محتويات البحث :
- المقدمة .
اولا – ماهية مصل الحقيقة .
ثانيا – القيمة العلمية لمصل الحقيقة .
ثالثا – قيمة ما ينتجه التحليل التخديري القانونية .
- موقف فقهاء القانون .
رابعا – موقف القضاء .
المقدمة
لكل تقدم علمي او تكنولوجي وجهان ، وجه يستخدمه الخيرون لصالح البشرية وتنعكس ايجابياته على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها بما يفتح آفاق المستقبل . ووجه يستخدمه الشريرون في مجالات العبث بمصالح البشرية كما هو حال الجريمة والمجرمين .
دخلت الجريمة نتيجة التقدم العلمي عالم جديد يصعب معه اتباع الطرق التقليدية للكشف عنها ونسبتها الى مرتكبيها كان لابد من مجاراة ذلك في الجانب الاخر وهو مجال البحث عنها عن ادلة للكشف عنها وصولا الى فاعليها . لذلك عمدت اجهزة الدولة لمواجهة الاجرام غير التقليدي باتخاذ اساليب غير تقليدية ايضا سواء في مرحلة الاستدلال او التحقيق او المحاكمة تتناسب مع الاساليب الجديدة المتبعة في ارتكاب الجريمة ، بل وذهبت ابعد من ذلك باتخاذ اساليب اكثر تطورا .
اختلفت ادلة الاثبات التي لجأت اليها اجهزة الدولة للكشف عن الجريمة واختلفت من حيث اهدافها كتلك التي تشل وعي المتهم لكي يمكن التسلل الى عقله الباطن وخازن اسراره والحصول منه على ما تعذر الوصول اليه في الوسائل العادية . كما اختلفت الوسائل من حيث الطبيعة العلمية للوسيلة كأستخدام اجهزة لمراقبة بيانات الشخص وجمعها عن طريق آلات تجهيز البيانات ، بحيث اذا جمعت البيانات فانها تعطي معلومات كافية عن الشخص . ومن هذه الوسائل التحليل التخديري او كما يطلق عليه مصلة الحقيقة . وهو العقار الطبي الذي اكتشفه عالم التخدير الامريكي ( ت . س . هاوس ) من مادة ( السكوبولامين ) وقال عنه انه ينتزع الحقيقة او الاعتراف من مستخدمه حتى بدون رضاه . وزاد الاقبال عليه نتيجة دوره في الكشف عن مرتكبي مجزرة حصلت في ذلك الوقت واحيل مرتكبوها الى القضاء واعترفوا تحت تأثير المادة المذكورة بأنهم ارتكبواجرائم القتل بواسطة الفؤوس . واطلقوا على العقار اسطورة مصل الحقيقة كذلك ما قامت به سلطات الاتهام في مقاطعة ( كول بالينوس ) من استخدام لمادة نيتوثال صوديوم مع متهم تظاهر اثناء التحقيق بالنسيان وبعد حقنه بالمادة المذكورة اعترف بثلاث جرائم قتل .والعشرات من جرائم السرقة .
كانت الوسائل الجديدة في التحقيق محل اختلاف بين رجال القانون والقضاء فمنهم من ايدها بينما رفضها فريق آخر ولكل حجته فيما ذهب اليه . ولذلك لم يقنن البعض منها لمساسها الخطير بارادة الانسان بل ذهبت تشريعات الى تحريمها واعتبرتها اعتداء على حقوق الانسان وحرياته . ولذلك امتنع القضاء من استخدام الا ما اجازه التشريع
كما ان البعض من هذه الوسائل رغم اباحة القوانين لها فان القضاء لم يعتمدها بمفردها بل قرنها بما يساندها من ادلة اخرى لها حجيتها القانونية ، سواء كانت الادلة المساندة للادلة الحديثة ادلة لفظية كالشهادة والاعتراف او ادلة مادية كالاثار البيولوجية التي يتم العثور عليها في مسرح الجريمة او على جسم المجني عليه او على جسم الجاني .
