جاد الكريم الجباعي
تتعارض أي مقاربة جدية لمفهوم المجتمع المدني الذي يقوم على مقاصد بشرية محضة وعلى مبادئ اجتماعية خالصة، مع الوعي الأيديولوجي بوجه عام، ومع الأيديلوجيات المذهبية والقوموية والطبقوية، بوجه خاص؛ الأيديولوجيات التي تشتق الواقع من الفكر، وتجعل منه وجوداً جوهرياً سامياً يتعالى على التاريخ وعلى سنن النمو والتطور. وتتعارض مع لغة "السياسة" التي كانت ولا تزال أقرب إلى المجاز أو "البيان"، وسحر الكلام، ولا سيما حين تتحدث هذه اللغة عن "مجتمع عربي" أو عن "مجتمع عربي اشتراكي موحد"، وعن "شعب عربي" في عدة دول، وعن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أو عن أمة إسلامية، أو عن أممية بروليتارية، من دون أن تقيم أي حد مفهومي بين المجتمع والشعب والأمة والدولة، أو بين الدين والفكر والأخلاق والسياسة؛ إذ يأنف الخطاب القومي التقليدي والرومانسي خاصة من الحديث عن مجتمعات عربية أو شعوب عربية، ويرفض الاعتراف بالواقع القائم والوقائع العنيدة، فينطلق من الهدف إلى الواقع. ذلك لأن مفهوم المجتمع المدني يحيل على فضاء من الحرية، في الفكر والعمل، يعري هذه الأيديولوجيات، ويكشف عن خوائها ومفارقاتها حين يعارضها بالواقع الذي تتحاشاه، وبالوقائع التي لا تعترف بها. ولا ينبغي التقليل من أهمية هذه المشكلة سواء في جانبها النظري، أو في جانبها السياسي، أو في جانبها الدستوري والقانوني، إذ ارتبط مفهوم المجتمع المدني تاريخياً بمفهوم الأمة وبمفهوم الدولة القومية؛ فلا يكفي أن نصف لغة السياسة، أو الخطاب السياسي القومي بالتقليدوية أو الرومانسية فنحل المشكلة التي نجمت في الواقع عن التجزئة القومية الحديثة التي كانت ولا تزال تعبيراً عن اتجاهات الرأسمالية وتناقضاتها، وعن نمو العنصر الإمبريالي طرداً مع توسع الرأسمالية على الصعيد العالمي؛ في حين لا يعدو هذا الخطاب كونه خلاصة موضوعية ونتيجة منطقية للأوضاع العربية والإقليمية والدولية التي شكلت هذا الوعي وأنتجت هذا الخطاب. ولكم كان ياسين الحافظ محقاً حين عرف التجزئة القومية الحديثة بأنها "محصلة الأوضاع الإمبريالية والتأخر التاريخي" للأمة العربية.
فهل يسوغ استعمال مفهوم المجتمع المدني على الصعيد القطري الذي عينته الأوضاع الإمبريالية والتأخر التاريخي، أم ترانا مضطرين للمجازفة باستعمال مفهوم المجتمع المدني معادلاً موضوعياً لمفهوم الأمة وأساساً لمفهوم الدولة القومية، وهذه وتلك لا تزالان في دائرة الممكن والمحتمل؟ وهل بوسع بومة منيرفا أن تطير إلا في الظلام؟
جميع الذين تحدثوا عن "التباس مفهوم المجتمع المدني" وعن الصعوبات المعرفية التي يطرحها على الذهن العربي، لم يتطرقوا إلى هذه المشكلة التي ستظل تلوب ونلوب معها بحثاً عن حل ممكن أو محتمل. وربما كان على القارئ أن يبذل جهداً إضافياً لتسقط الآثار السلبية لعجز الكاتب عن حل هذا الإشكال ذي الأهمية الاستثنائية. وإذا كنت قد اقترحت مفهوم الدولة الوطنية صيغةَ توسطٍ جدلي بين الدولة القطرية المرسملة والتابعة القائمة بالفعل والدولة القومية الممكنة التي لا نجرؤ على وصفها بعد بأي صفة، فإن هذا الاقتراح أو الافتراض النظري قد يكون نوعاً من محايلات العقل، أو نوعاً مخففاً من "هذيان الهدف" وتطلُّب الرغبة التي كانت تؤثِّم فكرة المجتمعات العربية والشعوب العربية، ولا ترى في الدولة القطرية القائمة بالفعل سوى عرض زائل عما قريب.
حقاً إن أوضاع الدول العربية القائمة تنتج مفاهيم مثيرة للجدل في مجال دراسة المجتمع المدني والدولة وحكم القانون، لا مع الفكر القومي التقليدي والرومانسي فحسب، بل مع الفكر التيولوجي الدوغمائي أساساً. فقد كانت محاولات تعرُّف الواقع العربي وتلمُّس ممكناته واتجاهات تطوره محكومة بثوابت أيديولوجية، قومية وإسلامية واشتراكية دوغمائية، سوى استثناءات نادرة لا تزال على هامش الفكر السياسي العربي. ولا يزال الخطاب السياسي مقيداً بهذه الثوابت، ويعيد إنتاجها، ويشيح عن أي محاولة لنقدها، إن لم يرمها بالكفر والمروق والخيانة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحقل الدلالي الذي ينتمي إليه مفهوم المجتمع المدني يتعارض على طول الخط مع الحقل التيولوجي والدوغمائي، سواء كان هذا الأخير قومياً أو اشتراكياً أو علموياً.
من زاوية علم الاجتماع الخالص، يمكن الحديث عن مجتمعات في دولة واحدة، كالمجتمعات البدوية والمجتمعات الريفية ومجتمعات المدن .. إلخ، ولكن لا يمكن الحديث عن شعوب في دولة واحدة. فما أن نتحدث عن شعب وشعوب حتى نغادر علم الاجتماع الخالص إلى علم الاجتماع السياسي، وإلى علم السياسة، ونغادر من ثم مستوى الوجود الاجتماعي المباشر إلى أحد أشكاله أو تشكلاته الثقافية والسياسية، أي إلى الوجود الاجتماعي الموسَّط. كما أن الحديث عن شعب واحد في دولتين، أو في عدة دول، يضمر عدم الاعتراف بإحدى هاتين الدولتين، أو بهما، وبتلك الدول. وتلكم هي إشكالية "القومي والقطري" في الفكر السياسي العربي المعاصر، الإشكالية التي لم تجد لها حلاً حتى يومنا، وقد نجم عنها موقف وجداني أو شعوري قوامه رفض الدولة القائمة بالفعل، وعدم الثقة بها، ومن ثم عدم احترامها، والنظر إليها على أنها انحراف تاريخي وعرض زائل عما قريب، ومعارضتها بدولة ليست موجودة سوى في الذهن. القومي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بالدولة القومية، دولة الأمة، والإسلاموي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بدولة إسلامية، بحاكمية الله أو ولاية الفقيه، والاشتراكي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بدولة اشتراكية، أو بدكتاتورية البروليتاريا. الغائب الأكبر في الفكر السياسي العربي هو الواقع العياني؛ لذلك لم يعن الفكر السياسي العربي المعاصر بمسألة الدولة ومسائلها عناية جدية، ومن البديهي وهذه الحال ألا يعنى بمسألة المجتمع ومسائله، ولا سيما بمسألة المجتمع المدني وما ينتمي إليها ويتعلق بها من مسائل كالعلمانية والعقلانية والديمقراطية.
واللافت للنظر أن الفكر السياسي العربي، كالوعي العفوي، لا ياسف على هذه الدولة إذا ما فسدت وانحطت أو تعرضت لهزيمة، أو إذا ما انهارت، كما حدث في العراق، بل تتعزز حجته عليها، ويسارع إلى وصفها بأنها دولة "ضد الأمة" . ومن الظواهر المهمة في العالم العربي أن الحرية لا توجد ولا تنمو إلا بالتضاد مع الدولة، وخارجها ، وبالتضاد مع المجتمع المدني بالضرورة.
سأترك المسألة معلقة بانتظار ما سيأتي به البحث من مقاربات علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي وعلم السياسة وعلم القانون الدستوري وعلم الاقتصاد السياسي، فضلاً عن مقاربات الفلسفة أو الفكر النظري لمفهوم المجتمع المدني وتتمته المنطقية، الدولة الوطنية / القومية. على أن قابلية الدولة القطرية القائمة بالفعل للاندماج في "نظام إقليمي" فرعي متوسطي أو شرق أوسطي يضع إمكانية اندماجها في سوق عربية مشتركة تفضي إلى شكل سياسي ما على غرار الولايات المتحدة الأمريكية أو على غرار الوحدة الأوربية. لكن ما أكدته تجربية القرن الماضي أن الوحدة القومية ليست فعلاً من أفعال الإرادة السياسية فحسب، وضرورتها لا تنبع من "التحديات الخارجية" فقط، بل هي فعل مجتمعي يعبر عن اتجاه سير المجتمع وعن خياراته الاجتماعية واالاقتصادية والسياسية المحمولة على تطور عملية أو عمليات الإنتاج الاجتماعي بكل ما تنطوي عليه هذه العملية من معان ودلالات. وهذا مشروط بانتقال مركز ثقل العالم العربي من الخارج إلى الداخل، وصيرورة العمل السياسي العربي انشغالاً بالواقع واشتغالاً فيه، لا ردود فعل شعورية على "التحديات الخارجية".
إذا كان الفلاسفة وعلماء الاجتماع السياسي متفقين على ما بات يسمى "نظرية العقد الاجتماعي" أساساً لنشوء المجتمع المدني والدولة القومية الحديثة، فإن علماء القانون الدستوري يرون في الدستور تجسيداً لفكرة العقد الاجتماعي؛ فـ "نص الدستور هو خلاصة لإثبات حقوق المواطنين ولطرق ممارسة السلطة بوساطتهم أو بوساطة ممثليهم". الدستور هو القانون الأسمى في تنظيم المجتمع، يحدد أسس الدولة ومبادئها وحدودها. ومبادئ الدستور تتضمن دراسة للظواهر السياسية وللنظام السياسي لأي مجتمع . هذا المدخل القانوني لا يقل أهمية عن المدخل السوسيولوجي أو عن المدخل الاقتصادي أو غيرهما من المداخل الممكنة، ولكن أياً من هذه المداخل يظل قاصراً وحده عن الإحاطة بجميع جوانب المسألة. لأن لكل منها منطقاً خاصاً هو بالأحرى فرع من منطق الجملة الكلية، أو الكلية العينية التي هي الواقع الفعلي، ولعل الديالكتيك أو المنهج الجدلي الذي ينصف جميع هذه المداخل ويختبرها في نار الممارسة الحية هو منطق الواقع ومنطق التاريخ. ومن حق البحث أن يفيد من جميع هذه المداخل؛ من دون أن يغفل عن طابعها الوضعاني، "فقد أدت النزعة الوضعية الضيقة للحقوقيين ( ولغير الحقوقين) إلى دراسة الظواهر السياسية حول الدولة وقواعد القانون وإغفال أو إنكار كل الجوانب الأخرى التي تركت لعلماء الاجتماع والفلاسفة. بيد أن هذا المفهوم سرعان ما اكتشف نقائصه، وخاصة عندما لم تعد الدولة التي يتحدث عنها الحقوقيون تتناسب مع واقعها الفعلي داخل المجتمع. وتجدر الإشارة إلى أن النظريات الدستورية الكبرى قد وضعت قبل أزمة 1929 التي أفضت إلى الحرب العالمية الثانية، وفرضت نتائجها، لا نسقاً جديداً من العلاقات الدولية فقط، بل نسقاً جديداً من العلاقات السياسية في كل دولة على حدة. وإذا كان العيش في وهم النظام الليبرالي ممكناً قبل الحرب العالمية الأولى فقد بات مستحيلاً بعد الثلاثينات تجاهل الحقيقة باسم الحديث النظري". فثمة داخل الدولة أحزاب ونقابات وجماعات ضاغطة، وغدت دراسة وسائل الاتصال وسبر الرأي العام ضرورية لفهم الانتخابات والتخطيط السياسي؛ فتحت القانون هناك الواقع. وقد يكون نظام الأحزاب هو السائد داخل "اللعبة السياسية" الدستورية، ولكن الكلمة الأخيرة هي للبنية الاجتماعية التي تنظم ترابط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وهي هنا والآن للمجتمع المدني الذي تتمايز فيه هذه المجالات وتتجادل. وصار الأمر أكثر وضوحاً بعد تجارب الدول حديثة الاستقلال التي يدل إخفاقها على الهوة القائمة بين القانون الدستوري والواقع السياسي ، فإذا كان القانون محصلة نهائية لفاعلية المجتمع المعني، أو تجريداً للبنية الاجتماعية المتعينة في المكان والزمان، في كليتها وشمولها، فلا بد له أن يتسق مع الواقع السياسي الحي والمتغير الذي لا يقتضي المواءمة المستمرة بين القانون والواقع فحسب بل يقتضي تعديل أليات عمل السلطة السياسية وتطويرها باستمرار.
