أصول التشريع الاسلامي





أصول التشريع الاسلامي


 

المبحث الأول: القرآن الكريم.

القرآن الكريم هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي وهو كلام الله سبحانه وتعالى والموحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام وهو المعجزة البيانية الخالدة الذي لا يأتيه الباطل من حوله، ومن خلال هذا المبحث نتطرق لتعريف القرآن الكريم ثم تبيان بعض خصائصه وأحكامه وحجيته عليها.

المطلب الأول: ماهية القرآن الكريم.

أولا: تعريف القرآن الكريم.

  1. القرآن في اللغة: مصدر قرأ بمعنة تلا، أو بمعنى جمع، نقول قرأ فلان قراءة وفي هذا يقول عز وجل «وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا» فعلى المعنى الأول تلا يكون مصدر بمعنى إسم المفعول، أي بمعنى متلو وعلى المعنى الثاني جمع يكون مصدرا بمعنى إسم الفاعل أي بمعنى جامع لجمعه الأخبار والأحكام ويمكن أن يكون بمعنى إسم المفعول أيضا، أي بمعنى مجموع، لأنه جمع في المصاحف والصدور.
  2. تعريف القرآن في الشرع: كلام الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: «إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا» وباللغة العربية والمنقول عنه إلى يومنا هذا متواثرا بلا شبهة، الموجود بين دفتي المصحف، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس. وقال تعالى: «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون». ورغم أن القرآن الكريم غني عن التعريف فإنه عرف مجموعة من التعاريف نذكر البعض منها رغم أنها لا تخرج عن التعريف أعلاه.
    «القرآن كلام الله تعالى المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس»
    «القرآن كلام الله الموحى به إلى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام باللغة العربية، المنقول بالتواثر، المعجزة لفظا ومعنى، المتعبد بتلاوته الموجود بين دفتي المصحف المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس».
    هذه التعاريف رغم إختلافها في الصياغة فهي لها نفس المعنى ومنها يمكن إستخراج مجموعة من الخصائص التي يتميز بها القرآن الكريم.

    ثانيا: خصائص القرآن الكريم.

    يمتاز القرآن الكريم بخصائص عديدة منها:
  3. أنه كلام الله عز وجل الموحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: تعني هذه الخاصية أن القرآن ومعانيه كلاهما منزل من عند الله تعالى فهو النظم والمعنى جميعا أي أن القرآن الكريم إسم لكل من النظم المعجز والمعنى المستفاد وهو ما عليه الأئمة الأربع، وظيفة الرسول إنما هي تلقيه عن الله تعالى وتبليغه إلى الناس وبيان ما يحتاج إلى البيان.
    أن القرآن الكريم وحي من عند الله بألفاظه وبمعانيه العربية وهذا ثابت بالقرآن نفسه الذي جاء فيه: «وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين» وقال عز وجل: «وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها» فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان إلا تاليا للقرآن الكريم ومبلغا له ومبينا ما يحتاج إلى البيان وهذا يدل على أنه:
    - ما نزل على الرسول من وحي بالمعنى والمضمون دون اللفظ لا يعتبر قرآنا بل يعتبر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
    - تفسير القرآن الكريم لا يعد بقرآن مهما تم إحكام هذا التفسير.
    - ترجمة القرآن الكريم إلى لغة غير العربية لا تعد قرآن كريم ولا يعتد بها ولا يصح الإعتماد عليها لإستنباط الأحكام ولا يمكن الصلاة بها.
  • حكم ترجمة القرآن الكريم.
    قبل إعطاء حكمها لابد من الإشارة إلى أن الترجمة نوعان ترجمة حرفية وترجمة معنوية.
    الترجمة الحرفية هي ترجمة الآية كلمة بكلمة وهذه الترجمة مستحيلة عند أهل العلم وهي ممنوعة شرعا.
    الترجمة المعنوية: هي ترجمة معاني القرآن الكريم فهي جائزة في الأصل لأنه لا محظور فيها، وقد تجب حيث تكون وسيلة إلى إبلاغ القرآن والإسلام لغير الناطقين باللغة العربية، لأن إبلاغ ذلك واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا مع إشتراط.
  • أن لا تجعل بديلا للقرآن الكريم.
  • أن يكون المترجم عالما بمعاني الألفاظ الشرعية في القرآن.
  • أن يكون عالما بمدلولات الألفاظ في اللغتين المترجم منها وإليها.
    ولا تقبل ترجمة معاني القرآن الكريم إلا من مأمون عليها بحيث يكون مسلما مستقيما في دينه.
    2- نزول القرآن كان منجما:
    يعني أن القرآن الكريم نزل مفرق في مدى ثلاث وعشرين سنة وهي سنوات الرسالة المحمدية التي بلغ فيها رسالته عليه السلام وقد نزل البعض في مكة والبعض الآخر في المدينة المنورة.
    الحكمة من نزول القرآن منجما أي مفرقا هي:
  • تتبث فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
  • تحدي المشركين والرد عليهم.
  • تيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه.
  • مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع ومراعاة النسخ.
    3- القرآن الكريم إبتدائي وسببي النزول.
    ينقسم نزول القرآن إلى قسمين:
    إبتدائي: هو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه، وهو غالب آيات القرآن ومنه قوله تعالى: «ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين»
    سببي: وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه ويكون إما سؤال يجيب عنه عز وجل كقوله تعالى: «يسألونك غن الآهلة قل هي مواقيت للناس والحج» أو حادثة وقعت تحتاج إلى بيان وتحذير مثل قوله تعالى: «ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب» الآيتين نزلتا في رجل من المنافقين قال في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله وأصحابه، فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن فجاء الرجل يعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبه: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» أو فعل وقع يحتاج إلى معرفة حكمه مثل قول عز وجل «قد سمع قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير».
    بالإضافة إلى أنه إبتدائي وسببي النزول فهو مكي ومدني، ما نزل على الرسول بمكة هو مكي وما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة هو مدني. أي ما بعد الهجرة وقبل الهجرة.
    4- القرآن الكريم منقول إلينا بالتواثر.
    ومعنى التواثر في عرف فقهاء الإسلام القدامى والمحدثون أن القرآن نقله إلينا جمع عن جمع يمنع العقل تواطؤهم على الكذب أو الوهم وبذلك هو يفيد القطع واليقين بصحته دون أي خلاف أو شك ويعتبر عن هذا بأن القرآن قطعي الثبوت بأنه مصدر أول وأصلي في بيان حكم الشريعة الإسلامية، كما أن الله عز وجل أراد إلى القرآن الحفظ من عنده من كل تحريف أو تغيير وقال أعز قائل: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».
    5- القرآن الكريم محكم ومتشابه.
    يتنوع القرآن الكريم بإعتبار الإحكام والتشابه إلى ثلاث أنواع:
  1. الإحكام العام الذي وصف به القرآن كله، مثله قوله تعالى: «ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير» ومعنى هنا الإحكام والإتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه فهو في غاية الفصاحة والبلاغة، أخباره كلها صدق نافعة، ليس فيها كذب ولا تناقض، ولا لغو، وأحكامه كلها عدل، وحكمه ليس فيه جور ولا تعارض ولا حكم سفيه.
    ب- التشابه العام الذي وصف به القرآن كله، مثل قوله تعالى: « الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله» ومعنى التشابه العام أن القرآن كله يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة والغايات الحميدة «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا».
    ج- الإحكام الخاص ببعضه، والتشابه الخاص ببعضه، مثل قوله تعالى: « هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وإبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب» ومعنى هذا الإحكام أن يكون معنى الآية واضحا جليا، لا خفاء فيه، مثل قوله تعالى: «وأحل الله البيع وحرم الربا».
    ومعنى التشابه الخاص ببعضه: أن يكون معنى الآية مشتبها خفيا بحيث يتوهم منه الواهم ما لا يليق بالله تعالى، أو كتابه أو رسوله، ويفهم منه العالم الراسخ في العلم خلاف ذلك.

    المطلب الثاني: أحكام القرآن وحجيته في التشريع.

    أولا: أحكام القرآن الكريم.

    يشمل القرآن، دستور الإسلام على العديد من أنواع الأحكام:
  • الأحكام الإعتقادية: وهي أحكام تتعلق بوجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور وبالقدر شره وخيره.
  • الأحكام الخلقية: هي الأحكام التي تستلزم التحلي بالمكارم والتخلي عن الرذائل.
  • الأحكام العملية: وهي التي تتعلق بأفعال وأقوال وتصرفات العباد وتنقسم بدورها إلى:
  • أحكام الأحوال الشخصية: وتهتم بالأسرة من بداية تكوينها بعقد الزواج وما سبقه، وحياته من حقوق وواجبات متبادلة بين أفرادها وما قد يترتب على إنحلالها وإنفراد عقدها.
  • الأحكام المدنية: وتتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيوع ورهون وتجارة وشركات وكفالة ومدانيات.
  • الأحكام الجنائية، وتتعلق بما يصدر عن الإنسان من جرائم وما يستحق من عقوبات بقصد الحفاظ على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم وحماية الجماعة وحفظ أمنها.
  • أحكام المرافعات المدنية والتجارية والإجراءات الجنائية: تتعلق بالقضاء والشهادة وكافة إجراءات إقامة العدل بين الناس وكيفية إثبات الحقوق.
  • أحكام دستورية: تتعلق بنظام الحكم أسسه وأصوله وتحديد علاقة الحاكم بالمحكومين وحقوق الأفراد.
  • الأحكام المالية والإقتصادية: وتحدد مالية الدولة من إيرادات ونفقات وتنظيم العلاقة الإقتصادية بين الأغنياء والفقراء وبين الدولة والأفراد.
    وهذه الأحكام، القرآن الكريم لا يتناولها بنفس الطريقة بحيث منها ما تم تناولها مفصلة كالعبادات والمواريث لغلبة التعبد فيها أو لصعوبة إدراك حكمتها بالعقل وفي البعض الآخر إهتم بالقواعد الكلية والمبادئ الأساسية بهدف ترك تفصيل الأحكام وتطبيق الكليات على الفروع لعلماء الأمة والمجتهدين من المسلمين حتى يسايروا روح العصر وظروف البيئة فتبقى الشريعة الإسلامية شابة خالدة صالحة لكل زمان ومكان.