لذلك سنتناول في هذا البحث المختصر :
اولا :ماهية مصل الحقيقة .
ثانيا : قيمته العلمية والطبية .
ثالثا : الاختلاف حول قيمته القانونية .
اولا : ماهية مصل الحقيقة
لايقتصر المرض على مهاجمة جسم الانسان بل يهاجم المرض البعد الاخر من الانسان وهو الجانب النفسي فيسبب له اختلالا في التوازن ، مما يدفعه الى الشذوذ عن مجتمعه مما تستوجب معالجته عن طريق التحليل النفسي .
اساس التحليل النفسي عند فرويد هو نظرية العقل الباطن ، فهو يقسم الحياة الفعلية الى الشعور واللاشعور ، والتصرفات الشعورية ماهي الا نتيجة للعمليات اللاشعورية التي تحدث في العقل الباطن . ويمكن الوصول الى العقل الباطن من خلال التحليل النفسي ( فن دراسة العقل الباطن ) ولذلك ففلسفته في تفسير الحياة النظرية لكل فرد يعتمد على اتجاهين :
الاتجاه الاول : هو بناء الانسان العضوي من خلال الجهاز العصبي .
الاتجاه الثاني : يتعلق بالافعال الشعورية التي يقول عنها ماهي الا نتيجة للعمليات المجهولة في منطقة اللاشعور .
لا نريد الخوض في نظريات علم النفس لكننا اردنا الاشارة الى ان الجانب النفسي للانسان ينقسم الى قسمين : الاول ويسمى بالعقل الظاهر وهو مصدر كل ما يصدرعن الانسان من مظاهر التفكير الشعوري . اما القسم الاخر فهو العقل الباطن او منطقة اللاشعور التي يختزن فيها الانسان كل ما يعترض له في حياته من ممارسات حيث لاتذهب الاخيرة ادراج الرياح وانما تختفي في منطقة اللاشعور او العقل الباطن .
تفصل بين منطقة الشعور واللاشعور حواجز تمنع تسرب المعلومات المختزنة في العقل الباطن لذلك يحاول رواد التحليل التخديري اختراق هذه الحواجز عن طريق اضعاف مقاومتها بغية تسلل المعلومات واخراجها من موطن الاسرار للاستفادة منها في التحليل النفسي لمعالجة المصابين بامراض نفسيه .
استغلت هذه العقاقير الطبية في الجانب الجنائي واستخدمت لتعطيل او اضعاف التحكم الارادي للفرد لان حقن المتهم بها يؤدي الى تعطيل او اضعاف عمل الحواجز الفاصلة بين منطقتي العقلين الظاهر والباطن وبالتالي يمكن الحصول على الاسرار التي يتعذر الحصول
عليها بالطرق العادية . ولما تنطوي عليه عملية التخدير من مخاطر يجب ان ينفذها طبيب مختص بواسطة حقن المادة المخدرة في وريد الشخص المطلوب تخديره . والمادة المخدرة تختلف في تركيباتها الكيمياوية الا انها تؤدي الى نتيجة واحدة من حيث تأثيرها على مركز الجهاز العصبي .
ما ان يحقن الشخص بالمادة المخدرة حتى يميل الى الاسترخاء او يكون في حالة غيبوبة غير كاملة او ما يطلقون عليها الغيبوبة الواعية او الشفق – وتعني الشفق الحمرة التي تظهر بعد غروب الشمس وتستمر من الغروب ولفترة قصيرة . ولعل قصر الفترة وغياب ضوء الشمس الذي يدلل على غياب الوعي والحمرة التي تشير غالبا الى الخطر هي التي دعت الى استعمال كلمة الشفق – واثناء اعطاء المصل الى الشخص يطلب منه ان يبدأ بالعد فاذا ما توقف او بدأ لا يركز يقطع عنه المصل لان الاكثار منه يؤدي الى نتائج خطيرة قد تودي بحياة ذلك الشخص ( 1 )
تستمر فترة التخدير من عشرين الى اربعين دقيقة يفقد فيها الخاضع للتخدير القدرة على الاختيار والتحكم الارادي . فاذا ما تعطل تحكم الفرد في ارادته واختياره وفقد السيطرة على تصرفاته عندها ينطبق عليه ما ينطبق على السكران الذي يفقد عقله وبالتالي فهما حالتان تشبهان حالة الجنون .تجعل هذه الادوية الانسان لا يقوى على السكوت وتدفعه الى ان يكون ثرثارا محبا للكلام الكثير . ورأى بعض العلماء ان الحالة التي يكون عليها الانسان بعد استعمال التحليل التخديري معه تريحه من بعض ما يعانيه من الانغلاق الذهني او الهستريا .
