إعداد المحامي أبوذر منذر كمال عبداللطيف
لا خلاف فى أن أضعف الحالات التى يمر بها الإنسان فى حياته، هى تلك التى يواجه فيها باتهامه بخرق القانون، فهو فى هذه الحالة يعيش مهدداً باحتمال إدانته والنيل فى النهاية من حريته أو حياته، وتلازمه هذه الحالة طوال مرحلة التحقيق معه فى هذا الاتهام، وحتى يبلغ منتهاه بالتصرف فيه.
ولا خلاف أيضاً فى أن التشريعات البشرية، ينبغى أن تضع هذا الضعف الإنسانى موضع الاعتبار، فتحيط مثل هذا الإنسان الذى يمر بهذه المحنة بالضمانات التى تكفل الوصول إلى الحقيقة، بحيث لا يظلم برئ ولا يفلت مسئ.
ولعله من أهم الضمانات فى هذا الصدد، أن يختلف الشخص المعنى بإثبات الاتهام عن ذلك المعنى بإظهار الحقيقة مجردة، وذلك لاختلاف السمة والهدف من العملين، فالأول غايته إثبات الاتهام وعقاب المتهم، والثانى منوط به كشف وجه الحق فى الاتهام وجوداً أو عدماً، ومن ثم كان الجمع بين العلمين، جمع للأضداد، لا يحقق عدلاً ولا يحق حقاً.
ورغم بساطة هذه الحقيقة ووضوحها إلا أنها لم تكن محل تسليم من البعض، الذى برر الجمع بين العملين بتبرير محل للجدل، ولم تكن دوماً محل تطبيق المشرع في جميع الدول العربية، فإذا كان المشرع العراقي قد تفادى هذا الجمع ومساوئه ، فإن بعض التشريعات العرابية ومنها المصري يأخذ بهذا النظام رغم علاته والتعليل المتواتر الذي نقرأه في كتب الفقهاء المصريين حول موقف مشرعهم ، والذي أقر به المشرع المصري في أول الأسباب الموجبة لأول تشريع اعتمد هذا النظام هو (نقص عدد القضاة) وهو ما أراه مماحكمة، الغرض منها فى النهاية العصف بهذه الضمانة.
إن الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق هو مبدأ من المبادئ الأساسية التى قام عليها العديد من التشريعات في المتقدمة ومنها القانون الفرنسى الذى أُخذت عنه التشريعات المصرية، فالاتهام من اختصاص النيابة العامة، والتحقيق من اختصاص قاضى التحقيق، ولكن لما أنشئت المحاكم المصرية فى سنة 1883، تضمن قانون تحقيق الجنايات الذى صدر فى تلك السنة هذا المبدأ، فخص النيابة بالاتهام، وجعل التحقيق مقصوراً على قاضى التحقيق، واستمر العمل بهذا النظام حتى صدر قانون 12/6/1889 المعدل بقانون 17/6/1891 والذى خول لكل من المحافظين والمديرين ووكلاء المحافظات والمديريات أن يباشر بنفسه تحقيق ما يقع فى دائرة اختصاصه من الجنايات والجنح، ثم يرفع هذه التحقيقات بعد انتهائها للنيابة العامة للتصرف فيها!
وبتاريخ 8/4/1895 صدر قرار مجلس النظار الذى أعطى للنيابة العامة – من الناحية العملية – سلطة التحقيق، وفى نفس الوقت خول للمديرين والمحافظين حق الإشراف على تحقيقات النيابة وإبداء الرأى فى الطرق التى يلزم اتخاذها لمعرفة الجانين، وفى صلاحية الدعوى لتقديمها للمحكمة أو لقاضى التحقيق – إن رأت النيابة ذلك – وفيمن تقام عليهم الدعوى الجنائية .
والملاحظ أن العمل بهذا النظام المعيب، كان مقصوراً على المحاكم المصرية دون المحاكم المختلطة! التى كانت تأخذ بنظام الفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق، فتجعل الاتهام من سلطة النيابة العامة، والتحقيق من اختصاص قاضى التحقيق وحده، وقد ظل هذا الوضع سارياً حتى إلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة فى مصر سنة 1949، وهو ما كان يدعو للأسى وللأسف معاً، ذلك أنه بينما كان الأجنبى الذى يتعرض للاتهام فى مصر يحظى بهذه الضمانة، فقد حرم المصرى الذى يمر بهذه الظروف منها، وكأنه مواطن من الدرجة الثانية فى وطنه، ولا يخفى أن هذا الأمر نفسه، يعتبر دعوة لمن يبرر الجمع بين السلطتين، ولمن يتعلل بأسباب واهية لإعادة النظر فى موقفه، لما تحمله هذه الحقيقة الفاجعة من دلالة قاعة على أن الفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق إنما يشكل ضمانة من ضمانات الحرية، يتعين أن يحاط بها المتهم منعاً لإهدار العدالة، وإحقاقاً لكشف وجه الحق فى ثبوت الاتهام أو نفيه.
وفى 14/2/1904 صدر قانون تحقيق الجنايات (السابق) واستمر فى الجمع بين السلطتين ونص على تخويل النيابة العامة سلطة التحقيق فى جميع الأحوال، وأعطاها فى الوقت نفسه حق طلب إجراء التحقيق بواسطة قاضى التحقيق فى الجنايات وبعض الجنح.
ثم صدر قانون الإجراءات الجنائية الحالى رقم 150 لسنة 1950 المنشور فى الوقائع المصرية العدد (90) فى 15/10/1951،÷ وقد نصت المادة الثانية من قانون الإصدار على أن يعمل بهذا القانون بعد ثلاثين يوماً من تاريخ نشره فى الجريدة الرسمية، فأخذ بمبدأ الفصل بين السلطتين، وجعل التحقيق من اختصاص قاضى التحقيق وحده وكانت المادة 64 من هذا القانون تنص على أن "يندب فى كل محكمة ابتدائية وجزئية العدد الكافى من قضاة التحقيق)".
ويكون ندب قضاة التحقيق وتقسيم العمل بينهم بقرار من الجمعية العامة، ويتعين اختصاص قاضى التحقيق طبقاً للمادة 217".
