وأَثِم ، فانه لا يوقع الا نفسه وأهل بيته ، وان جَفْنه بطن من ثعلبة كانفسهم … وانه ما كان بين اهل هذه الصحيفة من حدثٍ ، او شجارٍ يُخاف فساده ، فإن مرده الى الله عز وجل ، والى محمـد رسول الله صلـى الله عليه وسلم ، وان الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وابرّه …" ( ) .
وقد كان اشهر المعاهدات التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هي معاهدة الحديبية مع كفار مكة . فهذه المعاهدة من الاهمية بمكان ، بحيث انها مدار حديث الفقهاء جميعاً عندما يتكلمون عن المعاهدات ، وعن شروطها ، وأركانها ، وطبيعتها .
وهذه المعـاهدة كذلك لها اهمية حركية او ( سياسية ) ، حيث كانت عملاً سياسياً فريداً ، وراقياً ، يدل على بعد نظر في الرعاية والإدارة والقيادة ، كيف لا وقد كانت هـي المفتاح لفتح مكة المكرمة ، واخضاع جزيرة العرب باكملها لسلطان الاسلام .
وفيها كذلك من الدروس والعبر الكثير في الالتزام والانقياد لحكم الله مهما كان نوعه ، وعدم معارضته ، او مخالفته ، لان فيه الخير الخفيّ ، الذي قد لا يكون ظاهراً احيانـاً لبعض الناس ، او لجميع الناس كما حصل في اعتراض الصحابة ، باستثناء ( ابي بكر الصديق ) على معاهدة الحديبية . 
وهذا مصداقـاً لقوله تعالى : ( وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم ، وعسى ان تحّبوا شيئاً وهو شرٌّ لكم ، والله يعلم وانتم لا تعلمون ) ( ) .
اما ما نصّت عليه المعاهدة ، فقد ( روى سهل بن حنيف ) قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو نرى قتالاً لقاتلنا ، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين ، فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ألسْنا على الحق وهم على باطل ؟ ! ، قال : بلى ، قال : ففيمَ نُعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ، ولمّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ : قال : يا ابن الخطاب : اني رسول الله ، والله لن يضيّعني أبدا . قال : فانطلق عمر فلم يصبر متغيّظاً حتى أتى ابا بكر …..( ) اما بعض النصوص لهذه المعاهدة كما اوردتها كتب السير . 
…. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب ، فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، قال سهيل : لا اعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهمّ ، فكتبها ، ثم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمر . فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أُقاتلك ، ولكن اكتب اسمك واسم ابيك ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب : ( هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمر ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، يأمنُ فيها الناس ، ويكفُّ بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير اذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردّوه عليه ! وانّ بيننا عيبةً مكفوفة – وصدوراً منطوية على ما فيها من خير- وانه لا إِسْلال ولا إغلال – لا سرقة ولا خيانة – وانه من احب ان يدخل في عقد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعقده دخل فيه ، ومن احب ان يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه . 
وانك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة ، وانه اذا كان عام قابِلْ ، خرجنا عنك فدخلتها باصحابك ، فأقمت فيها ، معك سلاح الراكب ، السيوف في اغمادها والقلاب – لا تدخلها بغيرها ) . ( ) 
وقد عاهد عليه السلام ايضاً ، بعض العرب خارج المدينة لأهداف تتعلق بمصلحة المسلمين ، ونشْر الاسلام وتأمين الطرق . فقد عاهد الرسول عليه السلام ( بني مدلج ، وبني ضمرة ) ليؤمّن الطرق التي يسلكها جيشه لمحاربة عدوّه ، وعاهد ( يوحنا بن رؤبه ) في تبوك ، ليؤمن حدود الدولة من جهة الروم على حدود الشام . ( ) 
وفي هذه الوقائع من احاديث المصطفى عليه السلام واعماله . دليل شرعي ، فيه إِمارةٌ تدلّ على جواز المعاهدات مع الكفار ضمن حدود ، وشروط ، . 
وقد كانت افعاله عليه السلام ، وهي التطبيق العملي ، والبيان لاقواله المتعلقة بالمعاهدات ، وكذلك تفسيراً للآيات الكريمة التي ذكرت المعاهدات ، بالاضافة الى ما ورد من بيان في كتاب الله في الآيات نفسها .
مِن فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا شك ان افعال الصحابة رضوان الله عليهم – اذا حصل اجماع منهم عليها – هي دليل شرعي ، تماماً كالقرآن والسنة ( ) .
فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هم اقرب الناس عهداً به عليه السلام ، وهم اعرف الناس بالنصوص ، وبالاحاديث ، وباقوال الرسول ، وافعاله ، وهم كذلك أتقى الناس بشهادة المولى عز وجل ، وقد مدحهم فقال تعالى في حقهم : ( لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونَك تحت الشجرة …) ( ) .
( الذين أُخرجوا من ديارهم واموالهم يبتغونَ فضلاً من الله ورِضواناً ، وينصُرون الله ورسولَه اولئك هم الصادقونْ ) ( ) .
والرسول عليه السلام قد مدحهم وأثنى عليهـم ، بثناء الله لهم فقال : ( الله في اصحابي ، الله الله في اصحابي ….) (  ) وقد ساروا على منهج رسولهم عليه السلام في موضوع المعاهدات .
ففي عهد الخليفة ابي بكر الصديق رضي الله عنه . كتب الى خالد بن الوليد ، يأمره ان يسير الى العراق ، فمضى خالد يريد العراق ، حتى نزل بقريات من السواد ( ) ، يقال لها بانقيا وباروسما ، وليسْ ، فصالحه اهلها ، وكان الذي صالحة عليها ( ابن صلوبا ) ، وذلك في سنة اثني عشر ، فقبل منهم خالد الجزية ، وكتب لهم كتاباً فيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من خالد بن الوليد لابن صلوبا السوادتي – ومنزله بشاطىء الفرات – انك آمن بامان الله – اذ حقن دمه باعطاء الجزية - ولك ذمة الله ، وذمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذمة المسلمين على ذلك….)( ) .
وعاهد ايضاً خالد بن الوليد مناطق اخرى في العراق ، وفارس ، اعطاهم فيها العهد ، والامـان ، مقابل الجزية ، وصيانة العهد . 
وفي عهد عمر رضي الله عنه ، بعد ان استولى المسلمون على نهاوند ، وساروا الى الاهواز وفتحـوها ، سنة 22هـ ، ثم فتحوا قم ، وقاشان ، ثم وجه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عبد الله ابن بديل الى اصبهـان ، ففتحها صلحاً … وقد اشترط شروط الصلح ، التي تعهد فيها اهالي هذه البلاد ان يؤدوا الجزية ، للمسلمين ، كفاء تأمينهم على انفسهم واموالهم ، واطلاق الحرية الدينية لهم ، وبأن يجازي من يقوم من اهلها بمساعدة المسلمين ، كما تضمن هذا الصلح ان يلتزم المسلمون المحافظة على هذه الشروط كلما ادى اهل جرجيان الجزية واقروا المسلمين ولم ينقضوا ذلك العهد . ( ) 
وفي عهد الخليفة ( عمر رضي الله عنه ) ، كذلك تم ابرام المعاهدة المشهورة ( بالعهدة العمرية ) ، والتي جعلها كثير من الفقهاء محطة لاستنباط احكام فقهية في كيفية التعامل مع اهل الذمة . ومما جاء في بعض نصوصها : بسم الله الرحمن الرحيم ( هذا ما اعطى عبد الله عمر امير المؤمنين اهل ايلياء من الرومان ؛ اعطاهم اماناً لانفسهم واموالهم ولكنائسهـم ، وصلبانهم ، وسقيمها ، وبريئها ، وسائر ملتها ، انه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ولا ينقص منها ولا من خيرهـا ، ولا من صليبهم ولا من شيء من اموالهم ، ولا يكرهون على دينهم … ومن احب من اهل ايلياء ان يسير بنفسه وماله مع الروم ، ويخلي بيعهم وصلبهم فانهم آمنون على انفسهم ، وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم ….) ( ) .
اما في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه ، وقد توسعت الفتوحات حتى شملت مناطق واسعة وصلت الى اطراف روسيا اليوم ( ما يعرف جمهوريات الاتحاد السوفياتي الاسلامية سابقاً ) على يد قائده ( قتيبة بن مسلم الباهلي ) ، حيث فتحت اذربيجان ، ومناطق من اوزباكستان – او كانت تعرف بخراسان او اطراف خراسان من جهة الغرب ( ) .
وقد أُبرمت المعاهدات ، في اثناء هذه الفتوحات الواسعة . نذكر منها ما ذكره الطبري في تاريخه ، عن معاهدة المرزبان في مروروز في عهد كسرى الفرس . وجاء فيها : ( ولك ذمتي وذمة ابي وذمم المسلمين وذمم آباهم ….) وقد وقّع هذه المعاهدة عامر الاحنف بن قيس . ( ) 
وهكذا نرى : ان المعاهدات كأحكام شرعية ، هي مما اجازه الشارع الحكيم ، خدمة لمصلحة المسلمين ، وخدمة للدعوة التي يحملونها مجاهدين ، وفاتحين الأمصار تلو الأمصار .
وقد رأينا ادلة اجازتها من خلال القرآن ، والسنة ، وافعال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماعهم على ذلك . 
اما ما يتعلق بتفصيل هذه الاحكام من حيث ما يتعلق بها ، وما يتعلق بمصلحة المسلمين فنتركه لبحث آخر .
المبحث الثالث 

حكم الوفاء والالتزام بالمعاهدة بعد عقدها :

الاسلام هو دين الصدق والوفاء ، والاستقامة ، وهو كذلك دين الرحمة ، والمرحمة ، جاء هدى للناس ، وبيان لحسن الخلق ، وحسن المعاملة ، وتعليم للبشرية بهذه الاحكام العادلة المستقيمة . وقد كان لهذه الصفات العظيمة ، في هذا الدين العظيم تأثيرها البالغ الكبير على الناس ، وخاصة في البلاد المفتوحة ، والتي وصلها المسلمون حاملين هذا الدين رسالة خير وهدى ورحمة .
فعندما كانوا يرون ما في هذا الديـن من وفاء ، وما في أتباع هذا الدين من صدق ووفاء كذلك ، والتزام بعهودهم ووعودهم ، كانوا يدخلون في دين الله افواجاً .
وفي كتب التاريخ الاسلامي الواسع الأمثلة الكثيرة على هذا الالتزام بالمبدأ والحرص عليه ، وجعْله فوق كل عرض الدنيا وزينتها ، سنذكر بعضاً منها بعد ذكر حكم الالتزام والوفاء بالعهود بشكل عام.
اما الحكم الشرعي في الوفاء بالمعاهدات ، فدليله .
أولاً : اعتبار ان المعاهدة هي عقد من العقود ( ) .
والله سبحانه قال في حق الالتزام بالعقود والوفاء بها ( يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، أُحِلّتْ لكم بهيمةُ الانعام غيرَ محلّي الصيدِ وانتم حُرم ) .( ) 
فالمعاهدة هذه ، هي عقد من العقود الشرعيـة ، التي استوفت اركان العقد الصحيح من طرفين ، على ما سيأني بيانه في مبحث قادم .
فيجب الالتزام بمدة هذه المعاهدة ، ومدة هذا العقد كأي عقد آخر ، لم يقم صاحبه بأي خلل يشوب هذا العقد . لقوله تعالى : ( فأتمّوا اليهم عهدهم الى مدتهم ) . ( ) 
والمعنى : أي مدتهم التي عوهدوا عليها ( المدة المضروبة ) ، فمن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الى مدته ، وذلك بشرط لا ينقض العهد ، ولا يظاهر على المسلمين احداً ، او يمالئُ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفيّ له بذمته ، وعهده الى مدته . ( ) 

ثانياً . الوفاء بالمعـاهدة هو من باب الوفـاء بالعهد ، والله يقول : ( وأفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولاً ) ( ) .
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( من كان بينه وبين قوم عهداً ، فلا يحلن عهداً ، ويشدَّنّهمْ حتى يَمضي أمدُه او ينبذَ اليهم على سواء ) . ( ) 
ويقول عليه السلام كذلك :( ان الغادر ينصب له لواء يوم القيامة ) . ( ) 
والغادر : هو الخائن لانسان عاهده ، اوأمّنه . لواء : أي علمٌ خلفه تشهيراً له بالغدر وتفضيحاً على رؤوس الاشهاد . ( ) 
ثالثاً : نقض العهد بعد توثقيه وتأكيده هو خيانة لدين الله والأحكام التـي شرعها ، والله يقول : ( ان الله لا يحب الخائنين ) ( ) ويقول : ( يا ايها آمنوا لا تخُونوا الله ورسولَه وتخونوا اماناتِكم وانتم تعلمونْ ) . ( ) 
وخيانة الله ورسوله هي خيانة للأحكام التي شرّعها بيننا ، وليست الخيانة المادية فقط ، والأمانة ليست فقط هي الأموال والأشياء العينية ؛ فالدينُ أمانه ، واحكامه من مواثيق وعهود هي امانة كذلك. يقول الشوكاني في تفسيره لهذه الاية : ( ولا تخونوا أماناتكم ) أي نقضها . والأمانة : هي الأعمال التي ائتمن عليها العباد ( ) .
رابعاً : قلنا ان من معاني العهد في اللغة القسم ( ) ، كأن يقول اعاهدك الله – أي كأنك تقول والله لأتمنّ اليك _ او تقول : وعهد الله بيننا . فهذه كلّها من معاني القسم . والله تعالى يقول : ( ولا تنقُضوا الأيْمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ) . ( ) 
والرسول عليه السلام يقول : ( أربعة انا خصمهم يوم القيامة ، وذكر منهم رجلاً حلف ، او أعطى بي ثم غدر ) . (  ) 
والمعنى : أي اعطى يمينه بي ، أي عاهد عهداً ، وحلف عليه بالله ثم نقضه ( ) 
بقيت مسأله في هذا الموضوع وهي : أن هناك قسم من الفقهاء ، قد ذهب انه يجوز نقض المعاهدة بدون ظهور أي امارة تدل على نقض العهد من قبل الكفار ، أي تجوز ابتداءً من قبل الأمير ، او قائد الجيش الذي يتولى صلاحية ذلك ، سواء اكتملت مدة المعاهدة او لم تكتمل ، ومن ذهب الى ذلك ( الأحناف ) حيث اعتبروا المصلحة سبباً ينقض العهد ، فقالوا : وان صالحهم مدّة ثم رآى نقض الصلح أنفع نبذ اليهم وقاتلهم ، ويستدلون على ذلك بأن رسول الله عليه السلام نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين اهل مكة ، ولان المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهاداً ، والغاء العهـد ترك الجهاد صورةً ومعنى ، ولابد من النبذ تحرزاً من الغدر . ( ) 
والرأي الارجح الذي ذهب اليه جمهور الفقهاء ، هو وجوب الوفاء بالعهد الى مدته للادلة السابقة . ولذلك أي : لهذا السبب يرى الامام ( الشافعي ) رحمه الله ، انه لابد من اقتران شرط ، وهو جواز نقضها من قبل الأمير متى اراد . ( ) 
ويرى الشافعي كذلك ان أعلى مدة لها هي أربعة اشهر على اكثر تقدير ، واستدل بقوله تعالى ( ) : ( فسيحوا في الأرض اربعةَ اشهر ) ( ) .
هذا بالنسبة للأدلة الشرعية التي تبين وجوب الالتزام بالعهد ، وعدم نقضه ، إلاّ ان هذا الامر لم يتركه الاسلام مفتوحاً في أي ظرف وأيّ حال يعاملنا فيها الكفار .
فالاسلام لم يجعل من اتباعه مرمىً لأهداف الكفار في خيانتهم لعهودهم ، مع تمسك المسلمين بهذا العهد والالتزام به .
أي ان الاسـلام لم يجعل الوفاء بالعهد ملزماً في حالات معينة ، يكون فيها الكفار سبباً في ذلك ، ويلحق منها اذى بالمسلمين .
اما الحالة الاولى : في عدم لزوم الوفاء بالعهد ، فهي : ان يقوم الكفار باعلان الحرب مباشرة على المسلمين ، او ان يبعثوا اشارة عن طريق رسول ، او أي شيء يُشعر بنقض العهد ( كما حصل مع بني قريضة ) ( ) .
الحالة الثانية : ان يقوم الكفار بنقض شيء مـن المعاهدة وشروطها ، كان يتأولوها خلاف المعاني والمرامي التي قصدتْها ، وخلاف الفهم العام للّغة التي كتبت بها .
إذ انَّ العبرة في العقود العادية ، وترتّب احكامها عليها انما هي للإرادة الظاهرة المتمثلة في الايجاب والقبول ، فما اندرج تحت مدلولات الفاظها ، كان هو المعتبر شرعاً ، ولا قيمة للمقاصد الباطنة في الايجاب والقبول ، فما اندرج تحت مدلولات الفاظها ، كان هو المعتبر شرعاً ، ولا قيمة للمقاصد الباطنة لان ما اسستتر في نفس أحد المتعاقدين ، وجهله المتعاقد الاخر لا يجوز اعتباره ، اما اذا دل شيء على ظهور هذه المقاصد الموجودة لدى احد المتعاقدين ، وعلم به الاخر ، فان هذه المقاصد توخذ بعين الاعتبار ( ) .
قـال تعالى في بيان جواز نقض العهد وعدم الالتزام به في هذه الحالة : ( الاّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقُصوكمْ شيئاً ولم يُظاهروا عليكمْ احداً فأتمّوا اليهم عهدهم الى مدتهم ) . ( )
يقول القرطبي في تفسيره لهذه الاية : أي اكملوا مدة عهدهم التي وُثّقت معهم ، وان كانت اكثر من اربعة اشهر حتى تبلغ المدة .( ) 
الحالة الثالثة : فهي ان يقوم الكفار بمساعدة أُناس آخرين أعداء للمسلمين بأي شكل من اشكال المساعدة المادية او المعنوية ، او أي شيء يشعر بذلك ، ودليله قوله تعالى : ( ولم يظاهروا عليهم احداً ) ( ) .
قال القرطبي أي لم يعاونوا عليكم احداً . والمظاهرة هي المعاونة ، ومنه لفظة الظهير ، أي معاون او نصير . ( ) 
وقد اعتبر الرسول عليه السلام تحريض قريش لبني بكر على خزاعة حلفاء الرسول عليه السلام في معاهدة الحديبية ، اعتبر ذلك نقضاً للعهد ببينهم ، وببينه ، حيث جّهز جيشاً بعد ذلك لفتح مكة المكرمة .
الحالة الرابعة : فهي خوف نقض العهد من قبل الكفار ، او شعورُ المسلمين بذلك عن طريق اشارة من الاشارات ، ودليل ذلك ، قوله تعالى : ( واما تخافنَّ من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواءٍ ان الله لا يحبُّ الخائنين ) . ( ) 
يقول القرطببي : النبذُ : الرميُ والرفض ، والمعنى : وإمّا تخافنَّ من قوم بينك وبينهم عهدٌ ، خيانةً ، فانبذ اليهم العهد . أي قل لهم : قد نبذتُ اليكم عهدكم ، وانا مُقاتلُكم ليعلموا ذلك فيكونون معك في العلم سواء .
ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك ، فيكون ذلك خيانةً وغدراً ، ثم بيّن هذا بقوله تعالى :( ان الله لا يحبُّ الخائنين ) ( ).
فالله تعالى أجاز نقض العهد عند خوف الخيانة بظهور ملامحها ، او ظهور الدلائل والامارات التي تشير الى ذلك ، أي تشير الى الخيانة التي تجعلنا مرمى للكفار كما قلنا ، ولا يكتفي الاسلام بمجرد الوهم الذي لا يسـتنذ الـى دليل ، او بيّـنة ، بل لابد من ظهور ما يشعر ( بغلبة الظنّ ) على هذا الامر .
ولابد في نهاية هذا المبحث من ذكر أثر هذا الوفاء – كما قلنا - على الشعوب الاخرى التي عرفت حسن الاسلام وصْدق المسلمين من خلال هذه الاحكام في الإلتزام والوفاء وعدم الغـدر . واذا علمنا ان الوفاء معنـاه أوسع من مسألة العقود في معاهدةٍ بين طرفين ؛ اذ ان الوفاء هو أولاً : لأحكام هذا الدين التي هي من الأمانة التي طلب منا الحق الوفاء بها ، قال تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا لا تخُونوا الله والرسولَ وتخونوا اماناتِكم وانتم تعلمون).( ) 
وقد وردت حوادثُ كثيرة في كتب التاريخ منذ عهد المصطفى عليه السلام ، مروراً بالخلفاء الراشدين حتى آخر عهد المسلمين بالحكم والسلطان . وكل هذه الحوادث والمواقف تدلل على صدق المسلمين في التزامهم بشريعتهم ، وعلى الوفاء بعهودهم .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما قلنا – خير من وفى بعهد .
فبعد صلح الحديبية جاء الرسول عليـه السلام رجل اسمه ( ابو بصير ) ( ) يريد ان يسلم وينضمّ الى رسول الله عليه السلام في المدينة المنورة ، ولكن المعاهدة كانت تنص على ردّه ، وعلى عدم قَبـوله فـي المدينة ، فردّه الرسول عليه السلام ، رغم الحاح الرجل ، وصدق إيمانه ، وظلّ الأمر كذلك حتى جاءت قريش وطلبت من الرسول الغاء هذا البند من المعاهدة نتيجة المشاكل التي جرّها عليها هذا البند من الذين أسلموا ، وأخذوا يقطعون عليها الطريق ، ويروّعون رعاياها .
( … فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين قريش كان فيما شرطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشرط لهم ، انه من أحب ان يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده دخل فيه . فدخلت بنو بكر في عهد قريش ، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( )
فلما قدم رسول الله صلـى الله عليـه وسلم للمدينة اتاه ابو بصير ، ( عتبة بن اسيد ) ، وكان ممن حبس في مكة ، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه ازهر بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة ، والاخنس بن شريق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، فلما قدما على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكتاب الأزهر ، والاخنس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا ابا بصير ، انا قد اعطينا هؤلاء القوم ما علمت ، ولا يصح لنا في ديننا الغدر ، وان الله جاعل لك ولمن تبعك من المستضعفين مخرجاً وفرجاً ) .
فانطلِق الى قومك ، قال : يا رسول الله ، أتردّني الى المشركين يفتُنونني في ديني قال : يا ابا بصير ، انطلق فان الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً . ( ) 
وحادث آخر كذلك ما جرى من وفائه عليه السلام للمعاهدة التي كانت بينه وبين مشركي مكة عندما بعث ابا بكر بالحج الى مكة ، وأَتبعه الامام علي بن ابي طالب بسورة براءة وكان من ضمن ذلك – أي بنود الكتاب – انه من كان له عهد فعدة الى مدته .
روي عن الامام علي رضي عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انزلت براءة باربع : لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فعهده الى مدته ، ولا يدخل الجنة الا نفس مؤمنة . ( ) 
وهذا تفسير قوله تعالى : ( الا الذين عاهدتم من المشركين ثمَّ لم ينقُصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا اليهم عهدهم الى مدّتهم ، ان الله يحب المتقين ) ( ) .
قال ابن كثير : هذا استثناءٌ من ضرب مدّة التأجيل بأربعة اشهر لمن له عهد مطلق ، ليس بمؤقت ، فأجله اربعة أشهر يسيح في الارض …. ثم ذكر الحديث : ( ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده الى مدته ، وذلك بشرط ، ان لا ينقض المعاهد عهده ، ولم يُظهروا على المسلمين أحداً ، أي يمالئ عليهم مِنْ سواهم ، فهذا الذي يوفّى بذمته ، وعهده الى مدته ، ولهذا حرص تعالى على الوفاء بالعهد فقال : ان الله يحب المتقين . أي المؤمنين بعهدهم . ( ) 
اما خلفاؤه الراشدون عليه السلام فكانوا على سيرته في الوفاء والصدق ، كيف لا وهو من قال فيهم ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عَضّوا عليها بالنواجذ ) . ( ) 
فمعاهدات الصلح والهدنة ، التي عقدها ابو بكر الصديق رضي الله عنه بواسطة قواده في الأمصار ، قد وفّى بها خير وفاء ، ولم ينقض شيئاً منها ، وكذلك الامام عمـر رضي الله عنـه ، وعثمان ، وعلي ، كلهم قد وفوا بعهودهم ومواثيقهم ، وذلك بارز وواضح في كتب التاريخ مثل ( الطبري ، ابن كثير ، وكتب الفتوحات مثل البلاذري ، والواقدي … وغيرهم ) . وقد ذكروا الامثلة العديدة على هذا الوفاء اثناء سردهم لسيرة الفتوحات . وهذا نابع من الالتزام بهذا الدين عقيدةً وأحكاماً ، كيف لا والله سبحانه وتعالى قد مدحهم فقال : ( لقد رضي الله عن المؤمنين اذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم واثابهم فتحاً قريباُ ) . ( ) 
وقال : ( من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحْبه ومنهم من ينتظرُ وما بدلوا تبديلاً ) ( ) .

الفصل الثاني 

انعقاد المعاهدات


المبحث الاول :

 بيان تعريف الركن ، والشرط ، حسب اصطلاح الاصوليين .