استخدمت مواد مختلفة في مجال التحليل التخديري منها الناركوفين ( Narcoven ) كذلك مادة بينتوثال الصوديوم ( pentothal sodium ) التي استخدمت على نطاق واسع من قبل مخابرات الرايخ الثالث .
ثانيا : القيمة العلمية لمصل الحقيقة
ذهب بعض العلماء الى ان استعمال هذه المصلة رغم انه يؤدي الى شل تفكير الانسان ويسبب ضعف سيطرته على التحكم الارادي الا انه مع ذلك يسمح باجراء حوار مع الشخص للوقوف على ما تخفيه نفسه والتي لا يمكن الوصول اليها اذا ماكان الشخص المذكور في حالة وعي كامل .
بينما ذهب فريق آخر الى توجيه النقد اليها حيث ان الدراسات التي جرت حولها افقدتها كثيرا من قيمتها العلمية . فقد اثبتت الدراسات ان النتائج التي تسفر عن استخدام هذه العقاقير الطبية تكون عرضة للخطأ . فليس من الضروري ان تكون الاقوال التي يدلي بها الشخص معبرة عن حقائق وبذلك يكون استخدام هذه الوسيلة قد لا يوصلنا الى الحقيقة المنشودة حيث ان اقوال الشخص الخاضع لها كثيرا ما تكون وهمية .
اظهرت دراسة اجريت في جامعة ( يال ) ان الاشخاص المتهمون الذين لا يريدون الاعتراف تحت وسائل التحقيق التقليدية قد يواصلون اصرارهم على عدم البوح بالحقيقة حتى تحت سيطرة وتأثير هذه النوع من العقاقير الطبية ، واضافة الدراسة المذكورة ان الاشخاص المصابون بمرض المازوشستيه الاخلاقية قد يعترفون بجرائم لم يرتكبوها وانما هي بقيت في مرحلة التفكير بها . اضافة الى ان ذوي الامراض العصبية الذين يخترعون الكذب اثناء التحقيق باستخدام الوسائل العادية قد يواصلون استخدام الكذب بعد استعمال هذه الوسيلة مما يجعل الجهة المعنية بالامر امام حقائق اختلطت باوهام وتخيلات تفرز اقوالا لاتستند الى اي اساس من الواقعية او الى المنطق (2 ) .
يستنتج من ذلك انه في حالة تعاطي مصلة الحقيقة تنعدم الرقابة عند الشخص لما تسببه من ضعف التحكم الارادي مما يصبح معه كلام الخاضع للتحليل اوتوماتيكيا . ولكن ذلك لاينفي ان يكون هذا الشخص غير قادر على الكذب لان ما يدور في رأسه ليس بالضرورة ان يكون معبرا عن الحقيقة ، فقد يكون ما يفكر به مجرد وهم .
خلاصة القول ان النتائج التي يتم التوصل اليها من المتهمين بعد استخدام التحليل التخديري مشكوك في حقيقتها اضافة لما تسببه من اعتداء على الانسان في مملكته الخاصة التي
له ان يخطط ويرسم فيها ما يشاء دون رقيب او حسيب . حتى القانون امتنع من التدخل بهذه الخصوصيات للفرد ولم يحاسب على الافعال طالما كانت في طور التفكير وهي مرحلة اقرب الى العمل الخارجي من مرحلة ما في منطقة اللاشعور فكيف يرتب آثارا على ما يجري في منطقة العقل الباطن .