وجاء فى المذكرة الإيضاحية للقانون عن هذه المادة يقوم نظام التحقيق المعمول به وفقاً للتشريع الحالى على تركيز التحقيق فى يد النيابة العمومية مع إجازة ندب قاضى للقيام به استثناء فى بعض الجرائم وهذا النظام الذى يجعل سلطتى التحقيق والاتهام فى يد النيابة العمومية معيب إذ أنه يخول لجهة واحدة سلطتين متعارضتين مع أن فى الفصل بين هاتين السلطتين ضماناً أوفى للمتهم، ومن أجل ذلك جرت جميع التشريعات الحديثة على جعل التحقيق بصفة أصلية من اختصاص قاض للتحقيق، ولهذا رؤى فى المشروع أن يكون التحقيق فى الجنايات والجنح منوطاً بقاض، مع إجازته استثناء للنيابة العمومية فى بعض الجنح التى تقتضى الاستعجال، ومع ذلك فقد قيدت بقيود لا يخشى معها على الضمانات المقررة للمتهمين فى مرحلة التحقيق الابتدائى، وقد روعى فى الإجراءات أمام قاضى التحقيق ما يكفل إنجاز التحقيق بالسرعة الواجبة بحيث لا يفلت جان ولا يظلم برئ.
ويقضى المشروع بأن يعين لكل محكمة جزئية قاض أو أكثر للتحقيق من قضاة المحكمة الابتدائية إلا فى محافظتى مصر والإسكندرية فيعين لكل منهما العدد الكافى من قضاة التحقيق بغير التقيد بالمحاكم الجزئية الكائنة فى دائرتها على أن يقسم العمل بين قضاة المحكمة المعينين للتحقيق بمعرفة الجمعية العمومية، ويكون تعيين قضاة التحقيق بقرار من وزير العدل لمدة سنتين، ومن المفهوم بداهة أن هذه المدة قابلة للتجديد، واشترط فى تعيينهم ونقلهم وإلغاء تعيينهم موافقة مجلس القضاء الأعلى وذلك لضمان استقلالهم.
وقد حرص هذا القانون على أن يكون ندب قضاة التحقيق، وتوزيع العمل بينهم، بقرار من الجمعية العمومية للمحكمة منعاً لتدخل وزير العدل، وذلك رغم محاولة الحكومة على أن يكون الندب من اختصاص وزير العدل، وإصرار مجلس النواب على جعل الاختصاص بالندب للجمعية العمومية للمحكمة ضماناً لحيدة قاضى التحقيق واستقلاله، وجاء فى تقرير مجلس الشيوخ المؤرخ 24/7/1950 عن هذه المادة، وكان أصلها فى المشروع برقم (99) ما يلى:
فى ديسمبر سنة 1945 أحالت الحكومة إلى مجلس الشيوخ مشروعا قانون الإجراءات الجنائية فبحثته اللجنة فى ثلاث سنوات تقريباً وعدلت كثيراً من أحكامه، وكان المشروع كما قدم من الحكومة يقضى بتركيز التحقيق كله فى الجنايات فى يد قاضى التحقيق، وقد نص فى المادة 99 من المشروع المقدم من الحكومة على أن يعين فى كل محكمة جزئية قاض أو أكثر للتحقيق من قضاة المحكمة الابتدائية، وبعد أن انتهت لجنة قانون الإجراءات الجنائية من بحث هذا المشروع أعادت مراجعته توطئة لطبعه وتوزيعه للاستفتاء العام تنفيذاً لقرار المجلس، ولما عرض مشروع قانون الإجراءات الجنائية للاستفتاء تقدمت النيابة العامة بملاحظات على جعل التحقيق من اختصاص قاضى التحقيق، فأعادت اللجنة بحث الملاحظات التى قدمت على هذا المشروع سواء من النيابة أو من غيرها من الجهات الرسمية وغير الرسمية، ولم يبد من الحكومة وقتئذ أى اتجاه للعدول عن حصر التحقيق فى الجنايات فى يد قاضى التحقيق.
وعند نظر هذا التقرير بالمجلس أبديت ملاحظات على نظام قاضى التحقيق، وأعيد التقرير إلى اللجنة، وعند بحثه قرر مندوب الحكومة أنه قد لا يتيسر وجود العدد الكافى من قضاة التحقيق، وأن الحكومة ترى أن يقصر اختصاص قاضى التحقيق على الجنايات المخلة بأمن الدولة فى الداخل والخارج، وأن يكون التحقيق من اختصاص النيابة فى باقى الجرائم، ولكن الأخذ بهذا الرأى معناه العدول نهائياً عن نظام قاضى التحقيق، وللتوفيق مع ما أبدته الحكومة من صعوبة تعيين العدد الكافى من قضاة التحقيق من جهة وحرصاً على مبدأ جعل قاضى التحقيق هو المرجع الأصيل فى تحقيق الجنايات من جهة أخرى، رأت اللجنة:
1- تعديل المادة 76 بحيث يندب فى كل محكمة ابتدائية قاض أو أكثر من قضاة التحقيق، ويجوز أن يندب قضاة للتحقيق فى المحاكم الجزئية.
وكان المشروع كما قدم من الحكومة يقضى بتعيين قاضى تحقيق أو أكثر فى كل محكمة جزئية كما يعين فى محافظتى مصر والإسكندرية العدد الكافى من قضاة التحقيق.
2- إعطاء النيابة سلطة التحقيق فى بعض الجنايات التى يكثر عددها مع قلة أهميتها وهى فى الواقع جنح عادية انقلبت إلى جنايات لظروف خارجة عن ماهيتها أو عن إرادة الجانى، وهى الجرائم المنصوص عليها فى المواد من 51 إلى 54 و236 و240 من قانون العقوبات، وهى جنايات العود والضرب آو الجرح المفضى إلى عاهة مستديمة أو إلى الموت، ولذلك عدلت المواد 11 و64 و65 و66 و176 و177 و179 و180 و195 و201 و202 و206 و217 و218 و308 و347 و368 و417.
3- إعطاء النيابة سلطة اتخاذ إجراء معين من اختصاص قاضى التحقيق، حيث لا يوجد قاضى تحقيق، وبذلك عدلت المواد 340 و341 و347 و353.
4- التوسع فى ندب النيابة العامة فى التحقيق، وقد كانت المادة 105 من المشروع كما قدمته الحكومة تجيز ندب النيابة العامة لعمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق فلا يجوز ندبها فى تحقيق جناية بأكملها، فرؤى إجازة ندبها لتحقيق جناية بأكملها كلما دعت الضرورة.
5- جعل الاختصاص للقاضى الجزئى حيث لا يوجد قاضى تحقيق لتسهيل الإجراءات ومنع عرقلة التحقيق، وبذلك عدلت المواد 53 و205 و208 و209 و348.
هذا ما اضطرت اللجنة إلى الأخذ به للأسباب السابق بيانها ووافق مجلس الشيوخ على مشروع القانون كما أقرته اللجنة.