    ثانيا: حجية القرآن في التشريع.

    يبقى الكتاب (القرآن الكريم) هو المصدر الأول في التشريع الإسلامي ودستور الأمة والرجوع إليه يبقى دائما ضروري من أجل إيجاد الحلول لأهم الإشكالات التي يطرحها التعامل في كل المجالات حيث تجد حكما لكل نازلة إما نصا أو إستنباطا، وحتى المصادر الأخرى فهي تستمد منه حجيتها على الأحكام.
    القرآن الكريم قطعي التبوث بمعنى أننا لا يجب إبداء أدنى شك بأن ما يوجد بين دفتي المصحف هو ما نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام دون زيادة أو نقصان أو تغيير أو تحريف، وأما دلالته على الأحكام فقد تكون قطعية وقد تكون ظنية كالشأن في السنة، وتكون دلالة اللفظ قطعية إذا دل على معنى لا يحتمل غيره كدلالة لفظ النصف على معناه في قوله تعالى: «ولكم نصف ما ترك أزواجكم»
    ولفظ المائة في قوله تعالى: «الزانية والزاني فأجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة».
    أما إذا إحتمل اللفظ أكثر من معنى فإنه يكون ظني على كل معنى من هذه المعاني كدلالته على لفظ القرء إما يدل على الطهر أو الحيض، وذلك في قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» فإن القرء يحتمل أن يكون هذا الحيض أو الطهر فدلالته على واحد منها دلالة ظنية.
    ويعني أنه ما دل على معناه قطعا، لا يحتمل الإجتهاد أي نص، (لاإجتهاد مع النص) وإما ما دل معناه ظاهرا أي ظنا فإنه يكون محلا للإجتهاد وعمل المجتهد يقتصر على ترجيح الأدلة المقصود الشارع منها، وعليه فنصوص القرآن الكريم إما أن تكون قطعية الثبوت والدلالة كلفظ المائة، وإما أن تكون قطعية الثبوت وظنية الدلالة كلفظ القرء، وفي الحالة الأولى يقال أن النص في القرآن جاء قطعي الدلالة (عندما يكون اللفظ على معنى واحد لا يحتاج إلى إجتهاد) أما الحالة الثانية يقال أن النص القرآني جاء بلفظ عام أو مشترك أو بلفظ مطلق أي أن النص القرآني جاء بلفظ غير واضح يحتاج إلى تغيير إما بالقرآن نفسه أو السنة أو القياس الذي يعتبر مصدر لا يفترق عن القرآن والسنة أو إجتهاد علماء الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    السنة
    السنة لغة: الطريقة المعتادة سواء كانت حسنة أم سيئة، يقول تعالى: «سنة الله في الذين خلوا من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديل» ويقول صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
    أما في الإصطلاح الفقهي فيقصد بها ما صدر عن الرسول (ص) مما ليس قرآنا، من أقوال أو أفعال أو تقريرات، مما يصلح أن يكون دليلا لحكم شرعي، وعند علماء الحديث فبعضهم يوافق تعريف الأصوليين أما البعض الآخر فيضيف إلى ما سبق ذكره أقوال الصحابة رضوان الله عليهم وأفعالهم، وذلك إستنادا إلى حديثه صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد»
    وللحديث عن السنة النبوية كمصدر أساسي ومتفق عليه من مصادر التشريع الإسلامي سنقسمها إلى قسمين، نتناول في القسم الأول أنواع السنة وأقسامها، وفي القسم الثاني تدوينها وحجيتها ومنزلتها من القرآن الكريم.

    القسم الأول: أنواع السنة وأقسامها.

    الفرع الأول: أنواع السنة.

    تنقسم السنة إلى ثلاثة أنواع: سنة قولية وسنة فعلية وأخرى تقريرية.
  1. السنة القولية: هي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث في مختلف المناسبات والأغراض، ويطلق عليها مصطلح «الأحاديث النبوية» وهي بذلك أخص من السنة لأن هذه الأخيرة تعني كل ما صدر عن الرسول (ص) من قول أو فعل أو تقرير أما الحديث فهو ما صدر عنه عليه السلام من أقوال يريد بها الأمر أو النهي أو الإجبار، والأمثلة عن السنة القولية كثيرة وكثيرة جدا كقوله (ص): «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى» وقوله (ص): «لا ضرر ولا ضرار» وقوله عليه السلام «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» وقوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
  2. السنة الفعلية: تنقسم السنة الفعلية إلى نوعين:
    النوع الأول: ما صدر منه بمقتضى الجهة الإنسانية والطبيعة البشرية: كالقيام والقعود، والمشي والنوم، والأكل والشرب، وما فعله بمقتضى خبرته وتجاربه في شؤون الدنيا من تجارة، وتدبير حربي، ووصف دواء لمريض إلى غير ذلك ولا يدل وقوع مثل هذا منه صلى الله عليه وسلم إلا على الإباحة.
    النوع الثاني: ما صدر عنه بمقتضى رسالته: وهو أنواع:
  3. ما دل الدليل على أنه خاص به، فلا تكون الأمة فيه مثله موجوب التهجد من قوله تعالى: «ومن الليل فتجهد به نافلة لك» وجواز مواصلة الصوم من قوله صلى الله عليه وسلم حين نهاهم عن الوصال فقالوا إنك تواصل: «فأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» وإباحة التزوج بأكثر من أربع من فعله صلى الله عليه وسلم مع نهي غيره عن الزيادة وإباحته له بغير مهر من قوله تعالى: «وإمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي...»
  4. ما ثبت أنه بيان للكتاب، فيكون متمما له، ويكون حكمه كحكم ما بينه، ويعرف كون الفعل بيانا إما بدليل قولي، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة « صلوا كما رأيتموني أصلي» وقوله في الحج «خذوا عني مناسككم» أو بقرينة حال، كأي يرد في المتاب لفظ مجمل فيقع عند الحاجة إلى بيانه أو تطبيقه عملا، كالقطع من الكوع عند تنفيذ حد السرقة والتيمم إلى المرفقين عند الحاجة إلى التيمم. ومنه ما روى أن أنصاريا قبل إمرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجدا شديدا: فأرسل إمرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين فأخبرتها فقالت أم سلمة، فرداه ذلك شرا وقال: لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء فرجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله عندها فقال: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته أم سلمة فقال ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ فقالت أم سلمة قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شرا وقال لسنا مثل رسول الله، يحل الله لرسوله ما شاء، فغضب رسول الله وقال: والله إنني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده.
    ج- ما عدا النوعين السابقين وهذا إن عرفت صفته الشرعية بالإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعلينا التأسي به لقوله تعالى «لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر».
    وقد كان الصحابة أحرص الناس على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلون مثل فعله ويحتجون بعمله ومن ذلك قول عمر حينما قبل الحجر الأسود ( لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
    3- السنة التقريرية: هي ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم مما صدر عن بعض أصحابه أو حتى ما جاء في بعض الأمم السابقة مثل صيام عاشوراء.بحضوره أو في غيبته وعلم به، من أقوال أو أفعال، وذلك إما بسكوته عليه السلام وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار إستحسانه، فيعتبر بهذا الإقرار والموافقة عليه صادرا عن الرسول نفسه.
    ومن أمثلة السنة التقريرية ما روى أن صحابيين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء بعد ذلك فأعاد أحدهما صلاته ولم يعدها الآخر فلما قصا أمرهما على الرسول (ص) أقر كلا منهما على ما فعل فقال للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي أعاد لك الأجر مرتين.
    كذلك روى أنه لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له بم تقضي؟ قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله (ص) قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله (ص) صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله.
    ومما لاشك فيه أن الإقرار الذي يصحبه ما يدل على الرضا بالفعل أو القول يكون أبلغ وأقوى من مجرد السكوت وعدم الإنكار ومثاله، إقرار الرسول (ص) لمن توضأ بالتيمم بالتراب لعدم وجود الماء.

    الفرع الثاني: أقسام السنة.