اضافة لما يتسبب فيه التحليل التخديري من اضطرابات خطيرة في شخصية الفرد ولولا هذه الاضطرابات لما حصل ضعف الادراك الذي ادى الى عدم الاتزان النفسي للشخص بسبب تاثير المخدر على الجهاز العصبي وعلى باقي حياة المتهم ببعديها العضوي والنفسي مما قد يترتب عليها مخاطر فسيولوجية تكون نتيجتها شل ملكات التمييز والاختيار في عقل الانسان وهذا سبب فقده للتحكم الارادي (3 ) .
ثالثا : قيمة ما ينتجه التحليل التخديري القانونية
اعتمدت القرائن في مجال علم القانون بعد ان طال البحث حولها من قبل فقهاء القانون المدني وانتهوا الى وضع اسس هذا النوع من المعرفة القانونية ، وتم نقل هذه المعرفة الى المجال الجنائي .
من اهم مبادئ القانون الجنائي مشروعية التجريم والعقاب. والهدف الاساسي لهذا المبدء هو حماية حقوق الفرد وحرياته . وهناك مبدء آخر في القضاء الا هو الاصل براءة المتهم ، الذي يوجب التعامل مع هذا المتهم على انه برئ ايضا حفظا لحقوقه وحماية لحرياته . فأي اجراء يتخذ مع المتهم خلاف المبدء المذكور يكون باطلا الا ماتقتضية مصلحة المجتمع . فاذا ما عجز المتهم عن اثبات الاصل وهو برائته من الجريمة يصار الى الاستثناء وهو كونه مسؤولا عنها . وقد يستخدم معه اجراء يناقض ما اقتضاه المبدء المذكور وأوصله الى اثبات مسؤوليته عن فعل لم يرتكبه . الامر الذي يتطلب ان يكون هناك مبدء ثالث يمنع مثل هذه الاساليب الا هو شرعية وسائل الاثبات او الشرعية الاجرائية التي تم التطرق اليها في البحث السابق . والقرائن كما يراها البعض هي نقل من الواقعة المراد اثباتها الى واقعة اخرى قريبة منها ، لذلك فهي ادلة غير مباشرة . وقد اعتمد القانون الجنائي القرائن كوسيلة للاثبات اذا ادت الى نتائج مقبولة ومنطقية ويبقى تقديرها الى القاضي فاما ان يعتمدها او يرفضها .
-موقف فقهاء القانون :
انقسم فقهاء القانون الى فريقين :
فريق يرى عدم قبول الافتراضات ( القرائن ) في مجال القانون الجنائي لأن طبيعة هذا القانون ترفض مثل هذه الافتراضات .
اما الفريق الاخر فيرى ان الجريمة ليست مجرد واقعة قانونية انما يمكن استخدام القرائن المنطقية فيها كما يمكن نقض القرينة بما يعاكسها مالم يوجد نص يقضي بغير ذلك . وهذا ما اشارت اليه المادة 99 من قانون الاجراءات المصري رقم 5 لسنة 1968 في المواد المدنية والتجارية .
لم يقتصر الخلاف بين فقهاء القانون على القرائن بل اتسع ليكون الخلاف بين فقهاء القانون من جانب وبين علماء الطب من جانب آخر ونقطة الخلاف تتمحور حول ما اذا كان استخدام بعض هذه الوسائل يشكل انتهاكا لحرية الفرد من عدمه . فاذا كان الجواب انها لاتشكل اعتداء على حرية الشخص فهنا امرها يكون خاضع لحرية القاضي ، اما اذ كان الجواب نعم انها تمس بحرية الشخص فيقتضي استبعادها من وسائل الاثبات في المجال الجنائي (4 ) .
