نظرية الاستغلال في القانون الوضعي وفي ضوء الشريعة الإسلامية




بقلم
الشيخ المحامي الدكتور مسلم اليوسف

مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقاً
و مدير مكتب جامعة سانت كلمنتس العالمية في حلب سورية


إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .

من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .

و أ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه .

] يَاأَيها الذين آ مَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَا ته ولاتموتن إلا وأنتم مُسلمُون [

] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا الله الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ .

]يَا أ يها الذين آ منوا اتقوا الله و قولوا قَو لاً سَديداً يُصلح لَكُم أَ عما لكم وَ يَغفر لَكُم ذُ نُو بَكُم وَ مَن يُطع الله وَ رَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظيماً [ .

أ ما بعد :

عرف الغبن منذ زمن بعيد في كتابات و فقه أهل العلم ، بيد أن الاستغلال كمصطلح مستقل له شروطه و احكامه فقد ظهر في العصور الحديثة الذي اعتمد في بعض أحكامه على الغبن بصورته التقليدته و ابتكر أحكاماً أخرى نتيجة تصديه لمشاكل العصر و أفكاره الجديدة .

وقد جعلت القوانين الوضعية الاستغلال نظرية فعلية لها شروطها و عناصرها و آثارها في تلك القوانين .

و لقيام الغبن وفق نظرية الاستغلال شروط ثلاث هي :
1- أن يختل التعادل بين الأداءات المتقابلة في العقد أو أن ينعدم هذا التعادل عند عدم وجود مقابل .
2- أن يكون هناك استغلال لضعف معين في المتعاقد المغبون .
3- أن يكون هذا الاستغلال هو الدافع إلى التعاقد .

الشرط الأول – اختلال في التعادل بين الأداءات المتقابلة :

يأتي هذا العنصر وفق هذه النظرية في المقام الأول ، فهو أول ما يتجه إليه البحث عند النظر في الغبن وفق نظرية الاستغلال ، لأنه ظاهر واضح و هو سهل الإثبات ، و يتحقق هذا الشرط كما تقول المادة 129/1 مدني مصري و 130 مدني سوري : ( إذا كانت التزامات أحد المتعاقدين لا تتعادل البتة مع ما حصل عليه هذا المتعاقد من فائدة بموجب العقد أو مع التزامات المتعاقد الاخر ) .
كما أوردت المادة 214 موجبات و عقود لبناني إذا كان الغبن ( فاحشاً و شاذا عن العادة المألوفة ) .
و على هذا نرى أن القانون السوري و المصري لم يشترطا في هذا الشرط إلا الغبن الفاحش .
أما القانون اللبناني فقد وضع عليه شرطا آخر و هو أن يكون شاذا عن العادة ، و أعتقد أن القانون اللبناني قد أحسن عندما وضع هذا الشرط ، فقد تكون القيمة المادية للشء أكبر من قيمته المحددة في العقد و ربما يكون التفاوت بين القيمتين فادحاً و مع ذلك يظل مستساغاً بحكم العادات التي تحكم العلاقات بين المتعاقدين ، فليس نادراً أن يبيع الوالد عقاراً لابنه بثمن لا يتناسب مع قيمته ذلك أن العلاقة بين الأب و الابن لا تجعل الوالد يتوخى الاستغلال في تعاقده مع ابنه منفعة مادية صرفة إذ الواقع أثبت أن الوالد يتساهل كثيرا مع فلذة كبده في في المعاملات و غيرها ، وليس هذا مما يشذ عن المألوف – و فق القانون الوضعي طبعا – طالما أن التفاوت بين الموجبات لم يكن شاذا عن العلاقات التي تتحكم بالمعاملات بين الطرفين في اوسط الاجتماعي الذي يعيشان فيه .
و التعادل بين الأداءت أو الموجبات وفق نظرية الاستغلال لا ينظر فيه إلى قيمة المادية للشئ فقط ، و غنما يعتد أيضا بقيمته الشخصية أي بما يساويه في اعتبار النتعاقد ، فربما كان هناك عقار يساوي مليون بيد أنه في نظر المشتري أو البائع يساوي أكثر من ذلك لما يحوي هذا العقار على أشياء ذات طابع شخصي لدى المتعاقد فتصبح هذه القيمة الشخصية هي أس الحقيقي لقيمة العقار و لتفاوت قيمته في العقد .
بيد أني أتساءل متى كان تقديرنا للأشياء هو المقوم أو المحدد لسعر السلع أوليس قانون العرض و الطلب هو المسعر للسلع و دخل لعواطفنا و ميولنا في تحديد أسعار الأشياء كقاعدة عامة ، إذا ما أدخلنا القيمة الشخصية للشئ لتسعير الأشياء فإننا سنفتح باب الاستغلال على مصراعيه و عوضا عن جعل نظرية الاستغلال مقاومة للاستغلال تصبح مشجعة وحامية له . فربما وجد شخص لديه رغبة شديدة في شراء منزل ما بسبب قربه من عمله و أهله ، و بالتالي فإنه سوف يوفر عليه كثيرا من الوقت و المال ، فسعره الشخصي عند هذا الشخص يساوي أكثر من قيمته في السوق ، فهل يدخل في تقويم العقار هذه الأشياء الشخصية و بالتالي يصبح مجموع هذه الأشياء سعر العقار ، أم أن الذي يحدد سعره موقعه في البلد و مساحته و جودته و إلى غير ذلك من الأمور الهامة لسعر العقار .

