الملك عبد العزيز آل سعود كتاب
استرداد الرياض بداية التأسيس والتوحيد
* أهم عمل يشغل بال الملك عبد العزيز، هو استرداد الرياض، وبقية أجزاء بلاده من يد من تسلط عليها.
كان الخروج من الرياض أشد ما آلم الأمير الشاب، وكان مقامه في الكويت على أمل العودة إِلى الرياض بعد أن يأخذ العدة، فلما وجد بغيته في عشرات من الرجال من الإِخوان والأعوان، أظهرهم ابن عمه عبد الله بن جلوي، إِلى جانب قتال الشيخ مبارك شيخ الكويت لابن رشيد.
لما وجد عبد العزيز ذلك توجه إِلى الرياض على غير رغبة من أبويه، خوفا عليه، وإِشفاقا من الهزيمة، أما أخته نورة فقد شجعته، وكانت ذات همة عالية، تعرف أخاها حق المعرفة.
خرج عبد العزيز إِلى الرياض بعدته ورجاله، ولم تكن العدة كبيرة، ولا الرجال كثرا، ولا كان على رأس جيش كبير، فكان أعظم ما أعده الثقة بالله، ثم مضاء العزم، وشدة الإِقدام.
* وليس من أهداف هذا الكتاب تفصيل القول في مسيرة الملك عبد العزيز إِلى الرياض، فلم تكن معركة استرداد الرياض، موقعة من معارك الحروب دامت أياما، ولا قتل فيها المئات أو الآلاف، ولا وضعت لها الخطط الحربية المعقدة الكبيرة. كانت في مجملها معركة عبد العزيز قائدا، وصحبه من العدد القليل جنودا، وكان الفكر والتدبير والإِقدام لعبد العزيز. وإِذا كانت معارك الجيوش الكبيرة يقودها القادة، ويحقق فيها النصر الجنود، فإِن معركة استرداد الرياض، خطط لها، وقادها، وحقق فيها النصر القائد والأمير والجندي عبد العزيز مع ثلة من إِخوانه وأعوانه شاركوه، فلم يكتف بمهمة القائد أو الأمير، ولكنه كان مع إخوانه وأعوانه، وكان قبلهم في مواطن الخطر ومواقع النزال.
* في سيره إِلى الرياض واجهته محن وشدائد؛ لكنه عزم أن يدخل الرياض، فجمع رجاله، وأنبأهم بحاله وبشدته، وجدد أمامهم عزمه، فلم يبق معه إلا أشداء القلوب، عشرات لا يجاوز عددهم الستين أعطوا العهد لابن سعود على الصمود معه إِلى النهاية، ولزم القوم مكانهم يتسقطون الأخبار، ولزم عبد العزيز رجاله يفكر ويدبر، ويخطط، مع شدة الحياة من حولهم جميعا، وكان ذلك في شهر رمضان من عام 1319 هـ.
* تبدو الهمة العالية والشجاعة الفائقة في خطة الأمير عبد العزيز لاقتحام معقل عامل ابن رشيد في الرياض، ولم يكن معقولا أن يهجم على معقل عامل ابن رشيد بعشرات الرجال، وهو في معقله يحرسه المئات، ويندفع معه وقت الهجوم جنوده، فاختار الملك عبد العزيز خطة، تحمل فيها مع نفر قليل من أعوانه كل الخطر وكل المغامرة بحياتهم، في هذه الخطة لم يكن أميرا ولا قائدا، يعطي الأوامر جنوده، بل كان الأمير والقائد، وأول الجنود، وأقربهم إِلى موقع الخطر والنزال.
* قرب الرياض أبقى عبد العزيز ثلاثين من رجاله تحت إِمرة أخيه محمد، وتقدم مع سبعة من أعوانه، واقتحم معقل والي ابن رشيد عجلان مع رجاله القليلي العدد والعدة ( ) .
عمل ينم عن الشجاعة والجرأة بأوسع معانيها، أن يقتحم حصن والي ابن رشيد على من فيه من الجنود والأعوان والحراس المسلحين مع قلة العدد والعدة، ومن يتتبع خطوات هذا الاقتحام الجريء يدهشه من الملك عبد العزيز كل ما فعل.
وصل إِلى بيت الوالي عجلان من البيتين المجاورين له، بعد أن تحدث مع رجل من أهل البيت الأول تردد قبل أن يفتح له باب البيت، ومن حسن حظ الملك، ورعاية الله له أنه حين دخل بيت الرجل عرفته إِحدى ابنتيه، فأدخلته، وهرب أبوها من البيت، ثم أغلق عبد العزيز البيت على من فيه، وقفز مع رجاله إِلى بيت يجاور بيت عجلان، وأغلق على امرأتين وجدهما بالبيت بابهما، ثم نزل إِلى بيت عجلان، فوجد فيه امرأتين: زوجة عجلان وأختها، فعرف منهما مكان زوجها الذي كان محصنا في قصره.
وفي الروايات التي تفصل هذا الاقتحام، ما يفيد رباطة جأش الملك ورجاله، لقد ناموا قليلا، وربما تناوبوا النوم، وطعموا قليلا من التمرات، وصلوا الصبح، ثم انتظروا خروج عجلان، ومعه خـدمه وحراسه، يقصدون البيت الذي اختبأ فيه عبد العزيز ورجاله.
وحين خرج عجلان في الصباح فوجئ بالهجوم، وحاول الفرار، وهرب رجال عجلان من حوله، كان مع عبد العزيز بندقية، ومع عجلان سيف سقط من يده بعد أن أطلق عبد العزيز عليه النار.
حاول عجلان الهرب من فتحة أو باب صغير، فأمسك به عبد العزيز، وتحمل ضربته له، ولم يتركه حتى دخل رجاله، وفتحوا الباب، وقتل ابن جلوي عجلان، فتم النصر، وعلا صوت أهل الرياض: بأن الملك لله، ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن.
* أرسل عبد العزيز بالبشارة إِلى أبيه، وطلب المدد بعد أن انتصر على حامية ابن رشيد، وكان يوما مشهودا في حياة الملك عبد العزيز، بل في حياة كل مواطن من أبناء المملكة العربية السعودية، يوم الخامس من شهر شوال سنة 1319 هـ (الموافق 15 / 1 / 1902م).