دافع العلماء عن اكتشافهم من ان العلم في تطور مستمر والدليل على ذلك تم اللجوء الى المعمل الجنائي في المجال الجنائي بصدد وسائل الاثبات . ولم تتوقف اجهزة المعمل ووسائله عن التطور ، كما ان ما ينتجه العلم لا يمت الى الخرافة بصلة انما هو حقيقة وعليه يقتضي اتباعها . واذا كانت هناك احتمالات الخطأ فسببه الانسان الذي يستخدم العلم وليس العلم ذاته ، ومع وجود الخطأ فان نسبته قليلة جدا . اضافة الى الثقة بالجانب العلمي هو الذي دفع الدول المتقدمة الى التنافس في انتاج هذه الوسائل بل وان استخدامها اخذ يعتبر من مظاهر التقدم .
ولابد من الاشارة الى ان الشريعة الاسلامية تحرم كل ما يُذهب العقل ويعطل الادراك ولذلك فان استخدام هذه المادة في غير المجال العلاجي مرفوض لا يؤخذ بنتائجه . وبذلك تكون الشريعة الاسلامية قد اسست لقاعدة مشروعية الدليل الذي يستند عليه المتهم في حماية حقوقه.
اما فقهاء القانون فانقسموا الى ثلاث مذاهب ولكل فريق حججه .:
-الفريق الرافض : يرفض هذا الفريق اللجوء الى استخدام هذه الوسيلة لاسباب منها
1- فبالاضافة الى كون النتيجة التي يوصل اليها وهو الاعتراف مشكوك فيه فان استخدامها فيه انتهاك لحرية وحرمة الشخص وسلامته الجسدية معللين رفضهم بما ينتجه استخدام هذه المواد من اعراض على حياة الانسان من اختلال التوازنات النفسية التي تنعكس اثارها على القلب وبقية اعضاء الجسم فضلا عن ان استعمالها بشكل غير دقيق قد يودي بحياة ذلك الشخص ( 5 ) .
2- كما ان استخدام هذه العقاقير الطبية يشكل اعتداء على شخصية الفرد لما تسببه من تضييق على حريته في التعبير بما يريد هو، لا بمايريد غيره وذلك بسبب سلب اهم شئ في شخصية الانسان الذي هو تحكَمه في ادراكاته . مما يتسبب عنه صدور اعتراف منه بدون ارادته وبالتالي عدم قدرته على دفع التهمة عن نفسه ، للخلل الذي اورثه مصل الدواء في طريقة تفكيره فلم يعد يسيطر على ما يقول .
لذلك فما يصدر من الشخص من اعتراف يشترط فيه القانون ان يكون صادرا عن ارادة حرة كاملة لاتكون له اية قيمة قانونية طالما صدر عن شخص تختلط عنده الامور ولم يعد يفرق بين صالحها وطالحها وما يضره وما ينفعه .
المذهب الثاني :
يرى اصحاب هذا الاتجاه الى انه من الممكن استخدام هذه الوسيلة في الاثبات الجنائي شريطة توفر رضا المتهم وحضور محاميه وافهامه بالنتائج التي قد تترتب على هذا النوع من التحليل التخديري . وعندها المتهم لا يرفض الكلام بل يطلب مساعدته على تذكر بعض الاحداث . وبالتالي لايمكن اعتبار هذه الوسيلة من الاثبات وسيلة ضغط او اكراه ( 6 ) .
المذهب الثالث :
ويرون ان استخدام هذه الوسيلة امرا مشروعا رغم ما تعرضت له من انتقادات وحتى لو تمت بدون رضا وموافقة المتهم . وحجتهم في ذلك ان مثل هذا الاجراء يعتبر اجراء استثنائي يقتضي اللجوء اليه بالجرائم الخطيرة كجرائم امن الدولة ( 7 ) . ولهم ما يحتجون به على صحة رايهم : 1- يرون ان مجرد زرق الابرة في وريد المتهم لا يعني الاعتداء على سلامة جسمه او نفسه ، وان ما يتعرض له المتهم من استخدام الابرة هو اقل بكثير من الضغط النفسي الذي يتعرض له في الفترة من استقدامه الى التحقيق الى حين احالته الى المحاكمة . اضافة الى انه لايشكل اعتداء على حرية المتهم لأن هناك اجراءات اخرى اكثر قساوة منها واكثر مساسا بحريته مثل اخذ عينة من دم المتهم لفحص الحمض النووي ومع ذلك تكون قد أُقرت قانونا وقضاء . يضاف الى ذلك ليس هناك علاقة بين التعذيب وبين هذه الوسيلة .