  5. أقسام السنة من حيث سندها:
    - السنة المتواثرة: وهي السنة التي رويت عن الرسول (ص) في جميع العصور (من العصر النبوي الشريف إلى عصر التدوين) بواسطة جمع يستحيل تواطئهم على الكذب وبالتالي تكون الأحاديث متواثرة إذ رواها جمع عن رسول الله (ص) ينتفي في حقهم التواطؤ على الكذب ثم يروي عنهم جمع آخر مثلهم في الثقة والإطمئنان وهكذا يروي جمع عن جمع حتى يصل إلينا سواء كان سنة قولية أو فعلية أو تقريرية.
    ومن تم فالعبرة في التواثر هي تحقق الجمع الذي يمتنع إتفاقهم على الكذب عادة في عصر من العصور الثلاثة وهي عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين أما بعد عصر تابعي التابعين فلا عبرة به لأن السنة قد صارت بعد هذا العصر مشهورة مستفيضة، نظرا لإقبال الفقهاء على جمعها وتدوينها في مؤلفات خاصة.
    ولتحقق التواثر في الخبر لابد من توافر مجموعة من الشروط وهي:
  • أن يرويه عدد من الرواة ولا يشترط في ذلك عدد معين، بل يكفي أن تتم الرواية بالنقل الجماعي ويتحقق إطمئنان النفس إلى الرواة وعدم تصور التواطؤ على كذبهم إما لكثرتهم أو لكونهم من صالح الأمة.
  • أن توجد كثرة الرواة في جميع طبقات السند.
  • أن يؤمن عادة تواطؤهم على الكذب أو النسيان أو الغلط أو نحو ذلك.
  • أن يكون مستند خبرهم الحسن كقولهم سمعنا أو رأينا أما إذا كان مستند خبرهم العقل لا يسمى الخبر حينئذ متواثرا.
وينقسم المتواثر إلى قسمين: متواثر لفظي: وهو ما إتفق فيه جميع الرواة على نقل الخبر المتواثر بلفظ واحد مثل قوله عليه الصلاة والسلام «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك».
ومتواثرمعنوي وهو ما تواثر معناه دون لفظه أي إتفاق روايات الحديث في المعنى دون اللفظ ولكنه متفق معه في المعنى وذلك مثل قوله (ص): «لا تجتمع أمتي على ضلالة» وقوله عليه الصلاة والسلام «لا تجتمع أمتي على الخطأ».
ولا خلاف بين الفقهاء أن السنة المتواثرة سواء كانت لفظية أو بالمعنى توجب العلم القطعي اليقيني، مما يوجب العمل بما تتضمنه من أحكام تشريعية لأنها قطعية الثبوت عن الرسول (ص).
بقيت الإشارة إلى أن السنة المتواثرة كثيرة الوجود في السنن الفعلية كالذي روي عنه (ص) في كيفية الوضوء والصلاة والحج وغيرها من شعائر الدين التي إطلع عليها جمهور المسلمين ونقلها عنه جمع يمتنع إتفاقه على الكذب عادة، أما السنن القولية فإن وجود السنة المتواثرة فيها محل خلاف بين الفقهاء فبعضهم ينكر وجودها والبعض الآخر قال بوجودها. وإن أشار إلى قلتها.
ب- السنة المشهورة: هي الأحاديث التي يرويها عن الرسول (ص) صحابي أو
مجموعة من الصحابة بنقل الجماعي لا يبلغ حد التواثر ثم يرويها عن هؤلاء جمع من التابعين والرواة الثقات ثم يروي عنهم جمع آخر بهذه الصفة وهكذا حتى تصل إلينا هذه الأحاديث ويذكر بعض آراء فقه السنة بأن الفرق بين السنة المشهورة والسنة المثواترة أن سند هذه الأخيرة جمع متواثر من الرسول (ص) إلى عصر التدوين أما السنة الأولى ففي سندها صحابى أو قلة من الصحابة إبتداء وبعد ذلك نقلها عنهم جمع بلغ حد الثواتر لذلك، فإن السنة المشهورة من حيث الحكم لا تفيد سوى الظن القريب من اليقين المفيد للطمأنينة.
والحقيقة أن السنة المشهورة تعتبر، وهذا عند جمهور الفقهاء - سنة آحاد، إلا أن الأحناف الذين قسموا الحديث إلى ثلاثة أقسام جعلوها وسطا بين المثواثر والأحاد، لأنها تواثرت في عصر التابعين إلى عصر التدوين.
ومن الفروق أيضا السنة المتواثرة قطعية الثبوث عن الرسول (ص) في حين السنة المشهورة قطعية الثبوت بالنسبة للصحابي الذي يروي عن الرسول (ص) فقط.
ومن الأمثلة عن السنة المشهورة قول الرسول (ص) «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى...» فهو حديث لم يروه عن النبي (ص) إلا عمر إبن الخطاب (ض) ولم يروه عن عمر إلا علقمة إبن وقاص الليثي ولم يروه عن علقمة غير محمد بن إبراهيم اليتمي ولم يروه عن محمد هذا إلا يحيا بن سعيد الأنصاري ثم رواه عن يحيا هذا عدد من الرواة الثقات فأصبح مشهورا متداولا بكثرة بين علماء الإسلام في إستخراج العديد من الأحكام الشرعية.
ج- حديث الآحاد: هو الحديث الذي رواه عن الرسول (ص)عدد من الصحابة لم يبلغ حد التواثر سواء في عهد النبي أو من بعده حتى عهد التابعين. وحديث الآحاد يفيد العلم الظني الراجح ولا يفيد العلم القطعي، إذ الإتصال بالرسول (ص) فيه شبهة، ولهذه الشبهة في إسناد الحديث بالرسول عليه السلام قال جمهور الفقهاء بالعمل له ما لم يعارضه معارض، ولم يأخذوا به في العقيدة لأن الأمور الإعتقادية تبنى على الجزم واليقين ولا تبنى على الظن ولو كان راجحا، لأن الظن في الإعتقاد لا يغني عن الحق شيئا.
ويذكر مؤرخوا فقه السنة النبوية الشريفة بأن حديث الآحاد هو الأكثر عددا بالمقارنة مع السنة المشهورة والسنة المتواثرة.
غير أن فقهاء الإسلام إختلفوا في شروط إعتبار حديث الآحاد حجة على المسلمين ومصدر من مصادر التشريع وذلك تبعا لإختلافهم في الإتجاه إلى التشدد في الموضوع أو العكس الإتجاه إلى التساهل في الأخذ بأحكام ما ورد في هذا الحديث.
وأهم شروطهم سواء كانوا مشددين أو متساهلين تتمحور حول كون راوي حديث الآحاد عدل وثقة، لا يعرف عنه الكذب متدين عالما بأمور دينه، ضابطا لما يسمع أي معروف بملكة الفهم والحفظ وتثبت سماعه للحديث فعلا ممن يروي عنه بسند متصل أساسه اللقاء بينهما.
وينكر الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم من فقهاء الإسلام أية حجية لحديث الآحاد ويدعون إلى إهماله وعدم العمل به لأنه يحتمل دخول الخطأ والوهم وحتى الكذب عليه الشيء الذي يجعله بعيدا عن درجة العلم وأحرى اليقين وهو العلم المقطوع به. بينما الإمام الشافعي يقبل الآحاد معللا توجهه بأن الرجل كان يفد على الرسول (ص) فيتعلم منه الدين ثم يعود إلى قومه مبلغا ومعلما.
  1. أقسام السنة من حيث درجة الصحة أو الضعف.
  2. الحديث الصحيح: وهو الحديث المسند الذي إتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط، حتى ينتهي إلى رسول الله (ص) من غير شذوذ ولا تعليل بعلة قادحة، ويذكر علماء الشريعة الإسلامية بأن الحديث الصحيح لا يتصف بهذا الوصف إلا إذا توافرت فيه الشروط التالية
  • أن يكون الحديث الصحيح مسندا أي يتصل إسناده من رواية تنتهي إلى الرسول (ص) فيقال عنه أنه حديث متصل أو موصول.
  • أن تتوفر في راوي الحديث العدالة والضبط وعدالة الراوي هي أن يعرف بإستقامته التامة في شؤون الدين، مسلما، بالغا، عاقلا، سالما من الفسق. وشرط الضبط في الراوي هو أن يعرف بضبط سماعه للرواية كما يلزم، وفهمه لها فهما دقيقا، وحفظه لها حفظا كاملا لا تردد فيه وثباته على الأداء في هذا من وقت التلقي إلى وقت التبليغ.
  • أن يسلم الحديث من الشذوذ والعلة ويقصد بالشذوذ أن يروي الحديث راوي ثقة مخالفا به ما أجمع عليه غيره من الرواة الثقات، ويعني هذا أنه إذا روى هذا الراوي إنفرد بروايته لا يوصم بالشذوذ. أما عن خلو الحديث من العلة القادمة فيعني ضرورة خلوه من أية علة خفية من شأنها المساس بصحة الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك كأن يروى عمن عاصره بلفظ "عن" والحال أنه لم يسمع منه شيئا.
    ب- الحديث الحسن: ويقصد به ما إتصل سنده بنقل عدل خفيف الضبط من غير شذوذ ولا علة، ويتضح من هذا التعريف أن وجه الخلاف بين الحديث الحسن والحديث الصحيح هو أن الأول فيه الراوي متصف بالعدالة لكنه خفيف الضبط في النقل بينما الثاني الراوي يتوفر على شرط العدالة والضبط التام.
    وما عدا هذا الخلاف فلا فرق بين الصحيح والحسن من حيث الإحتجاج ووجوب العمل به، لأن كلا منهما حال من الشذوذ والعلة وإن كان الحسن دون الصحيح من حيث القوة.
    ج- الحديث الضعيف: هو ثالث أقسام الحديث من حيث درجة الصحة والضعف وخير تعريف له أنه «ما لم يجتمع فيه حسنات الصحيح ولا صفات الحسن». ومعنى ذلك أن الحديث الضعيف فقد شرطا من شروط الصحيح أو شرطا من شروط الحسن لذلك فالحديث الضعيف يرجع ضعفه لعدة أسباب، قد تتعلق بالمتن، وقد تتعلق بالسند وقد تتعلق بهما معا أو بغيرهما مما يجعل الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا تطمئن النفس إلى القطع بصحته أو حتى غلبة الظن بالنسبة لمن يريد أن يأخذه عن غيره.

    القسم الثاني: تدوين السنة وحجيتها ومنزلتها من القرآن الكريم.