* كان ما فعله عبد العزيز - وهو في شبابه- عملا من أعمال الهمة العالية، والعزيمة الماضية، والشجاعة الفائقة بكل المقاييس، عملا يكاد يكون شخصيا، تبدو فيه الذاتية في التخطيط، والتوجيه، والعمل، كأصدق ما تكون.
لقد اقتحم هو بيت خصمه، وقاتله وتحمل ضربته، فلم يكن أميرا يقود جيشا، ولا قائدا يوجه جندا، ولكنه كان أميرا يطلب إِقامة دولة، وتوحيد أمة، وقد فعل، ولكنه فعل ذلك بعدد قليل، وعدة أقل، وجرأة نادرة، وشجاعة في المواجهة.
كان معه وقتذاك عدد قليل من الإِخوان والأعوان، ولكن يبقى أن عبد العزيز كان معهم مفكرا ومخططا ومدبرا ومنفذا، وكان أولهم حين واجه الخطر الذي لا يواجهه- إِلا نادرا- أمراء الجيوش، وقـوادها في المعارك الكبرى، التي تتصادم فيها الجيوش، وتختفي فيها شجاعة الرجال، مع سعة الصدام، وكثرة العدد، وقوة العدة والسلاح.
هذه الليلة التاريخية تعد بداية رائعة لعمل كبير، وهو بناء دولة، وإِقامة مملكة، وقد قام بهذا طوال أيام حياته ابتداء من تلك الليلة.
كان يوم 5 شوال سنة 1319 هـ يوما من أيام التاريخ المجيدة في حياة عبد العزيز، وفي حياة المملكة التي أقامها ويمكن لنا إِذا عرفنا أن ذلك اليوم كان ختاما لمرحلة من مراحل حياة الملك البطل عبد العزيز آل سعود، أن ندرك في الوقت نفسه أنه كان بداية لعمل آخر أعظم، وأجل، وأبقى على مر الدهور، لقد انتصر في ذلك اليوم على ابن رشيد، واسترد الرياض التي خرج منها صغيرا مع والده الإِمام عبد الرحمن، لكن همته العالية، وعزيمته الماضية لم يكن مداها الرياض وحدها، وإِنما كانت غايتها أعظم وأجل وأبقى.
لقد كان يوم 5 شوال سنة 1319 هـ يوما من أيام التاريخ حقا، كان يوما له ما بعده، فقد كان انتصار عبد العزيز على خصمه في الرياض هو بداية الانتصار الحاسم فيما بعد، وكان هو الأساس، وحجر الزاوية في إقامة الدولة السعودية الثالثة ( المملكة العربية السعودية ) التي شملت غالب شبه الجزيرة العربية، دولة ومملكة موحدة، والذي وضع شعب شبه الجزيرة على خريطة العالم الحديث.
لم يكن الاستيلاء على الرياض نتيجة معركة، ولا كانت غزوا بالجيوش وصداما بالسلاح بين قوتين، وإِنما كان عملا بطوليـا اعتمد - بعد نصر الله عز وجل- على شخصية من قام به مع نفر قليل من إِخوانه وأعوانه، استولى به على مقر السلطان لخصومه، وتغلب على رجالهم في الرياض، ولم يكن العمل ليتم بهذه السهولة في التدبير والتنفيذ لولا توفيق الله، ثم لما لأسرة آل سعود من سابق الحب، وقديم الاحترام والتقدير لدى الناس.
كانت أسرة آل سعود غير بعيدة عن الرياض: أرضها وأهلها، فقد كان الإِمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز حاكما لها، ظفر بتقدير الناس وحبهم له وطاعتهم، بسبب ما تميز به من علم، وفـضل، ورأي، وسيرة حسنة في الحكم.
إن الدليل على ذلك قائم، وظاهر في أحداث الليلة التي استولى فيها ابنه عبد العزيز على مقر إِمارة خصمه، أو بمعنى آخر استرد الحكم والسلطان الذي كان لأبيه من قبل.
لقد قال الملك عبد العزيز فيما رواه عنه فؤاد حمزة عن ليلة الاستيلاء على المصمك ( )
إِن الحراس لم يكونوا يحرسون المدينة، بل مقر حاكمها فقط، فيحصرون أنفسهم ليلا في القلعة، مما يستنتج منه أنهم كانوا مكروهين من أهل البلد، بل كان أهل الرياض يتمنون عودة حكم آل سعود، وفي رواية الملك عبد العزيز، أن صاحب البيت الذي كان مجاورا لمقر عجلان أمير الرياض كان له بنات يعرفن الملك، وأنهن لما فتح أبوهن باب المنزل صرخن: "عمنا عمنا " أمام أبيهن " جويسر "، الذي هرب- كما تقول الرواية- دون أن يكشف سر المهاجمين. وفي الرواية أيضا: أن زوجة الأمير كانت تعرف الملك؛ لأنها من أهل الرياض، وعمل أبوها وعمها في خدمة آل سعود ( ) .
* كان استرداد الرياض عملا بطوليا من الملك عبد العزيز، لمعت فيه شخصيته أميرا عالي الهمة، بعيد الغور، صاحب شجاعة وفداء قل أن يكون له نظير، وقائدا فذا ملهما يستمد شجاعته وقدراته من ثقته بالله تعالى. ولقد استطاع استرداد الريِاض بأقل قدر من الخسائر في الأرواح والممتلكات، فلم يكن يقود جيشا، ولا كان يواجه جيشا، وكان من بين عناصر النجاح حكم أبيه السابق للرياض، ومقام أسرة آل سعود بين أهلها؛ ولذلك فرح أهالي الرياض حين سمعوا المنادي: " الملك لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن ".
لقد كان ذلك مرحلة مهمة في حياة الملك عبد العزيز، لكنها مجرد علامة وبشارة لما بعدها.