أعتقد أن القانون اللبناني قد أحسن عندما لم يأخذ بنظرية الاستغلال ( النظرية الشخصية للالتزامات لأن واضع المادة 214 جمع بين المذهب المادي و الشخصي ، فاشترط الغبن بصفته الفاحشة و الاستغلال ، و في إطار الغبن وفق نظرية الاستغلال ينظر إلى قيمة الشئ نظرة مادية لا شخصية ، و عند استعراض خاصة الاستغلال يكون تقديرها أساس التحقق ما إذا كان المغبون قد استغل فعلاً ، و كان استغلاله قد حصل بالشكل الذي حمله على القبول بالقيمة المعينة في العقد .

و يدخل في نطاق تقدير التصرف كل شرط يفرض على المتعاقد التزاماً ، حتى و لو لم يكن يقوم بمال ، و على هذا الأساس تقوم المقارنة بين التزامات الطرفين في مجموعهما ، إذ تؤخذ بعين الاعتبار الالتزامات المتعاقدين و الفائدة التي يحصل عليها المتعاقد بموجب العقد . فلو أن شخصاً اشترى قطعة من الرض و التزم في العقد بعدم البناء عليها ، فالتزامه هذا يدخل في التقدير عند تحديد المنفعة التي عادت عليه ، و مقارنتها بالثمن الذي دفعه .
و يصح أن يقع الاختلال بالمعنى الذي ذكرناه في جميع التصرفات و هو اكثر ما يكون في عقود المعاوضات إذ أن هذا المجال هو الذي يظهر فيه بوضوح الاختلال في التعادل بين الاداءات ، لأن العاقد في هذه العقود يعرف وقت العقد على وجه محدد مقدار ما يعطي و مقدار ما سيأخذ ، كما أنه من الممكن أن يتحقق الاختلال في العقود الاحتمالية على الرغم من انها تقوم أساساً على عنصر الاحتمال ، احتمال الخسارة و الكسب ، إلا أن هذا لا يحول دون أن تكون مجالاً للغبن .
أما عقود التبرع التي ينال فيها أحد المتعاقدين مقابلاً لما يعطيه و لا يقدم العاقد الاخر مقابلاً لما يناله .

إن بعض التشريعات و الفقه يريان أن عقد التبرع من نطاق الغبن وفق النظرية الشخصية ، لانعدام العنصر المادي في التبرعات و هذا ما فعله القانون المصري ، وتبعه القانون السوري إذ وضع المتشرع المصري نصاً خاصاً لعقود التبرع ، بيد أن لجنة مجلس الشيوخ حذفت هذا النص بحجة أنه من قبيل التزيد ، ذلك أن نص المادة 129 شمل التبرعات أيضاً .
أما القانون اللبناني : فقد ذهب فريق من شراحه إلى أن المتشرع اللبناني يقصر الاستغلال على عقود المعاوضات بحجة أن المادة 213 موجبات و عقود اقتصرت على ذكر هذه العقود في تعريفها للغبن بيد أنني أعتقد أن هذا التعريف تناول الغبن وفق النظرية المادية .
أما الاستغلال فقد عالجه في المادة 214 وفقاً لما يقضي به منطق الفكرة ، إذ هو أشد وطأة في عقد التبرع منه في عقد المعاوضة .

و هنا أطرح السؤال التالي : هل يجب أن يكون هناك اختلال في الموجبات حتى يكون هناك عيب ، و في عقد التبرع العاقد لا يأخذ مقابل ما يعطي أصلاً ؟ .

الحقيقة أنه ينظر في هذه الحالة لتقدير العنصر المادي إلى مقدار التبرع بالنسبة إلى ثروة المتصرف و العبرة في تقدير العنصر المادي على النحو الذي ذكرناه بوقت إبرام التصرف ، و إذا سبق التصرف وعد بإبرامه كانت العبرة في تقدير العنصر المادي وقت صدور الوعد ، وليس وقت انعقاد التصرف الموعود به حينما يبدي الموعود له رغبته في إبرامه .
و مهما قيل فإن هذا الرأي يبقى نظرياً لا يجد له سنداً في القانون اللبناني ، و لا حتى في القانونين السوري و المصري ، بل كان من واجب المتشرع أن يقنن لعقود التبرع نصاً صريحاً يجيز إبطال التبرعات تبعاً لظروف المتبرع و التبرع 0
و كثيراً ما يتبرع الزوج لأولاده من زوجته الأولى بمعظم ماله بالبيع الصوري ، ثم يتزوج بثانية و ربما ينجم عن هذا الزواج طفل أو أطفال و عندما يموت الأب لا يجد الطفل من تركة أبيه شيئاً لأن الب قد تبرع بمعظم أو بكل أمواله لأولاده من الزوجة الأولى مما ألحق بهذا الغلام الغبن الفاحش لذلك كان حل هذه المشكلة وفق انظرية الاستغلال أدعى و أوجب و ذلك لخطورة عقود التبرع و كثرة وقوعها في مجتمعاتنا .

