المفاوضة في القانون الدولي

المفاوضة في القانون الدولي
- بقلم أ.د ميلود المهذبي


أ.د ميلود المهذبي *

إن ( التفاوض ) عملية قديمة قدم التاريخ ، ولقد عرفت الحضارات البشرية ( التفاوض ) بقصد تحقيق الأهداف السياسية ، والمنافع الاقتصادية ، وأحياناً ، الغايات العقائدية . فاستخدمت الأقوام التفاوض في تنظيم العلاقات فيما بينها ، ومع غيرها . كما أن المفاوضات العسكرية ( الحربية ) كانت أسلوباً شائعاً ، نتيجة كثرة الصدامات المسلحة التي كانت تنشب ، فيما بين القبائل ، أو المدن ، أو الدول أو الشعوب ، أو الأمم . وهكذا شاع أسلوب المفاوضة في السلم ، وفي الحرب . ولكن ما معنى التفاوض ؟!

أهم الشروط المفترض قيامها في شخص المفاوض ، هى الإلمام الكامل بموضوع التفاوض

والدراية بالسوابق التاريخية ، والوقوف على الأبعاد السياسية

الفقرة الأولى : دلالة المصطلح :

يستعمل مصطلح المفاوضة ليعني ، في اللغة العربية ، مفهوم ( المراوضة ) والمراوضة ( لغة ) مصطلح ازدهر استعماله في المجال التجاري ، وتحديداً في معاملات البيع والشراء ، وفي عمليات المزايدة والمناقصة وفي حديث طلحة ابن الزبير ( فتراوضنا حتى أصطرف مني) وكان المعنى يفيد أن يسعى كل طرف إلى ترويض الآخر ، أي غلبته .

لذا ، فإننا نعتقد بأن المصطلح قد يكون اقتصادياً ومن هذا المنطلق يعرف التفاوض ( على الأقل في أصله التجاري ) بأنه : تبادل وجهات النظر بين الطرفين أو أكثر متنازعين يبحثان عن تسوية لمسألة (محل خلاف ) عن طريق الاتفاق ، وهما يكونان - عادة - على استعداد لسداد الثمن تبادلياً بواسطة قبول حل وسط بين المواقف المبدئية لكل منهما ..

أما القاموس الدبلوماسي ، فيرى في التفاوض أنه : لا يمثل - فحسب - سبب وجود الممثل الدبلوماسي بصفته رئيساً للبعثة الدبلوماسية . وإنما يمثل جوهر الدبلوماسية كلها ، وكل أشكال وجوانب الدبلوماسية خاضعة لعملية التفاوض وهنا اقترب مفهوم التفاوض من معنى الدبلوماسية وذلك لارتباط المسألة بآليات العمل الخارجي للدولة ، وهذا مادفع بهنري كيسجنر ، أمين سر الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية ( وزير الخارجية الأسبق ) إلى القول بأن .. الدبلوماسية بالمعنى المتعارف عليه . هي عملية التقريب بين وجهات النظر المتعارضة من خلال المفاوضات ..

ويقصد بالمفاوضة ( قانوناً ) تبادل وجهات النظر فيما بين ممثلي شخصين من أشخاص القانون الدولي العام ، أو المنظمة الدولية وما في حكمها ( الشخصية القانونية ) هى من قبيل التجريد ، فإنه يتعين ، من تم أن نقبل بحقيقة أن العلاقات ما بين أشخاص القانون الدولي العام إنما تتم من خلال ، وعبر أشخاص طبيعيين مخولين حق تمثيل تلك الوحدات القانونية ويقتصر حق مباشرة هذه المهمة - وبشكل واضح - على الأجهزة التنفيذية ( الحكومات ، الأمانة العامة في المنظمة ) ، وممثليهم المفوضين قانوناً فهم من يتحدث ( عملياً ) باسم الدولة ، أو باسم المنظمة الدولية ( جدلية الشخص الطبيعي ، والشخص الاعتباري ) لذلك فإن علاقات الدول تتقلص ، في الممارسة اليومية ، إلى الدرجة التي تتحول فيها علاقات الدول إلى علاقات ما بين الحكومات ، أي هى علاقات مضطربة تتأثر بتغير الزعامات وبتفاعلات القوة ما بين الأحزاب ، وبتأثير المرجعيات ، وبتقاطع المصالح . ورغم هذا الخلل الواضح في إشكالية التعبير عن سيادة الدولة ، إلا أن آليات العمل الدولي ، لا تقـــدم لنا - للأسف الشديد - أي بديل آخر .