* لقد كان استرداد الرياض مجازفة كبرى، وبطولة عظيمة، ولكن هذه البطولة- مع قدرها- لا تستطيع أن تخفي بقية سجايا الملك، وخصاله التي صاحبتها وتلتها. وهذه السجايا والخصائص الشخصية للملك، هي التي أهلته بعد استرداد الرياض، لكل الأعمال الجليلة والإِنجازات العظيمة في تاريخ العروبة والإسلام، هذه السـجايا التي ظهرت في سيرته مع الناس تستحق أن تذكر؛ لأنها سجايا وخصال، وهبها الله للملك عبد العزيز، فإن الملك مهما كان عظيما لن يمنحها لمن حرم منها.
* إن من حق القارئ، ومن حق الجيل الذي خلف عبد العـزيز آل سعود، لا سيما من شباب المملكة العربية السعودية، والأجيال التي بعده، أن تعرف من هو عبد العزيز آل سعود؟.
لقد عرفه الناس أميرا ذا همة عالية، وعرفه الناس سلطانا، وعرفوه ملكا أقام دولة مترامية الأطراف، موحدة الجوانب، يرفرف عليها علم التوحيد، وتظلها راية الوحدة. لقد عرف الناس الملك عبد العزيز أميرا، وسلطانا، وملكا.
ولكن خصائص الإمارة، والسلطان، والملك، كانت في عبد العزيز الإِنسان وعبد العزيز العربي المسلم، ومن حق الناس أن يعرفوه كما كان، وأن تعرف فيه مواهب الإِنسان وأخلاقه، التي أهلته للملك والسلطان.
وسوف نحاول أن نتعرف في الصفحات التالية على الهدف العظيم الذي يسعى لتحقيقه الملك عبد العزيز رحمه الله، ألا وهو: تحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى، في ربوبيته، وإِلهيته، وأسمائه وصفاته، وأن يعبد الله بما شرع، وأن تطبق شريعة الله في شبه جزيرة العرب، وأن تحقق الوحدة التي تجمع أبناءها.
التوحيد والوحدة في نظر الملك عبد العزيز
* كان استرداد الملك عبد العزيز - رحمه الله- لعاصمة الدولة السعودية هو البداية، ولم يكن انتصاره في الرياض سوى الجولة الأولى في ملحمة امتدت عشرات السنين، وما كان في استطاعة أحد من الناس أن يسبر غور الملك وقت أن تنازل أبوه الإِمام عبد الرحمن عن إِمارة الرياض، ولعل خصومه قد تنبهوا إِلى ظهور أمير قوي يناجزهم على ما تحت أيديهم من البلاد، ومن تحت سلطانهم من العباد، ولكنهم كانوا عاجزين عن تصور مدى التغيير الذي يمكن أن يحدثه هذا الأمير القوي في شبه الجزيرة العربية.
لقد كانت شبه الجزيرة العربية، تزخر بأمراء يتقاتلون على الأرض، وعلى النفوذ، وعلى الغنائم، ويتنافسون على كسب ود القوى الكبرى التي كانت تسيطر على شبه الجزيرة اسما، أو فعلا في بعض أرجائها أو أقاليمها، لم يرفع أحدهم راية للتوحيد الديني أو الوحدة السياسية، ولو فعل لما صدقه الناس في شبه الجزيرة، وقد عركوا هؤلاء الأمراء.
رأى الناس أمراء لا ترتفع همـتهم عن الأرض التي تحت أقدامـهم، يبسطون عليها سلطانهم، ويستأثرون بخيراتها، ويتحكمون في أهلها بقوة السلاح، أو المال، أو سطوة الادعاء، أو مساندة الأجنبي.
ولم يكن بوسع الملك عبد العزيز - بعد استعادة الرياض مباشرة- أن يرفع راية، أو يعلن شعارا يعمل في ظله؛ لأنه لم يكن أحد يصدق أن تتجرد نية أمير؛ لكي يعمل من أجل التوحيد الخالص لله، والوحدة في السياسة، ولكن الملك عبد العزيز كان يتمثل الهدف الكبير، ويعمل من أجله دون أن يرفع راية أو يطلق شعارا، وكان الناس يتمثلون الهدف شيئا فشيئا كلما حقق الملك انتصارا في اتجاه التوحيد الديني، أو الوحدة السياسية.
لقد كان منهج الملك عبد العزيز في ذلك، سابقا لعصره بعشرات السنين، وسابقا لخطط أقرانه وخصومه ربما بأكثر من ذلك، وكلما تحقق للملك جانب من نصر وضحت الرؤية أمام الناس، وبدت الراية ظاهرة.
لقد كان الملك- رحمه الله- منذ أن استعاد الرياض في عمل في دائب، وجهد متصل طوال عشرات السنين، لم ينزل فيها الفارس عن صهوة جواده؛ لكي يخلد إِلى الراحة، أو يكتفي بالسلطان على أرض يحوزها مثل غيره من أمراء شبه الجزيرة. وحينما ينظر المرء إِلى إِنجازات الملك عبد العزيز آل سعود ينبغي أن يتذكر على الفور أن هذه الإِنجازات لم تتحقق بالنصر في معركة، أو بضربة حظ، أو بمساعدة أجنبي، ولكنها تحققت بفضل الله، ثم بجهد موصول، وجهاد قائم ودائم لعشرات السنين، جهاد في ساحة قتال، وجهاد بكلمة حق وصدق تقال، وجهاد أكبر وأعظم وأشق في الاحتمال، وهو الجهاد ضد الجهل، والتخلف، والأهواء، والأغراض، والعقبات التي كانت تواجه الملك في كثير من الأحيان من العدو، والصديق على السواء.
* وربما يحار الباحث حينما يختار أهم القضايا التي واجهها الملك، فقد واجه عشرات القضايا والمشكلات الكبيرة في حجمها وأثرها، ولكن اهتمامات الملك عبد العزيز - رحمه الله- تظهر لنا بوضوح في ترتيب الأولويات.