  1. تدوين السنة وحجيتها.
  2. تدوين السنة.
    يذكر مؤرخوا الإسلام أن تدوين السنة وكتابة الأحاديث النبوية مر بأطوار مختلفة ففي عهد الرسول (ص) لم تدون السنة النبوية الشريفة لكونه صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن تدوينها خشية إختلاطها بالقرآن الذي كان يكتب حينذاك. حيث قال عليه السلام «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وأيضا لسعة حفظ الصحابة بالإضافة إلى أن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة.
    ومع ذلك يذكر أن بعض الصحابة كتبوا في عهد الرسول(ص) مجموعة من الأحاديث، بل إن منهم من كتبها بإذن خاص منه (ص) وذلك قبل الإذن العام بكتابة الحديث لكل من رغب فيه وقدر عليه وذلك في السنوات الأخيرة من بعثته عليه السلام حيث نزل أكثر الوحي وحفظه الكثيرون، ولم يعد يخشى من إختلاط الحديث بالقرآن أو إلتباس أقواله وشروحه وسيرته بكتاب الله.
    ومن أشهر من عرف بكتابة الحديث في عهد الرسول(ص) سعد بن عبادة الأنصاري وعبد الله إبن عمرو بن العاص الذي كتب أشهر صحيفة للأحاديث النبوية وكانت تسمى الصحيفة الصادقة وقد إشتملت على ألف حديث من أحاديث النبي عليه السلام.
    ولما جاء عهد الخلفاء الراشدون ظل الموقف من كتابة السنة وتدوينها شبيها تماما بما كان عليه الحال في العهد النبوي الشريف، فمن عروة إبن الزبير أن عمر بن الخطاب (ض) أراد أن يكتب السنن فإستشار في ذلك أصحاب رسول الله (ص) فثار عليه عامتهم بذلك فلبث الخليفة عمر شهرا يستخير الله في ذلك شاكا فيه، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال "إن كنت قد ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء" فترك كتابة السنة.
    وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز (ض) الذي نبه إلى جمع السنة وإعتبارها علما من العلوم التي لها قواعدها ورجالها، وقد كان ذلك على رأس القرن الثاني للهجرة، حيث أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم قاضي المدينة المنورة أن يجمع السنة، فإمتثل، ولكن الخليفة توفي بعد ذلك بمدة لم تكن كافية لتحقيق رغبته، ولم يعن من جاء بعد الخليفة عمر بن عبد العزيز من خلفاء في أمية بتدوين السنة لإنشغالهم بالسياسة وأمور الحكم.
    ولم تبدأ الخطوات الحقيقية لتدوين السنة وتبويبها إلا في العهد العباسي حيث بدأ جمعها وتدوينها مع منتصف ق.2. وقد كان الحديث فيما.جمع منه في هذه المرحلة مختلطا بأقوال الصحابة والتابعين، بحيث لم يعن الفقهاء آنذاك بتمييز السنة عن أقوال وفتاوى الصحابة والتابعين ولا بترتيبها.
    وقد تلت هذه الخطوة خطوات أخرى عني فيها بتدوين السنة وتمييزها عن فتاوى الصحابة والتابعين، حيث تبلور عن ذلك علم قائم بذاته يعرف ب «علم مصطلح الحديث» وكانت ذلك مع منتصف القرن الثاني الهجري، وبعد ذلك ظهرت طريقة جديدة، وهي تمييز الأحاديث الصحيحة عن غيرها والبحث في الرواة، فكان هذا أزهى عصور الحديث.
    ب- حجيتها:
    أجمع المسلمون على أن السنة مصدر التشريع وقد دل على هذا الكتاب بنصوصه الكثيرة وبأساليب مختلفة من ذلك، التصريح بأن النبي (ص) لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحي من الله، وما كان من عند الله يلزم إتباعه قال تعالى: «وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى» والأمر بطاعة الرسول «قل أطيعوا الله والرسول» وجعل طاعة الرسول طاعة لله «من يطع الرسول فقد أطاع الله» وكذلك الأمر بإتباع ما يأتينا به الرسول «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فإنتهوا» ووجوب رد المتنازع فيه إلى الله أي إلى كتابه وإلى الرسول أي إلى سنته قال تعالى: « فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا» ووجوب تحكيم الرسول (ص) فيما يحصل فيه الإختلاف وقبول ما يحكم به: « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما» ومن تم لا خيار للمسلم فيما قضى به الله أو قضى به رسوله «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا» وقد حذر سبحانه بالعذاب الأليم من مخالفة الرسول(ص) «فلبحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم».
    وبإعطاء الله رسوله سلطة بيان أحكام القرآن لأن في القرآن أحكاما مجملة تحتاج إلى تفصيل وبيان حتى يصح بها التكليف، تكون السنة حجة وواجبة الإتباع ومتسمة للكتاب ومصدر للتشريع يقول تعالى: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم».
    وإذا كان القرآن الكريم يؤكد حجية السنة النبوية، فإن هذه الأخيرة نفسها تتضمن ما يدل على أنها دليل من الأدلة الشرعية، فالرسول الكريم (ص) حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا، قال له بم تقضي فقال بكتاب الله، فقال له الرسول، فإن لن تجد قال، فبسنة رسول الله، فإن لن تجد؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو، فقال الرسول(ص) الحمد لله الذي وفق رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله، فكان هذا إقرار من الرسول عليه الصلاة والسلام بأن السنة مصدر من المصادر التشريعية وإذا كان كل من القرآن والسنة والإجماع يدل على حجية السنة، فإن العقل نفسه يذهب على هذه الحجية، ذلك أن القرآن يتضمن العديد من الأحكام التي وردت بصفة مجملة تحتاج معها إلى تفصيل وذلك مثل فرائض الصلاة والزكاة والحج، حيث تولت السنة تفصيل أحكام هذه الفرائض، فلو لم تكن واجبة الإتباع لكافة المسلمين لما كان بالإمكان تطبيق وتفسير آيات القرآن المجملة، ولبقيت أحكامها غير قابلة للتطبيق.
  3. منزلة السنة من القرآن الكريم.
    السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بع كتاب الله تعالى، وهذا بإجماع الأمة سلفها وخلفها، إذ الناس لم يتنازعوا في دليلها الشرعي، وقبول أصلها، وإنما فصل الخلاف من جهة ثبوت بعض الأحاديث في روايتها، أو عدم ثبوتها وهذه مسألة مستقلة عن حجيتها.
    والسنة بإعتبارها الأصل الأساسي الثاني للتشريع الإسلامي، فهي تتولى توضيح أحكام القرآن وتفصيل مجمله وتقييد مطلقه وتخصيص عامه، بالإضافة إلى أنها إستقلت بأحكام لم يرد لها ذكر في القرآن وإن كانت أصولها راجعة إليه، وهكذا فالسنة النبوية جاءت مؤكدة لما جاء في القرآن أو مبينة له، كما أنها في بعض الأحيان منشئة لأحكام لم ينص عليها القرآن.

    أولا: تأكيد السنة لأحكام القرآن.

    السنة المؤكدة هي التى يكون ما تشتمل عليه من حكم مطابق لما في القرآن الكريم، بحيث يكون الحكم حينئذ مستمد من مصدرين القرآن مثبت له و السنة مؤيدة له، والسنة المؤكدة لما جاء في القرآن كثيرة منها قوله (ص) «لايحل مال إمرئ إلا بطيب منه » فإنه مؤكد لقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم» وقوله عليه الصلاة والسلام: «إستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم, أخذتموهن بأمانة الله» فقد جاء هذا الحديث تأكيدا لقوله عز وجل «وعاشروهن بالمعروف» إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة تؤكد ما جاء في القرآن الكريم من أحكام.

    ثانيا: بيان السنة لأحكام القرآن.

  4. بيان مجمل: سبق القول بأن القرآن الكريم يتضمن من الأحكام ما نزل مجملا يحتاج معها إلى بيان وتفصيل، أحكام فرض الله سبحانه من خلالها على الناس فرائض دون أن يبين القرآن كيفية أدائها، مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج، فالمولى سبحانه وتعالى فرض فرائض دون أن يتعرض لتفاصيلها، حيث تولت السنة النبوية بنوعيها القولية والعملية تبيان ذلك.
  5. تخصيص العام: جاء القرآن الكريم بأحكام عامة، لكن السنة خصصت بعض هذه الأحكام من ذلك قوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» فهذا الحكم عام في كل أصل مورث، وكل ولد وارث ولكن السنة خصصت الوارث بغير القاتل، فقد قال صلى الله عليه وسلم «لايرث القاتل» كما قصرت السنة الأصل المورث على غير الأنبياء لقوله عليه الصلاة والسلام: «نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة».
  6. تقييد المطلق: السنة قيدت بعض الأحكام التي جاءت في القرآن مطلقة من ذلك قوله سبحانه: «والسارق والسارقة فأقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم» فالآية الكريمة هنا ذكرت الأيدي مطلقا، ولم تقييد ذلك بكون اليد التي يجب قطعها هي اليمنى أو اليسرى ولكن السنة دلت على تقييدها باليمين وأن القطع يكون من الرسغ من ذلك قوله تعالى: «وليطوفوا بالبيت العتيق» فالطواف منصوص عليه بكيفية مطلقة، ولكن السنة قيدته بالطهارة من الحدث الأكبر والأصغر ومن النجاسة.

    ثالثا: السنة منشئة لأحكام ليست في القرآن.

    إستقلت السنة في بعض الأحيان برضع أحكام لم يرد لها ذكر في القرآن الكريم وإن كانت راجعة في ذلك إليه، وهكذا نجد السنة النبوية موجبة لبعض الأحكام التي سكت القرآن عن فرضها، أو محرمة لما سكت عن تحريمه ومثال ذلك.
  7. تشريع زكاة الفطر: فقد روى البخاري ومسلم عن إبن عمر رضي الله عنهما: قال: فرض رسول الله (ص) زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين.
  8. نصت السنة النبوية على ميراث الجدة: فقد روى أبو داوود عن بريدة أن النبي جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم.
  9. حرمت السنة النبوية الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها: والمرأة وإبنة أخيها أو إبنة أختها، فقد روى البخاري ومسلم وغيرها أن النبي (ص) قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على إبنة أخيها ولا على إبنة أختها فإنكم إن فعلتم قطعتم أرحامكم».
  10. وحرمت السنة من الرضاع ما يحرم من النسب، فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله (ص) قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
  11. إن القرآن الكريم أحل صيد البحر فقال تعالى: «أحل لكم صيد البحر وطعامه» وحرم الميتة، فبقيت ميتة البحر مترددة بين الطرفين، فألحقها الرسول (ص) بالحلال، حيث قال في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».
  12. إن الله عز وجل حرم الميتة وأباح المذكاة، فدار الجنين الخرج من بطن المذكاة ميتا بين الطرفين، فجاءت السنة النبوية وألحقته بالثاني، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «ذكاة الجنين ذكاة أمه».
  13. كما نصت السنة على حد الزاني المحصن وهو الرجم بالحجارة حتى الموت.