وتصير .. المفاوضات .. معبرة - وبالضرورة - على أن يتولى .. القابضون على السلطة في بلد ما دوراً رئيسياً ومسيطراً في مواجهة الدول الأخرى .. وتصير الدولة ، من خلال ممثليها التنفيذيين ، هى الفاعل المركزي ، والمتميز في كافة إجراءات ، وآليات التفاوض .

ورغماً عن الدفع القائل بأن نظام الفصل ما بين السلطات قد يسهم في إيجاد العديد من القيود ويمكن أن يحد من غلواء استئثار الحكومات بتصريف الأمور ، حتى تتمكن كل سلطة من مراقبة الأخرى ، وفقاً لامتياز إحداها ( التنفيذية ) بصلاحيات والتزامات قد تؤثر على طبيعة النظام السياسي ، وكيان الدولة ذاتها . إلا أن الواقع العملي قد بين حقيقة تفرد السلطة التنفيذية بولاية الشأن الدولي ( معاهدات الإندماج ، أو الانفصال ، واتفاقيات رسم الحدود ، واتفاقيات تحديد جنسية السكان ، ومعاهدات الأحلاف ) لذلك ، فإن الكلمة الفصل في باب التفاوض تظل ، وبدرجة كبيرة ، في يد السلطة التنفيذية سواء في الدولة ، أم في المنتظم الدولي ، أو لدى أي عنصر قانوني دولي آخر ( منظمات التحرير ، حكومات المهجر أو المنفى ) ، وهو أمر من شأنه أن يبوأ المتفاوضين مكانة سامية في مسارات عملية التفاوض .

ونتيجة لهذا الواقع ، فإنه قد يصير من الضرورات المنهجية ، التعرض لدراسة أهمية دور المفاوض ، وتحليل طبيعة التفاوض ، والإشارة إلى اللغة التي يجري من خلالها إقرار النص ، وصياغة ما يتم التوصل إليه ، كنتيجة للمفاوضات ، وذلك على التفصيل التالي :

الفقرة الثانية : المفاوض :

يقوم المفاوض بأداء دور أساسي في عملية المفاوضات ، لذا تحرص أشخاص القانون الدولي العام ، وخاصة منها الدول ، والمنظمات الدولية ، وحركات التحرر ، على اختيار أشخاص تميزوا بصفات ، وقدرات تفاوضية عالية .

ولما كانت المفاوضات تحظى بأهمية قصوى في مجريات العلاقات ، وحيث أن المفاوض هو الأداة الفعلية لإتمام إجراءات التفاوض ، فإنه قد يكون من الطبيعي أن تتطلب شروطاً موضوعية ، وأخرى شكلية ، يفضل توافرها في المفاوض ، لضمان نجاح عملية المفاوضة ذاتها .

1/ الشروط الموضوعية .

لعل من أهم الشروط المفترض قيامها في شخص المفاوض ، هى الإلمام الكامل بموضوع التفاوض ، والدراية بالسوابق التاريخية ، والوقوف على الأبعاد السياسية ، والبحث في كافة الجوانب القانونية للموضوع . ومعنى ذلك .. دراسة معمقة لملف التفاوض .. اذ لا يستطيع أي إنسان أن يدافع بقوة وبمنطق عن قضايا يجهلها ولا أن يجد في البحث في إشكـــــاليات لا يعرف أسبابها ونتائج تشعباتها .