يتنازع علم السياسة اليوم اتجاهان أساسيان: يرى فيه أحدهما وسيلة لمعرفة الدولة، بما هي جملة كلية أو وحدة عينية من الأرض والشعب والسلطة السياسية أو النظام العام، ويرى فيه الآخر علماً للسلطة ووسيلة لدراسة آليات عملها بوصفها إدارة عامة. فالدولة، بحسب الاتجاه الثاني، لم تعد تحتكر ممارسة السلطة؛ إذ ينتج المجتمع تنظيمات تحتية في إطار الدولة تولد ظواهر سلطة، وتولد من ثم رؤية جديدة لماهية الدولة التي يغدو من الصعب فهمها من دون معرفة تنظيماتها. هذا الاتجاه الثاني الذي أسس له ميشيل فوكو بتوسيع مفهوم السلطة، يرى أن السلطة ليست بنية ولا مؤسسة، وليست ممارسة لقدرة ما منحت للبعض، بل هي "الاسم المستعار لوضع استراتيجي معقد داخل مجتمع معين .. إن السلطة موجودة في كل مكان، وهذا لا يعني أنها تبتلع كل شيء، بل يعني أنها تأتي من كل شيء. ففي اللحظة التي يُفكر فيها في السلطة على طريقة الحقوقيين نصل إلى تفجير حقيقي ينطلق من نقطة مركزية (الدستور أو الحكومة) ليمتد داخل قنوات عدة في جسم المجتمع (الإدارة / الإدارات الخاصة) . السلطة بل السلطات التي تنبع من النشاط الاجتماعي (من الفاعلية أو الحركة التي تولد مختلف القوى)، اقتصادياً كان هذا النشاط أم ثقافياً أم مهنياً أم نقابياً أم سياسياً .. تدل محصلتها النهائية على قوة المجتمع التي ينبغي أن تعين حدود السلطة السياسية، وتعين من ثم الحدود بين سيادة الدولة التي لا تتجزأ، وبين سلطاتها المرتبطة بوظائفها الاجتماعية المختلفة والنابعة منها؛ إذ لا يجوز أن تكون السلطة السياسية شيئاً مستقلاً عن الوظائف الاجتماعية، سواء تلك التي يقوم بها المجتمع بنفسه، أو التي يقوم بها عن طريق الدولة، أي عن طريق مندوبيه ومفوضيه وموظفيه.
ولعل رؤية فوكو أقرب إلى مفهوم المجتمع المدني حين نضعها تحت مقولة الديالكتيك، أي جدل الخاص والعام. فالسلطة تنبع حقاً من كل شيء؛ من سلطة الأب إلى سلطة الكاهن إلى سلطة الحاكم، من سلطة القوة إلى سلطة المعرفة إلى سلطة المال وسلطة الملكية الخاصة، ومن سلطة المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية على أعضائها إلى سلطة الدولة .. وهكذا إلى بقية السلطات التي تنبع من كل شيء. ولكن جميع هذه السلطات مجتمعة أو مأخوذة كلاً على حدة ليست بعد سلطة سياسية، وجمعها الحسابي لا يؤلف دولة سياسية أو سلطة دولة. وبالمقابل فإن جميع البنى والتنظيمات المجتمعية التي تتوفر على قوة السلطة ليست بعد مجتمعاً مدنياً. لأن النظام الذي تعمل بموجبه أي من هذه السلطات ليس نظاماً عاماً. فالمجتمع المدني والدولة السياسية في أحد أهم معانيهما انتقال من الخاص إلى العام الذي ليس له من وجود فعلي إلا في الخاص، انتقال من الجزئية إلى الكلية التي لا تتعين واقعياً إلا في الأجزاء. المجتمع المدني كالدولة السياسية كلاهما تجريد العمومية؛ وبهذا المعنى نتحدث عن القانون بصفته العامة والمجردة، ونرى فيه ماهية النظام العام وماهية الدولة السياسية. وفي ضوء هذا التصور أيضاً نحاول إعادة تعريف السياسة على أنها الشأن العام أو الشيء العام المشترك بين جميع المواطنين وجميع الفئات الاجتماعية الذي تنعقد عليه الوحدة الوطنية؛ فوحدة أي شعب هي وحدة مجاله السياسي الذي ليس اقتصاداً مكثفاً فحسب، بل اجتماعاً مكثفاً وثقافة مكثفة وأخلاقاً مكثفة بالضرورة.
إن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق الدول حديثة الاستقلال، وإلى إخقاق الحداثة في مجتمعاتها المتأخرة، يكمن في صعوبة الانتقال من الجزئية إلى الكلية، ومن العرف إلى القانون، أي من الجماعات المغلقة والمتحاجزة إلى المجتمع المدني، ومن الملة إلى الأمة. وأبرز تظاهرات تأخر هذه المجتمعات هو تشظي المجال السياسي لكل منها، وتشظي مجالها السيادي. ذلكم هو الواقع الذي يقبع تحت القانون الصوري، غير المعمول به في الواقع، والذي لا يتوفر بعد على القوة التي يتوفر عليها العرف والعادة والتقليد، فضلاً عن التعارضات الاجتماعية وما تولده من استقطابات وتنظيمات. لنقل إن الفارق النوعي بين "المجتمع الأهلي" والمجتمع المدني يكمن هنا، ويمكن أن نلخصه بالفارق النوعي بين العرف والقانون، وبين الجزئية المباشرة والكلية العينية. ففي الجتمعات المتأخرة ليس بوسعك أن تعاين سوى عائلات ممتدة وعشائر ومذاهب وطوائف وملل ونحل، وجماعات إثنية وأحزاب سياسية تلبست أسوأ صفات هذه البنى، وتنظيمات دولتية "حديثة" تشير إلى طابع "الحداثة" المحققة بالفعل، وهي حداثة قشرية هشة ومثلومة، على كل صعيد، ولا سيما على صعيد العمل والإنتاج الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية التي يفترض أنه يحددها وأنها تحدده.
ثمة مداخل منهجية مختلفة لدراسة المجتمع المدني، أحدثها، البنيوية، الوظيفية (المدخل الوظيفي) والنظمية (المدخل المنظومي) وهو أحدثها وأكثرها شيوعاً في أيامنا. فالنزعة الوظيفية تعلن "أن مختلف العناصر الاجتماعية لنظام ما تقوم بوظيفة ضرورية للإبقاء على النظام. وبعد ترتيبها لعناصر النظام السياسي يقتصر تفسيرها للعلم السياسي على تبيان الوظائف الظاهرية والكامنة التي توفرها تلك العناصر، كالأحزاب واللجان البرلمانية والصحف وغيرها؛ فلا يفسر المجتمع السياسي إلا على قاعدة تنسيق هذه الوظائف" . "أما النزعة النُظُمية أو المنظومية التي ولدت في الولايات المتحدة فتشدد على الدور الخاص للمجتمعات في تشكيل مجموعة منظمة، أو تشكيل نظام، أي مجموعة من الأدوات والعلاقات فيما بين هذه الأدوات. إلا أن غرابة الأبحاث المتعلقة بالوظيفية، وخاصة تلك التي قام بها إستون Easton مثلاً، تكمن في الاهتمام برصد كيفية إعادة إنتاج النظام لنفسه وكيفية استمراره وتنظيم ذاته. وذلك باستجابته للمطالب عبر قرارات تطمئنه وترسخه .. ومن المؤكد أن قادة الدولة (الحكومة مثلاً) يحققون بالملموس تلك "العلبة السوداء" للوظيفيين حيث يتلقى الحكام مطالب الشعب ويتخذون القرارات . الوظيفية والمنظومية كلتاهما تحيلان على نوع من "يد خفية" تتولى أمر تنظيم المجتمع، كتلك اليد الخفية التي تقوم بتنظيم "اقتصاد السوق" عند آدم سميث وعند الليبراليين الجدد.
المنهج الوحيد الذي بوسعه أن يكشف النقاب عن هذه اليد الخفية هو الجدل، الديالكتيك، بوصفه منطق الصيرورة التاريخية، حين تكون مقدماته هي منجزات الوضعية الإيجابية ومعطيات الخبرة العملية. بخلاف سائر الطرائق والمداخل الوضعية الإيجابية، لا يكتفي الديالكتيك بدراسة المجتمع بما هو عليه فقط، بل يتجاوز ذلك إلى ما يمكن أن يصير عليه اتساقاً مع واقع المجتمعات الفعلي وإمكانات تطورها. فأهم صفات الواقع أنه تناقضي وإمكاني واحتمالي، وبكلة واحدة، جدلي.
الوظيفية التي تكتفي بوصف الظواهر الاجتماعية وتعيين الوظيفة أو الوظائف التي يقوم بها كل عنصر من عناصر الظاهرة المعنية في النظام الاجتماعي، لا تستطيع تفسير الظاهرة ولا تستطيع من ثم الإحاطة بكلية المجتمع وعوامل نموه وتطوره. "فغياب البحث السببي هو الذي يجعل التحليل الوظيفي محدوداً، وخاصة في عصرنا الراهن حيث يكثر الاختلال الوظيفي والانقسام الاجتماعي اللذان يتفوقان على براعة النظام. ومن أعظم ثغرات المنهج الوظيفي أيديولوجيته، فعندما يكتفي علم الاجتماع بالحديث عن كيفية سير نظام ما فإنه لا يستطيع مواجهة الانقسامات والتقلبات التي قد تصيب النظام، فيبدو كأيديولوجية مساندة لهذا النظام" . لأنها أيديولوجية إثبات وتوكيد، لا تقبل النفي، ولهذا تغدو أيديولوجية محافظة، فكل إثبات أو تعيين هو نفي. وكل تعيُّن هو نفي مثلث الأطراف: الظاهرة المتعينة هي نفي لما كانت عليه، ونفي لما هي عليه، لأن وجودها الفعلي هو عدم وجودها، ونفي لكل ما عداها، فتعييناتها هي فروق وحدود، وكل فرق يقيم اختلافاً وينتج تعارضاً. والوظيفية رغم رواجها الكبير في الآونة الأخيرة لم تثمر إلا القليل من الأعمال المشجعة. فهي لم تكشف أموراً جديدة.
وينطبق هذا النقد أيضاً على المنهج النظامي الذي يصعب تطبيقه بدقة بسبب لغته المطلقة والعامة. فاعتبار المطالب مدخلات (inputs) متساوية من قبل التجمعات (ولا يفتقر تعبير التجمعات أيضاً إلى مفارقات) يعني إلغاء كل الصراعات داخل النظام الاجتماعي الذي يتحول إلى مجرد موزع للقرارات أو المخرجات (outputs). ولا يبدو الإعلان بأن النظام السياسي هو أداة بسيطة أو آلة عادية تحول الانفعالات الاجتماعية إلى قرارات وممارسات سياسية ابتداعاً للنظامية، بل إشارة إلى تبسيطها المفرط والباطل على المستوى النظري. وفيما يخص الشحنة الأيديولوجية للنظامية فلا يبدو أننا في حاجة إلى الكثير لفهمها، فهي تعطي الأولوية في بحثها السوسيولوجي لاستمرارية الأنظمة وقدرتها على إدارة ذاتها (أي إلغاء تأثير التناقضات الداخلية)، وليست هذه المقولة بالتأكيد دليل حياد النظامية" .
هذا النقد الحصيف الذي أثبته بنصه، على سبيل الاتفاق معه والأخذ به، لا ينفي أهمية التحليل الوظيفي أو التحليل النظمي، ولا ينفي ضرورة الأخذ بنتائج هذا وذاك وبنتائج غيرهما من طرائق التحليل، في سبيل إثراء المعرفة التفصيلية اللازمة لعلم الاجتماع السياسي ولعلم السياسة، وفي سبيل ترشيدها، لكنه يشير إلى أن حدود صدقية التحليل "العلمي" تكاد لا تتجاوز كثيراً زمن التحليل، بحكم طبيعة الموضوع نفسه، أي بحكم أن الموضوع ذات وحياة. فضلاً عن كون الظاهرات الاجتماعية والسياسية، موضوع التحليل، لا تستنفد ولا تتكرر، لا في الزمان ولا في المكان، إلا في حدود ما يسميه العلماء "الشروط النظامية"، وهي شروط افتراضية من عمل الذهن، وإن كانت تستند إلى وقائع موضوعية. ذلك إذا غضضنا النظر عن البطانة الأيديولوجية لهذا المنهج أو ذاك. المعرفة التفصيلية ضرورية دوماً، ولكنها غير كافية، وكذلك المعرفة الإجمالية أو الكلية التي يمكن أن تتحول في غياب الأولى إلى ضرب من الحدس، وقد تحولت عندنا، ولا سيما في ما يسمى الفكر السياسي، إلى ضروب من "الشلف والتأويل".
لا يسعنا الركون إلى الحيادية المزعومة للبنيوية وغيرها من المناهج الوضعية الحديثة، بحكم الفارق المعروف بين الأفكار في ذاتها والأفكار حين تندرج في أنساق وخطابات أيديولوجية، أو حين تندرج في الأعمال وغاياتها المختلفة، فجميع نتائج العلوم الوضعية تندرج في أنساق معرفية وأيديولوجية وفي أعمال مختلفة ومتخالفة اختلاف القوى الاجتماعية وتخالف مصالحها وأهدافها، ولا ينبغي استبعاد تأثير هذه المصالح في المنظومات المعرفية وفي المناهج ذاتها.