المبحث الثاني: المصادر العقلية.

ينضوي تحت لواء هذه المصادر: القياس، والإستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع والإستصحاب، والعرف.

المطلب الأول: القياس.

أولا: القياس في اللغة والإصطلاح:

القياس في اللغة: التقدير والتسوية، ومنه قول العرب فلان لا يقاس إلى فلان في كرمه وجوده، ويقولون: قس هذا الثوب بهذا لتعرف تساويهما في الجودة والحسن.
وفي الإصطلاح: عرفه الباجي بقوله: حمل أحد المعلومين على الآخر في إثبات حكم، أو إسقاطه بأمر جامع بينهما.
وأقرب تعريف للقياس هو ما أورده أبو عبد الله الشريف التلمساني بقوله «إلحاق صورة مجهولة الحكم، بصورة معلومة الحكم، لأجل أمر جامع بينهما يقتضي ذلك الحكم».
ومن خلال التعريفين يستفاد أن القياس ينبني على عملية إلحاق واقعة-غير منصوص على حكمها وتسمى الفرع- بواقعة أخرى لها حكم معين-تسمى بالأصل- لمساوتها لها في علة الحكم.

ثانيا: أركان القياس.

مما سبق يتضح أن أركان القياس أربعة هي:
أ- الأصل: وهو ما ورد نص بحكمه ويسمى المقيس عليه، أو هو الواقعة التي ورد التنصيص على حكمها.
ب- الفرع: وهو ما لم يرد نص بحكمه، ويسمى المقيس أو هو الحادثة التي لا حكم لها من الشرع.
ج- الحكم: وهي ما ثبت للفرع بعد ثبوته للأصل وهو نتيجة القياس.
د- العلة: وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع، وبناءا على وجوده في الفرع يعطي حكم الأصل.

ثالثا: قضايا إستعمل فيها القياس.

1- من ذلك مبايعة سيدنا أبي بكر الصديق للخلافة، قياسا على إمامته للصلاة إذ صلى إماما بالنبي (ص) وبأصحابه رضي الله عنهم.
2- من ذلك قياس النبيذ على الخمر في التحريم.
3- ومن ذلك قتل الموصى له للموصي قياسا على قتل الوارث لمورثه.

رابعا: حجية القياس.

القياس مقرر بالقرآن والسنة، وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
- أما القرآن فيدل عليه قوله تعالى: «فإعتبروا يا أولي الأبصار» الحشر 2، قال الإمام الباجي رحمه الله: والإعتبار في اللغة هو تمثيل الشيء بالشيء، وإجراء حكمه عليه.
وقال تعالى: «يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تاويلا» النساء 8.
وليس الرد إلى الله وإلى الرسول إلا بتعريف الإمارات الدالة منهما على ما يرميان إليه، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها، وذلك هو القياس.
- أما السنة، فالإستدلال بها على حجية القياس كثير،فمن ذلك قوله (ص): «مثل المؤمن مثل الزرع لاتزال الريح تميله، ولايزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة كمثل شجرة الأرز، لاتهتز حتى تستحصد» رواه مسلم.
وقوله (ص) للذي ولد له ولد فأنكر لونه: «هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها، قال: حمر، قال: هل فيها من أورق (أورق: أبيض مائل إلى السواد (رمادي)) قال: نعم، قال: فأنى ترى ذلك؟ قال: عرق نزعه (العرق الأصل من النسب، ومعنى نزعه أشبهه وإجتذبه أي أن أحد أجداده كان في لونه، قال: فلعل هذا عرق نزعه» متفق عليه، إلى غير ذلك من الأحاديث والوقائع التي يستفاد منها أصل القياس.
- أما عمل الصحابة رضوان الله عليهم فأكثر من أن يحصى، قال إبن عبد البر القرطبي رحمه الله: «وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من إجتهاد الرأي والقول بالقياس على الأصل عند عدمها ما يطول ذكره».
ومن ذلك قياس سيدنا علي رضي الله عنه حد شرب الخمر على حد القذف لأن الشرب قد يؤدي إليه، جاء في الموطأ: أن عمر بن الخطاب إستشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن تجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى إفترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين».
وقياس الجد على الأب في الأب في حجب الإخوة، وذلك في مذهب أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وقياس الجدة للأب على الجدة للأم في ميراثها السدس.

خامسا: دور القياس في التشريع.

قال إبن جزي في القياس: وهو أكمل الرأي ومجال الإجتهاد، وبه ثبت أكثر الأحكام، فإن نصوص الكتاب والسنة محصورة، ومواضع الإجماع معدودة، والوقائع غير محصورة، وله الدور الأكبر في التعرف على الحكم الشرعي لكل واقعة مستجدة، وحادثة طارئة، وفي مجال القياس يلتقي العقل والنقل ويظهر أثر التدبر في معرفة العلل والمقاصد، وإجراء طرق الفهم والإستنباط لتظهر نعمة العقل الذي به تميز الإنسان، وشرفه خالقه سبحانه في عالم الأكوان، ولتبرز مجالات الإختبار والإبتلاء في الإجتهاد بالأفكار والأعمال وله شاء الله العليم الحكيم لجعل لكل واقعة حكما معينا ولكن ليظهر مناط التكليف في التوفيق بين العقل الإنساني وبين الشرع الرباني الذي أنزله الله سبحانه ليعمل الجميع في دائرته. كذلك كانت عملية القياس متعلقة بالإجتهاد وللإجتهاد أجر ولو لم يصادف الصواب، غاية ما هنالك أن يكون مستعمل القياس أخذ بمعاقد الشرع، مطلعا على نصوصه ومداركه، له من أدوات الإجتهاد ما يمكن من النظر الفسيح حتى يكون قياسه صحيحا، ومآله محمودا.

المطلب الثاني: الإستحسان.

أولا: معنى الإستحسان.

الإستحسان في اللغة مشتق من الحسن، وهو عد الشيء حسنا، يقال إستحسنت كذا، إعتقدته، وعددته حسنا.
في الإصطلاح: عرف بعدة عبارات، فجاء عن إبن رشد: الإستحسان الذي يكثر إستعماله حتى يكون أعم من القياس-هو أن يكون طرحا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكمة، ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع.
قال أستاذنا علال الفاسي رحمه الله: ويظهر أن الجميع متفق على أن الإستحسان هو العدول على الدليل لا يثار دليل آخر أو لتخصيصه أو تقييده بناء على دليل آخر شرعي أو مصلحة أو عرف متفق مع الشريعة أيضا...
والخلاصة أنه إيثار دليل على دليل يعارضه لمرجح يعتد به.

ثانيا: قضايا مبنية على الإستحسان.

1- تخصيص الدليل بالعرف، كمن حلف ألا يدخل بيتا، فهو يحنت بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة، ويدخل في حكمه المسجد، إلا أن العرف لا يطلق على المسجد مجرد بيت، فهو بيت بالإضافة فيقال بيت الله أو مسجد فينبني عليه أن من دخل المسجد لا يحنث، ودليله الإستحسان ومثله من حلف ألا يأكل لحما فأكل سمكا، فإنه يحنث لأن السمك ولو أنه من جنس اللحم إلا أنه لا يقال له في العرف لحم، وإنما يقال له سمك.

2- ميراث الإخوة الأشقاء مع الإخوة للأم وإشتراكهم جميعا في الثلث، فالقياس يقتضي عدم توريث الإخوة الأشقاء لأنهم عصبة يبق لهم شيء في صورة المشتركة، وكل نازلة من هذا النوع يعطي لها نفس الحكم، لكن لما كان للإخوة الأشقاء وصف خفي وهو مشاركتهم للإخوة للأم في جهة الأمومة، كان من باب العدل ورفع الحرج الأخذ بهذا الإعتبار وإعماله في الحكم وهذا هو معنى الإستحسان هنا، وفي هذا الإتجاه ذهب عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت وغيرهما رضي الله عنهم.ثالثا: حجية الإستحسان.

عمل بمبدأ الإستحسان كما رأينا كبار الصحابة رضوان الله عليهم كعمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت كما في مسألة المشتركة وغيرها، وعلي بن أبي طالب، وسار في نفس الإتجاه الأئمة مالك، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، ويذكر عن الإمام مالك أنه قال: «تسعة أعشار العلم الإستحسان، وخالف في ذلك الإمام الشافعي الذي يروي عنه أن «من إستحسن فقد شرع»، والحقيقة أن الشافعية نظروا إلى الإستحسان كأنه رأي محصن لا يستند لدليل فأنكروه، ونظر إليه الآخرون على أنه رأي ناتج عن المقارنة بين الأدلة، وترجيح بعضها على الآخر فقبلوه وإذن فالخلاف في غير موضوع، ولذلك قال الشاطبي: إن الخلاف يرجع إلى الإطلاقات اللفظية ولا حاصل له.
مقدمة
أمرنا الله بإستعمال عقولنا في غير موضع من القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: «أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء» فإستعمال الرأي أمر لا مناص منه شريطة الإلتزام بمبادئ الشريعة العامة وقواعدها الكلية وذلك بحكم الضرورة الناجمة عن كون النصوص متناهية والوقائع غير متناهية.
لم تنضبط شريعة من الشرائع إلا بإقتران الإجتهاد بها لأن من ضرورة الإنتشار في العالم الحكم بأن الإجتهاد معتبر.
يعتبر الإجتهاد مصدرا من مصادر الأحكام الشرعية فيما لم يكن فيه نص قطعي من الكتاب والسنة وكان ضروريا في حياة الأمة الإسلامية تبعا لما يحدث ويجد فيها عبر العصور والأجيال من قضايا وأحوال إجتماعية تقتضي البحث عن إيجاد أساس شرعي لها والتعرف على حكم الله فيها.
إن أساس الإجتهاد الكتاب والسنة وكل إجتهاد لا يعتمد على هذين المصدرين يعد صاحبه خارجا عن جماعة المسلمين والرجوع إلى النصوص الشرعية مأمور به صراحة في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا».
بدأ الإجتهاد في حياة الرسول(ص) حيث إجتهد في كثير من الوقائع والأحداث التي لم يكن عنده وحي من الله فيها ودعا إليه المؤهلين من الصحابة وشجعهم عليه وكان عهد الخلفاء الراشدين زاخرا بإجتهادات مشهورة في أمور وقضايا مستجدة وتوسعت دائرة الإجتهاد الفقهي مع عهد الفقهاء والتابعين بحكم الوقائع المستجدة والأحداث الإجتماعية الطارئة.
وجاء عهد أئمة المذاهب فأسسوا مذاهبهم الفقهية وأصولها على الكتاب والسنة وإجتهدوا في إستنباط الأحكام الشرعية ووضعوا لذلك منهجا محكما وقواعد وضوابط وأسس يتعين أن ينبني عليها الإجتهاد وتعرف بها طرق إستنباط الأحكام وإشترطوا في المجتهد شروطا ومواصفات يجب توافرها.