ومن أهم صفات شخص المفاوض ( المفترضة ) والموضوعية ، هى القدرة على فهم .. الطرف الآخر .. ( الدولة أو مجموع الدول ، أو أي شخص من أشخاص القانون الدولي العام ) ودراسة واقعه السياسي ، والاقتصادي ، والاجتماعي ، والثقافي ، والإلمام بمعتقداته ، وعاداته ، وتقاليده ، والخبرة بأساليب عمله ، ومعرفة ردود أفعاله ، وتصرفاته . كما أن التعمق في دراسة الآثار السياسية ، والقانونية ، والاقتصادية ، والاجتماعية لنتائج المفاوضات ، وتحليل ظروف المكان ، وأبعاد الزمان الذي تجري فيه المفاوضة .. جميعها أمور تتطلبها طبيعة التفاوض .

2/ الشروط الشكلية :

أما الإشتراطات الشكلية - وهى جوهرية في المفاوض - فعديدة ، متنوعة نذكر منها فصاحة اللسان ، والسيطرة على اللغة ( لغة التفاوض ) وحسن النطق ، وسلامة المنطق ، فضلا عن القدرة على كسب ثقة الآخر ( الخصم مثل الحليف ). كما أن التذرع بالصبر والأناة ، والتزام الحكمة ، والسيطرة على الإنفعالات ، ونبذ أسلوب التهديد والعنف والوعيد هى من السمات التي يفترض أن يتحلى بها المفاوض الناجح .

فإذا أضفنا إلى ذلك ، ضرورة توفر مناقب الكياسة ، واللباقة ، والفهم النافذ لعقلية وثقافة ، وظروف الخصم ( البنية الكلية ) ، مع إمكانية حسن المظهر ، وتقبل الناس له .. فإن التفاوض يتحول - عنذئذ - إلى فن راق في آلية التعامل الدولي .

الفقرة الثالثة : طبيعة التفاوض :

لقد أكد القضاء الدولي على أن المفاوضات هى إحدى سمات وسائل فض المنازعات بالطرق السلمية ، بل إنه قد بوأها مكانة تتقدم على الحلول القضائية ( متى عارضت الأطراف المتنازعة ) وذكرت محكمة العدل الدولية أن : .. التسوية القضائية على المفاوضات هى بديل عن التسوية المباشرة والودية ما بين الأطراف المعنية ، ولذلك ، فإن على المحكمة أن تسهل هذه التسوية الودية والمباشرة .. وإن محكمة العدل الدولية ترحب وإلى حين صدور حكم منها حول موضوع النزاع ، بأي مفاوضات بين الأطراف بغرض التوصل إلى تسوية ودية مباشرة ..

كما أن المحكمة الدائمة للعدل الدولية قد تناولت مسألة المفاوضات بقولها : تأخذ المحكمة في إعتبارها جيداِ القاعدة التي تقضي بأنه لا يجب أن يعرض عليها إلا القضايا التي لا يمكن حلها عن طريق المفاوضات .. إذ قبل أن يعرض أي نزاع أمام القضاء فإنه يجب أن يكون موضوعه قد تم تحديده بدقة بواسطة المفاوضات الدبلوماسية ..؟ ولقد أشار ميثاق الأمم المتحدة ، في الفصل السادس منه إلى التفاوض كأحد أهم آليات حل المنازعات بالطرق السلمية ( المادة الثالثة والثلاثون (33) .

لذلك ، فإن القانون الدولي العام يقر آلية التفاوض ، ويدعو إليها وينظمها ، سواء كان هذا التفاوض ما بين طرفين ، أو ما بين عدة أطراف ، أو في إطار منظمة دولية إقليمية أو عالمية . وقد تجري هذه المفاوضات الإشراف المباشر لإحدى المنظمات الدولية ( العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966 ، العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، والثقافية 1966 ، اتفاقية قيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961 ، اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية 1963 ، اتفاقية قانون البحار لعام 1982 ، اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية 1998 .. إلخ ) ، أو قد تجري خارج هذه المنظمات الدولية استجابة لمعطيات سياسية أو قانونية ( اتفاق دايتون بولاية أو هايو الأمريكية ، نوفمبر 1995) والذي جرى ما بين ممثلين عن الصرب ، والبوسنة والهرسك ، والكروات فيما يتعلق بإنهاء الحرب الأهلية في يوغسلافيا الاتحادية سابقاً .. أو قمة واشنطون المنعقدة في بداية شهر نوفمبر 1995 ، والتي ضمت الأردن ، وفلسطين ، وإسرائيل ، تحت إشراف الرئيس الأمريكي ( الأسبق ) بيل كلينتون عقب قيام إسرائيل بحفر نفق البراق تحت المسجد الأقصى ، بمدينة القدس .. وقد تجري المفاوضات داخل أجهزة المنظمة ذاتها .