لقد اهتم الملك بالقضايا الكبرى للعالم العربي والإِسلامي، واهتم بالقضية الكبرى للإِنسان المسلم العربي، إِن الأولويات هنا لا تعبر عن أهمية القضية أو عدم أهميتها، ولكنها تعبر بصدق عن الجهد والجهاد الذي بذل من أجل تحقيق الهدف، وتعبر كذلك عن شخصية الملك وهموم نفسه، وعن فكره وعن مشاعره تجاه أمته العربية والإِسلامية.
فالعظماء- في اختيارهم لأهداف حياتهم ورسالتهم تجاه شعوبهم- يعبرون عن أنفسهم بأمانة وصدق، وما حققه الملك عبد العزيز في حياته يعبر عن خلقه، وسجاياه، وفكره، ومشاعره، وهموم نفسه. ولو وضعنا إِنجازاته التي حققها لأمته وشعبه في صفحة لظهرت شخصيته، ونفسيته، وفكره، ومشاعره في الصفحة ذاتها للقارئ اللبيب.
* كان الملك- رحمه الله- رجلا صالحا نشأ في بيت صالح، فكان بدهيا أن يمثل الدين في فكره ومشاعره أعظم جوانب حياته. لقد تلقى الملك في صباه، أصول العقيدة وأساسيات الشريعة.
وحياته باعتباره أميرا فذا من الأسرة السعودية التي لم تنس ماضيها المجيد، كانت تقتضي منه أن يصرف جهده، وطاقاته كلها في استعادة ملك آبائه وأجداده، ومع ذلك- كما سنرى، وبسبب عمق مشاعره الدينية- استطاع أن يخدم العقيدة، والشريعة، ومذهب السلف في فهم الإِسلام والحياة.
* كان الملك ينتمي إِلى أسرة عريقة في عروبتها، أقامت في شبه الجزيرة العربية دولتـها الأولى (1157 هـ الموافق 1744 م) على يد الإِمام محمد بن سعود أمير الدرعية وقتذاك.
ويعرف الملك - ولا شك - منذ صباه الباكر أن الإِمام سعودا الكبير حفيد مؤسس الدولة السعودية الأولى، قد استطاع أن يوحد في عهده (1218 هـ - 1229 هـ الموافق 1803 م- 1814 م) شبـه الجـزيرة، وسعود الكبير من أعظم رجالات البيت السعودي العريق، شملت الدولة السعودية في عهده بادية الشام، ومعظم شبه الجزيرة العربية، وامتدت الدولة في عهده إِلى شواطئ الفرات، ومن الخليج إِلى البحر الأحمر.
كان الملك عبد العزيز - ولاشك- يعرف عراقة الأسرة، ودولتها التي امتدت، واتسعت حتى وحدت معظم شبه الجزيرة، ويذكر بالاعتزاز والفخار أن جده الإمام فيصل بن تركي قد وحد أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة، شملت منطقة نجد كاملة، ومعظم منطقة الخليج، ويعرف أن هذه الوحدة تتطلب عزما ماضيا وهمة عالية، وكان يملك المؤهلات والمزايا التي تجعل قضية الوحدة في نظره أملا يسعى من أجل تحقيقه.
* لقد كانت قضية التوحيد- جوهر الإِسلام- هي قضية الدين عند الملك عبد العزيز، التوحيد الخالص لله بمعناه الشامل والكامل، كـما تلقاه وكما رسخ مفهومه الصحيح أسلافه الكبار حين أقاموا الدولة السعودية الأولى في القرن الثاني عشر على هدي القرآن الكريم، وبقوة السلطان.
* وكذلك كانت قضية الوحدة- وهي جوهر العروبة- هي قضية السياسة عند الملك عبد العزيز، الوحدة التي حققها فعلا أجداده من قبل، ولكنها زالت بسبب النزاعات والحروب، وعادت الجزيرة العربية إِلى التشرذم والانقسام، كعادتها التي دأبت عليها منذ قرون ( ) .
وفي عصر الملك عبد العزيز توحدت معظم شبه الجزيرة، وقامت فيها الدولة الموحدة، أرضا وشعبا ونظاما وحكما.
وهذه الوحدة تعد مثلا فريدا في العصر الحديث كله أمام البلاد العربية، والإِسلامية.
لقد تقاسمت شبه الجزيرة قبل الملك عبد العزيز قوى عديدة، كانت القوى الأجنبية تباشر نفوذها، وتعزز مصالحها فيها، ولم تكن هناك سلطة موحدة، ولا شعب واحد، ولا دولة واحدة.
لكن الملك عبد العزيز حقق ذلك كله بتوفيق الله، ثم بجهده وجهاده، أميرا وسلطانا وملكا، وحقق بذلك أقـصى غاية أسلافه العظام، ووصل بجهده وجهاده إلى النهاية في آمالهم، وهي جعل المملكة العربية السعودية دولة موحدة، وشعبا واحدا، ينتمي لأمته الإِسلامية والعربية.
* خاض الملك عبد العزيز معارك وحروبا غير جديدة على نجد وما حولها، فقد كانت النزاعات القبلية قائمة، والأمراء ومشايخ القبائل متفرقين، والسيطرة على الأرض لا تعني رسم الحدود ولا قيام دولة. فكانت الولاءات والانتماءات تتغير، والحدود التي تحددها المعارك تزول بتغيرها. ولقد ورث الملك عبد العزيز عن أسلافه عبرة التجارب، وكانت له تجاربه التي حالفه فيها توفـيق الله وكان له من قوة الشخصية، وذكاء الفطرة، وإِخلاص القصد ما يجعل همته تعلو على مطالب الأمراء في عصره في نزاعهم، واقتتالهم على مساحة من الأرض، يوسـعون بها إمارتهم، أو يزيدون بها غنائمـهم، كـان فكر الملك عبد العزيز، وطموحه يجاوز ما عليه الأمراء ورؤساء القبائل، وكانت نظرته أعمق وأدق إِلى شبه الجزيرة كلها، واتسعت هذه النظرة؛ لتشمل شبه الجزيرة حالا ومآلا، ولكي تشمل شعبها كله بقبائله المتفرقة، وتعرف ما يهدده من أخطار الفرقة والانقسام، وسيطرة الأجنبي على الأرض، وبسط سلطانه على الناس.