وقارنوا بين هذه الوسيلة وبين استخدام نفس الوسيلة للوقوف على حالة المتهم لمعرفة ما اذا كان مصابا بحالة عضوية او نفسية او تصنع . وفي رأيهم الاصل ان المرء لا يتصنع فاذا لجأ الى ذلك فيكون قد وافق على اخضاعه للتحليل النفسي . وهذا ينطبق على تعمده التضليل فالاصل ان لا يتعمد التضليل فاذا ما تعمده فهذا يعني موافقته للتحليل التخديري .
2- ان نسب الخطأ في التحليل التخديري ضئيلة وبالتالي لايمكن ان تهدر كل قيمة قانونية لما ينتجه استخدام هذه الوسيلة . فالادلة مهما كان قربها من اليقين تبقى موضع شك .
3- قد يكشف التحليل الذي يخضع له المتهم عن عدم ادراكه وارادته اصلا او ان فيهما نقص لابسبب التخدير وانما لسبب اخر ويتم الكشف عن ذلك اثناء التحليل التخديري ، فيكون بذلك وسيلة لبرائته فضلا عن استخدام هذه الوسيلة لا يتسبب عنها اعتداء او مساس بحريته .
4- يرى البعض امكانية اللجوء الى هذه الوسيلة حتى بدون رضا المتهم لأن في ذلك تغليب لمصلحة المجتمع على المصلحة الشخصية .
رابعا : موقف القضاء
القاضي متخصص في العلوم القانونية ، وان كان المفترض ان يكون مطلعا على بعض العلوم . لكن من ضروب المستحيل ان يكون على علم ودراية بالمعارف التي تعود لعلوم مختلفة . واذا اضفنا الى ذلك ان التطور العلمي قد رافقه تطور كبير في اساليب ارتكاب الجريمة ومحاولة المجرمين اخفاء كل ما يربطهم بما ارتكبوه من جرائم . هذا الواقع الجديد اقتضى من القاضي ان يلجأ للاستفادة من اختصاص غيره في الكشف عن الجرائم والقائمين عليها . كفحص جثة القتيل لمعرفة اسباب الوفاة وتاريخ حدوثها ، او بارسال مايمكن الحصول عليه من آثار بيولوجية الى المختبرات المختصة لبيان العلاقة بينها وبين من تحوم التهمة حوله ، وقد تكون الخبرة مطلوبة لمعرفة حالة المتهم النفسية او العقلية .
كقاعدة عامة ان مسألة الخبرة امر متروك للقاضي فله ان ينتدب خبيرا سواء من تلقاء نفسه او بناء على طلب احد الخصوم كما له ان يرفض طلب اللجوء الى الخبرة وله ان يرفض ما يتوصل اليه الخبير ، فالقاضي هو خبير الخبراء في الدعوى المرفوعة امامه .
لكن الخبرة قد تكون الزامية للقاضي اذا ما تعلق الحال بمسائل فنية بحته . وعندما يجد نفسه امام التباس يتطلب لحله معرفة خاصة تزيل ما اشكل على المحكمة ويساعدها في الكشف عن الحقيقة . ومع كل ذلك يرجع الامر الى القاضي فله ان يرفض حتى هذه الخبرة اذا تاكد انها غير منتجة في الدعوى .