وقد تأخذه هذه المفاوضات مسارات لقاء القمة ، سواء كانت ثنائية ( القمة الأمريكية السوفيتية ، أو القمة الأمريكية الروسية بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي ) ، أو القمة الفرنسية - الألمانية ، والتى صارت لقاءً دورياً . وقد تكون مفاوضات القمة متعددة الأطراف ( الملوك والرؤساء العرب في الجامعة العربية ، الاتحاد الأفريقي ، الاتحاد الأوروبي ، منظمة الأوبك ) ، أو جماعية (قمة عدم الانحياز ) ، أو استراتيجية ( قمة الدول الثماني الصناعية ) حتى وإن كانت لقاءات القمة - عادة ما تسفر مفاوضاتها عن إصدار .. بيان .. وليس معاهدة دولية .

ولا يوجد زمن للمفاوضات ، فهى قد تبدأ وتنتهي في زمن قصير جداً وقد تطول لتستمر سنوات ( اتفاقيات قانون البحار 1973-1982 ) وهى كما تكون علنية ، فإنها يمكن أن تكون سرية ( مباحثات أو سلو1993) وفي هذا الصدد فإن سرية المفاوضات قد تكون استجابة لنصوص في معاهدة سابقة فقد جاء في المادة الرابعة (4) الفقرة السادسة (6) من اتفاقية منظمة التجارة العالمية ، الملحق الخامس وثيقة التفاهم بشأن القواعد والإجراءات التي تحكم تسوية المنازعات على أن .. تكون المفاوضات سرية ، وينبغي ألا تخل بحقوق أي عضو في إجراءات لاحقة .. كما نشير إلى أنه في عام 1782 ، بدأت سلسلة من المفاوضات السرية ( عقب إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن المستعمرات البريطانية ) ما بين الأمريكيين ، وحكومة المملكة المتحدة . إذ أنه لم يكن بالإمكان بدء مفاوضات علنية ، وذلك بالنظر إلى أن شروط التحالف المعقود ما بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ، والموقع عام 1778 تشير إلى : ألا تعقد أي من الدولتين الصلح ، إلا متى أصبحت الأخرى مستعدة لذلك .. وكان الأمر أن القوات الفرنسية ( عام 1782 ) كانت لا تزال تتابع القتال في محاولة لاستعادة جزء مما فقدته خلال حرب السنوات السبع في أمريكا الشمالية .

والمفاوضات ( في القانون الدولي العام ) كما يتصور أن تجري ما بين أطراف متنازعة فإنها قد تجرى ما بين أطراف متوافقة . وحيث أنها قد تزدهر في حالات السلم .

إلا أن قانون الحرب قد عرف - ويعرف - العديد من المفاوضات وأخيراً ، فإن المفاوضات لا يشترط أن تتم ما بين أطراف متساوية في المركز القانوني ، أو الوضع الدولي ، أو في الثقل الاقتصادي ، أو في الكثافة السكانية ، فهى يمكن أن تجري ما بين أشخاص قانونية دولية غير متكافئة ( إحدى أهم سمات القانون الدولي الجديد ).