في هذه الفترة- وبعد أن حقق عبد العزيز ما يصبو إِليه بوصفه أميرا من أمراء آل سعود - بدأ يمد بصره إِلى آفاق أبعد، وآمال أرحب، ومصالح أكبر، ولم يكن ملائما لشخصيته الفريدة، وذكائه الفطري، وآماله الإِسلامية والعربية أن يكتفي بسلطانه على جانب- ولو كان كبيرا ومتسعا- من أرض شبه الجزيرة، لقد فرضت شخصيته وطموحه ونجاحه، أن يفكر في الدولة الموحدة في شبه الجزيرة العربية، ولم يكن الأمر قاصرا على الآمال والطموحات، ولا التفكير والتدبير. لقد كان توحيد شبه الجزيرة في ظروف العصر، وفي عالم يسوده الاضطراب مع خصوم متعددين، ومع قوى عالمية تتربص بالمنطقة كلها، ومع قلة العدة لاسيما من السلاح، ومع انفتاح أبواب الفتن أحيانا في داخل شبه الجزيرة العربية، كان التفكير وحده- في توحيد شبه الجزيرة العربية - كفيلا بأن يزرع اليأس في قلب من يسعى إِليه.
ومن هنا ندرك قدر ما تمتع به الملك عبد العزيز من فكر جمع بين الإِخلاص لله، والاعتزاز بالإِسلام والمسلمين، وبقومه العرب، ومن همة عالية لا تنال منها الصعاب، ومن شجاعة وإِقدام في خوض المعارك، ومن حكمة في التعامل مع الخصوم، والتعامل مع ذوي الأهواء وأهل الفتن من حوله، فلم يكن طريق التوحيد مفروشا بالورود، ولا كان يعتمد على دعوة تبثها أجهزة الإِعلام القوية القادرة على جمع الناس حولها، لكي يكون تحقيقها ميسرا، بل كان الطريق محفوفا بالمخاطر، يتربص به شرا كل من تهدد وحدة شبه الجزيرة العربية إِمارته، أو نفوذه، أو مصالحه، أو طموحه، أو مكاسبه، فقد كان الانقسام، والتشتت، والنزاع بين القبائل، ووجود الأجنبي مفيدا للبعض، وحاميًا لمصالحهم، ومحققا لأطماعهم.
في ذلك الزمن خاض الملك عبد العزيز آل سعود معاركه في القتال أو السياسة، ومع كل الخصوم والأعداء في الداخل والخارج.
وليس أدل على شجاعته، وحكمته، وقدراته، ومواهبه التي يتمتع بها من الواقع الذي فرضه على الأرض، ثم شهادة أهل الحق له بما حققه للعرب وللمسلمين.
توحيد المملكة
* سبقت الإِشارة إِلى أنه لم يكن هدف الملك عبد العزيز - رحمه الله- دخول الرياض فقط، بل كان هدفه أسمى، وغايته أكبر، إِذ كان يتطلع إِلى الوحدة الشاملة، التي تنتظم جميع مناطق المملكة، تلك المناطق التي شملها حكم أسلافه، وتوحدت تحت راية الإسلام، وحكمت به. كان يتطلع إِلى الحكم بالشريعة في شبه جزيرة العرب، وإِلى أن تستأنف الديار المقدسة رسالتها تجاه الإِسلام والمسلمين، تلك الرسالة التي جاهد في سبيلها آباء الملك عبد العزيز، وأجداده، رحمهم الله.
إِذن فدخول الرياض لم يكن إِلا بداية الرحلة العظيمة، التي تهيأ لها الملك عبد العزيز - رحمه الله- وعقد العزم على قطعها إِلى النهاية.
لم يقض الملك عبد العزيز وقتا طويلا، لا في تحصين الرياض من هجوم يقع عليها، ولا في الاستعداد لمواجهة خصومه، الذين أسهموا في تفتيت وحدة البلاد، وجرها إِلى نزاعات، وفتن أنهكت أهلها.
وقد أسهم النجاح المذهل للأمير الشاب في الاستيلاء على الرياض بعدة قليلة، وعدد قليل في انعطاف الناس إِليه، ورغـبتهم فـيه، وإِحساسهم بعودة ملك آل سعود.
بدأ الملك عبد العزيز في ضم المناطق المجـاورة للرياض، ولم تمض سنوات قلائل حتى ضمها كلها إِليه، وتقلص نفوذ ابن رشيد منها.
لم يقدر ابن رشيد قوة الملك عبد العزيز، ولا عرف خصائصه وسجاياه ومزاياه، وهنا يبدو الفارق الكبير في عبقرية القيادة، وحكمة السياسة، وموهبة الزعامة.
لم تكن قوة العدد، وكثرة العدة لدى كل خصم، هي المعيار الوحيد للنصر، لقد كانت أسباب النصر- بعد مشيئة الله وتوفيقه- كامنة في مواهب الملك عبد العزيز، تظهر عند المعارك، فتحسمها لصالحه، ودون دخول في تفاصيل المعارك والتحركات التي كانت تقع بين الملك عبد العزيز - رحمه الله- وخصومه، ودون دخول في الفتن الداخلية في المناطق التي تقع تحت سلطانه، ومجابهته لها، وما كان يعامل به الملك- رحمه الله- مثيريها، دون الدخول في ذلك كله، فإِنه - رحمه الله- أعاد غالب نجد إِلى حظيرة الدولة السعودية، وقضى على دعاة الفرقة، وأصحاب المصالح والنفوذ، وانتهت سلطة ابن رشيد فيها.
وأصبح عبد العزيز آل سعود سلطان نجد دون منازع، بايعه العلماء، والناس على ذلك.
وفي الوقت نفسه كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- ينظر إِلى جزء غال من بلاده يسيطر عليه الأتراك، ألا وهو الأحساء، وكان ذلك في أواخر عهد الدولة العثمانية، التي لم يكن بوسعها أن تقاوم تصميم الملك عبد العزيز على توحيد بلاده.
لقد اتجه الملك- رحمه الله- في سنة 1331هـ (1913م) إِلى مدينة الهفوف التي كانت فيها حامية تركية، فاستسلمت المدينة وحاميتها التركية، وسمح لهم الملك عبد العزيز بالخروج دون سلاح، فأبحروا إِلى تركيا.