المعاهدات بشكل عام هي عقود – من حيث تعريف العقد ،- كأي عقد آخر .
وقالوا في تعريف العقد : بانه إيجاب وقبول ، او هي إيجاب وقبول متعلقان بصيغة ، او بمحلّ العقد . والمعاهدات حسب واقعها هي ايجاب وقبول متعلقان بمحلّ الصيغة وهي المعاهدة نفسها . ( ) 
وبما ان هذا العقد ، هو تصرُّف من تصرفات المسلم ، فالأصل فيه ان يكون منضبطاً ، ومقيّداً بأحكام الشرع ، غير خارج عنها ، وذلك ان المسلم لا يصدر عنه قول ، ولا فعل ، ولا شيء من التصرفات إلاّ ويكون منضبطاً بالنصوص الشرعية .
وهذا الاصل نابع من مفهوم العبوديّة لله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس الاّ ليعبدون … ) ( ) والعبـودية كما نعلم أشمل من العبادة ، وهي : ( خضوع الانسان في جميع تصرفاته في الحياة لأوامر الله ونواهيه ، ولا تكون العبودية تامة الا اذا كانت كذلك ) . ( ) 
وكذلك نابع من مفهومنا لتعريف الحكم الشرعي ، والمخاطب به جميع العباد ، دون استثناء ، حيث قالوا في تعريفه : انه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين ، او العباد ، ( على خلاف بين الاصوليين ) ، والأرجح انه العباد ، لاسباب لا مجال لذكرها هنا : طلباً او تخييراً او وضعاً ( ) .
فخطاب الشارع يشمل جميع افعال العباد دون استثناء شيء من هذه الافعال .
اما تعريف الركن حسبما أورده العلماء فهو ما لا يتم العقد الا به ، أي لا ينعقد الا اذا توفرت اركانه .
والاركان عند الفقهاء هي 1- الايجاب 2- القبول 3- محل العقد .
فهذه ثلاثة اركان متفق عليها عند الفقهاء – باستثناء الأحناف اخرجوا المحل – أنها اركان العقد الشرعي ولا ينعقد الا بها . ( ) 
وقد وضع الفقهـاء شروطاً شرعيةً لهذه الاركان حتى تكون صحيحة ، وينعقد العقد بها ، ووضعوا كذلك للمعاهدات شروطاً ، ولا تكون هذه المعاهدات شرعيّة الا اذا توفرت فيها . 

شروط الايجاب والقبول :

لقد وضع الفقهاء ، والاصوليون شروطاً عامة لأركان العقد : الايجاب ، والقبول ، ومحل العقد كذلك ، وهذه الشروط ، لا يقوم الايجاب والقبول كركن للعقد الا اذا كانت مستوفاه ، وصحيحة . من هذه الشروط . 1- جلاء المعنى في الصيغة :
أي ان تكون مادّة اللفظ المستعمل للإيجاب والقبول في العقد ، تدل دلالة واضحة عُرْفاً على نوع العقد المقصود للمتعاقدين . ففي مبادلة المال مثلاً تستخدم كلمة ، او لفظة البيع ، وفي مبادلة المنفعة يستخدم لفظ الاجارة … وهكذا . 
2- توافق الايجاب والقبول : والمقصود موافقة أحدهما الآخر في نفس الصيغة ، فلو قال الموجِبْ بعتك بتسعين ، وقال الاخر : قبلت بثمانين ، لا ينعقد العقد . 
3- جزم الإرادتين : أي تكون الصيغة باتّهّ في افادة المعنى للعقد ، فلا يقولُ سوف أنظر ، او سوف أوافق على ذلك ، بل يجب ان يكون اللفظ قبلت ، او رضيت او ما في معناها . ( ) 
فهذه شروط تتعلق بصيغة العقد من حيث الايجاب والقبول لاي عقد من العقود الشرعية . وهذه الشروط فيها شرح طويل عند الفقهاء والأصوليين ، وفيها خلاف كما قلنا عند الاحناف وعند غيرهم في الصيغ وفي الاركان نفسها .
اما شروط انعقاد العقود لاي عقد فهي : 1- أهلية العاقدين : ومعنى الاهلية ، أن يتصفا بالصفات الشرعية ، من حيث البلوغ والعقل ، ومن حيث الحرية لذلك ، عند بعض الفقهاء .
2- ان يكون محل العقد شرعياً .
فمثلا لا يجوز العقد على موقوف ، او بيع الميت ، او غير ذلك مما لا يجوز اجراء العقد عليه 3- ان يكون العاقد أهلاً للتصرف المعقود عليه . فلا يكون صغيراً مثلا ، كذلك ان يكون مخولاً بهذا التصرف .
واذا عقده مضى واْنعقد . لا ان يعقد مثلا معاهدة ، وهو لا يملك هذا التصرف .
4- ان يستوفي العقد شرائطة : من حيث الخصوص والعموم ، فان كان هناك شرائط خاصة كالشهود في النكاح مثلاً . وهناك بعض العقود في البيع يشترط فيها التسليم .
5- ان يكون العقد مفيداً : أي ان لا تكون المنفعة التي سيجرها العقـد واجبة مثلا . ( مثل النفقة ) او محرمه مثل الامتناع عن الزنا ، او شرب الخمر . ( ) 
6- بقاء الايجاب صحيحاً حتى وقوع القبول :
أي لا يتراجع من اجرى الايجاب في البداية عن إيجابه ، كأن يقول بعتك ، حتـى يقول الطرف الآخر وانا قبلت المبيع عن الثمن المسمى ، او يقول الموجب زوجتك فيقول الاخر : قبلت قبل ان يتراجع الاول عن إيجابه .
7- اتحاد المجلس : واتحاد المجلس عند الفقهاء شرط لصحة الايجاب والقبول ، فيتم الايجاب والقبول قبل التفرق . ولكن اتحاد المجلس هناك ابحاث فيه ؛ ما المقصود من المجلس ، هل هو الاجتماع ، ام حصول الكلام بشكل لا يفهم منه الفصل المبطل للكلام ( للايجاب ، او القبول ) ؟؟. وهذا فيه تفصيل لا داعي لذكره هنا . ومفادهُ ان المقصود بالاتحاد ، أي صدور القبول ، في مجلس العقد قبل تغيره ، على النحو الذي ذكر ، ومجلس العقد على النحو الذي بين ( ) " والمعنى أي : عدم حصول ما يفهم منه الفصل الناقض للايجاب ، والمجلس أي : المدة التي تفصل الايجاب عن القبول دون ضرر بالموجب ولا بمن عرض عليه الايجاب . ( ) 
هذا بالنسبة للشروط العامة لانعاقد العقود ، اما ما يختص بالمعاهدة. 
فيشترط في المعاهدة حتى تنعقد شروطاً ، وهي شروط الانعقاد منها:
ان يكون من يجري العقد اهلاً لهذا التصرف شرعاً : ومعنى الاهلية هنا ، أي اذا صدر منه معاهدة فانها تجري ، ويترتب عليها ما يترتب على العقد الشرعي من حيث الوفاء والالتزام ، وهذه الاهلية منها ما يكون في الشخص المجري للعقد ومنها ما يكون في الدولة التي يمثلها هذا الشخص .
فما يشترط في الشخص من حيث اهليته . ان يكون يملك هذا التصرف ، بان يكون يمثل هذه الدولة ، ولا يمثل الدولة حسبماً نعلم الاّ خلفيةُ المسلمين او من ينيبه الخلفية لذلك ، او يقره على ذلك ، او يعطيه حق التصرّف ، وغيـر ذلك لا يجوز لهم اجراء أي معاهدة. امـا بالنسبة للدولة ، فيجب عليها ان تملك كذلك ما اجرت عليه العهد . فلا يجوز لها مثلا ان تجري عهداً على ارض لا تملكها شرعاً ، كجزيرة في البحر مشتركة ، او لدولة اخرى . 
ان يكون الايجاب والقبول مفهماً وخالياً مما ينقض الكلام :
والايجاب كما قلنا هو ما يصدر اولاً من احد المتعاقدين ، والقبول هو : موافقة الطرف الاخر على ايجاب الموجب . 
ويشترط في هذا عند المعاهدات ، ان يكون اللفظ ، مفهماً ، صريحاً في المعنى ، لا يحتمل معاني اخرى فيقول مثلا الخليفة ، او من ينيبه : نعـاهد على وضـع الحرب والقتال مدة من الزمن قدرها كذا … فيقول الطرف الاخر : ونحن قبلنا هذا العهد الى مدته المذكورة بشروطه … 
ويوقع هذا الكلام على ورقة من باب التوثيق .
3- ان يكون محل العقد مما يجوز اجراؤه شرعاً :
فقد قلنا الاصـل في تصرفات المسلم انها منضبطة بالاحكام الشرعية ، ومن هذه التصرفات ( المعاهدات ) فحتى تنعقد المعاهدة شرعاً يجب ان يكون محلها شرعياً . فلا يجري الخليفة ، او من ينيبه الخليفة عهداً محرماً ، مثلا مثل محاربة دولة كافرة بمساعدة دولة كافرة . 
او يجري معاهدة على ابطال الجهاد ، او يجري معاهدة تمنع المسلمين من القيام بواجبات شرعية .. او غير ذلك مما حرمه على المسلمين . ( ) 
هذا بالنسبة لشروط انعقاد المعاهدة التي لا تصح إلا بها شرعاً .
اما الشروط العامة للمعاهدة . فقبل ذكرها لا بد من معرفة الشرط وتأثيره على العقود بشكل عام . 
الشرط : 
الشرط بفتح فسكون ، وجمعه شروط ، هو العلامة الدالة الممّيزة . ومنه قيل اشراط الساعة ، وهي الحوادث الدالة على قربها ، واطلق الشرط لغة على ما يشترطه الانسان في عقوده والتزاماته ، على نفسه ، او غيره لانه كعلامة تميز العقد عن امثاله باحكام اضافيه تخصّه .
وفي الاصطلاح : هو كل امر ربط به غيره عدماً لا وجوداً ، وهو خارج عن ماهيته .أي ان عدم الشرط يستلزم عدم الامر المشروطه له . اما وجود الشرط فلا يستلزم وجود المشروط .
مثال : أهلية العاقد شرط في كل عقد ، وفاقد هذه الاهلية لا ينعقد عقده . ولكن وجود من هو اهل للعقد لا يستلزم عقد . 
والشرط هو جزء خارج عن ماهيه العقد ، او عـن اركان انعقاد العقد . ( ) 
وقد عرفه الاصوليون ، فقالوا : هو ما لا يلزم من وجوده الوجود ، ويلزم من عدمه العدم ، كالوضوء مثلا شرط للصلاة ولا يلزم من وجودها الصلاة ، فقد يتوضا الانسان ولا يصلي . ولكن يلزم من عدم الوضوء عدم الصلاة . وقال آخرون : الشروط بشكل عام انما هي مكملات للامور المشترطة لها في نظر الشارع ، كتكميل الصفة للموصوف ، بحيث ان عدمها يخل بالمقاصد الشرعية من الاحكام . ( )
فالقدرة على تسليم المبيع مكملة لغاية البيع ، لانه سبب للملكية ، وغاية الملكية الوصول للانتفاع . فعدم تسليم المبيع يخل بهذه الغاية المشروعة لاجلها ،لذا كانت هذه القدرة شرطاً في البيع .
فالشروط اذن خارجه عن ماهية العقد . بمعنى : ان عدم وجودها لا يؤثر على انعقاد العقـد ، من حيث وجـود اركان الانعقاد ، وهي : ( الايجاب والقبول ، والمحل ) .
ولكنه يجعل العقد فاسداً شرعاً ، ولا يجوز امضاؤه الا اذا انجبر هذا العقد ، اما بزوال الشرط الحرام اذا وجد ، او باضافة الشرط الواجب وجوده اذا عدم .
فمثلاً : من شروط المعاهدات في الشريعة ، التحديد بمدة زمنية . فاذا لم يحدد العقد بعد انعقاده او اثناء انعقاده بمدة زمنية ، يصبح فاسداً ، ويحرم الالتزام به شرعاً ، لانه يلغي موضوع الجهاد . فيجب اضافة هذا الشرط حتى بعد انعقاد المعاهدة . 
وهذه الشروط في العقود بشكل عام تنقسم الى قسمين الاول : ما يشترطه الانسان : وهذه يجب ان تكون حسب الشرع غير ملغية لناحية شرعية . فقد يشترط مثلاً رجل اشترى من رجل دابة ان يستعمل البائع الدابة مدة يوم بعد عقد البيع . فهذا الشرط يجيزه الشرع ولا غبار عليه .ولكن قد يشترط شرطاً محرماً مثل . ان تشترط الزوجة على زوجها اثناء انعقاد العقد ان لا يبيت عند المرأه الاولى ، او ان لا ينفق عليها . او قد يشترط رجل باع دابة الى رجل آخر ان لا يركبها ، او لا يستخدمها للحراثة . فالشرط الاول من المرأة باطل لانه يلغي نصاً شرعيـاً في لزوم المبيت والنفقـة : ( لينفق ذو سعة من سعته …) . ( ) والثاني يلغي المنفعة من العقود ، ( والمنفعة ) هي شرط في الملك . لان الملك حسبما يعرفه الفقهاء : هو حكم شرعي مقدر بالعين او المنفعة ، يقتضي تمكين من يضاف اليه من انتفاعه بالشيء ، واخذ العوض عنه ، وذلك كملكية الانسان للرغيف والدار ، فانه يمكنه بملكيته للرغيف ان يأكله ، وان يبيعه ، ويأخذ ثمنه ، ويكمنه بملكيته للدار ان يسكنها ، وان يبيعها ويأخذ ثمنها . ( ) وهناك شروط شرعية اشترطها الشرع في العقود ، وهي خاصة في كل عقد ، وعامة كذلك . بمعنى انها خاصة في عقود معينه مثل المده في المعاهده وعامة في كل عقد مثل القدره على القيام بما عقد عليه العقد . من حيث الوفاء والالتزام . فالفرق اذن بين الشرط والركن . ان الركن لازم للعقد لا يتم العقد الا به ، واذا فقد يكون العقد باطلاً . 
اما الشرط فانه ينعقد العقد بغيابه ، وبوجوده ان كان محرماً ، ولكن يلزم وضعه ، ان كان يفسد العقد بغيابه ، وبابطاله ان كان يفسد العقد بوجوده .



المبحث الثاني 

الشروط الواجب توفرها في المعاهدات 

اما الشروط الواجب توفرها في المعاهدة بشكل خاص ، حتى تكون شرعية فهي : 
أولاً : ان لا يوجد في هذه المعـاهدة ما يشير الى نقض معاهدة اخرى ، موثقة مع دولة ثانية غير الدولة المعاهدة .
وهذا الشرط ماخوذ من وجوب الوفاء بالعهد والميثاق ، وذلك التزاماً بقوله تعالى : ( الا الذيـن عاهدتـم مـن المشركين ثمّ لمْ ينقصُوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم احداً ، فأتّموا اليهم عهدهم الى مدّتهم … ) ( ) .
وقوله : ( والموفون بعهدهمْ اذا عاهدُوا …) ( ) .
وقوله عليه السلام : ( اربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، من اذا حدث كذب ، واذا وعد اخلف ، واذا عاهد غدر ، واذا خاصم فجر ، ومن كانت فيه خصلة منهن ، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ) ( ) .
ثانياً : عدم وجود ما يشعر بامتهان المسلمين او الانتقاص من كرامتهم ، او ما يشعر كذلك بالمس او التعرض لدمائهم ، او اعراضهم ، او اموالهم ، او أي شيء من هذا القبيل .
وهذا الشرط ماخوذ من مقاصد الشريعة العامة في حفظ النفس ، والعرض ، والمال ، والكرامة . فالرسول عليـه السلام قال بشأن ذلك :( كلّ المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه ) ( ) 
والله يقـول بشأن العزّة والكرامة : ( ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين …)( ) .
فاي بند او شرط يتعرض الى شيء من ذلك لا يجب الوفاء به ، ويعتبره الشارع باطلاً تلقائياً . 
ثالثاً : عدم وجود أي شرط مشروط على المسلمين يعطل أي حكم شرعي . فلا يجوز اشتراط الكفار على المسلمين ايقاف الجهاد ضدهم بشكل نهائي ، ولا يجوز كذلك اشتراطهم عدم دخول بلادهم مستقبلاً ، او حمل الاسلام الى ديارهم – ديار الكفر .
فالله تعالى امر بالطاعة المطلقة لاحكام الشرع دون استثناء . فقال : ( يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وانتم تسمعون …) ( ) ويقول : ( يا ايها الذين امنوا ان تطيعوا فريقاً من الذين اوتوا الكتاب يردّوكم على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين )( ) 
رابعاً : ان لا تشعر بنود المعاهدة بوجود سبيل للكافرين على المؤمنين ، وذلك لقوله تعالى : ( ولن يجعلَ الله للكافرين على المؤمنينَ سبيلاً ) ( ) .
وهذا الاخبار يفيد الطلب والمعنى ، أي : لا تجعلوا للكافرين عليكم سبيلاً ، والرسول عليه السلام يقول : ( اللهم لا تجعل لكافر ، ولا فاجر عليّ يدا ) ( ) واليد هنا تطلق على القوة وعلى النعمة .
خامساً : يشترط أن تكون المعاهدة محدودة بزمن ، غير مفتوحة الاجل . 
وهذه المسألة استدل لها الفقهاء من صلح الحديبية وقد اختلفوا في هذه المدة ، فمنهم من جعلها لا تزيد عن عشر سنوات ، ومنهم من جعلها على اكبر حد اربعة اشهر ، والصحيح انه يجوز ان تزيد عن العشر سنوات .
وذلك أنه لم يرد نهي عن ذلك ، وفعل المصطفى عليه السلام في الحديبية ، وتحديده المعاهدة بعشر سنين لا يشعر بحرمة الزيادة في ذلك . فمصلحة المسلمين اذا اقتضت أن تزيد المدة على العشر سنوات فانه يجوز ذلك لخليفة المسلمين . ( )
ولكن المتفق عليه عند الفقهاء أنه لا يجوز تأبيدها ، وعدم تحديدها بزمن معين . لقوله عليه السلام
: ( الجهاد ماض الى يوم القيامة ) وقد أورد البخاري لذلك بابا تحت عنوان الجهاد ماض مع البر والفاجر . وقال : الحديث أخرجه أبو داوود مرفوعا ، وقال ابن حجر : " لا بأس برواية ومضمون كلام ابن حجر ، ان الحديث صحيح بما جاء من أحاديث تشير الى استمرار الجهاد الى يوم القيامة " ( ) فكون الجهاد ماض الى يوم القيامة معناه : عدم جواز عقد اتفاقات تلغي هذا الجهاد نهائيا . هذه أهم الشروط الشرعية التي اشترطها الفقهاء لجواز المعاهدة بعد انعقادها ، واذا وقع خطأ فيها فإنه يجب تصحيحه كما سنذكر في البحث القادم .

المبحث الثالث 

بيان فساد الركن او الشرط في صحة المعاهدة 

المعاهدات كما علمنا هي عقـد شرعي كاي عقد من العقود الاخرى ( ) يجب ان تتوفر فيه اركان العقد الشرعي ، وشروط العقد العامة ، والخاصة كذلك بالمعاهدات .
اما الفساد الذي يطرأ على واحدة من الركن او الشرط ، فان له آثاراً شرعية تترتب عليه .
أولاً : فساد الركن : اركان العقد كما قلنا ( الايجاب ، والقبول ، ومحل العقد ) . فهذه الاركان الثلاثة – يجب ان تتوفر في العقد حتى يصبح عقداً ابتداء : قبل ان يكون شرعياً او غير شرعي .
فاي عقد لا يكون فيه ايجاب ، او قبول ، او محل لهذا الايجاب والقبول لا يسمى عقداً . ( ) وهو كلام كاي كلام اخر ، لا يطلق عليه عقد .
فاذا قال رجل مثلا ، : زوجتك . ولم يكن هناك رجل آخر في المقابل يقول قبلت . فان هذا لا يسمى عقداً وانما يطلق عليها عند الفقهاء ( الادارة المنفرده ) من طرف واحد ، او الالتزام من طرف واحد . ولو جاء رجل كذلك ، وقال لرجل زوجتك ، وقال الاخر قبلت ، ولم يكن هناك فتاه محل العقد ، فان هذا العقد لا ينعقد ، لانه فقد ركن من اركان العقد . ولو قال رجل انا قبلت فلانه زوجة لي ، ولم يقل له الطـرف الاخر : وانا زوجتك اياها ، كذلك لا يسمى عقد . لان كل هذه الحالات فقدت اركان العقد الاساسية . ( )
اما ما يتعلق بشروط الاركان فهي كذلك ضرورية لصحة العقد ، ولا يكون شرعيا الا اذا كانت صحيحة خالية من الموانع الشرعية ، وأي خلل في هذه الشروط المتعلقة بالاركان يصبح العقد باطلا شرعا ولا ينجبر . ( ) 
ولا نريد ان نفصل في هذا الموضوع طويلاً ، فالفقهاء افردوا كتباً تشرح هذه الاركان ، وحيثياتها والصفات المنوطة بها .
ولكن نذكر باختصار بعض الامور التي تؤثر بشكل مباشر على هذه الاركان – أي ابرز هذه الاركان – 
أولاً : الايجاب والقبول :
الايجاب والقبول هما ركن من اركان العقد ، وحتى يكون هذا العقد شرعياً ، يجب ان يكون الايجاب شرعياً ، والقبول كذلك .
وهناك اوصاف شرعية لِصيغة الايجاب والقبول ذكرها الفقهاء ، اذا حصل خلل فيها ، او في واحدة منها ، يبطل العقد ولا يصح . ولا ينجبر كذلك أي لا يمكن اصلاح الخلل بعد وقوعه كالفساد . 
من هذه الصفات مثلا : حصول الايجاب والقبول بلفظ مفهم لما يراد إبرامه ، وبشكل جازم يدل دلالة صريحة على الوقوع ، وفي جلسة واحدة بحيث لا يكون هناك فصل في الكلام يضرّ بالموجب ، او بالقتال ( ) . 
فمثلا اراد شخصان ابرام معاهدة هدنة حربية . فقال الموجب . اعاهدك على وضع الحرب بيننا على مدة زمنية . فقال القابل ، وانا قبلـت ذلك الامر المسمى فهذا العقد ، او هذه المعاهدة تعتبر صحيحة ، خالية من العيوب الشرعية .
اما اذا قال الموجـب : أُعاهدك على وضع الحرب مدةً زمنيةً إلى كذا ….. ، وقال الطرف الاخر – القابل – وانا سوف أقبل بهذه المعاهدة ( ان شاء الله ) ، فهذا الكلام لا يعتبر صحيحاً في العقود ، ولا تعتبر هذه الصفية في القبول شرعية ، والعقـد بهذا الوصف يعتبر باطلاً شرعاً .
او قد يقول الموجب ، أُعاهدك على كذا …. ويسمي ما يريد ، فيسكت الطرف الاخر ، او يخرج من المكان ، ثم بعد زمن طويل يقول : وان قبلت ذلك . فهذا الفصل كذلك يعتبر خرقا في الأوصاف الشرعية للايجاب والقبول . من حيث حصولها في مجلسة واحدة ، دون فصل يلحق ضرراً بالاخر .
وهناك تفصيل كما قلت في البحث يمكن الرجُوع فيه الى كتب الفقهاء . ( )
ثانياً : العاقدان : العاقدان ، هما من يصدر منهما الايجاب والقبول ، ويشرط لهما شروط شرعية ، حتى يصبح الايجاب والقبول منهما شرعياً . وهذه الشروط ذكرها الفقهاء تحت باب الاهلية ( ) والاهلية المتعلقة بموضوع المعاهدات هي اهلية الاداء ، لا اهلية الوجوب ( ) . 
وأهلية الاداء في المعاهدات هي البلوغ ، والعقل .
فلا يقبل عهد انعقد من شخص لا يتصف بهذه الصفات الشرعية ، فالعقد من الطفل باطل ، ومن المجنون كذلك لانهما لم يملكا الاهلية لعقد المعاهدات .
كذلك من الاهلية ان يكون العاقد ممن يملك التصرف ، ففي المعاهدات مثلا لا يقبل معاهدة ولا هدنة من غير المؤهل لذلك . فلو جاء رجل من دولة مجاورة للدولة المعاهدة مع المسلمين ، بدون تكليف ولا تخويل بذلك فان هذا العقد يعتبر باطلا ، لانه لا يملك هذا التصرف ( ) . 
ثالثاً : محل العقد : 
الشرط الوحيد لصحة محل العقد هو كونه شرعياً ، ولا اعتبار لاي شي اخر ، فاذا كان هذا المحل – موضوع المعاهدة – مما أجازه الشارع ، فانه يعتبر صحيحاً ويجوز التعاقد عليه . والا فلا يجوز . فالمعاهدة مثـلا على الاتجار بلحم الخنزير لا تجوز لان الله يقول : ( حُرّمت عليكم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير …) ( ) . 
والمعاهدة على التعاون العسكري مع الكفار لا تجوز ، لان الرسول عليه السلام يقول : ( لا تستضيئوا بنار المشركين ) ( ) ، ومثل هذه المعاهدات الكثير . 
اما المعاهدة على هدنة عسكرية لزمن معين فهي جائزة لان الرسول عليه السلام قد فعلها في الحديبية ( ) .
وقد إشترط بعض الباحثين والفقهاء شرطاً اخر فوق كون المحل شرعياً وهو تحقيق المصلحة للمسلمين ( ) .
فالمصلحة تدور مع الشرع ، وليس الشرع يدور معها .
هذه الشروط للاركان ، تجعل العقد باطلا اذا حصل خلل فيها ، ويفسخ العقد تلقائيا ولا يحتاج الى فسخ .
فبطلان المعاهدة بهذا يكون عن مخالفة لنظام التشريع من ناحية أساسية في عملية العقد ، فالعقد عندئذ يكون من اصله باطلاً . أي : معدوماً ( ) .
هذا ما يتعلق بالاركان ، اما يتعلق بالشرط .
ثانياً : تاثير الشروط في صحة العقد :
الشروط كما قلنا هي غير الاركان ، فالاركان هي جزء ماهيه العقد لا ينعقد العقد الا بها – أي لا يصبح عقداً – وكذلك لا يكون العقد صحيحاً الا اذا اتصفت الاركان بالاوصاف الشرعية التي ذكرناها . وأي خلل في ذلك يبطل العقد .
اما الشرط فانه خارج عن ماهية العقد ، او عن اركان انعقاد العقد ، ( العقود وسائر التصرفات القولية تنشأ بارادة العاقدين ) ، فاذا انعقد ترتبت عليه آثاره الشرعية ، والاصل عند بعض الفقهاء وهو تحريم كل عقد او شرط الا ما ورد الشارع بإجازته ، فلم يصححوا عقداً ، ولا شرطاً الاّ ما ثبت جوازه بنص او إجماع ، واذا لم يثبت جوازه ابطلوه . ( )
ويمكن ان ينجبر اذا حصل خلل في ذلك ، لان الشروط بوجه عام انما هي مكملات للامور المشروطة لها في نظر الشارع لتكميل الصفة لموصوف ، بحيث ان عدمها يخل بالمقاصد الشرعية للاحكام ( ) . 
وقد ذكرنا في باب شروط المعاهدات حتى تكون صحيحة خمس شروط ومنها :
ان لا يوجد في المعاهدة ما يشير الى نقض معاهدة أخرى ، فاذا وجد هذا الشرط فانه يسقط من المعاهدة ، واذا سقط منها فانها تنجبر ، واذا بقي فيها فانها كذلك تكون غير شرعيه ، ولا يجوز إمضاؤها ، وهذا بعكس الركن فانه لو وجد خلل فيه لا ينجبر وانما تبطل المعاهدة من أساسها وتنشأ معاهدة جديدة .
لان الفساد كما عرفة الفقهاء . هو خلل في العقد المخالف لنظامه الشرعي في ناحية فرعية متممة تجعله مستحقاً للفسخ وهذا الكلام له دلالات فقهية كما ذكر ( الزرقا ) في كتابة المدخل منها :
ان الفساد خلل اعتباري ، أي في ناحية فرعية لا أصلية في العقد .
انه يجعل العقد مستحقاً للفسخ ، لا منفسخاً كما هو البطلان .
يفيد ان العقد الفاسد منعقد وليس منهدم . اذ لا يستحق الفسخ الا اذا كان منعقداً .
انه يمكن ان ينجبر ويصبح شرعياً اذا خلا من هذا الفساد ( ) 
وما ينطبق على هذا الشرط الاول الذي ذكرناه ينطبق على باقي الشروط – شروط الصحة – فلا يعتبر العقد شرعياً الا اذا توفرت فيه شروطه ، واذا خلا من أي خلل يفسده .