المجتمع المدني، مجتمع الشغل والإنتاج، والملكية الخاصة والطبقات أو الفئات الاجتماعية ومصالحها المتعارضة وما ينجم عنها من علاقات وتنظيمات اجتماعية تكتسب جميع مضامينها ودلالاتها من العلاقات المتبادلة بين الفئات الاجتماعية وموقع كل منها على سلم الإنتاج الاجتماعي ونصيبها من عوامل الإنتاج ومن الثروة الوطنية وناتج العمل الإجمالي؛ أجل هو مجتمع الشغل والإنتاج والطبقات والثقافة التي تعبر بها هذه الطبقات عن نفسها والطرائق والأساليب التي تعبر بها، والقيم والمعايير التي تتبناها، وهو مجتمع الحاجات وسعي الأفراد إلى تلبيتها وإشباعها، وميدان التعاون والتآزر، وميدان الأنانية والتنافس والتنازع، ذلكم هو الواقع العياني، أما الدولة التي تمثل المصلحة العامة أو المصلحة الجماعية فهي تجريد العمومية التي هي ماهية الأفراد والجماعات والطبقات أو الفئات الاجتماعية، وهي من ثم الاستلاب السياسي لهذه الماهية. وبهذا المعنى يمكن أن تصير الدولة "سماء الشعب"، بحسب تعبير كارل ماركس، تحتاج عملية أوسيرورة إعادتها إلى حياة الشعب إلى كفاح طويل. إن استعادة الدولة إلى المجتمع حتى تصير دولته حقاً وفعلاً، وإعادة إنتاج السياسة فيه بما هي محصلة جميع فاعلياته وقواه، وعقد لواء السيادة للشعب هي أهداف السياسة العقلانية في أي مجتمع يتجه إلى المستقبل.
وإذا كان لا يمكن رد المجتمع إلى أي عنصر غير اجتماعي، طبيعياً كان هذا العنصر أو تيولوجياً، كما لاحظ ألان تورين، فإن العنصر الاجتماعي الأكثر جذرية والذي ينطوي على سائر العناصر الأخرى بالفعل وبالقوة هو العمل. والفارق النوعي بين عمل الإنسان وعمل الطبيعة أو عمل الحيوان هو كونه اجتماعياً، فمقولة العمل، بصفته الاجتماعية، تقبع في أساس مقولة الإنتاج الاجتماعي، إنتاج الثروة المادية والروحية على السواء، وإنتاج العلاقات والبنى والتنظيمات الاجتماعية والسياسية، ولا سيما الدولة، سماء الشعب، السماء التي يفضي نقدها إلى نقد السياسة.
إرجاع الاجتماع البشري إلى العمل، وإرجاع مفهوم المجتمع المدني إلى مفهوم العمل والإنتاج الاجتماعي هو المدخل الذي نقترحه لتأسيس مفهوم المجتمع المدني وتتبع مراحل تطوره وتلمس الفروق بين مختلف تعييناته في العالم وفي التاريخ، وتصنيف المجتمعات بحسب نمو العمل، لا بحسب تعاقب أنماط الإنتاج، كما يقترح الكثيرون. وفق هذا المفهوم، يمكن تصنيف المجتمعات إلى مجتمعات زراعية ومجتمعات صناعية ومجتمعات ما بعد صناعية، إذا غضضنا النظر عن "مجتمعات" الرعي والصيد والالتقاط، وقد وضعناها بين حاصرتين لأن كلاً منها أقرب إلى مفهوم الجماعة منه إلى مفهوم المجتمع. ولا يتعارض هذا التصنيف مع التصنيفات التي ترد المجتمع إلى الإنتاج، لكنه يحاول الابتعاد عن ذلك التسلسل المثير للجدل لأنماط الإنتاج، ولا سيما التصنيف الستاليني الشهير. ولما كان العمل يتضمن: 1) مادة العمل أو موضوعه (عناصر الطبيعة). 2) وأدوات العمل (الآلات والمكائن). 3) وأساليب العمل أو طرائقه. 4) ونتائج العمل. 5) وأهدافه وغاياته، فإنه يتضمن الفكر بالضرورة، فلا عمل بلا فكر، ولا فكر بلا عمل، وتبدو عبارة الفكر هنا قاصرة عن المعنى الذي يتضمنه العمل والذي أميل إلى التعبير عنه بعبارة الروح التي تبدو لي أكثر اتساقاً مع مفهوم العمل الذي يحمل في أحشائه جميع قوى الإنتاج، ما عرف منها وما سوف يعرف في المستقبل. فالعمل الذي امتاز به الإنسان من الحيوان هو الوساطة التي بها يتموضع الروح الإنساني في العالم وفي التاريخ، حتى يغدو بوسعنا أن نعرف الإنسان بأنه عالم الإنسان (المجتمع والدولة)، ويغدو بوسعنا تعريف المجتمع بأنه الإنسان مموضعاً، كما عرفه ماركس. العمل أبو التاريخ البشري، والطبيعة أمه. ولعل عبقرية آدم سميث وعبقرية ماركس الذي سار على خطاه، في هذه المسألة، تكمن في إرجاع مفهوم القيمة، ونضيف: وجميع القيم، إلى العمل. أما عبقرية ماركس فتكمن في اكتشاف حقيقة تحول القيمة الزائدة أو فائض القيمة، أي "العمل المتراكم" إلى رأسمال، فضلاً عن نقده الاقتصاد السياسي الذي تقبع في أساسه مقولة المجتمع المدني وكل ما يتصل بها من مقولات ومفاهيم.
ومن الجدير بالملاحظة أن واحداً فقط من عناصر العمل البشري، أو العمل الاجتماعي، وهما صفتان مترادفتان للعمل، يرجع إلى الطبيعة، أعني مادة العمل أو موضوعه، أما العناصر الأخرى، وهي أربعة أخماس العمل، فترجع إلى الإنسان العامل المنتج، ومن ثم فإنه ليس هناك أي مبالغة في القول إن الإنسان كائن معرف بالعمل والإنتاج، ولأنه كذلك يمكن القول إنه معرف بالعقل، على أن نلاحظ أن العقل وكل ما ينتمي إليه كالذكاء والفكر والعاطفة والخيال يعتمد في وجوده وفي نموه وانبساطه على العمل. بالعمل فقط أسس الإنسان نفسه في العالم وراح يتعقَّله شيئاً فشيئاً، حتى ليمكننا القول إن قوانين العقل هي قوانين العالم. وبالعمل فقط كان بوسع الإنسان أن ينتج ذاته في العالم وفي التاريخ ويستعيد موضوعيتهما في ذاته مرة تلو مرة، حتى غدا العالم عالمه والتاريخ تاريخه، وحتى غدا الإنسان ذاته عالمياً وتاريخياً. العالم هو حقيقة الإنسان والتاريخ ظله. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الوجود الاجتماعي المتعين في العالم وفي التاريخ هو أساس الوعي الاجتماعي، لا العكس، والواقع هو أساس الفكر، لا العكس.
افتراض العمل أساساً لنشوء المجتمع ثم المجتمع المدني والدولة السياسية يتضمن بالضرورة مفهوم التعارضات الاجتماعية أو الصراع الطبقي، ولكن على نحو مختلف عن الصيغة التي عممتها "الماركسية السوفييتية"؛ لذلك أميل إلى مفهوم التعارضات الاجتماعية بدلاً من مفهوم الصراع الطبقي، انطلاقاً من واقع اختلاف الأفراد والجماعات والفئات أو الطبقات الاجتماعية واختلاف مصالحهم ومصالحها اختلافات لا حد لها، وكل اختلاف هو فرق وحد يضع تعارضاً، لذلك نتحدث عن تعارضات اجتماعية مختلفة ومتفاوتة الشدة تحيلنا على مبدأ المجموعات الرياضي الذي يقبع في أساس التنظيم الاجتماعي أو التنظيمات الاجتماعية الحرة التشكلية المفتوحة على المستقبل. فهل ثمة مضمون اجتماعي (طبقي) للدولة، وإلى أي حد يتفق هذا المضمون الطبقي الخاص والجزئي مع عمومية الدولة وكليتها؟
لنلاحظ، قبل الإجابة عن السؤال واقعة تستحق التوقف عندها ملياً، وقد تبدو للقارئ المتعجل أقرب إلى المفارقة: المجتمع المدني مجتمع الأفراد المختلفين والمتنافسين والطبقات المختلفة والمتخالفة، ومن صنعهم؛ في حين تنقلب هذه الواقعة الموضوعية، في الدولة، رأساً على عقب، حتى لتبدو لنا الدولة بريئة من الاختلاف والتعارض، وحتى ليبدو المجتمع كأنه من صنعها. وبتعبير آخر: المجتمع المدني ميدان التعدد والاختلاف والتعارض، والدولة ميدان الوحدة؛ المجتمع المدني فضاء الحرية، والدولة مملكة القانون. هذا اللغز محلول في "العقد الاجتماعي"، وهو الصيغة الذاتية للمجتمع السياسي، أو الصيغة السياسية الذاتية التي ينتجها المجتمع المدني لنفسه. المجتمع المدني هو ميدان الموضوعية، المجتمع السياسي (الدولة) هو أو هي ميدان الذاتية. يا للهول! سيقول الذين يحبون الموضوعية ويكرهون الذاتية. لهؤلاء اقول: السياسة هي ذاتية المواطن. والذاتية هي الاستقلال والحرية. بعضويته في الدولة يحقق المواطن ذاتيته تحقيقاً إيجابياً فعلياً، أو هكذا يفترض. الذاتية مؤسسة في الموضوعية، لأن الإنسان مؤسس في العالم الطبيعي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وإلا فهي ذاتوية واهمة أو وهم ذاتي. الأمة هي الصيغة الذاتية للمجتمع المدني، وإلا فهي محض أوهام ذاتية عرقية ودينية ومذهبية. السياسة بما هي فاعلية اجتماعية ومجتمعية، وبما هي ذاتية المواطن ومحصلة نشاطه ومشاركته الإيجابية في الحياة العامة هي المدخل إلى مفهوم الأمة. المداخل الأخرى تؤدي إلى أوهام ذاتية كالتي وسمت الحركة القومية العربية التي لم تعترف وهي لا تعترف اليوم بالواقع الفعلي للأمة، أي المجتمع المدني، لا تعترف بأن الأمة كينونة اجتماعية في العالم وفي التاريخ، كينونة اجتماعية واقعية قائمة هنا والآن، ولا يمكن تعرُّفها كما هي من دون مقولتي العالم والتاريخ، أعني عالم اليوم وتاريخ العالم، لا عالم الأمس وتاريخ العرب وحدهم فتاريخ العرب جزء من تاريخ العالم؛ ومن ثم فهي لا تستمد فكرها من الواقع، بل تستولد الواقع من "الفكر القومي". وياله من فكر!.
ليس للدولة بوصفها تجريد العمومية أي مضمون طبقي خاص أو جزئي، وإلا لكفت عن كونها دولة بالمعنى الحديث للكلمة. بيد أن الطابع الطبقي الذي ينسب للدولة هو طابع سلطتها السياسية فحسب، أي طابع ما يطلق عليه اسم الحكومة، وما من شك في أن هذه السلطة السياسية تطبع الدولة بطابعها إلى هذا الحد أو ذاك، بحسب ما تكون عليه علاقاتها مع بقية فئات المجتمع المعني، وحين تتماهى السلطة والدولة تضمر الدولة حتى تطابق حدود السلطة، ويغلب الخاص على العام والجزء على الكل، وذلكم هو مبدأ الاستبداد وعلته.
البورجوازية الأوربية "وجدت في الدولة الشكل المناسب لسيطرتها السياسية، ولهذا اهتمت كطبقة صاعدة في القرن السادس عشر بالدستور والمؤسسات الرسمية" ذات الطابع العام، الوطني أو القومي، والتي تتوخى النفع العام ولا سيما أن مفهوم الدولة الحديثة ارتبط منذ نشوئه بمفهوم المجتمع المدني على الصعيد الاجتماعي، وبمفهوم الأمة على الصعيد الثقافي، وبمفهوم الشعب على الصعيد السياسي، وإنه لضرب من العبث نفي علاقة التسبب بين الدولة والأمة، ولكنه من العبث أيضاً وضعهما في علاقة كعلاقة الدجاجة والبيضة، ما دام لا بيضة بلا دجاجة ولا دجاجة بلا بيضة. ولعل ما يعزز الميل إلى إرجاع المجتمع المدني والدولة إلى العمل والإنتاج الاجتماعي هو قابلية العمل والإنتاج للقياس والتحقق الإمبريقي، مما يسمح بوضع معايير علمية للحكم على درجة تطور المجتمع المعني. فإن هوية مجتمع ما هي ما ينتجه هذا المجتمع، على الصعيدين المادي والروحي.