و مما تقدم نلاحظ أن الغبن يقع في عقود المعاوضات ، و كذلك يقع في عقود التبرع ، فهل يقع أيضاً في العقود الاحتمالية ؟

العقد الاحتمالي أو عقد الغرر : هو العقد الذي لا يستطيع فيه كل من المتعاقدين أن يحدد عند إبرامه مقدار ما يأخذ أو مقدار ما يعطي لتوقف تحديد هذا المقدار على أمر مستقبلي غير محقق الوقوع .
و هكذا فإن معرفة ما يكسبه و ما يخسره أحد طرفي العقد غير معروف عند التعاقد ، بل هو أمر متوقف على حادث مستقبلي قد يقع و قد لا يقع .
و لا شك في أن عقد التأمين عقد احتمالي بالنسبة إلى طرفيه من الوجهة القانونية و إن لم يكن كذلك من الوجهة الاقتصادية .

فكيف يكون الغبن في العقود الاحتمالية ؟


يتبين ذلك من خلال هذا المثال البسيط ، فلو قام شخص بالتامين على منزله من خطر الحريق و كان هذا المنزل بعيداً كل البعد عن هذا الخطر ، بيد ان صاحبه لم يقم بعملية التأمين إلا بناء على طلب دائن ارتهن المنزل ، و اشترطت شركة التأمين بالرغم من أن خطر الحريق بعيد الوقوع بدفع أقساط مرتفعة . فاحتمال عدم تحقق الخطر هنا أرجح بكثير من احتمال تحققه و بالتالي سوف تحقق شركة التامين ربحاً فاحشاً من وراء هذا التأمين غير المتكافئ . فلا شك بأن الركن المادي و المعنوي في هذا المثال متحقق .
الركن المادي : هو اختلال الموجبات بين طرفي العقد لصالح شركة التأمين .
أما الركن المعنوي : فهو استغلال حالة المستأمن لاضطراره إلى عقد التأمين مهما كانت الظروف .

فما هو موقف القوانين العربية ( اللبناني ، السوري ، المصري ) من العقود الاحتمالية ؟


عالج القانون اللبناني هذا الموضوع بنص صريح عندما نص في المادة 221 في فقرته الأخيرة على أن العقود الاحتمالية تكون قابلة للابطال بسبب الغبن ( و جاء في مجموعة الأعمال التحضيرية القانون المصري أن العقود الاحتمالية ذاتها ، يجوز أن يطعن فيها على أساس الغبن ، إذا أجمع فيه معنى الافراط ، و معنى استغلال حاجة المتعاقد أو طيشه ، أو عدم خبرته أو ضعف إداكه ) .([1])

و هكذا يتضح أن العقود الاحتمالية تخضع لدعوى الإبطال بسبب الغبن شريطة أن يقدر عدم التعادل بين مقدار الربح و مقدار الخسارة ، لا وقت إبرام العقد بل عند انتهاء العقد ، و ذلك لصعوبة معرفة ما يحصل عليه كل من الطرفين وقت إبرام العقد ، لأن هذا يتماشى مع المنطق القائل برفع الظلم عن المغبون سواء أكان هذا الغبن عند إبرام العقد او أثناء تنفيذه أو عند انتهائه .

( الشرط الثاني ) : أن يكون هناك استغلال لضعف معين في المتعاقد المغبون :

يختلف نطاق الغبن وفق نظرية اللاستغلال من حيث حالات الضعف التي يستغل بها المتعاقد المغبون من القانونين المصري و السوري إلى القانون اللبناني . لذلك سوف نتعرض لهذا الشرط في القانون المصري و السوري أولا ، ثم نتعرض لهذا الشرط في القانون اللبناني .

( أولاً) في القانون المصري و السوري :


كما هو معلوم أن معظم نصوص القانون المدني السوري مطابق لنصوص القانون المصري ، لأنه في الأصل مقتبس منه ، لذلك كان لابد من البحث في القانونين لأنهما أصل واحد .
تنص المادة 129/1 مدني مصري و المادة 130/1مدني سوري على ما يلي :
"…قد استغل فيه طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً" وكان نص المادة 129 مدني مصري في المشروع التمهيدي للتقنين المصري يشترط على أن يكون الطرف المغبون قد استغل حاجته ، أو طيشه أو عدم إدراكه أو يكون قد تبين بوجه عام أن رضائه لم يصدر عن اختيار كاف .
ومما تقدم يتبين أن واضعي هذا المشروع قد أرادوا التوسع في تقرير نواحي الضعف التي يصح أن تكون محل استغلال في المتعاقد المغبون ، بيد أن لجنة من مجلس الشيوخ رأت ألا تصل إلى هذا الحد من التوسع و أن تجعل النص قاصراً على استغلال الطيش البين أو الهوى الجامح ، إمعاناً في تضييق الدائرة التي يطبق فيها الاستغلال خشية من التحكم ورغبته في انضباط التعامل و استقراره .
وهكذا فإن العنصر النفسي في الاستغلال محصور في الطيش البين أو الهوى الجامح ، لأن الغبن لا يعتبر سبباً قانونياً لإبطال العقد أو تعديله ما لم يكن مصحوباً بعوامل استغل بها أحد المتعاقدين في الآخر طيشاً بيناً أو هوىً جامحاً .
فإن ثبت أن العقد المتفق عليه جرى بدافع الطيش الذي استغله الطرف الآخر فإنه يقتضي إيجاد التعادل بين التزامات الطرفين،أما إذا كان المدعي كامل الأهلية حين إبرام العقد ، كان الفرق بين الثمن الحقيقي و المسمى في العقد لا يشكل غبناً يؤدي إلى اختلال التوازن الفاحش الذي أوجبه المتشرع في الاستغلال فإن ذلك يوجب رد الدعوى .
و يلاحظ أن نص المادة 129مدني مصري والمادة 130مدني سوري بوضعهما الحالي عجزاً عن مواجهة الحالات التي يبرم فيها الشخص وهو مسلوب الإرادة، دون أن يكون ذلك راجعاً إلى طيش بيّن أو هوى جامح، وقد عرض على القضاء حالات من هذا القبيل فلجأ إلى نظرية الاستهواء و التسلط على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي ، بأن قضى بإبطال عقد البيع لفساد رضا البائع كونه متقدماً في السن و مصاباً بأمراض مستعصية من شأنها أن تضعف إرادته فيصير سهل الانقياد خصوصاً لأولاده المقيمين معه في المنزل .
وكان من واجب المتشرعين المصري و السوري أن يواجها هذه المسألة بنص صريح يهتدي به القضاء لكثرة وقوع مثل هذه المسائل في مجتمعنا بدلاً من الالتجاء إلى نظرية الاستهواء و التسلط على الإرادة التي أخذ بها القضاء الفرنسي .