وبذلك أصبحت الأحساء تحت سيطرة سلطان نجد، ولم يكن ذلك إِثر معارك ضارية، ولا بعد تضحيات جسيمة، بل تحقق بفضل الله، ثم بحسن القيادة، وحكمة التصرف من الملك عبد العزيز، ففي أقل من شهر ضم الأحساء إِلى سلطانه.
وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1332 هـ (1914م) لم يكن لدى الأتراك من الفراغ، أو القوة ما يجعلهم يفكرون في استعادة ما ضاع منهم، بل إِنهم قدروا لعبد العزيز آل سعود أنه سمح بخروج جنودهم أحياء مكرمين من بلاده.
* تبدو عبقرية الملك عبد العزيز، وحنكته في أسلوب ضم الأحساء، فقد خرج إِليها، وهو يتظاهر بأنه يؤدب القبائل الخارجة عليه في نجد، ولما شك الأتراك في نيته بأنه يقصدهم أزال شكوكـهم بعودته إِلى الرياض مع ترك جيشه قريبا منهم، ثم فاجأهم بالهجوم، فاستسلموا، واجتذب عبد العزيز أهل الأحساء إِلى جانبه بتأمينهم في مدينتهم، وكان أعيانهم قد كتبوا للملك عبد العزيز، يطلبون منه ضم الأحساء، لينهي معاناتهم مما كانوا يعيشونه من مصاعب اقتصادية وسياسية، كما استطاع أن يجتذب أهل القطيف إِليه، فآثرت الحامية التركية الانسحاب ( ) .
* لقد وطد ضم الأحساء مكانة عبد العزيز، وكفل له خطا ساحليًّا، مما جعل البريطانيين يعيدون حساباتهم نحوه، كما قوى أمله في دولة الوحدة، التي لا يخفي نياته في أقامته في مملكته، فقد نما لديه الشعور بقرب النصر على جميع الخصوم، وأن مملكته سوف تشمل غالب شبه الجزيرة العربية، ولم يكن هذا الشعور وِليد رغبة في التوسع والسلطان، بقدر ما كان إِدراكا واعيا، واعتزازا أصيلا بمكانة العرب، وعراقة أمتهم، وحقهم في أن يكون لهم مكان تحت الشمس في ظل الدين الخاتم، والعروبة الأصيلة.
ورغبة في تفيؤ ظلال العدل، والأمن، التي كانت تتفيؤها كل منطقة تدخل في حكم الملك عبد العزيز، فقد سلم أهالي حائل، وزعماؤها ووجهاؤها، المدينة للملك عبد العزيز في 29 / 2 / 1340هـ (نوفمبر 1921 م) بعد أن أمنهم على أرواحهم وأموالهم، وأعراضهم، كـما استسلم أميرهم بعد أن أمنه الملك على حياته ( ) .
وفي منطقة عسير، في الجنوب الغربي من المملكة، شكا أهل المنطقة من أوضاعهم المتردية، وكـان نظرهم يتجه إِلى الرياض، وإِلى الملك عبد العزيز، وانتهى الأمر ببسط سلطان الملك عبد العزيز على المنطقة في عام 1340 هـ (1921م).
كما تم بسط سلطانه على منطقة نجران وجيزان.
كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- ينظر إِلى مكة المكرمة والمدينة النبوية، نظرة خاصة، لمكانتهما الدينية.
ففي مكة أول بيت وضع للناس لعبادة الله، وفي المدينة مسجد رسول الله إِن هذه الأماكن المقدسة تهوي إِليها أفئدة الملايين من المسلمين، يستقبلون بيت الله تعالى في صلواتهم، ويؤدون في مكة مناسك الحج، الركن الخامس للإِسلام، ويزورون مسجد رسول الله رغبة في مزيد الأجـر والمثوبة من الله سبحـانه، وكان- رحمه الله- يدرك ضرورة استتباب الأمن في كل شبه الجزيرة، وعلى وجه الخصوص في الحرمين الشريفين، وأهمية بذل الجهد، والطاقة في تيسير سبل الحج، والعمرة، والزيارة، واتخاذ الأسباب التي تعين المسلمين على أداء نسكهم.
كان- رحمه الله- يدرك ذلك كله، ويعتبر تحقيقه واجبا دينيا، ونوعا من أنواع الجهاد في سبيل الله، ويدرك أن أسلافه قد حققوا ذلك، وأن البلاد المقدسة وما جاورها كانت جزءا غاليا من الدولة السعودية، وأن ضمها إِلى الأجزاء الأخرى؛ لتنعم بما نعمت به، مطلب مواطني تلك البلاد، ومطلب المسلمين كافة.
* لقد أجمعت المصادر التي تناولت سيرة الملك عبد العزيز، ونشأة المملكة، أن الملك لم يقم بحرب إِلا وهو مضطر لها، وبعد استنفاد كل الوسائل السلمية.
وفي اعتقادنا أن الله- تعالى- أنعم عليه بالحلم والصبر، حتى يتاح له أن يحقق ما يريد بأيسر السبل وأقل الخسائر، فلم يكن يندفع إِلى معركة، ولا كان بمقدور أحد أن يستدرجه إِلى قتال، وإِلى جانب ذلك كان خطابه إِلى خصومه عفيفا، حتى ينتهي الأمر بسلام، أو تنجلي المعركة عن منتصر ومهزوم، وما كان يغريه النصر، أو ينهار أمام هزيمة في معركة.
* لم يمض وقت طويل حتى صارت مكة تحت حكم الملك عبد العزيز آل سعود، فدخلها حاسر الرأس، خاشعا لله في لباس إِحرامه، ومعه قادة جيشه، ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى كان الملك عبد العزيز آل سعود سلطان نجد يحكم الحجاز كله، وذلك في عام 1344 هـ (1925) وقد أمن أهله، وأبقى على جهازه الإِداري الذي كان يعمل من قبل، وسعد الناس بحكم عبد العزيز آل سعود.