والأكثر من ذلك ، فإن المفاوضات قد تصاحبها وسائل إكراه تستهدف النيل من قدرة أحد الأطراف ، أو حتى إر غامه على التفاوض وتأخذ هذه الوسائل أشكالا عدة تبدأ من ممارسة الضغوطات السياسية ، أو الأخلاقية ، أو الاقتصادية ( سياسة صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية إرغام كوريا الشمالية على التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن الملف النووي ( بكين شهر الكانون 2006) ولا تنتهي عند الضغوط القانونية ( إجبار منظمة التحرير الفلسطينية على تعديل الميثاق الوطني والقاضي بحق الكفاح المسلح ) وسواء تمت ممارسة هذه الضغوطات أثناء عملية التفاوض ( الضغط على إيران عام 2006 من أجل التفاوض مع الوكالة الدولية للطاقة النووية في موضوع البرنامج النووي الإيراني ) ، أو قبلها بقصد الإجبار على التفاوض ، فإن الدفع بها قانوناً لإبطال النتائج أمر تكتنفه العديد من الصعوبات ، خاصة وأن بعض هذه الضغوطات لاتباشر بشكل واضح ، علني ، ومقنن ، أو أن من يمارسها يملك من أدوات القوة ، والتقنية ، وحق الاعتراض في مجلس الأن ما يمكنه من تحقيق نتائج عملية .

وإجمالاً .. فإن جميع القضايا التي يمكن أن تطرحها علاقات المجتمع الدولي أو تفرضها طبيعته المتغيرة ، تصلح لأن تكون مجالاً خصباً للمفاوضات ، من ذلك مثلاً .. قضية إنهاء وضع قائم ( مفاوضات الجمهورية الفرنسية ، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية بمدينة ايفيان عام 1962 ) ، أو للحد من تفاقم وضع قد يتطور في اتجاه يهدد الأمن والسلام الدوليين ( مفاوضات الولايات المتحدة الأمريكية ، واتحاد جمهوريات الاتحاد السوفيتي ( سابقاً ) ، والمعروفة باسم سالت 1، سالت 2، وللحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية ، أو لوضع حد لنزاع مسلح ( مفاوضات باريس عام 1975 ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وقيادة جيش التحرير الفيتنامي ) ، أو لرسم حدود ( سواء برية ، أو بحرية ، أو تتعلق بالجرف القاري ) ، أو لتنظيم المسائل الجمركية ، أو بحث تسليم المتهمين ، أو المحكومين ، أو محادثات تبادل الأسرى ( العراق - إيران ) ،الكويت - العراق ).

وقد تأخذ المفاوضات الطابع النوعي ، فيتم التفاوض حول مسألة بذاتها ، ولكن بجميع تشعباتها .. مثل المؤتمر الدولي للمياه والبيئة ( دبلن 1992) ، ومؤتمر الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية ( كوبنهاجن 1994 ) ، أو مؤتمر الأمم المتحدة للسكان والتنمية ( القاهرة 1995 ) أو مؤتمر الأمم المتحدة حول المرأة ( بكين 1996) ، أو مؤتمر المستوطنات البشرية ( اسطنبول 1996) ، أو المفاوضات الجماعية المتعلقة بإنشاء محكمة جنائية دولية دائمة ( روما 1998) .

وقد يتم التفاوض ما بين دولة ، ومنظمة دولية بشأن المقر .. ونذكر على سبيل المثال مفاوضات الجامعة العربية مع الدولة المصرية ، ومفاوضات منظمة الأمم المتحدة مع دولة الولايات المتحدة الأمريكية ، ومفاوضات منظمة الأوبك مع دولة النمسا ، ومفاوضات منظمة الأوبك مع دولة الكويت ، ومفاوضات منظمة التجارة الدولية مع الدولة السويسرية ، ومفاوضات الاتحاد الأوروبي مع دولة بلجيكا ، ومفاوضات المؤتمر الإسلامي مع الدولة السعودية ، ومفاوضات منظمة الوحدة الأفريقية ( الاتحاد الأفريقي ) مع الدولة الأثيوبية .