ولما عرض المشروع على مجلس النواب فى دورته الحالية، أبدت الحكومة الحاضرة رغبتها فى الأخذ بنظام قاضى التحقيق واستعدادها لتعيين العدد الكافى من قضاة التحقيق لضمان العدالة ولفصل سلطة الاتهام عن سلطة التحقيق.
ولذلك قرر مجلس النواب إعادة هذه المواد المعدلة إلى ما كانت عليه فى تقرير لجنة قانون الإجراءات الجنائية لمجلس الشيوخ قبل أن تضطر لإدخال التعديلات المشار إليها آنفاً .
صدر قانون الإجراءات الجناية ونشر فى 15/10/1951، محققاً للآمال المرجوة منه فى هذا الخصوص، واحتضنته الحكومة القائمة فى هذا التاريخ، ووعدت بإنجاحه وتيسير العدد اللازم لتطبيقه فى خلال سنتين من تاريخ العمل به، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، فقد صدر القانون رقم 353 لسنة 1952 فى 25/12/1952، ثم من بعده القانون رقم 121 لسنة 1956، فعصفا بهذا النظام، وأعادا الأمر إلى ما كان عليه فى قانون تحقيق الجنايات الصادر سنة 1904 وجعلا التحقيق كأصل عام فى يد النيابة العامة إلى جانب سلطتها الأصلية وهى الاتهام، وإعطائها الحق فى طلب إجراء التحقيق بمعرفة قاضى التحقيق، وكان هذا حقاً لها لا واجباً عليها فلم تستعمل هذا الحق أبداً فيما أعلم والله أعلم، ولم ينعم المواطن المصرى بهذه الضمانة إلا سنة واحدة هى الفترة من تاريخ العمل بالقانون فى 15/11/1951 حتى تعديل هذا القانون فى 25/12/1952.
ويا ليت المشرع المصرى وقف عند هذا الحد، وإنما تجاوز ذلك وأعطى للنيابة العامة عند مباشرتها للتحقيق سلطات تفوق سلطات قاضى التحقيق، وأظهر ما يبين فيه هذا الشط، هو الحق فى الحبس الاحتياطى، وهو من أخطر القرارات التى تمس الحريات، ففى ظل إعمال حالة الطوارئ وتطبيق قانونها، يكون للنيابة العامة عند التحقيق كافة السلطات المخولة لقاضى التحقيق فضلاً عن السلطات المخولة لغرفة المشورة!.
وفى ظل القانون 105 لسنة 1980 بإنشاء محاكم أمن الدولة، اكتفى المشرع بمنح النيابة العامة سلطات قاضى التحقيق، بيد أنه عندما من المشرع علينا بإلغاء هذا القانون، نقل سلطات النيابة العامة فيه إلى قانون الإجراءات الجنائية وزاد عليها، فأصبح للنيابة العامة وفقاً لهذا القانون سلطات قاضى التحقيق، فضلاً عن سلطات غرفة المشورة (م206 مكرراً المضافة بالقانون رقم 95 لسنة 2003)، فكأنما أخذ المشرع بالشمال زيادة على ما أعطاه باليمين.
الجمع بين السلطتين غير مبرر
حال من يجيزون الجمع بين سلطتى الاتهام والتحقيق، تبرير موقفهم، فقالوا أنه بالرغم من كون النيابة كسلطة اتهام، تكون خصماً للمتهم، إلا أنها خصم شريف، وزادوا على ذلك بأن النيابة تفصل فى الأداء بين كونها سلطة اتهام، وسلطة التحقيق، لأنه عند التحقيق يكون المحقق محايداً يبحث الأدلة، كما يبحث أوجه دفاع المتهم، حتى ينتهى تحقيقه إلى رأى، وأنه لا يلبس ثوب الخصم فى الدعوى إلا إذا انتهى إلى ثوب الاتهام من وجهة نظره!.
وكانت محكمة النقض فى قضاء قديم، نحت إلى تأكيد هذا الرأى، واستدلت على صحته بأن وكلاء النائب العام لا يتبعون رئاساتهم إلى عند مباشرة سلطات الاتهام، وأنهم يستمدون سلطات التحقيق من القانون فلا يخضعون فى مباشرة هذه السلطات لهذه الرئاسات، ومن ثم تكون قراراتهم فى التحقيق نابعة منهم وحدهم بغير تأثير عليهم من رئاساتهم، أو قالت فى هذا الشأن:
"أنه إذا كانت النيابة العمومية وحدة لا تتجزأ، وكل عضو من أعضائها يمثل النائب العمومى، والعمل الذى يصدر من كل عضو يعتبر كأنه صادر منه، فإن ذلك لا يصدق إلى على النيابة العمومية بصفتها سلطة اتهام، أما النيابة بصفتها سلطة تحقيق فلا يصدق ذلك عليها، لأنها خولت هذه السلطة استثناء وحلت فيها محل قاضى التحقيق لاعتبارات قدرها الشارع، ولذلك فإنه يجب أن يعمل كل عضو فى حدود تلك السلطة مستمداً حقه لا من النائب العمومى بل من القانون نفسه.
هذا هو المستفاد من نصوص القانون فى جملتها، وهو هو الذى تمليه طبيعة إجراءات التحقيق باعتبارها من الأعمال القضائية البحت التى لا يتصور أن يصدر فيها أى قرار أو أمر بناء على توكيل أو إنابة، بل يجب –كما هى الحال فى الأحكام – أن يكون مصدرها قد أصدرها من عنده هو شخصياً ومن تلقاء نفسه" .
والقول بأن النيابة العامة خصم شريف هو قول مردود، ذلك أن الشرف فى الخصومة هو قيمة إنسانية مفترضة فى كل خصم كأصل عام، وليست مقصورة على النيابة وحدها، والخروج على هذه القيمة هو استثناء من هذا الأصل متصور فى كل الحالات، ومن بينها النيابة العامة، ومع ذلك فإن الخصم فى الدعوى يبقى خصماً شريفاً كان أو غير شريف لا يجوز له مع هذه الخصومة أن يتولى فيها عملاً من أعمال القضاء، فيجمع بذلك بين صفتى الخصم والحكم، وهو أمر يتأبى وقواعد العدالة، بل إن الرسول "صلى الله عليه وسلم" علمنا ألا تقبل شهادة الخصوم، فما بالنا بحكمهم.