الهوية هي وعي الذات الذي يحدد زاوية النظر إلى الكون والعالم وإلى الإنسان، وعي الذات ليس مرتبطاً بالعمل فقط، بل هو أهم نتاجات العمل والإنتاج الاجتماعي، بدءاً من إنتاج الإنسان ذاته. الإنتاج لا يقتصر على إنتاج الثروة المادية، بل يتعداها إلى إنتاج الثروة الروحية، وإلى إنتاج المجتمع ذاته وإعادة إنتاجه، وإلى إنتاج العلاقات والتنظيمات الاجتماعية والسياسية وإنتاج الدولة. إذا صح أن الهوبة هي وعي الذات، وأن هذا الوعي أهم نتاجات العمل والإنتاج الاجتماعي، نكون قد اقترحنا مدخلاً منطقياً لتحديد الهوية القومية للأمة على نحو تبدو معه التحديدات المألوفة التي درج عليها الفكر السياسي العربي، القومي والإسلامي خاصة، مجرد أوهام ذاتيه، لذلك لم تفض إلى شيء سوى إلى إعادة إنتاج التأخر والاستبداد والتجزئة والتبعية، وإلى الهزائم المتتالية، من هزيمة حزيران 1967 إلى احتلال بغداد في التاسع من نيسان 2003. ألا يكفي ذلك، وقد حددت ثلاثة العقود هذه مصير ثلاثة أجيال، الجيل الذي قبلها والجيل الذي ولد في أثنائها والجيل الذي بعدها؟! بكم جيل ينبغي أن تضحي الحركة القومية والحركة الإسلامية حتى تثوبا إلى الرشد، وكم هزيمة تحتاجان إليها حتى تعترفا بالواقع كما هو؟!
وعلى المتن نفسه استطراداً: جميع مؤسسات الدولة مؤسسات عامة، أي مؤسسات وطنية أو قومية، وهما هنا بمعنى واحد، وكذلك دستورها وقانونها، لا نشيدها وعلمها فقط. وهذه المؤسسات تستمد عموميتها ووطنيتها أو قوميتها من عمومية الدولة ذاتها ومن وطنيتها أو قوميتها. هذا التحديد الواقعي، المعترف به نظرياً عندنا، يكشف عن قصور مفهوم القومية ومفهوم الأمة، كما استقرا حتى اليوم في الوعي السياسي، ويكشف عن طابعهما الحصري ومن ثم الإقصائي، ويعري العناصر العرقية والدينية أو المذهبية التي لا تزال تلابس مفهوم القومية العربية ومفهوم الأمة العربية. ولعل مفهوم المجتمع المدني ومفهوم الدولة الوطنية، تتمته الضرورية منطقياً وتاريخياً، أي واقعياً، تساعدنا اليوم في إعادة تعريف الأمة والقومية بدلالة مفهوم المواطنة من جهة وعمومية الدولة من جهة أخرى، والمواطنة بالتعريف هي العضوية في الدولة الوطنية. وعلى سبيل "التمرين الذهني" سأسأل القارئ سؤالاً محرجاً: لنفترض أننا تمكنا، بقدرة قادر، من إقامة دولتنا القومية الحديثة، دولة الأمة أو الدولة الأمة، فما هي وضعية المواطنين غير العرب، إثنياً، كالكورد والأرمن والشركس والتركمان والفرس وغيرهم في دولتنا القومية؟ هل هم مواطنون متساوون مع المواطنين العرب وأعضاء كاملو العضوية في الدولة؟ وإذا كانوا كذلك فهل هم في عداد الأمة؟ وإذا كانوا كذلك، فماذا تعني الصفة الوطنية أو القومية للدولة؟ ماذا يعني الأمريكيون مثلاً حين يتحثون عن الشعب الأمريكي والأمة الأمريكية؟ ونضرب الأمركيين مثلاً لأن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل الحد الأقصى في التنوع الإثني والديني واللغوي والثقافي. الأسئلة محرجة، ولكن لا مناص من الإجابة عنها، نظرياً وعملياً، وليست في الواقع من قبيل التمرين الذهني، بل من قبيل تحديدات الواقع وتحدياته، فهل نقبل التحدي؟
لكي تقيم دولة "قومية" نقية عرقياً ودينياً ومذهبياً ولغوياً وثقافياً، لا بد من ممارسة جميع أشكال التمييز والاضطهاد، ولا بد من ممارسة التطهير العرقي والديني واللغوي والثقافي، وقد جربت ذلك جميع الأمم بدرجات متفاوتة وأساليب مختلفة، ولم تنجح. وإذا كان لعدم النجاح المتواتر أي قيمة معرفية أو بيداغوجية أو أخلاقية فإن العقل يحكم بعدم تكرار ما ثبت خطؤه وإخفاقه، ناهيك عن وهم أن هذا النقاء يمكن أن ينفي اختلافات وتعارضات أخرى لا حد لها، قد يكون بعضها أهون من الاختلاف الإثني أو الديني أو المذهبي. وبكلمة، إن محاولات إلغاء الاختلاف أو السيطرة عليه هي من أكثر المحاولات عبثية ولا عقلانية ولا أخلاقية بالتساوي. وإذا كان الأمر كذلك فإن مشروع الدولة القومية، ولنسمها الدولة السياسية، كما سماها ماركس، يظل مفتوحاً على ثلاثة احتمالات، أحدها إعادة إنتاج الأوضاع القائمة، وهو ما ترجحه حتى اليوم البنى الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية، ناهيك عن التاخر التاريخي الذي يتكثف في هذه البنى. أما الاحتمالان الآخران فهما متضادان ومتعاكسان، أولهما إطلاق سيرورة تفتيت وتذرير تقيم كيانات "سياسية" عشائرية وإثنية ودينية ومذهبية يناقض مضمونها معنى السياسة ومعنى الدولة على طول الخط، وهو ما تعمل من أجله إسرائيل، يؤازرها التأخر العربي والليبرالية الجديدة للعولمة الاقتصادية. والثاني هو ما يحاول هذا البحث تلمس مبادئه وخطوطه العامة، أعني إعادة الاعتبار للمجتمع المدني والدولة الوطنية، أو إنتاج عقد اجتماعي جديد يغتني شكلاً ومضموناً بثروة التطور الذي تحقق على الصعيد العالمي.
المجتمع المدني، على ما فيه من تنوع واختلاف وتعارض، هو التجسيد العياني للأمة، ولنقل هو الواقع المادي الكثيف للأمة، والأمة هي تجريده المثالي، أو تعبيره الثقافي، أي التعبير النظري عن وحدته التناقضية؛ وفي التجريد المثالي والتعبير الثقافي كليهما تختفي أو تكاد تختفي الفروق والتعارضات الملازمة للكينونة الاجتماعية، أو للوجود الاجتماعي المباشر. لو كان البشر ينتجون اختلافاتهم وتعارضاتهم في المجالين الثقافي والسياسي، كما هي في وجودهم الاجتماعي المباشر وعشوائية حياتهم اليومية واختلاف غاياتهم وتناقضها وتضادها، لما كان هناك اجتماع بشري، بل اجتماع طبيعي فحسب. وهذا يضع فرقاً جوهرياً بين فكر سياسي قومي أو إسلامي يستمد مقولاته ومبادئه من ذاته، وفكر سياسي، بلا أي صفة أخرى، يستمدها من الواقع العياني، بين فكر مشدود إلى الماضي، وآخر مندرج في الحاضر ومتجه إلى المستقبل. ولا شك في أن الدلالات التي تحملها مقولة الأمة مثلاً تختلف جذرياً في الثاني عنها في الأول، وكذلك سائر المقولات "القومية".
ولكن كيف يستقيم أن تمثل الدولة تجريداً لعمومية المجتمع المعني في الوقت الذي تمثل فيه سلطتها السياسية مصالح طبقة اجتماعية بعينها، أي كيف يستقيم أن تكون الدولة عامة وكلية وسلطتها السياسية خاصة وجزئية؟ وهل بوسع الخاص والجزئي أن يطبع العام والكلي بطابعه من دون أن يكون فيه عنصر عمومية وكلية، أم إن عمومية الدولة هي التي تطبع السلطة السياسية (الحكومة) بطابعها، فتجعل منها شيئاً عاماً؟ وأين تكمن بالضبط عمومية الدولة؟ سنترك الإجابة عن بعض هذه التساؤلات لكارل ماركس من دون أن نقوله ما لم يقل: يقول ماركس: "إن كل طبقة جديدة تحتل مكان طبقة كانت سائدة قبلها مضطرة، ولو لمجرد تحقيق أهدافها، إلى تمثيل مصلحتها على أنها المصلحة المشتركة لجميع أعضاء المجتمع؛ يعني أنه ينبغي لها، إذا شئنا أن نعبر عن ذلك على صعيد الأفكار، أن تعطي أفكارها شكل العمومية، وأن تمثلها على أنها الأفكار الوحيدة العقلانية، الأفكار الوحيدة الصالحة بصورة شاملة، إن الطبقة الثورية تمثل منذ البداية، لمجرد أنها تعارض طبقة أخرى، ليس على أنها طبقة، بل على أنها ممثلة المجتمع بأسره؛ إنها تتجلى على أنها الكتلة الكاملة للمجتمع في مواجهة الطبقة السائدة، وإنها تستطيع أن تفعل ذلك، بادئ ذي بدء، لأن مصلحتها أوثق ارتباطاً بعد بصورة فعلية بالمصلحة المشتركة لجميع الطبقات غير السائدة الأخرى، وذلك لأن تلك المصلحة لم تسنح لها الفرصة بعد، تحت ضغط الأوضاع القائمة، حتى ذلك الحين، كي تتطور على أنها المصلحة الخاصة لطبقة خاصة؛ وبالتالي فإن انتصارها يعود بالمنفعة أيضاً على أفراد كثيرين من الطبقات الأخرى التي لا تتوصل إلى السيطرة، لكن بقدر ما تجعل هؤلاء الأفراد في مركز يمكنهم من الانتساب إلى الطبقة السائدة" .
لا بد من التساؤل: هل أعطت الفئات الوسطى التي احتلت الحقل السياسي في الدول العربية "التقدمية" كما وصفت نفسها، أفكارها صفة العمومية، وهل قدمت مصلحتها على أنها المصلحة العامة واعترفت لها بذلك سائر الفئات الاجتماعية الأخرى؟ يعتقد الكاتب أن الإجابة عن هذا السؤال حاسمة. فقد تكشف الإجابة عن الفروق بين سياسيات المرحلة الناصرية، وسياسات المرحلة ما بعد الناصرية، بل قد تشير إلى عوامل الشمولية والاستبداد في المرحلة الناصرية ذاتها. ونحن نفترض أن عمومية الدولة وشموليتها ضدان، العلاقة بينهما علاقة تناسب عكسي. العمومية هي مبدأ الجمهورية، وهي المقابل السياسي للعمومية، والشمولية مبدأ الاستبداد. السؤال والجواب معاً ينطويان على مطلب فهم العلاقات الاجتماعية عامة والعلاقات المتبادلة بين الفئات الاجتماعية خاصة، لتفسير تحول الكتلة الأساسية من الشعب في كل بلد على حدة إلى "جماهير"، أي إلى "شعب الدولة"، المقابل الشمولي لدولة الشعب. والحالة الجماهيرية هي النتيجة المنطقية والتاريخية لتدمير البنى الاجتماعية وإعادة تنسيقها، وإدماج مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مجال واحد هو مجال السلطة الشمولية التي لم يكن بوسعها أن تكون كذلك لولا سيطرتها المحكمة على جميع مفاصل الإنتاج الاجتماعي، المادي الذي لم يعد له من وظيفة تتعدى ضمان البقاء البيولوجي للشعب، سوى زيادة ثراء أهل الحكم وأرباب الدولة وزبنها وزيادة قوتهم وطغيانهم. أما سائر فروع الإنتاج الأخرى فقد أخضعت جميعها لهذا المعطى، أي إن وظيفتها صارت مقصورة على ضمان استمرار السلطة الشمولية وديمومتها وإعادة إنتاجها، إلا ما قل وندر مما يقع في باب الممنوعات والمحظورات التي لا تبيحها أي ضرورة، بما في ذلك ضرورة الدفاع عن استقلال الوطن في وجه الغزاة والمحتلين. وقد بينت تجربة العراق الأخيرة أن السلطة الشمولية صارت أهم من الوطن والشعب، بعد أن اختزلتهما إلى حزب قائد وزعيم ملهم. فما أن اختفى الزعيم حتى اختفى الحزب واختفت الدولة التي كان قائدها وقوامها، واحتل الوطن واستبيح الشعب، وانقلبت "جماهير" القائد والحزب القائد ضدهما بين ساعة وأخرى. تلكم هي أهم الظواهر التي تحتاج إلى تأمل وتحليل، لا في العراق فحسب، بل حيثما وجدت السلطات الشمولية واستبيح المجتمع المدني. السلطة الشمولية أو الدولة التسلطية والمجتمع المدني ضدان، الأولى لا تقوم ولا تستمر إلا على أشلاء الثاني. ولجهلها وجاهليتها ولا عقلانيتها لا تدرك أنها حين تدمر المجتمع المدني وتهمشه إنما تدمر الدولة وسلطتها السياسية، فلا تعود السلطة توصف بأنها سلطة سياسية بأي معنى من المعاني. السلطة السياسية لزيمة الدولة السياسية، أي الدولة الوطنية.
