المراحل التي مرت بها الكتابات حول مفهوم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية

 بسم الله الرحمن الرحيم


   مرت الكتابات حول مفهوم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وما ارتبط بذلك المفهوم من مصطلحات، بثلاث مراحل مختلفة نسبيا  و متداخلة، بدءا من مرحلة التعدد والتنوع الشديد، وانتقالا إلى مرحلة ثنائية التوجه، وانتهاء بمرحلة التبادل والتقارب. وقد اتسمت المرحلة الأولى بالعمومية في صياغة المفهوم وفي التعريف به، وارتبط بهذا التعدد في الاصطلاحات التي أطلقت على ذلك المفهوم (أو تلك المفاهيم). أما في المرحلة الثانية فقد بدأ يتبلور رأيان محددان في تناول القضية ارتبط كل منهما بمفهوم ومصطلح مختلفين، أقصد بذلك رأي من التزموا استخدام اصطلاح (أسلمة العلوم الاجتماعية). ورأي من التزموا استخدام اصطلاح (التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية) بمعنى خاص مخالف للاستخدام الشائع اليوم. أما في المرحلة الثالثة فإننا نستطيع أن نلاحظ تقاربا فعليا في الرأي ونوعا من الوحدة في التعبير عن المفهوم واستخدام الاصطلاح.. 

المرحلة الأولى: عمومية الصياغات وتعدد المصطلحات:

لقد اتسمت الكتابات الأولى حول الحاجة إلى الإصلاح المنهجي للعلوم الاجتماعية وحول ضرورة إعادة صياغتها من وجهة إسلامية، بالعمومية والتركيز على الأهداف أكثر منها على تحديد المنهج وتوصيفه.

وقد ارتبط "بالاستجابة العامة" للفكرة عند الكثيرين ظهور اجتهادات فردية كثيرة التعدد فيما يتصل بالمضمون (أو المفهوم). فالكثيرين قد كانوا بالفعل يشعرون منذ وقت طويل بحاجة العلوم الاجتماعية إلى نوع من الإصلاح المبني على أساس التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون، مما أعطى كل مشارك بجهد في هذا السبيل شعورا طبيعيا بملكيته لفكرة الأسلمة والتأصيل التي لم تبد غريبة عن أي منهم. 

إن كل مشارك بجهد في هذه المرحلة يقدم لنا "تصوره" للمفهوم الذي يدافع عنه بقوة الاقتناع ( الذي حرم أحيانا من سعة الإطلاع )، بل ويحاول أن ينحت لنفسه اصطلاحا يظنه أقرب للتعبير عن هذا التصور، فوجدنا إلى جوار اصطلاح أسلمة المعرفة أو إسلامية المعرفة (الذي كان أسبقها في الوجود) اصطلاحات أخرى مثل التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وإعادة صياغة العلوم الاجتماعية من وجهة إسلامية، والتوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية، وبناء العلوم الاجتماعية على منهج الإسلام، وتأسيس العلوم على الأصول الإسلامية...الخ. حتى أن الكثيرين ضاقوا ذرعا بهذا التعدد في المصطلحات وفي التصورات الضمنية الكامنة وراء كل منها، ورأوا فيه توقفا عند اللفظيات والعموميات دون تحقيق أي تقدم حقيقي في فهمنا للقضية الأساسية، ودون أي تراكم للجهود العلمية التي تبذل في بحثها. وظل الأمر كذلك إلى أن بدأت الجهود التأصيلية تتجه صوب بحث المنهجية التفصيلية، حيث أسفرت المناقشات التي دارت حول تلك الجوانب الأكثر تحديدا عن شيء من التضييق لنطاق الخلاف. عن ظهور اتجاهات محددة في النظر للمفهوم، كما أسفرت عن ظهور تقارب في اختيار المصطلح .