واذا ما ترك القانون للقاضي التعاطي مع الخبرة فالامر متروك له بين حالات ثلاث :
1- اما ان ينتدب من تلقاء نفسه خبيرا في المسائل الفنية حيث يشكل عليه كشف الحقيقة عما هو معروض امامه او
2- ان يقدم طلب الاستعانة بالخبراء من قبل احد الخصوم وللقاضي حرية قبول او رفض الطلب وفي حالة الرفض ان يبين الاسباب في اتخاذ قرار الرفض او
3- قد يقبل القاضي انتداب خبير في الدعوى المرفوعة امامه ويؤدي الخبير ماهو مطلوب منه ومع ذلك يبقى القاضي غير ملزم بما توصل اليه الخبير سلبا كان او ايجابا خاصة اذا كانت هناك قرائن اخرى تشير الى خلاف رأي الخبير . وان كان المفروض على القاضي وهو يستعين بالخبير المختص في شأن خارج اختصاص القاضي ان يلتزم بما توصل اليه
لانه هو صاحب الاختصاص الا اذا وجد ان خبرته وما توصل اليه من نتائج لا يكون منتجا للدعوى .
هذا الحال ينطبق على انواع الخبرة التي لا تمس حرية الفرد . اما وان المسالة موضوعة البحث وهي التحليل التخديري فيها مساس بحرية المتهم وانتهاك لخصوصياته واعتداء على اسرار مملكته الخاصة التي يمارس فيها حرياته المطلقة دون رادع من دين او قانون ، وحيث تختلط فيها الحقيقة بالاوهام والامنيات التي تحققت مع الامال التي لم تتحقق وينتزع من هذا الخليط غير المتجانس اعتراف يبنى على اساسه حكم يدين الشخص او يقضي ببرائته ، فقد وقف القضاء موقفا سلبيا ومنع اللجوء الى هذه الوسيلة .
قد لاينكر القضاء صحة الاعتراف الصادر من شخص تعاطى هذه المادة المخدرة لكنه يرفض الوسيلة نفسها كما هو الحال بالنسبة للتعذيب فقد يكون الاعتراف الحاصل نتيجة التعذيب صحيحا لكنه وسيلته محرمة قانونا فهي باطلة وما بني على الباطل باطل .
رفض القضاء الايطالي الاخذ بوسيلة التحليل التخديري ، فلم تقبل محكمة النقض استخدام هذه الوسيلة مستندة في ذلك على ما يترتب على استعمالها من تأثير وشل ارادة وتفكير المتهم . بل وذهبت اكثر من ذلك برفض هذه الوسيلة حتى لوكانت بطلب من متهم يريد ان يثبت برائته . كما ذهبت المحاكم في الولايات المتحدة الامريكية الى رفض استخدام وسيلة التحليل التخديري معللة سبب الرفض الى ان هذه الطريقة تؤدي الى نزع الاعتراف من المتهم بدون ارادته (8) .
ومنع القضاء الفرنسي اللجوء لهذه الوسيلة الاثباتية حتى لوكانت بطلب من المتهم نفسه وعللت رفضها بمخالفة استعمال المخدر للنظام العام . الا ان القضاء الفرنسي يأخذ بنتيجة التحليل بالمادة المخدرة لغرض تحديد مسؤولية المتهم . على ان هذه المرحلة لاحقة لمرحلة التحقيق والمحاكمة، اي بعد صدور الحكم على المتهم بالادانة . ولذلك فمثل هذا الاجراء يكون لصالح المتهم . والغت المحكمة الاتحادية العليا الفيدرالية في المانيا حكما لانه اعتمد اعترافا صدر من صبي تحت تأثير المخدر لان من حق المتهم ان يدلي باقواله بحرية تامة . ونحا القضاء في كل من النمسا وسويسرا ومصر الى نفس الاتجاه فاستقر قضائها على عدم جواز استعمال الوسائل غير المشروعة . فاستندت النمسا على ان العلم لم يولد هذه الطريقة الا
حديثا وهي تعتمد في الاساس على سلب او تعطيل الارادة الواعية للمتهم فيندفع للبوح باقوال يعجز عن وقف اندفاعها . وهذا ما مطبق في العراق وان اختلف سبب المنع ففي العراق لا يأخذ القضاء بهذه الطريقة لان القانون منع ذلك (10 ) .