* في جمادى الآخرة سنة 1344 هـ الموافق لشهر يناير سنة 1926م نادى به علماء مكة، وأهلها ملكا على الحجاز، وأصبح عبد العزيز آل سعود سلطانا على نجد، وملكا على الحجاز، وهكذا اكتمل توحيد البلاد، وأذاع الملك على أهل الحجاز بلاغه، وقال فيه:
" أبشركم بحول الله وقوته، أن بلد الله الحرام في إِقبال وخير، وأمن، وراحة، وإِني- إن شاء الله تعالى- سأبذل جهدي فيما يؤمن البلاد المقدسة، ويحل الراحة والاطمئنان بها ".
وأوصى الناس بتقوى الله، واتباع مرضاته، وأن لهم النصيحـة، احترام الدماء والأعراض والأموال إِلا بحق الشريعة، وأن المرجع هو الكتاب والسنة ( ) .
وبعد ذلك بدأت حركة الإِصلاح في الحجاز في جميع المجالات، وأقام الملك ابنه الأمير فيصلا - رحمه الله- نائبا عاما في الحجاز.
وكان حكم آل سعود حكما عربيا خالصا دون تبعية لأحد من خارج الجزيرة العربية، أو من غير المسلمين، وكان تحت راية الإسلام وحدها.
وهكذا أصبحت مختلف مناطق المملكة تابعة لسلطان واحد، وملك واحد، وإِمام واحد، جاهد لإِعلاء كلمة الله فيها، ولتوحيد أرضها وشعبها، فتحقق بذلك ما كان يسعى إِليه الملك عبد العزيز - رحمه الله- منذ دخوله مدينة الرياض في عام 1319 هـ.
المملكة العربية السعودية
* قد يكون فهم العنوان: " المملكة العربية السعودية " يسيرا على القارئ له، ولكن قيام هذه المملكة لم يكن يسيرا، ولا هينا على من أقامها، لقد ذكرنا من قبل كيف بدأ الملك عبد العزيز بعد دخوله الرياض سنة 1319هـ (1902م) يضم إِليـها مناطق ومـدنا، كـانت تتـبع خصومه، ناهيك عن قبائل تتغير ولاءاتها، وانتماءاتها من حين لآخر، بحـسب الظروف والأحـوال والأهواء، ولم يكن الملك قد بدأ حـربا، أو قتالا بهدف توسيع إِمارته، أو زيادة نفوذه، فحسب، وإِنما كانت الأوضاع تفرض عليه أن يدافع عن سلطانه ضد من يهاجمونه، فينتصر عليهم، أو يبادر هو إِلى حماية نفسه منهم، فينتصر عليهم بالقتال، أو بحكمته وسياسته، متى كانت الحكمة والسياسة بديلا عن السيف.
من خلال المعارك العديدة التي خاضها الملك في بداية كفاحه ونضاله، وبسبب ما يتمتع به من بعد النظر، وعلو الهمة، وعمق الانتماء الديني والإِحساس الوطني، اتجه فكر عبد العزيز آل سعود إِلى توحيد المملكة، وتعمق لديه هذا الهدف، كما وضح أمام خصومه، بحيث لم تعد المعارك التي تنشب بينه وبينهم مجرد نزاع على منطقة، أو خلاف على توسيع رقعة الأرض التي يبسط سلطانه عليها، كما كان الشأن حين كانت شبه الجزيرة مقسمة بين القبائل والأمراء والقوى الأجنبية، بل أصبح عبد العزيز آل سعود - حتى في نظر خصومه- يقاتل من أجل هدف أسمى، وهو الوحدة التي تجمع القبائل والمناطق والأراضي التي تخضع للنفوذ الأجنبي، حتى وإِن كان من خلال الشيوخ أو الأمراء، ولذلك قاتل عبد العزيز الأمراء الذين كان التشتت، والتشرذم يضمن مصالحهم، وقاتل الأتراك بهدف التخلص من سيادتهم على بعض المناطق في شبه الجزيرة، وقاتل عملاء الأجنبي أيًّا كان.
وبقدر ما كـان الهدف دينيا وطنيا كـانت المعارك التي خـاضها عبد العزيز آل سعود، وكانت سياسته في التعامل مع الخـصوم الذين كانت مصالحهم تتفق مع الفرقة والتجزئة والتشرذم في قبائل ومناطق، والذين كانت تبعيتهم للغير تفرض هذا الواقع، وتنميه، بهدف الحفاظ على موقعهم، أو نفوذهم في شبه الجزيرة.
واجه الملك صورا من العصيان والتمرد والنكث بالعهود من البعض، ولكن ذلك- في نظرنا- كان من اليسير على عبد العزيز آل سعود أن يقضي عليه، على الرغم من شدة المواجهة أحيانا، لقد كان سلطانه، مستقرا، وكان في هذه المواجهات يفرض الأمن في المناطق التي يبسط عليها سلطانه، ويتولى مسؤولية رعاية أهلها وضمان أمنهم، وكان في الوقت نفسه- وبواسطة التشدد في فرض الأمن في كل منطقة يبسط عليها سلطانه- يقوم بأهم إِصلاح اجتماعي في شبه الجزيرة، وهو تحويل القبائل المتناثرة والمتنافرة والتي تعيش على الغارة والسلب والنهب فيما بينها، أو على الآخرين، إِلى مجتمع مدني موحد، قابل للنمو والتقدم.
لقد كانت هذه فكرة الملك من إِنشاء تجمعات للاستقرار والحرث والزرع، حتى لا يكون عيش القبائل اعتمادا على قدرتها على الغارة والسلب والنهب.
* لقد خاض الملك معارك عديدة في أنحاء شبه الجزيرة في الشرقّ والشمال والجنوب والغرب، وأصبح سلطانا على نجد، وضم الأحساء وحائل وعسير وجازان ونجران، وصار ملك الحجاز، وبذلك تكونت جغرافيا وسياسيا المملكة العربية السعودية.