أما الحديث عن ازدواج المواقف باختلاف المراحل، فهو كالحديث عن المدين الفاضلة، أقرب إلى الأحلام منه إلى الواقع، وعلى أى حال فهو حديث قد تجاوزه العصر الذى قيل فيه وقالت به محكمة النقض، ذلك أن عمل القاضى فى التحقيق أو الحكم، يستتبع بالضرورة حيدة القاضى واستقلاله، ولا خلاف فى أن استقلال القاضى لا يعنى عدم خضوعه إلى أى سلطة أخرى فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى عدم خضوعه لرئاسة ما حتى يكون قراره صادراً منه وحده، والحكم فيه بما يطمئن إليه ضميره هو، وليس الأمر كذلك بالنسبة لأعضاء النيابة العامة، فى ظل قوانين السلطة القضائية المتعاقبة التى تجعل منهم تابعين خاضعين لرئاستهم فى كل قراراتهم سواء تعلقت بمباشرتهم سلطة الاتهام، أو ممارستهم لقضاء التحقيق.
وبغير دخول فى تفصيلات الخلاف فى القول بطبيعة النيابة العامة، وما إذا كانت جزءاً من السلطة التنفيذية، أو كانت شعبة من شعب القضاء، فإنه لا خلاف إزاء صراحة نص المادة 125 وعمومه على تبعية أعضاء النيابة العامة لرؤسائهم وللنائب العام، وأنهم جميعاً يتبعون وزير العدل! وثبوت حق النائب العام فى الرقابة والإشراف على جميع أعضاء النيابة، وحق المحامين العامين فى الرقابة والإشراف على أعضاء النيابة بمحاكمهم، وخضوع قراراتهم لهذه الرقابة وهذا الإشراف، سواء تعلق الأمر بقراراتهم فى الاتهام أو قراراتهم فى التحقيق.
ومن المتفق عليه، فى الفقه والقضاء... أن الرئاسة الإدارية من طبيعتها أن تفسد مضمون العمل القضائى –مهما قيدتها نصوص القانون- لأن فكرة التبعية الرئاسية تنوى حتماً على قدر من القهر والإخضاع، وتتجافى مع فكرة الحيدة والاستقلال التى هى عماد العمل القضائى، لهذا لا يتصور أن يخضع القائم بالتحقيق، لإشراف أى رئيس.
ولعل الواقع العملى يكشف بجلاء عن صحة هذا النظر، ويظهر ذلك جلياً فى مسألة الحبس الاحتياطى، وهو أخطر القرارات التى تصدر من قاضى التحقيق، فعلى حين يحظر القانون مد حبس المتهم إلا بعد سماع دفاع المتهم، فإن تأشيرات السادة وكلاء النيابة المحققين عند مد الحبس، قاطعة على أن هذا القرار يصدر من رئاستهم التى لم تسمع شيئاً من هذا الدفاع، وهكذا يسمع دفاع المتهم من لا يملك فى شأنه أمراً، ويأمر بحبسه من لم يسمع له قولاً، ليكشف هذا وذاك عن صورية العدالة فى تحقيقات النيابة العامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعل هذا الواقع العملى فى ظل التنظيم القانونى لوضع النيابة العامة، هو الذى حدا بمحكمة النقض حديثاً إلى العدول عن قضائها السابق، والتقرير بخضوع أعضاء النيابة العامة لرئاساتهم فى كل الأحوال سواء تعلق الأمر بمباشرة سلطة الاتهام، أو تعلق بممارسة التحقيق، وتقول المحكمة فى هذا الشأن:
"النائب العام وحده هو الوكيل عن الهيئة الاجتماعية فى مباشرة تحريك الدعوى الجنائية وبمتابعة سيرها حتى يصدر فيها حكم نهائى وولايته فى ذلك عامة تشتمل على سلطتى التحقيق والاتهام وتنبسط على إقليم الجمهورية برمته وعلى كافة ما يقع منه من جرائم أياً كانت وله بهذا الوصف وباعتباره الوكيل عن الجماعة أن يباشر اختصاصاته بنفسه أو أن يكل –فيما عدا الاختصاصات التى نيطت به على سبيل الانفراد- إلى غيره من رجال النيابة المنوط بهم قانوناً معاونته أمر مباشرتها بالنيابة عنه، وأن يشرف على شئون النيابة العامة بما له من رئاسة مباشرة قضائية وإدارية على أعضائها الذين يكونون معه فى الواقع جسماً واحداً لا انفصام بين خلاياه" .
مشاكل الجميع بين السلطتين:
يثير مبدأ الجمع بين سلطتى التحقيق والاتهام مشاكل قانونية تستعصى على الفهم وعلى الحل، ذلك أنه بينما ينحى البعض إلى أن عضو النيابة المحقق يستمد اختصاصه من القانون مباشرة، ومن ثم يمارس التحقيق بعيداً عن رقابة وإشراف النائب العام، وهو رأى ذهب إليه بعض الفقهاء ، وأيدته محكمة النقض فى قضائها الصادر سنة 1945، ذهب إلى رأى مخالف مفاده تبعية عضو النيابة المحقق للنائب العام، حتى عند مباشرته سلطة التحقيق، ويثير الأمر هنا تساؤلات فى غاية الأهمية نجتزئ منها:
1- هل يخضع عضو النيابة المحقق للقواعد التى تنظم عمل النيابة العامة بوجه عام، أم يخضع لتلك القواعد التى تنظم عمل القضاء؟
2- إذا كان من المقرر عدم جواز رد النيابة العامة، لأنها فى الأصل خصم فى الدعوى، فهل يجوز رد عضو النيابة عند ممارسته سلطة التحقيق؟
3- إذا كان القانون يمنع القاضى من نظر الدعوى، وينص على عدم صلاحتيه لمباشرتها، لمجرد أنه سبق له إبداء الرأى فيها، أو كان لزوجته أو لمطلقته التى له منها ولد، أو أقاربه أو أصهاره على عمود النسب، خصومة قائمة مع أحد الخصوم فى الدعوى، فهل تؤثر هذه الحالات على صلاحية عضو النيابة المحقق؟ بفرض غض النظر عن كونه هو خصماً أصلاً فى الدعوى؟
لا خلاف إذاً فى هذه المشاكل القانونية التى تعتور نظام الجمع بين السلطتين، بالإضافة إلى افتئات هذا الجمع على مبادئ العدالة، أمراً يجمل معه العدول عنه والفصل بين سلطتى التحقيق والاتهام.
الجمع بين السلطتين لا ضرورة له:
الواضح من استقراء وتتبع موقف التشريعات في جمهورية مصر العربية على تتابعها، بالنسبة للموقف من فكرة الجمع أو الفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق، أن هذه التشريعات ومنذ سنة 1895 تكاد تسلم بعوار النظام الذى يجمع بين السلطتين فى يد النيابة العامة، وهى ترى أن هذا الجمع مبناه الضرورة الناشئة عن ضعف الإمكانيات التى تسمح بإعداد العدد اللازم من القضاة لتطبيق نظام قاضى التحقيق.