تعريف الإجتهاد والمجتهد والمجتهد فيه.

الإجتهاد: لغة هو بذل الوسع والمقصود هو بذل الجهد أو الوسع وبلوغ الغاية في الطلب والمبالغة في العمل لتحقيق أمر من الأمور سواء كان هذا العمل عضليا أو فكريا.
أما الإجتهاد إصطلاحا فلم يتفق الأصوليون على تعريف معين فحسب بعضهم هو: "إستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد" وقيل هو "بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة، والإجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد من الطلب.
وحسب بعض الفقهاء المحدثين هو: بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة، والإجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب.
وعليه يكون المقصود من الإجتهاد هو الوصول إلى الحكم الشرعي حسب رأي المجتهد الذي إستفرغ وسعه وإطمأن قلبه إلى ما وصل إليه.
المجتهد فيه:
عرف بعض الفقهاء المجتهد فيه بأنه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي وعرفه البعض الآخر بأن الحكم الشرعي العملي.
تعريف المجتهد:
نظرا لصعوبة تعريف المجتهد بصفة مستقل عن شروط الإجتهاد لم يقم الكثير من الأوصوليين بتعريفه وإكتفوا بتعريفه من خلال الشروط اللازمة لجعل الشخص أهلا للإجتهاد.
وهناك من حاول تعريفه بصورة مستقلة فقال: "المجتهد كل من إتصف بصفة الإجتهاد" وعرفه البعض بأنه "الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي".

أحكام الإجتهاد:

قسم بعض الأصوليين أحكام الإجتهاد إلى ثلاثة أنواع:
1- قد يكون الإجتهاد واجبا وجوبا عينيا إذا حلت الواقعة بالمجتهد نفسه حيث لا يجوز له أن يقلد غيره.
2- قد يكون واجبا كفائيا إذا نزلت الحادثة وكان هناك مجتهدون متعددون وكان هناك متسع من الوقت وفي هذه الحالة يأتمون إذا تركوا الإجتهاد كلهم فإن أفتى أحدهم سقط الطلب عن الباقين.
3- قد يكون الإجتهاد مندوبا إذا تعلق بإيجاد حكم لحادثة لم تحصل بعد سواء سئل المجتهد أو لم يسأل.

موضوع الإجتهاد

إن مجال الإجتهاد واسع يشمل البحث عن الأحكام إنطلاقا من نصوص الشريعة أولا فإن لم نجد الحلول المطلوبة بحثنا عنها في مصادر أخرى غير النصوص بإستعمال الرأي والإعتبار كالمصالح المرسلة والإستحسان والقياس.
فنصوص الشريعة إما أن تكون قطعية الثبوت والدلالة وفي هذه الحالة لا يبقى مجال للإجتهاد ما دام النص ثابتا ثبوتا قطعيا ويدل على معناه بصورة قطعية، وإما إذا كانت النصوص ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة فحينئذ نحتاج إلى بذل الجهد في تحقيق هذه النصوص للتأكد من ثبوتها أو تفسيرها أو تأويلها لمعرفة مقصود الشارع منها، ذلك أن الشريعة جاءت بكليات الأمور في غالب الأحيان وتركت أمر الجزئيات والتفاصيل لأولي الأمر من المسلمين كي يجدوا الحلول المناسبة لمصالحهم الدينية والدنيوية.
إن الأمور الإعتقادية لا مجال للإجتهاد فيها قطعا والأمور المتعلقة بالعبادات مجال الإجتهاد فيها ضيق جدا ومحدود لكونها تتصل بمسائل قارة غير قابلة للتغيير والتبديل لأن الدين قد إكتمل عند نزول قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» فلم يعد بإستطاعة أي كان أن يزيد في الدين أو ينقص منه وإن بقي مجال للإجتهاد في العبادات فيمكن حصره في البحث عن أصح الأحاديث المتعلقة بأمور جزئية تفصيلية لا تمس الفرائض والواجبات، وإنما تتعلق بأمور غير جوهرية.
أما الأمور المتعلقة بالمعاملات والتي تنقسم إلى قسمين يتعلق بالأسرة وبخصوصه ونظرا لأن الشريعة الإسلامية أغنت موضوعه ووثقته بنصوص فصلت أحكامه فإننا نكاد نستغني عن الإجتهاد في هذا الشأن لكن تبقى أمور جزئية وتفاصيل تعود إلى أمور تنظيمية أما الأمور الأساسية فقد نبهنا الله تعالى إلى وجوب التقيد بما شرع الله لنا في هذا الشأن نظرا لأهمية الأسرة في بناء المجتمع المسلم ولأنها الأساس الذي يقوم عليه بناؤه.
يبقى المجال الخصب للإجتهاد هو ميدان المعاملات بأوسع معانيها من عقود وتصرفات وما يترتب عليها من مسؤوليات.

مصادر الإجتهاد.

إن مصادر الإجتهاد الرئيسية التي إعتمدها الأئمة أصحاب المذاهب والمناهج التشريعية هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وهذه المصادر متفق عليها بين جمهور الفقهاء وكانت موجودة من عهد الصحابة وتضاف إليها مصادر أخرى ثانوية يختص بها هذا الإمام أو ذاك كالمصلحة المرسلة والإستحسان والإستصحاب والصرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي وسد الذرائع.
إن الإجتهاد والإستنباط لا يلجأ إليه إلا في حالات معينة مثل:
1- لإثبات النص الشرعي وهذا أمر خاص بالسنة لأنها ليست كلها على درجة من الثبوت بل إن منها من ثبت بطريق ظني لذلك يبقى على المجتهد أن يثبت من صحة هذا النوع من السنة وذلك بالرجوع إلى صحاح السنة.
2- الإجتهاد في معرفة دلالة النص الشرعي على الحكم إذا كان هذا النص يدل على الحكم لطريق ظني وحينئذ تنحصر مهمة المجتهد في البحث عن تفسير النص وتأويله بالإعتماد على القواعد اللغوية والشرعية وهو ما يسمى الإجتهاد التفسيري.
3- الإجتهاد فيما فيه نص ظني الثبوت ظني الدلالة ففي هذه الحالة تجتمع الصعوبتان معا حيث يكون على المجتهد أن يبحث عن ثبوت النص أولا ثم يبحث بعد ذلك عن تفسيره وتأويله لمعرفة مقصود الشارع منه.
4- الإجتهاد في المسائل التي لم يرد بشأنها نص أصلا فإذا عرضت على المجتهد قضية أو مسألة لا نص على حكمها في الكتاب والسنة يجب عليه أن يبحث عن في مصادر أخرى كالقياس أو الإستحسان أو المصلحة المرسلة أو العرف.
ومن الأمور التي تكون محلا للإجتهاد تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط.
تحقيق المناط من مسالك العلة ومعناه أن يقع الإتفاق عليه وصف بنص أو إجماع فيكون على المجتهد التأكد من وجود العلة في صورة النزاع (قضية علة إعتزال النساء في المحيض هي الأذى) وسمي تحقيق المناط لأن المناط وهو الوصف علم أنه مناط لكن بقي النظر في تحقيق وجوده في الصورة الجديدة، أي أن المجتهد يتحقق من وجود علة الأصل في الفرع ليتعدى حكم الأصل إليه.
تنقيح المناط والمراد به تهذيب العلة وتخليصها مما إقترن بها من الأوصاف التي لا مدخل لها في العلة (قصة الأعرابي).
تخريج المناط ويعبر عنه بالمناسبة وبالإخالة وبالمصلحة وبالإستدلال ورعاية المقاصد ويقصد به تعيين العلة بمجرد إبتداء المناسبة أي الملاءمة مع السلامة من القوادح لا بنص ولا بغيره.