هل تكفي الحالات التي وردت في القانونين المصري والسوري لحماية الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية .
إن المتشرعين السوري و المصري كما رأينا قد قصرا الغبن وفق النظرية الشخصية على الهوى الجامج أو الطيش البين ، و استبعدا بصورة صريحة استغلال الحاجة و عدم الخبرة .
على الرغم ما لهاتين الحالتين من أهمية كبيرة في مقاومة الاستغلال بحجة الحفاظ على استقرار المعاملات لأنه في حال إقرارهما سيؤدي ذلك إلى إرباك المعاملات و عدم استقرارهما ، لذلك كان من واجب المتشرعين أن يقرا الحاجة و عدم الخبرة بجانب الهوى الجامح و الطيش البيّن لمقاومة الاستغلال و ذلك لعدم كفاية الطيش البيّن و الهوى الجامح لحماية الطرف الضعيف في العلاقات التعاقدية .
و هكذا و مما تقدم كان من واجب المتشرعين المصري و السوري أن يكونا أكثر شجاعة وأن يقرا بجانب الهوى الجامح والطيش البيّن،عدم الخبرة أو الضيق أو الحاجة كما كان من واجبهما أن يواجها حالة انعدام الإرادة على نحو بيّن .

ثانيا : في القانون اللبناني :

تصدى القانون اللبناني لهذا العنصر في المادة/214/ موجبات وعقود فقال ما يلي :
{إذا كان المستفيد قد أراد استثمار ضيق أو طيش أو عدم خبرة في المغبون} ، نلاحظ أن القانون اللبناني كان أوسع و أشجع من القانون المصري والسوري بأن تصدى لعدم الخبرة في المغبون بيد أنه لم يورد الضيق أو الحاجة مثله في ذلك مثل القانون السوري والمصري،وكان من الأجدر بحسب اعتقادي أن يتصدى للضيق المغبون لكثرة تكرار هذه الحالة في المعاملات وقسوتها على الأشخاص المغبونين .
و سوف نتصدى الآن بالشرح إلى معنى الضيق ، ثم الطيش ثم عدم الخبرة .

1- الضيق :

اختلف الفقه و القضاء اللبنانيان في تفسير المقصود بالضيق بالمادة /214/موجبات وعقود ، فرأى البعض أنه يقصد به العسر المالي الذي يؤثر في نفسية الشخص فيحمله على قبول التعاقد بشروط مجحفة و بهذا المعنى قضت محكمة التمييز ، فقالت أن : { الضيق المقصود إنما هو العسر الذي يحمل المرء على التعاقد مع شخص آخر بشروط مجحفة ، فإذا اضطر البائع لإجراء العقد مع شخص آخر بشروط مجحفة اجتناباً لمطالبات أو ملحقات قد تنال من كرامته الشخصية أو من سمعته المالية ، فإنه يمكن للمحكمة بما لها من حق التقدير وبالنظر لمركزه الاجتماعي وظروفه وحالته الصحية ، أنه في وقت العقد بحالة الضيق التي عناها المشترع } .
ورأى فريق ثان بأن الضيق المقصود بالمادة /214/هو الحاجة الماسة للمال والتي من شأنها أن تعرض للخطر حال الشخص الاقتصادية بصورة فعلية،وفريق ثالث يرى أن الضيق هو انعدام الثروة أو فقدا الثقة المالية الذي ينجم عنهما العوز الشديد لدى المتعاقد ، بحيث يتعذر عليه تأمين حاجاته الأساسية و العائلية .
أعتقد أن رأي الفريق الأول والذي يدعمه قرار محكمة التمييز سالف الذكر هو الأصوب و الأحوط حفاظاً على مصالح المتعاقدين الواقعين تحت الضيق بإضافة إلى أن المتشرع اللبناني قد أورد لفظ الضيق ولم يصفه بالشديد ومن الواجب علينا أن نطبق النص وفق مظاهره إلى أن يثبت تطيقه بدليل قوي وذلك حفاظاً على مصلحة أفراد المجتمع.