الباب الثاني 
الاسباب التي تدعو لعقد المعاهدات
الفصل الاول : اصل العلاقة بين الكفر والايمان .
المبحث الاول : تعريف الجهاد .
المبحث الثاني : تعريف الدار : وانواعها : 
المطلب الاول : دار الاسلام .
                 المطلب الثاني : دار الكفر .
المبحث الثالث : من يمثل دار الاسلام في عقد المعاهدات .



الفصل الاول : 

اصل العلاقة بين الكفر والايمان 

-المبحث الاول -

تعريف الجهاد : 

الدولـة الاسلامية دولة حية ، وحياتها مستمدة من مبدئها الذي تحمله ، فهي دولة تحمل رسالة الى الامم والشعوب لتنشر فيها النور والحياة قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمةً وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) . ( ) 
وطريقة حملها لهذا الحياة ، هو الجهاد عن طريق دولة تطبق الاسلام في الداخل ، وترعى شؤون المسلمين به ، ومن ثم تحمله رسالة خير وهدى الى الخارج . فالجهاد هو الطريق الوحيد لحمل هذا الاسلام كما سنبين .
وهذا الطريق لم يعرف المسلمون غيره في تاريخ دولة الاسلام من عهد المصطفى عليه السلام حتى اخر عهد الخلافة التي انتهت ببني عثمان .
اما ما فعله المسلمون في رحلاتهم ، او في تجارتهم في حمل هذا الدين الى الشعوب والامم التي يصلونها ، فهذا من باب الدعوة للاسلام ، وهو مندوب وليس فرضاً . بمعنى انه اذا لم يقم به المسلم اثناء تواجده في البلاد الكافرة لا يأثم على ذلك . ودليل ذلك ان الصحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا من مكة الى الحبشة ، لم يؤمروا بحمل هذه الرسالة من قبل الرسول عليه السلام ، وما فعلوه في بعض المواقف كان من باب التطوع والندب ، كالنقاشات التي دارت بينهم وبين النجاشي ، او بينهم وبين بعض القساوسة .
وهذا بخلاف حمل الدعوة بالجهاد ، فهو فرض فرضه الله على المسلمين ، ليبلّغوا هذه الامانة لباقي الشعوب والامم .
فالجهاد الى امصار الكفار ، ليس هدفه مادياً ، ولا اقتصادياً ، ولا طمعاً في السيطرة ، ولا غير ذلك مما يزعم بعض المستشرقين . انما كان الهدف هو حمل امانة الاسلام التي فرضت على المسلمين . لذلك كان لا بد من بيان معنى الجهاد ، والذي هو الطريقة لهذه الفريضة – فريضة حمل الدعوة .
تعـريف الجهاد لغةً : الجهاد لغة هو : الوسع والطاقة ، وجهد يجهد جهداً ، واجتهد كلاهما جدّ . 
وجَهِدَ دابته أجهدها . بلغ جهدها ، وحمل عليها في السير فوق طاقتها . ( )
اما في الاصطلاح : فقد عرفه الفقهاء بانه ( بذل الوسع والطاقة مباشرة او غير مباشرة ، او معاونة بمال ، او رأي او تكثير سواد ، او غير ذلك …) ( ) وهناك من قال : هو بذل الوسع والطاقة مباشر او غير مباشرة في قتال الكفار ، لإعلاء كلمة الله ، وحمل الاسلام رسالة خير وهدىً الى البشرية . ( ) 
والجهاد بشكل عام حكمهُ الفرض ، سواء اكان فرض كفاية ، ام فرض عين ، وقد فصّل الفقهاء لذلك في باب الجهاد ، متى يكون فرض عين ومتى يكون فرض كفاية ؟؟ ويمكن الرجوع الى كتبه الفقه في ذلك ، مثل المغنى ، او المحلّى ... او غيرها ( ) .
اما دليل فرضية الجهاد ، فسنذكره في بحث المعاهدات المحرمة ، ومنها ما يعطّل فرضية الجهاد .
المبحث الثاني : تعريف الدار ، وانواعها .
تعريف الدار ضروري لمعرفة من نعقد معهم المعاهدات ، ولمعرفة على أي اساس نعقد هذه المعاهدات ، ومن يجوز عقد معاهدات معهم ، ومن لا يجوز ،. فاحكام المرتدين مثلاً ، او المنفصلين عن دولة الخلافة ، تختلف عن احكام الكفار الذين لم يدخلهم الاسلام .
فمعرفة الدار ضروري لأمرين ، الاول : معرفة دار الاسلام ، والثاني : معرفة دار الكفر سواء اكان يسكنها مسلمون ، ام يسكنها حربيون ، ام يسكنها معاهدون .
ثالثاً : معرفة دار الحرب هل هي حرب حكمية ، ام حرب فعلية .
اولاً : دار الاسلام :
المقصود بالدار حسبما وردت في لغة العرب ، هي البلاد يسكنها اناس معينون ، او تكون خاضعة تحت سلطانهم ، وقد اطلقت على عدة معاني في لسان العرب يفهم منها ذلك .
فقد ورد في اللسان . واما الدار فاسم جامع للعرَصة ، او البناء ، والمحِلّة ، وكل موضع حل به قوم فهو دارهم ، والدنيا داء فناء ، والآخرة دار قرار ، وقد تطلق على القبلة كذلك كقوله : ما بقيت دار الاّ بني بها مسجد ( ) .
وقد ذهب الفقهاء في تعريف ( دار الاسلام ) الى اقوال كثيرة . فمنهم من اعتبر الضابط الصفة. كالشوكاني فقال : اما نسبة الدار الى الاسلام فانها نسبة صفة وحكم ، أي ان صفة هذه الدار كذا ؛ فيصبح حكمها كذلك . وقال آخرون الاعتبار بظهور الكلمة ، فان كانت الاوامر والنواهي في الدار لاهل الاسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار ان يتظاهروا بالكفر … فهذه دار اسلام ( ) .
وقد اورد ( محمد خير ) في كتابه ( الجهاد والقتال ) ، اكثر من ثلاثين قولاً للفقهاء في تعريف الـدار ، وترجح عنده ان دار الإسلام هي : البلاد التي يكون نظام الحكم فيها هو النظام الاسـلامي ، وفي الوقت نفسه ، يكون الأمن الداخلي ، والخارجي فيها بيد المسلمين من ابنائـها ، بمعنى : ان القوة العسكرية التي تحمي الامن في الداخل وتحمي الحدود من العدو الخارجي ، هذه القوة يسيطر عليها المسلمون ، بحيث لو شاركهم غير المسلمين تكون مشاركتهم فيها ثانوية ، وتبقى السيطرة للمسلمين ، فهناك شرطان يجب توفرهـا في الدار حتى تصبح اسلامية ( دار الاسلام ) ، الاول : الحكم بالاسلام والثاني : القوة التي تسيطر على البلاد بيد المسلمين .
تعريف دار الكفر : 
دار الكفر هي خلاف دار الاسلام من حيث الوصف ، وتوفر الشروط ، وقد اشترط بعض الفقهاء شروطاً لدار الكفر منها ظهور احكام الكفر فيها . ثانياً : ان تكون متاخمة لدار الكفر ، الثالث : ان لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الاول ، وهو امان المسلمين، وهذا الرأي لابي حنيفة في تحول دار الإسلام الى الكفر ( ) .
ومنهم من قال : تعتبر الدار دار حرب ؛ لانها لا تظهر فيها احكام الاسلام ولا تطبق ، وقد نقل ( محمد خير ) قول ( الشوكاني ) في تعريفه حيث قال : ( الاعتبار في ظهور الكلمة ، فان كانت الاوامر والنواهي في الدار لاهل الاسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار ان يتظاهر بكفره لا بكونه مأذوناً له بذلك من اهل الاسلام فهذه دار الاسلام . ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها ، لانها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصوتهم ، كما هو مشاهد في اهل الذمـة من اليهود ، والنصارى ، والمعاهدين الساكنين في المدن الاسلامية ، واذا كان الامر بالعكس فالدار بالعكس … ( ) .
ويقول ( محمد النبهاني ) في كتابه الشخصية الاسلامية : لاخلاف في ان بلاد الكفار ، التي يسكنها الكفار ، ويحكمون فيها بالكفر هي دار ( حرب ) ودار كفر . وكذلك لاخلاف في ان ارض المعركة التي غنمها المسلمون ولم يقيموا بعد فيها احكام الاسلام ، هي دار حرب ، ودار كفر ، ولو كانت تحت يد المسلمين ، ولذلك يقول الفقهاء : واذا قسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن اخذ سهمه التصرف فيه بالبيع وغيره ) . وكلمة دار الحرب ودار الكفر بمعنى واحد ، وتطلقان على بلاد العدو على ارض المعركة ( ) من هذه التعاريف نخلص ان دار الاسلام هي ( الدار التي تطبق فيها احكـام الاسلام وحمايتها ، وامنها ، هو بيد المسلمين لا بيد الكفار ، وتكون ضمن حدود الدولة الاسلامية وتحت سيطرتها . اما دار الكفر فهي: الدار التي لا تطبق فيها احكام الاسلام ، ولا تقع ضمن حدود دولة الاسلام ، وامنها هو بيد غير المسلمين . 



المبحث الثالث 

من يمثل دار الاسلام في عقد المعاهدات 

دار الاسلام هي الدار التي تطبق فيها احكام الاسلام وامانها بأمان المسلمين ، ومن هذا الوصف (التعريف) نقول : انّ من يمثل دار الاسلام هو من اعطاه الاسلام هذا التمثيل ، لانه حين تطبق احكام الاسلام الشاملة في الدار ، تشمل مسألة من يمثل ، ومن لا يمثل الناس . وبالرجوع الى الاحكام الشرعية العمليّة المستنبطة من ادلتها التفصيلية ، نرى ان رعاية شؤون المسلمين الخارجية في الحرب والسِلمْ والمعاهدات قد اناطها الشارع الحكيم براعي المسلمين ، الذي يرعاهم باحكام هذا الدين .
اما الادلة الشرعية على ذلك . فمن القرآن ، قال تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامرِ منكم ، فان تنازعْتُم في شيء فردُّوده الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً ) ( ) وطاعة اولي الامر ، تكون فيما يأمر وينهى ، ويبرم من معاهـدات ، واي شيء لايخالف نصوص الشرع . وقد فهم هذا الامر ( المفسرون ) بناء على فهم الصحابة رضوان الله عليهم لهذا المعنى . فأبو بكر رضي الله عنه عندما ولي الخلافة وقف خطيباً في المسلمين وقال : ( … اطيعوني ما اطعت الله فيكم ، فان عصيته فلا طاعة لي عليكم ) ( ) اما من السنة : فقد أكدّ الرسول عليه السلام وبيّن نصوص الكتاب ، التي طلبت طاعة اولي الامر وفرضتهـا على مـن يحمـل التابـعية لدولة الاسلام ، فقال : ( اسمعوا واطيعوا ولو وليّ عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبه ) . ( ) 
وهذا النص هو بيان للطاعة المفروضة من الله تعالى ، والمعنى انه من ولي ، أي : من اصبح أميراً او له صلاحية الامر والنهي من قبل الامير – الخليفة - فيجب على المسلمين السمع والطاعة له . وعندما سئل الرسول عليه والسلام عن الخروج عن الامراء ، عندما يحكموها بغير ما انزل الله فقيل له : ( افلا ننابذهم بالسيف يا رسول الله ؟، قال : لا ، ما صلّوا ، وفي رواية . ما اقاموا فيكم الصلاة ، وفي روايـة اخرى الا ان تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ) . ( ) وهذا الحديث له روايات عدة معناها : انه يجب السمع والطاعة فيما امضى امام المسلمين من تصرفات شرعية ، ولا يجوز الخروج عليه ، ومخالفة امره ونهيه الا في حالة واحدة عندما تكون معصية الله بواحاً ، او عندما يأمر بمعصية الله ، او كما قال في الحديث ( عندما يأمر بالكفر البواح ) . 
فعند هذا الحد لا تجوز طاعته ، ويجب الـخروج عليه ، وخلعه من مكانه ، وتنصيب خليفة آخر . وقد طبق الرسول هذا القول – أي الطاعة – عندما كان حاكماً ونبياً للمسلمين ، وكان يمضي المعاهدات مع الكفار ، ويعقد معاهدات الهدنة ، ومعاهدات الجوار مع من جاوره من كفار المدينة ، او من كفار العرب في الجزيرة .
والتزم المسلمون بما امضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يُعهد ان صحابياً خالف عهداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( ) 
وعلى هذا الطريق سار الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم ، واجمع الصحابة على طاعتهم في ذلك ، ولـم يعرف مخالف منهم لهذا الحكم الشرعي . فقد وقّع الخلفـاء معاهدات مع الروم ، او مع بلاد تحت سلطانهم ( ) وكان المسلون جميعاً يلتزمون بما امضاه هؤلاء الخلفاء . 
ومن خلال استعراضنا لنصوص الكتاب ، وما بينه الرسول عليه السلام بقوله ، وفعله ، وبما سار عليه الخلفاء الراشدون من بعده ، واجمع الصحابة عليه ، نخلص ان : المسؤول عن رعاية شؤون المسلمين داخليـاً وخارجياً في شؤون الحكم ، والجهاد ، والمعاهدات ، وغيرها هو فقط الامير- الخليفة - فهو صاحب الصلاحية في ذلك ، وصلاحيته هذه مقيدة باحكام الشرع . فهو الراعي كما قال عليه السلام (… والامام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته …) ( ) والمسؤولية هنا عامة داخلياً وخارجياً فتشمل كل ما يتعلق بالحرب والسلم والعهد والامان ، والموادعة .. وغير ذلك من شؤون الدولة الخارجية ، او تسمى هذه الايام السياسة الخارجية للدولة .


الفصل الثاني 
الاسباب الداعية لعقد المعاهدات
المبحث الاول : اسباب تتعلق بالحرب والقتال مع الدول المحاربة فعلاً . 
المبحث الثاني : اسباب تتعلق بدول ليست محاربة .
المبحث الثالث : اسباب تتعلق بالافراد والجاليات في بلاد الكفار . 


المبحث الاول 

اسباب تتعلق بالحرب والقتال مع الدول المحاربة فعلاً

الاصل في العلاقة مع الكفار حرباً ، ام صلحاً ( معاهدة ) مبنية على أحكام الجهاد ، ومصلحة المسلمين . فما تقرره الاحكام الشرعية المتعلقة بموضوع الجهاد ، وما تقرره الاحكام الشرعية في تحقيق المصلحة للمسلمين ، هي القاعدة للانطلاق في تحديد ما هو جائز ، وما هو ممنوع في المعاهدات مع الكفار ( وهي المحور الذي ينبغي ان يدور عليه عقد المعاهدات مع العدو ) ، وهذه المصلحة يرجع تقديرها الى خليفة المسلمين او من يفوض في هذه المسالة) ( ) وقد قسم الفقهاء هذه المعاهدات المتعلقة بالقتال الى اربعة اقسام :-
الاول : معاهدات الهدنة المؤقتة ووقف حالة الاقتتال الفعلي .
الثاني : معاهدات تعقد لدفع الأذى عن المسلمين في حالة تعرضهم للخطر الحقيقي .
الثالث : معاهدات تتعلق بشؤون الحرب اما اثناء القتال او بعد المعركة .
الرابع : معاهدات بسبب الوضع الداخلي في الدولة ، اما من اجل الاستعداد للقتال ، او بسبب الفتن . ( ) 
اما الحالة الاولى وهي : عقد المعاهدات المؤقتة من اجل مصلحة الجهاد فهذا مشهور عند فقهاء المسلمين ، ويضربون عليه اكثر من دليل ، مثل فعله عليه السلام في صلح الحديبية .
فصلح الحديبية كان عبارة عن هدنة عسكرية لوضع الحرب لمدة عشر سنوات ، وقد حقق الرسول عليه السلام من هذه المعاهدة مصلحة كبيرة للمسلمين ، وفتح ابواباً للجهاد في مناطق اخـرى ، وقد اورد صاحب كتاب ( العلاقات الدولية ) خمسة فوائد ترتبت على صلح الحديبية ، نذكرها مختصرة من باب بيان ان المعاهدة الاصل فيها ان تكون لمصلحة المسلمين وليس ضد مصلحتهم .
اولاً : اعتراف قريش بالمسلمين في المدينة ، وذلك بتوقيعهم معاهدة معهم .
ثانياً : عزل اليهود عن قريش في الحلف الذي كان بينهم قبل المعاهدة .
ثالثاً : ايجاد رأي عام عند العرب ان محمداً واصحابه اقوياء بدليل اجبارهم قريش لمعاهدتهم.
رابعاً : دخول أناس جدد في الدين الاسلامي رغم وجود بند يردّ من جاء مؤمناً ، وذلك بعد الغاء هذا البند بطلب من قريش ، وبعد حادثة أي بصير .
خامساً : عمل الرسول على خدمة الدعوة للاسلام ، وذلك انه اخذ يبعث الرسل في كل اتجاه للملوك والحكام في باقي الامصار والاقطار ، حيث بعث ( دحية الكلبي ) الى هرقل ، وعبد الله السهمي الى كسرى ، وعمر بن امية الى النجاشي ، ( وحاطب بن بلتعة ) الى المقوقس عامل هرقل في مصر . ( ) 
وفعل الرسول عليه السلام في معاهدة الحديبية ، هو تشريع ، ودليل شرعي على جواز عقد معاهدات الهدنة لوضع القتال مدة من الزمن.
وقد اتفق الفقهاء على ذلك ، واوردوا هذا النوع من المعاهدات تحت عدة مسميات منها : الصلح ، والهدنة ، والوادعة ، المهادنة … وغيرها من اسماء ، وكلها يقصد منها اذا ذكرت في موضوع الجهاد والقتال ( الهدنة ) ، أي: ( معاهدة الهدنة العسكرية ) . 
وهذا النوع كما قلنا يشترط ان يكون فيه مصلحة للمسلمين ، ويرجع تقدير ذلك الى الخليفة ، فهو المفوض بهذا الامر ، وفق قواعد شرعية لهذه الحالة منها :-
اولاً : عدم جوازها مع القدرة على استمرارية القتال لان ذلك ضرر على مجمل الدعوة .
ثانياً : ان يكون هناك جلب مصلحة ، او درء مفسدة في وقف هذا القتال .
ثالثاً : ان تكون محدودة بزمن معين وان لا تكون مؤبدة لان في ذلك تعطيل للجهاد ، على ما سيمر في بحث قادم .
النوع الثاني من معاهدات القتال : معاهدات تعقدها الـدولة لدفع الخطر او الأذى عن المسلمين . وهذا النوع من المعاهدات فيه تفصيل كبير ، فمنهم من اشترط ان تكون المعركة ملتحمة حتى يجوز للخليفة عقده ، بشرط ان يغلب على ظنه ان المسلمين سيهلكون . ( ) ومنهم من قال :- ان غلبة الظن تكفي قبل بداية المعركة ، وما دام الامر موكول للخليفة في تقدير المصلحة ، فالأرجح انه يجوز له ان يعقدها قبل بداية المعركة . 
واشترط فريق ممن اجاز هذا النوع من المعاهدات ان لا يكون هناك مجال لدفع العدو بالحرب والجهاد ، وبتحقيق الضرر الكبير للمسلمين ، او احتلال اراضيهم ، او غير ذلك من مخاطر .
فقد اورد الشافعي في كتاب الام : ( ولا خير في ان يعطيهم المسلمون شيئاً بحال على ان يكفـوا عنهم ، لان القتل للمسلمين شهادة ، وان الاسلام اعز من ان يعطي مشرك على ان يكف عن اهله ، لان اهله قاتلين ، ومقتولين ، ظاهرين على الحق ، الا في حالة واحدة ، واخرى اكثر منها ، وذلك ان يلتحم قوم مـن المسلمين فيخافون ان يصطلموا ( ) لكثرة العدو ، وقلتهم ، وخلة فيهم ، فلا بأس ان يعطوا في تلك الحالة شيئاً من اموالهم على ان يتخلصوا من المـشركين ، لانه من معاني الضرورات التي يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها ، او يؤسر مسلم ، فلا يخلى سبيله الا بفدية فلا بأس ان يفدى لان الرسول صلى الله عليه وسلم فدى رجلاً من اصحابه اسره العدو برجلين ) ( ) .
اما الاحناف فقد اعتبروا ذلك واجباً ، ورد في كتاب فتح القدير : ان عقد معاهدة مع الكفار لدفع الموت عن المسلمين والهلاك واجب باي طريق ممكن ولا يخالف حراماً . ( ) 
اما دليل مشروعية هذا النوع مـن المعاهدات فهو ما ذكره المحدثون ، واصحاب السير من ان الرسول عليه السلام ، طلب الموادعة من ( عينيه بن حصن ) ، على ان يعطيه نصف ، او ثلث ثمار المدينة ( ) وقد علق الامـام ابن العـربي على قوله تعالى : ( واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا … )( ) المتعلقة بحادثة الخندق التي طلب الرسول عليه السلام الموادعة فيها فقال : ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو والاصل في ذلك موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لعيينه بن حصن . ( ) 
وهذه الحادثة قد ذكرها معظم المفسرين ، وعلقوا عليها بجواز المعاهدة بدفع مال للكفار مقابل رجوعهم عن المسلمين ( ) .
النوع الثالث : معاهدات تتعلق بالجهاد بعد انتهاء المعركة والقتال.
وهذه المعاهدات يتعلق موضوعها في الغـالب بالاسرى ، او بمبادلة اراض احتلت اثناء القتال ، او دفع مال مقابل اخلاء الكفار لارض عليها مسلمون او غير ذلك .
فبالنسبة لموضوع الاسرى : فالاسرى هم من يقعون من الاعداء بيد المسلمين ، او من يقع من المسلمين بيد عدوهم .
وتقدير المسلمين للاسرى له ضابط شرعي وهم : ( )
من يقعون في ارض المعركة ، بيد المسلمين من محاربي الكفار ،او من النساء والصبيان .
اما من يقع من المسلمين بيد عدوهم فاننا ننظر اليهم انهم قد وقعوا في الاسر ، سواء اكانوا في ساحة معركة ، او غيرها ، الا اذا وجد هناك عهد مع تلك الدولة على عدم اعتبارهم ، او كان العرف العام بين الدول يحدد ان من يكون خارج المعركة لا يكون اسيراً .
وقد حث الاسلام المسلمين على تخليـص أسراهم مـن يد عدوهم ، فقد ورد في فتح الباري ( شرح صحيح البخاري تعقيباً على قوله عليه السلام : ( فكوا العـاني ، واطعموا الجائع ، وعودوا المريض ( ) فقال : فكاك الاسير من ايدي العدو بالمال ، او بغيره – قال ابن بطال - والفكاك هو التخليص : واجب على الكفاية وبه قال الجمهور . 
وهذا الامر يتطلب معاهدات ، وتبادل وثائق ، ورسل وغير ذلك ، وقد بين الرسول عليه السـلام اجازة هذا . وقال تعالى بشأن ذلك : ( فامّا منّاً بعد واما فداءً حتى تضع الحرب اوزارها ) . والفداء هو فداء الاسرى كما ذكر المفسرون . ( ) 
وهناك نوع آخر تتعلق بانتهاء المعركة ، وهي المعاهدات التي تجري مع العدو لاسترجاع أرض احتلت من قبل الكفار ، او أرض عليها سكان .
فالاموال التي يأخذها الكافر من المسلمين ، يجوز للخليفة أن يفاوض الاعداء عليها من باب الجواز ، بدليل ان الرسول عليه السلام كان سيعطي اموالاً للكـفار في غزوة الخندق مقابل الرجوع عن المسلمين ، وعن اراضيهم ، كذلك فادى الرسول عليه السلام الاسرى بالمال من كفار مكة . أما الارض ، او الارض والسكان ، فانها من القضايا المصيرية للامة ، ويجب على الأمة ان تفاديها ، أو تحررها بالقوة اذا استطاعت الى ذلك سبيلا ، بمعنى انه اذا لم يترتب على تحريرها الحاق أذىً كبير بالمسلمين او اصطلام ، وهذا من باب قاعدة الضرر او دفع الضرر الكبير عن الامة .
فاذا استطاعت الامة تحرير أرضها ، او رعاياها من الكفار دون الحاجة الى أذىً كبير بها ، فانه لا يجوز لها ان تفاوض الكفار على ذلك مقابل المال . لان الجاهد في هذا الحلة يصبح فرضاً لقول تعالى : ( يا ايها الذين أمنو قاتلو الذين يقاتلونكم من الكفّار ولْيجدوا فيكم غلظة… ) ( ) ، ولقوله عليه السلام : ( اجتنبو السبع الموبقات .. وذكر منها التولي يوم الزحف … ) ( ) ولأن اعطاء المال ، مع وجود القوة للمسلمين فيه نهي من الله تعالى : قال تعالى : ( فلا تهنوا وتدعوا الى السلْم وانتم الاعلون… ) ( ) .
اذن يجوز للخليفة ان يعقد معاهدة مع الكفار لتخليـص ارض المسلمين ، او السكان مع الارض . وهذه المعاهدات تكون حسب الشروط التي يشترطها الجانبان بحيث لا تخالف حكماً شرعياً .
والنوع الاخير من هذه الانواع ( التي تتعلق بانتهاء المعركة او تتعلق بالقتال بشكل عام المعاهدات التي تعقدها الدولة بسبب المشاكل الداخلية ابو بالانشغال بإخماد الفتن ) . 
فقد تمر الدولة بحالة من الضعف ، تكون معها غير قادرة على حمل راية الجهاد ابتداءً لفتح الامصار ، او قد تنشغل بامور اخرى ، او فتوحات في مناطق معينة دون اخرى . 
ففي هذه الحالة يجوز للدولـه ان تعقد معاهدات صلح مع مناطق معينة ، على ان يدفعوا الجزية ، او بغير دفع الجزية . ( ) 
وقد فعـل النبي صل الله عليه وسلم حين قبل من وفد أتاه برأسة - يوحنّة بن دؤبة – صاحب ( ايليا ) – فصالحه فأعطاه الجزية ، وأتاه أهل ( جرباء واذرح ) بالشام فأعطوه الجزية فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً جاء فيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمان من الله ومحمد رسول الله إلى يوحنه بن رؤبه وأهل ايليا سفنهم وسياراتهم بالبر والبحر ، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان معهم من اهل الشام ، وأهل اليمن وأهل البحر ، ومن احدث منهم حدثاً فانه لا يحول ماله دون نفسه ، وانه طيب لمن أخـذه من الناس ، وانه لا يحل ان يمنعوا ما لا يردونه ، ولا طريقاً يسلكونه من بر وبحر ) .
فيجوز للدولة بناءً على فعل النبي عليه السلام ان تعقد معاهدات معينة تكون فيها المصلحة للمسلمين بوقف القتال مدة من الزمن ، مقابل ان يدفعوا الكفار المال .( ) 
فيجوز للدولة بناءً على ذلك ان تعقد معاهدات مع الدول الأخرى دون دخول ارضهم ، استعداداً للجهاد ، او ترتيباً للوضع الداخلي في الدولة ، او غير ذلك من اسباب . 
فللدولة ان تعقد هذه المعاهدات مقابل مال او دون مال – الى دون دفع الجزية - حسب ما يتفق عليه الطرفان بما تقتضيه مصلحة الامة . 
هذه بعض النماذج للمعاهدات التي تعقدها الدولة مع دول محاربة فعلاً او حكماً .
وهناك أنواع أخرى لا مجال في هذا البحث للتفصيـل في ذلك ، مثل معاهدات السلاح النووي ، او معاهدات الفضاء الخارجي ، او معاهدات البحار والمرات … او غير ذلك . 