1/ المفاوضة .. وإطلالة الدولة في مجالها الخارجي :

إن مسألة التفاوض عملية متحركة ( مستمرة ) ، ومركبة لذلك ، وبالنظر إلى هذه الطبيعة ( الديناميكية ) ، فهى تكون - في العادة - من صميم اختصاص السلطة التنفيذية ، وتأخذ - عموماً - الإطار الدبلوماسي ( عبر منظومة قواعد اتفاقية فيينا للقانون الدبلوماسي لعام 1961) ويقوم بها موظفون ودبلوماسيون وخبراء إلا أن المفاوضة قد تجري ما بين مسؤولين أرفع مستوى من مجرد مؤظفين دبلوماسيين ، كالمسؤولين عن القطاعات المختلفة في أجهزة السلطة التنفيذية ( وزراء ، أمناء ، أمناء سر الدولة ، رؤساء حكومات ، أو رؤساء دول ) سواء أثناء تنقلاتهم ( في زيارات عمل ) بقصد التفاوض ، أو أثناء مشاركتهم في لقاءات دولية ، أو إقليمية ( موريتانيا و إسرائيل على هامش مؤتمر برشلونة حول التعاون والشراكة في المتوسط 24-26 نوفمبر 1995) . غير أن هذا الامتياز لم يعد محصوراً في هؤلاء الأشخاص الرسميين ، إذ كثيراً ما يشترك خبراء وفنيون ، ومستشارون ، ( وبدرجات متفاوتة ) في المفاوضات بل إن الفنيين ( التكنوقراط ) صاروا يقومون بأداء أدوار مباشرة . يزداد نمواً ، وتوسعاً بسبب توجه العلاقات الدولية إلى التخصص ، وإلى التشعب ، وكذا بسبب الثورات المعرفية التي طالت كافة المجالات ، فضلاً عن إزدياد الحاجة إلى ظاهرة التنظيم الدولي ، وهى ظاهرة تفصح - بطبيعتها - عن مجالات أرحب لعمل الخبراء

( وكالة الطاقة النووية ، منظمة الصحة العالمية ، منظمة الأغذية والزراعة ، وكالة النقـــــل الجوي ، منظمة التجارة العالمية .. إلخ ) .

ومع ذلك ، فإن المفاوضة بكافة صورها ، وموضوعاتها لاتخرج من حيث ترتيب نتائجها القانونية ، عن الفرضيات الأكاديمية التالية :

1/ إذا كانت المعاهدة ثنائية ، فإنها تجري مباشرة عبر الأدوات ، والأجهزة المخولة قانوناً ، أي ما بين المسؤول عن تصريف الشؤون الخارجية لإحدى الدول ( وزير خارجية ، أمين خارجية ش ، وبين الممثل المفاوض لدولة أخرى ( يكون في ذات الدرجة تقريباً ) ، يساعدهما - عند الحاجة - خبراء من الطرفين . وسواء تمت المفاوضات ما بين الطرفين فقط ، أو تحت إشراف أطراف أخرى ( منظمات ، أو دول ) ، وسواء كانت هذه المفاوضات ذاتية ، أو جاءت استجابة لضغوطات دولية ، أو تنفيذاً لمقررات مجلي الأمن . فإن ذلك لا يخل بالطبيعة الثنائية للمفاوضة .

ولعله يصير من البديهيات ، في هذا الشأن ، أن يكون للمفاوضات معنى وهدف وإلا كانت تخرج عن إطار اهتمامات القانون الدولي العام .

ومما يؤكد هذه الحقيقة ما جاء في المسودة النهائية التي تم الاتفاق عليها بتاريخ 19-08-1993 ، فيما يتعلق بإعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني ، وتشكيل الحكومة الانتقالية الذاتية ( الفلسطينية ) ، وتحديداً في المادة الأولى (1) تحت عنوان .. هدف المفاوضات .. من أن .. هدف المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية ضمن إطار عملية السلام الشرق - أوسطي هو ، وإلى جانب أمور أخرى ، تشكيل سلطة فلسطينية انتقالية ذاتية ، المجلس المنتخب للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ، لمرحلة انتقالية لا تتعدى الخمس سنوات وتؤدي إلى تسوية نهائية مبينة على أساس قراري مجلس الأمن (242) و (338) .