ليس بوسع أي طبقة أن تهيمن ثقافياً وتسيطر سياسياً من دون أن تتسنم ذروة من "ذرى المشروعية العليا" التي هي التعبير العملي عن العمومية، وهو ما يجعل جميع الفئات الاجتماعية الأخرى تعترف للطبقة المهيمنة ثقافياً والمسيطرة سياسياً بأنها تمثل المجتمع كله، ولذلك كانت الطبقات الاجتماعية القديمة في حاجة ماسة إلى الدين بوصفه ذروة من ذرى المشروعية العليا. وتحت هذه القشرة المثالية يقبع الاحتياج المتبادل بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية. ومنذ بدايات الثورة البورجوازية التي نجمت عن تحول نوعي في بنية العمل البشري صار الاحتياج المتبادل أكثر قوة ووثوقاً، وأكثر شفافية، بقدر ما كانت المجتمعات تتخطى الحدود المحلية، وبقدر ما كانت الجماعات تخرج من عزلتها وتودع انغلاقها على ذاتها إلى غير رجعة. ولذلك وصف هيغل المجتمع المدني بأنه منظومة الحاجات والطبقات، والإنتاج الذي يلبي تلك الحاجات؛ ومن ذلك حاجة البورجوازية إلى الطبقة العاملة التي لم تكن تقل عن حاجة الطبقة العاملة إليها، وحاجتهما معاً إلى الفئات الوسطى في المدن والأرياف، وحاجة هذه الفئات الوسطى إليهما؛ وأجنة العمومية لا تنمو إلا في تربة الاحتياج المتبادل والاعتماد المتبادل. كل شيء يتوقف على كل شيء، تلكم هي القاعدة التي تجعل الظاهرات المعزولة والمجالات المخصوصة وجميع أجزاء الكل أقل من الكل. فما بالكم إذا كان هذا الجزء عشيرة أو طغمة أو حزباً سياسياً أو تحالف أحزاب، يفرض نفسه كلاً بالقوة العارية التي تنمو طرداً مع ضمور عنصر الكلية في فكره وفي روحه، كما هي الحال في "العالم العربي"؟
من البديهي أن العلاقات بين الأفراد وبين الطبقات الاجتماعية مما ينمو ويتطور ويتغير، ومن ثم فإن الطابع الجزئي للسلطة السياسية، الذي كان يقارب الكلية، بما هي محصلة العلاقات الطبقية وتعبير عياني عنها، ينمو ويتطور ويتغير أيضاً. وكلما نما هذا الطابع الجزئي واستقلت مصلحة الطبقة السائدة عن مصالح الطبقات الاجتماعية الأخرى، تغدو السلطة تناقضاً في ذاتها، وكذلك الدولة، بين عنصر العمومية الذي هو قوام الدولة ومناط العلاقات الضرورية بين هذه الطبقة وسائر فئات المجتمع الأخرى من جهة، والخصوصية والجزئية اللتين تنموان باطراد، وتفضيان إلى الاحتكار، احتكار السلطة والثروة والقوة، من جهة أخرى؛ ما لم ينهض المجتمع المدني، في كل مرة يحدث فيها ذلك، لتصحيح هذا الانحراف ولجم هذا التطرف. والليبرالية الجديدة بوجه عام، واليمين الجديد بوجه خاص، مثال ساطع على ذلك، والدولة التسلطية في الأطراف هي استطالتهما الرثة والتابعة.
الدولة الليبرالية معرضة دوماً لهذا التوتر والتناقض بين التنافس والاحتكار، وبين القوة والسياسة أو بين سياسة القوة وقوة السياسة، وهذه الأخيرة هي قوة المجتمع المدني. وإذ تستخدم الطبقة السائدة، أو الحركة التوتاليتارية التي تغتصب السلطة، جميع عناصر القوة التي توفرها لها الدولة، فضلاً عن قوتها الاقتصادية، في الحالة الأولى، فإنها تتمكن من قهر المجتمع المدني وشل طاقاته وتهميشه، وتنسيق بناه، بما يكفل ديمومة احتكارها وتسلطها، إلا أنها تقود نفسها وتقود المجتمع والوطن إلى الكارثة. ودروس القرن الماضي ومطلع هذا القرن بالغة الدلالة.
يذهب ميشال مياي الذي نحاوره في هذا المدخل إلى أن الدولة هي التي رسمت حدود الأمة شيئاً فشيئاً، وأن انتشار الدولة يسير بموازاة إرساء علاقات النموذج الرأسمالي، ومن ثم فإننا لا نستطيع البحث في الدولة كشيء مختلف عن النظام الرأسمالي وخارج عنه، بل إن الدولة هي النظام الرأسمالي ذاته. وأن تحليل السلطة يجب ألا يسلم بسيادة الدولة وشكل القانون والوحدة الشاملة للسيطرة، فهذه جميعاً ليست سوى أشكال السلطة النهائية، كما يقول فوكو . ولعل هذا الرأي محكوم بفكرة "تحطيم الدولة" الذي يعني "تحطيم كل ما يسمح للدولة بالعمل، وبإعادة إنتاج نفسها، وبالتالي إعادة إنتاج المجتمع البورجوازي". ونعتقد أن هذا الرأي محكوم قبل ذلك باختزال الدولة إلى أداة قهر طبقية، كما وصفها ماركس، وهي صفة صحيحة على كل حال، ولكنها صفة واحدة فقط، وليس هنالك موصوف يمكن أن يستنفد لا في صفة واحدة من صفاته، ولا في بعض صفاته أو معظمها، بل في جميع صفاته إذا كانت معرفتها جميعاً ممكنة، وماركس لم يفعل ذلك على كل حال، ولو أنه فعل لكان مذهبه باطلاً من البداية. ولست أدري إذا كانت الوشائج المحكمة بين الدولة الحديثة والنظام الرأسمالي تسمح بالقول إن "الدولة هي النظام الرأسمالي ذاته"؛ مع أنني أشرت في مقاربات سابقة إلى ظاهرة رسملة الدولة وقومنة الرأسمالية، لا في مرحلة التراكم الأولي لرأس المال فحسب، بل في مراحل الإنتاج الموسع وإعادة الإنتاج، ورأيت في ذلك عاملاً من عوامل التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي (أشير هنا إلى حركة الاستعمار الحديث وأثرها في تعميق التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي). ولا تزال الرأسمالية ذات سحنة قومية، (وليست قومية في جوهرها، ولم تكن كذلك يوماً) والدولة القومية ذات سحنة رأسمالية إلى يومنا، ولكتها ليست رأسمالية في جوهرها، وليس بوسعها أن تكون إلا كما يكون المجتمع الذي هي شكل وجوده السياسي، وتحديده الذاتي. وما زلت أعتقد أن عمليتي الرسملة والقومنة كانتا نتاج نمو العمل البشري وتغير طابعه، وصيرورته عملاً صناعياً بكل ما في الكلمة من معان، ونمو العنصر الذهني فيه باطراد، واندماج العلم بالعمل وما أدى إليه من تحسن في الأداء وزيادة في الإنتاجية أو في المردود ونمو مذهل في التقانة، إذ صار بوسع الإنسان أن يحصل على مردود وفير بجهد أقل فأقل، مما يفسح له في المجال لتنمية مختلف جوانب شخصيته؛ فلم يعد الكدح صفة ملازمة للعمل إلا لدى الشعوب المتأخرة. ويرجع الفضل في ذلك إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، أو إلى التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية، بوصفها إحدى الثورات الكبرى في تاريخ الإنسان. وهذا "المديح" الذي تستحقه الرأسمالية، إذا رأى أحد القراء في ذلك مديحاً، لا ينفي صحة النقد الماركسي للرأسمالية، وضرورة العمل لا من أجل تحسينها فحسب، بل من أجل تمثلها وتجاوزها أيضاً. ولكن الرغبة الذاتية لا تكفي لتحقيق ذلك. والرأسمالية لا تزال قادرة على تجديد نفسها. وإذا كانت الرأسمالية قد تقومنت، فإن القومية صفة عابرة تحيل فقط على مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية. ومن ثم فإن صفة الرأسمالية للدولة يمكن أن تكون صفة عابرة. الدولة هي النظام الاجتماعي نفسه، لا النظام الرأسمالي ولا النظام الاشتراكي. وبهذا التحديد تتضح على نحو لا يقبل اللبس علاقة الدولة بالمجتمع المدني. فليس بوسعنا أن نتصور مجتمعاً بلا نظام عام؛ والدولة هي هذا النظام العام.
لا مراء في أن الدولة الحديثة نمت في كنف النظام الرأسمالي، واقترن نشوؤها بنشوء الأمة، بمعناها الحديث الذي يحيل على المجتمع المدني، ولكن الرأسمالية لم تكن لتغدو نظاماً عاماً، ثم نظاماً عالمياً من دون الدولة التي وفرت الشروط الضرورية للتراكم الأولي والإنتاج الموسع والتجارة بالضروريات، ووفرت الحماية للمنتجين والمجهزين والتجار، وأسهمت جيوشها في تعميق التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي. والثورة البورجوازية غير مقطوعة الصلات بسيرورة النهضة والإصلاح والاستنارة التي مهدت للانتقال من التشظي إلى الوحدة ومن المحلوية إلى الوطنية ومن الملة إلى الأمة ومن الخصوصية إلى الكونية. الدولة ليست اختراعاً بورجوازياً، بل الدولة الحديثة، الليبرالية، ثم الديمقراطية. وليست مخلوقاً رأسمالياً بشعاً ومشوهاً على غرار فرنكشتين، بل أحد أهم معالم الحداثة على الصعيد السياسي ومجال سياسي موحد وجامع للأمة.
أطروحة أنماط الإنتاج
تنتسب أطروحة أنماط الإنتاج، أو تنسب نفسها إلى الماركسية، وتفترض "التجرد من ذاتية المجتمعات والباحثين"، ويدعي القائلون بها أنها تشير إلى طبيعة النظام الرأسمالي ومبدئه؛ "فمقابل كل نمط إنتاج هنالك نموذج دولة". إذاً، كل نمط من أنماط الإنتاج يقابله نموذج من نماذج الدولة وشكل من أشكالها. يقول ميشال مياي: "من الواضح أن يكون لنمط واحد للدولة، قائم على نمط إنتاج معين، أشكال مختلفة سنسميها أشكال الدولة. قد تكون الأشكال المتعددة التي تظهر طبيعة الدولة الخاصة متحركة، لكنها لا تدخل أي تعديل على طبيعة أو جوهر هذه الدولة، فيما يستخدم عادة الإيجاز التاريخي لتفسير تعدد الأشكال كنتيجة لتطور الدولة. لذا يميل الكثيرون إلى التبيان بأن الشكل الاستبدادي يسبق الشكل الليبرالي في الدولة المدنية. إلا أننا لن نبالي بهذا الجانب، إذ طالما عانى تصور الأشكال الاشتراكية من هذا التسلسل الأفقي الذي لن نأخذ به بعد اليوم. أما شكل الدولة بالنسبة لنا فسيعني الحركة الخاصة داخل نموذج معين لمختلف مؤسسات الدولة وممارساتها. وذلك دون أن تتلاحق مختلف الأشكال ضمن ترتيب ثابت. فإذا كان صحيحاً مثلاً أن شكل الدولة الإقطاعية (نموذج الدولة السابقة للرأسمالية) قد سبق شكل الدولة الاستبدادية في أوربة الغربية (نموذج الدولة الرأسمالية) فإنه يصح أيضاً افتقاد هذا التراتب في مجتمعات أخرى، آسيوية مثلاً ... فقد كان لكل من بريطانيا وفرنسا أشكال حكم مختلفة، رغم تمتعهما بشكل مشترك بالدولة البرلمانية. ولا يمكننا تفسير هذه الفروقات إلا بعد معرفة التاريخ السياسي الخاص بكلا هذين المجتمعين .
بنى مياي فرضيته على مصادرة تقول: "ليست الرأسمالية الممر الضروري لكل المجتمعات، فظهور المجتمعات الرأسمالية ولد معطيات دولية تسود فيها العلاقات الرأسمالية الإمبريالية، وبقيت بعض المجتمعات مؤقتاً خارج هذه الحركة، وقاومت الأخرى التغلغل الرأسمالي، أما المجتمعات الباقية فقد عرفت ظاهرياُ المرحلة الرأسمالية لتصل مباشرة إلى مرحلة ما بعد الرأسمالية . ولا يخفى الطابع الأيديولوجي، الذاتي، لهذه المصادرة التي تتجاهل الطابع العالمي لنمط الإنتاج الرأسمالي، منذ بواكيره الأولى، أعني التراكم الأولي لرأس المال الذي لم يكن في يوم من الأيام سوى علاقة اجتماعية وعلاقات بين الأمم والشعوب والدول. فلم تكن الرأسمالية الصناعية لتنشأ، ولم يكن للعمل البشري أن يتحول ذلك التحول النوعي لولا الرأسمالية التجارية (الميركنتيلية) والتجارة بعيدة المدى بالضروريات. فما كان للرأسمالية أن تنشأ وتنمو وتزدهر إلا في بيئة عالمية، وهذا ما آلت إليه بالفعل. وحسبنا أن نقول: إن المجتمع الحديث والدولة الحديثة والفكر الحديث نشأت كلها في كنف الثورة البرجوازية ونمط الإنتاج الرأسمالي العالمي، وإن الفروق والاختلافات بين أشكال الدول وأنظمة الحكم إنما تعود إلى مستوى نمو العمل والإنتاج الاجتماعي في كل مجتمع على حدة، في ظل التطور غير المتكافئ على الصعيد العالمي. لذلك لا يمكن القول: إن كل نمط من أنماط الإنتاج يقابله نموذج من نماذج الدولة وشكل من أشكالها. وكثير مما قيل عن نمط الإنتاج الآسيوي، وعن المدينة الدولة، وعن الإمبراطوريات القديمة صار في حاجة إلى إعادة نظر جذرية في ضوء تقدم العلوم والمعارف والكشوف الآثارية، ولم يعد حجة للباحث بل حجة عليه.