المبحث الثاني 

أسباب تدعو لعقد المعاهدات تتعلق بدول غير محاربة 

هناك نماذج عديدة للمعاهدات التي تعقدها الدولة مع الدول غير المحاربة سنذكر ثلاثة نماذج منها : -
أولاً : معاهدات حسن الجوار وعدم الاعتداء المؤقت .
ثانياً : المعاهدات الثقافية .
ثالثاً : المعاهدات الاقتصادية .
أولاً : معاهدات حسن الجوار وعدم الاعتداء .
الدول كما قلنا اما محاربة ، واما غير محاربة ، او معاهدة . والمحاربة قد تكون فعلاً كأن تكون حالة الحرب الفعلية معها موجودة ، واما بالالتحام ، او غير ذلك من اساليب ، وهذا المثل كاسرائيل ، او امريكيا في العصر الحديث .
اما محاربه حكماً ، فهي الدول التي تتخذ حالة العداء مع الدول الاسلامية ، وتفها لا تعلن الحرب عليها . وليس بينها وبين الدولة الاسلامية أية معاهدات . والدول غير المحاربة هي الدول التي لا تعلن الحرب على المسلمين ، وليس بينها وبين المسلمين معاهدات . مثل اليابان مثلا او سويسرا ، او فنلندا او الدانمارك .
وقد عاهد الرسول عليه السلام أناساً كانوا يشكلون كياناً مستقلاً ، معاهدات حسن جوار ، في المـدينة المـنورة ، وخارجهـا . فقـد عاهد المصطفى عليه السلام معاهدة حسن جوار مع ( اليهود ) داخل المدينة ، وعقد المعاهدات عدم اعتداء ، وحسن جوار كذلك مع بعض القبائل العربية على طريق التجارة .
ففي معاهدة اليهود جاء فيها : ( … وان اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، …. وان يهود بني عون امة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، واليهم ولأنفسهم ، الا من ظلم او اثم ، فانه لا يوقع الاّ نفسه وأهل بيته … ) ( ) .
وامـا ما جاء في معاهدات حسن الجوار مع قبائل عربية في جزيرة العرب ، مثل بني ضمرة .
( هذا كتاب محمد رسول الله ، لبني ضمرة ، بانهم آمنون على أموالهم وأنفسهم ، وان لهم النصر عن من رامهم - الا ان يحاربوا في دين الله – ما بلَّ بحر صوفه ، والنبي صلى الله عليه وسلم اذا دعاهم الى النصر اجابوه ، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله ، ولهم النصر من برَّ منهم واتقى ) ( ) .
فيجوز للدولة بناء على ذلك ان تعقد معاهدات حسن الجوار مؤقته ، لفتره زمنية معينة ، وذلك تحقيقاً لمصلحة المسلمين ، في تامين حدود الدولة ، او تأمين طـرق المواصلات ، او للتفرغ لدول اخرى ، قد تكون المصلحة اكثر في جهادها ، وهذا يكون مع دول غير محاربة فعلاً ، او حكماً . 
ثانياً : المعاهدات الثقافية . 
الثقافة الاسلامية هي :- ما يقع ضمن العقيدة الاسلامية وما انبثق عنها من احكام ، ( فهي تشكل وجهة النظر في الحياة ) .
وقد ورد في تعريفها عند بعض المفكرين . الثقافة : ( هي ما تختص بها امة دون غيرها ، بينما العلم عالمي ، لا تختص به امة دون غيرها ، فيجوز شرعاً اخذ العلوم من أي جهة لانها عالمية ، اما الثقافة فانها لا توخذ الا الثقافة الاسلامية ) .( ) 
وبما انه يجوز اخذ العلوم والمعارف التي لا تتعارض مع الثقافة الاسلامة ( ) ، فيجوز للدولة أن تعقد معاهدات مع دول اخرى ينر محاربة لتبادل هذه المعارف وتحصليها ، وخاصة ان الامة الاسلامية امة علم ومعرفة ، وامة قوة وجهاد ، والقوة لا بد لها من العلم ( وأعدوا لهم ما استطعتُم من قوة… ) ( ) .
فقد تتوصل دولة ما الى اختراع علمي هام في مجال الحرب ، فلا مانع من عقد معاهدات مع الدولة المخترعة لتعليم أبناء من المسلمين هذا الاختراع . وقـد فسر بعض العلماء حديث المصطفى عليه السلام : - ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) . ( ) بان هذا يشمل كذلك علوم الدنيا الضرورية للامة ، كما قال الإمام الغزالي في كتاب الأحياء .
واستدلوا بفعل المصطفى عليه السلام عندما بعث أشخاصاً الى اليمن ليتعلّموا صناعة السلاح.
هـذا بالنسبة للعلوم الجائزة ، اما العلوم المحرمة فلا يجوز ان تعقد معاهدات مع دول لتدريسها . 
واذا ارادات الدولة دراستها من دول اخرى ، لتعرف زيفها ، او ارادت ان تدرسها لابنائها في جامعات الدولة ، فان ذلك يكون ضمن شروط مخصوصة ولأناس مخصوصين .
اما الشروط فهي تركيز الثـقافة الاسـلامية في نفوس المسلمين (اولاً) ، يقول صاحب كتاب ( الإسلام وثقافته الإنسان ) :- كان المسلمين حريصين ان يثقفوا أبناءهم اولاً بالثقافة الإسلامية ، وبعد ان يطمئنوا الـى تركيزها في النفوس يفتحوا ابوابهم لمختلف الثقافات ، وهي الطريقة في التعليم ، تبقى الشخصية الاسلامية في مكانها الطبيعي ، ولكنها تمتاز بصفات خاصة تميزها عن باقي الشخصيات في بني الانسان ( ) .
وخلاصة الامر ، ان المعاهدات الثقافية مع الدول الكافرة التي لا تقيم حالة حرب فعلية مع المسلمين جائزة .
ولا مانع من اقـامة مراكز للمسلمين داخل هذه الدول تتولى شؤونهم ، ورعايتهم وتسهيل معاملاتهم . كذلك لا مانع من اقامة مراكز ابحاث مشتركة مع هذه الدول بشرط ان لا تكون نتائج هذه الابحاث تسبب ضرر عام بالمسلمين ، وذلك كالتأثير في ميزان القوة بين المسلمين والكفـار ، مثل : التوصل الى اختراعات استراتجية في مجال العلوم الذرية ، او حرب النجوم ، او غيرها من الامور التي تؤثر في استراتيجية القوة في المنطقة . فيجوز مثلاً أن تقيم مراكز ابحاث في مجال الزراعة والصناعة ، وخاصة اذا كانت ظروف الدولة مواتية لهذه التجارب اكثر من بلد المسلمين .


النوع الثالث من المعاهدات مع دول غير محاربة :
( معاهدات اقتصادية ) :
لقد احل الله البيع وحرم الربا فقال : ( واحل الله البيع وحرم الربا … ) ( ) ، وكلمة البيع تشمل البيع والشراء لانها في معناها ، وهي عامة في كل بيع الا ما استثناه الشرع من هذا العموم .
والمتاجرة قد أجازها الله تعالى مع المسلم ، ومع الكافر ، بدليل فعل عليه السلام ، وفعل صحابته رضوان الله عليهم ، حيث كانوا يتاجرون في المدينة مع بلاد غير اسلامية . فقد ورد في كتاب ( الاموال في دولة الخلافة ) .. كان العرب قبل الاسلام خاصة قريش يتاجرون مع من جاورهم من الاقطار والبلدان ، وذكر الحق تعالى ذلك بقوله : ( لإيلافِ قريشٍ إيلافهم ، رحلةَ الشتاء والصيف … ) ( ) وكانوا يرجعون من الشام حاملين دنانير ذهباً قيصرة ، ومن العراق دراهم فضية كسوريه ، واحياناً قليلة من اليمن دراهم حميريه ( ) هذا اذا كانت الدولة غير محاربة ، اما ان كانـت محاربة فلا يجوز أي نوع من التعاملات معها مما يشعر بالتطبيع ، او بحسن العلاقات من تجارة ، او ثقافة ، او أي تعاون لان هـذا معناه حسن الجوار ، والتطبيع مع هذه الدولة المحاربة ، ( انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ان تولّـوهم ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) ( ) .
وقال كذلك :( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادّون من حادّ الله ورسوله …) ( ). 
والاصل في العلاقة مع هذه الدول – المحاربة فعلاً – ان تبقى حدود المعاهدات معها فقط في نطاق الحرب والقتال ، ليس غير ، من تجارة ، او صناعة ، او ثقافة او غيرها مما يشعر بالتطبيع وحسن المعاملة .
غير ان المعاملات التجارية مع الدول ( غير المحاربة ) فعلاً ليست كذلك مفتوحة على مصراعيها ، وانما مقيدة بقيود شرعية ، فلا يجوز مثلا بيع ما حرم الله مثل : الخمور ، او الخنزير او غير ذلك مما ورد نص شرعي بتحريمه .
كذلك لا يجوز اعطاء نوع من العلوم او الصناعات عن طريقة التجارة ، وخاصة اذا كانت الصناعات استراتيجية ، تؤثر على ميزان القوة .
فالكفار الاصـل ان لا يؤمن جانبهم حتى وان كانوا غير محاربين . ( ولا تُؤْمنوا الاّ لمن تَبع دينكم … ) ( ) .
وكذلك هم اعداء للمسلمين حتى وان كان معهم علاقات وعهود ، ويخشى ان ينقضوها في أي وقت .
قـال تعـالى : ( الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله … ) ( ) .
وقال : ( ولـن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ( ) .
فالاصل في المعاهدات مع الكفار من ( غير المحاربين ) تبقى على عمومها الا ما استثناه دليل من تخصيص او استثناء ( ) .
فالمعاهدات مع الكفار بشكل عام جائزة ، الا من استثناهم الشرع ، او استثنى المعاملات المحرمة من ذلك .
فاي عهد ، او معاهدة على معاملة محرمة تعتبر باطلة شرعاً ، ولا يجوز إمضاؤها ، مثل معاهدات القروض من الكفار ، ( ) او معاهدات إقامة مشاريع اقتصادية لمصلحة الكفار وليس لمصلحة المسلمين كمشاريع التنقيب عن البترول لصالح شركات اجنبية – بحيث تكون هي صاحبة الامتياز ، وصاحبة الكلمة في التسويق ، وتوزيع الارباح كما هو حال بلاد المسلمين من دول النفط مع الشركات ، مثل شركة ارامكو مثلا ( ) في السعودية .
وكذلك أي عهد على منفعة محرمة غير جائزة شرعاً مثل الاتجار بما حرم الله تعالى .


المبحث الثالث 

اسباب تدعو لعقد المعاهدات تتعلق بالافراد والجاليات والسفراء 

الدول المحاربة فعلاً لا يجوز لنا معها أي معاملـة ، الا المعاملات التي تتعلق بالحرب والقتال ، والهدنة والموادعة التي تتعلق بذلك ، والاصل كذلك ان لا يكون فيها مسلماً يعلن اسلامه ، لان الاصل في المسلم ان ينتقل من دار الحرب الى دار الاسلام ، ويصبح هذا الانتقال واجباً اذا صعب على المسلم القيام بالامور الشرعية .
فقد ورد بشـأن التحول مـن دار الكفـر الى دار الاسلام في حيث ( بريده ) الذي جاء فيه ( … ادعهم الى دار الاسلام ، فان اجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين ، وأخبرهم انهم اذا فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين فان أبوْا ان يتحولوا منها فاخبرهم انهم يكونون كاعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيئ شيء الا ان يجاهدوا مع المسلمين …. ( ) .
وقد عقب على هذا الحديث ( محمد خير ) فقال : ففي هذا النص طلب النبي صلى الله عليه وسلم من اهل دار الكفر اذا اسلموا ان يتحولوا الى دار المهاجرين ، التي كانت هي دار الاسلام من اجل ان يتمتعوا بالحقوق الرعويه ، التي يتمتـع بها المنتمون الى هذه الدار ، ولكنه لم يجبرهم على ذلك وبين لهم انهم يحرمون من تلك الحقوق اذا لم يتحولوا الى دار الاسلام بالتحول اليها والاقامة الدائمة فيها . ( ) 
اما اذا لم يستطيعوا القيام بأحكام الشرع ، قال تعالى : ( ان الذين توفاّهم الملائكةُ ظالمي انفسهِم ، قالوا فيم كُنتم ، قالوا كنّا مستَضْعفين في الارض ، قالوا الم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها ، فاولئك مأواهم جهنّمُ وساءت مصيرا ، الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدانِ الذين لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدونَ سبيلا فاولئكَ عسى الله ان يعفو عنهُمْ وكـان الله عفواً غفوراً ) . ( ) وقد اورد القرطبي اقوالا في هذه الايات منها قول ابن العربي فقال : الهجرة من دار الحرب الى دار الاسلام ، كانت فرضاً في ايام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة باقيه مفروضة الى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح ، هي القصد الى النبي صلى الله عليه وسـلم حيث كان ، فان بقي في دار الحرب عصى ، ويختلف في حالة . ثم اتبع يقول … ( الخروج من ارض غلب عليها الحرام واجب ، لأن طلب الحلال فرض على كل مسلم ) ( ) .
فالاصل في المسلم اذن ان يتحول من دار الحرب الى دار الاسلام ، ويجوز له البقاء بشرط ان لا يعمل الحرام او يجبر على ذلك ، او ان لا يستطيع القيام بالعبادات مما فرض الله .
ويستثى من هذا الفرض ، والحرام المترتب على التقصير فيه من استثناهم الحق في الايات من النساء ، والولدان والمستضعفين ، وغير ذلك .
فهؤلاء الأنواع من المسلمين الذين يعيشون في دار الكفر ، وهناك انواع أخرى من افراد يخرجون طلباً للتجارة ، او طلباً للعلم ، او غير ذلك .
وهناك السفراء والرسل ، وقد ارسل النبي ( عليه السلام ) رسلاً الى الملوك والرؤساء ، وكانت هناك اعراف بين الدول ان الرسل لا يقتلون . وهناك سفراء ورسل كذلك يرسلون قبل بداية المعركة للبلاغ . فقد ورد عنه عليه السلام انه قال : 
( واذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال ، او خلال ، فايتهن ما اجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ….) ( ) ، هكذا فعل المسلمون في عهده عليه السلام ، وساروا كذلك من بعد وفاته . 
وهذا البلاغ يحتاج الى رسول ، وقد يرسل الرسل في اثناء المعركة كذلك ، او يكـون هناك مباحثات مع دولة محاربة فعلاً ، غير معاهدة ، كما فعل الرسول عليه السلام عندما بعث عثمان بن عفان الى اهل مكة في صلح الحديبية ( ) .
وقد يكون كذلك الكفار بعض الافراد كاليات امّا للعلم ، واما لتسهيل تبادلات التجارة ، او لتـأمين ممرات عبور القوافل والركاب والافراد . وكذلك يكون هذا للمسلمين في بلاد الكفار من متعلمين ، او هيئات تجارية ، او دعـاه تبعثهم الدولة بالاتفاق مع الدولة الكافرة . فكل هذه الانواع تحتاج الى معاهدات ، اذا لم يكن هناك عرف عام على التعامل مع مثل حالاتهم .
اما اذا وجد العرف العام ، فيجوز للدولة ان تقبل اذا كان لا يخالف حكماً شرعياً ، وقد قبل الرسول عليه السلام العرف العام المتعلق بالسفراء والرسل ، وكذلك أقر حلف الفضول .
( وحلف الفضول ) .. هو : حلف عقدته قريش لما عادت من حرب ( الفجار ) على ان لا تجد بمكة مظلوما من اهلها ، او من غيرهم من سائر الناس الا قاموا معه حتى ترد اليه مظلمته . وكان بنو هاشم من بين هذه البطون في مكة المتحالفة في هذا الحلف ، حضره من بينهم ( محمد صلى الله عليه وسلم ) ، وكان حلف في دار ( عبد الله بن جدعان ) احد وجهاء قريش . وقد قال الرسول صلى الله عليه : ( لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما احب لي به حمر النعم ، ولو دعيت به في الاسلام لأجبت ) . ( )
وخلاصة الامر ان للدولة ان توقع على معاهدات ، وجدت كعرف عـام بين الدول لا تخالف نصوصاً شرعية ، وتحمي السفراء والرسل ، او الجاليات في بلاد الغير .
كذلك لها ان توقع معاهـدات مـع دول مخصوصة علـى ذلـك لهـذه الاغراض المشروعة ، اما ما حرمه الله من اقامة معاهدات تسمح بالغزو الثقافي ، او اقامة بعثات دبلوماسية تنشر الفساد فهذا لا يجوز للدولة بأي حال ان تسمح به . 




الباب الثالث

المعاهدات المحرمة


الفصل الاول : معاهدات محرمة تتعلق بالجهاد والقتال .
المبحث الاول : معاهدات تقوي كيان الكفار .
المبحث الثاني : معاهدات تنهي حالة الجهاد .
الفصل الثاني : معاهدات لا تتعلق بالجهاد .
المبحث الاول : المعاهدات الدائمة .
المبحث الثاني : معاهدات تتعلق بمحرمات . 
الفصل الثالث : نماذج من المعاهدات المحرمة .
المبحث الاول : معاهدات الصلح مع اليهود .
المبحث الثاني : معاهدات التعاون العسكرية مع دول استعمارية .

الفصل الاول : 

معاهدات محرمة تتعلق بالجهاد 

المبحث الاول :