شروط الإجتهاد:

1- معرفة كتاب الله عز وجل: لأنه المصدر الأول والأساسي فلا مناص من معرفة نصوص القرآن الكريم وخصوصا آيات الأحكام، على أن الحفظ وحده لا يكفي بل لابد من معرفة بعض علوم القرآن ليتسنى للمجتهد الإستنباط منه ومن بينها معرفة الناسخ والمنسوخ ومعرفة مجمل القرآن ومفصله وخاصه وعامه ومحكمه ومتشابه ومعرفة أسباب التنزيل التي ترشد إلى فهم المقصود.
2- معرفة السنة النبوية: تعد السنة النبوية المصدر الثاني للشريعة الإسلامية وهي تساعد على فهم القرآن لذلك كان لابد للمجتهد من معرفة السنة النبوية وخاصة منها تلك التي تتعلق بالأحكام وكذا معرفة العلوم الحديثة حتى يمكن الإستفادة من هذه الأحاديث بصورة سليمة فلابد أن يكون للمجتهد تمييز بين الصحيح والحسن والضعيف من السنة وشروط التواثر والآحاد والمسند والمرسل ومعرفة الرواة في القبول والرد ومعرفة الناسخ والمنسوخ من السنة.
3- معرفة مسائل الإجماع: يشترط في المجتهد أن يكون عارفا بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بما يخالف ما وقع عليه الإجماع.
4- معرفة علم أصول الفقه:
إن معرفة علم أصول الفقه أمر جد ضروري لأنه علم يحتوي على مفاتيح الإجتهاد وأدواته إبتداء من مصادر التشريع وما يتصل بها إلى مباحث الألفاظ ودلالاتها ومرورا بمعرفة التعارض والترجيح والإطلاع على مقاصد الشريعة وغيرها.
5- معرفة اللغة العربية:يعتبر هذا الشرط ضروريا للإجتهاد لأن الشريعة عربية ولا يمكن فهم القرآن والسنة على الوجه المطلوب إلا إذا كان اللسان عربيا غير أنه في نظر جمهور الأصوليين لا يشترط إلا الدرجة الوسطى في معرفة العربية.
6- فقه النفس: إشترط بعض الأوصوليين أن يكون المجتهد فقيه النفس شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام فبدون توفر هذا الشرط لا يمكن للإنسان أن يقارن بين الأدلة ويميز بين راجحها ومرجوحها وينفذ إلى مقاصد الشريعة وما ترمي إليه من جلب المصالح ودرء المفاسد.
7- الإيمان: يجب أن يعلم المجتهد الرب تعالى وما يجب له من الصفات وما يستحقه من الكمالات حتى يتصور منه التكليف وأن يكون مصدقا بالرسول وما جاء به من الشرع المنقول.
تجزئة الإجتهاد
إختلفت الآراء حول تجزئة الإجتهاد بين مؤيدين ومعارضين، فالمؤيدون يعتبرون أن الإجتهاد ليس أمرا لا يقبل التجزئة والإنقسام بل قد يكون المرء مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون غيرها، كما أن الإجتهاد في حكم بعض المسائل يكفي فيه معرفة ما يتعلق بتلك المسائل وما لابد فيها ولا يضر المجتهد جهله بما لا يتعلق بتلك المسألة ما يتعلق بباقي المسائل الفقهية أما المعارضون لتجزئة الإجتهاد وهم أقلية فيرون أن المسألة من نوع في الفقه ربما كان أصلها في نوع آخر منه، كما أن من لا يقتدر على الإجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر لأن أكثر علوم الإجتهاد يتعلق بعضها ببعض ولا سيما ما كان من علومه مرده إلى ثبوت الملكة فإنها إن تمت كان مقتدرا على الإجتهاد في جميع المسائل، وإن إحتاج بعضها إلى بحث مستقل، وإن نقصت الملكة لم يقتدر على شيء من ذلك ولا يثق في نفسه لتقصيره ولا يثق به الغير لذلك.

الإجماع

إن الحاجة الماسة إلى الحكم على القضايا الجديدة، في عصر الصحابة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هي التي كانت سببا في ولادة أو نشوء فكرة الإجماع عن طريق الإجتهاد الجماعي، إحتياطا في الدين، وتوزيعا للمسؤولية على جماعة المجتهدين خشية تعثر الإجتهاد الفردي، أو وقوع المجتهد من الصحابة في الخطأ، بالرغم من رفع الحرج والإثم عن الخطأ في الإجتهاد، وتشجيعا على التصدي للفتوى، بعد التثبت والتحري المطلوب.
ويعتبر الإجماع الدليل الذي يلي كلا من القرآن والسنة في القوة والإحتجاج، حيث إنه في مرتبة تلي مباشرة المصدرين الأساسيين الأصليين، وهو يعتمد عليهما.
ولتناول الإجماع كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي نتعرض لتعريفه، مستنده وأركانه (المطلب الأول) ثم نتطرق إلى أنواعه وحجيته (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعريف الإجماع، مستنده وأركانه.

الفقرة الأولى: تعريف الإجماع ومستنده.

أولا: تعريف الإجماع:

الإجماع في اللغة يطلق على أحد معنيين:
العزم على الشيء والتصميم عليه، يقال: أجمع فلان على الأمر أي عزم عليه، ومنه قوله تعالى: «فأجمعوا أمركم وشركاءكم» أي أعزموا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له» أي يعزم.
وثانيهما، الإتفاق، يقال: أجمع القوم على كذا أي إتفقوا عليه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: «فلما ذهبوا به، وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب».
ويقصد بالإجماع في إصطلاح الفقهاء وعلماء الأصول إتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام على حكم شرعي.
فإذا وقعت حادثة وعرضت على جميع المجتهدين من الأمة الإسلامية وقت حدوثها وإتفقوا على حكم فيها، فإن هذا الإتفاق يسمى إجماعا، وإعتبر إجماعهم على حكم واحد فيها دليلا على أن هذا الحكم هو الحكم الشرعي في الواقعة.
وهكذا فجمهور الفقهاء يشترطون لتحقيق الإجماع أن يتفق جميع المجتهدين على هذا الحكم، ومن هنا طرح إشكالية إمكان الإجماع وهل وقع فعلا؟
فقد إدعى البعض أن الإجماع بشروطه المذكورة في التعريف لا يمكن وقوعه لأن المجتهدين متفرقون ولا سبيل إلى معرفتهم ولا معرفة آرائهم، ثم يقولون ولهذا لم يقع الإجماع فيما مضى.
وقال الأكثرون أن الإجماع بشروطه ممكن الوقوع وقد وقع فعلا فيما مضى، وإن كانت المسألة تحتاج إلى تفصيل ففي عصر الخلفاء الراشدين لاسيما في عصر أبي بكر وعمر، حيث كان المجتهدون معروفين ومستقرهم في المدينة والرجوع إليهم لمعرفة آرائهم ميسور، ففي هذا العصر وقع الإجماع فعلا وحصلت إجماعات كثيرة منها إجماعهم على قتال مانعي الزكاة، وجمع القرآن، أما بعد هذا العصر حيث تفرق المجتهدون في الأقطار وكثر عددهم فمن العسير القول بوقوع الإجماع، وأقصى ما يستطاع قوله إن أحكاما إجتهادية إشتهرت ولم يعرف لها مخالف، ولكن لا يخفى أن عدم معرفة المخالف لا يدل على عدم وجود المخالف، وإن كان يرى البعض أن إستحالة وجود الإجماع نسبية لعدم إمكانية جمع علماء الدنيا، والذي هو في حد ذاته ليس مستحيلا إستحالة مطلقة.

ثانيا: مستند الإجماع.

يرى جمهور الأصوليون أن الإجماع لابد له من دليل يرجع إليه المجمعون وهذا الدليل يسمى مستند أو سند الإجماع، وهو قد يكون نصا من كتاب أو سنة، وقد يكون قياسا.
فلابد إذن، أن يكون إجماع المجتهدين على دليل لئلا تجتمع الأمة على خطأ، لأن غير المجتهدين تبع للمجتهدين فإذا وقع المجتهدون في الخطأ وقعت الأمة في الخطأ وهذا منفي عنها بنص الأحاديث، وفوق ذلك فإن الغفلة التي تؤدي إلى الخطأ قد تكون في بعض المجتهدين ولا تكون عامتهم، يقول الشافعي: «إنما تكون الغفلة في الفرقة، فأما الجماعة فلا يمكن أن يكون فيها كافة غفلة من معنى كتاب ولا سنة، ولا قياس إن شاء الله».
فمن أمثلة الإجماع المستند إلى كتاب الله تعالى: إجماع المسلمين على تحريم نكاح الجدات مهما علون، ومن أية جهة كن، وكذلك تحريم التزويج ببنات الأولاد ومهما نزلت درجتهن، وذلك إستنادا إلى قوله عز وجل: «حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم»، فالمراد بالأمهات في هذه الآية الكريمة الأصول من النساء مهما علون، والجدة كأصل كالأمهات، كما أن المراد بالبنات الفروع من النساء.
ومن الإجماع المستند إلى السنة النبوية الشريفة إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على إعطاء الجدة السدس في الميراث، و الذي جاء بناء على ما رواه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة من أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها السدس.
وقد يكون الإجماع إستنادا إلى القياس، كما في إجماع المسلمين على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قياسا على إمامته لهم في الصلاة أثناء مرض الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد يكون الإجماع مستندا على المصلحة عند من يقول بحجيتها، وقد وقع ذلك في عهد الصحابة، فعمر بن الخطاب أشار على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن في مصحف واحد، والذي قبل بعد تردد كبير حيث قال له: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (ص)؟ فقال عمر: إنه والله خير ومصلحة للإسلام، وقد وافق بقية الصحابة على جمع القرآن في مصحف واحد إستنادا إلى مصلحة الإسلام والمسلمين في ذلك.
ومثله أيضا زيادة أذان ثالث لصلاة الجمعة في عهد عثمان، لإعلام الناس بالصلاة، وتنبيه كثير من المسلمين القاطنين في منازل بعيدة عن المسجد، حتى لا تفوتهم الصلاة، وكان مستندهم هو المصلحة ودفع المفسدة المترتبة على بقاء الأمر على ما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
الفقرة الثانية: أركان الإجماع.
يتبين من تعريف الإجماع المشار إليه آنفا ضرورة توافر الأركان الأربعة التالية:

أولا: ركن الإجماع أو إتفاق جميع المجتهدين.