2-الطيش:

بينت محكمة البداية المدنية أن{الطيش الذي عنته المادة/214/موجبات يعتبر متوفراً إذا كان الشخص المغبون لم ينتبه عن إهمال منه و عدم مبالاة ، إلى النتائج التي قد تتولد ضد مصلحته عن العقود التي يجريها… وليس من الضرورة أن يكون الطيش حالته المعتادة،بل يكفي ظهوره عند المتعاقد المقرون بالغبن}.
كذلك قضت محكمة التمييز بأنه: إذا عللت محكمة الاستئناف قرارها القاضي بإبطال البيع بسبب الغبن لوجود تفاوت شائع بين قيمة البيع وثمنه يتحقق معه العنصر المادي للغبن،وأنه تبين لها أن البائع كان طائشاً و مبذراً و مقامرا ًو مرهقاً بالديون ، و أن حالته هذه كانت معروفة من المشتري الذي هو ابن بلدته وقريبه الذي استغل طيشه ، فإن هذا التعليل يكون كافياً للحكم بإبطال البيع بسبب الغبن .
وبطبيعة الحال لا تعتبر حالة الطيش متوفرة إذا كان الشخص قد أبرم العقد بعد عدة استشارات ، فإذا قام بتلك الاستشارات،فليس له أن يسند إلى طيشه لإبطال تصرف ألحق به الغبن و لو لم يتبع تلك الاستشارات،لأن الظروف تكشف عن أنه لم يقدم على التصرف بخفة و اندفاع .

3-عدم الخبرة :

ويراد بعدم الخبرة عدم توفر المعلومات اللازمة بالنسبة إلى العقد الذي تم إبرامه ، و إن عدم الخبرة يمكن أن يكون عاماً ، أو أن يحصر في نواحي معينة ، معنى أن الشخص الذي تنقصه الخبرة في إحدى النواحي يمكن أن تتوفر فيه الخبرة في غيرها .
و قد قضت محكمة الاستئناف بأن : {كبر سن البائع المصاب بتصلب الأنسجة الدماغية مما يجعله ضعيف الشخصية و الإرادة ، إذا اقترن بتغيبه عن بلدة مدة طويلة ، و بعدم إطلاعه مباشرةً على حالة عقاراته و تقدير أوضاعها ، دليل على عدم خبرته بالنسبة للعقد الذي أقدم على توقيعه} .
و قضت بأن زيادة التخمين عن الثمن المصرح به عشرة أضعاف تشكل الغبن الفاحش،كما أن وجود البائع في المهجر يشكل قرينة على عدم معرفته قيمة العقارات وعدم خبرته بأثمان الأراضي في لبنـان.
وهكذا نلاحظ بأن القانون اللبناني كان أوسع من القانون المصري والسوري ،بيد أن هذا التوسع أيضاً لا يشبع ولا يغني من جوع،فهناك حالات كثيرة بقيت بعيدة عن الحل،مثل ضعف الإدراك حيث خلط القضاء اللبناني ما بين عدم الخبرة و ضغف الإدراك { كما في حكم محكمة الاستئناف المدنية الشمال قرار رقم/17/في/20/شباط/1957/ المشار إليه بمجموعة اجتهادات حاتم } و بهذا كان من واجب المتشرع اللبناني أن يضم ضعف الإدراك إلى الحالات السابقة حتى يعالج حالات الغبن وفق النظرية الشخصية معالجة حسنة نوعاً ما.

الشرط الثالث:أن يكون هذا الاستغلال هو الذي دفع على التعاقد:

لم تكتف القوانين المغبون قد غبن غبناً فاحشاً نتيجة هوى جامح أو طيش بيّن ، كما في القانونين السوري و المصري أو الضيق أو الطيش أو عدم الخبرة كما في التقنين اللبناني ، بل زادت الأمور تعقيداً بأن اشترط شرطاً ثالثاً و هو أن يكون هذا الاستغلال هو الذي دفع المتعاقد المغبون إلى التعاقد .
و إرادة الاستغلال لا تشترط أن يكون المتعاقد مع المغبون هو الذي حمله بذاته على التعاقد بل يكتفي أن يكون قد عرف بالضعف في المغبون و رغب في استغلاله وحقق ما رغب به ، فجاء الاستغلال بالوجه الذي دفع على التعاقد .
و تعرض مسألة دقيقة هي معرفة ما إذا كان الاستغلال يتوفر إذا كان المغبون هو الذي جاء إلى الطرف الآخر ساعياً إلى إبرام العقد،هذه المسألة تحتمل وضعين ، فإما أن يكون المغبون بحاجة ماسة إلى المال ، فيأتي إلى الطرف الآخر ليعرض عليه أن يشتري منه عقاره بثمن حدده هو ، فيقبل الطرف الثاني العرض من غيره أن يتخذ موقفاً يدل على نيّة الاستغلال ، لا جرم بأن الغبن في هذا الوضع لا يتحقق ، فالقانون : {اشترط لصحة دعوى الغبن عدة شروط منها إرادة الاستثمار ضيق المدعي من قبل المدعي عليه ، بحيث يكفي عدم تحقق هذا الشرط الأخير،لكي تغدو دعوى الغبن مردودة } .
الوضع الثاني :
ويكون فيه المغبون قد أخبر العاقد الآخر بعسره الشديد فاستغل العاقد ظروفه فتعاقد معه مستغلاً أوضاعه لصالحه ، فجاء العقد مجحفاً بالمغبون إجحافاً شديداً ، و في هذا الوضع يكون عامل الاستغلال قد قام ودفع إلى التعاقد .
و هذا ما قررته محكمة التمييز المدنية إذ قالت : { عندما يتبين من مجمل إفادات الشهود ومن مجمل ظروف القضية أن البائع كان طائشاً ومبذراً وسكيراً ومقامراً ومرهقاً بالديون ، وأن ذلك كان معروفاً من الشاري ، فإن هذا الأخير يكون قد استغل طيش البائع وابتاع العقارات بثمن بخس ويكون الشرط الثاني للغبن متوافر .
وبهذا لابد من توافر العناصر الثلاثة لإبطال العقد و لا يمكن القول بأن توفر الشرط الأول يعكس التالي توفر الشرط الثالث بل لابد من إثبات وقوع الشرط الأول فقط.