 معاهدات تقوي كيانات الكفر

الاصل في الايمان والكفر انهما خطان لا يلتقيان ، فالكفر عدو للايمان ، والايمان عدو للكفر قال تعالى : ( ان الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصّدوا عن سبيل الله …)( ) ، وقال : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتـى يردّوكم عـن دينِكم ان استطاعوا …)( ) وقال : ( يرضونكم بأفواهم وتأبى قلوبُهم واكثرهمْ فاسقون …)( ) والقرآن الكريم مليئ بالايات التي تتحدث عن الكفر والكفار ، وعن عدائهم لملة الاسلام ، وبناء على هذه النظره العقيدية لملة الكفر يتحدد الموقف تجاهها وهو موقف العداء والجهاد والقتال ، لا موقف السلم ، او الموده ، والقربى ، او أي شيء يشعر بالالتقاء معهم ككفار .
فأي معاهدات من شأنها حفظ كيانات الكفار ، او حفظ افكارهم ، او تقويتها ، او مساعدتهم في بسط نفوذهم العسكري ، او الفكري فانها تحرم .
فيحرم على المسلمين الدخول في هيئة الامم المتحدة ( ) مثلاً لانها هيئة اسست لخدمة دول الكفر ولحفظ كياناتهم ، وهي عبارة عن تجمع سياسي ، ظاهره فيه الرحمة ، وباطنه من قبله العذاب على امة الاسلام .
اذ ان هذه المنظمة تمثل وجهة النظر الغربية ( الوجهة الرأسمالية الاستعمارية ) ، بما انبثق عنها من مؤسسات ، وهيئات ، مثل مجلس الامن ، الذي يقوم بدوره باعطاء الشرعية الدولية للقرارات الاستعمارية التي تتخذها دول الكفر مثل فرنسا ، بريطانيا ، الولايات المتحدة ، الصين ، روسيا . حيث تشكل هذه الدول ، الدول الدائمة العضوية في هذا المجلس ، وهي صـاحبة القرار السياسي النهائي فيه ، ولها حق النقض الذي يسمونه (الفيتو) .
لذلك يحرم على المسلمين ، - على دولهم ، وكيانهم – التي تدعي الاسلام زوراً وكذباً – يحرم عليها الدخول في هيئة الامم ، او الجمعيات والمنظمات التابعة لها مثل اليونسكو ( ) ، او اليونسيف ….( ) او غيرها .
كذلك لا يجوز للمسلمين ان ينضموا ، او ان يعترفوا بأي قرارات دولية تقر بسيادة وشرعية الدولة القائمة ، سواء اكانت هذه الدول من بلاد المسلمين ، مثل الاردن ، سوريا ، العراق ، الباكستان …… او كانت هذه البلاد من بلاد الكفار وكياناتهم ، مثل امريكيا ، بريطانيا ، فرنسا …. اذ ان الاعتراف بسيادة هذه البلاد ، وبحدودها الثابتة ، هو اعتراف بشرعية وجودها ، وبقائها على هذا الشكل ، واي معاهدة من شأنها الاعتراف بهم وبكياناتهم ، او مؤسساتهم او افكار السقيمة تعتبر باطلة .
ثانياً : معاهدات التعاون العسكري والأحلاف .
ان مظهر التعاون – كما قلنا - بين الاسلام والكفر لا يجوز ، وخاصة اذا كان هذا التعاون يقوي الكفر ، وكياناته . والمعاهدات العسكرية هي احدى اوجه هذا التعاون قديماً وحديثاً .
وشكل هذه التعاونات ان تدخل دولة الخلافة في حلف عسكري عام ، مثلاً مثل حلف الاطلسي ( ) او حلف وارسو ( ) هذه الايام ، او ان توقع معاهدات للدفاع المشترك ، او الحماية ، او الوصاية ، او الانتداب ، او غيـر ذلك مما يجعل للكفار شأن وسبيل على المسلمين ، مما يشعر بوجود التعاون والدعم للكفار من قبل المسلمين وقد وردت ادلة الشرع تنهى وتحرم ، دخول المسلمين في مثل هذه الكيانات اما صراحـة ، واما دلالـة فمن القرآن الكريم قال تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ومن يَتَولّهم منكم فانّه منْهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين ) . ( ) 
والولاية هنا قسمان الاول : يؤدي الى الكفر وهو ولاية العقيدة ، أي ان يوالي المسلم الكافر على دينه فيصبح كافراً مثله ليس من الله في شيء . والولاية الثانية : ولاية الاعمال وهذه ولاية تظهر فيها الاعمال دون الاعتقاد ، وفيها اثم كبير ، ومعصية لله ولرسوله وخيانة للمؤمنين .
قال ( الشوكاني ) في تفسيره : المراد بالنهي عن اتخاذهم اولياء ، ان يعاملوا معاملة الاولياء في المصـادقة والمعاشرة والمناصرة … ( ومن يتوهم منكم فانه منهم ) قـال : أي في عدادهم وهو وعيد شديد ، فان المعصية الموجبة للكفر هي التي بلغت الى غاية ليس وراءها غاية ( ) .
وقال تعالى ايضاً : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء الا ان تتّقوا منهم تقاه ويحذركم الله نفسه والى الله المصير ) . ( ) 
قال ( القرطبي ) في تفسيره : روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ان هذه الاية نزلت في ( عبادة بن الصامت ) وكان بدرياً تقياً ، وكان له حلف مع اليهود ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب ، قال عبادة : يا نَبِي الله معي خمس ماية رجل من اليهود ، وقد رأيت ان يخرجوا معي فاستظهِرْ بهم على العدو ، فانزل الله تعالى هذه الاية ( ) 
وقد كانت افعاله عليه السلام ، واقواله كذلك بياناً لهذه الايات الكريمة ، في عدم قبول الكفار في الحرب ، وعدم الدخول معهم في أي تحالفات عسكرية . 
فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فقال له الانصار : يا رسول الله ، الا تستعين بحلفائنا من اليهود ؟ فقال عليه السلام : لا حاجة لنا بهم ، وفي رواية : لا نستنصر باهل الشرك على اهل الشرك ( ) .
وقد ورد عنه عليه السلام ايضاً انه قال في موضع آخر : ( لا تستضيئوا بنار المشركين ، ولا تنقشوا على خواتمكم عربياً ( ) . 
وقـد كانت العرب تستعمل هذا الوصف كتابه عن المناصرة ، والتقارب. ورد في لسان العرب : ( لا تستضيئوا بنار المشركين ) . قال ابن الاعرابي : النار هنا : الرأي ، أي لا تشاوروهم ، وفي موضع آخر ذكر قال ( ابن الأثير ) : في تفسير قوله عليه السلام ، عندما ذكر الكفر والايمان ( لا ينزل المسلم في الموضع الذي تقابل ناره اذا اوقدها نار مشرك ، لقرب منزل بعضهم من بعض ، ولكنه ينزل مع المسلمين ، فانهم يد على من سواهم) ( ) فهذه الايات الكريمة ، واحاديث المصطفى عليه السلام يفهم منها تحريم دخول المسلم في تحالفات او احلاف عسكرية مع دول الكفر ، وكذلك دخولهم بأي شيء يشعر بالمساعدة والمناصرة . وهناك احلاف عسكرية عالمية هذه الايام مثل حلف الاطلسي مثلاً او حلف وارسو ، او الاحلاف مع اليهود . فكل هذه الاحلاف ، لا يجوز للمسلمين ان يدخلوا فيها ، او ان يطلبوا الانضمام لقواتها العسكرية ، او المشاركة معها في مناورات ، او أي شيء يشعر بذلك . وقد كان لدخول تركيا في بدايات هذا القرن مع الحلفاء ( ) في الحرب العالمية الاولى الاثار المدمرة عليها حيث أدى الى هدم الخلافة الاسلامية نهائياً بعد الحرب سنة 1924.
وادى بعد ذلك الى اقتسام املاك هذه الدولة من قبل الحلفاء ، حيث دخل الاستعمار بلاد المسلمين جميعاً وشرذمها الى دول ودويلات . ( ) وهناك نماذج الآن لمثل هذه المعاهدات المحرمة ، التي تقيم احلافاً عسكرية مـع الكفار – او تعاونـاً عسكريـاً مثل معاهدات ( الدفاع المشترك) والحماية ما بين دول الخليج والولايات المتحدة من جهة ، وكل من بريطانيا وفرنسا من جهة أخرى . حيث اقامت هذه الدول مثل السعودية ، او الكويت ، او البحرين ، قطر …… معاهدات دفاع مشترك ضد العراق . وكذلك من انواع هذه المعاهدات في هذه الايام معاهدات التعاون ( الامني والعسكري ) ما بين تركيا واسرائيل . ( ) حيث وقعت اسرائيل معاهدات للتعاون العسكري والدفاع المشترك ، والتعاون الأمني ضد التطرف والارهاب – حسب زعمهم – وقامت تركيا بالفعل بإجراء مناورات عسكرية مع الكيان اليهودي في البحر الأبيض المتوسط تحت رعاية الولايات المتحدة .
وخلاصة الامر ان جميع انواع التحالفات العسكرية ، ومظاهر التعاون الامني محرمة ، ولا يجوز لبلد من بلاد المسلمين أن يشارك فيها ، او ان يدخل تحت مظلتها الدفاعية . لأنها تجعل اولاً : يداً للكفار علـى المسلمين ، وثانياً : تشعر بالتعاون ما بين الكفر والايمان ، وهو محرم بنصوص الآيات وأحاديث المصطفى عليه السلام . 
وثالثاً : تفتح المجال لدول الكفر بدخول بلاد المسلمين للسيطرة الاستعمارية والاقتصادية والسياسية . 
*المبحث الثاني : معاهدات تشعر بانهاء الجهاد 
والنوع الثالث : من هذه المعاهدات المحرمة ، معاهدات تشعر بانهاء حالة الجهاد ضد الكفار وهـذه المعاهدات لها عدة اوجه منها . معاهدات الاعتراف بالحدود ، او معاهدات الصلح الدائم ، او معاهدات عدم الاعتداء الدائم كذلك . 
فكل هذه الاشكال تعتبر محرمة ، وباطلة شرعاً لانها تنهي حالة الجهاد ما بين المسلمين والكفار ، وايُّ معاهدة من هذا القبيل لا يجوز الاعتراف بها ، ولا التعامل معها .
فمعاهدات الاعتراف بالحدود الدائمة مثلاً : محرمة لعدة أوجه : 
أولاً : الدولة الاسلامية لا حدود لها ، لانها دولة مبدئية نحمل رسالة بالجهاد ، وهذا معناه : انها لا تتوقف عند حدود معينة ، وهذا بالفعل ما حصل في تاريخ المسلمين الطويل ، حيث وصلت فتوحاتها الصين ، والهند ، وجمهوريات روسيا سابقاً ، وأواسط اوروبا ، ومعظم افريقيا وآسيا .
والرسول عليه السلام بشر ان هذا الفتح سيعم وجه الارض كلها عند قيام دولـة الاسلام هذا الزمان ، فقد ورد عنه عليه السلام انه قال : ( ليبلغنّ هذا الامر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر الا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز او بذلّ ذليل ، عزاً ُيعزّ به الاسلام واهله ، وذلاً يذل به الكفر ) . ( ) 
وكذلك روي عنه عليه السلام انه قال : ( سيبلغ هذا الامر ما بلغ الليل والنهار …. ) ، وقال : ( زويت لي الارض أي بمعنى ضحت وجمعت ( ) – فرأيت مشارقها ومغاربها الا وان ملك امتي سيبلغ ما زوي لي منها ) ( ) فهذه الاحاديث وامثالها ، اضافة للآيات القرآنية الكثيرة التي تحدثت عن الجهاد ، وكم تذكر له حدود ، او ارض معينة دون اخرى – كلها تدل على ان الدولة الاسلامية دائمة لها ، وان حدودها تقف عند آخر منطقة يصل اليها المسلمون . 
ثانياً : الاعتـراف بالحدود الدائمة لكيانات الكفار ، هو اعتراف بسلطة الكفار على هذه المناطق ، لان الحدود اصلاً هي عبارة عن حواجز وضعت للمحافظة على مقدرات الدول المادية والمعنوية ، والفكرية ، وغيـر ذلك مما يقبع داخل هذه الحدود من اشكال المدنية ، والحضارة . لـذلك فالدولة الاسلامية لا تعترف بالشرعة الدولية ، التي تعترف بالحدود الثابتة ، والدائمة ، ولا بالمواثيق الصادرة عن هيئة الامم المتحدة ، والتي تحدد استقلالية الاقاليم والدول . ولا تعترف كذلك بالاعراف الدولية التي تمنع الاعتداء على الدول الاخرى ، لان هذا المفهوم هو عبارة عن الغاء الجهاد ، وتأليب جميع الدول ضد الدولة الاسلامية ، عندما تعلن الجهاد على دول الكفر .
ثالثاً : الاعتراف بالحدود الدائمة فيه تعطيل لمفهوم الجهاد وللآيات التي تحدثت عن الجهاد . فالله تعالى يقول : ( قاتلوا الذين يلونكُمْ من الكفّار ولْيجدوا فيكم غِلْظة ) ….( ) 
ويقول : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليومِ الآخِر ولا يحرّمون ما حرّم اللهُ ورسُوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهمْ صاغرون ) . ( ) 
فهذه الايات اضافة الى آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل ، واحاديث كثيرة ذكرها الرسول عليه السلام ، في الحضّ على الجهاد وفتح الامصار لنشر الدعوة فيها – هذه وامثالها لم تذكر مكاناً دون مكان . وانما ذكرت سبباً لاعلان الجهاد وهو ( الكفر ) .
فسبب الجهاد كما ذكره الفقهاء هو : ( كون الذين نحاربهم كفاراً امتنعوا عن دفع الجزية ( ) ، بغض النظر عن مكان وجودهم او عن دولهم ) .
فالدول كلها محل للجهاد باستثناء ما اعلن اسلامه ، وباستثناء من رفع عنه الجهاد بصورة مؤقتة ، بسبب الجزية – أي معاهدة الجزية – او بسبب معاهدة معينة تنهي ، او تضع الجهاد فتـرة زمنية معينة ، فهذه الحالات ترفع الجهاد عن هذه المناطق لفترة مؤقتة .
اما باقي الاقطار فكلها محل لحمل الاسلام ، واعلان الجهاد في سبيل الله .
اما النوع الثاني من المعاهدات التي تشعـر بانهـاء الجهاد ، فهي : ( معاهدات الصلح الدائم ) . 
معاهدات الصلح الدائم ، وما يترتب عليها ، هي معاهدات غير جائزه ، قد ذكرنا الفقهاء في باب الجهاد ، واشترطوا للمعاهدات – كما ذكرنا في باب شروط المعاهدات – ( ) ، ان تكون لها مدة زمنية محدودة . 
اما معاهدات الصلح الدائم فهي مفتوحة دون قيد زمني ، أي : مؤبده من حيث الزمان ، وهذا لا يجوز لعدة اوجه منها ، أولاً : الجهاد ماضٍ الى يوم القيامة لا يُبطله عدل عادل ولا جور جائر ، وقد افرد الفقهاء لهذا باباً سموه ( الجهاد ماض مع كـل أميرٍ براً كان او فاجراً ) ، وساقوا له الأدلة التي تبين ذلك . ( ) 
ثانياً : المعاهدات شرعت لخدمة المسلمين ومصالح المسلمين ، والشارع الحكيم قد قدّر ان من مصلحة المسلمين وضع مدّة معينة لمعاهدات الصلح ، تنتهي ثم تجدّد . 
ثالثاً : معاهدات الصلح الدائم تنهي حالـة العداء بين المسلمين والكفار ، مع ان الاصل هو بقاء هذا الحال حتى يرث الله الارض ومن عليها . 
ولا يجوز انهاء هذه الحالة باي شكل من الاشكال ، بل يجب ان يشعر الكفر دائماً انه محارب من الله ورسـوله والمؤمنين ، وانه على الباطل ، وليـس على الحق ، وان باطله يجب ان يكسر ، ويقهر ، ويغير . 
ومثل هذه المعاهـدات كذلك ( معاهدات عدم الاعتداء الدائم ) ، او ( معاهدات حسن الجوار الدائم ) ، فهذه جميعها تشعر بالرضا عن الكفر وعن كياناته السقيمة ، وعن افكاره الفاسدة . 
( والخلاصة ) ان كـل معاهدة فيها اشعار بانهاء الجهاد ، او تعطيله ، او ايقافه بشكل مؤبد فانه لا يجوز للمسلمين ان يوقّعوا عليها ، و لا ان يعترفوا بها ، ويجب عليهم ان وجدت نقضها في الحال ، وعدم الاشتراك ، او الانضمام تحت لوائها باي حال من الاحوال . 



الفصل الثاني 

معاهدات محرمة لا تتعلق بالجهاد
المبحث الاول : معاهدات الحياد المؤقت والدائم .
المبحث الثاني : معاهدات التجسس لصالح الكفار .


الفصل الثاني : 

معاهدات محرمة لا تتعلق بالجهاد والقتال . 

المبحث الاول :

 معاهدات الحياد الدائم والمؤقت . 

الحياد لغة : ورد في ( لسان العرب ) . حاد عن طريق اذا عدل … والفرس حادت بمعنى تركت الجادة . وحمار حيدي ، أي يحيد عن ظلّه لنشاطه . 
وقال الشاعر : اذا أقحم حاد جراميزه 
 حزابيّةٌ حيْدى بالرِحال 
أي يحمي نفسه من الرماة . ( ) 
فالمعنى اللغوي للحياد هو : الابتعاد عن الشيء ، اذا حاد عن الطريق نقول : ابتعد ، واذا حاد عن رمي القوس نقول : حمى نفسه أي بابتعاده عن المرمى .
امـا معنى الحيـاد حسب العـرف العـام الدولـي فهو : جاء في ( الموسوعة السياسية ) : الحياد بصوره عامة عدم التحّيز لأجلٍ غير محدود ، وهو الرغبة في التحرر والاستنكاف عن مناصرة جانب دون جانب اخر . ومن الناحية السياسية ، يعتبر الحياد امكانية من امكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء اليها ، في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها او لا يتعلق بها بصورة مباشرة .
فقد كانت النزاعات العسكرية تضع الدول المسـتقلة امام خيار سياسي : اما الاشتراك في النزاع والتحالف مع احد الاطراف المتحاربة ، واما الامتناع عن الاشتراك في النزاع والبقاء في معزل عن الاحدات القائمة . وهناك بعض الدول ينسجم معها هذا الخيار لتحقيق منافع مباشرة ، او انها لا تكترث بنتيجة الصراع ، بسبب بعده عن مسرح الاحداث كما كان الحال امريكيا في العزلة الامريكية منذ اعلان مبدأ ( مونرو ) الى عام 1917 . 
وبعض الدول لا تجرؤ على الاشتراك في النزاعات بسبب ضعفها مثل الدانمارك ، حيث اعلنت الحياد سنة 1870 ، وبعض آخر يعتقد ان حياده سيؤمن له مصالح تجاريه ، واقتصـادية هامة ، مثل ( الاتحاد السويسري ، والسويد ) . 
ويمكن وفقاً لآراء علماء القانون التمييز بين نوعين من الحياد : الحياد الارادي ، والمؤقت من جهة ، والحياد الدائم من جهة اخرى. 
اما الحياد الارادي فيكون حين تعلن دولة معينة في حال اندلاع الحرب ، عن رغبتها في عدم الاشتراك فيها ، وبموجب هذا الاعلان الوحيد الجانب ، تلتزم الدولة بتطبيق القواعد والاصول العرفية والتعاقدية للحياد .
ويكون الحياد اجبارياً ، ودائمياً ، حين تكون الدولة ملتزمة ، وذلك وفقاً للتحديد المسبق لصلاحياتها بالامتناع عن كل مشاركة في حرب محتملة الوقوع ، في أي وقت من الاوقات ، وبين مختلف الدول ومهما كانت الظروف التي أدّت الى اندلاعها ، كما تكون ملتزمة بالاحجام عن اتباع أي سلوك او نشاط قابلين لتورطها في النزاع المسلح . (  ) 
هذا بالنسبة لتعريف الحياد من حيث اللغة ، والاصطلاح في العرف الدولي . 
وهناك تبعات تتعلق بالدول المحايدة ، وهناك ايضاً حقوق لهذه الدول ، وذلك حسب القانون الدولي الذي أجاز مثل هذه المعاهدات. 
فمن التبعات على الدول المحايدة :
أولاً : العمل على الحماية ولو عن طريق السلاح . 
ثانياً : مطالبة الدول الاخرى ، وخاصةً المتعهدة منها بحمل الآخرين على فرض الحياد . 
ثالثاً : عدم القيام باي اجراء او عمل اثناء ممارستها لعلاقتها الدولية قد تؤدي الى احراج موقفها ، او تعريض حيادها للخطر . 
اما واجبات الدول الاخرى تجاه هذه الدول المحايدة فتتلخص :
أولاً : احترام سلامة الدولة المحايدة وأمنها . 
ثانياً : مساعدة الدول المحايدة على الحد من صلاحياتها ، وفقاً لنظام الحياد ، وذلك لتامين احترام هذا النظـام ، وتحقيق اهدافه . ( ) 
هذا باختصار مفهوم الحياد حسب القانون الدولي . 
اما بالنسبة لعلاقة المسلمين بهذا الحياد من حيث الأخذ والردّ :- 
فانه يجب على الدولة الاسلامية ، عرض أية قضية من القضايا المتعلقة بافعالها في السياسة الداخلية - في امور الرعايه – او في السياسة الخارجية ( في علاقاتها مع غيرها ) – على مفاهيم الاسلام واحكامه . وانه وللاسف الشديد ، نجد بعض الكتّاب ممن كتبوا في موضوع المعاهدات ، لم يتبعوا طريقة الاسلام في التفكير والحكم على الواقع . 
فقد ورد في كتاب ( المعاهدات في الشريعة الاسلامية والقانون الدولي للدكتور محمود ابراهيم الديك ) . ( ) ( ... فالاسلام لا يبدأ عداوةً مع احد ، ولا ينشىء خصومة بين دولته ودولة أخرى ، لان الله امر المؤمنيـن بقوله : ( ولا تعتدُوا ان الله لايحبُّ المعتدين ) ( ) .
ثم اتبع (…. فلا ينبغي حتماً ان تسود العلاقات بيـن دار الاسلام ودار الحرب عداوة مستمرة ، تتميز بنزاعات مسلحة ، وتفصل بينها هدنات مؤقته ، بل ان تظل العلاقات سلمية في جو يسوده حرية الدعوة ، والاستقامة على الحق ، وهو ما يسعى اليه الاسلام وينشده … فلا مانع في الاسـلام من الاعتراف بالحياد كنظام قانوني ، وذلك للادلة من القران والسنة النبوية وعمل الصحابة رضي الله عنهم ….) ( ) .
وقبل البداية بسرد الادلة التي ساقها الكاتب للاستدلال على صحة ما ذهب اليه ، نقف قليلا عند هذه الاقوال ، ونردها من وجهة نظر شرعية . وقبل البداية بذلك ، اقول : ان للاسلام طريقة في البحث والحكم ، والمحاكمة للاقوال والافعال ، وهذه الطريقة هي طريقة التفكير عند الامة الاسلامية جميعاً ، في السابق واللاحق حتى يرث الارض ومن عليها ، فلا يجوز لها ان تغيرها ، ولا ان تأخذها من غيرها ، واذا ما فقدتها الامة الاسلامية اصبحت تماماً كالسفينة بلا قبطان (ربان) ولا ساري يوجهها حيث تريد ، بـل على العكس من ذلك تصبح ضائعة ، موجهة بطرق التفكير الكافرة .
هذه الطريقة هي : دراسة الواقع دراسة صحيحة لفهم ( مناط ) هذا الواقع ، أي فهم الشيء او الفعل ما هو ؟؟ هل هو خمر ، هل هو سرقة ، هل هو كذا ..؟؟ فيجب اولاً : اصدار الحكم على الواقع ما هو . ثم بعد ذلك البحث في النصوص الشرعية ، التي تناسب هذا الواقع لإنزالها عليه ، ومن ثم اصدار الحكم على الواقع ، هل هو حلال أم حرام ، ام مباح ام غير ذلك من احكـام . فهذه الطريقة ضابطها اولاً : فهم الواقع ، ثانياً : انزال النصّ من العقيدة واحكامها لا من غيرها على هذا الواقع . 
ثالثاً : معرفة الحكم واصداره . هذا من حيث طريقة الاسلام في اصدار الاحكام ، اما بالنسبة لاقوال الاخ الكريم واقواله ، فالقول الاول : ان الاسلام لا يبدأ عداوة مع احد ، ولا ينشىء خصومة بين دولته ودولة غيره ، لأن الله امـر المؤمنين بقوله : ( ولا تعتدوا ، ان الله لا يحب المعتدين ) . 
فهـذا الكلام فيه مخالفة لنصوص الكتاب ، ولأفعال النبي عليه السلام ، اضافة ان هذه الفكرة ، هي فكرةٌ تأثر بها كتاب مسلمون ، في فتـرة ضعف من المسـلمين – لا أقولُ الاسلام – لردّ الاتهام ( الغربي ) عن الاسلام بانه دين عدوان ، ويهدف الى استعمار الشعوب . 
فالقول بان الاسلام لا يبدأ عدواة مع احد ، قول خاطىء . فنحن في تعريفنا للجهاد قلنا ان سبب الجهاد هو : كون الذين نقاتلهم (كفاراً) امتنعوا عن قبول الاسلام ، ( ) فاذا امتنعت دولة عن الدخول في الاسلام ، وعن الخضوع لدولة الاسلام ، او عن دفع الجزية وبقائها خارج نطاق الدولة الاسلامية – وهذا حسب حال المسلمين من حيث القوة والضعف – فانها
أي ( الدولـة الإسلامية ) تحارب الكفار ، حرباً لا هوادة فيها ولا لين .
فالله تعالى قال : ( قاتِلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكُم كافّة ) ….( ) ويقول : ( وقاتلوهم حتّى لا تكون فِتنةُ ويكونَ الدينُ كلّه لله فـانْ انْتَهـوْا فلا عُـدوان الاّ على الظالمين ) ( ) ويقول : ( قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِرِ ، ولا يحّرمونَ ما حرَّمَ اللهُ ورسولَه ولا يدينون دين الحقّ من الذينَ أوتوا الكتابَ حتّى يُعطُوا الجزْيةَ عن يدٍ وهم صاغرون ) . ( ) 
يقول المفسرون في تفسير هذه الآيات : ( وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ) قال ( ابن العربي ) : قال تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله … ) الـى قولـه ( من الذين اوتوا الكتاب ) وهاهنا ( قاتلوا المشركين كافة ) يعني محيطين بهم من كل جهة وحالة ، فيمنعهم ذلك من الاسترسال . 
( وكافة ) كما تقول : شيئاً ولا يبقى بعده زيادة عليه ومثله ، عامة ، وخاصة ، ولا يسثنى شيء من ذلك ، ولا تجمع ثم اتبع … معناه مؤتلفين محتلفين ، فرد ذلك الى الاعتقاد ، ولا يمتنع ان يُرجع الى الفعل والاعتقاد ( واعلموا ان الله مع المتقين ) يعني ، بالنصر وعداً مربوطاً بالتقوى . ( )
ويقول ( القرطبي ) في تفسير قوله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة … ) 
( وقاتلوهم ) امر بالقتال لكل مشـرك في كـل موضـع … وهذا ( رجحه القرطبي على القول الثاني ) انها مقيّدة ، ثم قال : وهو أمرٌ بقتالٍ مطلق ، لا بشرط ان يبدأ الكفار ، ودليل ذلك ويكون الدين لله. وقال عليه السلام : ( أمرتُ ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله ) . فدلت الاية والحديث ان سبب القتال هو ( الكفر ) لانه قال : حتى لا تكون فتنة أي : كفر ، فجعـل الغاية عدم الكفر ، وهذا ظاهر …. قال قتادة وابن عباس والربيع والسدّي : الفتنة هنا الشرك وما تابعه من أذى المؤمنين ( ) .
وقال ( ابن العربي ) كذلك في قوله تعالى : ( وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخِر ، ولا يحرّمونَ ما حرّم الله ورسولُه ولا يدينون دين الحقّ من الذينَ أوتوا الكتابَ حتّى يُعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهُمْ صاغرون ) . 
المسالة الاولى : أمر بمحاربة جميع الكفار ، ( فانهم كلهم قد أطبق على هذا الوصف ) ، من الكفر بالله ، وباليوم الآخر ، حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، أي : من جميع الامم الكافرة بدليل قوله عليه السلام عندما كان يوصي أمراءه على الجيوش ، عن سليمان بن بريدة عن ابيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا أمّر أميراً على جيش او سرية ( اوصاه في خاصته بتقوى الله ، ومن معه من المؤمنين خيراً ) ، ثم قال : ( اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغـلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، واذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خلال ، فأيتهنّ ما اجابوك اليها ، فأقبل منهم وكفّ عنهم : أدعهم الى الدخول في الاسلام ، فان فعلوا فاقبل منهم وكفّ عنهم ، ثم أدعهم الى التحول عن دارهم الى دار المهاجرين ، وأخبرهم بانهم ان فعلوا فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فان أبوْا ان يتحولوا منها فاخبرهم انهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة شيء ، الا ان يجاهدوا مع المسلمين فان هم أبوْا فَسلْهُمْ الجزية ، وان هم اجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فان أبوْا فاستعن بالله وقاتلهم ) . ( ) 
فهذه آيات الكتاب ، وهذه احاديث المصطفى عليه السلام ، في موقف المسلمين من الكفار ، فأنّى للكاتب ، ولغيره من كتاب سامحهم الله ، وألهمهم رشدهم في الحق ، ان يقولوا ( فلا ينبـغي ان تسود العلاقات بين دار الاسلام ودار الحرب عداوة مستمرة ) . فهل هم أعلم أم الله ؟ !.
اما بالنسبة لحرية الدعوة فأيضاً ، هذا الكلام فيه مخالفة لطريقة الاسلام في حمل هذه الدعوة اذ ان الاسلام له طريقة واحدة لحمل الاسلام وهو الجهاد . 
فلو اعطى الكفار حرية التنقل للمسلمين في حمل الاسلام ، ثم طلبوا تركهم دون جهاد معهم ، فان ذلك لا يقبل ، وذلك للادلة التي ذكرنا. ( )
اما الاستقامة على الحق فلا يكون ذلك الا اذا اتبعـت الشعوب الاسلام ، او عاشت تحت سلطان الحق ، ولا يوجد غير ذلك من الحق ، وان وراء ذلك الظلم والقهر والاستعباد .
اما بالنسبة للادلة التي ساقها الكاتب ، للتدليل على جواز الحياد ، فقبل ذكرها نقول : كأن الكاتب يأخذ بفكرة الحياد في – القانون الدولي - ، ويقرّ بشرعيته في الاحكام التي لا تخالف نصوصاً شرعية . والحقيقة انه في موضوع وجهة النظر في الحياة – أي : العقيدة وما اتصل بهـا مـن احكامَ ، لا يُؤخذ من غير الاسلام شيء ، لان الاسلام شامل كامل بما شمل من احكام ، وكذلك بما شمل من اسس فكرية لاعطاء حكم لكل جديد . 
فأي فكرة في موضوع العقيدة ، او في موضوع الاحكام الشرعية يجب ان يُؤخذ من الشريعة فقط ، قال تعالى : ( ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين ) ( ) فمحاولة التوفيق بين القانون الدولي ، وبين نصوص الاسلام هي فكرة خاطئة من اساسها ، وهي التي قادت الكاتب للوقوع في بعض الاخطاء . 
اما بالنسبة للادلة التي ساقها من القرآن ، فالاية التي ذكرها ، هي في موضوع المواثيق والعهود ، او هي بخصوص اناس يتصلون بمعاهدين فقوله تعالى : ( الا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق …) ( ) فموضوعها في المواثيق واحكام المواثيق ، وليس لها علاقة بفكرة الحياد كمفهوم دولي ، على صورته الحالية ، بالشروط الحالية التي ذكرها . ( ) 
وكلمة (متحيز) التي ساقها على اعتبار انها تفيد الحياد ، هذا غير صحيح لانها هنا سيقت بالمعنى اللغوي . أي لم ينحازوا الى جهة دون جهة . 
وذكر في الصفحة التالية : وقد استثنى الله تعالى من الاية من يدخلون دار الاسلام ويخرجون منها ، وهم الذين يتحرّجون ، وتضيق صدورهم ان يقاتلوا المسلمين ، او يقاتلوا قومهم الذين يعادون المسلمين … اولئك الذين يختارون الحياد لوجود ملابسات ، او عهود تجعلهم يضيقون صدراً …( ) 
فهذا النص كذلك لا يفهم منه الحياد الدولي المعروف في القانون الدولي .
اما ادلة السنة كذلك فانها مرتبطـة بالمواثيق ، والعهود وعقود الامان ، التي كان يعطيها الرسول صلى الله عليه وسلم لاهالي المناطق القريبة ، او لبعض الامصار ، سواء دفعت الجزية ، او لم تدفع – فالامر يعود للامام كما ذكرنا – . فخبر سراقة الذي ساقه الكاتب وذهاب خالد معه ، هو في الموادعة ( ) .
وكذلك خبر هلال بن عامر السلمي ، وخبر الحبشة ، وجميع المناطق التي ذكرها الكاتب لا يفهم منها شرعية الحياد . 
وخبر الترك والحبشة ، قد ذكر الكـاتب نفسه انه حديث لا يستدّل به ، ثم بعد ذلك يستدل به على الحياد وهذا تناقض في الرأي ، والحديث هو ( دعوا الحبشة ما دعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم) ( ) ، اما ما ذكره في صفحة 384 : وكذلك اذا مضت المعاهدة على ان يكون إقليم من الأقاليم ، او دولة من الدول ، بحالة حياد دائم بموجب معاهدة فان الاسلام يأمر بالرفأ طالما التزم الطرف المقابل بعدم الاعتداء ، هذا هو الحياد المقرر في الاسلام …
هذا الكلام فيه مخالفة لطبيعة المعاهدات من حيث شروط المعاهدة انها محدودة بزمن وليست مؤبدة ، وقد ذهب الى هذا الرأي جمهور الفقهاء كما ذكرنا ( ) .
بقيت فكرة كذلك في هذا الموضوع ، استدل بها الكاتب على مشروعية الحياد ، وهي فكرة ( السلام العالمي ) ، وان الاسلام يحرص على السلم العالمي .
( وخلاصة القول ان مبدأ الحياد يقرر في الشريعة تبعاً لما تقرّره احكامها ، وتحدده طبيعة النزاع القائم والعلاقة القائمة بين المسلمين وغيرهم وبموجب المعاهدات المحرمة ؛ وكل ما يخدم السلام العالمي ، فان الاسلام يسعى اليه ، ويعمل على تحقيقه ( ) ، قال تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السِلْم كافّةً ولا تتّبعوا خطوات الشيطان … ) ( ) .
الحقيقة ان هذا القول فيه اكثر من خطأ ، الاول : فكرة ( السلام العالمي ) كفكرة استعمارية دعت اليها بعض الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية ، تختلف عن فكرة السلام العالمي الذي يسعى اليه الاسلام . 
فالسلام ، او السِلْم العالمي ، فكرة مستحيلة التطبيق الا اذا سَيَّر العالمَ مبدأٌ صحيح استند اليه ، جميع العالم في حل مشاكله بالعدل ، وهذا غير موجود الا في الاسلام . 
ففكرة السلم العالمي التي نفهمها نحن المسلمين ، هي سيادة مبدأ الاسلام وجه الارض لنشر العدل ، والرحمة ، في ربوعه . وهي غيرها التي يدعوا اليها الغربيون . 
ثانياً : الآية الكريمة مفهومها : أنها خطابٌ لأهل الكتاب ليدخلوا في الاسلام فالسلم هنا هو الاسلام ، وليس الافكار الغربية ، من سلام عالمي او استسلام . 
قال ( الشوكاني ) : قال الجوهري السَلم بفتح السين : الصُلح ، ويذكر، ويؤنث ، واصله من الاستسلام والانقياد . ورجح ( الطبري) انه هنا بمعنى الاسلام ، ومنه قول الشاعر :
دعوت عشيرتي للسَلم             رأيتهم تولوا مدبرين
واخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى :( يا ايها آمنوا ادخلوا في السِلم كافّة ) قال : يعني مؤمني اهل الكتاب فانهم كانوا مع الايمان بالله متمسكين ببعض أوامر التوراة والشرائع التي نزلت فيهم … يقول : ادخلوا في شرائع محمد ، ولا تدعوا منها شيئاً ، وحسبكم الايمان بالتوراة وما فيها . واخرج ابن جرير عن عكرمة ، ان هذه الاية نزلت في ثعلبة ، وعبد الله بن سلام ، وابـن يامين ، واسد ، واسيد ابني كعب ، وسعيد بن عمر ، وقيس بن زيد ، وكلهم من يهود . قالوا : يا رسول الله ، يوم السبت كنا نعظّمه ، فدعنا فلْنُسْبت فيه ، وان التوراة كتاب الله فلنقم بها الليل ، فنزلت الاية . ( ) 
اما بالنسبة لمعاهدات الحياد حسب واقعها الموجود في القانون الدولي ، وفي قوانين هيئة الامم فالحكم الشرعي فيه انه حرام ولا يجـوز اتباعه ، او عقد معاهدة حسب شروطه . وذلك للأسباب التالية : 
أولاً : قانون هيئة الامم المتحدة هو قانون كفر ، واوجدته الدول الاستعمارية لـخدمة مصالحها ، ودعم مشاريعها الاستعمارية في دول العالم ، وقد ظهر في كل النزاعات التي دارت بعد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم ، وعُرضت على هيئة الأمم ، وظهر كذلك في القرارات الدولية التي صدرت عن هذه المؤسسة الاستعمارية ، وخاصة ما يتعلق بها بمسالة القدس ، والعراق .. وباقي البلاد الإسلامية .
كذلك فان الرجوع الى هذه القوانين والأعراف الدولية المنبثقة من هذه المؤسسة إنما هو اعتراف بشرعية هذه الدول وبقوانينها ، ودعم لها فكرياً ، وسياسياً .
ثانياً : فكرة الحياد حسبما نص عليها القانون الدولي ، تجعل لدول العالم الصلاحية في الوقوف في وجه الجهاد ، وفتح بلاد جديدة من دول الكفـر ، التي تتبع الحياد وهذا منصوص عليه في بنود الحياد ( ) .
ثالثاً : واقع الدول من حيث التصنيف الشرعي انها دول محاربة ، او غير محاربـة ، او معاهدة ، ولا يوجد نوع آخر اسمه دول محايدة . فهذا ليس من التقسيم الشرعي ، ولا نعترف به لانه لا اصل له شرعاً ، وهذه من الأخطاء التي وقع فيها الكاتب عندما اعتبر ان كل ما لم يرد نهي عنه فانه جائز ، والصحيح انه كل ما خرج عن شرعتنا وطريقتنا هو غير شرعي مهما كان نوعه ، اذا ارتبط بالحضارة والثقافة . 
رابعاً : وجود دول محايدة في العالم يجعل للجهاد حد يقف عنده ، ويجعل للدول مبرر لتحافظ على نفسها وكفرها ، وهذا بالتالي ينشر الفتنة التي ذكرها الله في قوله :( حتى لا تكون فتنة ) أي حتى لا يسود الكفر ، ويفتن الناس عن دينهم ( وحتى يكون الدين كله لله ) أي حتى ينتشر الإسلام على وجه الأرض . 
فالاعتراف بالحياد انما هو اعتراف بوقف الجهاد عن دول دون اخرى ، وهذا غير جائز مطلقاً ، ولا يقول به الشرع الاسلامي . فآيات الجهاد عامة في كل كافر ، وفي كل قطر لا يدين بالاسلام : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرّمونَ ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغِرون) . ( ) 
خامساً : فكرة الحياد الدائم ، فكرة تتنافى مع فكرة المعاهدات والمواثيق بين المسلمين وغير المسلمين في السياسية الخارجية ، المرتبطة بموضوع الجهاد ، او العلاقات . وقد اوردنا الادلة على تحريم المعاهدات الدائمة ، واقوال الفقهاء في ذلك ( ) .
وخلاصة القول ، ان من ذهب الى جواز قبول فكرة الحياد حسبما نص عليها القانون الدولي ، قد وقع خطأ قبول ما سوى الاسلام ، اذا لم يخالف الاسلام . 
ووقع كذلك في مخالفة شروط المعاهدات ، ووقع في مخالفة واقع الجهاد ، وواقع الدول من حيث الحرب والعهد . 
والرأي الصحيح الذي نراه صواباً ، انه لا يوجد شيء اسمه حياد بالمفهوم الدولي الحالي ، ولا يوجد فكرة اسمها السلام ، او السلْم العالمي ، فهذه فكرة لا تطبق الا في ظل الاسلام فحسب . 
فالحياد لا يجوز للدولة ان توقع على مواثيقه ، ولا ان تدخل مؤسسات تعترف بشرعيته .