وعلى الرغم من أنه شهد على هذه المفوضات ، والتوقيع على إعلان المبادىء ، أطرافاً أخرى ، إضافة إلى الطرفين الرئيسيين ( الولايات المتحدة الأمريكية ، والاتحاد الروسي ، وبعض الأطراف المعنية ) .. فإن طبيعة المفاوضة ، وبالتالي الاتفاق الذي تم الانتـــــهاء إليه ظل ثنائياً .

وان كان المبدأ العام يقوم على حرية اشخاص القانون الدولي العام في التفاوض كافة المواضيع التي تهم الاطراف المتفاوضة الا ان اعلان المبادئ المتضمن في اتفاقية قطاع غزة ومنطقة اريحا (1993) قد حدد على سبيل الحصر صلاحيات التفاوض للسلطة الفلسطينية مما يعد خروجا على القاعدة العامة واهدار لمبدأ السيادة بما تتضمنه من شرعية التفاوض ومشروعية محل التفاوض وقد نصت المادة السادسة (6) تحت عنوان (صلاحيات ، ومسؤوليات السلطة الفلسطينية في الفقرة (أ) بند (ب) ، (ج) على ان : منظمة التحرير الفلسطينية يمكنها ان تجري مفاوضات وتوقيع اتفاقيات مع الدول او المنظمات الدولية لصالح السلطة الفلسطينية في الحالات التالية فقط:

أ- اتفاقيات اقتصادية كما ورد بشكل خاص في الملحق رقم 4 من هذه الاتفاقية.

ب- اتفاقيات مع البلدان المانحة بغرض تنفيذ ترتيبات لتقديم المعونة للسلطة الفلسطينية.

ج- اتفاقيات بغرض تنفيذ خطط التنمية الاقليمية المبني في الملحق رقم 4 من اعلان المبادئ او في الاتفاقيات التي تدخل في اطار المفاوضات المتعددة.

د- اتفاقيات ثقافية وعلمية وتعليمية.

ويعتر هذا النص خروجا عن المبادئ العامة المستقرة في القانون الدولي العام (الاتفاقي ، العرفي) بل اننا نذهب الى القول ببطلانه اساسا لمخالفته لقاعدة امرة في قواعد القانون الدولي العام وتناقضه مع فكرة النظام العام الدولي.

2 - اذا كانت المعاهدة متعددة الاطراف فان المفاوضة تتم - عادة - في اطار لقاء دولي قد يأخذ شكل المؤتمر او الاجتماع الدولي.

3 - اذا كانت المعاهدة جماعية فان المفاوضات تتسم بطول امدها وتجري - عادة - في مؤتمر دولي يحمل اسم موضوع الاتفاقية.

2- المفاوضة.. ومؤسسات الدولة في مجالها الداخلي:

من المبادئ المقررة في مجالات تحديد العلاقة ما بين فاعلية الدولة في محيطها الخارجي وقوة مؤسساتها في بنيانها الداخلي ان الترابط جد وثيق ما بين السيادة في مظهريها لذلك فان القانون الدولي يحيل في كثير من المسائل ذات الارتباط بتصرفات دولية على القانون الوطني وفي المقابل فان القانون الوطني لايتردد في احالة بعض القضايا الى القواعد الدولية (العلاقات الدبلوماسية) فكل دولة او ما في حكمها يتولى نظامها الدستوري مسألة تحديد الاداة او المؤسسة او الشخص الذي يتمتع بسلطة التفاوض وابرام المعاهدات باسمها.

ويثير موضوع التفاوض في ظل المتغيرات التي تشهدها خريطة العالم السياسية الاجتماعية وتموج التفاعلات الاقتصادية - التقنية والتي طالت كافة اشخاص القانون الدولي (فاعلين ومتفاعلين) العديد من الاشكاليات فتشعب ميادين التفاوض والانفجار الهائل في مجال المعلومات فضلا عن يسر التواصل وتعقد ملاحقة الاحداث امور فاقمت من مسؤوليات التفاوض عند كل شخص قانوني دولي.