الفرع الثالث

الموازنة ما بين النظرية المادية والنظرية الشخصية


إذا وازنا بين هاتين النظريتين نجد أن الغبن وفق النظرية الشخصية يتألف من عناصر ثلاث ، و هي :
1- قيمة الشيء : و هو وفق النظرية الشخصية للمشتري و لا عبرة للسعر الموضوعي .
2- استغلال ضعف معين في المتعاقد المغبون :و قد ناقشنا هذا الشرط فيما سلف من في شروط الغبن وفق النظرية الشخصية .
3- كون الاستغلال هو الذي دفعه للتعاقد .

أما الغبن وفق النظرية المادية ، فإنه يتكون من عنصرين فقط :
{ العنصر الأول } و هو قيمة الشيء : فالعبرة بقيمة الشيء بحد ذاته ، و تحدد هذه القيمة تبعاً للقوانين الاقتصادية والتي من أهمها قانون العرض والطلب ويترتب على هذه النظرية المادية لقيمة الشيء ، أنه إذا اختل التوازن بين الموجبات فإن الغبن يتحقق .
{ العنصر الثاني } درجة الاختلال في التعادل : و هذه أيضاً ينظر إليها نظرة مادية فهي مرصودة برقم معين ، فإذا وصل الغبن إلى هذا الرقم ، فإن الغبن يتحقق.