المرحلة الثانية :  ثنائية التوجه

بدأ يتحدد في هذه المرحلة رأيان واضحان في تناول القضية وقد استخدم أصحاب كل من الرأيين اصطلاحا بعينه ليكون علما على اتجاههم. وقد عبر عن هذين الرأيين اصطلاح الأسلمة (أو الإسلامية) واصطلاح التأصيل الإسلامي (أو التوجيه الإسلامي). والحق أنه قد يكون باستطاعتنا تفسير الاختلافات بين الفريقين في ضوء اعتبارات تاريخية أو جغرافية بعينها، ولكننا في الوقت ذاته ندرك الآن أيضا أن للقضية إبعادها النظرية والمنهجية... فمن الممكن أن لفظ الأسلمة مثلا كان اسبق في الظهور تاريخيا، وأنه قد شاع استخدامه على نطاق واسع بين المهتمين بالقضية في دول غير إسلامية كالولايات المتحدة ، أو دول غير عربية مثل باكستان ، في حين أن اصطلاح التأصيل قد ظهر في فترة لاحقة في الدول الإسلامية والعربية منها خصوصا وهكذا... ولكن لا يبدو أن هذه الاعتبارات التاريخية أو الجغرافية كافية وحدها لتفسير الخلاف الذي ظهر بين أصحاب الرأيين، وهذا يوجهنا للبحث عن الأبعاد التصورية التي يبدو أنها كانت تكمن وراءه.

من المعلوم أن هناك اتفاقا يشبه الإجماع –بين المهتمين بإصلاح العلوم الاجتماعية وبزيادة فعاليتها من خلال إعادة صياغتها في ضوء التصور الإسلامي- على أمور ثلاثة على وجه الإجمال، هي:

1. أن مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة ونظرياتها، والمسلمات الأساسية التي تقوم عليها تلك العلوم في صورتها الراهنة، تتضمن كثيرا مما يتعارض أو يتناقض مع التصور الإسلامي الصحيح للإنسان والمجتمع والوجود.

2. أنه قد ترتب على هذا القصور والاختلال المعرفي عجز تلك العلوم، أو على الأقل قصورها حتى الآن، عن التوصل إلى تفسيرات مرضية للسلوك الفردي، أو للظواهر الاجتماعية.

3. أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في تلك المناهج والنظريات والمسلمات بطريقة جذرية في إطار التصور الإسلامي.

و المناقشات في هذه المرحلة قد أسفرت عن وجود بعض الاختلافات حول نقطة البدء في الإصلاح المنهجي المنشود، حيث بدأ يظهر نوع من التمايز بين نظريتين مختلفتين أو توجهين لا يصل اختلافهما إلى مستوى تكوين مدرستين محددتين :

1. التوجه الأول: وقد فضل أصحابه استخدام اصطلاحات أسلمة العلوم الاجتماعية، أو إسلامية العلوم الاجتماعية، للدلالة على المهمة المتفق –إجمالا- عليها من الجميع، ألا وهي صبغ العلوم الاجتماعية بالصبغة الإسلامية الصحيحة. والغالب أن معظم أصحاب هذا الاتجاه هم من المتخصصين في العلوم الاجتماعية، الذين يرون أن جوهر المهمة الإصلاحية المطلوبة إنما يتمثل أصلا في تصحيح مسار هذه "العلوم الاجتماعية"، وذلك من خلال نقدها نقدا شديدا في ضوء التصور الإسلامي، واستبعاد مالا يصمد منها للنقد، واستبدال ما يصح في ضوء الكتاب والسنة به، مع استكمال ما هو صحيح منها كخطوة مبدئية لابد منها نحو تطوير مستقل أصيل لقضايا المعرفة الإنسانية من منظور إسلامي ينبع من الكتاب والسنة ويفيد من التراث الإسلامي وما صلح –وفقا للمعايير الإسلامية- من إنجازات العلوم الغربية الحديثة. 

2. التوجه الثاني: ويفضل أصحابه استخدام اصطلاحات كالتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية، أو التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية ويغلب أن يكون هؤلاء أقرب إلى المتخصصين في العلوم الشرعية ممن يرون أن نقطة الانطلاق للتحقيق الإصلاح المنشود ينبغي أن تكون البدء من الكتاب والسنة، والمصادر الإسلامية المتفرعة منها، مع عدم الاعتداد بما وصل إلينا من هذه العلوم الاجتماعية الحديثة التي لا يرون فيها خيرا، بسبب ما بنيت عليه توجهاتها الأساسية من استبعاد للوحي مصدرا للمعرفة، وبسبب ما شاع فيها من معادات للدين. ويظهر هذا في تعريفهم للتأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه "إبراز الأسس الإسلامية التي تقوم عليها هذه العلوم، من خلال جمعها أو استنباطها من مصادر الشريعة وقواعدها الكلية وضوابطها العامة، ودراسة موضوعات هذه العلوم في ضوئها، مع الاستفادة مما توصل إليه العلماء المسلمون وغيرهم مما لا يتعارض مع تلك الأسس." ولا يرى أصحاب هذا التوجه معنى لاستخدام اصطلاح "الأسلمة" في مجتمعات مسلمة أساسا ومطبقة لشرع الله، حتى لو كانت العلوم الاجتماعية فيها وافدة من مجتمعات علمانية تستبعد الدين من توجيه الحياة.