لكي نكون إزاء إجماع بإعتباره مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي لابد من موافقة جميع المجتهدين، فإذا خالف أحدهم لم ينعقد الإجماع، كما أنه لا يكفي صدور الإجماع من مجتهد واحد إذا إنفرد وجوده في زمن ما، لأن الإتفاق لابد فيه من متعدد، وقد يخطئ المجتهد حينئذ، ومن هنا لا يكون رأيه حجة قطعية كما هو شأن الإجماع، لأن المنفي عند الخطأ هو الإجماع، وهذا رأي جمهور الأصوليين في أنه ليس حجة ولا إجماعا، لأنه رأي فردي يجوز أن يخطئ.
ومن جهة ثانية لابد وأن يكون الإجماع صادرا عن مجتهدي المسلمين، أي من المسلمين الذين تتوافر فيهم شروط الإجتهاد كما حددها الفقهاء.

ثانيا: أن يكون المجمعون من أمة محمد (ص).

يشترط أن يكون أهل الإجماع -الذي هو محل البحث- من المسلمين، وهم: كل من أجاب دعوة رسول الله (ص) وآمن بما جاء به. والعلماء إتفقوا على أنه لا عبرة بالكافر في هذا الموضوع، لأن الكافر غير مقبول في مسائل ديننا، فهو متهم بقوله بسبب مخالفته في الدين، ومن ناحية ثانية، فإن الأمة الإسلامية قد إختصها الله عز وجل بالعصمة من الخطأ عند الإتفاق، ولم يشاركها في ذلك أمة أخرى حسبما جاءت بذلك الأدلة.

ثالثا: إتفاق المجتهدين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.

إتفق جمهور الفقهاء على أن لا عبرة بالإجماع في عصره (ص)، لأنه إذا وافق الرسول (ص) المجتمعين، فالحجة هو قوله (ص)، وإن خالفهم فلا عبرة بما أجمعوا عليه، لأنه صاحب التشريع، وعليه لا ينعقد في عهد الرسول (ص).
ثم إن الرسول (ص) إذا وافق الصحابة على حكم كان الحكم ثابتا بالسنة لا بالإجماع، وإن خالفهم سقط إتفاقهم، ولا يكون حينئذ حكما شرعيا.

رابعا: إتفاق المجتهدين في عصر من العصور.

ليس المراد بداهة جميع مجتهدي الأمة في جميع العصور إلى يوم القيامة، وإلا أدى إلى عدم تحقق الإجماع أصلا، والمراد بالعصر: هو عصر من كان من أهل الإجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة الجديدة التي تتطلب حكما شرعيا فيها وعليه فلا يعقد الإجماع بمن صار مجتهدا بعد حدوث تلك المسألة، حتى ولو كان المجتهدون الذين أصدروا حكما فيها مازالوا على قيد الحياة، وإنما متى إتفق المجتهدون في عصر من العصور على حكم حادثة، إنعقد الإجماع وصار واجب الإتباع، في اللحظة التي صدر فيها الحكم.

خامسا: أن يقع الإجماع على حكم شرعي.


ينبغي أن يكون موضوع الإتفاق هو حكم الشريعة الإسلامية في المسألة المعروضة فلا يعتبر إجماعا بهذا المعنى إتفاق علماء اللغة أو المنطق أو غيرهم على قاعدة من القواعد ككون الفاء للتعقيب، أو القضايا العقلية كحدوث العالم، قال إمام الحرمين في البرهان: «ولا أثر للإجماع في العقليات، فإن المشجع فيها الأدلة القطعية، فإذا إنتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضدها وفاق».

المطلب الثاني: أنواع الإجماع وحجيته.

الفقرة الأولى: أنواع الإجماع.

الإجماع بحسب طريقة تكوينه نوعان: إجماع صريح وآخر سكوتي.

أولا: الإجماع الصريح.

ويطلق عليه أيضا الإجماع النطقي أو الإجماع القولي، وهو أن ينفق جميع مجتهدي العصر على حكم واقعة، بإبداء كل منهم رأيه صراحة بفتوى أو قضاء، وهذا قد يكون بإجتماعهم في مكان واحد، ثم بحثهم للواقعة أو النازلة المعروضة وتصريح كل مجتهد برأيه فيها، كما قد يتحقق الإجماع الصريح عند عدم تيسر تواجد كل المجتهدين المسلمين في مكان واحد، بأن يعبر كل منهم عن رأيه صراحة في المسألة محل الإجتهاد بأية طريقة من الطرق، ثم تجمع هذه الآراء المتفرقة، ويتكون من إتفاقها إجماعا.
ويعتبر الإجماع الصريح، عند الجمهور، حجة قطعية في ثبوت الأحكام الشرعية.

ثانيا: الإجماع السكوتي أو الضمني.

وهو أن يبدي بعض المجتهدين رأيه في مسألة ويعلم بها الباقون فيسكتون ولا يصدر عنهم صراحة إعتراف ولا إنكار، ومثاله ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه أفتى بوجوب الزكاة عن الأموال المدينة على الدائن، وسمع بهذه الفتوى الصحابة رضوان الله عليهم، وسكتوا، فإن سكوتهم هذا يعد من قبيل الموافقة، وبالتالي يعتبر أن هناك إجماعا سكوتيا على الحكم القاضي بوجوب الزكاة على الأموال المدينة.
وإذا كان الإجماع الصريح يعد بإتفاق الفقهاء حجة قطعية في ثبوت الأحكام الشرعية، فإن الإجماع السكوتي إختلف فيه، على إعتبار أن الساكت من المجتهدين لا جزم بأنه موافق، فلا جزم بتحقق الإتفاق وإنعقاد الإجماع، لذلك ذهب البعض إلى أنه ليس بحجة، وأنه لا يخرج عن كونه رأي بعض الأفراد من المجتهدين، ذلك أنه من شروط الإجماع أن يتفق جميع المجتهدين على الحكم، وهذا الشرط لم يتحقق في الإجماع السكوتي، لأن بعض المجتهدين سكتوا ولم يدلوا برأي، ولا يصح أن يفسر سكوتهم على أنه موافقة منهم لما أبدي من رأي، إذ السكوت قد ينشأ في بعض الأحيان عن أسباب أخرى غير الموافقة، كالخوف من القائل أو المهابة منه، أو لأنه يرى عدم وجوب الإنكار على القائل، لأن كل مجتهد مصيب.
أما القائلون بحجية الإجماع السكوتي، وهم الحنفية والحنابلة، فقد إشترطوا في توافر هذا الإجماع:
  1. أن يكون السكوت مجردا عن علامة الرضا أو الكراهة.
  2. وأن ينتشر الرأي المقول به من مجتهد بين أهل العصر.
  3. وتمضي مدة كافية للتأمل والبحث في المسألة.
  4. وأن تكون المسألة إجتهادية.
  5. وأن تنتفي الموانع التي تمنع من إعتبار هذا السكوت موافقة كالخوف من سلطان جائر، أو عدم مضي مدة تكفي للبحث، أو أن يكون الساكت ممن يرون أن كل مجتهد مصيب، فلا ينكر ما يقوله غيره، لأنه من مواضع الإجتهاد، أو يعلم أنه لو أنكر لا يلتفت إليه، ونحو ذلك.

الفقرة الثانية: حجية الإجماع.

الإجماع حجة قطعية لا يسع أحدا أن يجتهد على خلافه إذا تحققت بشروطه، فهو إذن يفيد الحكم قطعا، بعد أن كان هذا الحكم ظنيا قبل تحققه، وعلى المكلف أن يمتثل لهذا الحكم كما يمتثل للحكم الثابت بنص الكتاب والسنة، وهذا سواء تعلق الأمر بالإجماع الصريح أو السكوتي، لأن هذا الأخير وإن كان محل إختلاف الفقهاء فإنه إذا توافرت له شروط الصحة المتطلبة يعتبر شرعية عند جمهور الفقهاء.
وقد إستدل الجمهور على حجية الإجماع بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والعقل عند جمهور الفقهاء.

أولا: الدليل من الكتاب.

إن الأصل في حجية الإجماع من الكتاب قوله سبحانه وتعالى: «ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا» وهذه الآية التي تمسك بها الشافعي على حجية الإجماع في "الرسالة" ووجه الإستدلال بها أن سبيل المؤمنين هو ما يتفقون عليه، ويجمعون على الأخذ به، فمتى تحقق إجماعهم على حكم شرعي، فإن هذا الإجماع يحرم إتباع سبيل غيره فهذا الأخير كمشاقة الله ورسوله، إذ جعل سبحانه وتعالى، جزاءهما واحدا، وهو الوعيد حيث قال: «نوله ما تولى ونصله جهنم».

ثانيا: الدليل من السنة.

وهو أقوى الأدلة كما قال الغزالي، فقد وردت أحاديث عن رسول الله (ص) تدل على عصمة الأمة من الخطأ، وإشتهر ذلك على لسان جماعة من الصحابة المرموقين الموثوقين كعمر إبن مسعود وأبي هريرة وغيرهم ممن يطول ذكرهم، حتى إن كثرة الأحاديث بألفاظها المختلفة، وإن لم تتواثر آحادها، لكن القدر المشترك بينها، وهو عصمة الأمة من الخطأ متواثر لوجوده في هذه الأخبار الكثيرة.
هذه الأحاديث هي: «لا تجتمع أمتي على خطأ»، «يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار»، وقوله (ص): «من فارق الجماعة بثرا، فمات إلا مات ميتة جاهلية».

ثالثا: عمل الصحابة.

من الثابت أن الصحابة رضوان الله عليهم لجأوا إلى الإجماع في الكثير من الحوادث والمسائل التي لم يجدوا فيها حكما شرعيا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومن الأمثلة على ذلك إجماعهم على تولي أبي بكر الصديق الخلافة بعد وفاة الرسول (ص) وإجماعهم على جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، وإجماعهم على محاربة أهل الردة عند إمتناعهم عن إعطاء الزكاة إلى غير ذلك من الأمور التي حصل فيها إجماع الصحابة وإتفاقهم.

ابحث عن موضوع