هناك روابط ضرورية بين مستوى تطور العمل والإنتاج الاجتماعي من جهة، والعلاقات بين الطبقات أو الفئات أو المراتب الاجتماعية من جهة أخرى. هذه الروابط لا تسمح بافتراض أن نموذج الدولة الاستبدادية مقترن بنمط الإنتاج الآسيوي، ونموذج الدولة / المدينة والنموذج الإمبراطوري مرتبطان بنمط الإنتاج العبودي ونظام الرق، ونموذج الدولة الليبرالية مرتبط بنمط الإنتاج الرأسمالي. يضاف إلى ذلك أن مفهوم الدولة لا يقوم ولا يستقيم بغير مفهومي العمومية والكلية، وبغير مفهوم القانون بصفته العامة والمجردة، ومن ثم فإنه من قبيل المجاز فقط أن نطلق على أنظمة الحكم في المجتمعات ما قبل الرأسمالية صفة الدولة. وقد قامت في كنف النظام الرأسمالي دول مستبدة وشمولية وتسلطية، في المراكز والأطراف تنقض هذه الفرضية، فضلاً عن التحول النوعي للدولة الليبرالية إلى دولة ديمقراطية، جراء نضال الطبقة العاملة والفئات الوسطى من جهة وضغوط المعسكر الاشتراكي من جهة أخرى.
يعرف مياي نفسه النظام الإقطاعي بأنه "شكل سياسي ناف للدولة، مع أنه طور سابق لها" ؛ مما يؤكد أن نمو العمل وتحوله النوعي إلى عمل صناعي قوامه العلم والتقانة هو العامل الرئيس في نشوء المجتمع المدني والدولة السياسية الحديثة، على أشلاء النظام الإقطاعي، نظام التضامن الشخصي، لا الإقليمي، الذي كان يقوم على نوع من لا مركزية إدارية تربط بين مراكز التقرير علاقات التبعية والولاء الشخصي التي تغدو معها الأرض مكافأة ينالها التابع من متبوعه لقاء التزامات معينة تنص عليها وثيقة الإقطاع وقسم الولاء. ومن ثم فإن المجتمع الإقطاعي لم يكن يعرف السياسة بوصفها مجموعة من المسؤوليات والالتزامات ملقاة على عاتق مواطن حر هو عضو في المجتمع وعضو في الدولة السياسية. فالمجال السياسي، ولا سيما مجال السلطة لم يكن مستقلاُ لا عن مجال الملكية ولا عن مجال الدين الذي كان يطبع سائر الممارسات الاجتماعية والسياسية بطابعه. فلم يكن ثمة مجال عام مشترك بين الأفراد والجماعات والفئات أو المراتب الاجتماعية، بل مجالات خاصة متنافرة ومتحاجزة يكتفي كل منها بذاته. فالسيد الإقطاعي هو شخص خاص وشخص عام في الوقت ذاته تتحدد علاقاته بتابعيه وبمتبوعه بالعرف والعادة والتقليد. المجتمع الإقطاعي يقوم على الامتيازات والحقوق الخاصة لا على القانون والحقوق العامة. لذلك يمكن القول إن نشوء الدولة الحديثة اقترن باستقلال الحياة الاجتماعية ونشوء حقل اجتماعي عام يستوعب حرية الفرد ويعترف بحقوقه بغض النظر عن أصله وفصله ونسبه وحسبه وثروته، وبغض النظر عن سائر تحديداته الذاتية الأخرى. لذلك صار القانون العام ضرورياً لتنظيم الحياة الاجتماعية، فالأعراف والعادات والتقاليد الخاصة بهذه الجماعة أو تلك لم تعد تصلح لتنظيم الحياة الاجتماعية لجماعات مختلفة وحدها العمل وراحت تتحدد بصفات غير تلك التي كانت تحدد الجماعات المغلقة، نشير هنا إلى الأهمية الحاسمة للإصلاح الديني في نشوء المجتمع الحديث والدولة الحديثة، ونشير بوجه خاص إلى ظهور الكنائس القومية، وإلى كسر احتكار الحقيقة وفصل الدين عن السياسة وعن الدولة، وتحرير الدين من السلطات السياسية وإنقاذه من تلاعبها به وتسخيره لخدمة المصالح الخاصة.
المجتمع الحديث والدولة الحديثة
لم تستعمل كلمة stateبمعنى الدولة، في اللغة الفرنسية، إلا في مرحلة إرساء أسس الحكم المطلق، أي في القرن السادس عشر" ، فيما تعممت ابتداء من القرن السابع عشر. ويعود أصل الكلمة إلى اللاتينية ( status استاتوس)، وتعني الإبقاء على الشيء، أي الوضع الثابت، ثم تحولت إلى استات، أي وضع شيء أو شخص، ولم تأخذ معنى المؤسسة السياسية الشاملة (بدل الجمهورية التي كانت تستعمل قبل ذلك) إلا ابتداء من القرن السادس عشر. وقد ظهرت في الوثائق الرسمية نحو سنة 1540 م . ومع دخول مصطلح الدولة في الاستعمال "أخذ بعد جديد بالظهور مع تحرر السياسة من العلاقات الدينية والعائلية والشخصية. إن تحديد التفاوت بين المجتمع المدني (أي مجتمع الأعمال والطبقات) والمجتمع السياسي (المصلحة العامة) بقي تحديداُ "تفكير" الدولة كمؤسسة خاصة بالحياة السياسية، و "فوق" الأفراد، بمن فيهم الملك شخصياً الذي يعتبر الخادم الأول للدولة. كذلك أصبح الأفراد أحراراً ومتساوين أمام الشبكة التجارية، أي متحرربن من كل صلة وتضامن سابق، ولا تجمعهم سوى نقطة واحدة: الدولة. وفيما تبدو الدولة متسامية عن التقسيمات الطبقية، فإنها تعبر عن وحدة النظام الاجتماعي، أي المواطنين السياسيين. إن الفصل بين الرجل والمواطن يجد ترجمته العملية في الفصل بين المجتمع المدني والدولة. وليست الدولة متجاوزة لمصير الأفراد فحسب، بل عليها نفي الفروقات المحلية بتقديم نفسها على أنها وطنية، فالدولة الوطنية لا تلائم الوحدات المغلقة الإقطاعية، بل تتناسب مع مجتمع مبني على الصناعة والتبادل والتجارة الحرة. والواقع أن الدولة المرتفعة عن الطبقات والانقسامات هي التجسيد القانوني للأمة، ذلك الكائن الأخلاقي الممثل لأفراد المملكة القدماء" . "ولم تكن حركة الوحدة هذه ممكنة التحقيق لولا بناء أسس آلة إدارية مركزية استثمرتها البرجوازية الصاعدة وخبرت بها الدولة، كما يقول ألييس في كتابه دور الإقليم في تكوين الدولة الوطنية". ويضيف: "وسيتحول جهاز سلطة الدولة إلى دولة حديثة عندما تتخصص بعض هيئاته بوظائف معينة. ورغم أن الدولة المطلقة لا تفصل بين السلطات، فهي تبدأ تدريجياُ بالتمييز بين الوظائف المختلفة، خاصة في المجال الإداري والقضائي والقانوني والتشريعي (مع أن القانون لم يكن يسن بعد، بل يكتسب كعرف)، وهكذا تتخذ قمم الدولة شكل المركز العصبي الذي يحصر مختلف شبكات الإعلام والتقرير والسلطات التي عجز المجتمع الإقطاعي عن السيطرة عليها" . بيد أن مفهوم الدولة بوصفها شيئاً عاماً (جمهورية)، أو تجريداً للعمومية احتاج إلى وقت طويل حتى تبلور في صيغة الدولة الليبرالية ذات الطابع البرجوازي الخالص، ولم يتحقق ذلك إلا بعد استقلال المجتمع السياسي عن المجتمع المدني، أي بعد تمايز مجالات الحياة الاجتماعية واستقلال كل منها استقلالاً نسبياً.
ليس بوسعنا فهم الدلالات الجديدة لمفهوم الدولة بوصفها "مؤسسة سياسية شاملة"، بمعزل عن التحولات الاجتماعية النوعية التي شهدتها المجتمعات التي ستغدو مجتمعات حديثة أو "المجتمعات الحديثة"، ولعل أهم هذه التحولات تحرر السياسة من العلاقات الدينية والعائلية والشخصية، جراء تحرر الأفراد من هذه العلاقات، وصيرورتهم أحراراً متساوين، ودخولهم في علاقات جديدة يحددها العمل الذي راح ينمو ويتطور وتتغير بنيته تغيراً جذرياً، ويتعاظم مردوده باطراد، أعني العمل الصناعي والتجارة بالضروريات، وتصنيع الزراعة ورسملتها، ونشوء الزراعات الواسعة والكثيفة، وإيلاء المحاصيل الصناعية أهمية خاصة، في البلدان الصناعية وفي المستعمرات. وجراء تمايز مجالات الحياة الاجتماعية واستقلال كل منها استقلالاً نسبياً، وهو ما اقتضى تعدد وظائف الدولة، وفصل السلطات. وأبرز سمات حداثة تلك المجتمعات هو ظهور طبقات اجتماعية حديثة، كالبورجوازية والبروليتاريا والطبقة الوسطى الجديدة. العمل يوحد من كانت تفرقهم العلاقات الدينية والعائلية والشخصية، ويفرض نظاماً اجتماعياً جديداً يدمج الوحدات الإقليمية في جسم سياسي باتت عموميته أمراً لازماً. المجتمع المدني صار مجتمع الأعمال والطبقات والمصالح الخاصة العمياء التي لو أطلق العنان لكل منها وتركت لشأنها لما أمكن قيام عقد اجتماعي. العقد الاجتماعي يقيد المصالح الخاصة بقيود المصلحة العامة التي لا يمكن أن يمثلها إلا كائن سياسي مستقل ومحايد إزاءها جميعاً، وإزاء الأفراد بصفاتهم الشخصية ومحمولاتهم، هذا الكائن السياسي الذي أنتجه العقد الاجتماعي صار نقطة التقاء جميع الأفراد بوصفهم مواطني الدولة، وقد بات من الضروري أن تكون هذه الدولة وطنية، أي أن تكون دولة الأمة. فالدولة الوطنية لا تلائم الوحدات المغلقة الإقطاعية، بل تتناسب مع مجتمع مبني على الصناعة والتبادل والتجارة الحرة. وكون الدولة وطنية يعني كونها فوق الطبقات والانقسامات، وفوق الأفراد جميعاً، بمن فيهم الملك؛ ومن ثم فهي التجسيد القانوني للأمة "ذلك الكائن الأخلاقي الممثل لأفراد المملكة"، لا لجزء منهم، مهما كان هذا الجزء كبيراً. وفيما تبدو الدولة متسامية عن التقسيمات الطبقية، فإنها تعبر عن وحدة النظام الاجتماعي. والفرق بين الفرد الطبيعي والمواطن صار يجد ترجمته في الفرق بين المجتمع المدني والدولة.
تثير فكرة انفصال المجتمع السياسي عن المجتمع المدني، أي انفصال الدولة عن المجتمع المدني، التباساً في الذهن الذي لا يرى أن كل انفصال هو اتصال، أو كل فصل هو وصل. ونعتقد أن استقلال مجالات الحياة الاجتماعية هو النتيجة الواقعية لتقسيم العمل الاجتماعي، فإن تقسيم العمل هو كلمة السر التي تفسر انفصال المجتمع المدني عن الدولة، وفصل السلطات داخل الدولة ذاتها. وسوف نرى أن كل نوع من أنواع العمل المشخص يحدد نمطاً من أنماط الشخصية، ونوعاً من العلاقات الاجتماعية والسياسية التي يمكن تمييزها في النسيج الاجتماعي. إن انفصال الدولة عن المجتمع المدني هو استقلال الدولة وانفصالها عن المصالح الطبقية أو الفئوية أو المحلوية، أو حيادها إزاءها، وحيادها إزاء الدين وإزاء المذاهب الفكرية والنظريات السياسية. ولذلك افترضنا أنه ليس للدولة مضمون طبقي أو طابع طبقي سوى ذلك الذي يلابس سلطتها السياسية ويلازمها، وهذا لا يعدو كونه عنصر العمومية المشترك بين جميع فئات المجتمع، ما لم تكن الدولة المعنية استبدادية. ومن ثم، فإن انفصال الدولة عن المجتمع هو الذي يمكنها من أن تكون أداة لتنظيم التعارضات الاجتماعية والصراعات الطبقية وإدارتها، وسوف يتبين ذلك بوضوح لدى بسط مفهوم العقد الاجتماعي. وليس تداول السلطة سوى تعبير عن هذه الوظيفة التي تحكم جميع وظائفها الأخرى وتحددها. " إن فصل الدولة عن المجتمع المدني يعني نزع الصفة الوراثية التي حملتها السلطة السياسية طوال العهود الإقطاعية، حيث أسهم كل من نظام القرابة والتضامن الإقليمي (المحلي) في تحويل السلطة إلى جزء من ميراث بعض الأفراد. ومنذ قيام الدولة الليبرالية صارت السلطة ملكاً للجميع، وصار من حق أي مواطن أن يكون رئيساً للجمهورية إذا توافرت له الشروط اللازمة لشغل هذا المنصب.