المبحث الثاني 

معاهدات التجسس

قبل الحديث عن انواع التجسس ، وعن الاحكام الشرعية المتعلقة بكل نوع ، لابد من فهم التجسس ما هو ، وما هو واقعة ؟؟
معنى التجسس في لغة العرب : التجسس هو اللمس باليد ، اجتسه أي : مسه ولمسه ، والمجسة : الوضع الذي تقع عليه يده اذا جسه . 
وجس الخبر وتجسه : تبحث عنه وفحص . وتجسست الخبر وتحسسته بمعنى واحد ، وقيل التجسس بالجيم ، ان يطلبه لغيره ، وبالحاء ان يطلبه لنفسه ، وقيل بالجيم : البحث عن العورات ، والحاء الاستماع ، وقيل معناهما واحد في طلب الاخبار . 
والجاسوس : العين يتجسس الأخبار ثم يأتي بها . 
والجساسة : دابة في جزائر البحر تجسس الأخبار ، وتأتي بها الدجال ( ) .
فالتجسس إذا هو تفحص الأخبار ، ما يخفى منها وما يظهر ، أي الأسرار ، وغير الأسرار ، فلا بد من العمل حتى يكون تجسساً من التفحص في معرفة الخبر ونقله ، اما تتبع الأخبار ليجمعها ، فهو لا يدققها لغرض الاطلاع عليها ، بل يجمعها لنشرها على الناس ، كمراسلي الجرائد ، ووكالات الأخبار ، فهذا لا يسمى جاسوس ، الا ان يكون عمله التجسس ، واتخذ مراسلته الجرائد والوكالات وسيلة . ففي هذه الحالة يكون جاسوساً لا لكونه مراسلاً يتتبع الأخبار ، بل لكون عمله هو التجسس ، واتخذ المراسلة وسيلة للتغّطية ، كما هي الحال مع كثير من المراسلين ، ولا سيما الكفار الحربيين منهم . 
هذا هو واقع التجسس ، وهذا هو معناه اللغوي الذي فهم من لغة العرب ، أما أنواعه فهي : 
الحالة الأولى : التجسس بين أفراد المسلمين بعضهم على بعض . 
الحالة الثانية : التجسس من قبل المسلمين على الدولة الإسلامية وأجهزتها . 
الحالة الثالثة : تجسس الدولة على رعاياها .
الحالة الرابعة : تجسس الدولة على الدول الكافرة المحاربة .
الحالة الخامسة : تجسس الدولة على دول معاهدة .
الحالة السادسة : تجسس الدولة لصالح دول الكفر على دول الكفر .
الحالة السابعة : تجسس الدولة على رعاياها لصالح دول الكفر . 
الحالة الثامنة : تجسس الدول الكـافرة على الدولة وعلى رعاياها . ( )
هذا من حيث انواع التجسس ، اما من حيث الاحكام الشرعية المتعلقة بهذه الحالات .
حكم الشرع في التجسس 
التجسس هو من أفعال الإنسان ، المتعلقة بها احكام شرعية ، لان الحكم الشرعي كما عرفناه هو ( خطـاب الشارع ) المتعلق بافعال ( العباد ) طلباً او تخييراً ، او وضعاً ،. وبما ان التجسس هو فعل من افعال العباد ، فان هناك احكاماً شرعية تعالج هذا الفعل ، وتضع له احكاماً من حيث الحِلّ والحرمة .
اما في الحالة الاولى – التجسس بين افراد المسلمين – والحالة الثانية ، التجسس من قبل المسلمين على الدولة – والحالة الثالثة – التجسس من قبل الدولة على رعاياها فقد جاءت احكام الاسلام تحرمه . للادلة التالية :-
اولاً : من الكتاب : قال تعالى : ( ولا تجسسوا ولا يغتبْ بعضُكم بعضاً أيحب احدكم ان يأكل لحم اخيه ميْتاً فكرهتموه ) ( ) .
قال ( الشوكاني ) في تفسيره لهذه الآية : التجسس : البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم ، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معاييب الناس ومثالبهم ( ) ، وعندما اراد الرسول عليه السلام فتح مكة ، بعث حاطب ابن ابي بلعته رضي الله عنه كتاباً الى مشركي مكة ، مع امراة ، يخبرهم عن مسير الرسول عليه السلام ، فنزل الوحي على الرسول عليه السلام واخبره الخـبر ، وبعث عليه السلام علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، في طلبها ، فأدركوها عند مكان يقال له ( روضة خاخ ) ، واخذوا الكتاب ونزل قوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا لا تتّخِذوا عدوّي وعدوَّكم اولياءَ تُلقونَ اليهم بالمودّة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجونَ الرسولَ وايّاكم ان تُؤْمنوا بالله ربّكم ان كنْتم خرجْتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مْرضاتي تسرّون اليهم بالمودّة وأنا اعْلم بما اخفيتُم وما اعلنْتم ومن يفعَلْه منكم فقد ضلّ سواء السبيل ) . ( ) 
واما من السنة : فهناك احاديث كثيرة وردت عن الرسول عليه السلام تنهاهم عن تتبع عورات بعضهم ، والتجسس منها : حديث حاطب السالف الذكر : فقد سأله رسول الله صلى الله عليه السلام مستنكراً فعله بعد الايمان فقال : ما هذا يا حاطب ؟ قال يا رسول الله لا تعجل علي … فكون الرسول عليه السلام استنكر الفعل – التجسس من حاطب – والصحابة رضوان الله عليهم كذلك استنكروا هذا الفعل ، لدرجة ان بعضهم اراد ان يضرب عنقه . فقد قال عمر للرسول عليه السلام : دعني اضرب عنق هذا المنافق . ( ) 
وهناك حديث آخر كذلك ، يستنكر فعل التجسس من المسلمين على بعضهم . فقد اورد ابو داوود في سننه ، عن ( فرات بن حيان ) ، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر بقتله ، وكان عينا ( لابي سيفان ) ، وكان حليفاً من الانصار ، فمر بحلقـة من الأنصار ، فقال : اني مسلم . فقال رجل من الانصار : يا رسول الله : انه يقول : اني مسلم . فقال عليه السلام : ان منكم رجالاً نكلهم الى ايمانهم منهم فرات بن حيان . ( ) 
فالتجسس بين المسلمين ، بناء على هذه الأحاديث ، والآيات ، لا يجوز بين المسلمين ، لانه قد ورد النهي المفيد للتحريم في ذلك .
أما تجسس الدولة الإسلامية على الدول الكافرة ، وخاصة الدول المحاربة منها فجائز ، بدليل فعل النبي عليه السلام ، فقد ورد ان النبي عليه السلام صادف رجلين لقريش ، عندما جاء بدراً قبل المعركة . فقال صلى الله عليه وسلم لهما : اخبراني عن قريش ؟ قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذي تراه بالعدوة القصوى والكثيب ( العقنقل ) . وكذلك فعل الرسول عليه السلام في غزوة الخندق . فقد طلب الرسول عليه السلام من الصحابة ، ان يأتوه بخبر القوم ، فقال : من يأتيني بخبر القوم ، وأضمن له الجنة : عندها لم يجبه احد ، فقال عليه السلام لحذيفة : قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ، فذهب حذيفة رضي الله عنه ( ) .
أما تجسس الدولة الإسلامية على الدول المعاهدة ، فلا يجوز ذلك لان المسلمين عند عهودهم ، ووعودهم ، ويجب الوفاء بالمعاهدات كما بينا ( ) ، واما تجسس الدولة الإسلامية على رعاياها لصالح دول الكفر فينطبق عليه احكام التجسس المحرم ، كما انه فوق ذلك خيانة وعماله لدول الكفر ، وهذا لا يجوز . قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمـاناتكم وانتم تعلمون ) ( ) ، وصيانة أعراض المسلمين ، وكل ما يؤدي الى أذاهم هو من الأمانة . بقيت مسألة وهي : تجسس الدول الكافرة على المسلمين وعلى رعاياهم . 
فان كانت الدولة معاهدة فان ذلك يعتبر إخلالاً بالعهد ، ويعطي الحق للدولة الإسلامية ان تنقض عهدها مع هذه الدولة ، لانه قيام بعمل يخالف نصوص العهد ومفهومه . 
اما ان كـان من دول محاربة ، فان الجاسوس له احكام في اقوال الفقهاء ، وهو على الأرجح ( القتل ) . فقد اورد ( د. محمد خير ) ، أقوال الفقهاء في هذا المسألة وخلص الى : ( ان الحكم الأصلي في الجاسوس هو القتل الا بمانع ، والمانع هو الإسلام …) ، وما دام الذمي الجاسوس لم يلتجئ الى هذا المانع ليحميه من القتل – وهو متاح له ، بل مدعوا إليه بالدعوة العـامة للإسـلام – فهـو وحده المسؤول عن مصيره – إذا رأت الدولة الحكم عليه بالإعدام .( ) 
وان الجاسوس من دولة محاربة ، لا تربطها معاهدات ، ولا شروط مع دولة الإسلام ، فانه يرجع امره الى الخليفة ، ويجوز قتله ، على اعتبار انه يعامل معاملة المحاربين في ذلك .
هذا واقع التجسس في الشريعة الإسلامية من حيث معناه الشرعي ، ومن حيث الأحكام المتعلقة به ، وبناء على ذلك لا يجوز للدولة الإسلامية ان تعقد أي معاهدات تتعلق بموضوع التجسس ، سواء اكان مع دول محاربة ضد دول محاربة ، او دول معاهدة ضد دول محاربة ، او غير ذلك من انواع التجسس . فمساعدة الكفار للمسلمين في امور الحرب ؛ ان كانوا كياناً الاصل فيها الحرمة ، اما اذا كانوا افراداً ، يعملون لصالح الدولة الإسلامية فيجوز ذلك ، بدليل ان الرسول عليه السـلام ، قد قبـل قزمان في معركة أحد ، ( وكان كافراً ) ليقاتل مع المسلمين ( ) 
ولكن ذلك يجب ان يحاط بالسرية والحذر ، والمراقبة ، لان الكفار ملة واحدة ، ولا يؤمن جانبهم ، ولا يستبعد ان يتخذوا من ادعاء مساعدة المسلمين ، وسيلة للنفاذ الى معلومات هامة تتعلق بنواحي عسكرية عند المسلمين .



المبحث الثالث 

نموذج من المعاهدات المحرمة


هناك انواع كثيرة من المعاهدات المحرمة في العصر الحديث ، قد قام بها حكام المسلمين بسبب غياب حكم الإسلام ، ودولة الخلافة ، وارتباط هؤلاء الحكام في غالبهم بانظمة كافرة ، اما بالتعامل معها ، واما بقبول مساعدتهم ، واما باشتراك حكام المسلمين في هيئاتهم الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة . 
فمن هذه المعاهدات على سبيل الذكر مثلاً . معاهدة الصلح مع اليهود ، ومعاهدات الحماية من قبل حكام السعودية والخليج ، ومعاهدة التعاون الأمني والعسكري ، بين إسرائيل وتركيا ، ومعاهدات مكافحة التطرف ، والأصولية ، بين جميع الدول في العالم الإسلامي وبين الغرب … الى آخره من معاهدات .
ولكن لضيق الوقت ، والاختصار للموضوع ، سنأخذ نموذجاً من هذه النماذج وهو معاهدة الصلح مع اليهود من حيث اولاً : واقعها .
             ثانياً : دليل حرمتها .
             ثالثاً : واجب المسلمين تجاهها .
وقبـل البدايـة أقول : ان العلاقـة بين الكفار والمسلمين ابتداءً هي ( علاقة حرب لا سلم ، ولا صلح ) ، وموضوع الصلح هو موضوع طارئ وليس أصيلاً ، وقد ذكرنا ذلك عند حديثنا عن موضوع الجهاد ( ) .
اولاً : واقع معاهدات الصلح مع اليهود : 
اليهود هم اشد الناس عداوة للذين آمنوا قال تعالى : ( لتجدَنّ اشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا …) ( ) والذين أشركوا هم النصارى . وقدم الأكثر عداوة وهم اليهود . 
فلا تجمعنا معهم علاقة مودة ولا قربى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادّون منْ حادّ الله ورسوله ….)( ) ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، اليهود اليوم مغتصبون لاولى القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحرمين الشريفين ، وهذا معناه ان تقوم معه علاقة الحرب والجهاد حتى يتم إنقاذ بيت المقدس ، والمسجد الأقصى المبارك ، من دنسهم ، ورجسهم ، وظلمهم . 
أما الشيء الثالث : فان اليهود مغتصبون ، ومحاربون ويسعون في الأرض فسادا ، وهذه صفة من صفاتهم ، حيث اخبر تعالى عنها فقال : ( ويسعون في الارض فساداً … )( )
والحقيقة ان الحديث عن اليهود ، وعن شرورهم يحتاج الى بحث بحدّ ذاته ، ولا يوفيه حقه . كيف لا وهـم الذين تعاونوا مع الإنجليز ( بريطانيا ) قبل الحرب العالمية الاولى لهدم كيان الامة ( دولة الخلافة ) ، وهذا بارز في معظم الشخصيات ، التي برزت آنذاك ، وكانت من اليهود ، ونخص بالذكر ( مصطفى كمال اتاتورك ) . وما زال اليهود يعملون للحيلولة دون عودة نور الله الى الارض ، بكل ما اوتوا من قوة .
واقع معاهدات الصلح مع اليهود :
اول معاهدات الصلح مع اليهود كانت في سنة 1978 م في حكم السادات ، حاكم مصر يومـها ، فكانت مصر مفتاح الشر الذي فتح الباب للنفوس المريضة ، لتلج في هذا الباب .
امـا معاهدة كامب ديفيد ، والتي وقعت في 18/6/1978 ، بحضور رئيس الولايات المتحدة ( كارتر ) آنذالك ، و( ميناحيم بيجن ) رئيس وزراء إسرائيل ، ورئيس مصر ( محمد السادات ) ، فان ابرز نصوصها هي :
القاعدة المتفق عليها للتسوية السلمية – لحل النزاعات بين إسرائيل ، وجيرانها – قرار 242 بكل أجزائه .
هناك بنود تتعلق بالقضية الفلسطينية ، يتم خلالها توفير حكم ذاتي للسكان في هاتين المنطقين ( غزة ، والضفة الغربية ) على ثلاث مراحل ….
اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل – انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء – تتم على مرحلتين أ – مرحلة اولى تتراوح بين ثلاث وتسعـة اشهر ، وتنـص على اقامـة علاقات طبيعية بين مصر وإسـرائيل غداة الانتهاء من مرحلة الانسحاب الاولى …… 
قيام تعاون عسكري وامني بين الولايات المتحدة ، ومصر ، وإسرائيل ، بخصوص الاتحاد السوفياتي …..
معاهدة تعاون أمريكية مصرية ، بعد التوقيع على معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل .
إقامة قاعدة بحرية امريكية في حيفا ، ومنح الأسطول السادس الأمريكي تسهيلات جديدة .
السماح للولايات المتحدة باستخدام إحدى القواعد الجوية التي ستتخلى عنها إسرائيل بموجب اتفاقية ( كامب ديفيد ) … وهناك بنود ومداولات كثيرة تتعلق بهذا الاتفاق لا داعي لذكرها . ( )
وظلت هذه المعاهدة العلنية بين مصر ، وإسرائيل وحيدة ، حتى سنة 1993 م عندما تبع أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية ذلك المنهج الذليل ، ووقعوا على معاهدة ما يسمى باتفاق ( اوسلو ) ، وتنص بنود هذا الاتفاق على ما يلي :
( الاتفاقية فيها مداولات وشروحات طويلة ، لانها جرت خلال أسابيع من الاخذ والردّ ولكن ، نذكر اهم البنود فيها وهي :
اولاً : الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود .
ثانياً : القبول بقراري 242 ، 338 .
ثالثاً : القبول بالتفاوض حول المـرحلة الانتقالية ، والمرحلة النهائية ، والتفـاوض هو الطريقة الوحيدة للوصول الى تسوية سياسة .
رابعاً : نبذ الإرهاب .
خامساً : وقف كافة أعمال العنف والإرهاب .
سادساً : الغاء مواد الميثاق الوطني ، التي تتناقض مع أحقية إسرائيل في الوجود ، او تتعارض مع هذه البنود .
سابعاً : ان ياسر عرفات بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ، مستعد للقاء أي مسؤول إسرائيلي . ( ) 
وهناك أيضا بنود ، وتوضيحات ، وفروعيات في هذا الاتفاق ، ومن اراد الاستزادة فعليه الرجوع الى الكتـب التي تحدثت عن هذا الاتفاق مثل كتاب ( طريق أوسلو ) لمحمود عباس ( أبو مازن ) .
ثم كان بعد ذلك اتفاق وادي عربة مع الأردن ، سنة 1994 م ، وكان كذلك بين اليهود ، وبين الأردن ، وكان من اهم بنوده :
1- محاربة الارهاب والتطرف الاسلامي بجميع اشكاله وانواعه ومظاهره . 
2- التطبيع الكامل في المجال الاقتصادي ، السياحي ، الثقافي … 
3- ازالـة كل ما من شأنه ان يسيء الى الدولتين من الكتب المنهجية في المدارس والجامعات ، وخاصة " ما يتعلق بعداوة اليهود " . 
4- اقامة المشاريع مشتركه في منطقة الاغوار ، بجانب البحر الميت لاستغلال الاملاح المعدنية مثل البوتاس . 
5- هناك بنود واتفاقات تتعلق بتزويد الاردن بكميات من المياه من مجمّع الانهر في المنطقة الخاضعة لليهود قرب بحيرة طبريا . 
وهناك بنود وملاحق تتعلق بالشروحات ، والتوضيحات لهذا الاتفاق. 