و يمكننا التسليم بأن العلوم الاجتماعية الحديثة، وان اشتملت على الكثير مما يعترض عليه بقوة، إلا أنها في الوقت ذاته تتضمن الكثير مما يمكن أن يستفاد منه وخصوصا في الجوانب التالية:

1. ما ليس له تعلق شديد أو استناد مباشر إلى المسلمات المتصلة بوجهة النظر عن الحياة والوجود والكون، أو المسلمات المتصلة بالمعرفة ومصادرها المرفوضة إسلاميا 

2. ما يتعلق مباشرة بتلك المسلمات المعرفية وتلك المتصلة بوجهة النظر عن الوجود، ولكنه ليس تعلق تعارض أو تناقض مع المنظور الإسلامي، وإنما يتضمن فقط إهمالا أو استبعادا لبعض الجوانب التي يمكن استكمالها في ضوء بصائر التصور الإسلامي، دون أية حاجة إلى تدميرها أو إنكارها كليا. 



المرحلة الثالثة: التبادل والتقارب

لقد وصلنا اليوم إلى مرحلة يوشك أن يتحقق فيها ما يشبه الإجماع على الاصطلاح والمفهوم، على وجه يتضمن شيئا من التكامل بين التوجهين السابقين أو التبادل بينهما على الصورة الآتية:

1. لقد أصبح التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية الذي كان يفضله أصحاب التوجه الثاني يحظى بقبول غالبية المهتمين بالقضية في الكتابات باللغة العربية، مع اعتبار ذلك الاصطلاح في الوقت ذاته مرادفا لاصطلاحIslamization of the Social Sciences في الكتابات الأجنبية.

2. ومع ذلك فإن اصطلاح: "التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية" قد أصبح اليوم يستخدم بدلالة "المفهوم" الذي كان يدعو إليه أصحاب التوجه الأول (أسلمة أو إسلامية العلوم الاجتماعية). وهذا يعني أن جوهر المهمة التأصيلية وفق هذا المفهوم إنما يتمثل في تصحيح مسار "العلوم الاجتماعية" القائمة أكثر من أن يكون إنشاء فروع جديدة من "العلوم الشرعية" التقليدية تكون مختصة بدراسة الظواهر الاجتماعية.

وعليه فمن الممكن تعريف التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية على الوجه التالي، وهو يعبر بشكل مقبول عن الصورة الراهنة لإدراكنا لهذا المفهوم:

"التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية عبارة عن عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد بوصفهما مصدرين للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصور الإسلامي إطارا نظريا لتفسير المشاهدات الجزئية المحققة والتعميمات الواقعية (الإميبريقية)، وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة".

و في ضوء ذلك يمكن تعريف التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية بأنه:

"عملية بلورة أبعاد التصور الإسلامي للطبيعة البشرية والسنن النفسية والاجتماعية التي تحكم السلوك البشرى والتنظيمات المجتمعية ، وكذلك لأسباب المشكلات الفردية والاجتماعية ، واستخدام هذا التصور لتفسير الحقائق العلمية الجزئية التي تعتمد عليها المهنة من جهة ، ولتوجيه القيم المهنية التي تبنى عليها نظرية الممارسة و أساليب التدخل المهني من جهة أخرى" .


المراجع


1- الفاروقي ، إسماعيل (1986) إسلامية المعرفة ، ترجمة د. عبد الحميد أبو سليمان (واشنطون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي).


2- رجب ، إبراهيم عبد الرحمن  (1421هـ) "الإسلام و الخدمة الاجتماعية  " القاهرة .


3- رجب ، إبراهيم عبد الرحمن  (1416هـ) "التأصيل الإسلامي للعلوم  الاجتماعية  " دار عالم الكتب , الرياض .



ابحث عن موضوع