حيثيات ميلاد المحكمة الجنائية الدولية

المحكمة الجنائية الدولية
على مدار التاريخ كانت الوسيلة الوحيدة لكي تحاكم الشعوب جلاديها هي أن تنتفض عليهم فتقتلهم أو يموتوا فتنتظر محاكمتهم أمام المحكمة الإلهية في الآخرة. لكن كان هناك دائما حلم بإقامة محكمة للمجرمين بحق الإنسانية. في مدينة لاهاي العاصمة السياسية لهولندا، حيث توجد الأمم المتحدة.
فكرة إنشاء المحكمة وُلدت في عقول الكثيرين بعد الحرب العالمية الأولى، غير أن الحاجة إليها أصبحت ملحة بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها؛ فولدت أجنة مشوهة من هذا النوع من المحاكم، كمحكمة نورمبرج لمحاكمة الضباط النازيين التى اعتبرها المراقبون غير كاملة الحياد لكون المنتصر هو الذي يحاكم المهزوم فيها.
بقي مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة -والمقرر في معاهدة منع الإبادة الجماعية الموقعة عام 1948- مجمَّدًا مدة نصف قرن تقريبًا بسبب ظروف الحرب الباردة. وبعد انتهائها طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4-12-1989 من لجنة القانون الدولي أن تتناول مسألة إنشاء هذه المحكمة.
وقد أشعلت الحروب التي نشبت في التسعينيات من القرن العشرين هذه الفكرة ، وأقنعت الجميع بالحاجة المُلحّة لإنشاء هذه المحكمة، خاصة بعد أن شهدت حروب يوغسلافيا السابقة ورواندا تجاوزات وجرائم منظمة فاقت كل حدود القانون الدولي الإنساني. فانتهى الأمر إلى إنشاء محاكم جنائية مؤقتة استنادًا إلى قرارات مجلس الأمن الدولي لعام 1993 و 1994 خُصِّصت لمحاكمة مجرمي الحرب في تلك الدول. غير أن صفة التأقيت غلبت على هذه المحاكم لكونها مختصة بالفصل في نوعية محددة من القضايا وليست محاكم دائمة.
التف الكثيرون حول مشروع المحكمة، وأصبح مطلبا للعديد من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان. وبعد محاولات كثيرة مهدت لها اجتماعات عديدة تحضيرية، انعقد مؤتمر الأمم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين المعني بإنشاء محكمة جنائية دولية في الفترة من 15-6-1998 إلى 17-7-1998 بمشاركة وفود تمثل 160 دولة ،31 منظمة دولية،136 منظمة غير حكومية بصفة أعضاء مراقبين. وصدر عنه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والبيان الختامي و6 قرارات أخرى. وانتهى الأمر الآن إلى توقيع 139 دولة وتصديق 90 دولة فقط على النظام الأساسي.
واختصاص المحكمة الزماني (أي وقت بدء ممارستها لاختصاصها) ينطبق فقط على الجرائم التي ارتكبت بعد انضمام أي دولة طرف (دولة مصدقة وليست موقعة فقط على الميثاق). أما الدول أو الأشخاص الذين يمكن للمحكمة ملاحقتهم قضائيا فإن المحكمة تختص بنظر الدعوى متى كانت الجريمة محل الاتهام ارتكبت في إقليم دولة طرف أو بمعرفة أحد رعايا هذه الدولة (م 12/2). كما تختص المحكمة أيضاً بنظر الدعوى عندما توافق دولة ليست طرفاً في المعاهدة على اختصاص المحكمة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت في إقليم هذه الدولة أو يكون المتهم أحد رعاياها.
ويطبق اختصاص المحكمة الجنائية فقط على الأشخاص الطبيعيين (ليس المؤسسات أو الدول) الذين يرتكبون جريمة بعد بلوغهم 18 سنة (ويلاحظ أنه لا يستثنى شخص من المسئولية الجنائية بسبب صفته الرسمية، حتى ولو كان ذلك وارداً في القانون الداخلي للدولة المعنية).
ولا يملك أي شخص أو دولة طرف رفع دعوى جنائية أمام المحكمة، لكن يمكن وضع الأدلة تحت يد المدعي العام للمحكمة صاحبة الحق في تقديرها ومن ثم إقامة الدعوى، كما يحق للمدعي العام من تلقاء نفسه تحريك الدعوى بالمحكمة.
وقد تم التدوين والبناء القانوني للمحكمة الجديدة استنادًا إلى مواد ومراجع وأدوات قانونية موجودة سابقًا. فمثلاً تُعَدّ وثيقة محكمة نورمبرج الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية من أهم الأسس والمراجع لها، وتُضاف إليها النظم الأساسية للمحاكم الجنائية المؤقتة .
ولقد اخذ النظام الأساسي لهذه المحكمة بمبدأ الشرعية الجنائية الدولية المتفق عليه فى التشريعات الجنائية الوطنية القائل بأنه (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ) حيث حدد هذا النظام واجبات المحكمة فى القضاء في الجرائم الأشد خطورة فقط، والتي تتركز على الأربعة أنواع من الجرائم الدولية (جرائم الإبادة الجماعية، الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، جرائم الحرب، جرائم ما يُسمّى بالعدوان). ويندرج تحت كل جريمة من هذه الجرائم شرح وتفصيل للجرائم التي تندرج تحتها كالتعذيب والفصل العنصري والاغتصاب، إضافة لتجريم قيام الدولة القائمة بالاحتلال -على نحو مباشر أو غير مباشر- بنقل أجزاء من سكانها إلى الأرض التي تحتلها أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها، وهي إحدى الجرائم التي تنطبق على الوضع في الأراضي الفلسطينية.