لا خلاف فى أن أضعف الحالات التى يمر بها الإنسان فى حياته، هى تلك التى يواجه فيها باتهامه بخرق القانون، فهو فى هذه الحالة يعيش مهدداً باحتمال إدانته والنيل فى النهاية من حريته أو حياته، وتلازمه هذه الحالة طوال مرحلة التحقيق معه فى هذا الاتهام، وحتى يبلغ منتهاه بالتصرف فيه.
ولا خلاف أيضاً فى أن التشريعات البشرية، ينبغى أن تضع هذا الضعف الإنسانى موضع الاعتبار، فتحيط مثل هذا الإنسان الذى يمر بهذه المحنة بالضمانات التى تكفل الوصول إلى الحقيقة، بحيث لا يظلم برئ ولا يفلت مسئ.
ولعله من أهم الضمانات فى هذا الصدد، أن يختلف الشخص المعنى بإثبات الاتهام عن ذلك المعنى بإظهار الحقيقة مجردة، وذلك لاختلاف السمة والهدف من العملين، فالأول غايته إثبات الاتهام وعقاب المتهم، والثانى منوط به كشف وجه الحق فى الاتهام وجوداً أو عدماً، ومن ثم كان الجمع بين العلمين، جمع للأضداد، لا يحقق عدلاً ولا يحق حقاً.
ورغم بساطة هذه الحقيقة ووضوحها إلا أنها لم تكن محل تسليم من البعض، الذى برر الجمع بين العملين بتبرير محل للجدل، ولم تكن دوماً محل تطبيق المشرع في جميع الدول العربية، فإذا كان المشرع العراقي قد تفادى هذا الجمع ومساوئه ، فإن بعض التشريعات العرابية ومنها المصري يأخذ بهذا النظام رغم علاته والتعليل المتواتر الذي نقرأه في كتب الفقهاء المصريين حول موقف مشرعهم ، والذي أقر به المشرع المصري في أول الأسباب الموجبة لأول تشريع اعتمد هذا النظام هو (نقص عدد القضاة) وهو ما أراه مماحكمة، الغرض منها فى النهاية العصف بهذه الضمانة.
إن الفصل بين سلطة الاتهام وسلطة التحقيق هو مبدأ من المبادئ الأساسية التى قام عليها العديد من التشريعات في المتقدمة ومنها القانون الفرنسى الذى أُخذت عنه التشريعات المصرية، فالاتهام من اختصاص النيابة العامة، والتحقيق من اختصاص قاضى التحقيق، ولكن لما أنشئت المحاكم المصرية فى سنة 1883، تضمن قانون تحقيق الجنايات الذى صدر فى تلك السنة هذا المبدأ، فخص النيابة بالاتهام، وجعل التحقيق مقصوراً على قاضى التحقيق، واستمر العمل بهذا النظام حتى صدر قانون 12/6/1889 المعدل بقانون 17/6/1891 والذى خول لكل من المحافظين والمديرين ووكلاء المحافظات والمديريات أن يباشر بنفسه تحقيق ما يقع فى دائرة اختصاصه من الجنايات والجنح، ثم يرفع هذه التحقيقات بعد انتهائها للنيابة العامة للتصرف فيها!
وبتاريخ 8/4/1895 صدر قرار مجلس النظار الذى أعطى للنيابة العامة – من الناحية العملية – سلطة التحقيق، وفى نفس الوقت خول للمديرين والمحافظين حق الإشراف على تحقيقات النيابة وإبداء الرأى فى الطرق التى يلزم اتخاذها لمعرفة الجانين، وفى صلاحية الدعوى لتقديمها للمحكمة أو لقاضى التحقيق – إن رأت النيابة ذلك – وفيمن تقام عليهم الدعوى الجنائية .
والملاحظ أن العمل بهذا النظام المعيب، كان مقصوراً على المحاكم المصرية دون المحاكم المختلطة! التى كانت تأخذ بنظام الفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق، فتجعل الاتهام من سلطة النيابة العامة، والتحقيق من اختصاص قاضى التحقيق وحده، وقد ظل هذا الوضع سارياً حتى إلغاء الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة فى مصر سنة 1949، وهو ما كان يدعو للأسى وللأسف معاً، ذلك أنه بينما كان الأجنبى الذى يتعرض للاتهام فى مصر يحظى بهذه الضمانة، فقد حرم المصرى الذى يمر بهذه الظروف منها، وكأنه مواطن من الدرجة الثانية فى وطنه، ولا يخفى أن هذا الأمر نفسه، يعتبر دعوة لمن يبرر الجمع بين السلطتين، ولمن يتعلل بأسباب واهية لإعادة النظر فى موقفه، لما تحمله هذه الحقيقة الفاجعة من دلالة قاعة على أن الفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق إنما يشكل ضمانة من ضمانات الحرية، يتعين أن يحاط بها المتهم منعاً لإهدار العدالة، وإحقاقاً لكشف وجه الحق فى ثبوت الاتهام أو نفيه.
وفى 14/2/1904 صدر قانون تحقيق الجنايات (السابق) واستمر فى الجمع بين السلطتين ونص على تخويل النيابة العامة سلطة التحقيق فى جميع الأحوال، وأعطاها فى الوقت نفسه حق طلب إجراء التحقيق بواسطة قاضى التحقيق فى الجنايات وبعض الجنح.
ثم صدر قانون الإجراءات الجنائية الحالى رقم 150 لسنة 1950 المنشور فى الوقائع المصرية العدد (90) فى 15/10/1951،÷ وقد نصت المادة الثانية من قانون الإصدار على أن يعمل بهذا القانون بعد ثلاثين يوماً من تاريخ نشره فى الجريدة الرسمية، فأخذ بمبدأ الفصل بين السلطتين، وجعل التحقيق من اختصاص قاضى التحقيق وحده وكانت المادة 64 من هذا القانون تنص على أن "يندب فى كل محكمة ابتدائية وجزئية العدد الكافى من قضاة التحقيق)".
ويكون ندب قضاة التحقيق وتقسيم العمل بينهم بقرار من الجمعية العامة، ويتعين اختصاص قاضى التحقيق طبقاً للمادة 217".