انفصال الدولة عن المجتمع المدني أو استقلالها عنه واقعة تاريخية وعيانية تحيل على نمو الحياة الاجتماعية وتقدمها واستقلال مجالاتها استقلالاً نسبياً، ولكن هذا الانفصال أو الاستقلال ليس انفصالاً ميكانيكياً، ولا استقلالاً مطلقاً، بل هو بالأحرى ما يجعل من الدولة والمجتمع المدني قطبين جدليين في وحدة تناقضية تسمح بتحول كل منهما إلى الآخر. فكرة الانفصال / الاتصال، أو الاستقلال النسبي نجمت وتنجم دوماً عن الفرق بين المجتمع المدني والدولة، أي عن الفرق بين صيغتين من صيغ العمومية، عمومية بالقوة وعمومية بالفعل؛ وكل فرق هو حد يضع تعارضاً أو تناقضاً يتحول إلى جدل بتوسط الممارسة. والانتخابات هي الممارسة الجماعية التي تمكن المجتمع المدني من الحضور في الدولة على أنه مضمونها ومحتواها، وتمكن الدولة من الحضور في المجتمع المدني على أنها شكل وجوده السياسي وتحديده الذاتي. بوساطة الانتخابات يحكم الشعب نفسه بنفسه ويشرع لنفسه، ويرى فيها كل مواطن مصلحة عملية، وتوكيداً فعلياً لعضويته في الدولة، إذ يغدو حاكماً ومحكوماً في الوقت ذاته. فمفهوم الانتخابات وفق هذه الرؤية يرادف مفهوم المشاركة السياسية، ومفهوم المواطنة. وهي فوق ذلك الوسيلة التي بها تحصل السلطة السياسية على المشروعية التي تؤهلها للحكم بموافقة الناخبين أو بموافقة الشعب، مصدر المشروعية الوحيد. إنها قاعدة الديمقراطية ووسيلة صالحة لتأمين سيطرة المواطنين على عملية اختيار حكامهم وتحديد ماهية النظام الاجتماعي الذي يريدونه لأنفسهم وتحديد الضوابط الدستورية والقانونية التي تمكن النظام من العمل وتوفر له شروط الاستقرار والتوازن. فهي من هذه الزاوية الوسيلة المثلى للاستقرار السياسي، وفسادها والتلاعب بها يؤديان إلى الفوضى والاضطراب. وما من شك في أن تزوير الانتخابات والتلاعب بها يحققان مصلحة مباشرة للمزورين والمتلاعبين، لكن هذه المصلحة عابرة ومؤقتة في جميع الأحوال، ولا تلبث أن تنقلب إلى نقيضها انقلاب السحر على الساحر. ولا تستمد الانتخابات قيمتها من كونها مباشرة وسرية ونزيهة تجري بإشراف قضاء مستقل فحسب، بل من مستوى الحريات العامة التي يتمتع بها المواطنون، ومن القوانين التي تنظم الحياة العامة، ولا سيما الحياة السياسية. فالانتخابات نوع من ممارسة جماعية يتنافس فيها الأفراد والأحزاب وجماعات المصالح الخاصة، وجماعات الضغط. وبممارستها مرة تلو مرة تتبلور التعارضات الاجتماعية ويتحول بعضها إلى جدل يرقى بالممارسة الاجتماعية والسياسية، ويرقى بالتشريعات والقوانين ذاتها.
الانتخابات بوجه عام، والانتخابات التشريعية العامة بوجه خاص، هي المنبع الأصلي لشرعية السلطة، تسهم في بلورة العلاقات الطبقية وتركيزها في المجتمع المعني، وفي تركيز سلطة الحاكمين، برغم الاستقلالية النظرية للسلطة المنتخبة عن المجتمع. وبهذا تغدو السلطات المنتخبة أكثر شرعية من جهة، وأكثر تعبيراً عن الفروق الطبقية من جهة أخرى؛ وهذه المفارقة هي إحدى تجليات الجدل الاجتماعي، أو ما يمكن أن نصفه بهمس التاريخ الذي هو ظل الإنسان في المجتمع المعني. ومن ثم فإن القواعد والقوانين التي تجري الانتخابات بموجبها، في هذا المجتمع أو ذاك، كانت ولا تزال تعكس العلاقات الاجتماعية السياسية بوجه عام والعلاقات الطبقية بوجه خاص، ولذلك كان شمول حق الانتخاب جميع الفئات الاجتماعية وشمولها الراشدين والراشدات، بلا تمييز ولا استثناء، الخطوة الحاسمة في التحول التاريخي من الليبرالية إلى الديمقراطية، بعد أن كان حق الانتخاب مقصوراً على دافعي الضريبة من الذكور الذين بلغوا سن الانتخاب، أو مشروطاً بالكفاية والثروة أو غيرها من الشروط التي تقصي كل الذين لا ترغب السلطة السياسية أو سلطة الملكية الخاصة في تمكينهم من حق المشاركة السياسية.
مع نمو المجتمع المدني وانبساطه وتطور الممارسة السياسية ونموها وفق مبدأ التمثيل والانتخاب أخذ المجتمع السياسي يستقل أكثر فأكثر عن المجتمع المدني، جراء نمو الحياة الاجتماعية واستقلال مجالاتها، كما أسلفنا، وجراء تطور الرأسمالية ونموها في الوقت ذاته. وثمة روابط ضرورية، منطقية وتاريخية، بين استقلال مجالات الحياة الاجتماعية، ولا سيما المجال السياسي، ومبدأ فصل السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، واستقلال كل منها استقلالاً نسبياً؛ فإن استقلال مجالات الحياة الاجتماعية استقلالاً نسبياً بالطبع هو الذي يفسر استقلال الدولة الوطنية عن المجتمع المدني، ويفترض فصل السلطات. ولعل تقسيم العمل وشكل الملكية يقبعان في أساس هذا الاستقلال. بهذا الاستقلال "اكتملت معالم الدولة السياسية، وتحولت إلى شيء عام، وصار ممكناً أن تغدو مملكة للحرية بقدر ما تغدو مملكة القوانين، وبقدر ما تغدو روح القوانين قوانين الروح الإنساني. إن علاقة التخارج بين الحرية والدولة التي كانت من أبرز سمات الحياة السياسية في الأزمنة القديمة أخذت تتحول إلى علاقة تداخل في الأزمنة الحديثة؛ ولا نغالي إذا قلنا إن تداخل الحرية والدولة من أهم معاني الحداثة . استقلال الدولة عن المجتمع المدني، أي استقلالها إزاء الطبقات والمصالح الخاصة وإزاء الحياة الاقتصادية، لا يعني نزع الصفة الوراثية عن السلطة السياسية فحسب، بل يعني إقامة الحد على الوعي الأيديولوجي الذي جعل من جميع مجالات الحياة الاجتماعية مجالاً واحداً هو مجال السلطة التي تدعي حق الولاية على البشر، وحق إدارة جميع شؤون المجتمع والتطابق معه. إن مبدأ فصل السلطات، بالمعنى الذي أشرنا إليه، هو ما يميز الدولة الليبرالية من الدولة الشمولية، التوتاليتارية، ومن الدولة الاستبدادية أيضاً. ولعل الثورات الديمقراطية لعام 1848 التي أطلق عليها اسم ربيع الشعوب كانت بداية ذلك التحول. وقد لاحظ ماركس أن "الحكم الملكي لتموز 1830- 1848 كان شكل الدولة المناسب للبورجوازية المالية، فيما مثلت الجمهورية الثانية (1848) شكل سيطرة مشتركة لمختلف شرائح البورجوازية، وأنه شكل الدولة الوحيد الذي ألحق مصالحه الطبقية بادعاءات مختلف الشرائح وبقية الطبقات في المجتمع" ؛ أي إن البورجوازية كانت تراعي مصالح جميع فئات المجتمع وطبقاته، ولم تكن ترى سبيلاً لتحقيق مصالحها سوى سبيل المصلحة العامة التي كانت تمثلها، وكانت جميع طبقات المجتمع الأخرى تعترف لها بذلك. لقد بدت مصلحة البورجوازية على أنها المصلحة العامة في نظر سائر فئات المجتمع المعني وطبقاته. وليس بوسع أي طبقة اجتماعية أن تفعل ذلك إلا بقدر ما تتسق مصالحها الخاصة مع المصلحة العامة، وبقدر ما يتسق لديها مفهوم السياسة الوطنية ومفهوم السيادة الوطنية. لقد أرست البورجوازية مبدأ استقلال المجال السياسي عن سائر مجالات الحياة الاجتماعية، وجعلت من المشاركة السياسية حقاً من حقوق المواطن؛ فغدا مفهوم المشاركة السياسية مرادفاً لمفهوم المواطنة وملازماً له ملازمة الظل لصاحبه.
النظام الرأسمالي الذي قام على مبدأ الحرية الاقتصادية والمبادرة الفردية: "دعه يعمل دعه يمر"، ينطوي، بطبيعة الحال، على تناقض ملازم له هو التناقض بين التنافس والاحتكار، والتنافس والاحتكار كلاهما يستندان إلى رؤيتين متباينتين للحرية؛ وبحسب نسبة أحد هذين النقيضين إلى الآخر يكون نظام الحكم، وبهذه النسبة ذاتها تتحدد بنية الدولة التي هي محصلة العلاقات الطبقية. ومن المهم توكيد حقيقة تاريخية مفادها أن الدولة الليبرالية ارتبطت بالتنافس، وأن الدولة الاستبدادية ارتبطت ولا تزال ترتبط بالاحتكار. وإذ يرتبط التنافس بالتوازن النسبي بين القوى الاجتماعية والسياسية يرتبط الاحتكار باختلال التوازن، وينتج التطرف والعنف ويقود إلى الحرب. وهو ما يفسر ميل الإمبريالية ونزوعها إلى الحرب. ولما كان الاحتكار تعبيراً عن اختلال التوازن، على الصعيدين الوطني والعالمي، فإن النظام الرأسمالي يعمل دوماً على تصحيح هذا الانحراف والعودة إلى حالة التوازن النسبي، ما دامت الرأسمالية قادرة على تجديد نفسها، أي ما دامت قادرة على تنمية القوى المنتجة؛ وحين يعجز النظام الرأسمالي العالمي عن وضع حد للاحتكار والتطرف و"ديكتاتورية السوق" وأوهام "اليد الخفية" والمواءمة الذاتية تغدو مسألة انهياره مسألة وقت. وليس خافياً أن النظام الإمبريالي والنظام الاستبدادي كانا ينتهيان إلى كارثة على جميع الصعد.