حكم الشرع في هذه المعاهدات 
بالنظر الى واقع هذه المعاهدات ، وبنودها ، والاجواء التي وقعت في ظلها ، نحكم عليها بالحرمة للأدلة التالية : 
أولاً : لا يجوز للمسلمين ان يوقعوا معاهدات سلام ومودّه ووئام ، فيها معنى التطبيع ، والتعاون الامني والعسكري وغيره لقوله : 
( لايتّخِذْ المؤمنونَ الكافرينَ اولياءَ من دونِ المؤمنون ….) .( ) 
وقال كذلك : ( يا ايها الذين آمنوا لا تتّخِذوا بطانةً من دونكم ….). ( ) 
والرسول عليه السلام ، رفض المعاونة والمساعده من الكفر ، فكيف اذا كان ذلك من مسلمين لكفار ، فقد قال " لا تستضئيوا بنار المشركين " ( ) وقال : " إنّا لا نستعين بمشرك …" ( ) . ثانياً : لا يجوز للمسلمين – وهم يملكون القوة – ان يوقّعوا معاهدة سلم مع الكفار ، فكيف اذا كان الامر مع وجود اراض مغتصبة ؟! ، وكيف اذا كانت هذه الاراضـي جزء من عقيدة المسلمين ، قال الله فيها : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجدِ الحرامِ الى المسجدِ الاقْصى الذي الذي باركنا حوله …) ( ) . 
فالاصل انه لا يجوز للمسلمين ان يوقعوا معاهدة صلح مع كفّار ، وهم – أي المسلمين – اقوياء . قال تعالى : ( فلا تَهنوا وتدعوا الى السَلْم وانتم الاعلون …) ( ) . 
ثالثاً : لا يجوز لمن لم يخولّه المسلمون ، عن طريق بيعةٍ شرعية ان يتولّى شأناً من شؤون رعايتهم ، لأن الحكم في الاصل ( عقد مراضاه ) بين الامة وبين الخليفة ، عن طريق البيعة ، واذا لم يكن كذلك فيسمى اغتصاب ، والمغتصب لا يجوز له ان يتولى رعاية شؤون الناس ، وأي امر يمضيه او يوقّعه وهو في هذا الحال يعتبر غير شرعيّ ، ولا يلتزم المسلمون به . 
رابعاً : معاهدات الصلح مع اليهود فوق كونها باطله من حيث الاركان ، كذلك هي فاسدة من حيث الشروط ، فهي معاهدات مفتوحة غير محدودة بزمن كما اشترط الفقهاء ، ولهذا اضاف الى بطلانها الفساد الذي يجعلها غير مشروعه اطلاقاً . 
خامساً : معاهدة الصلح مع اليهود ، تجعل السبيل لليهود على المسلمين ، والله يقول : ( ولنْ يجعلَ الله للكفارينَ على المؤمنين سبيلاً )( ) وهذا اخبار جاء في موضع الطب كما ذكر المفسرون لمعناها أي : لا تجعلوا ايها المسلمون للكفار عليكم من سبيل .
سادساً : هذه المعاهدات فيها حرب على الله ، وعلى رسوله ، وعلى المؤمنين ، فالمعاهدات الثلاث ذكرت التعاون الأمني ، ومحاربة التطرف والأصولية ، وفي هذا حرب على حملة الدعوة ، من المخلص من ابناء هذه الامة ، بشتى انتماءاتهم للعمل الإسلامي .
وقد ظهر التطبيق الفعلي لهذه البنود ، في حرب المسلمين في الأردن ، وفي ايداع المئـات من المسلمين في سجون السلطة الوطنية .
سابعاً : معاهدات الصلح مع اليهود ، هي حجر عثرة ، في سبيل قيام دولة الخلافة ، لانها تنهي حالة النزاع بين الحق والباطل ، وتمهّد السبيل للاخاء والمودة بين الأديان ، وهذا ( ان شاء الله ) لن ينجحوا فيه ، لان الامة ما زالت عقيدتها حية ، ومازالت تبغض الكفر ، كما تحب الايمان . فالله يقول : ( يريدون أن يُطْفِئُوا نورَ الله بافواهِهمْ ويأبى الله الاّ ان يُتِمَّ نورَه ولو كره الكافرُون) ( ) ويقول : ( ويمكرُون ويمكرُ الله والله خير الماكرين )( ) .
ويقول : ( وقد مَكروا مكرَهمْ وعندَ الله مكرُهمْ وان كان مكرُهم لتزولَ منهُ الجبالَ ، فلا تَحسبنّ الله مُخْلفَ وعدِه رسُلَه ان الله عزيزٌ ذو انتقام ) ( ) .
هذا باختصار شديـد أهم بنود هذه الاتفاقات ، وبيان واقعها ، وواقع من وقعت معهم من اليهود ، وواقع من وقعوا هذه الاتفاقيات من جانب من يسمّون مسلمون ، وبيان الحكم الشرعي فيها . فهي باطله وفاسده ، لا تستند الى شرع .
موقف المسلمين منها :
اما موقف المسلمين منها : فيجب على كل مسلم ان يرفضها اولاً ، ولا يلتزم بشيء من نصوصها ، ومواثيقها ولا يساعد في ذلك ، لا في تطبيع ، ولا في معاونة ، ولا في أي ما يشعر بذلك . ويبقى حكم من نفذ هذه المعاهدات ، الخيانة لله ولرسوله ولامة الإسلام ، وسيأتي اليوم الذي تدوسهم الأمة بنعالها كما داست غيرهم ، ممن حاربوا الله ورسوله في تاريخ المسلمين الطويل . اما حكمهم في حال قيام دولة الخلافة فهو القصاص ، بسبب الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وهذا حكمـه ( القتـل ) حتـى ولو تعلقوا باستار الكعبة . قال تعالى : ( انّما جَزاءُ الذين يُحاربونَ الله ورسولَه ويسعوْنَ في الأرضِ فساداً ان يقتّلوا او يُصلّبوا او تُقطّع أيديهِمْ وأرجلُهم من خلافٍ ، او يُنْفَوْا من الأرضِ ذلك لهم خزْيٌ في الدنيا ، ولهم في الاخرةِ عذاب عظيم )( ) 

الباب الرابع 

تنفيذ المعاهدات
الفصل الأول : المرجعية في تفسير المعاهدة .
المبحث الأول : المرجعية قبل التنفيذ .
المبحث الثاني : المرجعية اثناء التنفيذ .
المبحث الثالث : التحكيم عند الخلاف .


الفصل الاول :

 المرجعية في تفسير المعاهدات 

المبحث الاول :

 المرجعية قبل التنفيذ : 

الأصل في المعاهدة انها اتفاق مفهوم من قبل الطرفين ، وعباراتها واضحة لا يلتبسها الغموض ، ولا اللبس ، وصريحة كذلك دون أي خفاء في جزئية تحتاج الى تفسير او بيان .
وهذا الأمر ، حتى لا تفسر المعاهدة تفسيراً خاطئاً ، او بعيداً عن المراد ، او تفسيراً يتمشى مع رغبات طرف ، دون الطرف الأخر . 
ولو أخذنا مثلاً على عدم الوضوح من باب الذكر فقط – وليس من باب النقض ، هناك بند في احد اتفاقات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية ، وهو فرع من قرار 242 الصادر عن مجلس الامن يقول هذا البند : ( الانسحاب من أراض احتلت سنة 1967 ).
فكلمة اراض هنا مبهمة تحتمل اكثر من تفسير ، فقد تحتمل جميع الأراضي التي احتلت وقد تحتمل جزء بسيط من هذه الأراضي ، وتحتمل اغلب الأراضي . 
كذلك حصل خلاف في تفسير هذا البند ، ففسرته إسرائيل على انه انسحاب من جزء من هذه الأراضي وليس انسحاباً من جميع الأراضي المحتلة سنة 1967 . 
اما منظمة التحرير، فقد فسرته بأنه انسحاب من جميع الأراضي ، المحتلة في ذلك التاريخ .
هذا من حيث شروط نصوص المعاهدة من حيث الوضوح ، والدقة والكلمات الصريحة ، التي لا تحتمل اكثر من معنى . وهذا كما قلنا من شروط الإيجاب والقبول ومحل العقد من حيث صراحة المعاني ودقتها ، وقد ذكرنا ذلك في موضعه . ( )
اما اذا حصل خلاف قبل تنفيذ المعاهدة ، فان هناك ضوابط شرعية معينة لتفسير ذلك منها : 
اولاً : الأصل في العقود ( الإرادة الظاهرة ) المتمثلة في الإيجاب والقبول فما اندرج تحت مدلولات ألفاظها كان هو المعتبر شرعاً ، ولا قيمة للمقاصد الباطنة لان ما استتر في نفس احد المتعاقدين ، وجهله المتعاقدان ، وعلم الآخر به ، لا يجوز اعتباره ، اما اذا دل شيء على ظهور هذه المقاصد الموجودة ، لدى احد المتعاقدين ، وعلم الاخر بها ، فان المقاصد تؤخذ بعين الاعتبار . ( )
ثانياً : اذا تعارض تفسير لبند من بنود المعاهدة قبل تنفيذها – مع نص من نصوص الشارع او أي حكم شرعي ، فان هذا التفسير يُردّ ويلغى ، مهما كان الامر ، حتى ولو الغيت الاتفاقية جميعها . 
فمثلاً اذا وقعت الدولة على وضع الجهاد مدة من الزمن ، وفهمها عدوها انها مدة مفتوحة مثلاً ، او تتجدد تلقائياً كما هو في العقود ، فان هذا البند يلفى نهائياً ، ولا يقبل ، لانه يلغي مفهوم الجهاد من الشرع . 
فالأصل في المعاهدة ان تدرس دراسة واعية من قبل المسلمين قبل التوقيع عليها ويجب ملاحظة ما يلي من قبل لجنة مختصة في ذلك : اولاً : صراحة العبارات ووضوحها بشكل لا يقبل تأويلاً ، ولا تحريفاً ، ولا تفسيراً واي كلمة ، او عبارة لها اوجه من التفسير تشطب ويؤتى بعبارة اخرى لا تحتمل ذلك .
ثانياً : مراجعة المعاني وملاحظة ان هذه المعاني لا تتعارض مع أي حكم شرعي ، او نص في كتاب او سنة ، واذا وجد ذلك شطب ذلك دون تردد .
ثالثـاً : ملاحظـة العبارات المتعلقة بالعقد من حيث الإيجاب والقبول ، وأركان العقد ، وشروطه ، وشطب أي كلمة فيها احتمال التأثير على انعقاد العقد مثل ، عبارات التسويف ، او التأجيل … او غير ذلك . 
امـا اذا وقع الخلاف بعد هذه الضوابط ، فان المرجعية في التفسير هي الى :
أولاً : اللغة العربية ، واهل الاختصاص في هذه اللغة ، ولا مانع من الرجوع الى معاجم اللغة العربية ، واختيار لجنة لترجيح المعنى.
ثانياً : يرجع الى اللجنة التي حضرت كذلك . 
والى محاضر التوقيع الاولى وينظر ان وجد فيها ما يفسر كلمة معينة او عباره ( ) .
ثالثاً : المرجع الاول والاخير ، والاعتبار الاول والاخير هو للشرع الاسلامي في الامضاء ، او الرجوع عن هذه المعاهدة . 






المبحث الثاني : 

المرجعية اثناء التنفيذ

بعد ان ذكرنا الضوابط اللازمة للتوقيع على اية معاهدة ، مع ذلك فقد يحصل الخـلاف اثناء التنفيذ ، اما عن قصد وتعمّد من قبل العدو ، واما عن جهل ، بسبب جهلهم في احكام هذا الدين ، او بسبب غياب تفسير بند من البنود تفسيراً كاملاً . فالإنسان يبقى إنسان يعتريه النقص ، والنسيان رغم الحرص الشديد ، وقد حصل في معاهدة الحديبية كما سنرى رغم حرص الرسول عليه السلام ، واصحابه على ذلك . وقبل ذكر المرجعية في تفسير ما حصل خلاف عليه ، يحب ان تلاحظ أمور معينة منها : 
أولاً : وضع المسلمين من حيث الضعف والقوة .
فاذا حصل خلاف مع الكفار حول بند من البنود ، وكان تفسير الكفار ظاهر فيه الاعوجاج ، ومع هذا لا يخالف نصّاً شرعياً ، رغم الظلم الواقع على المسلمين ، فان لخليفة المسلمين ان يمضي ما يقوله الكفار ، ويوافق عليه رغم اعوجاج التفسير له . لان مصلحة المسلمين تقدم في هذه الحالة ، وخاصة اذا كان فيها صوناً للاعراض ، والدماء ،. اما اذا كان في المسلمين قوة فلا يُقبل أي انحراف ، ولا اعوجاج من الكفار في تفسير ما اتفق عليه ، وأي خلل في ذلك يلغي الاتفاق ، وهذا من باب قوله تعالى : ( فلا تهنوا وتدْعوا الى السَلْم وانتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم …) ( ) .
ثانياً : ان أي تفسير لاي بند من البنود ، يُعتبر غير مقبول اذا تعارض مع الشريعة ، حتى وان كان التفسير صحيحاً ، وغاب عن المسلمين أثناء التوقيع . ( ) 
ثالثاً : اختيار هيئة او لجنة من أهل الاختصاص ، ولا مانع ان تكون من الطرفين ، او من طرف اخر غير الدولتين الموقعتين على الاتفاق . ويشترط عليهم شروط في التفسير . ( ) رابعاً : يرفض أي طرف للتفسير ، يغلب على الظن عداوته للإسلام ، او يغلب على الظن ارتباطه بدول عدوة للإسلام ، مثل ( هيئة الأمم المتحدة ) وما تفرغ عنها من لجان ، ومؤسسات ، او( محكمة العدل الدولية ) ( ) ، التي تتسبب في النزاعات هذه الايام . فمثل هذه الهيئات والمؤسسات التي يشعر المسلمون انها عدوة لهم لا يقبل رأيها ، ولا تتخذ اداة للتحكيم بشأن أي معاهدة . وهذه اهم الامور التي تلاحظ أثناء تفسير المعاهدة ، والخلاف الحاصل بشأن ذلك .
وقد حصلت امثلة عملية للخلاف في عهد (المصطفى عليه السلام) ، بعد ان وقع المسلمون على معاهدة الحديبية .
ففي معاهدة الحديبية وقع الرسول عليه السلام على بند مفاده : على انه من أتى محمداً من قريش بغير اذن وليه ، رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردّوه …..( ) .
ولكن الرسول عليه السلام ، رفض ذلك التزاماً بحكم الله في تلك الحادثة ، فالتزم قوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا اذا جاءَكمُ المؤمنات مهاجراتٍ ، فامتحنُوهنّ الله اعلم بايمانهن ، فان علمتموهنّ مؤمناتٍ فلا تَرجعوهن الى الكفّار لاهُنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم ان تنكحوهِنّ اذا اتيتموهنّ اجورهنّ ولا تُمسكوا بعصم الكوافر وسْئلوا ما انفقوا ذلكم حكم الله يَحكمُ بينكم والله عليم حكيم ) ( ) .
قال الامام ( القرطبي ) في تفسير هذه الايات : قال ( ابن عباس ) : جرى الصلح مع مشركي مكة عام الحديبية ، على ان من أتاه من اهل مكة رده اليهم ، فجاءت ( سعيدة بنت الحارث الاسلمية ) بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية بعد ، فاقبل زوجها وكان كافراً – وهو ( صيفي بن الراهب ) وقيل مسافر المخزومي- فقال : يا محمد أُردد عليّ امرأتي فانك شرطت ذلك ! وهذه طينه الكتاب لم تجف بعد ، فانزل الله هذه الاية ، وقيل جاءت ( ام كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط ) ، فجاء اهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يرْددها . وقيل هربت من زوجها ، ومعها أخواها عمارة ، والوليد ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها ، وحبسها ، فقالوا للنبي ردّها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم ، ( كان الشرط في الرجال لا في النساء ) ، فانزل الله الاية : ( يا ايها الذين آمنوا اذا جاءكم المؤمنات ….) ( ) .
ففي هذه الحادثة ، حصل خلاف بعد توقيع العهد ، ولكن هذا الخلاف ، كان المرجع الاول في تفسيره هو نصوص الشرع ، وابى الرسول عليه السلام ان يقبل أي شيء سوى ذلك ، مع انه عليه السلام قد قبل ذلك ، ان يمحو من المعاهدة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، وقبل ان يمحو ( محمد رسول الله ) ، وكذلك قبل عليه السلام الشرط برد الرجال ان جاءوا مؤمنين ، ولكنه مع هذا ابى ان يقبل تفسير المعاهدة برد النساء ، ورد اهل مكة على ادبارهم خائبين.
هذا ما يتعلق بمسألة تفسير المعاهدات قبل التنفيذ ، او أثناءه ، والضوابط الشرعية التي يمكن ان تتخذ في سبيل ذلك ،. والحقيقة ان الموضوع يترك امره ، من حيث الأساليب الى ولاة الامر من المسلمين ، لتقدير المصلحة التي تعود بالخير على المسلمين ، وفي نفس الوقت لا تخـالف الشريعة ، فأي اسلوب يراه الامام في التفسير ، او المرجعية ، فيه مصلحة اكبر للمسلمين فان له الخيار ان يتّبعه .
المبحث الثالث : مسألة التحكيم لحل الخلاف 
اذا وصلت الامور الى طريق مسدود ، في تفسير معاهدةٍ ما ، او بند من بنودها ، واقتضت المصلحة للمسلمين بقاء المعاهدة وعدم حلها ، فان للدولة الاسلامية ، ان تقبل بمبدأ التحكيم ضمن شروط معينة منها : اولاً :عدم قبول التحكيم من أي جهة تعلن العداء للمسلمين ، او نقيم حرباً فعليةً معهم ،لان مقتضيات الحرب ، لا تجعل هناك طمأنينة عند المسلمين من قبل هـذا الطرف ( كذلك فان الأصل ان لا تقوم أيُّ علاقة مع الكفار خارج نطاق الحرب والجهاد ) وأيضا فان قبول هؤلاء في التحكيم إنما هو اشعار لهم بالخضوع والضعف. ( ) 
ثانياً : كما قلنا لا تقبل أي مؤسسة أو هيئة تحمل التابعية لدولة معادية ، او تحمل العداء للمسلمين ، او تتلقى التوجيه ، او الدعم المادي والمعنوي في ذلك . لان هذا مدعاة للتدخل من قبل هذه الدُول في مثل هذه المؤسسات .
ثالثاً : مبدأ التحكيم يجب ان يكون مشروطاً ، بعدم مخالفة الشرع ، لان جعله مفتوحاً ، يوقع المسلمين في حرج مخالفة التحكيم ، وقد يؤلب هذا دولاً اخرى على المسلمين تنتصر لمبدأ التحكيم الذي حصل .
رابعاً :لا يلجأ للتحكيم في حالة قوة المسلمين ، وانما تأخذهم العزة من قوتهم وبإسلامهم ، ويرفضوا ما يرونه احجافاً وظلماً ، او مخالفة شرعية دون الرجوع الى أي جهة . 
خامساً : تحدد نقاط معينة للتحكيم من حيث أ- اللغة وطريقة تفسيرها .
                     ب- من حيث المعاني الباطنة وطريقة تفسيرها .
والمعاني الباطنة نقصد ما يرتبط منها بأحـكام أخرى ، او بمعاهدات ، او بنوايا منطوية عند طرف معين .
بعد هذه الضوابط يمكن للمسلمين ، باتفاق مع الطرف الآخر ان يعينوا جهة للتحكيم تنظر في محاضر الاتفاق الأولي ، وجلساته وتنظر في جميع بنود الاتفاق المحددة ، والموقع عليها من قبل الطرفين ، وتجري الاستشارات المكررة ، مع العودة لكل طرف في السؤال والاستفسار عن نقاط ، وملاحظات ( ) .
بعد ذلك تصدر لجنة التحكيم هذه المتفق عليها بيانها في الخلاف ، ويكون هذا البيان ملزماً ، لا يجوز للدولة الاسلامية الرجوع عنه لانه يكون تماماً كالمعاهدة . 
هذا ما يتعلق بالمعاهدات بالنسبة لطريقة تفسيرها ، والمرجعية في ذلك قبل التنفيذ وأثناءه ، وطريقة حصر الخلاف ، وانهاءه بين الطرفين المتعاقدين .
والاصل كما قلنا التزام المسلمين بعهودهم وبشروطهم ، وما وقعوا عليه . لان المسلمين عند عهودهم ، وعند وعودهم ، التزاماً بقوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود ….) ( ) .
    



الباب الخامس 
انحلال المعاهدة
الفصل الاول : انحلالها قبل التنفيذ .
المبحث الاول : اسباب تدعو لحلّ المعاهدة قبل تنفيذها .
المبحث الثاني : كيفية انهاء المعاهدة قبل التنفيذ .
المبحث الثالث : ما يترتب على انهائها قبل التنفيذ .
الفصل الثاني : انحلالها اثناء التنفيذ .
المبحث الاول : اسباب تدعو لحل المعاهدة اثناء تنفيذها .
المبحث الثاني : كيفية انهاء المعاهدة اثناء تنفيذها .
المبحث الثالث : ما يترتب على انهائها قبل التنفيذ .



الفصل الاول :

 انحلالها قبل التنفيذ 

المبحث الاول :

 اسباب تدعو لحل المعاهدة قبل تنفيذها .