فالتفاوض قدرة اجهزة الدولة ومدى استعدادها سياسيا وتقنيا واقتصاديا وماليا لخوض غمار المعارك السلمية لذلك فلم تعد مسألة التفاوض من صميم اختصاص الشؤون الخارجية في الدولة وانما هي محصلة لمجموع مجهودات وخبرات ، وحال الدولة بمعنى أن التفاوض ، وإن كان عملاً خارجياً يرتبط بسيادة الدولة في محيطها الدولي الا انه يرتبط بشكل قوى بآليه وقدرة وفاعلية الدولة ومؤسساتها الوطنية (مفاوضات ليبيا وكل من الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة في لندن من اجل ايجاد تسوية سلمية لقضية لوكربي 1998 مفاوضات ايران وكوريا الشمالية مع اعضاء مجلس الامن دائمو العضوية والمانيا حول الملف النووي..)..

ان العلاقة ما بين الاداء التفاوضي لدولة ما من حيث قوة ومتانة ادواتها وفاعلية مؤسساتها وبين المنجز في مجال السياسة والاقتصاد والقانون هي علاقة متينة الى درجة الانعكاس المتبادل.

لذلك ، فإن الدولة عادة ما تكون حريصة على اختيار أدواتها ، ودعم مؤسسات التفاوض لديها في كافة المجالات . فلم يعد العمل الخارجي شأناً خاصاً بالدبلوماسيين .. المحترفين .. ووقفاً على مجموعة من الموظفين العاملين في الشؤون الخارجية .. بل إن الدول ترى أن المفاوضة هى عملية متكاملة ، تبدأ من الإعداد العلمي لملف التفاوض ، وتنتهي باختيار المفاوض الذي يقود المباحثات باسم دولته .. حتى ولو لم يكن من بين العاملين في السلك الدبلوماسي ( المباحثات العسكرية .. مباحثات نزع الأسلحة الاستراتيجية ).

ولعله من الحري بنا أن نشير إلى أن المفاوض يقوم بدور أساسي ، وقيادي في إدارة العملية السياسية .وعلى قدراته ، وخبرته ، وحنكته تتوقف العديد من النتائج ، شريطة أن تكون مؤسسات الدولة قادرة على الأداء بعلمية ، وشفافية .فالترابط جد وثيق ما بين الهيكل الداخلي المؤسساتي للدولة ، وما بين فاعلية مفاوضيها وبالتالي ، تحقيق النتائج على مستوى العلاقات الخارجية مع الآخر .

لذلك فإن .. الوزير ، أو المجلس المسؤول في دولة ما عن الشوون الخارجية هو الذي يعطي التعليمات للسفراء ، ويتفاوض بالمعنى الحرفي مع الأجانب ، لكن نجاحه لا يتوقف - فقط - على قدراته ، ولا يفترض الاعتماد على مواهب الأشخاص الذين يقوم بتوظيفهم في الخارج . إذ يجب على الوزراء ، أيا كانت القطاعات الإدارية التي يشرفون عليها ، أن تنسجم في الإعداد للمفاوضات . إذ ما الذي يستطيع وزير الشؤون الخارجية مهما بلغ من العبقرية ، أن يفعله في دولة مثقلة بالديون ..

ومن هنا صار بعض الفقه ، وخاصة في بلدان العالم النامي ، يتحدث عن غياب شرط التكافؤ في المعاهدات . فلا معنى - في الواقع - لسيادة دولة حديثة الاستقلال ، أو تئن تحت ضغوطات الديون ، أن تفاوض دولة أخرى ( أو مجموعة من الدول ) أكثر غنىً ، وقوة ومنعة ، وتقنية ، وهو ما سينعكس حتماً على قوة ، ومهارة ، ومستوى المفاوضين . إن العلاقة التفاوضية تجسيد للتفاوت في هيكلية البنى التحتية في الدولة المتفاوضة . فالمساواة في التفاوض ، في واقع الحال ، هى مساواة صورية .

*- أستاذ القانون الدولي في الجامعات العربية وخبير في مجال القانون الدولي.

ابحث عن موضوع