ومن شروط الغبن يتبين لنا عيوب ومزايا كل من النظريتين :
{ أ } عيوب و مزايا الغبن وفق النظرية الشخصية :
الغبن على ضوء النظرية الشخصية عيب في الرضاء و ليس في العقد و بالتالي : فالغبن مرن غير محدد برقم معين بل ينظر إلى ظروف العاقد المغبون وما به من ضعف أو ضرورة أو عدم خبرة أو طيش أو هوىً مع مراعاة الملابسات والظروف التي تحيط بالعاقدين .
أما عيوب الغبن على ضوء هذه النظرية فتكمن في أنها تحدد درجة الاختلال بين الموجبات وفق النظرية الشخصية للمتعاقد المغبون وليس وفق النظرة الموضوعية للعاقدين ، و بهذا فهي تفتح باباً عريضاً للاستغلال وليس للقضاء على الاستغلال.
و الغريب في الأمر أن كثيراً من الفقهاء من يأتي لنا بأمثلة محاولاً عن طريقها إبراز مزايا نظرية الاستغلال فإذا به يظهر عيوب تلك النظرية وليس مزاياها.
يقول السنهوري : { كثيراً ما تختلف قيمة الشىء في السوق عن قيمته لدى الشخص ، فالمالك الذي يجد قطعة من الأرض صغيرة ملاصقة لمنزله يشتريها بأضعاف ما تساويه ليوسع بها بيته،أو حديقته،قد تحقق فيه الغبن بمعياره المادي ، و لكن لم يتحقق فيها الغبن بمعياره الشخصي و بالتالي لا يتحقق فيه الاستغلال إلا إذا كان ما دفعه يزيد كثيراً على القيمة الشخصية .
و الآن بعد هذا المثال أقول:أليس صاحب الأرض الصغيرة استغل حاجة صاحب المنزل فرفع من قيمة أرضه أضعافاً لأنه يعلم حاجة صاحب المنزل وأنه لا يستطيع الاستغناء عنها فغبنه غبناً فاحشاً واستغله استغلالاً بشعاً ومع هذا يبرر الفقه هذا التصرف بأن الأرض تساوي هذا السعر بمعيار المشتري الذي لم يعد له لا حول ولا قوة أمام حاجته الشديدة للأرض،وهذا هو العيب الأول.
أما العيب الثاني في النظرية فيكمن في صعوبة الوصول إلى الحالة النفسية للمغبون،مما يؤدي إلى زعزعة التعامل وعدم استقراره خلال البحث والتنقيب في الحالة النفسية للمغبون.
{ب}عيوب ومزايا الغبن وفق النظرية المادية:
من شروط الغبن على ضوء النظرية المادة يتبين لنا أن هذه النظرية تمتلك مزية التحديد،وهذا ضمان لاستقرار المعاملات إذ يمكن لأول وهلة،أن يعرف القاضي هل تحقق الغبن أم لم يتحقق،وبالتالي فإن إثبات الغبن سهل يسير وما على القاضي إلا أن يراجع العقد ويوازن بيت الثمن والمثمن ليرى مقدار الغبن.
أما عن سلبيات الغبن على ضوء هذه النظرية وفق ما يرى كثيراً من الفقهاء ، بأنها موضوعية لا تنظر إلا ظروف الشخص،فقد يدفع شخص في تحفة أو صورة ثمن يزيد كثيراً عن قيمتها الحقيقية غير مخدوع في أمرها،لأن هذا الشيء يمثل بالنسبة له ذكريات ذات قيمة كبيرة توازي هذا الثمن المدفوع،وإذا ما أدخلنا هذه الظروف الشخصية في اعتبارنا فإنه لا يترتب على العقد غبن بالنسبة لهذا الشخص.
وللرد على هذا الاتهام نقول:لو أراد هذا الشخص بيع تلك الأشياء التي تحمل كثيراً من الذكريات والأحلام والآمال فهل لهذه الأشياء أي قيمة بالنسبة إلى الذي يريد أن يشتري هذه التحفة،وجدلاً كان كذلك،فإن هذا المثال نادر جداً ولا يمكن الاستناد إليه ليكون قاعدة أو نظرية،ومن يتتبع الأحكام الصادرة في موضوع الغبن على ضوء النظرية الشخصية يراها قليلةً جداً وهذا دليل قاطع على فشلها في مقاومة الظلم في المعاملات.
هناك نقد آخر بوجه إلى هذه النظرية وهي أنها لا تقيم لظروف المغبون أي اهتمام فهي تنظر إلى العقد فقط دون النظر إلى حالته النفسية.
وللرد على هذا النقد نقول بأن العقد المشوب بالغبن واهو إلا دليل ظني راجح على أن وجود عيب في إرادة المغبون ولولا هذا العيب لما غبن،بالإضافة إلى أنه ليس من السهل على الإطلاق إقامة الدليل على أن الغابن قد استغل ضعفاً في المغبون ، أليس من الأنسب والأسهل العودة إلى العقد والنظر فيه عوضاً عن الجري وراء ظن قد نستطيع إثباته وقد يستحيل ذلك في معظم الأحيان ونحن بأمّس حاجة إلى حكم سريع لإعادة التوازن بين الالتزامات وبالتالي إلى استقرار المعاملات.
ولعل النقد الثالث الذي يوجه إلى هذه النظرية المادية لا يعالج سوى عقود المعاوضات !!!.
فنتصدى لهذا السهم بقولنا بأنه يوجد اختلاف حول الغبن على ضوء النظرية الشخصية أيضاً ، فبعض الفقهاء ذهب إلى شمول هذه النظرية بناء على :{الفقرة الثالثة من المادة/129/من القانون المصري الجديد،وهي تجيز في عقود المعاوضة توقي دعوة الإبطال بتكملة البدل تفيد ضمناً أن الاستغلال قد يقع في عقود غير عقود المعاوضة (أي في التبرع)}بينما لم يرتض فريق آخر من الفقهاء هذا التفسير للمادة /129/مدني مصري فقال متسائلاً:{كيف يمكن أن يطبق على التبرعات نص يتحدد تطبيقه وفقاً لعبارته بالاختلال في التعادل بين ما يأخذه العاقد وفقاً للعقد،وما يعطيه بمقتضاه}كما أنه لا يمكن في نظره أن يغلب ما يفهم من الأعمال التحضيرية،أو ما تدل عليه المادة(129/3) التي تستلزم صراحة لقيام الاستغلال شرطاً لا يمكن أن يتوفر إلا في عقود المعاوضة وهو اختلال التعادل بين الالتزامات المتقابلة،ولامناص إذن من قصره عليها.
ومما تقدم نلاحظ أن هذا النقد موجه أيضاً إلى الغبن وفق النظرية الشخصية وليس مقصوراً على الغبن وفق النظرية المادية.
وفي الختام أستطيع أن أقول بالإضافة إلى ما سبق إن النظرية المادية للغبن تعتبر حلاً وقائياً وعلاجاً سريعاً أيضاً.
فهي حل وقائي لأنها تحذر المستغل الذي يريد استغلال الضعفاء والمساكين بأنها في المرصاد حاملة بيدها اليمنى بطلان العقد و اليسرى إعادة التوازن إلى ذلك العقد إذا ما حاول غبن المتعاقد الآخر،وهي علاج سريع لأنها سهلة الإثبات والإجراءات لإبطال العقد أو إعادة التوازن إليه.
ولهذا ولكل ما تقدم لا أستطيع إلا أن أرجح الغبن في ظل النظرية المادية لما لها من حسنات كثيرة وعيوب قليلة جداًًًًً.
و يثور التساؤل في هذا المقام عن وجود الاستغلال كنظرية مستقلة لها كيانها الخاص بها في الفقه الإسلامي .

لذلك سوف أفترض افتراضين لمعالجة هذه المسألة :

الافتراض الأول : الاستغلال مصدر عام للالتزام ، و أن ما ورد في كتب الفقه إنما مجرد تطبيق لتلك النظرية .


الافتراض الثاني : هو أن الاستغلال ليس مصدراً عاماً للالتزام ، و إنما هناك تطبيقات لا تعني تقرير نظرية عامة للاستغلال في الشريعة الإسلامية .


الفرع الأول

الاستغلال مصدر عام للالتزام في الشريعة الإسلامية


دليل هذا الافتراض :
الكتاب : 1- الكتاب: قوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (النساء:29) .