وجاء فى المذكرة الإيضاحية للقانون عن هذه المادة يقوم نظام التحقيق المعمول به وفقاً للتشريع الحالى على تركيز التحقيق فى يد النيابة العمومية مع إجازة ندب قاضى للقيام به استثناء فى بعض الجرائم وهذا النظام الذى يجعل سلطتى التحقيق والاتهام فى يد النيابة العمومية معيب إذ أنه يخول لجهة واحدة سلطتين متعارضتين مع أن فى الفصل بين هاتين السلطتين ضماناً أوفى للمتهم، ومن أجل ذلك جرت جميع التشريعات الحديثة على جعل التحقيق بصفة أصلية من اختصاص قاض للتحقيق، ولهذا رؤى فى المشروع أن يكون التحقيق فى الجنايات والجنح منوطاً بقاض، مع إجازته استثناء للنيابة العمومية فى بعض الجنح التى تقتضى الاستعجال، ومع ذلك فقد قيدت بقيود لا يخشى معها على الضمانات المقررة للمتهمين فى مرحلة التحقيق الابتدائى، وقد روعى فى الإجراءات أمام قاضى التحقيق ما يكفل إنجاز التحقيق بالسرعة الواجبة بحيث لا يفلت جان ولا يظلم برئ.
ويقضى المشروع بأن يعين لكل محكمة جزئية قاض أو أكثر للتحقيق من قضاة المحكمة الابتدائية إلا فى محافظتى مصر والإسكندرية فيعين لكل منهما العدد الكافى من قضاة التحقيق بغير التقيد بالمحاكم الجزئية الكائنة فى دائرتها على أن يقسم العمل بين قضاة المحكمة المعينين للتحقيق بمعرفة الجمعية العمومية، ويكون تعيين قضاة التحقيق بقرار من وزير العدل لمدة سنتين، ومن المفهوم بداهة أن هذه المدة قابلة للتجديد، واشترط فى تعيينهم ونقلهم وإلغاء تعيينهم موافقة مجلس القضاء الأعلى وذلك لضمان استقلالهم.
وقد حرص هذا القانون على أن يكون ندب قضاة التحقيق، وتوزيع العمل بينهم، بقرار من الجمعية العمومية للمحكمة منعاً لتدخل وزير العدل، وذلك رغم محاولة الحكومة على أن يكون الندب من اختصاص وزير العدل، وإصرار مجلس النواب على جعل الاختصاص بالندب للجمعية العمومية للمحكمة ضماناً لحيدة قاضى التحقيق واستقلاله، وجاء فى تقرير مجلس الشيوخ المؤرخ 24/7/1950 عن هذه المادة، وكان أصلها فى المشروع برقم (99) ما يلى:
فى ديسمبر سنة 1945 أحالت الحكومة إلى مجلس الشيوخ مشروعا قانون الإجراءات الجنائية فبحثته اللجنة فى ثلاث سنوات تقريباً وعدلت كثيراً من أحكامه، وكان المشروع كما قدم من الحكومة يقضى بتركيز التحقيق كله فى الجنايات فى يد قاضى التحقيق، وقد نص فى المادة 99 من المشروع المقدم من الحكومة على أن يعين فى كل محكمة جزئية قاض أو أكثر للتحقيق من قضاة المحكمة الابتدائية، وبعد أن انتهت لجنة قانون الإجراءات الجنائية من بحث هذا المشروع أعادت مراجعته توطئة لطبعه وتوزيعه للاستفتاء العام تنفيذاً لقرار المجلس، ولما عرض مشروع قانون الإجراءات الجنائية للاستفتاء تقدمت النيابة العامة بملاحظات على جعل التحقيق من اختصاص قاضى التحقيق، فأعادت اللجنة بحث الملاحظات التى قدمت على هذا المشروع سواء من النيابة أو من غيرها من الجهات الرسمية وغير الرسمية، ولم يبد من الحكومة وقتئذ أى اتجاه للعدول عن حصر التحقيق فى الجنايات فى يد قاضى التحقيق.
وعند نظر هذا التقرير بالمجلس أبديت ملاحظات على نظام قاضى التحقيق، وأعيد التقرير إلى اللجنة، وعند بحثه قرر مندوب الحكومة أنه قد لا يتيسر وجود العدد الكافى من قضاة التحقيق، وأن الحكومة ترى أن يقصر اختصاص قاضى التحقيق على الجنايات المخلة بأمن الدولة فى الداخل والخارج، وأن يكون التحقيق من اختصاص النيابة فى باقى الجرائم، ولكن الأخذ بهذا الرأى معناه العدول نهائياً عن نظام قاضى التحقيق، وللتوفيق مع ما أبدته الحكومة من صعوبة تعيين العدد الكافى من قضاة التحقيق من جهة وحرصاً على مبدأ جعل قاضى التحقيق هو المرجع الأصيل فى تحقيق الجنايات من جهة أخرى، رأت اللجنة:
1- تعديل المادة 76 بحيث يندب فى كل محكمة ابتدائية قاض أو أكثر من قضاة التحقيق، ويجوز أن يندب قضاة للتحقيق فى المحاكم الجزئية.
وكان المشروع كما قدم من الحكومة يقضى بتعيين قاضى تحقيق أو أكثر فى كل محكمة جزئية كما يعين فى محافظتى مصر والإسكندرية العدد الكافى من قضاة التحقيق.
2- إعطاء النيابة سلطة التحقيق فى بعض الجنايات التى يكثر عددها مع قلة أهميتها وهى فى الواقع جنح عادية انقلبت إلى جنايات لظروف خارجة عن ماهيتها أو عن إرادة الجانى، وهى الجرائم المنصوص عليها فى المواد من 51 إلى 54 و236 و240 من قانون العقوبات، وهى جنايات العود والضرب آو الجرح المفضى إلى عاهة مستديمة أو إلى الموت، ولذلك عدلت المواد 11 و64 و65 و66 و176 و177 و179 و180 و195 و201 و202 و206 و217 و218 و308 و347 و368 و417.
3- إعطاء النيابة سلطة اتخاذ إجراء معين من اختصاص قاضى التحقيق، حيث لا يوجد قاضى تحقيق، وبذلك عدلت المواد 340 و341 و347 و353.
4- التوسع فى ندب النيابة العامة فى التحقيق، وقد كانت المادة 105 من المشروع كما قدمته الحكومة تجيز ندب النيابة العامة لعمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق فلا يجوز ندبها فى تحقيق جناية بأكملها، فرؤى إجازة ندبها لتحقيق جناية بأكملها كلما دعت الضرورة.
5- جعل الاختصاص للقاضى الجزئى حيث لا يوجد قاضى تحقيق لتسهيل الإجراءات ومنع عرقلة التحقيق، وبذلك عدلت المواد 53 و205 و208 و209 و348.
هذا ما اضطرت اللجنة إلى الأخذ به للأسباب السابق بيانها ووافق مجلس الشيوخ على مشروع القانون كما أقرته اللجنة.
ولما عرض المشروع على مجلس النواب فى دورته الحالية، أبدت الحكومة الحاضرة رغبتها فى الأخذ بنظام قاضى التحقيق واستعدادها لتعيين العدد الكافى من قضاة التحقيق لضمان العدالة ولفصل سلطة الاتهام عن سلطة التحقيق.