الاسلام كما قلنا دين الوفاء ، ودين الالتزام بالعهد والميثاق ، ولكن قد تدعو اسباب شرعية لإنهاء المعاهدة وحلها قبل تنفيذها منها : 
أولاً : وجود شرط في المعاهدة يجوّز للمسلمين نقض المعاهدة ، في الوقت الذي يرونه مناسباً ، وقد يكون هذا الوقت المناسب قبل بداية التنفيذ ، وذلك لتحقق مصلحة في نقضها وحلها . ( ) 
وعندما تحدثنا عن شروط المعاهدة ، ذكرنا ان الامام ( الشافعي ) رضي الله عنه ، قد اشترط هذا الشرط من اجل مصلحة المسلمين ، أي اشرط ان يعود امر الغاء المعاهدة في أي وقت لخليفة المسلمين. فاذا وجد هذا الشرط ، فيجوز للامام ، ام من ينيبه الامام ، ان يخبر القوم بنبذ العهد قبل البداية بتنفيذه ، وذلك لوجود مصلحة اكبر في ذلك للمسلمين .
ثانياً : قيام العدو ، او المعاهد بتفسيرات تخالف نصوص المعاهدة ، وصريح العبارة فيها ، مع وجود قوة في المسلمين ، فلا يعطوا الدنيّة في ذلك ، ويردوا عهدهم اليهم ، وهذا التفسير يكون قبل بداية التنفيذ ، والامر في ذلك يرجع الى الامام ، حسبما يرى من مصلحة ايضاً . 
فمثلا : تشترط المعاهدة عدم القيام باي استفزاز من جانب العدو ، اثناء معاهدة هدنة ، ويأتي الكفار ويقولون : هذا مستثى منه ، القيام بمناورات على الحدود ، او في اجواء مشتركة … او غير ذلك . ويفسر المسلمون ذلك بانها استفزازات ، ويفسرها الكفار بانها اعمال عادية ، فهنا ، يجوز للخليفة ان ينهي المعاهدة معهم قبل تنفيذها ، ويجوز إمضاؤها حسبما يرى من مصلحة ( ) .
ثالثاً : قيام الطرف الثاني ( المعاهد من الكفار ) برد المعاهدة قبل تنفيذها ، وذلك لمأرب في نفوسهم . فهنا يجب على الامام انهاء العهد رأسا دون تردّد ، وارجاع الامر الى سابق عهده من حيث الحالة التي كانت قائمة ( ) .
رابعاً : الخوف من خيانة القوم ، قبل تنفيذ المعاهدة ، لوصول خبر من طرف ما ، مسلماً ، او غير مسلم ، وحصول غلبة الظن عند الامام ، ان العدو يريد الخيانة ، فهنا ايضاً يجب نبذ العهد لقوله تعالى : ( ) ( وإما تخافَنّ من قومٍ خيانةً فانبِذْ اليهم على سواءْ انّ الله لا يحبُّ الخائنين … ) ( ) .
هذه بعض الحالات الـتي تدعو الى نبذ العهد قبل تنفيذه ، وهناك اسباب وحالات اخرى غيرها ، وانما ضربناها كأمثلة لا للحصر .


المبحث الثاني :

 كيفية انهاء المعاهدة قبل التنفيذ 

الكيفيات ان كانت مرتبطة بالطريقة كبيان لها ، فلا يجوز تغييرها إلى كيفية أخرى ، أو مخالفتها ، لأنها أصبحت من أحكام الطريقة ، فقتل القاتل مثلاً : هو حكم شرعي ثبت شرعاً كعقوبة للقاتل ، قال تعالى : ( ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرفْ في القتل انه كان منصورا ) ( ) .
والكيفية التي يقتل بها القاتل هي قطع الرأس بأي وسيلة تحقق هذه الكيفية ولا يجوز مخالفتها مثلاً باطلاق الرصاص ، أو بالحقن أو غير ذلك ، والرسول عليه السلام عندما طبق الكيفية ، طبقها بطريقة ثابتة ، وهي قتل القاتل بأي وسيلة تتحقّق فيها سهولة القتل ( ) .
اما ان كان الامر من الاسـاليب فيجوز تغييره حسبما تقضيه الحاجة ، كالتعزير مثلاً ، لم يجعل الشرع له طريقة ثابتة ، وانما جعل للإمام تقديره حسب واقع الجريمة ، وحسب حال الشخص وما يردعه ، فقد يكون السجن ، وقد يكون الضرب … وقد يكون غير ذلك . 
وهناك كذلك في نبذ المعـاهدات طريقـة ثابتـة ، وأسـاليب ، أما ( الطريقة ) فهي وجوب النبذ ، وابلاغ القوم بذلك اذا لم تحدث عمليّة النبذ الفعلي من طرفهم ، وذلك لقوله تعالى : ( واما تخافَنّ من قومٍ خيانةً فانبِذْ اليهم على سواءْ انّ الله لا يحبُّ الخائنين )( ) 
وهذا الطلب يفيد الوجوب ، لانه ترتب عليه وصف اعتبر قرينه على الوجوب ، وهي الخيانة والمعنى أي ان من نبذ دون إبلاغ فإنما هو خائن ، والخيانة حرام . 
أما الأسلوب في البلاغ ، فقد يتبع الخليفة أساليب شتى ، حسبما يرى مقتضى الحال مثل :- 
أولاً : إرسال رسول الى الطرف الآخر : إمّا مشـافهة ، واما كتابة ( أي بتحميله كتاب ) وهذا اذا لم يخش من الطرف الآخر الغدر . 
وقد كان عليه السلام يستخدم الرسل في نقل المعلومات للأعداء ، سواء لحمل الدعوة او كسفراء اثناء الحرب قبل المعركة وخلالها . وكان خلفاءه كذلك يبعثون من يفاوض العدو أثناء المعارك . 
ثانياً : هناك طرق متقدمة اليوم مثل استخدام وسائل الاعلام المسموعة ، والمرئية ، مثل المرنان ، والمذياع . فيمكن عن طريق بلاغ عسكري ، ابلاغ الخصم بذلك ، وخاصة اذا كانت الدولة محاربة فعلاً . 
ويمكن كذلك ان يكون عن طريق الإنترنت ، او التلغراف ، او أي وسيلة ناقلة تمكن العدو من سماع رأي المسلمين في نبذ العهد . 
ثالثاً : قد يكون عن طريق اللجنة المحايدة ، التي شهدت توقيع المعاهدة ، فيمكن للدولة ابلاغ اللجنة بقرارها ، وتكلف حمل هذه الرسالة الى الطرف الاخر ، وتكلف كذلك بعقد اجتماع مشترك ، او تنيبه الدولة في ذلك ، وهذا يكون غالباً في الدول غير المحاربة فعلاً ولا يخشى منها الغدر . 
وهناك اساليب كثيرة ، ومتعددة ، تنظر الدولة ما يناسبها منها ، وما يحقق لها المصلحة ، فتختار منها ما تشاء . 

المبحث الثالث : 

ما يترتب على انهاء المعاهدة قبل التنفيذ . 

بعد انهاء المعاهدة ، والتيقن ببلوغ الطرف الآخر ، أن المعاهدة قد انتهت ، تعود الامور كما كانت قبل المعاهدة ، وقد تكون الامور احدى حـالات منها أولاً :عودة الحرب الفعلية ، ان كانت المعاهدة ( هدنة عسكرية ) ، وفي هـذا تأخذ الدولة كامل استعداداتها الحربية ، اما لتلقى الخصم ، او لغزوه ، كما فعل هارون الرشيد عندما غزا الروم في عقر دارهم ( ) ، وكما فعل المعتصم عندما غزا عمورية وفتحها .
او كما فعل الرسول عليه السلام عندما هاجم بني قريضة ، بعد نقضهم العهد ، واجلاهم عن ديارهم . ( )
ثانياً : قد تكون الدولة معاهدة ، والتي ألغيت معاهدة اخرى ، ففي هذا الوضع يبقى العهد القديم على حاله ، ولا ينقض ، لانه لم يوجد سبب شرعي ينقض العهد ، وتجري عليه احكام الوفاء الالتزام بالعهد .
وهذا يكون غالباً في غير الحرب ، من الامور المدنيّة ، فقد تكون الدولة معاهدة ، معاهدة اقتصادية ، ثم تعاهد معاهدة ثقافية ، فتلغي المعاهدة الثقافية ، وتبقى الاقتصادية الى مدتها . 
ثالثاً : قد تترتب حقوق معينة لصالح الدولة الإسلامية ، او لصالح الخصم ، مثل أموال دفعتها الدولة المحاربة ( في معاهدة هدنة ) ، او قد يكون حقوق معينة أدتها الدولة الاخرى ، او الدولة الإسلامية قبل تنفيذ العهد . 
فمثلا في معاهدة حمص ، اخذ المسلمون الأموال من اهل حمص ، كجزية ، وعندما ذهبوا عنهم ، واتجهوا الى منطقة اخرى ( أي عندما انهوا المعاهدة ) أعادوا إليهم أموالهم ( ) .
ولو فرضنا ايضاً ان الدولة الإسلامية دفعت أموالاً مقابل معاهدة عدم اعتداء ( هدنة مؤقتة ) فان هذه الأموال الأصل ان تعود للمسلمين ، وان يطالبوا بها .
هذه اهم الحالات ، التي ترد بعد نبذ المعاهدة قبل التنفيذ ، فكل شئ يعود كما كان قبل توقيع المعاهدة ، الا كما قلنا ، ( اذا ترتبت حقوق مالية ) ، فيجب الوفاء بها سواء كان ذلك للدولة نفسها ، التي عاهدت ، او للجان الصياغة التي شاركت ، واشرفت على المعاهدة. 



الفصل الثاني :

 انحلال المعاهدة اثناء التنفيذ . 

المبحث الاول :

 اسباب تدعو لحل المعاهدة اثناء التنفيذ

الاسباب التي تدعو لحل المعاهدات اثناء تنفيذها كثيرة ، وتحتاج الى مبحث مستقل ، ولكن نقف عند اهم هذه الاسباب وباختصار شديد .
أولاً : الاخلال باي شرط من شروط المعاهدات ، او انتقاص شئ منها ، فأي خلل يحصل من جانب الطرف الاخر المعاهد ، في أي بند من بنود المعاهدة ، يعطي الأحقيّة لخليفة المسلمين ان ينهي المعاهدة ، ( ) كذلك أي انتقاص من شروطها ، او بنودها ، أيضاً يعطي الحق للخليفة بإلغائها .
فمثلا ، اذا عاهد المسلمون قوماً على حماية منطقة من طرفهم ، وأخلّوا بهذا الشرط ، وسمحوا للعدو باستخدام المنطقة الآمنة من جهتهم ، فان للخليفة ان ينهي العهد معهم ، ويعتبره خيانة .
واذا عاهد المسلمون دولة على جعل منطقة معزولة السلاح على مساحة ( 100000) دونم على الحدود ، وانتقص الكفار هذه المساحة فجعلوها ( 90000) دونم ، كذلك للخليفة ان ينهي العهد .
ثانياً : ان يقوم الطرف الاخر المعاهد باعمال صريحة ، تدل دلالة واضحة على نقض العهد .
فمثلا : اعلان حالة الحرب اثناء انعقاد المعاهدة ، او الوقوف في صف دولة اعلنت حـالة الحرب على الدولة الاسلامية قال تعالى : ( وان نكثوا ايْمانهمَ من بعد عهدِهم وطعنُوا في دينكم فقاتِلوا ائِمّة الكفر انّهم لا أيمانَ لهم لعلهم ينتهون ، الا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدءُوكم أول مرّة ، أتخشونهُم فالله أحق ان تخشوْه ان كنتم مؤمنين) ( ) .
قال ابن العربي في تفسيره : جعل الحق تعالى نكث الأيمان ، والطعن في الدين بمجموعها شرطاً فـي نقض العهـد ، ونكث الايمان استدل لها ، بفعـل معـاونة قريـش ( بنـو بكر ) ، على ( خزاعة ) وهم حلفاء ( النبي صلى الله عليه وسلم ) فاعتبر ذلك نقضاً للعهد . 
اما الطعن في الدين فاستشهد له بمن اظهر ( سب النبي عليه السلام) من اهل العهد نـاقضاً للعهد ، اذ ان سب الرسول اكثر من الطعن في الدين .
ومما يحتج به كذلك ما روى ( ابو يوسف ) عن ( معين بن عبد الرحمن ) عن رجل عن ابي عمران ، ان رجلاً ، قال له : اني سمعت راهباً سبّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : لو سمعته لقتلته ، انا لم نعطهم العهد على هذا . ( ) 
وقال في تفسيره للآية ….. ومراد هؤلاء الذين ذكرنا ، وسائر رؤساء العرب الذين كانوا معاضدين لقريش على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقتال المسلمين ، فأمر الله بقتالهم ، وقتلهم ، ان هم نكثوا ايمانهـم وطعنوا في دين المسلمين ، وقوله ( انهم لا أيمان لهم ) معناه : لا أيمان لهم وافية موثوقاً بها . ( ) 
ثالثاً : الخوف من خيانتهم للعهد بغلبة الظن .
ففي هذا المجال اذا وصل لولي الامر او ينيبه بطريق مباشر او غير مباشر ، عن طريق المسلمين ، او عن طريق غيرهم ، حصول غلبة الظن في ذلك . 
يقول الدكتور ( محمد علي الحسن ) في كتابه العلاقات الدولية ( ولا يجوز التمسك بالتقين في نبذ العهد ، ونقول : لا ننبذ العهد حتى نتأكد باطلاق العدو نيرانه ، لعمر الحق ، انها الحماقة التي تؤدي بصاحبها الى ان ينتحر بحماقته ونار أعدائه ) ( ) .
يقول ( سيد قطب ) رحمه الله بن في ( الظلال ) : ان الإسلام يعاهد ليصون عهده ، فاذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد ، القائم جهرة وعلانية ولم يخن ولم يغدر …..
( ان الله لا يحب الخائنين ) ….. ويجب ان نذكر ان هذه الاحكام كانت تنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع الى مثل هذا الافق المشرق . 
لقد كان قانون الغابة هو : قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان . قانون القوة ، التي لا تتقيد بقيد متى قدرت ، ويجب ان نذكر كذلك ان قانون الغابة ، هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك ، الى القرن الثامن عشر الميلادي ( ) . 
رابعاً : ان يقوم الطرف الاخر ( المعاهد ) ببعث خبر للمسلمين انه قد نقض العهد بينه ، وبينهم ، وذلك عن طريق رسول ، او عن طريق وسيلة ثانية ، فقد بعث حاكم الروم ( نقفور) الى هارون الرشيد رسالة عن طريق رسول يخبره فيها قائلاً : اما بعد فان الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام البيدك وأقامت نفسها مقام الرخّ فحملت إليك من أموالها ما كنتَ اولى بحمل أمثالها إليها ، لكن ذاك ضعف النساء ، وحمقهن ، فاذا قرأت كتابي هذا ، فاردد ما حصل قِبَلك من أموالها ، وافتد نفسك بما يقع به المصارره لك والا فالسيف بيننا وبينك .
فلما قرأ الرشيد ، استفزه الغضب ، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من هارون الرشيد امير المؤمنين ، الى نْقفور كلبِ الروم ، فد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ، والجواب تراه دون ان تسمَعه . والسلام ) ( ) .
هذه بعض الأسباب التي تدعو الى نبذ العهد مع الكفار اثناء تنفيذ المعاهدات ، والمنطق الذي تركز عليه هذه الأسباب جميعاً قائم على أسس هي :
أولاً : مصلحة المسلمين في الإمضاء ، او الترك ، وهذا اذا كان هناك مجال للامضاء او الترك ولا يمس شرعاً . 
ثانياً: الوفاءُ والالتزام ، انطلاقاً من ديننا الذي يحافظ على العهود والوعد ، ولا يغدر ولا يخون .
ثالثاً : لحاق الأذى بالمسلمين نتيجة الغدر ، او غلبة الظن في ذلك . 


المبحث الثاني : 

كيفية انهاء المعاهدة اثناء تنفيذها . 

كيفية انهاء المعاهدة اثناء التنفيذ ، يرجع الى واقع الحال بالنسبة للدولة المعاهدة ، ان كانت اصلاً قبل المعاهدة في حالة حرب فعلية – أي كانت معها المعاهدة ( معاهدة هدنة ) – او كانت في الاصل دولة معاهدة ، وكانت المعاهدة جديدة ، في موضوع جديد . كأن نكون قد عاهدت اقتصادياً ، ثم عاهدت ثقافياً .
فبالإضافة للحالات التي ذكرناها في بحث انهاء المعاهدة قبل التنفيذ ايضاً .
أولاً :اعلان حالة الحرب المباغتة اذا كان انهاء المعاهدة نتيجة غدر : او اعلان حالة الحرب الفعلية ، فان هذا بمثابة انهاء المعاهدة ، وانهاء جميع ما يتعلق بها من حقوق ، وواجبات .
يقول د. محمود الديـك في كتابه ( المعاهدات في الشريعة الاسلامية ، والقانون الدولي ) : فذا حكم بانتقاض عهد الدولة المهادنة بسبب من اسباب النقض ، المعتبر عند الفقهاء ، فانه يترتب على ذلك انقضاء احكام الهدنة ، وزوال ما يثبت لهم من العصمة في الانفس ، والاموال والذراري ، وانتهاء الامان ، الذي كان ثابتاً بعقد الهدنة ، ويترتب على ذلك ان تصبح دولتهم محاربة اذا اعتبر النقض في حق الجميع ، وكذا الحكم فيمن اعتبر النقض في حقهم دون غيرهم) ( ) .
وقد اعلن رسول الله ( صلى الله عليه السلام ) الحرب على اهل مكة عندما نقضوا عهدهم ، بمناصرتهم خزاعة على بني بكر ، وجاء بعد ذلك رسول بني بكر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبلغه بنقض بنو بكر للعهد . (  ) 
وكذلك اعلن الحرب على بني قينقاع عندما اعتدوا على امرأة مسلمة في سوق الصاغة (الذهب) واعتبر الرسول ذلك نقضاً للعهد وخاصة بعد مناصرة اليهود لليهودي المعتدي . ( ) ثانياً :نبذ العهد دون اعلان الحرب : فقد تكون الدولة في حالة لا تمكنها من اعلان الحرب ، نتيجة انشـغالها بفتوحات في مناطق اخرى ، فتنقض العهد ، وتبقي الامر مفتوحاً مع الكفر على مصراعيه ، مع بقاء لهجة التهديد والوعيد لهم حتى تسنح الظروف المواتية لذلك .
ثالثاً : قد تلجأ الدولة الى مبدأ ( الخدعة ) انطلاقاً من قوله عليه السلام : ( الحرب خُدعة ) فلا تحرك الدولة ساكناً حال نقض الكفار للعهد ، وخاصة اذا كانت منشغلة ، حتى اذا سنحت الفرصة انقضت عليهم ، وقاتلتهم في عقر دارهم وتطبق فيهم قوله تعالى : ( فامّا تثقفنّهم في الحرب فشّردْ بهم منْ خلفَهمْ انّهم لا أيمْان لهم لعلهم ينتهون) ( ) وقوله : ( الا تقاتلون قوماً نكثوا ايمانهم وهمّوا باخراج الرسول وهم بدؤوكم اول مرة …..) . ( ) 



المبحث الثالث :

 ما يترتب على انهاء المعاهدة اثناء التنفيذ :

ان الغاء المعاهدة اثناء التنفيذ ، وزوالها يترتب عليه تبعات اكثر من الغائها قبل التنفيذ ، والسبب ان هناك تبعات معينة بسبب التنفيذ ، مثل نقل اموال ، او نقل معدات ، او وجود بعثات عسكرية ، او علمية .. او غير ذلك ، وقد يكون هناك عقود امان لأناس معينين داخل حدود الدولة المعاهدة ، وقد يكون هناك عملية تبادل اسرى - تمت لطرف دون الاخر - ، او اقتطاع اراضي من طرف قبل طرف آخر ، وقد توجد اموال مدفوعة من طرف الى طرف حسب نصوص المعاهدة ، ولم تتم منفعة مترتبة على المعاهدة بقدر هذا المال ، كأن يكون المال بسبب هدنة عسكرية ، ينهيها الطرف الثاني قبل الزمن المضروب .
ويمـكن الحديث عن هذه الحالات وغيرها بايجاز ضمن النقاط التالية :-
أولاً :المعاهدات العلمية ، والاقتصادية ، وغير ذلك مع دول غير محاربة . فهذه الـدول تطالب بما اتفق عليه ، ان كانت هناك منشآت ، او نفقات قـد قدمها طرف معين في اراضي الطرف الاخر ، فكل ما يترتب عليه خسارة مالية تُطالَبْ به الدولة التي نقضت العهد ، لأنها هي المتسببة بهذه الخسارة .
ثانياً : ان كان هناك رعايا لدولـة في دولة اخرى ، دخلوا اثناء المعاهدة ، فهؤلاء يحافظ عليهم . والسبب انهم قد دخلوا بعهد ، فيبقوا في ذمة العهد .
وان نقضه اتباعهم – الدولة التابعون لها – فانهم يردون الى دونهم ، وهذا كله من باب الالتزام والوفاء بالعهد .
ثالثاً :المعاهدات غير المنقوضة تبقى على ما هي عليه ، لانه لم يتم نقضها ، الا في حالة الحرب الفعلية ، لانها باعلانها لحالة الحرب على المسلمين ، فان أي معاهدة تعتبر لاغية معهم . ويطرد من البلاد كل من له صلة بالدولة المعاهدة من خبراء ، وعسكريين أو غير ذلك من الذين دخلوا حال العهد . 
رابعاً :الاموال التي دفعت على شكل ( الجزية ) فان هذه الاموال ان كان انهاء المعاهدة من جانب المسلمين فانها تُرد اليهم ، وان كان النقض من جانبهم فانها تبقى ، لان الجزية هي أحكام شرعيّة أخذت لسبب معين ، وهو امتناع الكفار عن الدخول في الإسلام مع بقائهم تحت سلطان المسلمين ( ) فان ذهب عنهم المسلمون ، اعيدت اليهم أموالهم .
خامساً :ان كان النقض من جانب الكفار ، وهم في حالة ( هدنة ) ، ثم أعلنوا الحرب الفعلية ، فان جميع رعايا الدولة الناقضة للعهد من الذين دخلوا دار الاسلام ، بعد النقض دون علم من المسلمين ، فانهم يؤخذون كأسرى ، ويعاملون معاملة الاسرى . 
وتطبق في حق ذلك البلد جميع الاجراءات المتعلقة بالحرب الفعلية ، في الحدود والمعابر ، والقتال وغير ذلك … 
سادساً : ان كانت الدولة المعاهدة دولة محاربة ، وقد اخذت منها دولة الخلافة مالاً مقابل رجوع المسلمين عنهم ، ورأت الدولة ان المصلحة تقضي نقض العهد ، وكان هناك شرط يجوّز للمسلمين ذلك ، فان الدولة ترد اليهم ما اخذت من مال ، وهذا من باب الوفاء بالعهد وبشروطه ، لان ( المؤمنين عند شرطهم ) . ( ) 
سابعاً : تعيد الدولة حالة الاستنفار ، والاستعداد كما كانت قبل المعاهدة ، وخاصة مع الدول المحاربة فعلاً ، وهذا من باب قوله تعالى : ( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ….) . ( ) 
هذه بعض الأحكام التي تتعلق بانهاء المعاهدات ، وقد استعرضناها باختصارْ .


الخاتمة 

لقد تتبعنا في هذا البحث المتواضع بأبوابه الخمسة ، موضوع المعاهدات في الشريعة الاسلامية ، ورأينا عظمة هذا الدين وشموله لمعالجات الانسان جميعاً ، بما فيها الناحية السياسية في علاقة المسلمين بغيرهم من شعوب . 
ورأينا كذلك عظمـة هذا الدين ، والتزامه بأحكامه الشرعية ، ووفائه ، وصدقه ، وامانته بما وضع لذلك كله من احكام ترعى كل ذلك وتطبقه .
وفي هذا البحث – المعاهدات – رأينا الوفاء بأصدق صورة ، واجمل معاينة ، والتي يفتقدها بنو البشر هذه الايام .
والاجمل من ذلك كله ، رأينا عظمة هذا الدين في الحفاظ على مصالح المسلمين ؛ اموالهم ، واعراضهم ، ودمائهم . وقد رأينا ان المعـاهدات كانت طريقة واحكاماً شرعية تُمكّن الراعي ( الخليفة ) من تحقيق هذه الغاية . 
ان هذا البحث يقودنا للقول : ان احكام هذه الشريعة هي وحدها القادرة على قيادة البشرية قيادةً سليمة ، صحيحة ، تأخذ بيدها الى برّ الامان ، وتنقذها مما هي فيه من خيانة ، وكذب ، واستعمار ، وتسلط ، واستعباد للشعوب .
ففي هذا البحث رأينا ان الاسلام يتخذ من المعاهدات وسيلة ، وطريقة لخدمة مصالح المسلمين في الجهاد ، لتحقيق السعادة للبشرية بنقل الاسلام اليهم ، وليس هدفه المال ، بدليل ان المسلمين اعادوا المال كما رأينا لاهل ( حمص ) ، وليس هدفهم الثروات ، بدليل ان المسلمين خرجوا من ( سمرقند ) بعد ان فتحوها ، وذلك التزاماً بحكم شرعي كما رأينا . 
والشيء المهم في هذه الخاتمة ، ونركز عليه – هو ما خلصنا اليه في هذا البحث – ( ان الامـة الاسلامية لتحتاج الى من يرعى شؤونها ؛ الى ( دولة تطبق الاسلام داخل بلاد المسلمين ، وتحمله رسالة خير وهدى الى البشر ، وتطبق احكام المعاهدات ، والهدنة ، والامان ، وغير ذلك ) .
فقد رأينا في بحثنا ان كل امر من امور المعاهدات ، يحتاج الى خليفة المسلمين ، الذي يرعى شؤون المسلمين في الداخل والخارج . 
لذلك آمل ان يكون بحثي هذا دافعاً لما يلي : -
أولاً : للتمسك بأحكام هذا الدين والعضّ عليها بالنواجذ ، وزيادة الثقة بها .
ثانياً : العمل على ايجاد من يقوم بتطبيق الاسلام بكامل احكامه ، ومنها السياسية في المعاهدات .
ثالثاً : ان يكون عِلْماً جديداً يضاف الى من سبقونا في هذا الموضوع . ينتفع منه المسلمون ، ويدفعهم الى اكمال الطريق في البحث والتنقيب . 


واخيراً : نسأل الله تعالى ان ينفعنا بهذا البحث
وان ينفع المسلمين به ، والله يجعله في خير ان حسناتنا .
وان يهيء لهذه الامة من يطبق هذا الدين كما امر الله .
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
ابو المعتصم / بيت المقدس-2002م

0 تعليق:

إرسال تعليق