يستدل بهذه الآية الكريمة أن الشارع الحكيم قد حرّم استغلال المؤمنين لبعضهم البعض وجعل هذا التصرف باطلاً وهو{يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله،أو نهى عنها}.[2]2- السنة: عن أبي سعيد {سعد بن سنان}الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{لا ضرر ولا ضرار}.[3]
وجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم على المسلم أن يضر المسلم أو يلحق به مفسدة والضرار مقابلة الضرر بالضرر ،ولعل الاستغلال ضرر فادح يدخل ضمن أحكام هذا الحديث.
3- فقه المذاهب: ففي فروع فقه المذاهب نجد أن الفكر الفقهي عند هذه النظرية ولعل خير دليل على ذلك بطلان بعض البيوع القائمة على الاستغلال مثل بيع المسترسل ،بيع النجش ،بيع الحاضر للبادي ،بيع تلقي الركبان.[4]
ففي بيع المسترسل نجد أن البائع يستغل عدم خبرة المشتري في البيع والشراء فيغبنه غبناً فاحشاً ويستغله استغلالاً بشعاً، أما النجش فإن البائع يستغل المشتري عن طريق المكر والخداع ليغبنه غبناً فاحشاً ويستغله استغلالاً بشعاً وكذلك الأمر في بيع الحاضر للبادي وبيع تلقي الركبان ،وسوف ندرس نماذج ثلاث في هذه البيوع في المبحث الرابع من هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وبهذا نجد في الفقه الإسلامي صوراً واضحة لنظرية الاستغلال القريبة من نظرية الاستغلال المعروفة في الفقه الغربي.



الافتراض الثاني

الاستغلال ليس مصدر عام للالتزام وإنما هناك

تطبيقات لا تعني تقرير نظرية عامة للاستغلال في الشريعة الإسلامية أعني بهذا الافتراض أن الاستغلال ليس مصر عام للالتزام في الفقه الإسلامي و إنما هناك تطبيقات متناثرة في كتب الفقه لا تعني من قريب أو بعيد أن هذه التطبيقات يمكن ردها إلى نظرية عامة للاستغلال بل يمكن ردها إلى أصول أخرى تتلائم مع الفقه الإسلامي ونظرياته.

ومن هذه التطبيقات :
1- استغلال عدم الخبرة: وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي المعترف به ببيع المسترسل،فبيع المسترسل يمكن رده إلى نظرية الغبن وليس له نظرية الاستغلال.
2- استغلال ضعف الإدراك : ولعل أوضح مثال على هذا التطبيق الحديث المشهور ب{لا خلابة} .
3- استغلال الحاجة : وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي ببيع المضطر وهو أن يضطر إلى الطعام أو الشراب أو اللباس أو غيره ولا يبيعه البائع إلا بأكثر من ثمنه بكثير وكذلك في الشراء منه[5]
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمر قبل أن تدرك[6].
4-استغلال طيش المتعاقد: وهو ما يمكن أن يتشابه في الفقه الإسلامي مع حالة السفيه الذي يبذر أمواله على ملذاته وشهواته.
ومن هذه التطبيقات أستطيع بأن أقول بأن الفقه الإسلامي عالج الاستغلال عن طريق نظريات أخرى ولعل من أهمها نظرية الغبن التي تتمتع بمعيار مرن وموضوعي بالإضافة إلى أن معيار الغبن في الفقه الإسلامي معيار منضبط ومعلوم وسهل الإثبات.

وأخيراً أستطيع أن أرجح الافتراض الثاني القائل بأن الاستغلال ليس مصدر عام للالتزام وإنما هناك تطبيقات لا تعني بتقرير نظرية عامة للاستغلال في الفقه الإسلامي ،ولا ضرر في عدم معرفة الفقه الإسلامي للاستغلال كنظرية متكاملة ،لأن لكل فقه منهجه الخاص وأسلوبه في معالجة قضاياه ،والفقه الإسلامي عالج آثار الاستغلال ووسائله من خلال نظريات أخرى ولعل من أهمها نظرية الغبن .

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ( البقرة : 286 ) .

تم في 19 جمادى الأولى 1427هـ الموافق لـ 15/ 6/2006م.
الدكتور مسلم اليوسف
حلب / سورية


________________________________

([1]) مجموعة الأعمال التحضيرية ، ج2/191 .

[2] -قطب ،سيد،في ظلال القرآن،دار الشروق، بيروت ،الطبعة الشرعية السابعة عشرة 1412هـ /1992م مج2 ،مج5 ص693

[3] -رواه مالك ابن ماجه والدار قطني وغيرهما مسنداً وهو حديث حسن ورواه مالك في الموطأ مرسلاً وله طرق يقوي بعضها بعض انظر متن الأربعين البنووية للإماما النووي ،محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف ،مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 198هـ/1987م ص74

4-لبهوتي ،منصور بن ادريس ،كشاف القناع عن متن الامتناع ،دار الفكر بيروت 1402هـ/1982م ،مج2/211 وانظر ابن حزم المحلى 89/449

[5] -السفدي ،علي بن حسين بن محمد ،النتف في الفتاوى ،تحقيق الدكتور صلاح الدين الناهي ،دار الفرقان ،الطبعة الثانية 1402هـ/1948م ،مج1/468

[6] أبو داوود ،سليمان بن الأشعث ،سنن أبي داوود ،دار إحياء السنة النبوية ،بيروت ،كتاب البيوع ،ج3/255

ابحث عن موضوع