ولذلك قرر مجلس النواب إعادة هذه المواد المعدلة إلى ما كانت عليه فى تقرير لجنة قانون الإجراءات الجنائية لمجلس الشيوخ قبل أن تضطر لإدخال التعديلات المشار إليها آنفاً .
صدر قانون الإجراءات الجناية ونشر فى 15/10/1951، محققاً للآمال المرجوة منه فى هذا الخصوص، واحتضنته الحكومة القائمة فى هذا التاريخ، ووعدت بإنجاحه وتيسير العدد اللازم لتطبيقه فى خلال سنتين من تاريخ العمل به، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، فقد صدر القانون رقم 353 لسنة 1952 فى 25/12/1952، ثم من بعده القانون رقم 121 لسنة 1956، فعصفا بهذا النظام، وأعادا الأمر إلى ما كان عليه فى قانون تحقيق الجنايات الصادر سنة 1904 وجعلا التحقيق كأصل عام فى يد النيابة العامة إلى جانب سلطتها الأصلية وهى الاتهام، وإعطائها الحق فى طلب إجراء التحقيق بمعرفة قاضى التحقيق، وكان هذا حقاً لها لا واجباً عليها فلم تستعمل هذا الحق أبداً فيما أعلم والله أعلم، ولم ينعم المواطن المصرى بهذه الضمانة إلا سنة واحدة هى الفترة من تاريخ العمل بالقانون فى 15/11/1951 حتى تعديل هذا القانون فى 25/12/1952.
ويا ليت المشرع المصرى وقف عند هذا الحد، وإنما تجاوز ذلك وأعطى للنيابة العامة عند مباشرتها للتحقيق سلطات تفوق سلطات قاضى التحقيق، وأظهر ما يبين فيه هذا الشط، هو الحق فى الحبس الاحتياطى، وهو من أخطر القرارات التى تمس الحريات، ففى ظل إعمال حالة الطوارئ وتطبيق قانونها، يكون للنيابة العامة عند التحقيق كافة السلطات المخولة لقاضى التحقيق فضلاً عن السلطات المخولة لغرفة المشورة!.
وفى ظل القانون 105 لسنة 1980 بإنشاء محاكم أمن الدولة، اكتفى المشرع بمنح النيابة العامة سلطات قاضى التحقيق، بيد أنه عندما من المشرع علينا بإلغاء هذا القانون، نقل سلطات النيابة العامة فيه إلى قانون الإجراءات الجنائية وزاد عليها، فأصبح للنيابة العامة وفقاً لهذا القانون سلطات قاضى التحقيق، فضلاً عن سلطات غرفة المشورة (م206 مكرراً المضافة بالقانون رقم 95 لسنة 2003)، فكأنما أخذ المشرع بالشمال زيادة على ما أعطاه باليمين.
الجمع بين السلطتين غير مبرر
حال من يجيزون الجمع بين سلطتى الاتهام والتحقيق، تبرير موقفهم، فقالوا أنه بالرغم من كون النيابة كسلطة اتهام، تكون خصماً للمتهم، إلا أنها خصم شريف، وزادوا على ذلك بأن النيابة تفصل فى الأداء بين كونها سلطة اتهام، وسلطة التحقيق، لأنه عند التحقيق يكون المحقق محايداً يبحث الأدلة، كما يبحث أوجه دفاع المتهم، حتى ينتهى تحقيقه إلى رأى، وأنه لا يلبس ثوب الخصم فى الدعوى إلا إذا انتهى إلى ثوب الاتهام من وجهة نظره!.
وكانت محكمة النقض فى قضاء قديم، نحت إلى تأكيد هذا الرأى، واستدلت على صحته بأن وكلاء النائب العام لا يتبعون رئاساتهم إلى عند مباشرة سلطات الاتهام، وأنهم يستمدون سلطات التحقيق من القانون فلا يخضعون فى مباشرة هذه السلطات لهذه الرئاسات، ومن ثم تكون قراراتهم فى التحقيق نابعة منهم وحدهم بغير تأثير عليهم من رئاساتهم، أو قالت فى هذا الشأن:
"أنه إذا كانت النيابة العمومية وحدة لا تتجزأ، وكل عضو من أعضائها يمثل النائب العمومى، والعمل الذى يصدر من كل عضو يعتبر كأنه صادر منه، فإن ذلك لا يصدق إلى على النيابة العمومية بصفتها سلطة اتهام، أما النيابة بصفتها سلطة تحقيق فلا يصدق ذلك عليها، لأنها خولت هذه السلطة استثناء وحلت فيها محل قاضى التحقيق لاعتبارات قدرها الشارع، ولذلك فإنه يجب أن يعمل كل عضو فى حدود تلك السلطة مستمداً حقه لا من النائب العمومى بل من القانون نفسه.
هذا هو المستفاد من نصوص القانون فى جملتها، وهو هو الذى تمليه طبيعة إجراءات التحقيق باعتبارها من الأعمال القضائية البحت التى لا يتصور أن يصدر فيها أى قرار أو أمر بناء على توكيل أو إنابة، بل يجب –كما هى الحال فى الأحكام – أن يكون مصدرها قد أصدرها من عنده هو شخصياً ومن تلقاء نفسه" .
والقول بأن النيابة العامة خصم شريف هو قول مردود، ذلك أن الشرف فى الخصومة هو قيمة إنسانية مفترضة فى كل خصم كأصل عام، وليست مقصورة على النيابة وحدها، والخروج على هذه القيمة هو استثناء من هذا الأصل متصور فى كل الحالات، ومن بينها النيابة العامة، ومع ذلك فإن الخصم فى الدعوى يبقى خصماً شريفاً كان أو غير شريف لا يجوز له مع هذه الخصومة أن يتولى فيها عملاً من أعمال القضاء، فيجمع بذلك بين صفتى الخصم والحكم، وهو أمر يتأبى وقواعد العدالة، بل إن الرسول "صلى الله عليه وسلم" علمنا ألا تقبل شهادة الخصوم، فما بالنا بحكمهم.