* بينما كانت المملكة تنشأ في ظل الوحدة والاستقلال عن النفوذ الأجنبي، كانت بلاد العرب في العشرينيات من القرن الميلادي العشرين تعاني من فقد الاستقلال، ومن سيطرة الأجنبي البريطاني والفرنسي في الغالب، كانت مصر تحت الحماية البريطانية، والعراق تحت إِدارة عسكرية بريطانية، ووضعت سوريا ولبنان تحت الإِدارة الفرنسية، وفلسطين، وشرقّ الأردن تحت الإِدارة البريطاني.
وكـانت إِمـارات الخليج العـربي، وجنوب الجـزيرة، والكويت، والبحرين ومسقط، خاضعة للنفوذ البريطاني، وليست الدول العربية في شمال إِفريقيا بأحسن حالا.
وعلى الرغم من ثورة العـرب ضـد الأتراك سنة 1335هـ (1916م) بقيادة الشريف حسين، طمعا في استقلال البلاد العربية، فإِن بريطانيا وفرنسا تقاسمتا هذه البلاد بمقتضى اتفاقية سايكس بيكو سنة 1335هـ (1916م) ووضعت الاتفاقية موضع التنفيذ في سنة 1337هـ (1918م) بعد انتهاء الحرب، وفي مـؤتمر الصلح سنة 1339هـ (1920م) تقـرر أن تقـوم الدول القائمة بالانتداب بالعمل على تنفيذ وعد بلفور بإِنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بعد أن أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق.
* في عام 1349هـ (1930م) كانت المملكة المستقلة الموحدة التي أقامها الملك عبد العزيز - رحمه الله- تشمل غالب شبه الجزيرة، وكانت من أكبر الدول العربية مساحة، تضم كيانا بشريا متميزا، وأصبحت أقوى الوحدات السياسية القائمة في شبه الجزيرة العربية، وفي جنوب غرب آسيا، وفي المملكة صور من المناخ ومن التـضاريس متنوعة ومتباينة، وفي أرضها مناطق للزراعة وللتعدين.
وبإِيجاز كانت المملكة التي أقامها الملك عبد العزيز بفضل الله، ثم بجهده وجهاده، أكبر دولة مستقلة وموحدة في البلاد العربية، وبذلك كان جهد الملك محققا للاستقلال، فضَلا عن الوحدة السياسية في شبه الجزيرة.
* وبعد سنوات الكفاح الطويلة والمريرة، وبعد معارك عديدة، وانتصارات، ونكسات، واجهها الملك عبد العزيز آل سعود بحزم وعزم، تم له النصر بفضل الله، واجتمع الرأي على اختيار اسم موحد للدولة، هو: " المملكة العربية السعودية "، وصدر بذلك أمر ملكي بتاريخ 17 جمادى الأولى سنة 1351 هـ (19 / سبتمبر / 1932م)، وبدأ عصر جديد في المملكة، له أصداؤه البعيدة في العالم العربي، والإِسلامي.
قائمة بأهم المصادر والمراجع
* الأخبار النجدية، لمحمد بن عمر الفاخري، تحقيق معالي الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل، طباعة جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية.
* أطلس تاريخ الإِسلام، للدكتور حسين مؤنس، الطبعة الأولى سنة 1407 هـ.
* الإمام العادل، لعبد الحميد الخطيب، طبع شركة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر، بدون تاريخ.
* ابن سعود سيد نجد وملك الحجاز، لكنث وليمز، ترجمة كامل صموئيل مسيحة، الطبعة الأولى.
* ابن سعود مؤسس مملكة، ترجمة، محمد شيا 158، الطبعة الأولى 1995 م.
* ابن سعود وقضية فلسطين، لأحمد عبد الغفور عطار، من منشورات المكتبة العصرية بلبنان، بدون تاريخ.
* تاريخ ملوك آل سعود، للأمير سعود بن هذلول، الطبعة الأولى 1380 هـ.
* تاريخ المملكة العربية السعودية، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين، الطبعة الثامنة 1418.
* تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز للعقيد الدكتور إِبراهيم العتيبي، الطبعة الأولى 1414 هـ.
* توحيد المملكة العربية السعودية، لمحمد المانع، ترجمة الدكتور عبد الله العثيمين، الطبعة الأولى 1402 هـ.
* توحيد المملكة العربية السعودية، وأثره في الاستقرار الفكري والسياسي والاجتماعي، للدكتور محمد بن عبد الله السلمان، الطبعة الأولى عام 1416 هـ.
* جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإِمام أبي جعفر الطبري، الطبعة الثالثة.
* جريدة أم القرى، العدد 406 في 22 / 5 / 1351هـ.
* الزعماء السياسيون في الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا، لبرنارد لويس، النص الإِنجليزي، الطبعة الأولى.
* السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا، وزميليه، الطبعة الثانية 1375 هـ.
* السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله أحمد، الطبعة الأولى.
* صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الخامسة 1399 هـ.
* عاهل الجزيرة العربية، لعبد الرحمن نصر، بدون تاريخ.
* عثمان بن بشر، منهجه ومصادره، لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، الطبعة الثامنة عام 1395 هـ.
* عنوان المجد في تاريخ نجد، لعثمان بن بشر، نشر مكتبة الرياض.
* غياث الأمم في التياث الظلم، لأبي المعالي الجويني، تحقيق الدكتور مصطفى حلمي، والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد، ط دار العلوم سنة 1979 م.
* مجلة مركز البحوث، في جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية، العدد الثاني.
* معارك الملك عبد العزيز المشهورة، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين، الطبعة الأولى 1415 هـ.
* الملك الراشد، لعبد المنعم الغلامي، طبع دار اللواء عام 1980 م.
* الملك عبد العزيز، رؤية عالمية، للدكتور ساعد العرابي الحارثي، دار القمم للإِعلام، الطبعة الأولى 1415هـ.
* الملك عبد العزيز وفتح الرياض، لعبد الواحد محمد راغب، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، بدون تاريخ.
* موسوعة التاريخ الإِسلامي، للدكتور أحمد شلبي، الطبعة الخامسة.
* الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي، طبع دار القلم ببيروت عام 1391 هـ.
* يوم وملك، لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، الطبعة الأولى 1418 هـ.