وقد وقّعت وصدقت كل من فرنسا وبريطانيا على النظام الأساسي للمحكمة، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد وقعت على النظام الأساسي بتاريخ 31 ديسمبر 2000. لكنها لم تصادق بعدُ بل سحبت هذا التوقيع في شهر مايو 2002. وقد عارضت إنشاء المحكمة في مؤتمر روما، بل وطالبت أن يكون لمجلس الأمن سيطرة كاملة على سلطة الادعاء بالمحكم وتصنف الولايات المتحدة على أنها من الدول التي تعمل بقوة ضد إنشاء المحكمة وتقويض دورها بعد أن أصبحت واقعا ملموسا فى 1 يوليو 2002.
ومن أهم ما يثير الولايات المتحدة فكرة إمكانية محاكمة العسكريين الأمريكيين على ارتكابهم لجرائم حرب خلال بعض الأحداث التي اشتبكت معها الولايات المتحدة عسكريا في العالم. لذا تلجأ إلى عقد اتفاقيات ثنائية مع الدول المختلفة لاستثناء العسكريين والمواطنين الأمريكيين من المثول أمام المحكمة الدولية.
كما اعتمد مجلس الأمن قرار رقم 1422 الذي يمنح الحصانة لمدة عام لجميع الأمريكيين المشاركين في عمليات حفظ السلام في العالم أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو قرار استهدف إنقاذ بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام من استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضدها.
وقد رفضت إسرائيل إنشاء المحكمة منذ مؤتمر روما. وفي المؤتمر المذكور صرح المستشار القانوني لوزير خارجية إسرائيل بأن المعاهدة بصيغتها الحالية تجعل رئيس الوزراء وأي عضو بالحكومة عرضة للاعتقال، كما تخشى إسرائيل -وفقاً لتصريحه آنذاك- بأن إسرائيل تخشى أن تتخذ إجراءات قضائية ضد جنودها بشأن ممارستهم في جنوب لبنان أو ضد المواطنين الفلسطينيين. وأعربت عن سخطها لاعتبار الاستيطان جريمة حرب في نظام المحكمة الجنائية الدولية. غير أنها وقعت على النظام الأساسي للمحكمة بتاريخ 31 ديسمبر 2000. وبعد ذلك التاريخ اعتبرت إسرائيل نفسها من الدول المتسامحة مع إنشاء فكرة المحكمة. وقد جاء في قرار توقيعها للمحكمة : أنها تحذر من محاولات تسييس المحكمة التي تؤثر على نزاهتها، وهي المحاولات التي تصر عليها بعض الدول المعادية لإسرائيل. ويلاحظ أن إسرائيل وقَّعت على النظام الأساسي في نفس يوم توقيع الولايات المتحدة في اليوم الأخير للمدة المهلة المحددة للتوقيع.
ويلاحظ أيضا أن موقف الدول العربية من المحكمة الجنائية الدولية غامض ولا مبرر له . حيث أنها لم تحضر مؤتمر روما المنعقد حتى 17-7-1998 والذى صدر فى ختامه نظام هذه المحكمة الأساسي . وليست من الدول التى انضمت إليه رغم أنها أجدر دول العالم بالجلوس تحت مظلة هذه المحكمة، لان شعوبها أكثر شعوب العالم تضررا من الجرائم الدولية بجميع أنواعها ، والتى تنظرها وتعاقب عليها هذه المحكمة ، وليس أدل على ذلك ما يحدث على ارض الواقع فى فلسطين والعراق وفضيحة سجن أبو غريب وجنوب لبنان .
بالنسبة لعقوبة مرتكبى جرائم الحرب . فقد نصت المادة 77/2 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على عقوبات أصلية وأخرى تكميلية توقع ضد مرتكب أية جريمة من جرائم الحرب وهي :
1. العقوبات الأصلية :
أ*- السجن الذى لا تزيد مديه على 30 عاما .
ب*- السجن المؤبد .
وتختار المحكمة بين العقوبتين حسب معيار موضوعي وهو جسامة الجريمة وآخر شخصي وهو خطورة الجرم . فإذا كان المجرم ذو خطورة إجرامية وكانت الجريمة على قدر كبير من الجسامة أو إحدى هاتين الحالتين . طبقت المحكمة العقوبة الأشد والعكس صحيح .
2. العقوبة التكميلية :
أ*- الغرامة
ب*- المصادرة لكل عوائد الجريمة مع عدم الإخلال بحقوق الغير حسن النية التى ترتبط بأي من الأشياء المصادرة .
************************************************** ************************************************** ******************
موقع المحكمة الجنائية الدولية http://www.icrc.org/web/ara/siteara0.nsf/html
- د. منتصر سعيد حمودة . (2006) . المحكمة الجنائية الدولية : النظرية العامة للجريمة الدولية وأحكام القانون الدولي الجنائي. دار الجامعة الجديدة للنشر والتوزيع.

ابحث عن موضوع