أما الحديث عن ازدواج المواقف باختلاف المراحل، فهو كالحديث عن المدين الفاضلة، أقرب إلى الأحلام منه إلى الواقع، وعلى أى حال فهو حديث قد تجاوزه العصر الذى قيل فيه وقالت به محكمة النقض، ذلك أن عمل القاضى فى التحقيق أو الحكم، يستتبع بالضرورة حيدة القاضى واستقلاله، ولا خلاف فى أن استقلال القاضى لا يعنى عدم خضوعه إلى أى سلطة أخرى فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى عدم خضوعه لرئاسة ما حتى يكون قراره صادراً منه وحده، والحكم فيه بما يطمئن إليه ضميره هو، وليس الأمر كذلك بالنسبة لأعضاء النيابة العامة، فى ظل قوانين السلطة القضائية المتعاقبة التى تجعل منهم تابعين خاضعين لرئاستهم فى كل قراراتهم سواء تعلقت بمباشرتهم سلطة الاتهام، أو ممارستهم لقضاء التحقيق.
وبغير دخول فى تفصيلات الخلاف فى القول بطبيعة النيابة العامة، وما إذا كانت جزءاً من السلطة التنفيذية، أو كانت شعبة من شعب القضاء، فإنه لا خلاف إزاء صراحة نص المادة 125 وعمومه على تبعية أعضاء النيابة العامة لرؤسائهم وللنائب العام، وأنهم جميعاً يتبعون وزير العدل! وثبوت حق النائب العام فى الرقابة والإشراف على جميع أعضاء النيابة، وحق المحامين العامين فى الرقابة والإشراف على أعضاء النيابة بمحاكمهم، وخضوع قراراتهم لهذه الرقابة وهذا الإشراف، سواء تعلق الأمر بقراراتهم فى الاتهام أو قراراتهم فى التحقيق.
ومن المتفق عليه، فى الفقه والقضاء... أن الرئاسة الإدارية من طبيعتها أن تفسد مضمون العمل القضائى –مهما قيدتها نصوص القانون- لأن فكرة التبعية الرئاسية تنوى حتماً على قدر من القهر والإخضاع، وتتجافى مع فكرة الحيدة والاستقلال التى هى عماد العمل القضائى، لهذا لا يتصور أن يخضع القائم بالتحقيق، لإشراف أى رئيس.
ولعل الواقع العملى يكشف بجلاء عن صحة هذا النظر، ويظهر ذلك جلياً فى مسألة الحبس الاحتياطى، وهو أخطر القرارات التى تصدر من قاضى التحقيق، فعلى حين يحظر القانون مد حبس المتهم إلا بعد سماع دفاع المتهم، فإن تأشيرات السادة وكلاء النيابة المحققين عند مد الحبس، قاطعة على أن هذا القرار يصدر من رئاستهم التى لم تسمع شيئاً من هذا الدفاع، وهكذا يسمع دفاع المتهم من لا يملك فى شأنه أمراً، ويأمر بحبسه من لم يسمع له قولاً، ليكشف هذا وذاك عن صورية العدالة فى تحقيقات النيابة العامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولعل هذا الواقع العملى فى ظل التنظيم القانونى لوضع النيابة العامة، هو الذى حدا بمحكمة النقض حديثاً إلى العدول عن قضائها السابق، والتقرير بخضوع أعضاء النيابة العامة لرئاساتهم فى كل الأحوال سواء تعلق الأمر بمباشرة سلطة الاتهام، أو تعلق بممارسة التحقيق، وتقول المحكمة فى هذا الشأن:
"النائب العام وحده هو الوكيل عن الهيئة الاجتماعية فى مباشرة تحريك الدعوى الجنائية وبمتابعة سيرها حتى يصدر فيها حكم نهائى وولايته فى ذلك عامة تشتمل على سلطتى التحقيق والاتهام وتنبسط على إقليم الجمهورية برمته وعلى كافة ما يقع منه من جرائم أياً كانت وله بهذا الوصف وباعتباره الوكيل عن الجماعة أن يباشر اختصاصاته بنفسه أو أن يكل –فيما عدا الاختصاصات التى نيطت به على سبيل الانفراد- إلى غيره من رجال النيابة المنوط بهم قانوناً معاونته أمر مباشرتها بالنيابة عنه، وأن يشرف على شئون النيابة العامة بما له من رئاسة مباشرة قضائية وإدارية على أعضائها الذين يكونون معه فى الواقع جسماً واحداً لا انفصام بين خلاياه" .
مشاكل الجميع بين السلطتين:
يثير مبدأ الجمع بين سلطتى التحقيق والاتهام مشاكل قانونية تستعصى على الفهم وعلى الحل، ذلك أنه بينما ينحى البعض إلى أن عضو النيابة المحقق يستمد اختصاصه من القانون مباشرة، ومن ثم يمارس التحقيق بعيداً عن رقابة وإشراف النائب العام، وهو رأى ذهب إليه بعض الفقهاء ، وأيدته محكمة النقض فى قضائها الصادر سنة 1945، ذهب إلى رأى مخالف مفاده تبعية عضو النيابة المحقق للنائب العام، حتى عند مباشرته سلطة التحقيق، ويثير الأمر هنا تساؤلات فى غاية الأهمية نجتزئ منها:
1- هل يخضع عضو النيابة المحقق للقواعد التى تنظم عمل النيابة العامة بوجه عام، أم يخضع لتلك القواعد التى تنظم عمل القضاء؟
2- إذا كان من المقرر عدم جواز رد النيابة العامة، لأنها فى الأصل خصم فى الدعوى، فهل يجوز رد عضو النيابة عند ممارسته سلطة التحقيق؟
3- إذا كان القانون يمنع القاضى من نظر الدعوى، وينص على عدم صلاحتيه لمباشرتها، لمجرد أنه سبق له إبداء الرأى فيها، أو كان لزوجته أو لمطلقته التى له منها ولد، أو أقاربه أو أصهاره على عمود النسب، خصومة قائمة مع أحد الخصوم فى الدعوى، فهل تؤثر هذه الحالات على صلاحية عضو النيابة المحقق؟ بفرض غض النظر عن كونه هو خصماً أصلاً فى الدعوى؟
لا خلاف إذاً فى هذه المشاكل القانونية التى تعتور نظام الجمع بين السلطتين، بالإضافة إلى افتئات هذا الجمع على مبادئ العدالة، أمراً يجمل معه العدول عنه والفصل بين سلطتى التحقيق والاتهام.
الجمع بين السلطتين لا ضرورة له:
الواضح من استقراء وتتبع موقف التشريعات في جمهورية مصر العربية على تتابعها، بالنسبة للموقف من فكرة الجمع أو الفصل بين سلطتى الاتهام والتحقيق، أن هذه التشريعات ومنذ سنة 1895 تكاد تسلم بعوار النظام الذى يجمع بين السلطتين فى يد النيابة العامة، وهى ترى أن هذا الجمع مبناه الضرورة الناشئة عن ضعف الإمكانيات التى تسمح بإعداد العدد اللازم من القضاة لتطبيق نظام قاضى التحقيق.