- رأي معد البحث
لوتابعنا الشروط الواجب توافرها في الاعتراف حتى يقع صحيحا وبالتالي يكون مقبولا من قبل القضاء لتوصلنا الى عدم مشروعية هذه الطريقة . ومن اهم هذه الشروط :
1- توفر الاهلية الاجرائية للمعترف بمعنى ان يكون المتهم على ادراك وتمييز وقت الادلاء باعترافه بمعنى ان يفهم افعاله وما هي الاثار المترتبة عليها .ولو طبقنا هذا الشرط على الحالة التي نحن بصددها لوجدنا ان الاعتراف وقع نتيجة شل القوة الادراكية والتمييز لدى الشخص فهو والصغير غير المميز او المجنون او السكران فاقد العقل على حد سواء . ويمكن الاستناد على نفس الاسباب التي يرفض فيها اعتراف هؤلاء لرفض اعتراف الشخص الواقع تحت تأثير المخدر.
2- يشترط في الاعتراف الصراحة والوضوح اذ ان الغموض في اقوال المتهم ينفي عنها صفة الاعتراف . وفي الحالة التي نناقشها يختلط الجد بالهزل والحقيقة بالوهم والمتحقق من الجرائم مع تلك التي لم تخرج من ادراج التفكير وهل هناك غموضا اكثر من هذا .بل وان العلم نفسه بدأ يشكك بالنتائج التي يتم التوصل اليها من هذه الطريقة .3- يشترط القانون حتى يكون الاعتراف صحيحا ان يكون صادرا عن ارادة حرة للمتهم والمقصود بالارادة الحرة ان المتهم يستطيع توجيه نفسه للقيام او الامتناع عن عمل معين . في حين ما نحن بصدده المتهم يُوجه للقيام بعمل يمتنع عن القيام به لو كان بكامل ادراكه ووعيه . وهنا يتبين ان هذه الوسيلة تذهب الى خلاف ما يشترطه القانون تماما .
4- ان يكون الاعتراف نتيجة اجراءات صحيحة وان تكون هناك رابطة سببية بين الاجراء الباطل والاعتراف . ولما ينتجه التحليل التخديري من آثار على المتهم سواء اكانت نفسية او عضوية كما راينا فلا شك بعدم صحته واذا ما قامت الرابطة السببية بين الاعتراف المأخوذ من قبل المتهم وبين التحليل التخديري ، اي ان يكون التحليل التخديري سببا في الاعتراف فيجب ان يكون الاعتراف باطلا .
يترتب على ما تقدم ان وسيلة التحليل التخديري لا يمكن الركون اليها في اخذ اعتراف المتهم للاسباب المذكورة اعلاه فضلا عما تتسبب فيه من اختلالات نفسية للمتهم ويكون الاعتراف المتحصل منها كالاعتراف المتحصل من التعذيب وان اختلفت وسيليتي التعذيب .
المراجع
1 – أ ، د . ابراهيم صادق الجندي ، تطبيقات تقنيات البصمة الوراثية DNA ، البعة الاولى الرياض 2000 .
2- فيصل مساعد العنزي ، اثر الاثبات بوسائل التقنية الحديثة على حقوق الانسان ، رسالة ماجستير ، السعودية 2007 .
3- حامد عبد السلام الزهران ، الصحة النفسية والعلاج النفسي ، عالم الكتب ، القاهرة ، ط2 ، 1978 .
4- محمد زكي ، الاثبات في المواد الجنائية ، الاسكندرية ، مصر ، 1985 .
5- العنزي ، مصدر سابق .
6- العنزي مصدر سابق .
7- المصدر السابق .
8- كوثر احمد خالند ، الاثبات الجنائي بالوسائل العلمية ، اربيل ، العراق ،2007 .
9- كوثر ، المصدر السابق .
10 – نفس المصدر .
منقول من منتدى مركز القوانين العربية
عن : حسن الحلو