يتحدث بعض فقهاء السياسة أو وعاظ السلاطين، عندنا، عن الضرورة التاريخية لـ "دولة الإكراه"، ولنسمها: دولة الكراهية أو الدولة الكريهة، وهو حديث ينم على نزعة كلبية قوامها احتقار الشعب وتغييب مفهوم المجتمع المدني أوغيابه عن الوعي والضمير، والنظر إلى المحكومين على أنهم كائنات توتاليتارية يحركها الطمع والخوف، وإلى الشعب الذي يطنبون في تبجيله على أنه مادة صلصالية حقيرة وطيعة تستجيب لإرادة الحاكم الذي يمتص قوة الشعب، وتنم من ثم على غياب مفهوم الدولة الحديثة، الدولة الوطنية، وغياب مفهوم الوطن ومفهوم المواطن. فالمسألة في نظر هؤلاء لا تتعلق بنظرية الدولة التي أساسها الفرد الطبيعي والعائلة (الأسرة الحديثة) والمجتمع المدني، بل تتعلق بمعرفة من يملك القوة التي تتوفر عليها الدولة وكيف يملكها وكيف يستخدمها وكيف يحافظ عليها؛ ففي أساس رؤيتهم تقبع مكيافيلية مبتذلة ومختزلة إلى فكرة الغاية التي تبرر الوسيلة، والغاية هي فرض "القانون وترسيخ النظام" في المجتمع بالعسف والإكراه، وما أدراك ما القانون وما النظام!. العسف والإكراه متلازمان يضع كل منهما الآخر ويغذيه، ذلك أن القانون هنا ليس سوى إرادة الحاكم وبطانته، والنظام ليس سوى ذلك الذي يحقق مصلحة مادية مباشرة لمن "يملك القوة"؛ فعلى الحاكم (الأمير) أن يكون مهيباً لا محبوباً؛ لذلك ينصرف هم الفقهاء والوعاظ إلى آليات ممارسة السلطة، وتصنيف مختلف أشكال الدولة والأنظمة السياسية وفق الآليات والتقانات "القانونية"، كالانتخابات وتوازن السلطات وتحليل مدى تأثير الأحزاب وجماعات الضغط وكل ما يسترعي انتباههم من معلومات عملية عن الدولة التي خفضت إلى إدارة "عامة"، أي إلى إدارة البشر والأشياء. ونود الإشارة هنا إلى أن العسف والإكراه نتيجة منطقية لغياب الحدود بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي واختلاط مجالات الحياة الاجتماعية وسديميتها. العسف والإكراه نتيجة منطقية للسديمية والاختلاط ووسيلتان ناجعتان لاختراق المجتمع وانتهاك حقوقه وتنسيق بناه. العسف والإكراه متلازمان، ومضادان لحكم القانون الذي ليس له عندي من اسم آخر سوى روح الشعب وماهية الدولة. وكما تكون الشعوب تكون قوانينها ما دامت هي التي تضع القوانين، كما يفترض. وليس منطقياً ازدراء الدساتير والقوانين بحجة أنها تخدم مصالح طبقية بعينها، في نظر يساريي بلادنا، ما لم تكن هذه المصالح متطرفة ومقطوعة الصلة بمصالح الطبقات أو الفئات الاجتماعية الأخرى. وبالمصلحة العامة التي تمثلها الدولة؛ وحين يكون الأمر كذلك تفقد السلطة السياسية مشروعيتها، وتصير أفضل الدساتير والقوانين سيئة. على أن العيب ليس دائماً في الدستور والقوانين، بل في مؤسسات الدولة التي يضمر فيها عنصر العمومية، وتنفلت المصالح الخاصة من عقالها الاجتماعي والقانوني والأخلاقي، ولا تعود روح القوانين هي ذاتها روح الشعب.
في نقد التبسيط الحقوقي
يحدد الحقوقيون الدولة، بل يعرفونها، بثلاثة عناصر موضوعية هي: السكان والأرض والسلطات العامة؛ وليس بوسع أحد أن يجادل أو يماري في موضوعية هذه العناصر، بل يمكن أن يجادل المرء في تحديدها واستكناه مدلولاتها أولاً، وفي كون الكل (الدولة) لا يتحدد بأي من أجزائه، ولا بأجزائه مجتمعة ثانياً. إن أي قطرة من ماء البحر تحمل خصائص البحر، ولكنها ليست بحراً، وأي خلية من جسم الكائن الحي تحمل جميع خصائص الكائن، ولكنها ليست الـكائن الحي، وكذلك جميع خلايا الكائن الحي ليست الـكائن الحي، بـ الـ التعريف. الكل أكبر من جميع أجزائه. فكل حديث عن المجتمع المدني والدولة الوطنية، بالتلازم الضروري، هو حديث عن كل اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي محدد، من المبدأ والمنطلق، لا بشروط الزمان والمكان وحدودهما فحسب، بل بالروح الإنساني الذي يتموضع في العالم وفي التاريخ، أي في المكان والزمان على أنهما شكل وجوده وحركته الماديتين. وما يجعل الكل أكبر من جميع أجزائه هو طبيعته العلائقية وجدله الداخلي والخارجي الذي يجعل من وجوده عدم وجوده في كل حين. فإذا كانت عناصر الدولة الثلاثة، السكان والأرض والسلطات العامة، عناصر استاتيكية، ثابتة، فإن الدولة ليست كذلك؛ لأنها نتاج فاعلية مجتمع ينتج وجوده المادي، وينتجها، أي ينتج الدولة، شكلاً سياسياً وهمياً لوجوده المادي، كما في الدولة السياسية القائمة، أو شكلاً سياسياً فعلياً لوجوده المادي، كما في الدولة الديمقراطية الممكنة والواجبة . ولذلك أميل إلى تصنيف الدول في ثلاثة أصناف: الدولة ما قبل السياسية (وما دون الدولة السياسية)، والدولة السياسية، والدولة الديمقراطية التي هي أفق الدولة السياسية وتجاوزها الجدلي. ويفترض هذا التصنيف مفهوماً جديداً للديمقراطية يرقى بها إلى مستوى حذف الاستلاب السياسي الكلي والناجز، في الدولة ما قبل السياسية، والنسبي في الدولة السياسية، في صيغتها الليبرالية أو في صيغتها "الديمقراطية البورجوازية"، حيث صنمية السلطة لا تزال تعبيراً سياسياً وحقوقياً عن "صنمية السلعة"، أو حيث لا تزال الدولة "سماء الشعب" بتعبير ماركس. على أن الدولة السياسية هي المقدمة اللازمة والضرورية للدولة الديمقراطية.
يحيل مفهوم السكان الحقوقي والإحصائي على الرعايا في الدولة ما قبل السياسية، وعلى المواطنين في الدولة السياسة، وعلى المواطنين الأحرار في الدولة الديمقراطية. ولعل الفروق بين الرعايا والمواطنين والمواطنين الأحرار تشير إلى الفروق الجوهرية بين أصناف الدول وأنواع الحكم من جهة، وإلى طابع العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تجعل منهم رعايا أو مواطنين أو مواطنين أحراراً من جهة أخرى، أي إلى المجتمع التقليدي، والمجتمع المدني، والمجتمع المؤنسن ومعادلاتها السياسية: الدولة ما قبل السياسية والدولة السياسية والدولة الديمقراطية . الفارق الجوهري أو النوعي بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث (المجتمع المدني) هو العلمانية بجميع منطوياتها الإنسية والعقلانية والليبرالية، ولا سيما المواطنة والمساواة أمام القانون وتحرير الدولة من سائر التحديدات الذاتية للأفراد والجماعات، وتحقيق "الانعتاق السياسي" للمواطنين. والفارق الجوهري بين المجتمع المدني والمجتمع المؤنسن هو الحرية. ولذلك كنت ولا أزال أعرف الديمقراطية بأنها حرية الآخر الذي هو (أنا) و (آخر) في الوقت ذاته. في ضوء هذا الجدل، جدل الأنا والآخر تكف الحرية عن كونها مطلقاً ذاتياً، أو مطلقاً مشرعاً ذاتياً، كما تريدها الليبرالية الجديدة، أيديولوجية الرأسمالية المتوحشة.
لكن الرعايا أعضاء في جماعات مغلقة ومتحاجزة وطوائف حرفية، في الدولة ما قبل السياسية، ولا سيما في الدولة الاستبدادية ذات السحنة المملوكية العثمانية عندنا؛ أي أعضاء في المجتمع التقليدي؛ والمواطنين أعضاء في المجتمع والدولة الوطنية؛ والمواطنين الأحرار أعضاء في الدولة الديمقراطية والمجتمع المؤنسن؛ ومن ثم فإن مفاهيم: المجتمع المدني والأمة والشعب تغدو مفاهيم أساسية أو مركزية في مصفوفة نظرية حديثة تتخطى دائرة اهتمام الحقوقيين. وفي ضوء هذه المصفوفة تكف الأرض عن كونها رقعة جغرافية أو بيئة طبيعية، وميداناً للتملك السلبي، الخاص والعام والمشترك، وما يقرره من قواعد قانونية، لتصير وطناً يوفر لأهله الحرية والحياة الكريمة ويدافع أهله عنه ويصونون استقلاله وسيادته ويضحون في سبيل ذلك بالغالي والنفيس، وما ذلك إلا لأنهم يتملكونه إيجابياً بالعمل والإنتاج والمعرفة، ويموضعون ذواتهم فيه، فيكسبونه جميع خصائصهم، ويكتسبون جميع خصائصه؛ فكل إنتاج هو تملك. أما الدولة الديمقراطية التي هي أفق الدولة السياسية وتجاوزها الجدلي، فهي النظام العام الذي تكف معه الدولة عن كونها شكلاً سياسياً خاصاَ مخارجاً لمضمونه أو مناقضاً له، أي تكف عن كونها استلاباً لماهية المجتمع المدني وروح الشعب. وهي، كما حددها ماركس بوضوح لا لبس فيه، وحدة الشكل والمضمون، تصير معها الحياة السياسية للمجتمع هي ذاتها حياته الاجتماعية، ويكف القانون من ثم عن كونه قوة منع وكبح خارجية، ويصير قوة داخلية في الفرد والمجتمع، أميل إلى تسميتها بالقوة الروحية التي يصير القانون معها ضمير المواطن، ونوعاً من ضمير جمعي للمجتمع. هذه يوتوبيا، أجل، إنها كذلك، لكنها تريد أن تؤكد أن الإنسان على خط التحسن والتقدم، برغم الانتكاسات والتراجعات هنا وهناك، فضلاً عن وظيفتها المعيارية والأخلاقية. وهي قبل هذا وذاك تريد أن تؤكد أن هذا العالم هو عالم الإنسان وهو كالإنسان ذاته قابل للتحسن.
الوطن، وقد كف عن كونه مجرد رقعة جغرافية، أو بيئة طبيعية، أو حتى مجرد حدود سياسية معترف بها، يغدو علاقة إيجابية مثلثة الأطراف: علاقة بين الإنسان والطبيعة، وعلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمجتمع والدولة، وهي علاقة ذات محتوى اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي وقانوني وأخلاقي، يمكن إجمالها بكلمة واحدة هي المواطنية؛ وتعني عضوية الفرد الفعلية في الدولة السياسية ومشاركته الإيجابية في الحياة العامة . ومن ثم فإن مفهوم الوطن لا يقوم من دون مفهوم المواطن، من دون مفهوم المواطنية والمواطنة. وهذه أيضاً لا تقوم من دون مفهوم الوطن؛ فويل للذين يريدون أن يكونوا مواطنين حيث لا وطن، وويل للذين يأكلون من أيدي غاصبيهم.
الانتقال من الدلالة المكانية الخالصة للوطن إلى الدلالات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية والقانونية كان نتيجة تطور تاريخي طويل، ويمكن القول إنه لم يتبلور إلا في مطبع الأزمنة الحديثة. وغذا شئتم فإن المواطنية، بما هي انعتاق من الروابط الأولية، ومن العلاقات "السياسية" الشخصية والوراثية، ومن منطق الامتيازات والولاءات الشخصية والعصبيات ما قبل الوطنية أو ما قبل القومية، هي أحد أهم معالم الحداثة.
الوطن هو ما يلبي حاجات الفرد الأساسية ويصون حقوقه المدنية وحرياته الأساسية وكرامته، ويحقق له المساواة مع الآخرين أمام القانون، ويحقق له الأمن والحماية والرفاهية؛ وإلا فإنه ينتكس إلى مجرد بيئة طبيعية ومكان إقامة. ومما يدعو إلى السخرية أن نبحث عن معنى الوطن في بطون المعجمات والقواميس، أو في الأشعار والأقوال المأثورة، لا في العلاقات الواقعية الحية، ولا سيما علاقة الفرد بالدولة، العلاقة التي تكثف جميع علاقاته الأخرى. الوطن هو بيتنا السياسي، وموطن اعتزازنا الأدبي.
والانتماء إلى الوطن، أي إلى الدولة السياسية، أي إلى المجتمع المدني، أي إلى الأمة، يتضمن جميع انتماءاتنا الأخرى ويعلو عليها، لا ذاتياً فحسب، بل موضوعياً أيضاً، لأنه انتماء إلى الكل، أو إى الكلية العينية التي لا تكتمل فردية الفرد إلا بها. أما سائر الانتماءات والتحديدات الذاتية الأخرى، كالانتماء إلى الأسرة أو العائلة الممتدة أو إلى دين أو مذهب أو جماعة لغوية أو ثقافية أو إثنية، أو غلى طبقة اجتماعية أو حزب سياسي، فإنها تفصح عن طابعها الجزئي وتكتسي مضموناً جديداً تستمده من الانتماء إلى الكل. وقد يستهجن القارئ إذا قلنا إن الوطن مفهوم علماني بامتياز، وإن المواطنية هي الصيغة العملية للعلمانية. أليست العلمانية انتقالاً من التشظي إلى الوحدة ومن الملة إلى الأمة، يصير معه الوطن قيمة مشتركة بين جميع مواطنيه؟
وليس من نافل القول أن نؤكد أن حرية الوطن واستقلاله وسيادته، لا تعني شيئاً إذا لم تتأسس على حرية المواطن واستقلاله وسيادته. هل في هذا غلو؟ لقد علمتنا تجربة أكثر من نصف قرن أن الرعايا لا يدافعون عن الأوطان. المواطنون الأحرار فقط يمكن أن يدافعوا عن الوطن دفاعاً ناجعاً. العلاقة بين المواطن والوطن تناظر العلاقة بين الحرية والقانون. والشعوب التي لا تدافع عن قوانين بلادها لا تدافع عن بلادها. ويفترض قولنا هذا أن تكون القوانين جديرة بالدفاع عنها. وذلكم هو المغزى الأعمق لمفوم الوطن.